تفسير سورة النساء [1-3]
لقد حدد الإسلام معالم الحقوق بين الناس بنظام بديع، فهو يدعو إلى احترام حقوقهم وأدائها دون استغلال لحالة ضعف صاحب الحق مما يؤدي إلى ظلمه، وبين أيدينا أنموذج للمعاملة مع اليتامى في أداء أموالهم إليهم، وما يراعى عند قصد الوصي نكاح اليتيمة التي في حجره، كل هذا مصدراً بالتذكير بتقوى الله عز وجل ونعمته في الخلق والإيجاد، والتذكير برقابته على الناس جميعاً.(1/1)
بين يدي السورة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة النساء سورة مدنية، أي: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما نزلت سورة النساء الطولى إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فهناك سورة النساء الطولى، وسورة النساء القصرى، فسورة النساء القصرى هي سورة الطلاق، أما سورة النساء الطولى فهي سورة النساء التي بعد سورة آل عمران في ترتيب المصحف؛ فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما نزلت سورة النساء الطولى إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو يفيد أن سورة النساء مدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوج عائشة إلا بالمدينة، فدل ذلك على أن سورة النساء مدنية، وفيه رد على من يقول إن كل آية فيها (يا أيها الناس) إنما نزلت بمكة، وكل آية فيها (يا أيها الذين آمنوا) إنما نزلت بالمدينة، فهذا الإطلاق لا يوافق عليه مطلقاً، فإن قال: هذا هو الغالب سُلِّم له قوله.
وفيها آيات يعدها كثير من أهل العلم من أعظم آيات الرحمة والرجاء، كقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] ، وكقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ، وكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهذه كلها آيات الرجاء، وآيات تبين سعة رحمة الله عز وجل بالعباد.(1/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم ... ) وما قيل في سبب نزولها
يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ؛ (يا) : حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه، أما (الناس) فلها اشتقاقان: فمن العلماء من يقول: إن (الناس) مشتقة من النوَس، والنوَس من الحركة، ومنه قول أم زرع في وصف أبي زرع كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (أناسَ من حلي أذني) أي: ملأ أذني حلياً حتى اهتز الحلي فيها.
ومن العلماء من يقول: إن (الناس) مشتقة من النسيان؛ لأن هذا شيء جُبِل عليه الناس حتى الأنبياء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فنسي آدم فنسيت ذريته) .
ولهذه الآية سبب نزول صحيح عند بعض العلماء، وإن كانت أغلب أسباب النزول ضعيفة لا تثبت، وكثير من إطلاقات أهل العلم أن آية كذا نزلت في كذا وكذا لا يسلم لهم، خاصة إطلاق القرطبي رحمه الله تعالى، أو الإطلاقات التي تأتي عن كثير من التابعين كـ قتادة والحسن البصري وغيرهما من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وقد تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة، فيحدث أمر، ويحدث أمر آخر، ويحدث أمر ثالث فتنزل الآية شاملة لكل ما حدث، كما في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فقد قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: نزلت في الأنصار لما قالوا: نبقى في أموالنا نصلحها، لما كثر الإسلام وأعز الله تعالى ناصريه، وقال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أو غيره: إنما نزلت {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] في الرجل يذنب الذنب ويقول: لا يغفر الله تعالى لي، فيسلم نفسه للشيطان ولا يستغفر، فهذا إلقاء باليد للتهلكة، وثم أقوال أخرى، ولا يطعن سبب في السبب الآخر ما دام قد صح الإسناد إلى قائله.
وسبب نزول هذه الآية عند القائلين به ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد، فجاءه قوم من غطفان مجتابي النمار -أي: يلبسون جلود النمور-، وعليهم أثر الفاقة والفقر، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم من الفاقة والفقر خرج وتلا على أصحابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ، فقام رجل فتصدق، فتبعه آخر فتصدق، فتبعه ثالث فتصدق، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تلاها لما قدم عليه الوفد، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/3)
الأمر بالتقوى واقترانه بصفة الخلق
وقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} التقوى: أن تجعل بينك وبين غضب الله تعالى عليك وقاية، أو تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية، فأصل التقوى مأخوذة من التغطية أو التستر، قال الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتَّقتنا باليد أي: غطت وجهها بيديها.
قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، قال كثير من أهل العلم: عبر بلفظ الخلق أو بصفة الخلق هنا دون غيرها من الصفات؛ لأن الناس المخاطبين بالآية كانوا يقرون بصفة الخلق، فمن ثم خاطبهم بالصفة التي يقرون بها، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، فلما خاطبهم الله تعالى بقوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} خاطبهم بصفة يقرون بها، ويدينون بها لله سبحانه وتعالى مسلمهم وكافرهم، ويقرون بأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} النفس الواحدة هي آدم صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هي حواء عليها السلام، ولم يرد لحواء ذكر في الكتاب العزيز باسمها، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد فيها ذكر حواء، ففي صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) .
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يفيد أن حواء خلقت من آدم وهو الصحيح لا شك، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع) الحديث، فهي خلقت من أحد أضلاع آدم على ما فهم من حديثه عليه الصلاة والسلام، وعلى ما ذكره الشراح، ولذلك تجد المرأة تميل إلى الرجل، والرجل يميل إلى المرأة.
وفي قوله تعالى: ((زَوْجَهَا)) دليل على إطلاق لفظ الزوج على المرأة، ولفظ الزوجة وإن كان جائزاً، لكن الأفصح استعمال (زوج) بغير تاء، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] ، وأما لفظ (الزوجة) فمنه قول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله إني أعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعوه أم تتبعوها) .
لكن الأفصح أن يقال: (زوج) بغير تاء.
قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا} بث، أي: فرق ونشر، و (منهما) أي: من آدم وحواء.
وقوله تعالى: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: ونساء كثيراً كذلك، فحذفت كثيراً عند ذكر النساء لدلالة السياق عليها، وهذا وارد بكثرة في كتاب الله تعالى، ومنه قول الله تعالى حكاية عن سليمان صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، أي: حتى توارت الشمس، فحذفت لدلالة السياق عليها.
فإن قال قائل: فما هو الدليل على أن النساء كثير؟ قلنا: إنَّ النساء أكثر -لا شك- من الرجال، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء) ، وأهل النار أكثر بكثير من أهل الجنة، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، ولقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، إلى غير ذلك.(1/4)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} كرر الأمر بتقوى الله تعالى لبيان أهمية التقوى، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ، فأوصى الله الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوصانا بتقوى الله.
وقوله تعالى: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: الذي يسأل بعضكم بعضاً به، فيقول أحدكم للآخر: أسألك بالله، فهذا قول، وثم معانٍ أُخَر.
وقوله تعالى: {وَالأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو على المعنى الآخر: واتقوا الأرحام التي تساءلون بها، فيسأل بعضهم بعضاً بالرحم، فيقول: أناشدك الرحم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وقد حذر الله تعالى من قطع الأرحام أشد تحذير، قال سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25] ، فقطع الأرحام كبيرة بالاتفاق.
والأحاديث في قطع الرحم والتحذير منه كثيرة جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق، قامت الرحم فتعلقت بالعرش وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة -أي: شخص يعوذ بك من القطيعة هذا مقامه- فقال الله لها: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب! قال: فهو لك) ، فيقطع الله تعالى من قطع الرحم، ويصل الله عز وجل من وصل الرحم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، إلا أن لهم رحماً سأبلها ببلالها) أي: سأصلها بصلتها، ومعناه: أن الرحم شبيهة بالجلد جلد الشاة أو جلد الماعز اليابس، فإذا وضعت على الجلد اليابس ماء أصبح ليناً في يديك، أما إذا لم تضع عليه الماء ولم تبله فسيصير يابساً يعسر عليك ثنيه، فأرحامك وأقاربك إن كنت تصلهم وتهدي إليهم وتودهم سيصيرون لينين في يديك، فإذا أمرتهم بأمر أطاعوك، وإذا نهيتم عن نهي اتبعوك، وأما إذا لم تكن تصلهم وتبلهم بالبلال فسيصيرون يابسين في يديك، كلما أردت منهم شيئاً عصوك؛ لأنه ليس لهم فيك منفعة.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] .(1/5)
أموال اليتامى وما جاء فيها
قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أي: الذين كانوا يتامى؛ لأن اليتامى لا يؤتون الأموال إلا إذا كبروا، فإذا كبروا لم يصدق عليهم أنهم يتامى؛ لأنه لا يُتْم بعد احتلام، فإيتاء الأموال لليتامى لا يكون إلا بعد أن يكبروا.
فإطلاق اليتامى هنا من باب إطلاق الاسم على الشيء باعتبار ما كان عليه، ومنه قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46] ، إذ لا سجود مع سحر، ولكن أطلق عليهم (السحرة) باعتبار ما كانوا عليه من السحر.
كما يطلق الاسم على الشيء باعتبار ما سيئول إليه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] فأطلق تعالى على أموال اليتامى (ناراً) باعتبار ما ستئول إليه.
ومعنى: ((وَآتُوا)) أي: أعطوا، وحد اليتم البلوغ ويحصل بواحد من ثلاثة أشياء: الأول: الاحتلام عند الرجل والمرأة، أو الحيض عند المرأة.
الثاني: السن وهو خمسة عشر عاماً؛ لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة للبلوغ فلم يجزني وردني، وعرضت عليه يوم الأحزاب وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) فجعله بعض العلماء حداً للبلوغ.
الثالث: إنبات شعر العانة حول الذكر أو الفرج، وهذا حد لبعض العلماء مستدلاً بحديث محمد بن كعب القرظي: (أنه لما قضى سعد بن معاذ في يهود بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، ففتش عن الصبيان فمن وجد قد أنبت قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكان محمد بن كعب فيمن لم ينبت) .
قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] ، أي: مع أموالكم، فحروف الجر تتناوب في الكتاب العزيز، فـ (إلى) تأتي بمعنى: (مع) و (مع) تأتي بمعنى الباء، وهكذا.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} أي: أكل أموال اليتامى، {حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثماً كبيراً.
فأكل أموال الناس بالباطل كله إثم، ولكن أكل أموال اليتامى أشد إثماً من أموال غيرهم، فقد يكون الشيء محرماً ويزداد تحريماً لقرينة أخرى، فالزنا حرام لا شك في ذلك، لكن الزنا بحليلة الجار أشد حرمة، والكذب حرام، لكن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حرمة، والكذب على الله أشد من ذلك، والمعصية في كل مكان حرام، لكن المعصية في البيت الحرام أشد حرمة لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، والمعصية من أي امرأة حرام، والفاحشة من أي امرأة حرام، لكن الفاحشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاهن من ذلك- أشد حرمة، لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] .
وإذا تكاثرت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أشد، وإن قلت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أقل، فالأمة إن زنت فعليها نصف ما على الحرة من العذاب؛ لأنها لا حق لها أصلاً في القسم، فإن شاء جامعها وإن شاء لم يجامع، أما الحرة فلا بد من القسم لها.
فأكل أموال الناس محرم، لكن أكل أموال اليتامى {كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثماً كبيراً؛ لأن اليتيم ضعيف ليس له أحد يرعاه ولا يدافع عن ماله ولا ينافح عنه، فقد تضرب اليتيم على رأسه وتضربه بالرجل ولا أحد يدافع عنه، ولو أن له أباً فلن تستطيع أن تفعل ذلك، فلذلك دافع الله تعالى عنهم بما شرعه في كتابه من وقاية وحماية لهم.
والأحاديث في كفالة اليتيم والحث على رعايته في غاية الكثرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وجاءت امرأة بطفلتين لها إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تسألها الصدقة، فلم تجد عائشة عندها شيئاً تتصدق به إلا تمرة، فأعطتها التمرة، فأخذت المرأة التمرة وشقتها نصفين، نصف لهذه الطفلة ونصف لهذه الطفلة، فتعجبت عائشة من فعلها، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها الجنة) وقال: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن إليهن كن ستراً له من النار) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وإيتاء اليتامى أموالهم يتمثل في صورتين: الصورة الأولى: الإنفاق عليهم من أموالهم وعدم الشح عليهم أثناء صغرهم.
والصورة الثانية: تسليم الأموال إليهم بعد البلوغ، لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] .(1/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى.)
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] .
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أقسط أي: عدل، وقسط: جار وظلم، فمن الأول قول النبي صلى الله وعليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا) ، ومن الثاني قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] .
فقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} أي: ألا تعدلوا في مهور وصداق اليتامى، فالنساء سواهن كثير.
والذي دل على المحذوف المقدر هو سبب النزول، فقد سأل عروة عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فورد عنها في ذلك روايتان: الرواية الأولى: (كانت اليتيمة تكون عند وليها، فتكون ذات مال وجمال، فيريد أن يتزوجها من أجل مالها وجمالها، ولا يريد أن يقسط لها في الصداق، أي: أن يعدل لها في الصداق، فأمرهم الله حين رغبوا في مالها وجمالها أن يتزوجوها، أن يقسطوا لها في الصداق، أو يتزوجوا نساء أخريات.
الرواية الأخرى: أن هذه يتيمة تكون في حجر وليها ليس له فيها حاجة -أي: لا يرغب أن يتزوجها- ولا يريد أن يزوجها لناس آخرين خشية أن يأخذوا الميراث، فيتزوجها كرهاً من أجل حبس ميراثها، ولا يقسط لها في الصداق، فنهوا أن يتزوجوهن إلا عند العدل في الصداق.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} دليل على جواز تزويج الصغيرة؛ لأن اليتيمة هي الصغيرة، فدل ذلك على بطلان القانون الوضعي الذي يمنع الزواج بالصغيرة، ولكن لا يُمكّن منها إلا بعد أن تتحمل الوطء، فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها وهي بنت ست، وبنى بها عليه الصلاة والسلام وهي بنت تسع، فدل ذلك على أنه يجوز تزويج اليتيمة، واليتيمة هي التي لم تبلغ.
والقسط في مهر اليتيمة مبني على الأعراف السائدة بين الناس، فإذا كانت الواحدة من النساء تتزوج بخمسة آلاف جنيه، فاليتيمة أيضاً تتزوج بخمسة آلاف جنيه، وتبلغ أعلى سنتها في الصداق، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (اجعلها أعلى سنتها في الصداق) وفي الآية دليل على مشروعية مهر المثل، ومن الأدلة على ذلك: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في بروع بنت واشق وكان زوجها مات ولم يسم لها صداقاً أن لها مهر مثلها، من غير وكس ولا شطط) فقوله صلى الله عليه وسلم: (من غير وكس) أي: من غير بخس (ولا شطط) : أي: ولا غلو، فأصبح الدليلان يدلان على مشروعية مهر المثل.(1/7)
تفسير قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء.)
قوله تعالى: {فَانكِحُوا} أي: تزوجوا، والنكاح له معنيان: فيأتي بمعنى عقد التزويج، ويأتي بمعنى الجماع أو الوطء.
فالنكاح: عقد التزويج في الشرع، ولكن في اللغة أصل النكاح: الضم والتداخل، كما يقال: نكح النوم عينه، فالنكاح في عموم الآيات الواردة في الكتاب يأتي بمعنى عقد التزويج، إلا في مواطن قليلة كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) .
وقوله تعالى: ((مَا طَابَ لَكُمْ)) (ما) لغير العاقل، و (من) للعاقل، والعلماء يقولون: إن (ما) تأتي في كتاب الله تعالى للعاقل ولغير العاقل، والدليل على إتيانها للعاقل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:5-6] ، فـ (ما) هنا لله سبحانه وتعالى، وهذا دليل على إتيان (ما) للعاقل.
وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} أي: مثنى إن شئتم، {وَثُلاثَ} إن شئتم {وَرُبَاعَ} إن شئتم.
والواو تكون للتخيير، وتكون للجمع، وأحياناً تأتي بمعنى التنويع، كقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] .
وأحياناً تأتي الواو عطفاً للصفات كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:1-4] .
الواو في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} للتخيير، أي: مثنى إن شئتم، وثلاث إن شئتم، ورباع إن شئتم.
فإن قال قائل: إن الآية محتملة الجمع كما قالت الشيعة، فيصير العدد تسعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج تسعاً فلا بد أن يكون هناك من الحجة ما يبطل مثل هذا القول.
فإذا حاججتهم بأن الواو هنا مقتضية للتخيير، فله وجه، لكن ليس بوجه قاضٍ على قولهم، وأما حديث الباب: عن غيلان بن سلمة رضي الله تعالى عنه كان متزوجاً عشراً، فلما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارق ستاً ويبقي أربعاً، فهذا الحديث الراجح فيه أنه معلّ.
وإنما يحتج عليهم بإجماع أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام على أنه لا يزيد الرجل على أربع نسوة، ولم يكن فيهم واحد على الإطلاق على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم له أكثر من أربع نسوة زوجات، وأما الإماء فلك من الإماء ما شئت.
فلأجل هذا حملنا الواو على التخيير.(1/8)
القول في مسألة التعدد ومشروعيته
وهنا يقال: هل هذه الآية تفيد أن القصد في الزواج التعدد، أو لا تفيد ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ؟ فذهب بعض العلماء إلى القول بأنها تفيد التعدد؛ لأنه لا يتجه إلى الواحدة إلا عند خوف عدم العدل بنص هذه الآية.
وفي الحقيقة هذا القول لا يسلم له؛ لأن قوله تعالى: {فَانكِحُوا} ليس ابتداءً، فليست الآية كما لو قال تعالى -فرضاً-: (يا أيها الذين آمنوا انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ، فحينئذٍ إذا كانت الآية بهذا السياق نقول: الأصل التعدد، ولكن الآية جاءت مبنية على شرط سابق، فإذا كنت خائفاً أن تتزوج اليتيمة فتظلمها فلك أن تتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وهذا وجه الدقة في الاستنباط.
إلا أنهم استدلوا بأدلة أخرى على استحباب التعدد، كحديث: (تكاثروا فإني مباه بكم الأمم) ، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه الموقوف عليه (تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) ، وكقول ابن عباس رضي الله عنهما: (تزوج فإنه يخرج من صلبك ما كان مستودعاً) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:) .
ولا شك أن في التعدد كسر خاطر للزوجة الأولى، وأذى للزوجة الأولى، ولكن المصالح العامة للمسلمين مقدمة، فكم من امرأة ترملت على أطفالها وتحتاج إلى من يعفها، وكم من امرأة طلقت من زوجها لسبب شرعي كأن يكون زوجها سكيراً عربيداً، وهي عفيفة طلبت الطلاق وطلقت، فإن كان فيه كسر للزوجة الأولى، لكن عموم تشريع الله سبحانه وتعالى لا يصدر إلا من حكيم حميد، وما شرع ذلك إلا لفائدة تعم العباد سبحانه وتعالى.(1/9)
الكلام على قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا.)
قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي: فاقتصروا على الواحدة، وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: عندكم إماء، وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى} أي: أقرب، وقوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} ، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أي: اقتصروا على الواحدة أو ما ملكت أيمانكم حتى لا تكثر عيالكم فتصابوا بالفقر، واستدل على أن معنى العيلة الفقر بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] ، واستدل بلامية أبي طالب، وبقول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل والجمهور ومنهم ابن القيم قالوا: إنه لو كان الاقتصار على الواحدة خشية كثرة العيال -كما ذكر- لأمرنا الله تعالى بالاقتصار على واحدة أيضاً مما ملكت اليمين! فكيف يقول: إن العلة كثرة العيال، والله تعالى يبيح لنا في نفس الآية أن نمتلك أكثر من ألف أمة، وكل هؤلاء الإماء محل للإنجاب؟! فلو كانت العلة كثرة العيال لقصرنا الله تعالى في ملك اليمين على واحدة.
وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكاثروا فإني مباه بكم الأمم) ، والآية مصدرة بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} وعليه فيقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي: أدنى إلى ألا تجوروا، حتى تقابل العدل، أي: إن كنت خائفاً أنك ما تعدل فتزوج واحدة بس حتى لا تقع في مسألة عدم العدل، واستشهدوا بقول أبي طالب في لاميته: بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل أي: غير مائل، أو غير جائر.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/10)
الأسئلة(1/11)
التحاليل الطبية لأجل الإنجاب
السؤال
يسأل عن التحليل من أجل الإنجاب؟
الجواب
التطبيب جائز من أجل الإنجاب، ولا يستطيع أحد أن يمنعه إلا بنص.(1/12)
تشبيك الأصابع في المسجد وما جاء فيه
السؤال
ما صحة حديث: (إذا توضأ أحدكم وذهب إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ؟
الجواب
الحديث منازع في تحسينه وتضعيفه، فمن العلماء من حسنه، وكأن قوله ظاهر أو قوي في التحسين، ولكن هناك ما هو أقوى منه عورض به هذا الحديث، مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عبد الله بن عمرو! كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وأصبحوا هكذا، وشبك بين أصابعه) .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، فلهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بباب: (تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) .(1/13)
عمل الرجل في كي ملابس النساء
السؤال
أخ يتعامل مع مصانع ملابس، ويكوي ملابس النساء، وجارته تأتي له بملابس يكويها، أي: يكوي ملابس المتبرجات فما الحكم؟
الجواب
أظن أنه لا يكويها فهو أفضل له، وليشتغل بعمل آخر.(1/14)
التصرف في المال المتبرع به لمسجد حين لا يفي بحاجة ذلك المسجد
السؤال
إذا أعطاني أحدٌ من الناس مبلغاً لمسجد، فهل يجوز لي أن أعطيه لمسجد آخر على اعتبار أن المسجد الذي أرسل له المبلغ يحتاج أكثر من المسجد الذي حدده صاحب المبلغ؟
الجواب
يستأذن صاحب المبلغ؛ لأنه قد يكون له وجهة نظر في المسجد الذي تبرع له، كأن يكون المسجد على السنة مثلاً، أو مسجد في حي أهله يحتاجون إلى مسجد.(1/15)
الوارد في المستمع إلى حديث قوم هم له كارهون
السؤال
ما صحة حديث: (من استمع إلى قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة) ؟
الجواب
في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.(1/16)
حديث الجد والهزل في الطلاق والنكاح والرجعة ومدى صحته
السؤال
ما صحة حديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة) ؟
الجواب
الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة رحمهم الله تعالى، وفي إسناده عبد الرحمن بن أردك قال فيه النسائي: منكر الحديث، وقد وثقه ابن حبان والعجلي وهما متساهلان في التوثيق، وقول النسائي مقدم على قولهما؛ لأنه إمام في الجرح والتعديل.
وقد أورد له الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله تعالى في تلخيص الحبير جملة أسانيد وأشار إلى ضعفها، فليراجعها من شاء.(1/17)
تفسير سورة النساء [4-10]
احتوت سورة النساء على العديد من الأحكام المهمة، ومنها: حكم صداق المرأة، وهل يجوز للولي أن يأخذ منه شيئاً، وأيضاً حكم اليتيم، ومتى يدفع إليه ماله، وهل يجوز للقائم عليه أن يأكل من ماله أم لا يجوز، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة به.
وكذلك ذكر في هذه السورة حكم إعطاء ذوي القربى واليتامى والمساكين شيئاً من المال عند حضورهم لقسمة التركة، ثم حكم أكل أموال اليتامى ظلماً.(2/1)
تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء.)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً أما بعد: فيقول الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] .
قوله تعالى: (وَآتُوا) أي: وأعطوا، فالإيتاء يطلق على الإعطاء، أما أتى فمعناها: جاء.
(صدقاتهن) : جمع صداق، ومعناها: مهورهن، أي: وآتوا النساء مهورهن.(2/2)
حكم تنازل المرأة عن أكثر المهر لزوجها
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] : في الآية دلالة أن الأليق والأولى بالمرأة ألا تعطي الزوج الصداق كله، ولا تتنازل له عن الصداق كله، لأن الله قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4] فقال: (عن شيء) ولم يقل: عن كل الصداق، فاحتفاظها بأكثر الصداق أولى من أن تعطيه كله وتمد له يدها بعد ذلك.
وقد جاء في الحديث أن كعب بن مالك لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا كعب أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فدل ذلك على أن الزوجة إن أعطت من مهرها فلا تعطي إلا الشيء اليسير وتمسك الأكثر، ولا تتنازل للزوج عن كل الصداق، وتنازلها عن كل الصداق ليس محرماً لكن الكلام عن مسألة المفضول والفاضل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/3)
حكم المهر إذا لم يسم
وقد يكون الصداق مقدماً، وقد يكون مؤخراً، وقد يكون جزءٌ منه مقدماً وجزءٌ منه مؤخراً، ويجوز أن تعقد عقد النكاح ولا تسمي الصداق، أي: يجوز أن تقول لرجل: زوجتك ابنتي، ولا تحدد الصداق، لكن بعد ذلك تتفقان على الصداق.
فإذا اختلفتما في الصداق بعد العقد فالمرد إلى الأعراف السائدة، فمثلاً: رجل عقد على امرأة لم يسم لها صداقاً، فيفرض لها صداقها، فإما أن يتفق مع وليها على الصداق، فإن اتفقا فذاك، وإن اختلفا في الصداق فيرد إلى الأعراف السائدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في بروع بنت واشق بأن لها مهر مثلها من غير وكس ولا شطط) ، أي: لا نقص ولا زيادة.(2/4)
حكم أخذ الولي من مهر المرأة
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4] أي: إن طابت نفس المرأة وأعطتك شيئاً من الصداق أو تنازلت لك عن شيء من الصداق بنفس طيبة، فلا مانع من أخذه بشرط طيب نفسها.
وقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] يدل أن الصداق للمرأة وليس لوليها، فهي أحق بالصداق لهذه الآية؛ لأن الله قال: {صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] وقال: {فَإِنْ طِبْنَ} [النساء:4] ، فنسبة الصداق إليهن دلالة على تملكهن إياه، ولا يملك منه الولي شيئاً إلا إذا طابت نفس المرأة بإعطائه له.
ودل على ذلك أيضاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لها مهر مثلها) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الملاعنة: (إن كنت كاذباً عليها فلها الصداق بما استحللت من فرجها) ، فدلت هذه النصوص على أن الصداق من حق المرأة وليس من حق الولي.
في هذا إشارة وإيماء إلى توهين حديث: (أنت ومالك لأبيك) ، أو على الأقل إظهار فقه لهذا الحديث: (أنت ومالك لأبيك) فله فقه في حالة ثبوته، أما من ضعَّفه فلا يحتاج إلى التكلف في توجيهه.(2/5)
حكم المهر ومتى يسقط
{نِحْلَةً} [النساء:4] أي: فريضة، فالصداق واجب للمرأة، بل هو فرض، والفرض أعلى من الواجب، ولا يسقط الصداق إلا في بعض الاستثناءات كمن وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صداق لها، وهذه الحالة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام لقول الله سبحانه وتعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] .
فهبة المرأة نفسها للرجل كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: وأعطوا النساء مهورهن فريضة، فالصداق فرض لهذه الآية.(2/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.)
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] .(2/7)
معنى السفه وعلى من نطلقه
السفه أصلاً معناه الرقة، ومنه قولهم: هذا ثوب سفيه.
أي: رقيق خفيف المزج، فالسفهاء هم قليلو العقول أو رقيقو العقول أو ضعفاء العقول، هذا أصل تعريف السفه، فالسفيه ضعيف ورقيق العقل.
ومن العلماء من فسر السفهاء هنا بالنساء والصبيان، قال: لأن المرأة همتها تتلخص في إلقاء المال في التزين لزوجها في الغالب كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالنساء في الغالب لا يحسن التصرف إلا من رحم الله منهن، والصبيان كذلك.
ومن العلماء من فسر السفهاء بمن لا يحسن التصرف بصفة عامة، ومن العلماء من فسر السفهاء بالفساق، والأولى أن السفيه: هو كل ضعيف لا يحسن التصرف في المال أخذاً أو إعطاءً، وحكمه ألا يمكن من التصرف في ماله.
وهذه الآية من الآيات الدالة على الحجر على الأشخاص، فهنا حجر على السفيه، وهناك أنواع أخرى من الحجر: كالحجر على المفلس -وهو المدين- حتى يؤدي للناس حقوقهم.
والحجر على البكر، فلا تتزوج إلا بإذن وليها.
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ، أي: التي وكلكم الله وجعلكم قائمين عليها، فأشعرت الآية أن المال الذي في يديك إنما هو مال الله وأنت قائم عليه فقط.
{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: أنتم قائمون على هذا المال، فالأصل أننا مستخلفون في هذا المال، ولسنا مالكين له، فمادة القيام من القيوم، والقيوم أي القائم، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] ولذلك أطلق اسم القيوم على الله سبحانه وتعالى، ومعناه: القائم على كل شيء، وبإذنه تقوم السماء والأرض.
فـ {جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: جعلكم قائمين على هذه الأموال، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله) أي: المحافظ على حدود الله والعامل بحدود الله.
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] قد تقدم أن حروف الجر تتناوب، أي: وارزقوهم منها.
: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] أي: لا تعطوهم المال ولكن طيبوا خاطرهم ولو بكلمة.(2/8)
حكم مداراة السفيه
وهذه الآية تعد أيضاً من آيات جبران الخاطر، فآيات جبران الخاطر تقدمت لها النماذج، مثل قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فجبر الله خاطر المطلقة بأن جعل لها متعة، وجبر خاطر اليتامى والفقراء في تقسيم الميراث فقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] أي: أعطوا المساكين إذا حضروا شيئاً من المال.
ومن الأدلة على جبران الخاطر أيضا هذه الآية التي نحن بصددها، ومعناها: لا تؤتوهم الأموال لكن قولوا لهم قولاً معروفاً، وهو تطييب الخاطر ولو بالكلمة، ونحوه قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] إلى قوله سبحانه {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] يعني: إذا لم ترد أن تعطي الوالدين أو الأقارب أو المساكين المال لعلة من العلل فقل لهم قولاً طيباً ميسوراً، قل لهم مثلاً: إن شاء الله يوسع الله عليّ وأعطيكم كل ما تريدون، أو أي كلام طيب يعد جبراً للخاطر مقابل منع المال عنهم.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) .(2/9)
تفسير قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى.)
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] ، أي: اختبروا اليتامى.
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أي: بلغوا الحلم.
{فَإِنْ آنَسْتُمْ} [النساء:6] أي: أبصرتم ورأيتم وعلمتم {مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي: عقلاً وتدبيراً وحكمة في الإنفاق {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] .
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] قلنا: إن النكاح هنا المراد به: الحلم.(2/10)
حكم الإشهاد عند دفع المال لليتيم
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] .
أي: فإذا سلمت لليتيم ماله وميراثه فأشهد عليه، وفي هذا بيان أن الرب سبحانه وتعالى حريص عليك وعلى مصلحتك وعلى اليتيم، فقد يجحد اليتيم بعد ذلك ويتحدث الناس في عرضك ويقولون: أكل أموال اليتامى ظلماً.
{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، دفعتم أي: سلمتم {إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] أي: من الميراث الذي كان لهم {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] فالإشهاد مشروع في الأعمال.
ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة والشهود، وهذا لما جحد آدم فجحدت ذريته كما في قصة داود عليه السلام، لما وهب له أبوه آدم أربعين سنة أو ستين سنة، وقال بعد ذلك لما جاء ملك الموت يقبضه (ما وهبت له شيئاً) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد فجحدت ذريته، وعصى فعصت ذريته،) ومن ثم أمر بالكتابة والإشهاد.
إذا كان أبونا آدم أعقل البشر على الإطلاق كما أطلق ذلك فريق من العلماء، فإنه عاقل رشيد متزن مؤمن صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك جحد، كما في الحديث (أنه رأى ذريته أمام عينيه كالذر فنظر إلى رجل من أوضئهم فقال: من هذا يا رب؟ قال هذا ابنك داود.
قال: كم عمره؟ قال ستون أو أربعون سنة، قال قد وهبته من عمري أربعين أو ستين سنة.
فلما جاء ملك الموت يقبضه قال: قد بقي من عمري أربعون أو ستون، قال ألم تكن وهبتها داود؟ قال: ما أعطيته شيئاً.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام: فجحد فجحدت ذريته، وعصى فعصت ذريته، ونسي فنسيت ذريته) ومن ثم أمر بالكتابة والإشهاد.
فلا تسلف أحداً من الناس مالاً إلا كتبت وأشهدت على ذلك الدين، فما دام آدم قد جحد فغيره من باب أولى.
وقد ورد في هذا الباب حديث صححه بعض أهل العلم، لكن المحققين من أهل الحديث ضعفوه، ألا وهو حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله -أو يبغضهم الله- رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى سفيهاً مالاً، ورجل أعطى رجلاً ديناً ولم يشهد عليه) لكن الحديث ضعيف والصواب فيه: أنه من قول أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، فهو موقوف ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ كما ذكر ذلك الحفاظ من أهل الحديث.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] فالإشهاد في دفع الأموال إلى الأيتام والإشهاد على الديون، والإشهاد عند الطلاق، الإشهاد عند إرجاع الرجل لزوجته، والإشهاد عند النكاح؛ أمور لابد من التنبه لها.(2/11)
متى يدفع مال اليتيم إليه
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] .
فدفع الأموال إلى اليتامى قيد بشرطين في الآية: الشرط الأول: إيناس الرشد منهم، أي: أن ترى فيهم عقلاً وحكمة ورشاداً في الإنفاق.
الشرط الثاني: أن يبلغوا الحلم، فلابد أن يبلغ اليتيم الحلم، ومع البلوغ يؤنس منه الرشد.
وهنا مسألة وهي: إذا بلغ اليتيم الحلم ولكنه ليس رشيداً، فهل يعطى المال أو لا يعطى؟ فريق من أهل العلم قال: لا يعطى المال؛ لأن الله قال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] قالوا: فالمفهوم المخالف: أنا إذا لم نأنس منهم رشداً لا ندفع إليهم أموالهم.
وقال فريق آخر من أهل العلم: بل تدفع إليهم أموالهم وإن لم يؤنس منهم الرشد، وحجتهم أن الله قال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) .
واستدل الأولون بأمور: قالوا: إذا كان اليتيم قد بلغ الحلم وهو سكير عربيد فسيأخذ المال ويفسد به في الأرض، والله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] .
أجاب أصحاب القول الثاني بقولهم: إن هذا حاصل في غير اليتيم كذلك، فهل يمنع غير اليتيم من أمواله ومن الميراث لفسقه؟ فمثلاً: إن وجد رجل فاسق مات أبوه، فهل نمنعه من الميراث لكونه فاسقاً؟
الجواب
لا.
فهذا هو الحاصل من أقوال العلماء في هذا الباب.(2/12)
حكم أكل الولي من مال اليتيم
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] أي: لا تعجلوا أكلها قبل كبرهم وبلوغهم.
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] عن أموالهم، {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] يستعفف أي: يتعفف، أو يطلب من الله أن يعفه، ففي الأصل أن السين إذا دخلت على الفعل أصبح معناها الطلب، فـ (استغفروني) معناه: اطلبوا مني أن أغفر لكم، واستطعموني أي: اطلبوا مني أن أطعمكم، إلا في بعض الأحيان كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ليس معناها المعنى المعهود.
فقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] أي: يتعفف عن أموال اليتامى أو يطلب من الله أن يعفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله، من يستغن يغنه الله) ، فأنت إذا بادرت إلى الخير تقرب الله منك كما في الحديث القدسي: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً) فإذا سلكت سبيل الخير يسر الله لك سبل الخير.
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] ما المراد بالمعروف؟ بعض أهل العلم يقول: المعروف هو المتعارف عليه بين الناس، ويكون هذا مقابل قيامك على اليتيم، أي: فإذا كان عندك يتيم تربيه وأنت فقير، وليس عندك مال وليس في وسعك أن تنفق عليه، فلتأكل من ماله بقدر قيامك عليه غير مبذر ولا مسرف ولا متأثل ماله.
هذه الآية أباحت لولي اليتيم أن يخلط ماله بمال اليتيم، ويأكل من مال اليتيم بقدر قيامه عليه، وحكى هذا بعض العلماء ومنع من ذلك آخرون.
إذاً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] هنا التقييد بالظلم غير القيام عليه في حال فقره، قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] .(2/13)
تفسير قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان.)
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7] من الميراث {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] .(2/14)
تفسير قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة.)
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] .
قال يحيى بن يعمر رحمه الله تعالى وهو من التابعين: ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فيقولون: أغناكم وأوجهكم وأعلاكم منصباً ومركزاً، والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] وقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] .
أي: إذا حضر أثناء تقسيم التركة أولو القربى واليتامى والمساكين فلا بأس بأن يعطوا شيئاً من المال جبراً لخاطرهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقولون إن هذه الآية منسوخة، ووالله ما نسخت إنما هي محكمة، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] وقد تقدم حد اليتيم، والمسكنة لا تحد بشيء ثابت إنما مردها إلى الأعراف، وقد يملك الرجل بيتاً ويملك سيارة ومع ذلك فهو مسكين، وهذا قد يحصل، قال سبحانه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] وقد جاء: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، لكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه) كما في الحديث.(2/15)
تفسير قوله تعالى: (وليخش الذين.)
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] الخطاب في الآية للجلساء الذين يحضرون قسمة تركة الميت، يأتي الجليس يقول: لا نعطي اليتامى والمساكين شيئاً، وأصحاب الحق أولى بالحق.
فرب العزة يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فيا من قلت هذا القول قد يأتي يوم من الأيام ويكون ابنك فيه يتيماً ويحتاج إلى الصدقة، فتحتاج أنت أيضاً إلى شخص يعطف على ابنك ويحنو عليه ويقول للناس: اتركوا له شيئاً من الصدقة.
وفي الآية إشعار أن جزاء الإحسان الإحسان وهذا واضح {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] فإن ما تصنعه مع أولاد الناس يصنعه الناس مع أولادك، وإن لم تكن صريحة في المعنى لكنها تدل عليه بقوة.
ولذلك قلنا: عليك أن تحرص على المرأة الصالحة من البيت الصالح، وذلك لأن الله قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] فالصلاح من الوالد وكان سبباً في حفظ الجدار أو في حفظ الكنز، فهنا يذكر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يقولوا كلمة طيبة {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:9] في كلامهم {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] .
ومن المعلوم أن القول السديد سبب في صلاح عملك، والقول المعوج سبب في فساد عملك، يقول الله سبحانه: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:70-71] القول السديد سبب في صلاح العمل، والقول الأعوج الذي تريد به أحياناً وجه الناس وأحياناً تريد به مصلحتك، كل ذلك سبب في فساد عملك.
{فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] أي: ما تحب أن يصنع مع أبنائك فاصنعه مع هؤلاء الأيتام.
وقد يأتي رجل محتضر فيأتي شخص يقول له: أوص بمالك كله في سبيل الله، والأولاد يتولاهم الله، فهذا من الجور في النصيحة، وآخر يعكس المسألة فيقول: اترك أموالك كلها لأولادك ولا تنفق شيئاً في سبيل الله، فهذا أيضاً من الجور في النصيحة، والقول السديد: هو الوسط الحق العدل.(2/16)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى.)
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] جاء التقييد بالظلم هنا، لأنه من الممكن أن تأكل أموال اليتامى بدون ظلم، إذا كنت تأكل بقدر قيامك عليهم كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220] أي: بمنزلة الإخوان {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] ، وكما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] .
وهذه الآية لما نزلت تحرج بسببها كثير من الناس غاية التحرج، فتجدهم لا يقتربون من أموال اليتامى، ويبتعدون عنها تماماً حتى أن أموال الأيتام أحياناً تأكلها الصدقات.
وتساهل بعض الناس في هذا الأمر، وقال: إن الله أباح الأخذ من مال اليتيم بالمعروف إذا كانت نيتك صالحة، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] .
وقد كان فريق من أهل العلم إذا سئل عن شيء مما يتعلق بأمر اليتامى أجاب بهذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] .
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أطلق أنها نار باعتبار ما ستئول إليه، فإنها ستكون ناراً يوم القيامة، وسيصلون سعيراً، فأكل أموال اليتامى من الكبائر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل أموال اليتامى) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر أكل أموال اليتامى {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(2/17)
الأسئلة(2/18)
التوبة من النياحة
السؤال
امرأة توفي زوجها ولطمت الخدود وناحت فما كفارتها؟
الجواب
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] تستغفر الله كثيراً وتصلي لله ركعتين أو ركعات وتتصدق إن استطاعت، وباب التوبة مفتوح، ولا تقنط أبداً من رحمة الله، فإن هذا نوع من إلقاء الشخص بيده إلى التهلكة قال البراء في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] : الذي يؤدي إلى التهلكة أن يذنب الشخص وييأس من رحمة الله فلا يستغفر.
إلى هنا وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/19)
حكم المكياج للمرأة
السؤال
هل المكياج الذي تضعه المرأة وتتزين به لزوجها حرام؟
الجواب
المكياج ليس حراماً إلا إذا صحبه محرم منصوص على تحريمه كالنمص، فالنمص منصوص على تحريمه، لكن إذا كانت تضع أصفر وأحمر للتزين لزوجها فلا دليل يمنع، وقد ثبت عن نساء السلف أنهن كن يتزين للأزواج، تقول إحداهن: إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها مال عنها.
وأيضاً (رأى النبي على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: مهيم؟ قال: تزوجت) فأثر الصفرة الذي على عبد الرحمن إما أن يكون أصابه من الزوجة أثناء تقبيلها أو مداعبتها أو نحو ذلك، أو يكون هو الذي وضعه على نفسه، فإذا كان وضعه على نفسه فالمرأة من باب أولى، وإذا كان أصابه من زوجته دل على أنها تزيت، والله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .(2/20)
علاج السحر
السؤال
امرأة لم تتزوج بسبب سحر ماذا تفعل؟
الجواب
تدعو وتدعو وتدعو كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا ودعا ودعا، ولتعتصم بالله ولتعتقد أن الساحر لن يضرها إلا بإذن الله، فما دام الأمر كله بيد الله، وأن إلى ربك المنتهى، وأن بيده خزائن السماوات والأرض؛ فلتعتصم بالله ولتكثر من الدعاء والفرج من عند الله، وقد فعل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام حين سحر، فدعا ودعا ودعا حتى قال: (يا عائشة إن الله أفتاني فيما استفتيته، فأتاني ملكان جلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي قال الذي عند رأسي للملك الذي عند رجلي: الرجل مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة قال: أين دفنها؟ قال: في بئر ذروان) ، وجاء الفرج من عند الله سبحانه وتعالى.
فإن سحرت وابتليت بالسحر دعت الله، فلتعلم أنها اقتربت من الله؛ لأن الدعاء يقرب من الله سبحانه وتعالى، فكلما دعت سجل لها دعاؤها في صحيفتها، ومن المعلوم أن كل شيء تفعله سيأتي في صحيفتك، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] وإن تأخر الشفاء لعلة فهي مثابة إن شاء الله بدعائها الله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] .(2/21)
حكم النهي عن الترجل
السؤال
النهي عن الترجل إلا غبا هل للكراهة أو للتحريم؟
الجواب
للكراهة وليس للتحريم، لحديث: (إن الله جميل يحب الجمال) .(2/22)
السنة في كيفية الهوي إلى السجود
السؤال
أيهما أولى عند الهوي إلى السجود هل أن ينزل على الركبة أم على الأيدي؟
الجواب
الأمر فيه سعة، والنفس لا تنشط لا لتصحيح هذا الحديث ولا لتصحيح ذاك الحديث، وهذا رأي فريق كبير من العلماء، والمسألة اختلف فيها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنفسهم، فالمسألة على التوسعة وكلا الحديثين عندنا فيه مقال، وقد ألفت رسالتان في هذا الباب، رسالة لأخينا الفاضل الشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله، ورسالة مقابلة لأحد إخواننا في السعودية اسمه خالد المؤذن مضادة لرسالة أخينا أبي إسحاق، وفي الحقيقة أن الأمر على التوسعة وما دامت هذه المسألة دب فيها خلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين جماهير أهل العلم فالتوسط فيها مطلوب.
وأما بالنسبة لنا فالحديثان عليهما تحفظ من ناحية الضعف.
بالنسبة لـ عمر بن علي المقدمي متهم بتدليس السكوت وكان بعض أهل العلم - النووي - قد نفى عنه ذلك؛ لأن أول من أطلق عليه ذلك ابن سعد، ومعظم مادته عن الواقدي والواقدي متهم بالكذب.
مداخلة: قد ذكر ذلك ابن حجر في أكثر من موضع في هدي الساري، نرجو التفصيل في ذلك.
الجواب: أما التفصيل لا أستطيعه الآن؛ لأني أحتاج إلى الاطلاع على رواية عمر بن علي المقدمي لكن جزمنا أن منشأ كلام ابن سعد هو من الواقدي لم يسلم بذلك، لأنه قد يكون أخذه عن الواقدي وقد يكون أخذه عن غيره، صحيح أن أغلب روايات ابن سعد عن الواقدي لكن القطع بأن هذا الرأي نقله ابن سعد عن الواقدي لا نتحمله أمام الله سبحانه وتعالى.(2/23)
حكم العقيقة ومشروعية الدعوة لها
السؤال
ما هو حكم العقيقة، وهل تشرع الدعوة لها؟
الجواب
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في شأن العقيقة: أفرط فيها رجلان رجل قال بوجوبها، ورجل قال ببدعيتها.
والصواب أنها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تأتي مسألة الدعوة إلى العقيقة، فقد انتشر فينا معشر الإخوة الآن أن يدعو صاحب العقيقة الناس إليها، لكن هل ثبت على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء؟ في الحقيقة أن كل ما أعلمه في شأن العقيقة حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثلاثة: أحدهما: هو (الغلام مرتهن بعقيقته ... ) .
والثاني: (يعق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) وفي بعض الروايات: (يعق عن الغلام شاة وعن الجارية شاة) .
أما هل دعا الرسول إلى العقيقة أحد؟ لا نعلم أن الرسول دعا إلى العقيقة أحداً من الصحابة، وهل تثلث العقيقة؟ ثلث للفقراء وثلث للمساكين وثلث لأهل البيت؟ لم يرد في هذا أيضاً شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نقل عن الإمام مالك أنه كان يكره الدعوة للعقيقة؛ لكن ما زلت بصدد تحرير هذه المقولة التي نقلت عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
فمسألة الدعوة إلى العقيقة أمر مباح، لكن لا ننسب ذلك إلى السنة؛ لأنه لم يثبت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن شاء أن يدعو إلى طعام العقيقة فلا بأس، ومن ترك الدعوة فلا بأس، ومن تصدق بجزء منها فلا بأس، ومن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء.
والله أعلم.(2/24)
حلق رأس المولود
السؤال
ما حكم حلق رأس المولود؟
الجواب
حديثها ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.(2/25)
حكم القصر لمن كان له أكثر من دار يقيم فيها
السؤال
رجل مقيم في بلدة ثم انتقل إلى أخرى للعمل، فيسافر للعمل ويمكث أسبوعاً أو أسبوعين، ثم يرجع إلى بلدته ويمكث يومين، فهل يقصر أم يتم؟
الجواب
إذا اتخذ داراً يسكنها في البلدة التي يعمل فيها أصبح له داران يقيم فيهما فيتم فيهما، ولا بأس بتعدد دور الإقامة.(2/26)
مسافة القصر
السؤال
بكم تحدد مسافة القصر؟
الجواب
تطمئن نفسي إلى ما نقل عن عبد الله بن عمر وشيخ الإسلام ابن تيمية فيما حاصله أن الذي يطلق عليه سفر تقصر فيه الصلاة.(2/27)
هل قوله تعالى: (.
وللنساء نصيب مما اكتسبن ... ) دليل على جواز عمل المرأة خارج بيتها؟
السؤال
قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] هل تجعل هذه الآية الحق للمرأة في السعي والعمل خارج البيت؟
الجواب
ليس فيها دلالة على ذلك أبداً، إنما الآية في المواريث وفيما يتعلق بحقوق الزوجين، أما المرأة فليس عليها عمل خارج البيت، ولا يجب عليها عمل خارج البيت، إنما نفقتها واجبة على الزوج بالإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول) قال أبو هريرة: تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، وقد أجمع العلماء على أن نفقة المرأة واجبة على زوجها، حتى أدخل فريق منهم المشط والطيب وزيت الشعر والكحل إلى غير ذلك، وأوجبه فريق آخر.(2/28)
الصلاة جماعة خلف المذياع
السؤال
هل تجوز الصلاة جماعة عن طريق المذياع -الراديو-؟
الجواب
لا تجوز فيما أعلم.
والله أعلم.(2/29)
ما المقصود بالصداق؟
السؤال
هل المقصود بالصداق في هذه الأيام ما يسجل في قائمة الزواج؟
الجواب
نعم قائمة الزواج بمثابة المهر.(2/30)
وجه تضعيف حديث: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة.)
السؤال
ما وجه تضعيفكم لحديث (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض فلا يظهر منها إلا هذا وهذا) .
الجواب
لا نقول ضعيف فحسب، بل ضعيف جداً بل ساقط، لعلل أربع: أولها: أن إسناد الحديث مروي من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذا إسناد مظلم مسلسل بالضعف.
أولاً: لأن الوليد بن مسلم مدلس تدليس التسوية وهو شر أنواع التدليس وقد عنعن.
الثاني: أن سعيد بن بشير شيخه ضعيف.
الثالث: أن قتادة مدلس وقد عنعن.
الرابع: أن خالد بن دريك لم يدرك عائشة كما قال أبو داود راوي الحديث نفسه فهو منقطع.
هذه علل الحديث، بعض إخواننا غفر الله لهم لما وجدوا للحديث شاهداً من طريق هشام الدستوائي -على ما أذكر- عن قتادة -مرسلاً- قالوا: إن هذا يعد شاهداً للحديث، ومن ثم يرتقي الحديث إلى الحسن، وهذا مأخذ غريب وضعف عجيب؛ لأن مدار الحديث أصلاً على قتادة، مرة قوم رووا الحديث عن قتادة كـ سعيد بن بشير روى الحديث عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة، وراوٍ آخر روى الحديث عن قتادة مرسلاً، فلا يعد هذا شاهداً لهذا بل علة إضافية إلى الحديث، لأن مدار الحديث على قتادة.
وهنا زلت قدم الشيخ الفاضل المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله، ففي كتابه حجاب المرأة المسلمة انتقد انقاداً لاذعاً عبد الأعلى المودودي رحمه الله عندما حاول أن يجعل رواية قتادة عن خالد عن عائشة من الشواهد لرواية هشام عن قتادة عن رسول الله، فتعقبه الشيخ ناصر رحمه الله تعقباً موفقاً فقال كلاماً حاصله: وهذا أصلاً لا يصلح ولا يجوز؛ لأن المخرج واحد، والمشتغلون بل المبتدئون في الحديث يعلمون أنه إذا كان المخرج واحداً -على قتادة - فلا يصلح أن يكون شاهداً في هذا الباب، هذا مجمل معنى كلام الشيخ ناصر الدين رحمه الله.
وهو كلام موفق صحيح، لكنه بعد ثلاث صفحات من نفس الكتاب جاء إلى حديث أسماء الذي يستدل به هو نفسه على الحجاب وقال في الحاشية: وله شاهد من طريق هشام عن قتادة عن رسول الله، وكان مأخذاً غريباً، فالعجب أنه استشهد بالشيء الذي انتقده انتقاداً لاذعاً على عبد الأعلى المودودي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/31)
تفسير سورة النساء [11-14]
لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بقسمة التركات بنفسه، وما ذلك إلا لأن الإنسان شحيح بطبعه، فعندما تكون القسمة من الله تعالى يكون هناك الرضا التام، وعلم المواريث له أحكام عدة تحتاج إلى تفهم وإلى تدبر، لذا يجب تعلم علم الفرائض؛ حتى لا تضيع الحقوق، والوجوب على العموم لا على الأعيان، فإذا تعلمه البعض سقط عن الآخرين.(3/1)
تفسير قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فالله سبحانه في كتابه الكريم يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:11] .
هذه الآية والتي تليها آيات المواريث، وكذلك آخر آية من سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
} [النساء:176] .
هذه ثلاث آيات في كتاب الله تتعلق بالمواريث.
يقول سبحانه وتعالى فيها: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : استنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : أن الله سبحانه وتعالى أرحم بالولد من والده ومن والدته، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أوصى الوالدين بالولد.
وقد جاء هذا المعنى في حديثٍ أصرح، ألا وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في بعض الغزوات، فرأى أمّاً تبحث عن طفلها في السبي، فإذا بها تلتقط طفلاً وتضمه إلى صدرها وتحتضنه بشدة وترضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتظنون هذه طارحةً ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟! قالوا: لا تطرحه أبداً يا رسول الله! فقال: فوالذي نفسي بيده، لَلَّه عز وجل أرحم بعبده من هذه بولدها) .
آيات الفرائض أو علم الفرائض علم دقيق، وقد رُوي عن ابن مسعود أنه قال: مَن لم يعرف أحكام الفرائض والحج والطلاق فبِمَ يَفْضُل أهلَ البادية؟!، يعني: إذا كنت لا تعرف أحكام الحج، ولا الطلاق، ولا الفرائض، فبأي شيء تتميز عن أهل البادية؟! أي: أن الوعظ أو القصص لا يُعدُّ علماً بالنسبة لعلم الحج، والفرائض التي هي المواريث، وأحكام الطلاق، فأحكام الطلاق والمواريث والحج أحكامٌ تحتاج إلى ذكاء، وإلى استنباطات، وإلى معرفةٍ بالنصوص الواردة فيها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تُوَجَّه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقد رُوي في أثرٍ فيه كلام: (تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم) .(3/2)
مشروعية إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين
قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] بعد إخراج نصيب كل مَن ذُكِر أو كل مَن كان له نصيب، فإذا كانت هناك أم، أو هناك زوجة، أو هناك زوج، كل شخص يأخذ نصيبه أولاً، وبعد ذلك يقسم الباقي {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، هذا بعد استيفاء أنصبة كل من له نصيب إجماعاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وهذا واضح.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] : هذا حكم الله، فمن جاء يقول: للذكر مثل الأنثى فهو ضالٌّ مفترٍ كذاب على الله وعلى رسول الله، أيَّاً كان شأنه.(3/3)
نصيب الاثنتين من النساء فصاعداً عند انفرادهن
قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} [النساء:11] : إن كان الورثة نساء، {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] : بعض العلماء يقول: إن كلمة: (فوق) هنا زائدة، ومن الممكن أن ينسجم المعنى بدونها، فمن الممكن أن يقال: فإن كان نساءً اثنتين فصاعداً، ففوق اثنتين هب أن النساء كن اثنتين فما حكمهما؟ حكمهما أيضاً: أن لهما ثلثي ما ترك، وكلمة: (فوق) في هذا المقام لا تؤثر في الحكم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] ، أي: اضربوا الأعناق.
واستُفيد أن للبنتين ثلثي التركة مِن قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] فالمفهوم المخالِف: إن كانت واحدة فلها النصف، فإذا كانتا اثنتين فلهما الثلثان، وكذلك إذا كن أكثر من اثنتين، فكلهن يشتركن في الثلثين.
قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] : الأبوان إما أن يشتركا مع غيرهما أو ينفردا.
فقد يشترك الأبوان مع الأولاد، كأن يموت شخص ويترك أبوين وأولاداً، فإذا اشترك الأبوان مع الأولاد، فالأب يأخذ السدس، والأم تأخذ السدس، وبعد ذلك تقسم التركة، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
أو يشترك الأبوان مع بنات، فالبنات لهن الثلثان، كما ذكر الله سبحانه، والأب له السدس، والأم لها السدس.
أو يشترك الأبوان مع بنت، فالبنت لها النصف، فيبقى النصف، الأم تأخذ السدس، والأب يأخذ السدس، يبقى سدس يأخذه الأب بالتعصيب.
أو يشترك الأبوان مع زوجة أو مع زوج، ففي هذه الحالة إذا اشترك الأبوان مع زوجة: يقول الله سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] ، الأم تأخذ الثلث، والزوجة تأخذ نصيبها على ما سيأتي، والباقي يأخذه الأب بالتعصيب.(3/4)
سبب نزول قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)
إن لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
} [النساء:11] سببَ نزولٍ، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (مرضتُ واشتد مرضي؛ فأغمي عليّ، فعادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ماشيين، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه، فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أوصي في مالي؟ فنزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} )) [النساء:11] ) .
وهناك سبب نزول آخر حيث: (أن سعد بن الربيع استشهد يوم أحد، فاستحوذ أخوه على التركة كلها، ومنع زوجته وبناته من الميراث، فجاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه فعل هذا الرجل، فنزلت آية الفرائض: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} )) ) .
لكن سبب النزول الوارد في قصة بنات سعد بن الربيع وزوجته ضعيفٌ، ففي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف.
وبالمناسبة: عبد الله بن محمد بن عقيل من الرواة الذين اختُلِف فيهم: فجَنَح بعض العلماء إلى تحسين حديثه، وجَنَح بعضهم إلى تضعيف حديثه، وأكثر العلماء على تضعيف حديثه.
لكن نذكر ذلك؛ حتى تعلم بعض أسباب اختلاف أهل الحديث في تحسين حديث رجل، أو تضعيف حديث الرجل.
ففي تحسين حديث ما أو تضعيف ذلك الحديث، أحياناً يختلفون في رجل هل هو ثقة، أو ليس بثقة؟ هل حديثه يُحتمل أن يحسَّن، أو هو دون الحسن؟ فالذي نشط وحسَّن حديثه وقوَّى أمره يحسِّن الحديث، والذي فتر ولم ينشط لتحسين الحكم على الرجل بأنه ثقة أو صدوق يضعِّف الحديث.
فمن هؤلاء الرجال الذين اختُلِف فيهم: عبد الله بن محمد بن عقيل، فأكثر أهل العلم على تضعيف حديثه، ومنهم مَن حسَّن حديثه.
فلذلك ترى بعض الاختلافات بين بعض الباحثين أو المحققين في تصحيح أو تضعيف حديثه.
كذلك راوٍ آخر اسمه: يحيى بن أيوب الغافقي -مثلاً- مُختَلَف فيه، فمن العلماء مَن يحسِّن الحديث الذي رُوي من طريقه، ومنهم مَن يضعِّفه.
فينشأ الخلاف نتيجة اختلافهم في الحكم على الراوي.
يحيى بن أيوب وهو راوي حديث: (يا سارية! الجبل الجبل!) وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله.(3/5)
المراد بالأولاد في قوله تعالى: (يوصيكم الله.)
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] : ما المراد بالأولاد هنا؟ المراد بهم: الأولاد للصلب، أما أولاد التبنِّي فليس لهم في الميراث نصيب، وكذلك الأولاد من الرضاع ليس لهم في الميراث نصيب، فتبين أن المراد بالأبناء: الأبناء للصلب.
والأبناء للصلب الذين جاءوا من نكاح حلال، أما الأبناء الذين جاءوا من سفاح، يعني: رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فليس له نصيب في الميراث، ليس له ميراث شرعي من الزاني، ولكنه يرث من أمه وترثه.(3/6)
حقيقة ومعنى تقديم الوصية على الدين في الآية
لماذا قدمت الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)) [النساء:11] ؟ معلومٌ أنه إذا مات رجل عليه دين وأوصى وصية، فإن الدين يُقضى أولاً بالإجماع.
ولأهل العلم في تقديم الوصية على الدين أقوال: أولها: أن الحرف (أو) لا يفيد الترتيب، كأن تقول لشخص اذهب إلى المنصورة أو الإسكندرية، فهذا تخييرٌ، ليس معناها: أن يذهب إلى هذه أولاً ثم إلى تلك ثانياً.
ثانيها: أن الوصية قُدِّمت؛ لأن الشخص إذا اهتم بالشيء الصغير سيهتم بالكبير، فإذا اهتم الشخص بتنفيذ الوصية سيهتم من باب أولى بتنفيذ الدين، كما قال الله حاكياً عن الكافر: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [الكهف:49] ، فقدمت الصغيرة على الكبيرة، فإذا كان لن يغادر الصغيرة، إذاً لن يغادر الكبيرة.
ثالثها: أن الوصية كانت مشاعة في الناس، فقُدِّم ذكرها لتفشيها الأوسع في الناس، والشيء إذا كان متفشياً بصورة أوسع في الناس فإنه يقدم على الذي لم يكن متفشياً.
فمثلاً: آية المحرمات في النساء صُدِّرت بقوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، قُدِّمت زوجة الأب في الذكر على الأم مع أن التزوج بالأم أقبح وأشنع من التزوج بزوجة الأب، ولكن التزوج بزوجة الأب كان متفشياً في الجاهلية، وأهل الشرك في الجاهلية كانوا يحرمون الأم؛ لكن لم يكونوا يحرمون زوجة الأب، فعندما يموت الأب كان كل واحد يجري إلى امرأة أبيه بسرعة؛ لأن الذي يسبق ويضع عليها ثوباً يكون هو أحق بها من غيره، إن شاء تزوجها هو، وإن شاء زوَّجها لغيره، وإن شاء سرَّحها وردها إلى بيت أهلها، فيتصرف فيها كيف شاء.
فلذلك قدمت الوصية على الدين لتفشيها.
قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً)) [النساء:11] أي: لا تميز ولداً على الآخر، ولا تميز بنتاً على ولد، أو ولداً على بنت، فأنت لا تدري من الذي سينفعك عند الله ومن الذي سيضرك؟! قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:11] : والمشرِّعون التونسيون الطواغيت الذين يجعلون المرأة مثل الرجل في الميراث، فهم في غاية الجهل والغباء، والله هو العليم الحكيم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [النساء:11] .(3/7)
نصيب كل من الأب والأم مع الزوج
لكن إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأماً وأباً، كم يأخذ الزوج؟ الزوج له النصف، يبقى النصف، للأم الثلث، ويبقى السدس يأخذه الأب، إذاً أعطيتَ الأم ضعفَ الأب، هل هذا يجوز؟ نعم.
أنت فهمت السؤال؟ امرأة ماتت، تركت زوجاً وتركت أماً وتركت أباً، للزوج له النصف، والدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] .
وللأم الثلث، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] ، وبه قال ابن عباس.
وقال: زيد بن ثابت رضي الله عنه: للأم ثلث الباقي، حتى لا تأخذ الأم أكثر من الأب! فاختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في هذه المسألة، فـ ابن عباس قال: (نمضيه على ظاهر كتاب الله: الزوج له النصف، والأم لها الثلث، والأب له الباقي وهو السدس) .
فإن قال قائل: كيف تعطي الأم أكثر من الأب؟ قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فألحقنا الفرائض بأهلها.
وفريق آخر قالوا: بل نعطي الزوج النصف، ونأتي إلى النصف الباقي، فالأم تأخذ ثلثه، والأب يأخذ ثلثيه، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه.
لكن ابن عباس أصر على موقفه في هذا الباب، وقال: لا ضير أن تأخذ الأم أكثر من الأب، ما دام أن رب العزة سبحانه وتعالى نص على ذلك في كتابه.
فإذا اشترك الأبوان مع الزوجة، فللزوجة الربع وللأم الثلث، وللأب الباقي.
إذا اشترك الأبوان مع إخوة، كرجل مات وترك أماً وأباً وإخواناً؛ فللأم السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] وللأب الباقي تعصيباً، لحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلِأَولى رجل ذكر) .
وأما الإخوة فليس لهم شيء، وذلك لوجود الأب، فهم أضرُّوا بالأم ولم يأخذوا شيئاً، أي أن الإخوة في هذه الحالة كانوا وجه ضرر على أمهم، فحجبوا الأم من الثلث إلى السدس، ويا ليتهم أخذوه، بل الذي أخذه أبوهم، فأضرُّوا بالأم ولم يأخذوا شيئاً؛ لأن أباهم سينفق عليهم.(3/8)
عدم قسمة التركة قبل تنفيذ الوصية والدفن وغيرهما
وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] ، أي: هذه القسمة كلها بعد الوصية وبعد الدَّين، وبعد أشياء أخر لم تذكر في كتاب الله؛ لكن ذكرها الفقهاء في كتبهم، مثل تكاليف الدفن والكفن وغيرهما فتخرج من رأس التركة قبل القسمة؛ لكن تكاليف المَحْزَنة لا تخرج؛ لأنها بدعة.
فالواجب هو الذي يخرج، وإذا تطوع بالواجب أحد الورثة فلا بأس، الواجب الذي يجب أن يُفعل كالغسل والكفن والدفن تخرُج قيمته؛ لكن أي شيء كالأكل للمعازيم والقهوة والشاي للمعازيم، كل هذا لا يخرُج من شيء فهو مال للورثة.
وهل الوصية واجبة أو مستحبة؟ أو لا واجبة ولا مستحبة؟ الوصية جائزة في بعض الأحيان، وتكون الوصية لغير الورثة؛ لما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، أي: أن أي واحد من الورثة لا يجوز للميت أو للمحتضر أن يوصي له، والحديث ضعيف من كل طرقه؛ لكن حصل إجماع العلماء على أنه لا وصية لوارث.
وهذا من الأحاديث الضعيفة التي عليها العمل، فهذا الحديث لا يثبت له أي طريق عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكل طريق مخدوشٌ فيه.
وقد نقل الشافعي إجماع العلماء على العمل به، فصرنا إلى العمل به كما عليه العلماء كافة.
فالوصية تكون لغير الورثة بما لا يتجاوز الثلث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذهب إلى سعد بن أبي وقاص يعوده- (الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) .
فمِن ثَمَّ كان ابن عباس يقول: (لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع لكان أنفع أو كان خيراً لهم؛ لأن الرسول قال: الثلث، والثلث كثير) .
ومعنى (غَضُّوا) في قوله: (لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع) .
نزلوا.
والشاهد من كتاب الله على ذلك؛ قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يخفضوا من أبصارهم.
فهذا قول عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه.
وقولهم: إنها واجبة، فيه نظر! لأنه ليس هناك دليل يوجب الوصية.
ثم الوصول بها إلى الثلث وصولٌ بها إلى المنتهى، فالمستحب أن تكون كما قال ابن عباس: أقل من الثلث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، وأن تكون الوصية لغير الورثة.(3/9)
تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)(3/10)
حقيقة المضارة في قوله تعالى: (أو دين غير مضار)
{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] .
قوله تعالى: ((غَيْرَ مُضَارٍّ)) : يشمل كل أنواع الضرر، فكل أنواع الضرر ينبغي أن تجتنب، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] ، أي: لا ضرر على الكاتب ولا على الشهيد.
وهناك معنىً آخر قال به بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] وهو: أن ترغم الشاهد أو الكاتب على الحضور في وقت لا يستطيع الواحد منهما أن يحضر، فيعتبر هذا من المضارة، وذلك في الكتابة والشهادة في الوصية وفي الديون، {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] .
فتبين أن فيها وجهين: الأول: بمعنى: لا يؤذى الكاتب ولا يؤذى الشاهد، لا يؤذى الكاتب كأن تهدده وتقول له: إذا شهدت أن هذا خطك سأفعل بك كذا، ولا يؤذى الشاهد، كأن تهدده أيضاً وتقول له: لو شهدت على كذا لفعلت بك كذا.
ثانيهما: لا تأت إليهما في وقت الراحة مثلاً وتقول: هيا تعال اشهد معي.
فيقول لك: أنا لا أستطيع الآن، فتقول: لازم، فهذا نوع من أنواع المضارة بالكاتب والشهيد.
وعلى الكاتب والشهيد أيضاً أن لا يضارا الدائنَ والمدينَ، بمعنى: أن الشاهد قد يشهد زوراً فيضر أحد الطرفين، أو الكاتب يكتب ما لا يُملى عليه فيضر أحد الطرفين.
فكلمة: (يُضارَّ) جمعت المعنيين، لا يضار هذا ولا يضار هذا، فلا يضار الكاتبُ والشهيدُ الدائنَ والمدينَ، ولا يضار الدائنُ والمدينُ الكاتبَ ولا الشهيدَ.
هنا قول تعالى: ((غَيْرَ مُضَارٍّ)) : تشمل إبعاد كل أنواع الضرر التي تلحق بالمحتضر، أو بالورثة أو بأي صنف من الأصناف التي تشترك في التركة.(3/11)
حقيقة المسألة المشركة أو الحمارية أو العمرية وحكمها
هنا مسألة نطرحها: امرأة ماتت وتركت زوجاً، وتركت أماً، وتركت إخوة لأم، وتركت إخوةً أشقاء.
فكم يكون نصيب كل من الزوج والأم والإخوة لأم والإخوة الأشقاء؟ - الزوج له النصف؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] .
- والأم لها السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] .
وللإخوة لأم الثلث، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
والإخوة الأشقاء يُحْجَبون؛ لأنه لا يوجد باقٍ أبداً، فإننا قلنا: الزوج له النصف، والأم لها السدس، والإخوة لأم لهم الثلث، انتهى الواحد الصحيح، ويسقط الإخوة الأشقاء ولا يرثون؛ لأنه لم يعد يوجد شيء، وهذا رأي بعض العلماء.
والمسألة التي وردت فيها قصة، وإن كان في إسنادها كلام: أن قوماً اختصموا إلى عمر فالإخوة الأشقاء ما تبقى لهم شيء، فجاءوا إلى عمر قالوا: يا أمير المؤمنين! هب أن أبانا كان حماراً! أليست أُمّنا واحدة؟! فقضى لهم عمر أن يشتركوا مع الإخوة لأم في الثلث، وأبى عليه ذلك عبد الله بن عباس، وأصر على موقفه وقال: الذي ذُكِر في كتاب الله يُخرج، والذي ليس له شيء في كتاب الله فليس له شيء.
وهذه هي المسألة المُشَرَّكة التي اختلف فيها عمر مع ابن عباس فعندما تزيد النسبة عن الواحد الصحيح، فنقول مثلاً: هذا له نصف وهذا ربع وهذا ثلث تخرج النسبة بزيادة عن الواحد الصحيح، فتقسمها كما يقسمها أهل الهندسة بمجموع الأجزاء وقيمة الجزء، ثم تضرب بالطريقة التي تُدْرَس في سادس ابتدائي.
الزوج يأخذ النصف؛ لأن الله قال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] ، والأم تأخذ السدس لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] فإذا جمعت النصف على السدس يكون أربعة أسداس، بقي سدسان، قال الله سبحانه في شأن الإخوة لأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: في السدسين، يبقى الإخوة الأشقاء ليس لهم شيء.
لكن أمير المؤمنين عمر قال: نقسم الثلث الباقي على الإخوة لأم والإخوة الأشقاء.
إذاً: هكذا يستوي كل واحد مع الآخر.(3/12)
نصيب الزوج مع وجود الولد وعدمه
قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] أي: أن للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد.
{فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء:12] أي: ابن أو بنت؛ لأن المراد بالولد الذي يولد، سواء كان ذكراً أو أنثى.(3/13)
نصيب الزوجة أو الزوجات مع وجود الولد وعدمه
قال تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12] : يعني: لو أن رجلاً كان متزوجاً بأربع، فمات الرجل، فإن الزوجات يشتركن في الربع إن لم يكن له ولد، إما إذا كان له ولد أو بنت من إحدى النساء، فحينئذ يشتركن في الثمن.
فكلمة: (لهن) تفيد أنه لهن مجموعات.
(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ (-أي: مجتمعات- (الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .(3/14)
حقيقة الكلالة والمراد بالأخوة في آيتي الكلالة
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12] : أي: أو امرأة تورث كلالة، وحذفت: (تورث كلالة) لدلالة السياق عليها، والحذف لدلالة السياق مستساغ، وقد قدمنا ما فيه الكفاية في هذا الباب.
قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء:12] : الكلالة: مَن لا ولد له ولا والد، وهذه المسألة من المسائل التي أشكلت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حتى قال: (ما سأل أحدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة مثلما سألتُه، حتى ضرب يده في صدري وقال: يا ابن الخطاب، ألا تكفيك آية الكلالة التي في آخر سورة النساء؟!) ، ومع ذلك كان يقول في آخر حياته عمر: (ثلاث مات النبي صلى الله عليه وسلم ولَوَدِدْتُ أنه عَهِد إلينا فيهن عهداً: الكلالة، ومسائل من الربا ... ) إلى آخر ما ذكر عمر رضي الله عنه.
إذاً الكلالة: من لا ولد له ولا والد، أي: ليس له أب ولا ابن، ولا جد ولا حفيد، ولا شيء أعلى ولا شيء أنزل، قال العلماء: الكلالة هي مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس.
قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] هنا تقدير أجمع العلماء عليه: له أخ أو أخت من الأم.
والكلالة فيها آيتان: هذه أولاهما: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] : أي: أخ أو أخت من الأم.
والثانية هي آخر آية في النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] .
الكلالة هنا: الإخوة الأشقاء، أو الإخوة لأب، حتى لا تتضارب الأفهام؛ لأن حكم الكلالة في الآية الأولى من النساء، غير حكم الكلالة التي في آخر النساء.
الكلالة هنا: يقول الله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
لكن التي في آخر النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] .
فقد يقال: كيف تقول: إن الأخت لها نصف ما ترك في الأخيرة، وهنا تقول: لها السدس؟ فالإجابة: أن هذه الآية الأولى في الإخوة لأم.
والتي في آخر النساء في الإخوة الأشقاء.
والإخوة لأم يفترقون عن الإخوة الأشقاء في أمور: منها: أنهم لا يرثون الأخ إلا في الكلالة.
منها: أن ذكرهم يساوي أنثاهم في الميراث؛ لأن الله قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، فسوى الأخ بالأخت.
لكن في الكلالة التي في آخر النساء: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] ، وهي في الإخوة الأشقاء.
ومنها: أن ميراث الإخوة لام لا يتجاوز الثلث؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
أما الإخوة الأشقاء فيستحوذون على التركة كلها إن لم يوجد وارث للميت من يقدم عليهم.(3/15)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله)
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14] .
فآيات المواريث ذيلت بهذا التذييل الخطير لزجر من تسول له نفسه تغيير أي حكم من أحكام الله في شأن المواريث.
فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14] عقب قسمة الله المواريث.
{يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] : أي: مُذِلٌّ ومُخْزٍ، عياذاً بالله منه! والحمد لله أن بلادنا ما زالت في المواريث على الشرع فيما نعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.(3/16)
الأسئلة(3/17)
حكم من رأى أمه بعد موتها في المنام وأخبرته أنها حية
السؤال
هناك ابن ماتت عنه أمه، وبعد فترة من وفاتها جاءت إليه في الرؤيا وقالت له: إني ما زلت على قيد الحياة في قبري، فذهب إلى خاله وقصَّ عليه ما رأى، فقال له: إن هذا من عمل الشيطان، فلا تهتم ولا تشغل بالك، فجاءت إليه مرة أخرى في الرؤيا تقول له مثلما قالت له في المرة الأولى، فذهب هو وخاله إلى قبر الأم، فلما فتحا عليها القبر وجداها جالسة وقد ماتت، هل على الابن وزر.
الجواب
ليس عليه وزر.(3/18)
حكم مشروعية التعجيل بدفن الميت
السؤال
هل التعجيل بدفن الميت مشروع في دين الله؟
الجواب
التعجيل بالدفن لا أعلم عليه دليلاً، إنما الإسراع بالجنازة إذا كانت على الأكتاف هو السنة؛ لأن النبي قال: (أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تكُ غير ذلك فشرٌ تضعونه من على رقابكم) ؛ لكن التوسط مطلوب، {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أعني أن التوسط في كل شيء طيب.(3/19)
حكم تأخير دفن الجنازة لغرض اجتماع الناس
السؤال
هل تتأخر الجنازة إلى أن يجتمع الناس عليها؟
الجواب
لذلك مستند هو: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفن ليلاً) مثلاً: إذا مات شخص في وقت المغرب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الدفن ليلاً؛ لمظنة قلة الحاضرين، فتؤخره إلى الصباح إلى أن تطلع الشمس، فتكون الفترة طويلة، ففي هذه الحالة جوَّز رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يؤخَّر الدفن، فليس هناك تضييق على المسلمين في المسألة، في الإسراع في الدفن أو الإبطاء به، فإن تأخير الدفن أو تعجيل الدفن يكون لمصلحة الميت، فإذا كان في التأخير نفعٌ للميت كأن يشهد جنازته عدد كبير من المسلمين حتى يُشَفَّعوا فيه، فيُفعل هذا التأخير، وإن لم يكن هناك مصلحة تدعو إلى التأخير قُدِّم إلى الدفن.
والله أعلم.(3/20)
حكم التعامل بشهادات الاستثمار
السؤال
ما حكم المعاملات التي هي شهادات الاستثمار، هل هي جائزة أم لا؟
الجواب
شهادات الاستثمار إلى الحُرمة أقرب بكل أصنافها.
والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
إلى هنا وجزاكم الله خيراً.(3/21)
حكم من طلق بعد العقد وقبل الدخول ولم يعطها شيئاً
السؤال
إذا علم رجل قبل أن يطلق امرأته أن لها نصف المهر، وكان قد عقد فقط، ولم يخلُ بها، ولم يعطها حقها بعد الطلاق، فما حكم ما فعله في حقها شرعاً؟
الجواب
هو آكلٌ حق المسلمة، إلا إذا عفت هي، أو عفا هو وأعطاها المهر كاملاً، وهذا شيء لا يكاد أحد يفكر فيه.
أورد الطبري أثراً -أحتاج أن أنظر في إسناده مرةً ثانية-: عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فقال له سعد: يا جبير ما رأيك أن تتزوج أختي؟! قال: قد تزوجتها.
ومكثا بعض الشيء في المجلس، ثم خرج جبير بن مطعم فقال جبير -وهو لم يرها بعد ولا أبصرها ولا أي شيء-: هي طالق، وأرسل لها الصداق كاملاً.
فقيل له: لماذا تزوجتَها؟ ولماذا طلقتها؟ قال: استحييت من الرجل، فتزوجتُها، وقيل له: لماذا أرسلت لها الصداق كاملاً؟ قال: إن الله قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فلا أجعلها تعفو عني، أنا الذي أعفو عنها؛ أعطي لها الصداق كاملاً.
هذا أورده العلماء الذين قالوا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأن الذي بيده عقد النكاح للعلماء فيه قولان: أحدهما: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
والثاني: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي.
فالراجح في المسألة: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ فلذلك قال: جبير أنا أعفو عنها، ولا أريد منها شيئاً.
فأخونا الذي فعل هكذا فإنه آكلٌ مالها بالباطل.(3/22)
حكم الوصية لأحد الورثة
السؤال
هل يجوز أن يوصي الشخص بالثلث لأحد الورثة؟
الجواب
الوصية بالثلث تكون لغير الورثة، (لا وصية لوارث) ، فإذا كان لك ابن، فهو وارث، ولا يُعطى شيئاً من الثلث وصية.
فالوصية تكون لغير الورثة، بأن تتخير من مصالح الخير فمثلاً: أنت لك زوجة وأولاد وأم وأب، ولك إخوة، الإخوة ليس لهم شيء في الميراث، فأشفقت على أخيك وقلتَ: أريد أن أعطيه شيئاً؛ لأن التركة عندما تقسم فإنه ليس له منها شيء، وله أولاد مساكين، فيجوز لك أن تتصرف وتوصي لإخوانك في حدود ما لا يتجاوز الثلث، وكذلك غيرهم من أقاربك الذين لا يرثون منك.(3/23)
حكم من أعطى ابن ابنته وأخته من التركة مع بنته
السؤال
رجل موجود على قيد الحياة، وكتب ممتلكاته لبنته الوحيدة النصف، والنصف الآخر لابن ابنته المتوفية وأخته بالتساوي، أهذا حرام؟
الجواب
نعم هذا حرام! كيف لا؟! فهو أعطى البنت النصف، والنصف الآخر لابن ابنته المتوفية وأخته بالتساوي، ابن ابنته المتوفية له أن يوصي له؛ لكن هنا شيء: أنه إذا أوصى له فإن الحكومة تجيء فتعطيه أيضاً إضافةً إلى الوصية؛ مع أن ابن ابنته المتوفية في الأصل ليس له في الميراث شيء، وهنا لو أوصى له فنحن نخشى من الحكومات؛ لأنها جعلت لابن البنت وصية واجبة، فتسلم له ثلث التركة، فيأخذ نصيبان، فيكون هذا فيه جور على سائر الورثة.
والله أعلم.
- ما حكم الوصية الواجبة؟ هي ليست واجبة في الشرع، أما في القضاء أو في المحاكم فسل الشيخ صالح عبد الجواد حفظه الله، فإنه يفهم في هذا الكلام جيداً.(3/24)
حكم حديث النهي عن صوم يوم السبت والجمعة
السؤال
كيف نفهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم السبت إلا من فريضة، على رأي مَن صححه، وعن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا يوماً قبله ويوماً بعده؟
الجواب
ابتداءً إذا سقط الحديث من ناحية الإسناد فلا داعي للتكلف في الجمع.
فابتداءً حكم الإمام مالك على حديث: (لا تصوموا السبت إلا فيما افتُرِض عليكم) أنه كذب، قال الإمام مالك: هذا حديث كذب، وقال أبو داوُد: هذا حديث ضعيف، وقال النسائي: هذا حديث مضطرب، وضعَّفه غيرُ هؤلاء عددٌ كبير من أهل العلم وأطبقوا على هذا.
والعلة التي لعلها خفيت على بعض العلماء: أن الحديث -على ما أذكر الآن إن لم يكن دخل عليَّ حديثٌ في حديثٍ- في إسناده يونس، ويونس معروفٌ أنه ثقة؛ لكن يقول الإمام أحمد في بعض مقالاته: اطلعت على كتاب يونس فلم أرَ هذا الحديث في أصل كتابه، فهذه المقولة من أحمد جعلتنا نوقِّر كلام الإمام مالك لما قال: هذا الحديث حديثٌ كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلعل بعض المحققين لم يلتفت إلى هذه النقطة التي نقلها الإمام أحمد حيث قال: لم أرَ هذا الحديث في أصل كتاب يونس، ومن ثم قال مالك: إنه كذب.
فضلاً عن هذا فهناك الأحاديث المعارضة له التي في الصحيحين وغيرهما، ففي صحيح مسلم: (لا تصوموا الجمعة إلا يوماً قبله أو يوماً بعده) فقد يكون سبتاً.
وحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين: (صم يوماً وأفطر يوماً فذاك أحب الصيام إلى الله) ولم يأمره باستثناء سبت ولا أحد ولا جمعة ولا غير ذلك.
فرأينا أن الحديث ضعيف، والحمد لله النفس مطمئنة إلى ذلك تماماً.
أما إذا أردنا أن نلتمس التماساً لمن قال بحسن الحديث من المتأخرين، فيقال: إن المنهي عنه -والله أعلم- تخصيص السبت بالصيام؛ لأنك إذا خصصت السبت بالصيام كدت أن تشارك اليهود، لما قال الله لهم: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154] .
والله سبحانه أعلم.(3/25)
تفسير سورة النساء [15-21]
اشتملت هذه الآيات من سورة النساء على العديد من المسائل والأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها، منها: الجمع بين عقوبتي الجلد والرجم على الثيب وأقوال العلماء فيه، وعضل النساء والحالات التي جوز فيها للزوج العضل، وحكم خدمة المرأة لزوجها، وغير ذلك مما سيجده القارئ في صفحات هذه المادة.(4/1)
خلاف العلماء في الجمع بين الجلد والرجم للثيب الزاني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإذا زنت امرأة ثيب -أي: سبق لها زواج- وأتت بفاحشة، فالحديث يفيد أن عليها جلد مائة والرجم، لكن هل تجمع عليها العقوبتان، الجلد والرجم أو أن الرجم وحده يكفي؟ ذهب جمهور العلماء: إلى أن الرجم وحده كافٍ، وليس عليها شيء إلا الرجم، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، فلم يأمر النبي بشيء مع الرجم.
بينما ذهب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إلى أنها ترجم وتجلد، قال: جلدتها بكتاب الله، -أي: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]- ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عقوبة المرأة إذا زنت في أول الأمر أن تحبس في البيت حتى تموت، فتبقى محبوسة لا تخرج من البيت حتى تموت، وهو المعني بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] ، والسبيل هو الذي سمعتموه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/2)
نوع النسخ في قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت.)
هذه الآية هل فيها نسخ الأخف بالأثقل أم الأثقل بالأخف إن قلنا بأنها منسوخة؟ كان أول الأمر الحبس المطلق إلى أن تموت، ثم جاء الأمر بالرجم في حال كون الزانية ثيباً، أو بالجلد والتغريب للبكر، والمرأة لا تغرب، فالتغريب لا يكون في شأن النساء، فإن المرأة إذا زنت وغربت اضطررنا إلى أن نخرج معها رجلاً من محارمها يغرب معها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم) ، وما هو الذنب الذي اقترفه محرمها حتى نغربه هو الآخر؟! ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب امرأة، إنما التغريب في حق الرجال.
فالشاهد: أن المرأة إذا زنت وكانت ثيباً فعليها الرجم، وإذا كانت بكراً فعليها جلد مائة، وأول الأمر كان الحبس حتى الوفاة، فهل هو نسخ للأخف بالأثقل أم للأثقل بالأخف؟ قد يرى البعض: أنه نسخ للأخف بالأثقل وذلك في حالة الرجم، فالحبس في البيوت أقل من الرجم.
لكن قد يقول آخر: إن جلد المائة أخف من الحبس في البيوت طول الحياة، فلكل وجه.
لكن على كل حال: نسخ الأخف بالأثقل وارد في كتاب الله، ونسخ الأثقل بالأخف وارد كذلك في كتاب الله، أما نسخ الأخف بالأثقل فمثاله قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] ، ففي بداية الأمر كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم يفطره مسكيناً، على رأي الجمهور احترازاً من رأي عبد الله بن عباس، فجاء الأمر بالإلزام بالصيام في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فالإلزام بالصيام أثقل من التخيير بين الصيام والإطعام.
أما مثال نسخ الأثقل بالأخف فهو قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] فنسخت على رأي أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وكذلك مصابرة المؤمن لعشرة من الكفار نسخت بمصابرته لاثنين فقط لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] .
فالآية تشعر بالتدرج في الأحكام، مثل التدرج في أحكام الخمر، وتقدّم أنه كان على أربع مراحل: الإباحة المطلقة، بل والمن بالإباحة: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] ، ثم {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، ثم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، ثم الاجتناب الكلي: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] .
وكذلك في الجهاد: الأمر بكف اليد ابتداءً: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] ، ثم الإذن: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج:39] ، ثم الأمر بالقتال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] .(4/3)
الشهود في جريمة الزنا
وقال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} [النساء:15] استشهدوا أي: اطلبوا أربعة شهود، ((مِنْكُمْ)) [النساء:15] أي: من الرجال، وهنا تختلف الشهادات، وشهادات الأموال لها حكم، وشهادات الحدود لها حكم، وشهادات الرضاع لها حكم، فلا يكفي في شهادات الحدود إلا أربعة شهود من الرجال، شهادات الأموال: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين، ففي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين) ، وشهادات الرضاع يكفي فيها المرضعة إذا كانت ثقة، قال الله سبحانه: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] .
ونوع الأذى الوارد في قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] أي: من رجالكم في جريمة اللواط أو جريمة الزنا، {فَآذُوهُمَا} [النساء:16] ما هو نوع الأذى الذي يؤذيان به؟ قال المفسرون: هو التعيير والتوبيخ والتأنيب والشتم، فإن قال قائل: هل يجوز في الشرع الشتم؟ فالإجابة أن في مثل هذه المواطن التي أذن فيها الله سبحانه وتعالى يجوز فيها ذلك، والنبي قال: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار) قال الله سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:49-50] ، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] ، وقال أبو بكر لـ عروة بن مسعود الثقفي: (اذهب فامصص بظر اللات) فإن احتيج إلى شيء من ذلك فعل في الموطن الذي أذن فيه الشارع، والله أعلم.
فالإيذاء يتمثل في التعيير والتوبيخ والتأنيب والشتم، وهذا الأذى هو دون الحد.(4/4)
التوبة قبل الغرغرة
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16] يعني: إن تاب الرجل وأصلح فليس لك أن تعنفه بكلام قبيح بعد ذلك.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16] يعني: باب التوبة مفتوح وباب الرحمة مفتوح، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16] .
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] من قريب أي: قبل الموت، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) ، وقال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) فكلمة من قريب: قال كثير من المفسرين: أي: من قبل الموت (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) أي: إنما قبول التوبة على الله.
والذين يتوبون هل يجب على الله أن يقبل التوبة منهم لقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) ؟ لا يجب على الله شيء، إنما قال سبحانه: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] ، فإذا تبت وأراد الله لك العذاب عذبت، وإذا لم تتب وأراد الله لك الرحمة رحمك، إنما توبتنا من باب الأخذ بالأسباب المقربة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وفرعون تاب عند معاينته للموت {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ، فأجيب بقوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] أليماً أي: مؤلماً موجعاً.(4/5)
عضل النساء
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ} [النساء:19] (لا يحل) أي: يحرم، وهذا أيضاً يعتبر نصاً صريحاً في التحريم، فأنتم تعلمون أن نصوص التحريم منها نصوص ظنية الدلالة في التحريم، ونصوص قطعية الدلالة في التحريم، أحل الله كذا: نص صريح الدلالة في التحليل، حرم الله كذا: نص صريح الدلالة في التحريم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ)) [النساء:19] المعنى: يا أيها الذين آمنوا يحرم عليكم {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] لا يحل لك أن ترث المرأة سواءً بإكراه أو بغير إكراه كذلك، إنما قوله: (كرهاً) خرجت مخرج الغالب؛ لأن هذا هو الذي كان متبعاً قبل عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وتوضيح الآية: أن الرجل كان إذا مات أبوه عمد إلى امرأة أبيه، ووضع عليها ثوباً، فهو وإخوانه يتسابقون إليها، وأيهم وضع عليها ثوباً أولاً يكون قد ورثها، يفعل فيها ما يشاء: إن شاء أن يزوجها لشخص آخر زوجها، وإن شاء أن يتزوجها هو تزوجها، وإن شاء عضلها وأبقاها، وكان هو أحق بها من أوليائها، وفي ذلك يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] فكانت المرأة في الجاهلية مهانة غاية الإهانة، فإذا مات زوجها يعمد الأولياء متسابقين إليها بوضع ثوب عليها فمن كان أسبق فهو يتصرف بها كيفما شاء.
{لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنّ} [النساء:19] أي: لا يحل لكم أيضاً أن تعضلوهن، وأصل العضل: المنع، والمراد بقوله: (ولا تعضلوهن) المنع من تزويجهن، امرأة تريد أن تتزوج وأنت تمنعها، {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أنت متزوج امرأة وكرهتها تبقى معلقة لا أنك طلقتها ولا أنك قمت بواجب الزوجية نحوها، تتركها معلقة وأنت معضل لها، تحتال هذه الحيلة لكي تتنازل لك عن شيء من الصداق، فإخواننا الذين يكرهون نساءهم ولا يطلقوهن كي تتنازل له المرأة عن صداقها آثمون مرتكبون لمحرم لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لتأخذوا بعض الصداق الذي أعطيتموه لهن إلا في حالة واحدة.(4/6)
الحالات التي يجوز فيها للزوج العضل
{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] يعني: يجوز لك أن تعضل زوجتك إذا أتت بفاحشة مبينة.
مثلاً: رجل تزوج امرأة، وكلفه الزواج عشرة آلاف جنيه، وبعد أن كلفه الزواج عشرة آلاف جنيه إذا بزوجته على صلة برجل آخر -عياذاً بالله- فماذا يصنع؟ إن قال: أطلق، هي تريد أن تتطلق، فقد أخذت المهر، وتريد أن تتزوج شخصاً آخر وتفعل معه نفس الفعل الذي فعلته مع الأول، وتأخذ الصداق من الآخر أيضاً، فحينئذ يجوز للزوج أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] ، ويلحق بالفاحشة المبينة متبوعاتها، مثل: رجل تكلف وتزوج امرأة وأنفق، وبعد أن أنفق جاءت فقالت له: أريد أن أخرج متبرجة، وأخرج لابسة للملابس الضيقة أنا حرة! ينصح فلا ينفع النصح، يشق عليه جداً أن يرى زوجته متبرجة تلبس فوق الركبة، حينئذ يجوز له أن يعضلها لكي ترد إليه المهر وترجع إلى بيت أهلها، هذه الحالات التي يجوز للزوج إعضال الزوجة، أما ما سوى ذلك فرب العزة سبحانه وتعالى ما أجاز ذلك، اللهم إلا في حالة الخلع وليس في الخلع إعضال؛ لأن المرأة في الخلع هي نفسها التي تطلب الطلاق.
{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: من الصداق، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] .(4/7)
معاشرة النساء بالمعروف
وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] هذه الآية أصل في الإحسان إلى النساء في المعاشرة، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أمر من الله سبحانه للأزواج أن يعاشروا النساء بالمعروف، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي مات بعدها بنحو ثلاثة وستين يوماً، قال في الخطبة الفاذة الجامعة في عرفات: (ألا واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) الحديث، وفيه أن الرسول أوصى بمعاشرة النساء بالمعروف، ورب العزة يوصي بمعاشرة النساء بالمعروف، والنبي يوصي بذلك، فقد قال الله سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ، وقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يجرنا إلى شيء من أحكام معاشرة النساء، وبالنسبة لمعاشرة النساء أُلفت فيها كتب ككتاب عشرة النساء للنسائي رحمه الله، استخلص من كتاب السنن الكبرى في مصنف، وكثير من أهل العلم يوردون أبواب عشرة النساء في ثنايا مصنفاتهم.(4/8)
خدمة المرأة لزوجها
خدمة المرأة لزوجها هل هي على الإيجاب أم على الاستحباب؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن خدمة المرأة لزوجها على الاستحباب، وليست على الإيجاب، وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن خدمة المرأة لزوجها واجبة عليها، وفريق ثالث قال: إن مرد هذا الأمر إلى الأعراف السائدة في البلاد وإلى أحوال النساء، فإن كانت من بيت غنى يُخدم مثلها فتخدم وإلا فلا، فهي ثلاثة أقوال لأهل العلم.
وما هي الأدلة من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؟ استدل بعض القائلين بالإيجاب بقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] قالوا: معنى قانتات أي: مطيعات -هذا قولهم- أي: إذا أمرها الزوج بأمر أطاعته، فإذا أمرها بالخدمة خدمته.
وقال فريق آخر من أهل العلم الذين وجهوا الوجوب: قوله تعالى: (قانتات) أي: مطيعيات، مطيعات لمن؟ ليس في الآية تقييد، وإن قلنا: مطيعات للأزواج، فمطيعات للأزواج في الذي أمرهن الله به من الطاعة، فإذا قال لها الزوج مثلاً: أعطيني مالك! فليس لها أن تطيعه فإن المال مالها، أي: إذا قال لها الزوج: أنت معك ألف جنيه أعطيني الألف جنيه، فلا يقول أحد أنه يجب عليها أن تعطيه الألف جنيه؛ لأن الله قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، فإن لم تطب نفسها فليس لها أن تعطيه، قالوا: فلما لم يكن له أن يجبرها على إعطاء المال كذلك ليس له أن يجبرها على إعطاء الخدمة، إنما الذي له: (إذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ... ) الحديث.
استدل آخرون بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] لكن قيل: ما هي هذه الدرجة؟ أجيب أن الدرجة منها القوامة في البيت فإذا أمرها أطاعته، فإذا دعاها للفراش وجب عليها أن تطيعه، فإذا دعته هي للفراش لا يجب عليه أن يطيعها.
دليل آخر لو صح لكان الفيصل في الباب وهو ما ورد من طريق عاصم بن ضمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي بالخدمة الظاهرة، وعلى فاطمة بالخدمة الباطنة، يعني: على علي الخدمة التي خارج البيت، وعلى فاطمة الخدمة التي داخل البيت، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، لكن علة هذا الحديث: أنه مرسل من طريق عاصم بن ضمرة، ولا يثبت له سماع من رسول الله، بل هو تابعي متأخر فضعف الحديث، ثم إن المشهور في قصة علي أن فاطمة أتت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تسأله خادماً فقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ إذا أتيت مضجعك تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين، فإنه خير لك من خادم) هذا أصل الحديث، فلعل شخص رواه بالمعنى بلفظ: (قضى بالخدمة الباطنة وبالخدمة الظاهرة) ، لكن ليس هذا تعليلنا، إنما التعليل لأنه مرسل من طريق عاصم بن ضمرة، أما هذا الحديث (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم) ، ففي الصحيحين، وليس فيه إيجاب، وإنما غاية ما فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار لأهل بيته الأفضل.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من طريق حكيم بن معاوية عن أبيه، ورواه عن حكيم ابنه بهز وأبو قزعة أنه جاء إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله! ما حق أحدنا على زوجته؟ وما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أما حق أحدكم على زوجته فعليها أن تطيعه إذا أمرها، وإذا دعاها إلى الفراش أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته) الحديث، وليس فيه أنه أوجب عليها الخدمة، وقال: (ألا تمنعه نفسها وإن كانت على قتب وألا توطئ أحداً فرشه إلا بإذنه) ، وهناك نصوص قد أضافت حقوقاً أخرى للزوج مثل: لا تصم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تخرج إلى المسجد إلا بإذنه، فكل ما أتى من الأدلة ليس فيها دليل صريح يوجب عليهن هذه الخدمة.
وبعض أهل العلم استدل بحديث: (انظري إنما هو جنتك أو نارك) ، وليس في الحديث دليل على أنه يجب عليها الخدمة، فجنتك أو نارك تعني: أنك إذا أعطيته حقوقه التي شرعها الله تدخلين الجنة، وإذا لم تعطيه الحقوق التي أمرك الله بها دخلت النار، وليس معناه أنه يسلبها شيئاً ليس من حقه، (فجنتك أو نارك) : تعني: أنك إذا اتقيت الله فيه دخلت الجنة، وإذا لم تتقي الله فيه لم تدخل الجنة، إذا سرقت من أمواله -مثلاً- دخلت النار، وإذا أطعتيه وحفظت ماله ونفسك دخلت الجنة، فالحاصل أن المسألة فيها جملة أدلة وكلها بين راد ومردود، وقد فصلت القول فيها في رسالة موسعة فيما يقارب التسعين صفحة في هذا الباب.
فالشاهد: هذا بالنسبة لما يتعلق بخدمة المرأة لزوجها، بعد ذلك: كيف كان رسول الله في بيته؟ سئلت عائشة: (كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله) عليه الصلاة والسلام.
ومن باب المعاشرة بالمعروف التلطف مع النساء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) ، ولا يخفى عليكم أن النبي كان يسابق عائشة، فكان يأمر الجيش بالتقدم ثم يسابقها، ثبت هذا مرتين مرة سبقها ومرة سبقته، وكان يخدم أهله عليه الصلاة والسلام في البيت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) .
قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ويدخل في المعاشرة بالمعروف تزينك لزوجتك كما تحب أن تتزين لك زوجتك، وبهذا قال محمد بن الحنفية، وروي عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم أجمعين.
قد تكرهها لكنها ميمونة في بيتها غير مشئومة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاث: في الفرس والمرأة والدار) ، فقد تجد امرأة جميلة أو وضيئة وحسناء، لكن كلما دخلت عليها البيت وأنت قادم من العمل أحدثت لك مشكلة مع الجيران، أو أعطيتها الراتب كي تنفق منه على البيت فتنفق الراتب في يوم أو يومين في ثياب أو في نعل أو في حقيقبة! فضيعت عليك المال كله، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) ، لا تتوقع أبداً أنك ستجد في المرأة كل ما تريد، قد تكون المرأة جميلة ووضيئة وحسناء؛ لكنها بذيئة اللسان لسانها طويل، قد تكون المرأة هادئة وجميلة وحسناء لكنها لا تحسن الطهي ولا الخبز، فـ أسماء بنت أبي بكر كانت تعلف للزبير فرسه وتطيعه لكن قالت: (لم أكن أحسن الخبز) ، قد تكون المرأة دميمة لكنها تقوم الليل وتصلي وتراقب ربها سبحانه وتعالى فيك، فكما قال الرسول: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يعني: في المائة جمل واحد قوي تلقاه صابراً على الجوع، سريعاً في المشي، لا يؤذي، في الإبل المائة واحد، فمن باب أولى أن يكون ذلك في النساء.(4/9)
مقدار مهر المرأة وحكم أخذه بعد الإفضاء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) ، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:19-20] في الآية أن الأفصح أن يقال: زوج، ولا يقال: زوجة بالتاء المربوطة، وإن كان لفظ زوجة بالتاء المربوطة له شاهد، قال عمار بن ياسر كما في صحيح البخاري في شأن عائشة: (إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتتبعونه أم تتبعونها) ، فزوجة بالتاء المربوطة جائز لكن الأفصح زوج.
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:20] تطليق امرأة وتزوج امرأة أخرى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] أي: أعطيتم التي تريدون أن تطلقوها قنطاراً من الفضة أو من الذهب كصداق {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ، اللهم إلا في حالة واحدة هي حالة الخلع قال الله سبحانه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] .
(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) يدل على جواز الإكثار من المهر، وفي الحقيقة أنه لا حد لأكثر المهر ولا لأقله، إنما مرد ذلك إلى الأعراف السائدة، إنما التخفيف في المهور على وجه الإجمال مستحب؛ لأن النبي حث على ذلك وإن كان حديث: (أقلهن مهوراً أكثرهن بركة) عندي ضعيف لجملة أسباب مبسوطة في محلها، لكن وجه استحباب تقليل المهور يؤخذ من أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم- سأل بعض أصحابه: (كم سقت إليها؟ قال: وزن كذا وكذا من ذهب، قال: إنما تنحتون من عرض هذا الجبل!) أو كما عليه الصلاة والسلام، لكن التحرير: أنه لا حد لأقل المهر ولا لأكثر المهر، بل يلزم في بعض الحالات أن تبلغ بالمرأة أعلى سنتها في الصداق، مهور النساء خمسة آلاف جنيه، ومنهن من تأخذ مهر سبعة آلاف، ومنهن من تأخذ مهر ثلاثة آلاف، فهناك حالات يلزمني أن أدفع سبعة آلاف، فإذا كانت المزوجة يتيمة لابد أن تبلغ باليتيمة أعلى سنتها في الصداق كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ} [النساء:20] أي: أعطيتم {إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] أي: كصداق {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} [النساء:20] بهتاناً أي: بغير حق، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) يعني: تكلمت فيه بغير حق وظلمته بغير حق، فالبهتان هنا: الظلم وأكل المال بغير حق، فإخواننا الذين يضيقون على النساء كي يرددون إليهم جزءاً من المهور يأكلون المهور بهتاناً {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] .
وحادثة عمر في هذا الباب مختصرة لها طرق تصح بمجموعها: أنه خرج لينصح الناس بعدم المغالاة في المهور قال: (فعرض لي قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] فأمسكت) أخرجه عبد الرزاق بإسناد مرسل قوي، ويشهد لأصل القصة قصة المرأة التي راجعته.
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} [النساء:20] أي: ظلماً بغير حق، {وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] .
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} [النساء:21] بأي حق تأخذونه؟! {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] أي: الجماع؛ لأنك إذا جامعتها فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لها الصداق بما استحللت من فرجها) يعني: الصداق أصلاً مقابل الاستمتاع بالفرج، فإذا جامعتها استحقت بالجماع الصداق، فبأي وجه تأتي تسلبها هذا الصداق؟ بأي وجه حق تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض؟ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وجزاكم الله خيراً.(4/10)
الأسئلة(4/11)
خروج المرأة للنزهة مع زوجها من غير اختلاط بالرجال
السؤال
ما حكم خروج المرأة مع زوجها للنزهة إذا كان من غير اختلاط بالرجال بحجة أن القلوب تمل؟ وهل هذا ينافي القرار في البيت، مع العلم أنها إذا خرجت إلى حديقة تتذكر عظمة الخالق؟
الجواب
بل له في ذلك سنة وهو مسابقة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة.(4/12)
المصادر المعتمدة في تفسير سورة النساء
السؤال
نريد معرفة الكتاب الذي تشرح منه تفسير سورة النساء؟
الجواب
تفسير القرطبي وابن كثير رحمهما الله.(4/13)
مدى ثبوت الأثر الوارد عن أحد الصحابة في عدم أكل لحم الغراب
السؤال
هل ثبت أنه سئل أحد الصحابة عن عدم أكله للغراب فقال: (ليس لي أن آكله وقد سماه الرسول فاسقاً) ؟
الجواب
لا أعلم.(4/14)
الأذكار الصحيحة التي تقال عقب الصلاة
السؤال
ما هي الأحاديث الصحيحة التي تقال في ختام الصلاة؟
الجواب
راجع كتاب الأذكار.(4/15)
معنى حديث: (أميطوا عنه الأذى)
السؤال
قلت سابقاً: إن حلق رأس المولود ضعيف، فما معنى (أميطوا عنه الأذى) في الحديث الذي رواه البخاري؟
الجواب
كلامي في حلق رأس المولود كان مقيداً، حلق رأس المولود والتصدق بوزنه ذهباً ضعيف يقيناً عندهم، لكن ما معنى (أميطوا عنه الأذى) ؟ إماطة الأذى له أنواع عدة، من إماطة الأذى قص الأظافر، من إماطة الأذى حلق الشعر، من إماطة الأذى تغسيله وتنظيفه، لإماطة الأذى عدة أنواع، لكن حلق الرأس والتصدق بوزنه ذهباً لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/16)
الحصول على وظيفة مقابل دفع مبلغ من المال
السؤال
رجل يريد أن يتوظف في إحدى الشركات، فطلب منه مدير الشركة -وهي حكومية- مبلغ ألفين جنيه على أن يوظفه مؤقتاً من بين مائة وخمسين متقدماً للوظيفة، وقال له: لا يشترك في امتحان الوظيفة، هل يجوز هذا مع العلم أن حال الرجل صعب، ومدير الشركة لن يوظف أي أحد إلا بهذه الطريقة؟ وإذا طلب منه شهادة خبرة، فهل يجوز له عمل شهادة خبرة مزورة؟
الجواب
كل هذا لا يجوز حرام؛ لأنك تؤكل غيرك الآن، وهذه الرشوة بعينها؛ لأنها تأخذ حقوق الآخرين، المفروض أن يتقدم للعمل عدة أشخاص فيختار منهم الأكفأ؛ لأنه من باب الظلم أن تأخذ شخصاً غير كفء وتعينه في مكان يحتاج إلى كفاءة، مثلاً: مستشفى طلب طبيباً، أو السعودية طلبت طبيباً أو أي مكان طلب طبيباً، أو مستشفى الجامعة طلب طبيباً، تقدم لها عشرة أطباء، مسئوليتي أنا أن آخذ أكفأ طبيب لعلاج المسلمين، لا آخذ طبيباً رديئاً يهلك المسلمين، كذلك لا آخذ شخصاً جاهلاً بالحسابات يخرب الشركات، فهذه رشوة حرام ولا يجوز أن تأتي بشهادة خبرة مزورة، ولا يجوز أن تدفع للرجل رشوة، حرام، قولاً واحداً.(4/17)
تحريك السبابة عند الجلوس بين السجدتين
السؤال
هل من السنة تحريك السبابة عند الجلوس بين السجدتين؟
الجواب
الحديث ضعيف شاذ.(4/18)
المواطن التي ترفع فيها اليدان عند التكبير
السؤال
هل من السنة رفع اليدين عند كل تكبيرة سواءً في القيام والسجود وبين السجدتين؟
الجواب
الرفع بين السجدتين رواية شاذة، وإنما هي أربعة مواطن فقط التي ترفع فيها اليدان: عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي للركوع، والقيام منه، وعند القيام من التشهد الأوسط، والروايات الأخرى شاذة.(4/19)
قيام من رزق مولوداً بالدعوة إلى طعام
السؤال
رزقني الله مولوداً ذكراً، ولكني لا أستطيع مادياً أن أعمل له عقيقة الآن، ولكني أريد أن أحضر بعض اللحم فأدعو إليه الإخوة، فهل هذا يجزئ؟
الجواب
أولاً: العقيقة ليست واجبة، إنما هي مستحبة.
ثانياً: الدعوة إلى الطعام بمناسبة المولود لم نقف فيها على سنة عن رسول الله، فهي من الأمور المباحة تدعو أو لا تدعو كما تشاء.(4/20)
الأثر المترتب على معرفة حكم خدمة المرأة لزوجها
السؤال
طلب فاطمة رضي الله عنها للخادم يدل بمفهومه على أن فاطمة هي التي كانت تخدم البيت بدليل طلبها للخادم؟
الجواب
وهل نحن قلنا: فاطمة لم تكن تخدم؟! فاطمة كانت تخدم في البيت ولا خلاف في ذلك، لكن هل خدمتها للبيت كانت واجبة عليها أو مستحبة لها؟ ما نازعنا أنها كانت تخدم، بل تشققت يداها من الرحى ولا نزاع في ذلك، لكن هل هذا على سبيل الفضل منها أو على سبيل أن ذلك واجب عليها؟ وليس معنى أنها مستحبة، أننا نقول للنساء: لا تطبخن ولا تخبزن، فإن هذا فهم سقيم، ما معنى مستحب؟ يعني: يستحب لها ويفضل لها أن تخدم في بيت زوجها وتثاب على ذلك، لكن حينما نقول: إنه واجب، أي: عليها أن تخدم في البيت، وذلك حتى يعرف الزوج حقه، وحتى تعرف الزوجة حقها، وحينما نقول: إنه مستحب حتى يعرف الزوج أن الطعام الذي تطبخه المرأة في البيت هي تتفضل بعمل ذلك، فيشكر لها معروفها ويتأدب معها، لكن إذا عرف أنه واجب عليها فإذا قصرت في أي شيء، يضرب بالعصا! فهناك فرق بين الوجوب والاستحباب.
مداخلة: إذاً: يا شيخ! اخترت رأي الجمهور؟ طبعاً، رأي الجمهور نقله عنهم النووي، والحافظ ابن حجر، والبيهقي في السنن، وعدة علماء.(4/21)
كيفية تعامل الزوج مع زوجة بها صفة الكبر
السؤال
رجل تزوج فتاة منذ عامين، رزقه الله منها ولداً، وخلال هذين العامين كانت تعامله بغلظة لأن بها صفة التكبر، وهو متحامل على زوجته تحاملاً شديداً ويسأل: أطلقها أم لا؟
الجواب
لا أستطيع أن أقول لك: طلقها أو لا، بناءً على سماع كلامك الآن، لابد من أناس منصفين يتدخلون بالإصلاح، وينصحونك بناءً على ما يرونه.(4/22)
تفسير سورة النساء [22-23]
عدد الله في كتابه الكثير من المحرمات، ومن تلك المحرمات: نساء يحرم على الرجل نكاحهن، وهن سبع من النسب وسبع من الرضاع وأربع من المصاهرة، كل ذلك حفاظاً للأنساب وصيانة للأعراض، ومخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية من الاستهانة بذلك، وقد اعتنى أهل العلم ببيان ذلك خاصة بالمحرمات من الرضاع؛ لكثرة خلط الناس فيها، واشتباه الأمور فيها على كثير من الناس.(5/1)
حكم نكاح زوجة الأب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم في بيان المحرمات من النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] .
المراد بالنكاح في قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاء} عقد التزويج، فإذا عقد الأب على امرأة حرمت هذه المرأة على جميع أولاده بالإجماع، سواء دخل بها الأب أو لم يدخل بها.
{وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي: لا تتزوجوا من تزوجهن آباؤكم، سواء دخل الآباء بهن أو لم يدخلوا.
إن ذلك {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} .
فإن قال قائل: لماذا صُدِّرت المحرمات بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ولم تصُدَّر بتحريم الأمهات، مع أن نكاح الأمهات أخطر وأشد جرماً من نكاح امرأة الأب، فرجل تزوج امرأة أبيه أقل جرماً من رجل تزوج بأمه، فلماذا صُدِّرت الآية بتحريم امرأة الأب؟ قال فريق من أهل العلم: صدرت الآية بتحريم نكاح امرأة الأب؛ لأن المشركين كانوا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فجاءت الآية علاجاً لوضع تفشّى في الناس، ولذلك قدمت امرأة الأب على الأم، ولم نجد أحداً من المشركين تزوج أمه إلا طائفة من الهنود وأهل الزيغ من البهرة الذين يثنون على إمامهم، فيقولون: أحل البنات مع الأمهات ومن فضله زاد حل الصبي فالذين يحلون نكاح الأمهات طائفة من الهنود وطائفة من المجوس، أما المشركون فكانوا يحرمون الأمهات، لكن لا يحرمون امرأة الأب، ولا يحرمون الجمع بين الأختين، فصدرت المحرمات بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، قال بعض أهل العلم: (إلا) هنا بمعنى لكن، أي: لكن ما قد سلف منكم في جاهليتكم فقد عفونا لكم عنه إذا فارقتموهن.
(إنه) أي: إن نكاح امرأة الأب {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، فقد تزوج عمرو بن أمية الضمري امرأة أبيه، وكان له أخ من أبيه يقال له: أبو العيش، فمات أبوه فتزوج عمرو بن أميه الضمري امرأة أبيه التي هي أم أبي العيش، فولدت له مسافراً، فكان مسافر أخاً لـ أبي العيش من الأم، وأبو العيش عمه إذ هو أخو أبوه، فكان هذا يسبب مقتاً -عياذاً بالله منه- وقد قال البراء بن عازب: (رأيت خالي الحارث ومعه لواء قد عقد، فقلت له: إلى أين تذهب؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان عرَّس بامرأة أبيه كي أضرب عنقه) .
هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، والله أعلم.(5/2)
حكم المرأة التي زنى بها الأب
تأتي تفريعات على ما سبق، منها: إذا زنى الأب بامرأة هل يجوز لولده أن يتزوجها؟ هذا مبني على تفسير النكاح في قوله تعالى: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، هل المراد بالنكاح الوطء، أم المراد به عقد التزويج؟ قال كثير من أهل العلم: إن المراد به عقد التزويج.
ولكن منع كثير منهم زواج الرجل من المرأة التي زنى بها أبوه تَكْرُمة للأب.
وقال الآخرون: إن الحرام لا يحرم حلالاً، ولم يرد نص صريح يحرم التي زنى بها الأب، وكيف نكرّم أباً زانياً؟!! فلا كرامة له أصلاً.(5/3)
المحرمات من النساء
المحرمات في الشرع على ثلاثة أقسام: محرمات بالنسب، ومحرمات بالرضاع، ومحرمات بالمصاهرة.(5/4)
المحرمات من النساء بالرضاع
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] ، وكم رضعة أرضعتك حتى تحرم عليك؟ هنا بحوث نذكرها بسرعة: الأول: ما هي عدد الرضعات المحرمات؟ والثاني: ما هي صفة الرضاع المحرم؟ والثالث: ما هو وقت الرضاع المحرم؟ والرابع: يتعلق بمسألةٍ يسميها العلماء: لبن الفحل.
أما عدد الرضعات المحرمات، فقد تقدم الكلام عليها بما حاصله: أن الجمهور على أنها رضعة واحدة، لقوله تعالى: ((وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)) [النساء:23] ولم يذكر عدداً: وفريق من أهل العلم يقول: إن الذي يحرم هو ثلاث رضعات مشبعات لقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) ، قالوا: إذاً الذي يحرم ثلاث، والقول الثالث: أن الذي يحرم خمس رضعات لما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن فنسخَ بخمس رضعات معلومات يحرمن، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن) .
والذي يظهر من هذه الأقوال أن أصحها -والله أعلم- قول من قال: إن الخمس رضعات هي التي تحرم، فهي خمس رضعات على ما اختاره فريقٌ من أهل العلم.
ووقت هذه الرضعات في الصغر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الرضاع ما فتق الأمعاء وأنبت اللحم ... ) ، وقال عليه الصلاة والسلام (إنما الرضاعة من المجاعة) ، أي: الرضاعة المعتبرة هي التي تسد الجوع، ولا يكن هناك طعامٌ غيرها، وليس هناك بديل عنها.
وقد رأت أم المؤمنين عائشة أن رضاع الكبير يحرم، مستدلة بحديث سهلة: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن سالماً مولى أبي حذيفة كان مما حيث تعلم -تربى في بيت أبي حذيفة - وإنه شب وبلغ مبلغ الشباب، وإني أرى في وجه أبي حذيفة الكراهية من دخول سالم علينا، فقال: أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه، قالت: كيف أرضعه وهو ذو لحية يا رسول الله؟! قال: قد علمت، أرضعيه -يا سهلة - تحرمي عليه؛ فأرضعته فأذهب الله ما في وجه أبي حذيفة من الكراهية) .
فكانت أم المؤمنين عائشة تستدل بهذا الحديث على أن رضاع الكبير يحرم، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها شخصٌ أمرت إحدى قريباتها أن ترضعه فيكون محرماً لـ عائشة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، كما في سنن النسائي بسند صحيح قلن: (والله لا يدخل علينا أحدٌ أبداً بتلك الرضعة، إنما هذا شيءٌ خاصٌ بـ سالم) .
فالجمهور منعوا من إرضاع الكبير، وقالوا: مطلقاً، إن رضاع الكبير لا اعتبار له على الإطلاق، وأم المؤمنين عائشة رأت جوازه على الإطلاق، وتوسط قومٌ فقالوا: له اعتبار عند الضرورات، والجمهور استدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ، قالوا: فتمام الرضاعة عند الحولين ولا اعتبار للرضاعة بما بعدها، والله أعلم.
أما صفة الرضاع المحرم: فالجمهور من العلماء على أن كل رضاع يحرم، سواء مص الصبي اللبن من ثدي المرأة، أو وضع له اللبن في كوب وشربه، أو صنع له مع طعام وخلط له مع طعامٍ وأكله، كل ذلك يحرم.
أما ابن حزم رحمه الله فتمسك بمعنى الرضاع اللغوي، فقال: لا يحرم إلا إذا مصه الطفل من الثدي، فعلى ذلك قال: لو وضع له لبن المرأة في كوب ثم شربه لا تحرم عليه المرأة، وهذا مبنيٌ على ظاهريته المشهورة، كالمسألة المشهورة عنه في البول في الماء الراكد، قال: إن النبي نهى عن البول في الماء الراكد، لكن إذا بلت في كوب وخلطت الكوب في الماء الراكد فلا حرج.
وهذه ظاهرية جلدة لا يوافق عليها أبو محمد ابن حزم بحالٍ من الأحوال، وأبشع منها ظاهريته المنقولة في مسألة استئذان البكر والثيب، يقول: إن البكر إذا طُلبت للنكاح واستأذنت فإن قالت: أنا موافقة، فالعقد باطل! وإن قالت: غير موافقة، فالعقد باطل! ماذا تقول إذاً؟! قال: تسكت؛ لأن الرسول قال: (تستأذن البكر، قيل: إنها تستحي يا رسول الله! قال: إذنها صماتها) ، فقال ابن حزم: إذا تكلمت سواء رفضاً أو إيجاباً فالعقد باطل، وهذه من الزلات الخطيرة، فلو أمعن النظر في الحديث لوجد أن فيه: أن البكر تستحي، فقال: (إذنها صمتها) ، أي: إذن التي تستحي صمتها، أما التي لا تستحي فتقول: أنا موافقة، وهذا من الشذوذ ومن الفقه البارد في هذه الجزئية، نسأل الله العافية والسلامة! لكن لا يمنع أن يكون لـ ابن حزم آراء مسددة في كثير من المسائل.
إذاً: يحصل الرضاع: سواء رضع اللبن في قدر، أو خلط بطعامٍ، أو شربه الطفل من الثدي، كل ذلك يحرم إذا انطبقت سائر الشروط.
أما مسألة لبن الفحل فقد تقدم شرحها، وصورة لبن الفحل نضرب لها مثالاً واحداً وليس على سبيل الحصر: رجلٌ له زوجتان، الزوجة الأولى أرضعت ولداً أجنبياً بعيداً عن الزوج وعن الزوجة الثانية، والزوجة الثانية أرضعت بنتاً أجنبية فهذا الولد الأجنبي لم يجتمع على الثدي مع الطفلة، إنما هو رضع من امرأة والطفلة رضعت من امرأة، لكن اللبن الذي در لهذه المرأة إنما جاء بسبب الفحل وهو الرجل، فيكون هذا الولد أخاً لتلك البنت من الأب في الرضاعة فيحرم عليها.
وهذه المسألة يسميها العلماء لبن الفحل، دليلها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيص جاء يستأذن عليها فلم تأذن له، وأبو القعيص هو زوج المرأة التي رضعت منها عائشة إذاً: أبو القعيص نفسه أبو عائشة من الرضاعة؛ لأنها رضعت من لبن زوجته، ويكون أفلح عم عائشة من الرضاعة، فجاء أفلح يستأذن على عائشة فرفضت أن تدخله البيت، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: (يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيص يستأذن أن يدخل عليَّ قال: ائذني له إنه عمك، قالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل يا رسول الله! قال: قد علمت؛ إنه عمك فليلج عليك) أي: ليدخل عليك.
تلخص من مسألة لبن الفحل: أن كل من اجتمع على ثدي المرأة فهم إخوة لبعضهم البعض من الرضاع، ولبن الفحل ينشر الحرمة والله أعلم، هذا بالنسبة لمسألة الرضاع وما يتعلق بها.
قال الله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] ، ذكر في الآية صنفان فقط من المحرمات بالرضاعة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، والمحرم من النسب سبع، والمحرم من الرضاع كذلك سبع، فأمك من الرضاعة حرام وكذلك أختك وعمتك وخالتك وبنات الأخ وبنات الأخت.(5/5)
المحرمات من النساء بالنسب
أما المحرمات بالنسب: فسبع، والمحرمات بالرضاع: سبع أيضاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، والمحرمات بالمصاهرة: أربع: امرأة الأب، وامرأة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، هؤلاء المحرمات بالمصاهرة، وامرأة الأب سواء دخل بها الأب أو لم يدخل، قال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] ، وهذا في بيان المحرمات بالنسب، فقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ، نص قطعي الدلالة بالتحريم، وقد تقدم أن النصوص التي تحرم على قسمين: نصوص ظنية الدلالة في التحريم، ونصوص قطعية الدلالة في التحريم.
فقوله تعالى: (حُرِّمَتْ) : نص قطعي الدلالة في التحريم، لكن إذا قال لك قائل: هل السجائر حرام أو ليست بحرام؟ فإن قلت: إنها حرام، فهو استنباط من النصوص؛ كحديث (لا ضرر ولا ضرار) ، وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] ، هذه النصوص ليست قطعية الدلالة في التحريم إنما هي ظنية الدلالة.
فنصوص التحريم على قسمين: إما قطعي الدلالة؛ كأحل الله كذا أو حرم الله كذا، أو ظني الدلالة كالذي سمعتموه، فقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، فهنا مقدر محذوف في الآية، لابد أن تقدر شيئاً، فالرضاع من أمهاتنا حلال، فلا يقول شخص: حرم عليكم الرضاع من أمهاتكم، ولا يقول شخص: حرمت عليكم السكنى مع أمهاتكم، لكن هنا مقدر اتفق عليه العلماء وهو: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، أو حرمت عليكم أمهاتكم أن تنكحوهن، والتقدير المحذوف يرد كثيراً في القرآن، بل وفي لغة العرب، وقد مُلئت لغة العرب بالتقديرات المحذوفة التي فهمت من السياق، كما في قول الشاعر: وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهارا أي: فسبح أهل المدينة، ومثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية.
قال الله سبحانه وتعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) والمراد بالأم هنا: الأم التي ولدت، وهي مبهمة لا تحل بأي حال من الأحوال، وليس هناك أي منطق تحل به الأم، وليست هناك أي وسيلة تستطيع بها أن تتزوج أمك، فسميت مبهمة لانسداد الطرق الموصلة إلى نكاحها، فلا تحل بأي حالٍ من الأحوال.
ويقصد الأم وإن علت، أم الأم، وأم الأب، وأم الجد، وهي أولى المحرمات بالنسب.
{وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] ، المراد بهن: البنات للأصلاب ليس المراد بنات التبني، فإذا تبنيت طفلة وألحقتها بك يحل لك أن تتزوجها، فالتبني لا يحرم إنما المحرم هنا البنت للصلب -يرحمك الله- وهي أيضاً مبهمة، أي: أن ابنتك لا تحل لك بأي حال من الأحوال.
ويلحق بالبنت هنا مسألةٌ نبهنا من قبل على أن قدم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى زلت فيها، وهي مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، يعني رجلٌ زنى بامرأة فولدت له بنتاً، هذه بنت الزنا هل يحل للزاني أن يتزوجها؟ الجمهور من العلماء قالوا: لا، بل يحرم عليه أن يتزوجها، والإمام الشافعي رحمه الله وعفا عنه يرى جواز ذلك، وقاس النكاح على الميراث، قال: كما أنها لا ترث شرعاً إذاً يجوز التزوج بها كما أنها لا ترث، إذاً: فهي أجنبية ويجوز التزوج بها، فتعقب بتعقباتٍ لاذعة، إلى أن قال الشاعر الذي يتستر ويخفي مذهبه: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه كتمانه لي أسلم إلى أن قال: فإن شافعياً قلت قالوا: بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم فهذا مراده بهذه الجزئية، (أبيح نكاح البنت) أي: المخلوقة من ماء الزاني، والبنت تحرم، ومن العلماء من قال: إن الشافعي قال: إنني أكره نكاحها ولم يقطع بالتحريم أو بالإباحة، ولكن هذا هو الثابت عند الشافعية، وقد حاول الحافظ ابن كثير -باعتباره شافعي المذهب- أن ينتصر بعض الانتصار أو يومئ بعض الإيماء إلى سلامة ما اختاره الشافعي في هذا، لكن المشهور عند الشافعية الإباحة، أما الجمهور فعلى المنع، وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للمنع بما حاصله: ليست كل من لا ترث يحل الزواج بها؛ فأمك من الرضاعة لا ترث ولا يحل لك أن تتزوج بها، وابنتك من الرضاعة لا ترث ولا يحل لك الزواج بها، وأطال النفس في تعقباته على هذا الرأي، والله أعلم.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] ، وهي الثانية من المحرمات، وهي مبهمة أيضاً من المحرمات بالنسب.
{وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] سواء الأخت الشقيقة أو الأخت لأم أو الأخت لأب محرمة، وهي مبهمة أيضاً، أي: لا تستطيع أن تصل إلى الزواج بها بأي حال من الأحوال.
{وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23] ، عمتك وإن علت أو عمة أبيك أو عمة جدك أو عمة أمك.
(وخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23] والخالة وإن علت كما سبق في العمة، وكذلك بنات الأخ سواء كان أخاً شقيقاً أو أخاً لأمك أو أخاً لأبيك وبنات الأخت كذلك.
فهؤلاء السبع: أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت من المحرمات بالنسب.(5/6)
المحرمات من النساء بالمصاهرة
قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ، يعني: إذا عقدت على امرأة حرمت عليك أمها عند الجمهور، سواء دخلت بالبنت أم لم تدخل، فأمها تحرم عليك تحريماً مؤبداً؛ لأن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، ولم يذكر دخلتم بهن أو لم تدخلوا بهن.
لكن إذا عقدت على امرأة ولها بنت فلا تحرم البنت إلا إذا دخلت بأمها، لا ينعكس، فإذا عقدت على بنت حرمت عليك أمها مباشرةً دخلت بها أو لم تدخل.
قال الله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، (وربائبكم) : الربيبة: بنت الزوجة.
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ، فبنت الزوجة التي دخل الشخص بأمها حرام على الشخص، وهنا في قوله تعالى: {رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، لفظ في حجوركم: هل له مفهوم أو أنه خرج مخرج الغالب؟ الجمهور يقولون: خرج مخرج الغالب، سواء كانت الربيبة في الحجر أو ليست في الحجر فهي حرام عليك إذا دخلت بأمها، لكن علي بن أبي طالب يرى غير ذلك، فقد جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين علي فوجده حزيناً قال: (إني تزوجت امرأة وماتت، فقال له علي رضي الله عنه: ألها ابنة؟ قال: نعم، قال: أين هي؟ قال: هي بالطائف -يعني: في بلد أخرى- قال: فتزوجها، قال: كيف أتزوجها وأمها كانت عندي؟ قال: إن الله يقول: {رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، فهي لم تكن في حجرك فلم تتربى عندك) فهذا رأي أمير المؤمنين علي، وهو رأي أبي محمد بن حزم، أما الجمهور فقالوا: إنها خرجت مخرج الغالب، فمن الغالب أن الربيبة تكون في الحجر، كما في قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] ، يعني لا تكره الفتاة -التي هي الأمة- على الزنا إن أرادت عفةً وتحصناً، فهب أن الفتاة التي عندك لم ترد تحصناً، هل يجوز لك أن تكرهها على البغاء؟ لا يجوز ذلك في أي حال من الأحوال، فـ (إن أردنَّ تحصناً) خرجت مخرج الغالب، فلو أن البنت قالت: لن أزني لأن الأجر قليل، لا لأنها تريد عفة، هل يجوز لك أن تجبرها؟ لا يجوز أبداً.
ومما خرج مخرج الغالب قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19] لوفرض أن امرأة مات زوجها لا يحل لك أن ترثها سواء بإذنها أو بغير إذنها، إنما المال لأوليائها.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فـ (أضعافاً مضاعفة) خرجت مخرج الغالب، فيمن يقرض الآخر مبلغاً وإذا حل وقت الدين قال: سدد، قال: ما عندي سداد، قال: أؤخرك عاماً والمائة بمائتين، فنزلت الآية: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ، لكن ليس معناها أنه يجوز لي أن آكل الربا نصف الضعف، ومثله قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] .
هل يجوز لي أن أقتل ولدي بغير خشية الإملاق؟ لا يجوز بحال.
فالجمهور قالوا: إن هذه الأشياء خرجت مخرج الغالب، ومنها قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، ولكل من القولين وجه، ورأي أمير المؤمنين أصح.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ، هذا في المحرمات بالمصاهرة: الربيبة، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، والتقييد بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} لإخراج أبناء التبني، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام متبنياً لـ زيد بن حارثة، فكان يقال له: زيد بن محمد، وكان في الجاهلية يحرم على الرجل أن يتزوج زوجة ابنه! فلما تزوج رسول الله زينب بنت جحش شنع المشركون على رسول الله تشنيعاً بليغاً، وقالوا: محمد تزوج زوجة ابنه، يعني زوجة زيد بن حارثة؛ لأنه كان يقال له: زيد بن محمد؛ فنزل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] ؛ لأنهم ليسوا أبناء حقيقيين، فهنا جاء الاحتراز بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23] .
فالمحرمات بالمصاهرة أربع: امرأة الأب، وامرأة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة.
أما أم الزوجة فتحرم بمجرد العقد على ابنتها، لكن البنت لا تحرم إلا بالدخول بأمها، وأن تكون في حجر وليها على رأي أمير المؤمنين علي، أما زوجة الابن فتحرم بمجرد عقد الولد عليها، عند عقد الولد على امرأة أو على بنت حرمت البنت على أبيه مطلقاً، سواء دخل الولد بالبنت أو لم يدخل؛ لأن الله ما قيدها بالدخول، بل قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ، وكذلك زوجة الأب، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجزاكم الله خيراً.(5/7)
الأسئلة(5/8)
موقف الشرع من المحاكمات العسكرية
السؤال
ما رأي الشرع في المحاكمات العسكرية؟
الجواب
المحاكم العسكرية الظاهر أنها لا تحكم بالكتاب ولا بالسنة، فما دامت لا تحكم بالكتاب ولا بالسنة فأي محكمة عسكرية أو وضعية أو أي محكمة لا تحكم بالكتاب والسنة فأحكامها شرعاً باطلة، وهي كما قال القائل: حكوا باطلاً وانتظوا صارماً فقالوا: صدقنا فقلنا: نعم أمسكوا بسيف ظالم، وتكلموا كلاماً غليظاً ثم قالوا: هل نحن صح أو غلط؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الله هو الذي يكشف الغم، واعلم تمام العلم أن الذي يسلط قوماً على قوم هو الله، فاطلب من ربك سبحانه وتعالى أن يفرج الهم، هو الذي يكف أذى قوم عن آخرين، فلو جئت بالأمثلة من الناحية العقلية، ما الذي يمنع أمريكا أن تحتل مصر؟ وما الذي يمنع إسرائيل أن تدخل علينا بالصواريخ والقنابل الذرية التي موجودة عندها الآن؟ هو الله، ليست قوتنا ولا شيء، فادع الله سبحانه وتعالى أن يزيل ما بك من هم وغم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.(5/9)
حكم الزواج بالأخت من الرضاعة
السؤال
هل يجوز للرجل أن يتزوج فتاةً مع رضاعه من أمها مع العلم أنه رضع مع أختها؟
الجواب
لا، لا يجوز، فإذا كان رضع وهو كبير يجوز، أما إذا كان رضع وهو صغير فلا يجوز، ولو اجتمع على الثدي مع المرأة سواءً الآن أو بعد عشرين سنة، يعني امرأة أرضعت طفلاً الآن وبعد عشرين سنة أرضعت طفلة فهو أخوها من الأم من الرضاعة، والله أعلم.(5/10)
وجه تخصيص النكاح بالنساء
السؤال
لِمَ قال الله عز وجل: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ، هل يمكن أن ينكح غير النساء؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ما قرأت توجيه العلماء لهذه الجزئية بالذات، لكن على شاكلتها جزئيات كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، وأي طائرٍ إذا طار يطير بجناحيه! فقالوا: إنها ذكرت تأكيداً والله أعلم، لكن لعل للعلماء في هذه الجزئية شيئاً آخر.(5/11)
التفريق بين الجامع بين الأختين وناكح زوجة أبيه
السؤال
هل فرق الرسول بين من جمع بين الأختين ومن نكح زوجة أبيه بعد نزول آية التحريم؟
الجواب
نعم، ثبت التفريق بذلك، لكن الأسانيد لا يحضرني الحكم عليها الآن.(5/12)
صورة إرث النساء كرهاً
السؤال
لماذا حرم الله أن نرث النساء كرهاً؟
الجواب
كانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق الورثة إليها، فإذا ألقى أحدهم ثوبه عليها قبل الآخر أصبحت ملكاً له، يتصرف فيها كيف شاء، يزوجها يطلقها يعضلها يتزوجها هو، فقال الله سبحانه: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] ، فأبوها أولى بها منك لأنك أجنبي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/13)
موقف الشرع من الأحكام العرفية
السؤال
ما الحكم في الجلسات العرفية التي تقام لفض المنازعات بين الناس، حيث يحكم فيها بمبلغ من المال للمظلوم؟
الجواب
إن كانت الجلسات العرفية تقضي بشيءٍ يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة وواضحة فهي حرام، وإن كانت لا تقضي بشيء يخالف كتاب الله وسنة رسول الله فهي من الإصلاح ما لم تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، والله أعلم.(5/14)
تفسير سورة النساء [24]
أباح الله ورسوله أنكحة وصحح عقودها، وفي المقابل حرم أخرى وأبطل عقودها فأباح الزواج بكل امرأة غير متزوجة أو ليست في العدة، أو كانت ملك يمين، وحرم نكاح المحصنات، وأبطل نكاح الشغار والتحليل والمتعة؛ كي تحفظ الأنساب ولا يسقي رجل زرع غيره، وتصان الفروج عن العبث والإهانة والفوضى التي تعيشها المجتمعات الكفرية.(6/1)
الأنكحة المحرمة في الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فبصدد بيان المحرمات يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] .(6/2)
حكم الزواج بخدينة الأب
تأتي صور فيها منازعة، وهي: -رجل زنى بامرأة -عياذا بالله- فهل يجوز لابنه أن يتزوجها؟
الجواب
قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] يفيد الجواز، لكن الذين قالوا: إن النكاح يراد به الوطء سواءً كان وطئًا شرعياً صحيحاً أو غير شرعي يمنعون من مثل هذه الحالة، ولكن الصحيح من أقوال العلماء ما قاله فريق منهم: أن الحرام لا يحرم حلالاً، والحلال لا يحل حراماً، فإذا كان الشيء من أصله حلال فإن الحرام لا يحرمه، فمثلا: أصل زواج الرجل بالمرأة حلال فجاء أبوه زنى بها، فالزواج ما زال حلالاً له، أو العكس: ابن زنى بامرأة فهل يجوز لأبيه الزواج بها؟ كل هذا على نمط واحد، لكن المانعون يمنعون احتياطاً؛ لأن الرجل إذا كان متزوجاً بامرأة وابنه زنى بها عياذاً بالله، فإنه يتمكن من الدخول عليها كثيراً لكونه ربيباً لها، فالمسألة تكون عظيمة، فيمنعون منه سداً للذريعة.
وما هي الأدلة على سد الذريعة؟ هناك أدلة كثيرة على سد الذريعة، وقبلها ما تعريف قولنا: (سداً للذريعة) ؟ مثلاً: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، سداً للذريعة الموصلة إلى الزنا، ومثله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ؛ فسب هبل واللات والعزى جائز، لكن إذا كنت ستسبهم ويسب الكفار رب العزة جل وعلا، فلا تسب آلهة المشركين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب الرجل أباه؟ قالوا: وكيف يسب الرجل أباه يا رسول الله؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) .
ومنها: كما قال فريق من العلماء: تحريم التصاوير، ومنها: النهي عن البيعتين في بيعة، وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً على سد الذريعة، وقال: نكتفي بهذا القدر الموافق لأسماء الله الحسنى، فمن أراد الرجوع إليها فليرجع؛ لأن سد الذريعة باب مهم جداً في الفقه في الدين.
يعني: مثلاً تتعامل به مع كل الناس حتى مع الشرير المفسد، تتعامل به مع الشرار والمباحث، وتتعامل به مع التجار، وتتعامل به مع أي صنف من الناس، مثلاً: باب يأتي لك منه أذى قد تسده بطريقة شرعية وتمنع عن نفسك الأذى بشيء يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن قومك حديثي عهد بكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) ، فسد الذريعة التي تدخل الشك على قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] .
(كتاب) أي: كتبه الله وفرضه الله عليكم، وننبه على أن الباب ليس كتاباً مستقلاً لـ ابن القيم إنما هو باب في كتابه: إعلام الموقعين عن رب العالمين، والفصل طويل جداً واسمه: سد الذرائع، لكن يؤخذ في الاعتبار: أن من الأحاديث التي استدل بها العلامة ابن القيم رحمه الله أحاديث بعضها ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن قد يسلم له من هذا الباب خمسون دليلاً مثلاً.(6/3)
نكاح الشغار تعريفه وتحريمه
قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه: الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، واستثني منه نكاح التحليل.
أما نكاح الشغار فقد اختلف في تفسيره.
أولاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار ولا شك في هذا، ولكن ما هو الشغار؟ القدر الذي اتفق عليه أكثر العلماء في الشغار هو: أن يقول الرجل للرجل: زوجني أختك أو ابنتك أو موليتك، على أن أزوجك أختي أو موليتي أو ابنتي ليس بينهما صداق.
من العلماء من رأى هذا التفسير، سواءً كان بينهما صداق أو ليس بينهما صداق، المهم أنك لا تجعل زواج الشخص بامرأة شرطاً لزواج الآخر بأخته أو بابنته، فسواء كان بينهما صداق أو ليس بينهما صداق فإنه يعد شغاراً عند كثير من العلماء.
وتفسير الشغار كما في الحديث: (أن يقول الرجل للرجل: زوجني أختك أو ابنتك على أن أزوجك ابنتي أو أختي ليس بينهما صداق) .
قوله: (الشغار أن يقول الرجل للآخر) هل هو مدرجٌ على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أم هو من كلام رسول الله؟ هل الرسول نهى عن الشغار، وقال: الشغار كذا وكذا، أم أن أحد الرواة عن رسول الله هو الذي قاله؟ الحديث مروي من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإمام الشافعي يقول: لا أدري تفسير الشغار من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من قول ابن عمر أم من قول نافع، أم من قول مالك؟ ومن أهل العلم من قال: إن تفسير الشغار من قول مالك، ومنهم من قال: إنه من قول نافع، ومنهم من قول: إنه من قول ابن عمر، ومنهم من قال: إنه من قول رسول الله.
لكن جمهور العلماء قالوا: إن تفسير الشغار من قول نافع.
وأحياناً الإدراج يشكل ويسبب خلافاً طويلاً في المسائل الفقهية، ولعلنا مثلّنا من قبل هذا لمسألة ذات أهمية في هذا الباب وهي: (أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم) والسبعة الأعظم جاء تفسيرها: الجبهة -وأشار إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأصابع القدمين، فكلمة: (وأشار إلى أنفه) فهل هي من قول رسول الله، أم هي من قول الصحابي الذي يرويها عن رسول الله، أم من قول التابعي الذي يرويها عن الصحابي، أم غير ذلك؟ لأنه ينبني عليها حكم فقهي قوي: فمن سجد ولم يجعل أنفه تمس الأرض فقد أخطأ، وكثير من الناس يسجد وأنفه مرتفعة، فهل صلاته صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنفه، أم ليست صحيحة؛ لأنه لم يجعل الأنف تمس الأرض؟ فالحكم بالدرجة الأولى حكم فقهي؛ لكنه مبني على الحديث.
والمهمة هنا مهمة أهل الحديث لا أهل الفقه؛ لأن المدار على تصحيح زيادة: (وأشار إلى أنفه) ، إن كانت من قول الرسول فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب كما يقول القائل، وإن كانت من قول طاووس فقد أصبحت محتملة للأخذ والرد، والمدققون من أهل الحديث من المتقدمين بينوا أن هذه من قول طاووس وليس من قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا ثبت أنه من قول رسول الله فقد انقطع النزاع، فإذا قال الرجل للآخر: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، لكن صداق ابنتك ألف وصداق ابنتي ألفين جاز ذلك والمعنى: أنه إذا كان بينهما صداق جاز الشغار على هذه الرواية.
وقد جاءت رواية في صحيح مسلم من طريق عبد الله بن نمير أيضاً: يرويها بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي) ، واقتصر على هذا الحد، ولم يذكر كلمة: (ليس بينهما صداق) ، فلذلك دبّ الخلاف بين العلماء في من قال للآخر: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وكان بينهما صداق، هل يصح الزواج أو لا يصح؟ فرأى فريق من أهل العلم: أنهما إذا جعلا بينهما صداقاً يصح؛ لأن تفسير نافع: (ليس بينهما صداق) ، وهؤلاء كان بينهما صداقاً.
والذين بنوا على رواية ابن الزبير قالوا: إن جعل زواج هذه شرطاً لزواج تلك فإن العقد لا يصح، واستدل له العلماء بحديث معاوية: أن ولداً من أولاد العباس تزوج بامرأة، قال له: أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وجعلا لكل منهما صداقاً، ففرق بينهما معاوية وقال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله.
إذاً: فرق بينهما رضي الله عنه مع أنهما قد جعلا لكل واحدة صداقاً.
لكن الجمهور قالوا: إن هذا استنباط من معاوية وهذا من فهمه، ونقل هذا الفهم عن رسول الله، لكن غيره نقل عن رسول الله أنهما ليس بينهما صداق.
والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله له رسالة في هذا الموضوع، واختار فيها رأي أمير المؤمنين معاوية، سواء تزوجها على صداقٍ أو لا فالعقد باطل، لكن إن جاء عفواً وتزوجت أخت رجل، والرجل بعد ذلك تزوج أختك بدون مواطأة ولا اشتراط فالنكاح صحيح ولا إشكال فيه.
فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه نكاح الشغار، ونكاح التحليل، والجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.(6/4)
حرمة نكاح التحليل
واستثني من الأنكحة الجائزة: نكاحُ التحليل.
فالرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن المحلل والمحلل له) ، وفي بعض الروايات المتكلم فيها: (أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف المحلل بالتيس المستعار) .
فهذا التيس الذي استعير لتحليل المرأة لزوجها الأول مرتكبٌ لكبيرة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه، وكل من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام يعتبر مرتكباً لكبيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له، فلو أن رجلاً تزوج امرأة وفي نيته أن يحللها لزوجها الأول، فإنها لا تحل للزوج الأول إلا إذا نكحت زوجاً غيره وجامعها هذا الزوج الجديد ثم طلقها برغبة منه، فحينئذٍ يجوز للأول أن يتزوجها، ولو أن رجلاً أضمر النية في قلبه أنه سيتزوج فلانة كي يحللها لفلان لكنه لم يصرح بذلك عند العقد، فالعقد صحيح ولا إشكال فيه.
وهذا يجرنا إلى مسألة وهي: الزواج بنية الطلاق: رجلٌ نزل بلدة من البلدان، وخشي على نفسه الفتنة فيها، فقال: أتزوج امرأة من هذه البلدة وبعد ذلك إذا جئت لأسافر طلقتها، فالجمهور من أهل العلم على أن العقد صحيح؛ واستدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لصحته بحديث: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ، فقال: قد يقدم الرجل الزواج بهذه النية وبعد ذلك تتعدل نيته، ولسنا مأمورين بالنظر في النيات، فكم من رجل تزوج امرأة وفي نيته دوام المعاشرة وبعد مدة تفسد نيته ويطلقها أو تتغير نيته ويطلقها.
واستدل بأثرين عن عمر في كليهما ضعف، أحدهما: أثر ذو الرقعتين من طريق محمد بن سيرين: أن امرأةً كانت تحت رجلٍ قرشي فطلقها القرشي ثلاثاً، فبت طلاقها، فلم تعد تحل له إلا إذا نكحت زوجاً غيره، فذهب قومها يفتشون ويبحثون عن رجلٍ يتزوجها ويطلقها وترجع لزوجها الأول، فأرسلوا امرأةً إلى رجل كان يجلس عند باب المسجد يلبس ثوباً مرقعاً فقالت له المرأة الوسيطة: هل لك يا ذا الرقعتين أن نزوجك امرأة الليلة تبيت معها وتستمع بها، ونأتيك بثوبين جديدين، وتفارقها الصباح! قال: نعم أفعل، ففي الليل أعجبت به المرأة وأعجب بها، وكانت متبرمة من زوجها الأول، فقالت له: إنهم سيأتون في الصباح ويأمرونك بالطلاق فلا تطلقني، إن اشتدوا عليك فاذهب إلى أمير المؤمنين عمر فأخبره بذلك، فبعد صلاة الفجر إذا بالباب يطرق ويقولون له: اخرج، قال: لماذا أخرج فهذه زوجتي؟ فاشتدوا عليه فذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فأمره عمر أن يبقى معها ولا يطلقها، وعزر المرأة التي كانت وسيطاً في الزواج، وكان عمر كلما قابله قال: مرحباً بك يا ذا الرقعتين، سبحان من كساك هذه الرقعتين.
فقال أتباع الإمام الشافعي ما حاصله: إن الرجل تزوجها وفي نيته أن يطلقها، والنية هذه لا تعتبر شيئاً ولم تؤخذ بالاعتبار، إنما أمضى عمر الطلاق مع علمه أن الرجل أقبل عليها وفي نيته أن يطلقها فدل ذلك على صحة العقد.
واستدلوا بدليل آخر، وهو: ما أخرجه البخاري في صحيحه: أن امرأة رفاعة القرظي أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، يعني: انتهت التطليقات التي هي له عليّ، وإني تزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير فوالله يا رسول الله ما معه إلا مثل الهدبة -وأشارت إلى هدبة من طرف ثوبها- لا يغني عني شيئاً -أي: أن ذكره قصيرٌ لا يشبعها- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء زوجها الجديد عبد الرحمن بن الزبير، فقال: يا رسول الله! إنها والله امرأةٌ ناشز، وإني أنفضها نفض الأديم وأتى معه بولدين، فرأى إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهما أشبه بأبيهما كما أن الغراب يشبه الغراب، فقال: هذا الذي تزعمين أن ما معه إلا مثل الهدبة، لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) .
فقال هؤلاء المستدلون من الشافعية: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة) ، فتزوجت عبد الرحمن وفي نيتها أن تُطلّق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد، وما قال: إن العقد باطل.
ولكن: أجيب على هذا الاستدلال: بأن نية المرأة لا تؤثر في الطلاق بشيء، فإن الطلاق هو بيد الرجل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/5)
تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها
قال تعالى في بيان المحرمات المحصنات بعد أن ذكر المحرمات بالنسب وهن سبع، ومن الرضاعة وهن سبع، وبالمصاهرة وهن أربع.
قال سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] أي: غير المذكور كله حلال لكم، وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) تفيد: أن كل النساء اللواتي لم يذكر تحريمهن في الآية حلال، ولكن كما لا يخفى أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن فتخصصه أحياناً، وتنسخه أحياناً أخرى، وتقيده أحياناً، فالسنة أحياناً تزيد عليه أحكاماً أخرى، فمثلاً: يقول الله سبحانه في مسألة الإشهاد: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، أضيف صنف ثالث، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد ويمين الشاهد، إذا لم يوجد رجل وامرأتان ولا رجلان، فيأتي الشاهد ويقسم، فمسألة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] ، معنى الآية: ليس في الشيء الذي أوحي إلي في القرآن شيء محرم على آكل يأكله إلا ثلاثة: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] ، لكن السنة أضافت أشياء أخر محرمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي مخلبٍ من الطير، وكل ذي ناب من السباع، فأضيف إلى المحرمات شيءٌ آخر.
كذلك في النكاح، قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) يفهم كل مسلم: أن النسوة حلال إلا اللواتي ذُكرن، لكن جاءت السنة بمنع أصناف من النساء، ومن هذه الأصناف: الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها، فهذا لم يذكر في كتاب الله، ولكن في المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) .
ففي هذه تحريم للجمع بين المرأة والعمة أو المرأة والخالة.
والعلماء يقولون: إن هذا التحريم خشية القطيعة التي تحدث بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ومن هنا: إذا كانت هناك امرأتان متصادقتان ومتحابتان، فهل يستحب لهما أن يتزوجا برجلٍ واحد أو يكره لهما ذلك؟! يكره ذلك خشية القطيعة؛ لأنه لو كان مستساغاً لاستسيغ الجمع بين المرأة وأختها وهن أقرب مودة من المرأة وصديقتها.
ويستنبط من قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها) ، يستنبط: أن المرأتين إذا كانتا متصادقتين لا يتزوجا برجل واحد؛ لأن الغيرة تنبت فيهما، ويحدث بينهما شيءٌ مما يحدث بين سائر النساء، فلسن هن خيرٌ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت إحداهن صحفة أخرى وأسقطت الطعام على الأرض أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال الله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] ، قيل: إنه أضيف إليها الجمع بين المرأة وعمتها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، استثني منه: الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.(6/6)
نكاح السبايا الحوامل
في حالة واحدة يجوز لكم فيها أن تتزوجوا المحصنات، أو يجوز لكم فيها أن تطئوا المزوجات، وهي: حالة الحرب إذا كنّ من سبايا الحرب، فإذا حدثت معركة بين المسلمين والكفار، وسبى المسلمون نساء كافرات، جاز لهم -أي: للمسلمين- أن يطئوا ويجامعوا هؤلاء الكافرات؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزى غزوة يقال لها: غزوة أوطاس -وأوطاس بلدة قريبة من الطائف- فأصاب سبياً -أي: من النساء- وكان لهؤلاء السبي أزواج، فتحرج الصحابة من وطئهن، فأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطئوهن إذا استبرءوهن بحيضة، لكي يتأكد من سلامة الرحم من الحمل تحيض المرأة منهن حيضة، كما في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم، ولا يجوز وطؤهن في حالة واحدة، وهي: إذا ما كن هؤلاء السبايا حوامل؛ لأنه والحالة هذه -حالة كونهن حوامل- الولد ينسب للزوج الجديد أو القديم؟ ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأةً مجح على باب فسطاط -أي: حامل وظهر حملها واستبان- فقال: (ما له، لعله يريد أن يلم بها -أي: يجامعها- لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) كيف يأخذ شيئاً وهو لا يحل له؟! فالسبايا إذ كن حوامل يحرم على الذي سباهن أن يطأهن إلا -وإلا هنا بمعنى: لكن- إذا لم يكن حوامل فيستبرأهن بحيضة، ويجامعهن بعد الحيضة، كما هو رأي الجمهور، والله أعلم.(6/7)
معنى المحصنات في الشرع
قوله تعالى: (والمحصنات من النساء) معناه: والمحصنات من النساء حرام عليكم أن تتزوجوهن.
من المراد بالمحصنات؟ كثير من العلماء يقولون: إن المراد بالمحصنات هنا: المتزوجات؛ فحرام عليك أن تتزوج امرأة لها زوج.
هذا رأي جمهور المفسرين في تفسير المحصنات هنا.
أي: حرام عليكم أن تتزوجوا المتزوجات إلا إذا طلقهن الأزواج.
ومن العلماء من قال: إن المحصنات هنا المراد بهن: الحرائر.
أي: والحرائر لا يجوز لكم أن تتزوجوهن إلا بولي وصداق.
لكن جمهور المفسرين على القول الأول، وتقدم أن الإحصان يطلق على عدة معاني، منها: العفة، فالعفيفة محصنة، ودليله قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] ، والمؤمنة محصنة، والحرة محصنة، والمزوجة محصنة.
فكل هؤلاء محصنات.
وأصل الإحصان مأخوذٌ من المنع، فالزواج يحصن فرج المرأة من الزنا.
أي: يمنعها من الزنا، والإسلام كذلك يمنع المرأة من الزنا، والحرية كذلك تمنع المرأة من الزنا، ومن هذا الباب ما ورد بإسناد فيه كلام: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء وذكر: أن لا يسرقن ولا يزنين، قالت هند: أوتزني الحرة يا رسول الله؟) ، فأفاد هذا الكلام: أن الزنا لم يكن متفشياً في الحرائر بل كان متفشياً في الإماء.
فالشاهد: أن الحرية تحصن.
أي: تمنع من الزنا؛ فالإسلام والحرية والعفة والزواج كله يحصن المرأة.
أي: يمنعها من الزنا.
وكل هذه الأصناف من النساء يطلق عليهن محصنات.
لكن المراد بالآية الكريمة معنىً واحد من معاني الإحصان وهو: الزواج، فالمتزوجات من النساء حرام عليكم أن تتزوجوهن إلا إذا طُلقن، أو فسخ عقدهن نكاحهن، أو انخلعن، أو فارقن أزواجهن بأي سبب من أسباب الفراق.(6/8)
الأنكحة الجائزة في الإسلام(6/9)
نكاح ملك اليمين
أما ملك اليمين فهي حلال لكن قوانين الأمم المتحدة الكافرة منعتها، وإلا فالأصل أن ملك اليمين حلال، تذهب إلى السوق تشتري أمة من الإماء -ليست من الحرائر- أو من سبايا الحرب، تشتريها وتستمتع بها، وإن شئت أن تكرمها وتعتق رقبتها وتتركها حرة لوجه الله فهذا بابٌ طيب محمود، حث عليه رب العزة حين قال: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:13-14] ، وقال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، وقال في كفارة الصيام: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الرقاب أفضل -أي: في العتق- قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً) ، كل ذلك حث عليه رسول الله، وكانت الرقاب من الإماء والعبيد موجودة في السعودية إلى عهد قريب، إلى أن شنع جمال عبد الناصر على الملك فيصل عند ما حدثت بينهم خلافات، وقال عبد الناصر: إن أولاد سعود يبيعون ويشترون في النساء والبشر، فأصدر الأخير قراراً بإعتاق كل الرقاب، وعمل عملاً جيداً، فإنه لم يجبر الناس على أن يعتقوا الرقاب، بل اشترى الرقاب من الناس واعتقها، فخرج بمنفذ شرعي: أنه اشترى الرقاب من الناس، وكان في الناس من له خمسمائة رقبة وأربعمائة رقبة من عبيد وإماء، فاشتراهن كلهن وأعلن أنهم عتقاء وأحرار.
فلذلك تجد هناك من القبائل من هو إلى الآن من قبيلة فلان ابن فلان المولد، والمولد تعمل له أصلاً، فقد يكون مولداً من عبيد مع حرائر، ولا زال بعضهم موجوداً إلى الآن في موريتانيا، وجزر القمر، ونيجيريا.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24] أي: تتطلبوا بأموالكم، وهو الصداق الذي تدفعونه.
{مُحْصِنِينَ} [النساء:24] أي: متعففين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24] أي: غير زناه، أن تتزوجوا ولا تزنوا، وهذا خلاف الواقع الذي نعيشه، فيباح الآن في بعض الدول اتخاذ العشيقات ويمنع الحلال، ففي بعض الدول كتونس وغيرها إذا زنا الرجل بمائة امرأة لا شيء عليه، لكن إذا تزوج بأخرى سُجن، ورب العزة يقول: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، في الحلال (غير مسافحين) يعني: غير زناة، بنكاح غير سفاح.(6/10)
نكاح المتعة ونسخ جوازه
قال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء:24] ، قوله تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ما المراد به؟ البعض يقولون: المراد به نكاح المتعة، لكنه نسخ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] يعني: التي تتمتع بها من النساء فرض عليك أن تدفع إليها الأجر.
إذاً: من العلماء من يقول: إن هذا كان في نكاح المتعة الذي كان جائزاً في أول الأمر ثم نسخ.
ومنهم من يقول: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] أي: الصداق، وهذا في: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) أي: بالزواج.
وعلى أي تفسيرٍ كان فنكاح المتعة منسوخ، كما هو رأي جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة، فنكاح المتعة كان في أول الإسلام وفي أواخره أيضاً: وكان الرجل إذا تقابل مع امرأة فأعجبته ولم تكن ذات زوج، فإنه يتفق معها على أن يتعاشرا يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل في مقابل قدر من المال أو الأشياء العينية التي يعطيها لها، ثم بعد ذلك يفترقان من غير طلاق إذا انتهت المدة المتفق عليها، وهذا النكاح كان جائزاً ثم نسخ.
قال: سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه: تقابلت أنا وابن عم لي بامرأةٍ بكر عيطاء -بكر يقصد: كالناقة- فعرضنا عليها أنفسنا أنا وابن عمي، فقالت: ماذا تبذلان؟ قلت: أن أبذل بردي، أي: ثوبي أو شيء مشابه للثوب، وقال ابن عمي: وأنا أبذل بردي، وكان برد ابن عمي أجمل من بردي -يعني: ثوبي كان قديماً جداً وثوب ابن عمي كان جديداً- ولكني أحسن من ابن عمي وأجمل، فجعلت تنظر إليّ وإلى بردي، فتراني جميلاً وترى ثوبي مهلهلاً، وتنظر إلى ابن عمي وإلى برده، وفي آخر الأمر قالت: هذا بردٌ جيد، وهذا بردٌ لا بأس به، وتعاشرت معها ثلاثاً، ثم سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: (من كان تمتع من هذه النساء بشيء فليتتاركا؛ ففارقتها) .
جاء تحريم نكاح المتعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة مواطن: فقد جاء أنه حرم المتعة عام خيبر، وعام الفتح، وفي غزوة أوطاس، وفي غزة تبوك، وفي حجة الوداع، لكن الرواية أنه حرمها في غزة تبوك ضعيفة، والرواية التي حرمها في حجة الوداع ضعيفة أيضاً، والثابت أنها حرمت في خيبر، وغزوة أوطاس، وعام الفتح، فقال بعض العلماء: إن الصحابة قد تمتعوا في عهد أبي بكر: قال جابر: (متعتان نهى عنهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متعة الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ، ومتعة النساء) .
وهذا ثابت إلى جابر رضي الله عنه، لكنه قد أشكل على من قال: إن المتعة حرمت عام أوطاس، فقال: لو كانت حرمت عام أوطاس فلماذا استمتع الناس في حياة أبي بكر الصديق؟ ووصفوا الروايات التي فيها: أن المتعة حرمت في خيبر، ثم حرمت في الفتح، ثم حرمت في أوطاس أنها مضطربة لكون هذه بعد تلك، وقالوا: فإذا كانت حرمت في خيبر فلماذا حرمت مرة ثانية في الفتح، ولماذا حرمت في أوطاس؟ وهذا الرجل سبرة بن معبد تمتع في أوطاس وهي بعد الفتح؟ فأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها، ثم حرمها، ثم أباحها، ثم حرمها إلى الأبد.
أما ما ورد أن بعض الصحابة تمتعوا في حياة أبي بكر رضي الله عنه؛ فلربما فعلوا ولم يصلهم النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بالحجة الدامغة من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي نهى عن جملة أشياء ولم تبلغ كبار الصحابة، وقد نهى رسول الله عليه والصلاة والسلام عن التطبيق في الصلاة.
والتطبيق: هو أن يضع الرجل يده اليمنى مع اليسرى مضمومتين بين فخذيه وهو راكع، وفعل ذلك ابن مسعود وخفي عليه حتى فعله وهو في زمن أبي بكر، حتى قال سعد بن أبي وقاص: (يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنا نفعل ذلك ثم نهينا عنه) .
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم المتعة إلى الأبد، وكون بعض الصحابة فعلها في حياة عمر، فهذا لا يطعن فيهم؛ لأن الصحابي قد لا يبلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ صحابة آخرين، وهذا له جواب يجاب به على هذه المسألة.
وبعض الصحابة كـ عبد الله بن عباس أخذ من كون النبي صلى الله عليه وسلم أحلها ثم حرمها ثم أحلها ثم حرمها فقهاً، قال: هذا يرجع إلى إمام المسلمين إن شاء أباحها للناس وإن شاء حرمها، لكن ردّ عليه ردٌ شديد في هذا الباب خاصة من قبل علي، فقال له: يا ابن عباس كيف تفتي بإباحة نكاح المتعة؟! إنك رجلٌ تائه! لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية عام خيبر ونكاح المتعة، ولذا وصفه علي رضي الله عنه بأنه رجلٌ تائه.
والعجب من الشيعة البغضاء أنهم يدعون محبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلي ينهى أشد النهي عن نكاح المتعة، كما في الصحيحين وغيرهما، وأنه يصف عبد الله بن عباس بأنه رجلٌ تائه لما أباح نكاح المتعة، ولكنهم قومٌ متبعون للأهواء لا للدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت بين ابن الزبير وبين ابن عباس أيضاً مشادة في هذا الباب.
قال ابن الزبير معرضاً بـ ابن عباس -وكان ابن عباس كبر فعمي- ما بال أقوام أعمى الله بصيرتهم كما أعمى بصائرهم يفتون بجواز نكاح المتعة؟! فقال له عبد الله بن عباس: والله إنك لجلف جافٍ، ولقد فعلت على عهد إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: جرب بنفسك فوالله لئن فعلت لأرجمنك كما رجم قبر فلان، فاشتدت المسألة بينهما في هذا الصدد وجمهور الصحابة على منع نكاح المتعة منعاً باتاً؛ لأن النبي حرمها إلى الأبد عليه الصلاة والسلام.(6/11)
ما يشرع من المهور في الأنكحة
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: لا إثم عليكم: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24] .
وفي قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، دليل على وجوب الصداق، ودليل على أن الصداق من حق المرأة وليس من حق أبيها؛ لأن الله قال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فدل ذلك على أن الصداق للمرأة، ونحوه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلها صداق بما استحللت من فرجها) ، فالصداق للمرأة، ثم إن شاءت بعد ذلك أن تتصدق به على أبويها فعلت، ولا تجبر على ذلك.
قال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي: لا أثم عليكم.
{فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} يعني: إذا أرادت هي أن تتنازل لك على شيء من الصداق تنازلت، وإن شئت أن تزيدها شيئاً فوق الصداق زدتها ما دامت الأنفس متراضية وطيبة: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] .
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(6/12)
الأسئلة(6/13)
صلاة المأسور في غير بلده
السؤال
ما حكم صلاة الأسير الذي يبعد عن بلده بكثير، هل عليه قصر؟
الجواب
إذا كان بعيداً عن بلده فله القصر.(6/14)
حكم مصافحة النساء الأجنبيات
السؤال
ما حكم مصافحة النساء الأجنبيات؟ وما صحة حديث معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة أجنبية) ؟
الجواب
الحديث ثابت وصحيح؛ أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، وأقل أحواله إن تشددنا في أمره أن ننزل به فقط إلى الحسن من حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له) ، وفي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إنما يقول: قد بايعتك كلاماً) ، أما الوارد من حديث عمر: (أنه كان يبايع النساء ويصافحهن من وراء ستار) ، فهو حديث ضعيف، وفي إسناده مسلم بن خالد الزندي، وهو ضعيف.
أما حكم الإمام السيوطي رحمه الله على الحديث فلا يعتبر؛ لأنه ليس من المدققين في التصحيح والتضعيف، ومن ثم استدرك عليه جماهير العلماء جملة تحصيلات لم يوفق بها، وجملة تصحيحات لم يصب فيها أيضاً، والله تعالى أعلم.(6/15)
تفسير سورة النساء [26-29]
لقد أجاز الله الزواج بالأمة المحصنة، ولكن الأفضل الصبر وعدم المبادرة إلى ذلك، وقد بين الله في كتابه أن أهل الكفر والفسوق حريصون على إضلال الصالحين بشتى الوسائل.(7/1)
تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم.)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:(7/2)
إثبات الإرادة لله
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] .
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى خلافاً لمن نفاها من أهل البدع، وإثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى وارد في جملة من الآيات: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] إلى غير ذلك.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يبين لكم شرائعكم وما أحل لكم وما حرم عليكم.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ} أي: طرق {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الطرق الحميدة التي سلكها الذين من قبلكم.
وهل المراد بذلك الشرائع، أي: شرائع المتقدمين الذين سبقونا، أو المراد غير ذلك؟ قال ذلك فريق من العلماء، لكن على تحفظ في شيء وهو المنسوخ من شرائع المتقدمين، فشرائع المتقدمين هل تلزمنا، أو لا تلزمنا؟ لأهل العلم أقوال في ذلك: منهم من يقول: إنها تلزمنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخها.
يعني: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه، واستدلوا لذلك بهذه الآية، وبقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:84-86] إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] .
ولما جاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] قال: داود ممن أُمر نبيكم عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به، أي: أن داود عليه السلام خر راكعاً وأناب أي: ساجداً، فكذلك سجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا بالاقتداء بداود عليه الصلاة والسلام.
فمن أهل العلم من قال: إن شرائع المتقدمين من الأنبياء تلزمنا إلا إذا جاء من شرعنا ما ينسخها.
ومنهم من قال: إن لكل نبي شرعته، ودل على ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] أي: سبيلاً وسنة.
والقول الأول قوي، والجمع بينه وبين الاستدلال الأخير ممكن، والله أعلم.(7/3)
هداية الله لعباده وسعة رحمته بهم
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:26] هل المراد بالهداية هنا هداية الدلالة، بمعنى: يدلكم على طرق الذين تقدموكم وسبقوكم أو أن المراد هداية التوفيق، بمعنى أن يوفقكم إلى اتباع شرائع من كان قبلكم؟ الظاهر: أن الهداية في الآية تعم القسمين معاً، فالله وفق أهل الإيمان وهذه دلالة توفيق، وبيّن لهم وهذه هداية دلالة، وكلاهما حصل في حق أهل الإيمان.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} هذه الآية من آيات الرجاء، ومن الآيات التي بينت سعة رحمة الله، فرب العزة يريد أن يتوب علينا وهو الغفور الرحيم، فالله أخبر أنه يريد أن يتوب على أهل الإيمان، فعلى ذلك إذا أذنب المؤمن فلا يقنط من رحمة الله، فالله يريد أن يتوب عليه، فعليك إذاً الاستغفار والإقبال على الله، فإن من التهلكة أن يذنب العبد ذنباً ثم يسوّل له الشيطان أنه لا يتاب عليه، فيقنطه من رحمة الله، فيقع بعد الذنب في كبيرة ألا وهي كبيرة القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، والله حذر من هذا، إذ قال نبيه إبراهيم كما في كتاب الله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، وقال يعقوب صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فإذا علم الشخص أن ربه سبحانه يريد أن يتوب عليه بادر بالتوبة ولم يجد الشيطان سبيلاً على هذا المؤمن بإذن الله، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] .(7/4)
تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم.)
أكدت الآية السابقة بقوله تعالى ثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ، الأولى: يريد الله أن يتوب عليكم صدرت بالفعل، وهنا صدرت بالفاعل، لفظ الجلالة: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) [النساء:27] ، وهذا مزيد تأكيد ومزيد بيان بتوبة الله على العباد: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) أي: افعلوا ما يستوجب لكم توبة الله سبحانه وتعالى، فذلك يتأتى بالاستغفار والإنابة إلى الله.(7/5)
حرص أهل الكفر والفسوق على إضلال الصالحين
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] أي: أهل الكفر وأهل الفسوق والعصيان يريدون لأهل الإيمان الزلل والميل إلى طريق الردى والهلاك، وهذا كما قال القائل: إن اللص إذا اكتشف أنه سارق وعلم الناس عنه أنه سارق تمنى أن يكون الناس كلهم لصوصاً، وأن الزانية إذا كشف زناها تمنت أن النساء كلهن زوانٍ؛ حتى يشتركن معها في المصيبة والعار، فيخفف هذا الاشتراك شيئاً عنها في الحياة الدنيا، فالذين يتبعون الشهوات يريدون لأهل الإيمان أن يميلوا ميلاً عظيماً.
ونحو ذلك في قوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: أحبوا لكم العنت والهلاك ورغبوا لكم فيه، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة:109] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ، فكل هذه الآيات أفادت أن أهل الكفر يريدون لأهل الإيمان الزيغ والضلال والانحراف.
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] ، فلذلك هم يجتهدون في إغوائكم وإضلالكم بكل الطرق، كما قال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} لماذا؟ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] لعلهم يرجعون عن دينهم، وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] فهم بكل الطرق يبذلون ما في وسعهم حتى ينفض أهل الإسلام عن إسلامهم، والمثبت من ثبته الله سبحانه وتعالى، قال الله لنبيه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] .(7/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً.)
لنرجع إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] .(7/7)
حكم زنا الأمة وهي محصنة
قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: الإماء، إذا أحصن بالزواج، {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة} المراد بها الزنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} ، فقوله تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: إذا تزوجن، {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة} بعد الزواج، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} يعني: عليهن نصف ما على الحرائر من العذاب، أي: من الحد، فإن قال قائل: إن الرجم لا يتنصف، فماذا على الأمة المزوجة؟ يعني: الأمة قبل الزواج إن قلنا: إن الحرة إذا زنت قبل الزواج تجلد مائة جلدة، فالأمة تجلد خمسين جلدة، والحرة إذا تزوجت وزنت رجمت، فالأمة إذا تزوجت وزنت ماذا عليها والرجم لا يتنصف؟! فنقول هنا صالت عقول وجالت، وأبعدت عما يقتضيه العقل الصحيح.
والجمهور ابتداءً ذكروا أن الرجم لا يتنصف فعليها الجلد، خمسون جلدة، سواءً كانت ثيباً أو كانت بكراً، متزوجة أو غير متزوجة.
أما ابن حزم فقال في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} قال: بالنسبة للأمة غير المزوجة إذا زنت تجلد مائة جلدة؛ لأن الله قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، وإذا زنت بعد الزواج تجلد خمسين جلدة، قال ابن حزم: لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} .
وقال قوم: إن زنت الأمة قبل الزواج لا شيء عليها.(7/8)
حكم الزواج بالإماء
قال تعالى: ومن لم يستطع منكم -يا أهل الإيمان- طولاً.
أي: سعة وغنىً، فالطول يطلق على السعة الغنى.
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} المراد بالمحصنات هنا: الحرائر، أي: فمن لم يستطع منكم أن يتزوج النسوة الحرائر لغلاء مهورهن فهناك الإماء، فدل ذلك على هذا الشيء، وهو: أن الحرائر كانت مهورهن أعلى من مهور الإماء، فيأخذ منه من طرف خفي مشروعية مهر المثل، فللحرائر سنة في الصداق، وللإماء سنة في الصداق، ومهر المثل قد تقدمت بعض الأدلة عليه، في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (تقسطوا في اليتامى) -كما فسرتها عائشة -: أي: تبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق.
فدل ذلك على أن أو للنساء سنة في الصداق.
أي: قدر معين، وهذا القدر ليس بثابت بل هو يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} أي: سعة، {أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} أي: الحرائر منهن، {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فمن الإماء، {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إذا تزوجت الأمة لزمك أن تعدل بينها وبين الحرة، لكن إذا اشتريت الأمة فلا يلزمك أن تسوّي بينها وبين الحرة في القسمة.
{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .
أي: مؤمنات في نظركم، فقد تكون مؤمنة في الظاهر وليست مؤمنة حقيقة، فلذلك جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} يعني: لكم أن تحكموا بالظاهر وتقدموا على زواج الإماء المؤمنات، فأنت قد تقدر وتحكم بأن هذه الأمة مؤمنة لكن في الحقيقة الله أعلم بها، فلذلك جاء الاحتراز لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} وكقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب} بماذا؟ ليس حافظات للغيب باجتهادهن، ولا بقوتهن، ولا بصلابتهن، إنما حافظات للغيب بما حفظ الله، حتى لا تظن الصالحة أنها تحفظ غيب زوجها باجتهادها، فالمرأة أصلاً ضعيفة، ولكن حفظها للغيب بتثبيت من الله وبفضل منه سبحانه وتعالى، وهذا تنبيه حتى لا يبتعد الشخص أبداً عن ربه سبحانه وتعالى، بل يكون دائماً طالباً من الله الثبات والنجاة، والسداد، والحرص، والتوفيق في الحكم على الأشخاص.
{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي: من الإماء المؤمنات {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} فدل ذلك على الولاية في النكاح وكون المرأة لا تنكح إلا بإذن أوليائها، فمن كتاب الله آيات تحث على الولاية في النكاح، كما أن في سنة رسول الله أحاديث كحديث: (لا نكاح إلا بولي) وحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) .
أما الآيات التي في كتاب الله تحث على الولاية في النكاح: فمنها: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} .
ومنها: قوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] ، فقوله: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:221] أي: لا تزوجوا المشركين، فيه دليل على أن الذي يزوج هو الولي.
وكذلك في قوله تعالى في سورة النور: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ، (وأنكحوا) أي: زوجوا، فدل على أن الأولياء هم الذين يزوجون.
{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} المراد بالأجور هنا: المهور، {بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي: عفائف غير زوانٍ، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} والأخدان هم العشّاق، فلا هي زانية، ولا هي متخذة خليل.
أي: عاشق.
إذاً: الأمة تنكح إذا كانت (محصنة) أي: عفيفة.
(غير مسافحة) : غير زانية، (ولا متخذات أخدان) أي: عشاق.
{ذَلِكَ} في هذا الحكم والحث على زواج الإماء، {ذَلِكَ} الترخيص لكم في زواج الإماء، والإرشاد لكم في زواجهن {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي: للذي يخشى على نفسه العنت، والعنت: هو الشدة، والمراد به: الوقوع في الفحشاء عياذاً بالله، فالذي يخشى على نفسه العنت له أن يتزوج الإماء.
وقد طرح بالأمس القريب
السؤال
شاب في العشرينات، متخرج من الجامعة، ولا يجد مالاً يتزوج به، ولا يجد مسكناً يتزوج فيه، ولا يستطيع أن يحصل على المسكن وعلى تكاليف الزواج الباهضة التي فرضها الأولياء فيكسرون بها ظهور الأزواج، وأمامه سنوات وقُدِّر عليه في عمله أن يعمل في وسط نسوة وهو شاب قوي، فيسر الله له امرأة مات عنها زوجها وترك أولاداً معها، وعندها شقة مفروشة، وهي موافقة على أن تتزوجه، ويدخل عليها في الشقة ويعفها ويرعى أولادها، وهو في الوقت نفسه يبتغي وجه الله برعاية الأيتام، ويعف نفسه من الوقوع في الفاحشة، فجاءت أمه واعترضت على هذا الزواج، والشاب يخشى العنت، فهل يجاب بأن يقال له: أطع أمك التي لا تستند في تصرفها إلى دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله إلا الأسلاف والأعراف السائدة، فهل نقول له: أطع أمك أم عف نفسك؟ فالإجابة: عف نفسك وبر والدتك أيضاً بكلام طيب حتى تنجو من العنت الذي أنت فيه، فرب العزة رخص في الزواج من الأمة، وهذه المرأة أحسن حالاً بلا شك من الأمة؛ لأنها حرة، بل أضف إلى كونها حرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (السعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) إلى غير ذلك من الأدلة.
فقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فيه ترخيص لمن خشي العنت من الشباب ولا يجد مالاً أن يتزوج الإماء، فمن باب أولى أن يتزوج الثيبات اللواتي يوفرن عليه المال.
والنبي محمد عليه الصلاة والسلام خير الناس وسيد ولد آدم سلك هذا المسلك، فقد كان فقيراً عليه الصلاة والسلام ثم تزوج بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: أن تصبروا عن نكاح الإماء، وليس النساء اللواتي هن أرامل، إنما الصبر عن نكاح الإماء خير من المبادرة إلى نكاحهن.
لماذا: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ؟ ذلك لأن الولد يسترق، فأمه أمة عند شخص فالولد يأتي مسترقاً، وتلك هي العلة من التوقف أو الصبر عن زواج الإماء، لكن الناس يختلفون.
والآية فيها: إباحة زواج الإماء لمن خشي العنت: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} ، فهل من لم يخش العنت يحرم عليه أن يتزوج الإماء؟ لا يحرم عليه على الصحيح، وله أن يتزوج الإماء؛ لأن الله قال بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، فقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} غاية ما فيه: مزيد ترخيص لمن لم يستطع طولاً أن ينكح المحصنات من المؤمنات، {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(7/9)
تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم.)
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] .
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} في التكاليف ونحو ذلك.
إن الشريعة الإسلامية قد تميزت بالتخفيف، فلما قال المؤمنون: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله سبحانه (قد فعلت) وروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بإسناد فيه بعض الكلام، لكن المعنى يصح: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فالمكره على الشيء لا يلزمه من جراء الإكراه إثم، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] .
قال تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) هذه من آيات رفع الحرج، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف حوله، فلما رأى أنه خلق أجوفاً علم أنه خلق خلقاً لا يتمالك) أي: يسقط بسرعة وتزل قدمه سريعاً.(7/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا أهل الإيمان! يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً! يا من صدقتم المرسلين! {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (أموالكم) أي: أموال إخوانكم، فهي كقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.(7/11)
صور لأكل أموال الناس بالباطل
{بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الباطل له صور منها: الرشوة في الحكم، كأن يعطى القاضي مالاً حتى يقضي لخصم ظالم.
ومن الباطل: أكل أموال اليتامى ظلماً.
ومن الباطل: ثمن الكلب، ومهر البغي، أي: أجرة الزانية.
ومن الباطل: الربا.
فالباطل: كل ما جاء من مال بغير حق شرعي.(7/12)
معنى التجارة بالتراضي
{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا} (إلا) بمعنى: لكن، وتأتي (إلا) بمعنى لكن في كثير من آي الكتاب العزيز: قال الله سبحانه: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ} [الدخان:56] لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى التي قد ماتوها فهي التي ذاقوها فقط، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} أي: لكن تكون تجارة (عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ، ومن تمام التراضي كما قال العلماء: إثبات خيار المجلس، وخيار المجلس مأخوذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، فإذا كنت أنا وأنت جالسين في البيت أو في أي مكان واشتريت منك سلعة وكتبت العقد معك، وأنت وقعت لي عليه وأنا وقعت لك عليه، وسلمتك المال واستلمت العقد، ثم بعد ذلك ونحن في المجلس قلت لك: أنا راجع في كلامي عن البيع أو الشراء، جاز لي أن أرجع، ووجب عليك أن تقبل الرجوع، فأي طرف له الحق في عدم إتمام العقد وإن كان قد تسلم المال، وإن كان قد كتب العقد، فله الحق في نقض العقد ما داما في المجلس، أما إذا خرج أحدهما ورجع فقد انتهى البيع وتم، لذلك كان ابن عمر إذا اشترى سلعة فأعجبته بعد أن يعقد العقد يخرج ثم يدخل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصحا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ، فمن تمام التراضي: إثبات خيار المجلس، وهو رأي جمهور العلماء.
وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وثمّ أنواع أخر غير التجارة، ولكن التجارة أهم صور المال الحلال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) .
هناك صور أخرى للكسب الطيب كأن يعمل والرجل أجيراً عند رجل آخر، فذلك من عمل الرجل بيده.(7/13)
معنى قتل النفس
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} وهل المراد بقتل النفس هنا: الانتحار أو جلب ما يتسبب في إهلاكه في الدنيا أو الآخرة؟ الاحتمالان واردان، فالنهي عن قتل النفس جاء عن رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (من تحسّى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً -وإن كان البعض من العلماء يعلّ كلمة مخلداً- ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالداً مخلداً أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يقتل بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ، وكذلك روي عن عمرو بن العاص أنه كان في سرية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم الفجر، وكانت الليلة شديدة البرد، وكان قد أجنب فتيمم وصلى بالناس، فكأنهم أنكروا عليه، فلما أتوا إلى رسول الله وعاتبه الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ذكرت قول الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} .
لكن هذا الأثر عن عمرو بن العاص معلول بعلة قادحة مؤثرة فيه.
ونحوه معلول كذلك حديث: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال) ، فهو كذلك معلول بعلة مؤثرة قادحة فيه.
{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} الآية محمولة إما أن تجلب آثاماً لنفسك فتهلك وتردي بها نفسك في النار، أو تقتل نفسك في الدنيا.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فيه دليل على أن الله أرحم بعبده من نفسه، فهو سبحانه حافظ لك على بدنك، فدل ذلك على أن الله أرحم بك من نفسك، وأرحم بك من والدك، فالله قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، فالله أرحم بالولد من أبيه، بنص الآية الكريمة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ، ويذكر الله الولد بأبيه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ، فالله رحيم بعباده أرحم بهم من أنفسهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أرحم بعبده من هذه بولدها) ، فنحمد الله على ذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً.(7/14)
سورة النساء [31-34]
اجتناب الكبائر سبب في تكفير السيئات، والكبائر مختلف في تعريفها بين أهل العلم، ولقد جعل الله سبحانه قوامة الرجل على المرأة، وبين سبحانه ما يعمل الأزواج عند نشوز زوجاتهم.(8/1)
تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر.)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] .(8/2)
تعريف الكبيرة
من أهل العلم من قال: إن الكبائر هي التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صريح حديثه، وبيّن أنها من الكبائر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف) .
فمن العلماء من قال: إن الكبيرة هي التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنها كبيرة، وما لم ينص عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وما لم يوضح أنه كبيرة فلا يدخل في عداد الكبائر، وهذا القول قد يبدو لأول وهلة صحيحاً، ولكن بإمعان النظر فيه نجده قولاً ضعيفاً واهياً، فثم جملة أمور لم ينص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنها كبائر، مثال ذلك: نكاح الرجل أمه أو أخته، فلم يرد نص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يفيد أنها كبيرة، فزواج الرجل بأمه لم يرد فيه نص يفيد أنها كبيرة، لكن جاء في كتاب الله تهديد لمن فعل ذلك، وقال الله تعالى في نكاح امرأة الأب الذي هو أيسر من نكاح الأم: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] .
فهذا حذا ببعض العلماء إلى أن يضعوا تعريفات للكبيرة، فكان حاصل تعريفهم أن الكبيرة: ما توعد فاعلها بلعن أو غضب من الله، أو طرد من رحمة الله، أو بالعذاب، أو بالنار، أو بحد من حدود الدنيا ونحو ذلك، فكل ذلك يعد من الكبائر.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ} [النساء:31] فهي الكبائر التي ضبطت بالضابط المتقدم، وثم بعض الأمور اختلف فيها: هل هي كبيرة أم صغيرة؟ فللعلماء أخذ ورد فيها.
من ذلك مثلاً: مسألة مصافحة المرأة الأجنبية، فقد ورد فيها حديث معقل بن يسار عند الطبراني بإسناد حسن على أقل الأحوال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) ، هذا الحديث كما سمعتم إسناده حسن يفيد أن الشخص إذا طعن بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، ولكن جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] جاء في تفسير اللمم ما قاله ابن عباس: (ما رأيت شيئاً أشبه في اللمم مما رواه أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والرجل تزني وزناها المشي، واليد تزني وزناها البطش، واللسان يزني وزناه الكلام، والنفس تهوى وتتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .
ولما جاء الرجل الذي لقي امرأة في الطريق ففعل معها كل شيء إلا الجماع ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه حاله، فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، وفي هذا الصدد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، فقال: (ألي خاصة يا رسول الله! أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة) .
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى بمفردها على تكفير الكبائر فمن باب أولى ألا يقوى النفل على تكفير الكبائر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا يقويان -إلا إذا شاء الله- على تكفير الكبائر إلا إذا انضم إليهما شيء آخر؛ فصلاة ركعتين لا تقوى على تكفير الكبيرة، فهذا حدا ببعض الناس أن يعدوها من الصغائر.
فالمسألة إذاً في هذه الجزئية تكاد تكون مسألة خلاف بين العلماء.
يعني: هناك أمور كبيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور صغيرة القول فيها قولاً واحداً، وأمور بين ذلك تنازع فيها العلماء وتجاذبوا فيها الأقوال.(8/3)
معنى تكفير السيئة
إن الله سبحانه وتعالى يقول لعباده: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] نكفر: أصل التكفير التغطية، ومنه قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] الذين يضعون البذرة في الأرض ويغطون عليها، وقول الشاعر: في ليلة كفر الغمام نجومها أي: غطى الغمام نجومها، فأصل التكفير التغطية.
{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: نغطيها ولا نؤاخذكم بها، ففي باب السيئات عفو ومغفرة وتكفير، فالعفو: المحو بالكلية والإزالة، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة:286] فالمغفرة: الستر، والتكفير: التغطية وعدم المؤاخذة.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] .
يعني: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر.
وقد تقدم أن السيئة لها اصطلاحات، وكل اصطلاحٍ يعطي معنىً من المعاني يفهم من السياق الذي وردت فيه كلمة السيئة، وقد تقدم شرح هذا، فقيل: إن السيئات أو السيئة تطلق على الكفر أحياناً.
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] والخلود لا يكون إلا للكفار، وقال سبحانه في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: الجريمة المعهودة وهي من الكبائر، وهنا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: الصغائر.
فوجه الخطأ الذي يخطئ فيه الكثيرون أن يلبسوا اصطلاحاً من الاصطلاحات معنىً من المعاني ليس هو معناه المراد.
فهذا باب يخلط فيه كثير من العلماء فضلاً عن المبتدئين في طلب العلم، وهو أن يلبسوا الاصطلاح معنىً غير معناه الصحيح، وأحياناً تأتي أخطاء أخر نتيجة رواية حديث بالمعنى والخطأ في روايته بالمعنى، أو اختصار الحديث والخطأ في اختصاره، ومن النماذج على ذلك: ما أورده ابن حزم وابن القيم رحمهم الله في مسألة طلاق الحائض: هل إذا طلق الرجل امرأة وهي حائض هل تعتْبر هذه طلقة وتحسب عليه أو لا تحسب عليه؟ فالجمهور من أهل العلم على أنها تحسب عليه طلقة، لقول ابن عمر: (حسبت عليّ طلقة) ، أورد ابن حزم رحمه الله وكذلك ابن القيم رحمه الله أثراً عن ابن عمر وغلطا فيه، وهذا الأثر روياه من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: (وسئل عن طلاق الرجل امرأة في حيضتها؟ قال: لا يعتد بذلك) رويا الحديث مختصراً مقتصراً على هذا اللفظ فقالا: ها هو ابن عمر يفتي بأن طلاق الحائض لا يقع والقصة حدثت له.
وهذا كلام غير مقبول لوجوه: منها: أن ابن عمر نفسه قال: (حسبت عليّ تطليقة) كما في صحيح البخاري، فلما بحثنا عن إسناد الحديث في بعض الكتب في المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة وجدنا الحديث من نفس طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (أنه سئل عن طلاق المرأة وهي حائض قال: لا يعتد بتلك الحيضة) الرواية التي أوردها ابن حزم وابن القيم رحمهم الله وشنعوا بها (لا يعتد بذلك) هذه الرواية التي في المصنف (لا يعتد بتلك الحيضة) وهناك فرق.
(لا يعتد بتلك الحيضة) ما معناها؟ يعني: لا يعتد بأن الحيضة تحسب من الأقراء، يعني: إذا طلقها وهي حائض وبدأت تعتد كما أمرها الله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هل يحسب هذا الحيض الذي طلقت فيه من الأقراء أو لا يحسب؟ فقال ابن عمر (لا يعتد بتلك الحيضة) ولم يقل: (بتلك التطليقة) فوهما رحمهما الله وظنا أنه قصد بقوله: (لا يعتد بذلك) التطليقة.
ولذلك كل الروايات الواردة عن ابن عمر تؤيد أنها حسبت عليه.
كما في الرواية: (فذهب عمر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأمره أن يراجعها وعدّها واحدة) ، أي: أمره الرسول عليه الصلاة والسلام أن يراجعهما.
وهو أقوى مما يقول به ابن حزم.
والشاهد من هذا: أن الاختصار أحياناً قد يخل.(8/4)
معنى اجتناب الكبائر
{إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء:31] الاجتناب: أشد من النهي، والأمر به أشد من النهي المجرد، مثل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فهو أبلغ من النهي، ومنه قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] فالأمر بالاجتناب أشد من النهي المجرد، فيقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] .(8/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به.)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] .
هل الآية على ظاهرها: فلا يجوز لنا أن نتمنى أي شيء أوتيه شخص منا؟ لا.
بل هناك أشياء نتمناها، ورخص لنا الشرع في تمنيها، بل وحثنا على ذلك، مثل: حمل القرآن والعمل به، وإنفاق المال في سبيل الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) .
ويجوز لي -أيضاً- أن أتمنى ذرية صالحة، فإذا وجدت رجلاً عنده ذرية صالحة قلت: يا رب! ارزقني ذرية صالحة، وها هنا يقول عباد الرحمن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] .
إذاً: هناك شيء مراد بالآية: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] والله أعلم ما مراده، ولكن سياق الآية يفيد شيئاً وهو {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] يعني: لا تأتي المرأة تقول: يا ليت لي ميراث كالرجل، أو يا ليتني رجلاً، فـ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] فاقنع بالشيء الذي قدر لك به واسأل ربك المزيد من فضله على وجه الإجمال، لكن لا تتمنى أن تكون امرأة مثلاً، أو أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، أو تتمنى أن يقسم لها في الميراث مثل ما للرجل ونحو ذلك.
والتمني بصفة عامة هو: نوع إرادة يتعلق بالمستقبل، قال الله سبحانه وتعالى لـ عبد الله والد جابر لما قُتل: (عبدي تمنى عليّ فقال: أرد إلى الدنيا فأقتل في سبيلك) ، فهذا نوع من التمني، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لقد وددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل، ثم أحيا فأقتل) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والتمني فيه مسائل ومباحث طويلة لا يسع المقام لذكرها، وقد أفرد البخاري في كتاب القدر من صحيحه: باب ما جاء في اللو.
فهي من أبواب التمني، ويقابله أيضاً التلهف.
قال الله: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [النساء:32] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فوقه في المال والرزق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه هو في المال والرزق) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] * {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] .
في أول الأمر لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون أقاربه، والأنصاري يرث المهاجري، دون أقاربه حتى نزل قوله تعالى على رأي كثير من أهل العلم: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6] فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وبقيت الموالاة والمحبة في الله، وإذا أردت أن تعطيهم شيئاً فأعطهم ما شئت، لكن التوارث أصبح بين أولي الأرحام الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي قوله: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب:6] .(8/6)
تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان.)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:33] .(8/7)
اصطلاحات كلمة الموالي
المولى له اصطلاحات متعددة: إذا أسلم على يديك سمي مولاك، كما قيل في البخاري: إنه مولى الجعفيين؛ لأن جد البخاري -وهو المغيرة - أسلم على يد رجل يقال له: اليمان الجعفي فأصبح البخاري مولى الجعفيين، ولذلك في كثير من التراجم مثلاً تقول: الليث بن سعد أبو الحارث الفهمي مولاهم، أي: هو ليس من القبيلة وإنما هو دخيل على القبيلة، فإما أنه أو أجداده كانوا عبيداً فأعتقوا من هذه القبيلة، أو أسلموا على أيديهم.
فالولاء له اصطلاحات متعددة وكل اصطلاح يفهم من المعنى الذي ورد فيه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في شأن بريرة: (أعتقيها فإن الولاء للعاتق) ، ولذلك يقال: بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها.
فالمولى يطلق على المعتق ويطلق على الذي أعتق، ويطلق على الناصر، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] ويطلق على ابن العم، ويطلق على الجار، فله عدة إطلاقات.(8/8)
معنى: (عقدت أيمانكم)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] والنصيب الذين عقدت أيمانكم.
أي: الذين تحالفتم معهم، وهو غير مضبوط في كتاب الله سبحانه وتعالى، إنما هو يرجع إلى صورة التحالف التي تمت، والوعود التي وعدت، والمكاتبات التي كتبت، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/9)
تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء.)
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] .(8/10)
معنى حفظ المرأة للغيب بما حفظ الله
قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] حافظات لفروجهن في غياب أزواجهن، وحافظات لأموال أزواجهن عند غيابهم، وحافظات للبيوت في غياب الأزواج، وحافظات لما استرعين عليه في البيوت، فحافظات أعم من بعض التأويلات المفردة التي فسرها به بعض العلماء، {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] حافظات لغيب أزواجهن، وحافظات لفروجهن في حال غياب أزواجهن.
حافظات للغيب، ليس بقوتهن إنما هو بما حفظ الله، فـ {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] أي: المحفوظة من حفظها الله، والمرأة لا تستطيع أن تحفظ فرجها إلا إذا ثبتها الله سبحانه وتعالى على ذلك، حتى لا تغتر امرأة بقوتها وأنها صارمة في البيت، فالذي ثبتها هو الله، والذي حفظها هو الله.(8/11)
أسباب قوامة الرجل على المرأة
هذه الآية أصل في القوامة -قوامة الرجل على المرأة- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فأفادت الآية الكريمة: أن الرجال قوامون على النساء بشيئين: الشيء الأول: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] أي: من الذكورية التي يؤتاها الرجل والقوة والعقل والجلادة والصبر ونحو ذلك، وهذا الشيء المرأة لا تناله، فجبلتها لا تساعدها على ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل؟) فعقلها لا يكافئ عقل الرجل، وقد قال الله فيهن: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وكذلك حزمها لا يكافئ حزم الرجل، فكما قال القائل: إذا أمرت أن تقطع يد سارق وتحسمها في الزيت، فإذا جاءت تقطع يد السارق وبكى أمامها، أو وضعت يده في الزيت وبكى أمامها هربت وتركت القطع والحسم في الزيت، فجبلة الرجل غير جبلة المرأة، وقد قال الله تبارك وتعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)) [النساء:34] بشيئين: - {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] من ناحية القوة والعقل والاتزان والرزانة وما آتاه الله الرجل في جبلته.
الشيء الثاني: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] , في الصداق والنفقة في المعيشة.
ومن ذلك -كما قدمنا سالفاً- أن المرأة إذا كانت هي التي تنفق على الرجل فهي تنازعه القوامة، وصحيح أن الله فضله عليها بأشياء جبلية، لكن هي بدأت تنازع بالإنفاق عليه من أموالها، فلكي يكون الرجل تام القوامة على امرأته لابد أن يكون هو الذي ينفق، وهو الذي يرشد ويوجه، أما إذا شاركت هي بشيء وهذا جائز، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زينب امرأة عبد الله بن مسعود: (زوجك وولدك أحق من تصدقتي عليهم) إذا شاركت فقد نازعت في القوامة.(8/12)
معنى قنوت المرأة لزوجها
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] أي: مطيعات.
استدل هذه الآية على مشروعية خدمة المرأة لزوجها، لأن الصالحات قانتات -أي: مطيعات- فإذا أمرها أن تطيعه أطاعته، ومن العلماء من أوردها فيما يستدل به على وجوب خدمة المرأة لزوجها وليس على المشروعية فحسب بل على الوجوب لكن الآية ليست صريحة في إيجاب خدمة المرأة لزوجها، إنما قوله: {قَانِتَاتٌ} [النساء:34] وإن قررنا أن معناها: مطيعات، فمطيعات في أداء الحق الذي للزوج عليها، ولسن مطيعات على الإطلاق إنما للزوج عليها حق، ولنفسها عليها حق، ولربها عليها حق، ولرحمها عليها حق، فهي قانتة مطيعة للزوج في الذي له عليها، ولو قال: إنها مطيعة للزوج في كل شيء، إذا أمرها مثلاً بشيء ليس من حقه بل هو من حق الله فلا تطيعه، وإذا أمرها أن تأخذ من حاجبها -مثلاً- لا تطيعه ولا كرامة، فالرسول لعن النامصة المتنمصة، وإذا أمرها أن تعطيه كل مالها أو شيئاً من مالها فلها أن ترفض؛ لأن هذا المال حقها، وإذا قال لها: اصبري عليّ حتى أضربك، بلا سبب، فليس له ذلك؛ لأن هذا بدنها ولا تستحق أن تضرب إلا إذا كان ثم سبب يستدعي ذلك، فلما كان المال من حقها كذلك بدنها من حقها.
إذاً: الآية ليست صريحة في إيجاب الخدمة على الزوجة، وإلا لقال لها الزوج: اعملي في حمالة للحجارة، فلا نستطيع أن نوجب الخدمة لهذه الآية الكريمة.
والأثر الوارد عن علي رضي الله عنه الذي احتج به بعض العلماء على إيجاب خدمة المرأة لزوجها، والذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على علي بالخدمة الظاهرة وعلى فاطمة بالخدمة الباطنة) فهذا الأثر مرسل لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ، فراويه عاصم بن ذمرة تابعي لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأثر مرسل، وإنما الثابت في الصحيحين، (أن فاطمة جاءت تشتكي أثر الرحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأله خادماً فقال: هل أدلك على ما هو خير لكِ من خادم؟ تسبحين وتحمدين وتكبرين ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكِ من خادم) فهذا الحديث فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها فقط إلى الخيرية وإلى الأفضل والأكمل.
والمسألة فيها بحث طويل، والجمهور: على أن خدمة المرأة لزوجها على الاستحباب.
نقله عنهم النووي والبيهقي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، ومن العلماء من رد المسألة إلى الأعراف، ومنهم من قال بالوجوب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ)) [النساء:34] أي: مطيعات، وإن لم تكن خدمة المرأة لزوجها واجبة، فهي على أقل الأحوال مستحبة، فإذا خدمته أجرت.(8/13)
نشوز المرأة
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] النشوز: العلو والارتفاع، ومنه الأرض النشز.
أي: المرتفعة والعالية، فمعنى الآية: اللاتي تخافون علوهن وارتفاعهن على أوامركم {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] .
(الواو) في الحقيقة ليست في كل الأحوال تفيد الترتيب وإنما تفيد مطلق التشريك، جاء زيد وعمرو، ليس معناه أن زيد جاء ثم بعد يوم أو ساعة جاء عمرو ولكن يمكن أن يكون زيد جاء مع عمرو في وقت واحد.
أكلت خبزاً ولحماً، ليس معناه أنك أكلت خبزاً ثم أكلت لحم، بل قد تأكل خبزاً مع لحم؛ فعلى ذلك يجوز أن يُقدم شيء على آخر إذا دعت الحاجة أو الضرورة لذلك، وإن كان الأسلم على التقعيد أن تقدم الموعظة والتذكير، ولكن شاهدنا (أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء يوماً من خارج البيت فوجد عائشة معلقة خميصة سترت به الجدار فيها تصاوير، فغضب عليه الصلاة والسلام ولم يسلم عليها حتى خرجت هي وقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت يا رسول الله؟ فقال لها: إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) (وجاء النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً عندما رجع من البقيع وكانت عائشة تتابعه لما خرج إلى البقيع وتركها نائمة، فظنت أنه خرج عند بعض نسائه، فجلست تبحث عنه ثم ذهبت إلى البقيع فلما رأته قد رجع قفلت راجعة فجاءها وهي تلهث، فقال: يا عائشة! لعلك السواد الذي رأيت؟ قالت: نعم يا رسول الله) والحديث فيه: (أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ فلهدني لهدة أوجعتني) .
فالشاهد: أن الشخص قد يسلك مسلكاً قبل مسلك آخر إذا احتيج إلى ذلك كأصحاب المعاصي بصفة عامة، فأصحاب المعاصي يجوز أحياناً أن تقدم التذكير، لكن إذا كان فاعلها يعلم أنها معصية وتمادى في فعلها فيجوز لك أن تسلك معه مسلكاً أقوى من مسألة النصح أحياناً، ويكون هذا المسلك في نفسه نصحاً وإرشاداً.
والله أعلم.(8/14)
ضرب المرأة عند نشوزها
قال تعالى: ((فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)) [النساء:34] هل تقتص المرأة من الزوج إذا ضربها مثلاً بيده؟ لم يرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصت منه أزواجه في شأن الضرب عليه الصلاة والسلام، وقد ورد حديث ضعيف في سبب نزول الآية (أن سعد بن الربيع ضرب زوجته أو لطمها فجاءت تشتكي إلى رسول الله، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يجعلها تقاد منه -أي: تقتص منه- فنزلت الآية: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [النساء:34] ) ، ولكن سبب النزول هذا ضعيف، ويكفي في القول بأنها لا تقتص منه قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ولم يرد أنها تضرب زوجها.
قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34] إذا أطاعتك المرأة فيما لك عليها {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] أي: ليس لك طريق تصل إليها منه تضربها بسببه، أي: إن أطاعتك فيما يرضي الله فقد سدت عليك كل الطرق الموصلة إلى ضربها، فإذا بغيت عليها فالله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فجاء بصفة العلو هنا ليخبرك -أيها الظالم الذي تضرب زوجتك دون سبب- أن هناك من هو أقوى وأكبر منك وأقدر عليك منك على زوجتك، {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] ، فإن بغيتم عليهن سبيلاً فـ ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)) ، يعني: إن ربك لك بالمرصاد أكبر منك وأعلى.
فلذلك لكل ختام الآيات مدلول في الآية نفسها، أي: تنزيل الآية بصفة العلو ووصف الله سبحانه وتعالى لذاته بأنه كبير؛ لفائدة تحمل معنى التهديد والترهيب لمن اعتدى على زوجته بغير سبب، يعني: لا تبغي عليها وتستذلها وتضربها بلا سبب فإنك إن فعلت فاعلم أن الله كان علياً كبيراً، وهو قادر على الانتقام منك، والبطش بك سبحانه وتعالى.(8/15)
هجر المرأة في المضجع عند نشوزها
قال الله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] من العلماء من قال: أدر ظهرك لها وهي نائمة.
أي: حول وجهك إلى الجهة الأخرى.
ومنهم من قال: ابق معها في المضجع ولا تكلمها.
ومنهم من قال: ابق معها في المضجع ولا تجامعها، ومن أهل العلم من قال: اترك المضجع جملة واحدة.
وهل يجوز الهجر خارج البيت ورد حديث نوزع فيه (ولا تهجر إلا في البيت) ولكن قد ثبت (أن النبي عليه الصلاة والسلام -لما هو أقوى سنداً من هذا الحديث- هجر نساءه واعتزلهن في مشربة له) ، وأيضاً (ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت علي فما وجد علياً، فوجد فاطمة فسألها عن علي، فقالت: كان بيني وبينه شيء -يا رسول الله- فغاضبني فخرج، فبحث الرسول عنه فإذا هو نائم بالمسجد وعليه تراب.
فقال له: قم يا أبا تراب) ، فالظاهر: أن الحاجة إذا دعت إلى ترك البيت فعل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/16)
الأسئلة(8/17)
حكم قول الزوج لزوجته: أنت مطلقة بإذن الله
السؤال
ما الحكم في قول الزوج لزوجه: مطلقة بإذن الله؟
الجواب
قال زوج لزوجته: أنتِ مطلقة بإذن الله، الظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم أن في مثل هذا (لمز) ، فيسأل عن نيته.
ومعنى قوله: مطلقة بإذن الله.
أي: سأطلقكِ بإذن الله، أو مآلك إلى أن تكوني مطلقة بإذن الله.(8/18)
حكم الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم
السؤال
هل يفدي الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم إذا أفطر؟
الجواب
إن جئت إلى الأدلة: قال الله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] من هم الذين يطيقونه؟ أهل العلم لهم فيها قولان: الجمهور قالوا: الذين يطيقونه.
أي: يتحملون صومه، فالآية معناها: وعلى الذين يتحملون الصوم ويستطيعون الصوم إذا أرادوا أن يفطروا أفطروا وأطعموا عن كل يوم مسكيناً {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قالوا: على هذا التأويل جاءت الآية لكنها نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] .
ابن عباس قال: الآية ليست منسوخة، إنما المعنى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يتحملون صومه وهو شاق عليهم، فإذا أرادوا أن يفطروا فإنهم يطعمون عن كل يوم مسكيناً، لكن هذا تأويل مخالف لتأويل الجمهور، ثم يعرض عليه أيضاً أن الشيخ الكبير لا يستطيع صومه أصلاً لا بمشقة ولا بغير مشقة.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها شيء فيما علمت في أمر الشيخ الكبير أصلاً، فالآثار عن الصحابة فيها أثر عن أنس بن مالك (أنه لما كبر كان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً) وهذا الوارد الصريح في الباب، لكن قال بعض أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فكيف تلزمون الشخص بشيء في ماله إن لم يلزمه به الله ورسوله، فالرجل مخاطب بالصوم، ولكنه ما استطاع الصوم، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) وهذا لم يستطع الصوم ولا القضاء في عدة من أيام أخر، والآية ليست صريحة، إنما الجمهور قالوا فيها ما تقدم إذا كان فعل الصحابي أنس بن مالك فإن شئت أن تختر فعله لنفسك فاختر فعله لنفسك، لكن لا تلزم به غيرك من المسلمين.
هذا الحاصل في هذا الباب، فإن أراد الشخص أن يفعل بفعل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ويفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان شيخاً كبيراً فعل، وإلا فلا فليس هناك دليل صريح ملزم أصلاً.
ويلحق بهذا: المريض مرضاً مزمناً فهو لا يستطيع الصوم ولا القضاء مطلقاً، فهذا لا نستطيع أن نلزمه بشيء، قال الله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] قال المريض: أنا أصبر إلى أن تأتي أيام أخر، ولكن مرضي لا يرجى برؤه مطلقاً، فلا دليل على إلزامه بالإطعام فيما علمت لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/19)
حكم أخذ المال ممن يعمل في بنك ربوي أو الأكل من طعامه
السؤال
ما حكم ما يقدمه لي رجل عندما أزوره أو يعطيني على سبيل الهدية إذا كان هذا الرجل يعمل في بنك ربوي؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام دعته امرأة يهودي إلى شاة مسمومة فأكل منها عليه الصلاة والسلام، فإذا كنت تذهب بنية نصحه وإرشاده، أو تأليف قلبه لعمل خير جاز لك، لأن نصحه مطلوب منك، فاليهودية لما دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -واليهود أموالهم مشتبهة- أكل عندها ولم يستفسر، فبالنسبة للرجل الذي يعمل في البنك فعلمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وكاتبه وموكله وشاهديه) لكن هل المال الذي أخذه مقابل عمل أداه حرام؟ هذه المسألة شائكة بعض الشيء بين العلماء، فالربا نفسه محرم وكاتبه ارتكب جرماً وإثماً، لكن هل الأجرة التي ويحصل عليها حرام قولاً واحداً، والمفروض أن يحرقه؟ أو أن أخذ المال مقابل الكتابة والأجر صحيح.
الأحوط للشخص أن يترك ذلك قولاً واحداً، وآكل الربا وكاتبه ملعون، لكن بالنسبة لك إذا ذهبت إليه فالظاهر -والله أعلم- أنه إذا دعت الضرورة إلى ذلك جاز لك أن تشرب عنده الشاي، وأن تأكل عنده اللقمة، وهذا اجتهاد مني إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أصبت فمن الله.(8/20)
صحة أثر عمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عند يهودي أجيراً
السؤال
ما صحة الأثر المتداول بين الناس بأن علياً كان يعمل عند يهودي؟ الشيخ: هذا الأثر المتداول: أن علياً كان يعمل عند يهودي وكان يستخرج له دلواً ويعطيه تمرة مقابل الدلو، لم أقف له على سند، لأن كثيراً من الآثار تحتاج إلى النظر في أسانيدها، فالمسألة التي ذكرت مسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق.(8/21)
مسألة مشاركة الجني للإنسي في الطعام وغيره
السؤال
إذا أصيب الإنسان بمس من الجن، فهل الجن يشترك معه في كل شيء حتى الطعام؟
الجواب
لا أعلم في هذا شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/22)
اختلاف العلماء في دوران الأرض
السؤال
{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] هل في هذا دليل على أن الأرض ساكنة لا تتحرك؟
الجواب
ليس صريحاً، في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] في هذه الآية مبحث دقيق حيث أن (الواو) في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88] هل هي: واو الابتداء أو واو العطف؟ الآية التي قبلها تتحدث عن يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى} [النمل:87-88] هل الواو هنا عاطفة؟ يعني: وترى يوم القيامة الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، أو هي بدائية، وترى الآن الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب؟ من العلماء من يقول: إن هذا يوم القيامة ويستأنس بقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20] فإن قال قائل: يوم القيامة ترى الجبال تحسبها جامدة.
أي: يوم القيامة أنت إذا نظرت إلى الجبال تراها جامدة أمامك بنص الآية الكريمة، لكن رب العزة قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] فيراها الرائي وهي كالعهن، فالخلاف اللغوي في تحديد الواو في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88] هل هي واو العطف وأن ذلك يوم القيامة أم هي واو الابتداء ويكون عليه التفريع الوارد في هل الأرض ثابتة أو متحركة؟! كما تقدم.
فمثلاً: في قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] الواو في قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] هل هي واو ابتداء أو واو الحال؟ يعني: لا تهنوا وتدعوا إلى السلم في حال كونكم أعلون، أو لا تهنوا وتدعوا إلى السلم مطلقاً وأنتم الأعلون مستقبلاً.
فهنا (الواو) لا تستطيع أن تحزمها بمجرد العطف إلا إذا تدخلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، ففي سنة الرسول أن الرسول إذا كان ضعيفاً طلب الصلح، ومطلب المصالحة عليه الصلاة والسلام، فلما حاصرته الأحزاب عرض على الأنصار أن يعطي الأحزاب ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتصالح الرسول عليه الصلاة والسلام في عدة مرات مع الكفار، وخالد بن الوليد رضي الله عنه انحاز بالجيش يوم مؤتة، ورجع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالسنة تتدخل لضبط مثل هل الأشياء الدقيقة.
فلذلك المفسر اللغوي أو البلاغي الذي ليس عنده رصيد من سنة رسول الله تجده يسبح مع العقل أو مع اللغة فيفسر بما تقتضيه اللغة وما يقتضيه العقل؛ فيحيد في كثير من الأحيان عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودائماً حجج اللغويين تكون واهية، فقد يأتي بقياس ولكن يؤتى له بقياس أحسن من قياسه؛ فلذلك سنة الرسول تكون ضابطة للمسألة.
هذا بالنسبة لمسألة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] ، فالأدلة فيها من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام قليلة وشحيحة، وما تقدم هو رأي بعض أهل العلم، والجمهور على أن الآية: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] أن ذلك يوم القيامة، وبنوا تأويلهم للواو على ما سمعتموه.
ومن أهل العلم من قال: لا يمنع أن تكون الواو واو الابتداء، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/23)
انتقاد الصحيحين
السؤال
ماذا نقول لمن يضعف حديثاً في صحيحي البخاري ومسلم؟
الجواب
تقدم الكلام على ذلك: وهو أن صحيحا البخاري ومسلم قد تلقتهما الأمة بالقبول إلا أحاديث يسيرة جداً انتقدها الحفاظ كـ الدارقطني وغيره، وهي نسبة لا تتجاوز نصف الواحد في المائة، أي: أن تسعة وتسعين في المائة ونصف صحيح ونصف في المائة ضعيف، فإذا كان المنتقد قد أورد حديثاً من الأحاديث المنتقدة، وقال: العالم الفلاني تكلم فيه فله ذلك، لكن إذا تطاول وأدلى برأيه ولم يورد مستنداً بذلك فقوله مردود عليه.(8/24)
معاملة أصحاب المعاصي
السؤال
ظاهرة مشهورة بين من يعمل في مجال العلاج بالقرآن، وقد فتن أكثر من مرة وأخذ الناس يتحدثون عنه، فما هو العمل معه؟
الجواب
تعامل معه بما يستحق، أي: أن كل شخص له تعامل خاص به.(8/25)
حكم زيارة أقارب الزوجة في مواسم معينة
السؤال
ما الحكم فيما يسمى بالمواسم التي يأتي فيها أقارب الزوجة إلى بيت زوجها؟ وما حكم ما يأتون به من مال أو طعام؟
الجواب
الأولى ترك هذه المواسم وزيارة البنت في أي يوم، أما المواسم فلم ترد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أبداً، ولكن عموم التهادي وارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتزاور وارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قالت عائشة رضي الله عنها: (قد كنا نمكث الشهرين أو الثلاثة في بيت رسول الله ولا توقد في بيوتنا نار، فقيل لها: ماذا كان يعيشكم يا أم المؤمنين؟ قالت: كان لنا جيران وكن نسوة ست وكانت لهم منائح يأتوننا بلبنها) .
أو كما قالت رضي الله تعالى عنها.
فالتهادي من الجيران أو من الأقارب مشروع ومسنون ومستحب، لكن المواسم والثالث والرابع وكل هذا لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه أولى، لكن المال الذي يأتون به حلال.(8/26)
تفسير سورة النساء [35-42]
حرص الإسلام على أن يحفظ كيان الأسرة بكل السبل، وإذا حدث بين الزوجين شجار فقد شرع الصلح، حتى تسير الأسرة إلى بر الأمان.
وقد أوصى الله كل الأمم بوصايا فيها النجاة والسلامة إن هم أخذوا بها، وأولى هذه الوصايا توحيد الله تبارك وتعالى، والإحسان إلى الوالدين إلى آخر تلك الوصايا المهمة، فينبغي علينا ونحن خير الأمم أن يكون لنا القدح المعلى والنصيب الأوفر من الأخذ بها.(9/1)
الإصلاح بين الزوجين في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: يقول الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35] .
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، أي: بين الزوجين.
{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} ، فإذا رأى الحكمان أن يفرقا بينهما فرقا، حتى وإن أبى الزوج وإن أبت الزوجة ما اختاره الحكمان المرسلان من قبل القاضي من أن يفرقا بين الزوجين، أو أن يوفقا بينهما ألزما به، وقد أرسل أمير المؤمنين عثمان معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عباس للإصلاح بين زوجين من قريش أحدهما من أقارب معاوية والآخر من أقارب ابن عباس، ففي طريقهما إلى البيت قال ابن عباس: (لأفرقن بينهما) ، وكان الرجل من أولاد عقيل بن أبي طالب، وكانت المرأة بنت شيبة بن ربيعة، فكانت تفتخر على زوجها أحياناً وتقول مفتخرة بآبائها: (أين الطوال الذين رقابهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل أفواههم؟) يعني: تصف أهلها بالشهامة والجمال، فيقول لها ابن أبي طالب: (هما عن يسارك في النار) ، فأرسل إليهما عثمان معاوية وابن عباس بعد أن اشتد الخلاف بينهما، فقال ابن عباس: (لأفرقن بينهما) فقال معاوية: (ما كنت لأفرق بين شيخين من قريش) ، ففي طريقهما إليهما تصالح الزوج والزوجة وأغلقا الأبواب في وجه عبد الله بن عباس ومعاوية واصطلحا فيما بينهما.
الشاهد: أن الحكمان لهما أن يفرقا ولهما أن يجمعا إن اتفقا على رأي، ويلزمهما أن يصلحا نياتهما، فالله يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فقوله: (إن يريدا) ترجع إلى من؟ قال بعض العلماء: ترجع إلى الحكمين.
ومن أهل العلم من قال: ترجع إلى الزوجين، وليس هناك قرينة قوية توضح من المراد، ولقائل أن يقول: إنها تعم، فإذا أراد الزوج والزوجة الإصلاح وفق الله بينهما، وإن أراد الحكمان الإصلاح أكرمهما الله بأن يصلحا ذات بين الزوجين.
والله تعالى أعلم.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيراً} [النساء:35] .
عليماً بنيات الحكمين الذاهبين إلى الإصلاح، خبيراً بشئونهما.(9/2)
وصايا الله للأمم الأولين والآخرين
جاءت آيات محكمة من آيات الكتاب العزيز لم يتطرق إليها النسخ، ومعناها كما قال كثير من أهل العلم: ثابت في كل الشرائع التي تقدمتنا، وهي آية أطلق عليها بعض أهل العلم: آية الوصايا العشر.(9/3)
الوصية العاشرة: حقوق ملك اليمين
قال الله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] وهم الرقيق، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحظة وفاته، فيقول في ساعة وفاته: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا ولي خادم أحدكم إصلاح طعامه فليناوله اللقمة واللقمتين) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديدكم؛ فمن كان أخوه تحت يديه؛ فلا يكلفه ما لا يطيق، فإذا كلفه فليعينه -وفي رواية- فليلبسه مما يلبس ويطعمه إذا طعم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] ، مفتخراً على الناس بما يوليهم ويعطيهم ويسدي إليهم، مختالاً في نفسه فخوراً على غيره.(9/4)
الوصية التاسعة: حق ابن السبيل
{وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] فابن السبيل له حق، مثلاً: قد يقابلك رجل سمته حسن، ولكن يقول لك: انقطعت بي السبل، وليس معي من المال ما يوصلني إلى بلدي، فليس من مهمتك أن تفتش، وتقول: هات بطاقتك الشخصية، وتجري معه تحقيقاً حتى تعطيه المال، فلابن السبيل حق ثابت في كتاب الله وفي سنة رسول الله، بل هو من مصارف زكوات الأموال.(9/5)
الوصية السابعة: حق الجار الجنب
قال الله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] ولم يقل: الجار الجنب المسلم، ولا الجار ذي القربى المسلم، فالنص عام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن -أقسم ثلاثة أيمان بالله أنه لم يؤمن- قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) ولم يذكر الجار المسلم أو غير المسلم، والله لا يؤمن ثلاث مرات يقسمها رسول الله على (الذي لا يأمن جاره بوائقه) ، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزنا وشنع على فاعله، ولما جاء إلى الزنا بحليلة الجار كان التشنيع أعظم، فذكره في عظائم الكبائر، قال: (أن تزني بحليلة جارك) مع أن كل الزنا حرام، لكن لأنك انتهكت حرمتين: حرمة الفرج المحرم، وحرمة الجار فكان التغليظ أشد.
قال الله سبحانه وتعالى: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) [النساء:36] قال بعض العلماء: الجار الجنب هو الجار الذي لا تربطك به قرابة.(9/6)
الوصية الثامنة: حق الصاحب بالجنب
قال الله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] قال كثير من أهل العلم: إنه الرفيق في السفر، فالرفيق في السفر له حق عليك، وقد ذكر العلماء مروءات الصحبة في السفر، فقالوا: من مروءات السفر: بذل الزاد للإخوان.
يعني: إذا سافرت مع شخص فإن كرمك ومروءتك تظهر إذا كنت تطعم هؤلاء الإخوان الذين معك في السفر، وقلة الخلاف معهم؛ فإذا كنت مسافراً فلا تكثر الخلاف على إخوانك الذين تسافر معهم، وكثرة المزاح في غير مساخط الله سبحانه وتعالى، فذكر أهل العلم: أن من مروءات السفر هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) وفي رواية: (فإنه أعظم لأجره) وقد كان أنجشة العبد الحبشي يحدو ويغني لإبل رسول الله في أثناء السفر حتى كانت الإبل تسرع إسراعاً شديداً، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك يا أنجشة! رفقاً بالقوارير) ، فمن مروءات السفر: كثرة المزاح في غير مساخط الله، وقلة الخلاف، وبذل الزاد للإخوان.
ومن مروءات الحضر: كثرة اتخاذ الإخوان الصالحين، وعمارة المساجد، يعني: كثرة المكث في المساجد وكثرة ذكر الله عز وجل.
لقد أوصى الله بالصاحب في السفر في قوله: ((وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)) .(9/7)
الوصية الخامسة: الإحسان إلى المساكين
قال الله: {وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] قد يطلق على الرجل مسكين وهو يمتلك أشياء، فقد يكون للرجل سيارة أجرة يتكسب عليه وهو مع ذلك في عداد المساكين إذا كان دخل التكسي لا يكفيه هو وأسرته.
ودليل ذلك من الكتاب والسنة: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] الشاهد: أنهم مع كونهم يمتلكون سفينة إلا أنهم أطلق عليهم أنهم مساكين، وكذلك قد يكون لشخص فلاح قطعة من الأرض تقوم بمائة ألف، ومع ذلك هو مسكين؛ لأن دخل الأرض لا يكفي القيام على أسرة مكونة من عشرة أو ثمانية أفراد، فيدخل في عداد المساكين الذين تحل لهم زكوات الأموال.(9/8)
الوصية السادسة: حق الجار ذي القربى
قال الله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] والجار أيضاً له حق، (والجار ذي القربى) يعني: الجار الذي تربطك به قرابة، ويربطك به دين وتربطك به جيرة، وكم حد الجيرة؟ من أهل العلم من يقول: إن الجار إلى أربعين باباً، والحديث بهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة أن الجيرة أمر نسبي، فأنت مثلاً هنا في المنصورة تقول على الذين هم في شارعك جيران، إذا خرجت إلى القاهرة وسئلت: من أين أنت؟ تقول: أنا من المنصورة، وإذا رأيت شخصاً من المنصورة تقول: هو جاري، وإن كان بينك وبينه مسافات طويلة، إذا كنت في البرازيل أو استراليا وعرفت شخصاً من مصر أو من الشرق الأوسط قلت له: نحن من بلاد واحدة، فالأمر في الجيرة أمر نسبي، ورب العزة يقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] فأطلقت الجيرة هنا على كل أهل المدينة.
وقد جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على إكرام الجار، والنصوص التي أتت في الحث على إكرام الجار لم تقيده بالجار المسلم، فعلى ذلك إذا كان جارك يهودياً أو نصرانياً يلزمك الإحسان إليه كذلك، مادام ليس محارباً لك، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] .(9/9)
الوصية الرابعة: الإحسان إلى الأيتام
قال الله: {وَالْيَتَامَى} [النساء:36] فاليتيم له حق، وحقه الإكرام، كما قال تعالى ناقماً على قوم: {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] واليتيم: من مات أبوه، أما من ماتت أمه فلا يطلق اليتم عليه اصطلاحاً، إنما اليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ الحلم، فإذا كان قد بلغ الحلم أو أنزل فلا يعد يتيماً.
وكذلك الإحسان إلى اليتامى ليست من وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله، وهذا ليس انتقاصاً أبداً، إنما هو بيان كيف تؤخذ الأمور، والبشر تفوتهم أشياء، ولكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، فأحياناً العالم يقول كلمة تكون مناسبة وموائمة في زمانه ولكنها لا تصلح للزمان الذي بعده؛ فالإمام أحمد مثلاً كان يقول في أهل البدع: (بيننا وبينهم الجنائز) أي: إذا متنا نحن وماتوا هم فانظروا كم سيحضر جنائزنا وكم سيحضر جنائزهم؟ هذه المقالة كانت موفقة في زمن الإمام أحمد فالناس كانوا يحبون السنة، أما لما مات جمال بن عبد الناصر كم حضر جنازته؟ ملايين من البشر ومنهجه سني، ولكن انظر إلى الخميني لما مات وهو شيعي رافضي كم حضر جنازته؟ فالعبرة دائماً بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.(9/10)
الوصية الثالثة: حقوق ذوي القربى
قال الله: {وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] فالأقارب أيضاً لهم حقوق كما أن الأبوان لهم حقوق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون؛ إلا أن لهم رحماً سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، ومعنى هذا الحديث: أن لهؤلاء الناس الذين ذكروا رحم سأبلها ببلالها، ومعنى سأبلها ببلالها كما قاله الشراح: أن الرحم كجلد الشاة اليابس، فجلد الشاة بعد أن تذبح يكون يابساً وإذا بل بالماء لان في يدك، فكذلك الأقارب إذا لم يبلوا ويوصلوا أصبحوا عسرين في يدك، فإذا جئت تعرض عليهم رأياً لم يقبلوا لك رأياً، لكن إذا وصلتهم بالهدايا والكلمات الطيبة لانوا في يديك وأصبحت تحركهم كيفما شئت، تخيل أن لك قريب تهدي له وتصله وإذا مرض عدته، تخيل كيف يكون في يديك إذا أمرته بأمر؟ سيكون ليناً مطيعاً.
أما من لا تصله ولا توده ولا تهدي إليه، تخيل أنك ذهبت تطلب منه شيئاً أو تأمره بأمر؟ فيكون شاقاً عليك وصلباً في يديك.
وينتبه أيضاً أن لذي القربى حق وإن كان مشركاً كافراً بالله، فقد جاءت أسماء إلى رسول الله وقالت: (يا نبي الله: إن أمي أتتني وهي راغبة -أي: وهي مشركة- أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال: نعم صلي أمك) فللأقارب حق وإن كانوا أهل شرك، فرب العزة يقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] ، فدل ذلك على أن القريب له حق، وهذا الحق ما تعارف عليه الناس وما تعارف عليه علماء المسلمين في عهد الرسول ومن بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.(9/11)
الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين
قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ، أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وتقدم أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين يأتي في كثير من الآيات والأحاديث عقب الأمر بعبادة الله، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أي الأعمال أحب إلى الله يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين) .
فالأمر بالإحسان إلى الوالدين تظافرت عليه نصوص الكتاب والسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لما صعد إلى المنبر: (رغم أنف امرئ، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رجل أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة) ، ولا يخفى عليكم أن عيسى عليه الصلاة والسلام من أول الكلمات التي تكلم بها في المهد أن قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32] بعد قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:30-32] ، وقال سبحانه في شأن يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14] ، ولا يخفى عليكم أن أحد الثلاثة الذين انسدت عليهم الصخرة في الغار وتوسل كل واحد منهم إلى الله بصالح عمله فقال أحدهم: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أذهب وأحلب لهما غبوقهما، وإنه نأى بي المرعى يوماً فرجعت إليهما وقد ناما والحلاب في يدي -القدر الذي به اللبن- فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون عند قدمي من الجوع -يعني: الصبية يتلوون من الجوع عند رجله وهو لا يريد أن يوقظ أبويه ويزعجهما من النوم ويكره أن يسقي الأولاد قبلهما فبقي كذلك طول الليل حتى طلع الفجر- اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ففرج الله سبحانه وتعالى عنهم بعض ما هم فيه.
ولا يخفى عليكم أيضاً أن أم جريج استجيبت دعوتها على ولدها إذ نادته وهو يصلي فلم يجبها وما منعه من إجابتها إلا الصلاة؛ إذ نادته فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، ثم أتته في اليوم الثاني والثالث وقالت: يا جريج! قال: يا رب أمي وصلاتي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -أي: الزواني عياذاً بالله- فما مات حتى جاءته امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، اتفق معها بنو إسرائيل على أن تفتن جريجاً، فقالت لهم: إن شئتم فتنت جريجاً، قالوا لها: افعلي، فذهبت تطلب منه الزنا فأبى، فذهبت إلى راع فمكنته من نفسها فزنى بها وحملت وولدت، وجاءت قومها بالولد، فقالوا لها: ممن هذا؟ قالت: من جريج، فأتوا إلى صومعته وأهانوه وضربوه ودمروا صومعته، فاستجيبت دعوة أمه إلا أن الله أكرمه ونجّاه؛ لأنه كان في صلاة، فقال: أين الغلام؟ فأتي به، فقال: يا بابوس! من أبوك؟ قال: أبي هو الراعي، فأكرموه وبنوا له صومعته، وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب بنيناها، فقال: لا، ولكن من طين كما كانت.
الشاهد: أن دعوة أمه استجيبت؛ لذا جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، فإذا كان هناك رجل يؤذي والديه: يضربهما أو يسبهما، فهو أخطر وأجرم من رجل يسرق أموال الناس، فالعاق أشد جرماً من هذا السارق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور) .
فالذي يؤذي والديه أشد إثماً وجرماً من اللص الذي جلس يقطع الطريق ويسرق الناس، وليس معنى هذا تسهيل السرقة ولكن بيان جرم العقوق.
أضف إلى ما سبق أن العلماء بوبوا بباب: إذا طلب الأب من ولده أن يطلق زوجته هل يطلقها؟ في المسألة تفصيل: ففي قصة عمر قال عبد الله بن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت فذهب إلى رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها، فطلقتها) وجاء الخليل إبراهيم إلى زوجة ابنه إسماعيل فلما رأى منها عدم شكر نعم الله عليها، ورأى منها تسخطاً، قال لها: إذا جاء إسماعيل فأخبريه أن شيخاً كبيراً جاء إليه وهو يقرؤه السلام، ويقول له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وأخبرته، قال: هذا الشيخ أبي، وأنت عتبة الباب، وأنت طالق، الحقي بأهلك.
فأخذ منها بعض الفقهاء: أن الأب إذا أمر ولده بتطليق زوجته فطلقها، لكن محل ذلك إذا كان الأب صالحاً، والباعث له على التطليق أمر شرعي، أما إذا كان الأب فاجراً أو فاسقاً ويأمر بطلاق المرأة لدينها؛ فرب العزة يقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، وكذلك الأم؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها لما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فكذلك الحكم بالنسبة للأم.
قال الله جل ذكره: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [النساء:36] فهذه وصايا، ولأن البشر يخطئون ويصيبون لم نجد في الوصايا العشر للإمام حسن البنا الأمر بالإحسان إلى الوالدين مثلاً، فدل ذلك على أنه لا تعتمد إلا وصايا ربنا ووصايا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن شاء أن يوصي فليوص، لكن لا تكون وصاياه شرعاً متبعاً عاماً لكل الناس يتعبد بها ويتغنى بها في التمثيليات والمسرحيات والمجالس والملاهي؛ فكل بشر يخطئ ويصيب.
وقد أراد الخليفة العباسي رحمه الله أن يجمع الناس على موطأ الإمام مالك، ويلزمهم بذلك، من هو الإمام مالك؟ مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، لكن من شدة إنصاف الإمام مالك وحرصه قال: يا أمير المؤمنين! إن الناس قد جمعوا أشياء لم نقف عليها، ووقفوا على أمور لم نقف عليها، فدع الناس ولا تلزمهم باتباع الموطأ ولا غير الموطأ.
وكانت كلمة موفقة منه رحمه الله تعالى.(9/12)
الوصية الأولى: عبادة الله وحده لا شريك له
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، وفي سورة الأنعام قال الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] ، هذه هي الوصايا العشر لا وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله، فـ حسن البنا وصاياه ليست شرعاً يتدين به، فهو يصيب ويخطئ، ويجهل ويعلم رحمه الله تعالى.
وحسبنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن كانت ثمّ وصايا لبعض البشر فلتكن وصايا أصحاب رسول الله قبل وصايا الإمام حسن البنا، ولتكن وصايا التابعين وهم خير القرون بعد الصحابة خير من وصايا حسن البنا رحمه الله، ولتكن وصايا الأئمة كـ الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله قبل وصايا الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، وليس في هذا انتقاص له ولكنه تنزيل للأمور منازلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن هذه الوصايا التي ذكرت عن الإمام حسن البنا رحمه الله ليست وصايا في مسائل نازلة، إنما هي مسائل قديمة، مثلاً: من الوصايا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ، لكن هل هذه الوصية تعد من أصول الدين أم أن هناك أشياء أخرى أولى منها وقبلها؟ لا شك أن هناك أمور أخرى أولى منها وقبلها، وهي المذكورة في هذه الآيات.
فالشاهد: أننا لا نتدين بوصايا إلا وصايا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكتاب ربنا بين أيدينا هو حسبنا مع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن كان ولابد من وصايا فوصايا الأئمة المهديين خير القرون أولى من غيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأول وصية من هذه الوصايا العشر: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] هذه أصل الوصايا وأصل الدين، بل أصل الأديان كلها منذ أن خلق الله آدم إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه أولى الوصايا، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل عالم الصحابة بالحلال والحرام، قال: (يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) فمن ثم كان الأمر بعبادة الله أصل الوصايا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذا أصل الدين.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في جملة أحاديث أن من عمل عملاً أشرك فيه أحداً مع الله تركه وشركه، قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فهل المراد بقوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الرياء، أو نفي الشريك مطلقاً سواء كان الرياء أو عبادة آلهة آخرى مع الله؟ الآية عامة، فتنفي الشركاء لله وتنفي أيضاً التوجه بالأعمال إلى غير الله سبحانه وتعالى، فيدخل فيها الرياء كما يدخل فيها عبادة آلهة مع الله، والرياء لا يكاد ينجو منه شخص؛ فمن ذلك: ما روي عن أبي عبد الله المروزي وسأله سائل: متى دخلت البصرة يا أبا عبد الله؟ قال: دخلتها منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال له القائل: سألتك عن مسألة واحدة وأنت أجبتني عن مسألتين، فلماذا أجبت عن مسألة لم أسألك عنها؟ فكأنه أشار إليه أن ما ذكرته أنت يا أبا عبد الله حين قلت: وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فيه نوع من العجب والرياء والتكاثر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كما تقول لقائل: صلاتك حسنة، فيقول لك: وأنا مع ذلك صائم والحمد لله، نعم أنت صائم ولكن لله، وأنا ما سألتك عن الصيام! وكما يحدث أيضاً لأهل العلم عندما يلقي محاضرة أو خطبة جمعة وتكون جيدة موفقة فيقول: ومع ذلك لم أحضر الخطبة، فتقول: ما سألناك عن تحضيرك للخطبة أو عدم تحضيرك! فاجعل نيتك لله سبحانه وتعالى، وهذه دقائق أمور ينبغي أن يلتفت إليها العاملون لله سبحانه وتعالى حتى لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، ويستشف هذا من نور الله بصيرته وزين قلبه بزينة الإيمان.(9/13)
ذم البخل في الكتاب والسنة
قال الله: {الَّذِينَ يَبْخَلُون} [النساء:37] البخل أنواع: النوع الأول: بخل بالزكوات المفروضة؛ فالذي يبخل بالزكاة المفروضة عليه في ماله يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاته؛ مثّل له يوم القيامة شجاع أقرع يتبعه وهو يفر منه فيلتفت إليه فإذا هو يتبعه، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا كنزك أنا مالك، وهو يفر منه ولا يستطيع الفرار، ثم يمد يده إليه فيقضمها كما يقضم الفحل) يعني: ثعبان عظيم يتبع مانع الزكاة، ويجري خلفه ويلاحقه ويطارده، وهو يقول: من أنت؟ فيقول: أنا مالك أنا كنزك، حتى يعطيه يده فيقضمها كما يقضمها الفحل، عياذاً بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار فيكوى بها وجهه وجبينه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ما من صاحب إبل لم يؤد زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر؛ فتطؤه بأخفافها وقرونها وأظلافها، فإذا مرت عليه أولاها مر أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ، هذا بالنسبة للبخل بالزكاة المفروضة.
النوع الثاني: البخل بالصدقات؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع عليه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) ، يعني: يدعو على الممسك بأن يتلف الله عز وجل أمواله.
وهناك صور أخرى للبخل: كالبخل بالسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبخل الناس من بخل بالسلام) لأن السلام لن يكلفك شيئاً.
ومنه: البخل بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي) وجاء بنوا عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من سيدكم يا بني عمرو؟ قالوا: الجد بن قيس على أننا نبخله يا رسول الله، قال: وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم فلان) ، ووصف لهم سيداً آخر ليس ببخيل.
قال الله: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ)) .
أي: لا يقف بخلهم على أنفسهم بل {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : محتمل أنهم يكفرون بنعم الله عليهم، أو يخفون نعم الله عن الفقراء، كما تواطأ أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ، فإظهار نعم الله يطلب أحياناً، فمثلاً: من حق الإبل أن تحلب في المكان الذي تشرب فيه الإبل الماء، ويعطى للفقير وللمسكين من لبنها.(9/14)
إنفاق الأموال في مصارف الخير
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:38] أي: طلباً لإظهار معروفهم أمام الناس.
ما حكم إظهار المعروف الذي يصنعه الشخص أمام الناس؟ قد يكون ذلك الإظهار أحياناً رياءً محرماً، وقد يكون أحياناً سنة مستحبة، وقد يكون الإخفاء أحياناً أعظم أجراً وثواباً، وكل ذلك مترتب على النية والملابسات المحيطة بالصدقة، فإذا كنت تتصدق وتظهر صدقتك طلباً لنيل الثناء والحمد من الناس فهذا حرام، وإذا كنت تريد بإظهار صدقتك تشجيع الناس على الصدقة فهذا حسن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما حث أصحابه على الصدقة وقام رجل وتصدق وتبعه الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، وإذا لم يكن ثم هذا ولا ذاك، فالإخفاء أفضل، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271] .
قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) [النساء:38] صديقاً ومحاسباً، (فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] فبئس القرين، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38] .
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:39] أي: ما يضرهم إذا آمنوا بالله واليوم الآخر، {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء:39] .
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] فهذه الآية خبر يقتضي الحث على فعل الخير، فالله يخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، والمراد من هذا الخبر: التشجيع على فعل الخير، فإذا كان الله لا يظلم مثقال ذرة فبادروا بالصدقات وفعل المعروف.
{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] .(9/15)
شهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم
قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] يشهد على هذه الأمة.
{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، وعند هذه الآية بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تذكر أنه سيأتي شهيداً على أمته الذين يكذبونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن مسعود: (اقرأ علي القرآن، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟) وفيه دليل: على أن الفاضل قد يستمع من المفضول، (فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41-42] فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وقال لـ ابن مسعود: حسبك) ، وهنا أخذ بعض العلماء: أن توقيف القارئ يكون بقولنا له: حسبك، كما قال الرسول لـ ابن مسعود، أما إتباع كل قراءة بصدق الله العظيم فليس هذا بلازم، بل ليس بوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن كان الله هو أصدق القائلين ولا يشك في ذلك إلا كافر، لكن اتباع الهدي خير للعبد وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فيشهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته شهادات خاصة أحياناً وشهادات عامة أحياناً أخرى، فالرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ذهب إلى قتلى أحد فصلى عليهم كالمودع لهم وقال: (اللهم إني شهيد عليهم) .
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب فأسلم واتبعه، وجاهد معه، وأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قسطاً من المغانم، فرد الرجل المغانم إلى رسول الله وقال: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذا قسمك ونصيبك من المغانم، قال: والله يا رسول الله ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أقاتل معك فيأتيني سهم فيدخل من هاهنا -وأشار إلى رقبته- ويخرج من هاهنا فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يصدق الله يصدقه، فخرج إلى القتال فأصيب بسهم في الموضع الذي أشار إليه بإصبعه وخرج من الجانب الذي أشار إليه، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق الله فصدقه الله سبحانه وتعالى، ثم دفنه وقال: هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك، اللهم إني شهيد عليه) .
وكما أن هناك شهادات خاصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، فهناك شهادات منه عليه الصلاة والسلام لعموم أمته، فيشهد لعموم الأمة بأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيأتونه غراً محجلين من آثار الوضوء، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب: (يا عمي! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله) وفي رواية: (أشهد لك بها عند الله عز وجل) فلم يقل هذا أبو طالب ومات على الكفر بعد أن قال: هو على ملة عبد المطلب، فالرسول يكون شهيداً على أمته، وكل نبي يشهد على أمته، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تصدق النبيين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله سبحانه وتعالى لنوح يوم القيامة: يانوح! هل بلغت؟ يقول: نعم يارب، فيقول الله لقومه: هل جاءكم من ندير؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول: محمد وأمته، فتقوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنوح بأنه قد بلغ قومه) تصديقاً لكتاب الله وتصديقاً لما أخبر نبي الله، وفي هذا يقول تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] .
ثم قال الله تعالى يصف عصاة الرسل عليهم الصلاة والسلام: ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)) [النساء:42] .(9/16)
الأسئلة(9/17)
الشجرة التي أكل منها آدم
السؤال
قال لي دكتور في الكلية وهو يشرح الدرس: بأن الشجرة التي أكل منها آدم والتي خرج بسببها من الجنة هي شجرة القمح، فهل هذا صحيح؟!
الجواب
ليس هناك دليل على أنها شجرة القمح ولا شجرة التين ولا غيرها من الأشجار، والاقتصار على الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله أولى، ويطالب كل من تكلم بقول بأن يأتي بمستنده من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يأت بمستند وإن كان دكتوراً أو شيخاً عالماً واعظاً؛ فكلامه مردود بالكتاب والسنة.
والله أعلم.(9/18)
جواز المطالبة بالإرث ولو بالمحاكم
السؤال
رجل قبل أن يموت قام بتقسيم تركته، فكان نصيب الرجل ثمانية قيراط، والبنت أربعة قيراط، والزوجة أم الأولاد أربعة قيراط، فأحد الورثة ضم حق الوالدة ضمن أرضه واستحوذ على ميراث الأم، وعند مطالبتنا له أنكر وقال: هي أكلت بهن، رغم أنها عاشت مع أحد أبنائها ولم تقم عند هذا الشخص الذي ضم نصيب أمه إلى أرضه، فلو رفعنا عليه قضية، فهل يعتبر هذا حراماً ومن قبيل قطع الرحم؟
الجواب
لا.
ليس بحرام بل هو ظالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً يارسول الله؟ قال: تمنعه من الظلم) فإن كنت مستغن أنت فسائر إخوانك لا يستغنون عن حقهم، فلا شيء فيها إذا طالبت بحقك ولو بشيء من القوة.
والله أعلم.(9/19)
موقف المحدثين من الواقدي
السؤال
الواقدي متهم بالكذب، ويروي في السيرة والتاريخ؛ فهل يقبل حديثه؟
الجواب
لا نقبل للواقدي حديثاً، فـ الواقدي رغم أنه حافظ إلا أنه كذاب، كما وصفه العلماء.
نعم هو مكثر من الحفظ لكنه يكذب في الحديث، وإذا كان يكذب في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فكيف نقبل أخباره في السيرة والتاريخ؟! وللأسف أن الذين يكتبون في السيرة والتاريخ أغلب مادتهم من الواقدي؛ لأن ابن سعد في كتابه: الطبقات أخذ جل كتاب الطبقات من الواقدي، والواقدي كذاب كما سمعتم، فإذا قلت لهم: إن الواقدي كذاب، ضيقت عليهم المادة التي يتحدثون بها، فضاقوا ذرعاً بكلامك ولم يلتفتوا وأصروا على باطلهم وقبلوا كلام الواقدي، فكما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (ما أحوج أهل السنة إلى قصاص صدوق) أي: أن الناس يحبون الوعاظ؛ لأنهم يتكلمون بكلام كثير ويا ليته نافع كلام كثير منهم مبني على أكاذيب، فإذا قوضت وقيدت عليهم ضاقوا ذرعاً بك، وقالوا: نحن نتساهل في أمر السيرة، وهذا لا يضر.
وهذا كلام خطأ، فالرجل أحياناً بل في كثير من الأحيان ينسب إلى رسول الله ما لم يفعله؛ لأنه عندما يقول: سار رسول الله من مكان كذا إلى كذا، واتجه وقابل فلاناً وأقام صلحاً مع فلان كل هذه سيرة ويبنى عليها أحكام، فإذا كانت مبنية من طريق كذاب فلا تقبل ولا تروى ولا كرامة.
هذا بالنسبة لكتب السيرة، وللأسف أن الناس يتلقونها هكذا ولا يمحصون ما فيها ثم تنشأ عنها بلايا، وأحياناً حتى بعض إخواننا من أهل السنة يقعون في شيء من هذا، لكن نلتمس لهم الأعذار، مثلاً: يوجد كتاب طبع ووزع بكميات كبيرة اسمه: "السيد البدوي دراسة نقدية" وهذا الكتاب أغلب مادته مأخوذة من كتاب أحمد صبحي منصور الرجل الذي سحبت منه الرسالة الآن، وأحمد صبحي منصور هذا هل نحن نشهد أنه صادق؟ لا نشهد له بالصدق أبداً؛ فإنه طعن في نافع مولى ابن عمر الذي يروي أصح الأحاديث عن عبد الله بن عمر، وطعن في سنة رسول الله حديثاً تلو حديث تلو حديث، ثم جاء أخونا عبد الله صابر وأخذ أغلب مادته من كتاب أحمد صبحي منصور.
أما السيد البدوي المأثور عنه -وعلمه عند الله- أنه من الرافضة، والشرك الذي يرتكب عند قبره يجعل الشخص يهاجمه بكل ما يتسطيع أن يهاجم به شخصاً إذا كان يقر هذا الشرك.
لكن كوننا نعتمد على كتاب لرجل غير موثق وغير ثقة؛ فأظن أن هذا لا يصلح ولا يجوز، فـ أحمد صبحي منصور نفسه أخذ أغلب مادة الكتاب منه، وكتبها عبد الله بن صابر، ولما كتبها عبد الله بن صابر بعض إخواننا لتحامله -وهو تحامل في محله- عليه رماه بالشرك، وهم حقيقة يشركون بالله، لكن مع كونهم يشركون بالله لا نقل إلا شيئاً موثقاً من مصدر صحيح ثابت.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإذا أردت أن تأخذ السيرة الصحيحة فخذها من صحيح البخاري في كتاب: السير والمغازي فصحيح البخاري كله مسند، يقول البخاري: حدثني إسماعيل، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كذا وكذا.
فقد جمع المادة العلمية الصحيحة بالأسانيد الثابتة، وكذا في كتاب المغازي في صحيح مسلم، وهناك رسائل دكتوراه ألفت الآن في الغزوات، وتوجد رسالة دكتواره ألفت في غزوة تبوك جمعت المادة العلمية التي رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، أثبتت الثابت منها وأبعدت الضعيف منها، ورسالة أخرى ألفت في غزوة بدر أثبتت الثابت عن رسول الله في غزوة بدر وأبعدت غير الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وتوجد مجهودات تبذل في الجامعات سواء كانت في الأزهر أو في الجامعة الإسلامية في المدينة أو في غيرها جمعت المادة العلمية الثابتة عن رسول الله فالتعويل عليها، أما أننا نأخذ الغث والسمين، والشيخ فلان يأتي يروي القصة ويزيد عليها نصفها أو ضعفها، والشيخ الآخر ينسجم مع القصة فيجلس يفسر وينسب تفسيره إلى رسول الله! فهذا يسبب أخطاء كبيرة، حتى إن بعض الناس يدرس كتاباً اسمه: "المنهج الحركي للسيرة النبوية" ولما يقول خرج الرسول من كذا إلى كذا ويبني عليها حكماً.
إذاً: أسند هذا الكلام مادمت نسبته إلى رسول الله، فديننا مبني على هذا، ونحن لسنا مطالبين بالإكثار من الكلام بل مطالبين بإعطاء الناس مادة علمية صحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً: الآن يصاغ في غزوة تبوك رسالة دكتوراه، وقد تستغرق ثلاث سنوات أو أربع، لو وجد متفرغ لدراسة مرويات غزوة تبوك وإثبات الثابت وإبعاد الضعيف، وغيرها من مغازي رسول الله: المريسيع وتبوك وبدر وأحد والخندق والفتح، عدة مغازي فيحتاج إلى صبغة أدبية بين كل هذا الترتيب الزمني فيحتاج إلى صبغة أدبية، فقد يكون لم يؤت تلك القدرة على الصياغة الأدبية فيحتاج إلى غيره يصيغ يسبك الأحداث بصيغة أدبية تشوق الناس لقراءتها.
نسأل الله أن يوفقنا لما فيه خير للإسلام والمسلمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(9/20)
تفسير سورة النساء [43-47]
أمر الله المصلي بالطهارة من الحدث الأصغر والأكبر بالماء، فإن لم يجده فبالصعيد الطيب، وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، وللعلماء خلاف في بعض التفصيلات لهذه الأحكام.
وقد حذرنا الله من أعدائنا، وأخبرنا بأنهم يحبون أن يضلونا، وبين لنا كثيراً من صفاتهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.(10/1)
مراحل تحريم الخمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43] .
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء:43] تقدم تفسيره بما حاصله: أن (يا) حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أيضاً تقدم تفسيرها.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا} [النساء:43] كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، نهي أبلغ من قوله: لا تزنوا، فهي مبالغة في النهي.
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، هذه الآية جاءت بعدها آيات، تحريم الخمر وكان على مراحل: كان أولاً مباحاً كما قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] ، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، ثم قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] ثم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] .
فجاء في شأن الخمر أربع آيات: ((وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)) [النحل:67] في معرض الإباحة، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] في معرض المنع الجزئي، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] إرهاص بين يدي تحريم الخمر، والإرهاصات بمعنى: المقدمات {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] تحريم قطعي.
فجاء تحريم الخمر على أربع مراحل، وهذا التدريج في التشريع كان يتم في أمور: فهو من ناحية التخفيف ثم التشديد شيئاً فشيئاً أو العكس: الأخذ بالشدة ثم التسهيل شيئاً فشيئاً، فالتسهيل ثم التشديد شيئاً فشيئاً، والمنع والتحريم شيئاً فشيئاً مثل تحريم الخمر، ومثل الأوامر الواردة في الجهاد، أول الأمر أمر بكف الأيدي: {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] فإذا ضربت فلا تنتصر، ثم بعد ذلك جاء الإذن في الانتصار من الظالم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] ، وبعد ذلك جاءت آية السيف: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] .
ومثال العكس: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] أمر بإقامة الليل إلا القليل، ثم بعد ذلك جاء التخفيف: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ.
} [المزمل:20] إلى قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] .
ونحوه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] ، كان لزاماً على الشخص أن يصابر -أي: يجاهد- عشرة من الكفار، ثم جاء التخفيف: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] ، فأصبح الواحد ينازل اثنين فقط، وهكذا على حسب أحوال المسلمين وقدرات المسلمين وطاقاتهم يأتي الشرع الحنيف السهل.(10/2)
خلاف المفسرين في المراد بالصلاة في هذه الآية
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] ، ما المراد بالصلاة؟ قال بعض أهل العلم: المراد بالصلاة مواطن الصلاة، وهذا كما قال الشاعر: وسبّحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهاراً سبحت المدينة أي: سبّح أهل المدينة.
ونحوه من التنزيل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: اسأل أهل القرية، فعلى هذا قال بعض أهل العلم: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: مواطن الصلاة، وهي: المساجد.
وإن قال قائل: هل لذلك شاهد في التنزيل؟ قيل: إن شاهده قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40] الشاهد: (وصلوات) المعنى: لهدمت صلوات.
أي: مواطن الصلوات، وقد نحا بعض المفسرين منحىً آخر فقالوا: المراد (بهدمت صلوات) : الصلوات نفسها، وهدمها عدم إقامتها، فقالوا: لأنا إذا قلنا: هدمت صلوات وهدمت مساجد؛ لكان تكراراً؛ لأن الآية فيها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40] فلا يقال: (لهدمت مساجد ومساجد) لأنه سيكون تكراراً لا معنى له.
فالشاهد: أن من أهل العلم من قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: لا تقربوا مواطن الصلاة.
{وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ولماذا هذه الإطالة حول هذه الجزئية؟ لأن ثم حكم فقهي يترتب على تأويل قوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] .
هل المراد الصلاة نفسها أو المراد المساجد؟ وذلك لأن الله قال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] على التأويل الأول: لا أقرب الصلاة وأنا جنب، لكن إذا قلت: لا تقربوا الصلاة.
أي: لا تقربوا المساجد، إذاً لا يقربها الجنب بلفظ هذه الآية: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] ، هنا خلاف فقهي في مسألة دخول الجنب المسجد على التأويل الثاني يستدل على المنع بهذه الآية، ويقال: إن الجنب لا يقرب المسجد؛ لأن الله قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا} [النساء:43] أي: لا تقربوها أيضاً وأنتم على جنابة، هذا إذا قلنا: المراد بالصلاة مواطن الصلاة، فيمنع الجنب من دخول المسجد لهذه الآية الكريمة، لكن لو قلنا: المراد بالصلاة على حقيقتها، فلا يستدل بالآية على منع الجنب من دخول المسجد، إلا أن الإمام أحمد روى بإسناده إلى عطاء أنه قال: (رأيت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمكثون في المسجد وهم جنب إذا توضئوا) .
وكذلك أهل الصفة كانوا يبيتون في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمن أن يجنب أحدهم، ومع ذلك يستمر النائم على جنابته.
لكن القول بالمنع أحوط، والنائم لا حرج عليه فإنه إذا استيقظ ورأى نفسه على جنابة، خرج واغتسل.
هذا على تأويل: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] أي: مواطن الصلاة.(10/3)
حكم دخول الحائض إلى المسجد
مسألة أخرى: دخول الحائض المسجد، هل يستدل بالآية نفسها على منع دخول الحائض المسجد؟ قد يقول قائل: إن الجنب كالحائض فكما أنكم منعتم الجنب فامنعوا الحائض من دخول المسجد لهذه الآية، وهذا الرأي فيه نظر من وجوه: أولها: الآية فيها نزاع: هل المراد بالصلاة: مواطنها أو هي نفسها؟ ثانياً: في قياس الحائض على الجنب نزاع، لأن الجنب أمره بيده، من الممكن أن يذهب ويزيل هذه الجنابة بالاغتسال أو بالتيمم، أما الحائض فليست كذلك، بل لا بد أن تنتهي حيضتها.
فإن قال قائل: ما العلة من منع الجنب من الاقتراب من المسجد؟ فنقول: حتى يبادر إلى الاغتسال والطهارة، وهذه العلة لا تتوافر في مسألة الحائض؛ لأن الحائض تسرع أو لا تسرع فليس لها من أمرها شيء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (إن حيضتك ليست في يدك) .
ومسألة دخول الحائض المسجد فيها رأيان للعلماء: فالجمهور رأوا أن الحائض لا تدخل المسجد، ومن أهل العلم من رأى أن الحائض تدخل المسجد، فلما دب النزاع لزم البحث عن الدليل، فلما جئنا إلى الأدلة وجدناها ليست صريحة في الباب، فبقينا على البراءة الأصلية، وها هي أدلة القولين: أما القائلون بأن الحائض تمنع من دخول المسجد فمن أدلتهم ما يلي: أولاً: القياس على الجنب، وتأويل الصلاة بمواطن الصلاة في الآية.
ثانياً: قول أم عطية كما في الصحيحين: (أمرنا أن نخرج الحيض والعواتق وذوات الخدور لصلاة العيد، فقلن: يا رسول الله! والحيض؟ قال: يعتزل الحيض المصلى) فقوله صلى الله عليه وسلم: (يعتزل الحيض المصلى) استدل به على أن الحائض لا تقرب المسجد، واعترض على هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي العيد في الفضاء وليس في المسجد، فأريد بالمصلى الصلاة؛ لأنه لا يحرم على الحائض أرض الفضاء.
ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ناوليني الخمرة -الخمرة: شيء يصلى عليه كالسجادة في زماننا- قالت: إني حائض يا رسول الله! قال: إن حيضتك ليست في يدك) قالوا: هي ستمد يدها، والحيضة إنما هي في الفرج وليست في اليد، فهذا فيه منع للحائض من دخول المسجد.
والمعترضون استدلوا بالدليل نفسه على الجواز، فقالوا: إن معنى قوله: (إن حيضتك ليست في يدك) أي: إنما هي بيد الله فادخلي.
رابعاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، قالوا: إن قوله: (ألّا تطوفي بالبيت) يعني: لا تقربي المسجد بصفة عامة، وقال الآخرون: بل المعنى: ادخلي ولكن لا تطوفي؛ لأن الطواف كالصلاة.
هذه أوجه الاستدلال للعلماء في هذا الباب، وثم أوجه أخرى متكلم فيها.
فالمسألة مسألة نزاع بين أهل العلم، فإن قال قائل: ليس معي دليل صريح صحيح في المنع، فله وجه قوي، والبراءة الأصلية تؤيده، أي: أن الأصل عدم المنع، والذي يمنع عليه أن يأتي بالدليل الصحيح الصريح، فإذا لم يوجد دليل صحيح صريح بقينا على البراءة الأصلية؛ ما دام تلويث المسجد قد أمن، فالمرأة تتحفظ ولا تجعل شيئاً منها يلوث المسجد، والله أعلم.
قال الله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] (إلا) بمعنى: (لكن) مثل قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] أي: لكن الموتة التي قد ماتوها، فـ (إلا) تأتي بمعنى (لكن) : {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] أي: للمرور فقط، {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] .
السؤال
المؤمن يكون جنباً، وليس في المسجد شخص آخر ويريد المؤمن أن يؤذن؟
الجواب
سئل عطاء أو غيره من التابعين عن ذلك، فقال: الوضوء حق وسنة، لكن هل هو واجب؟ ويمتنع المؤذن بسببه؟ لا يمتنع بسببه، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) ، لكن يكره له ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري من حديث أبي جهيم الأنصاري: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) لكن لو دخل المؤذن المسجد وهو جنب، وليس في المسجد من يؤذن، فيجوز له أن يؤذن.(10/4)
صفة الغسل من الجنابة
قال الله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] أي: حتى تغتسلوا من الجنابة.
وصفة الغسل من الجنابة مختصراً: لا يضع المغتسل يده في الإناء مباشرة، بل يغسلها ثلاثاً قبل أن يغمسها في الإناء، ثم يأخذ ماءً فيغسل ذكره غسلاً جيداً، ثم يدلك يده في الأرض دلكاً شديداً أو ما يقوم مقام الأرض كالصابون ونحو ذلك، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر رجليه إلى آخر الغسل، ثم يأخذ ثلاث حفنات من الماء فيخلل بها رأسه، ثم يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر، ثم يغسل سائر الجسد، ثم يتنحى ويغسل رجليه.
هذه الصفة مجموعة من جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما.
من لم يفعل ذلك، ودخل مباشرة تحت (الدش) واغتسل أجزأه هذا الغسل وصح غسله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للأعرابي: (خذ هذا الدلو فأفرغه على نفسك) وكان رجلاً قد أجنب، ولم يأمره بالوضوء، فاستدل فريق من أهل العلم بهذا الحديث على أن الوضوء بين يدي الغسل ليس بواجب.
{وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] هنا تقدير ولا بد منه؛ لأنك إذا أخذت الآية على ظاهرها: (إن كنتم مرضى فتيمموا) ؛ لكان كل مريض يتيمم، لكن التقدير: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى} [النساء:43] فحال المرض بينكم وبين استعمال الماء، فحينئذٍ تيمموا، أما إن كنت مريضاً مرضاً لا يؤثر الماء فيه، فحينئذٍ يجب عليك أن تتوضأ.
والتقديرات مستساغة في كتاب الله إذا كان المعنى يتطلبها، وقد تقدم أمثلة لذلك: كقوله تعالى في سورة البقرة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] فالآية معناها: من كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه فارتكب محظوراً ففدية، أما إذا كان المحرم مريضاً ولم يرتكب محظوراً فلا نقول له: عليك فدية إذا كنت مريضاً وإن لم ترتكب محظوراً! فالتقدير إذاً: وإن كنتم مرضى فحال المرض بينكم وبين استعمال الماء فتيمموا.
{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] فحال السفر بينكم وبين استعمال الماء فتيمموا، خشيتم الضرر من استعمال الماء الذي معكم فتيمموا، فليس كل مسافر يتيمم، فالمسافر الذي أمامه ماء لا يقال له: تيمم! {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] كذلك.(10/5)
خلاف المفسرين في معنى: (أو لامستم النساء)
قال الله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] (لامستم النساء) : فيها نزاع بين أهل العلم، فيرى فريق منهم أن الملامسة عامة، فرأوا أن كل من صافح امرأة أو قبّلها يجب عليه الوضوء، وأبى ذلك فريق كبير من أهل العلم ورفضوا هذا القول، ومن الذين رفضوه: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: المراد بملامستهن الجماع، لكن الله حيي، يكني عن الجماع بما يشاء، مثل: الإفضاء، النكاح، الملامسة، المس، كل هذه من معاني الجماع، ولكن رب العزة يكني بما يشاء.
ويؤيد هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ساجداً فجاءت عائشة فمست بيدها رجليه وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) ، وكان عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد غمزها) وقد يقول قائل: غمزها من فوق الثوب ولم يمسها، نقول: الغرفة كانت مظلمة، فغمزها قد يكون من فوق الثوب وقد يكون مباشرة، فبهذا الدليل وبذاك الدليل استدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وإنما المراد باللمس في الآية: الجماع.
ويؤيد هذا أيضاً: أنه لم يرد في حديث واحد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام -مع كثرة النسوة على عهده، وكثرة الرجال على عهده- أنه أمر رجلاً أن يتوضأ من تقبيله لامرأته أو من مصافحته لها، والبراءة الأصلية تؤيد الرأي القائل: بأن ملامسة المرأة لا تنقض الوضوء إلا إذا كان جماعاً، والله تعالى أعلم.(10/6)
المراد بالصعيد
قال الله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:43] ما المراد بالصعيد؟ في الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: المراد بالصعيد: كل ما على وجه الأرض: أحجار، رمال، مباني، وأصل الصعيد المكان المرتفع.
القول الثاني: أنه التراب ومشتقاته، مثل: الرمل، والنورة، والجص وغيرها، وكل هذه من جنس التراب، لكن ليست نفس التراب، ولكن من ناحية المادة نفسها.
القول الثالث: أنه التراب فقط.
والقول الأخير قوي لزيادة في حديث: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فالزيادة في هذا الحديث من النماذج التي استدل بها العلماء على زيادات الثقة، وهي: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً) زيادة: (تربتها) استدل بها على أن المراد بالصعيد هو: التراب.(10/7)
صلاة فاقد الطهورين
إذا لم يجد الشخص لا الماء ولا الصعيد الطيب، وهذا هو فاقد الطهورين، فليصل بدون تيمم وبدون وضوء، وهذا يؤيده العمومات الشرعية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] إلى غير ذلك من الأدلة التي رفع الله بها الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
واستدل بعض العلماء على جواز صلاة فاقد الطهورين بأن الصحابة لما حبسوا على غير ماء في بعض أسفارهم ولم تكن آية التيمم نزلت صلوا بغير وضوء، ولم يكن معهم دليل على أنهم يتيمموا، فصلوا بغير وضوء وبغير تيمم، فإذا نزلت آية التيمم ولم يكن عندك تراب، فالحكم كأن آية التيمم لم تنزل، وبهذا الدليل استدلوا على صحة صلاة فاقد الطهورين، واستدلوا أيضاً بأن الله رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأدلة رفع الحرج أدلة ذات أهمية قصوى؛ لأنها تستعمل في مسائل كثيرة جداً، فمثلاً: استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على مسألة طواف المرأة الحائض التي تخشى فوات الرفقة في الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (افعلي ما يفعل الحاج غير الأ تطوفي بالبيت) يعني: افعلي كل شيء إلا الطواف، لكن لو أن امرأة حاضت، والصحبة التي معها ستفارقها، ولا تستطيع بحال من الأحوال أن تنتظر، ماذا تصنع؟ قيل: ترجع إلى بلدها، ثم تذهب مرة أخرى لتطوف!! لكن إذا كان بلدها لا يسمح لها بالذهاب مرة ثانية، والدولة السعودية لا تسمح لها بالمجيء مرة ثانية، ثم قد تأتي المرة الثانية وتحيض أيضاً، فماذا تصنع مثل هذه؟ فـ شيخ الإسلام رحمه الله كثرت هذه المسألة في عهده، فكان أناس يأتون من المغرب أو من المشرق فتقع لنسائهم هذه النازلة، فأفتى رحمه الله بجواز طواف الحائض في هذه الحالة، واستدل بأدلة رفع الحرج.
مسألة أخرى: رجل كان جنباً فتيمم وصلى ثم وجد الماء: فهل يلزمه الإعادة؟ لا يلزمه، وعمار بن ياسر تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة وصلى، ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله، فعلمه كيفية التيمم الصحيحة ولم يأمره بإعادة الصلاة.
مسألة أخرى: أن الله لم يرشد إلى التيمم إلا إذا فقد الماء فقال: ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)) [النساء:43] ، فإذا صليت الفرض بالتيمم وكنت جنباً، ثم وجدت الماء لزمك أن تغتسل، ولكن لا تعيد الصلاة.(10/8)
شراء أهل الكتاب للضلالة وتمنيهم إضلال المسلمين
قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] .
المراد بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب قيل: إنهم -بالدرجة الأولى- اليهود، ثم النصارى، اليهود كانوا مكدسين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى لم يكن منهم في المدينة إلا عدد قليل.
فقوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} [النساء:44] أي: بالهدى، وشراء الضلالة بالهدى له صور متعددة.
منها: كتمان الحق مقابل المال.
ومنها: كتمان الحق لرياسة ووجاهة.
ومنها: كتمان الحق لحسد إلى غير ذلك.
والضلالة هي: الكفر والغواية.
وقوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] هذه الآية تفيد أن اليهود يريدون لأهل الإسلام أن يضلوا السبيل، وأن يكفروا صراحة، فإن قال قائل: ليس لليهود والأمريكان هم يوى المال، وكل الكفرة ليس لهم هم إلا الثروات فهذا قول كذب، من قال به فهو مخطئ؛ لأن الله صرح: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] ، وكذا الزانية تحب أن تزني النساء كلهن حتى يشاركنها في الفضيحة، والسارق يحب أن يسرق الناس كلهم حتى يكونوا كلهم سرق ولا يمتاز عليهم ولا تفضح بينهم، فاليهود والكفار كذلك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم.
قال الله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] (تضلوا السبيل) أي: تخطئوا طريق الحق.
قال الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45] ، أي: ينبئكم بأخبارهم، ويذكركم بهم، فلا يغرنكم ولا يخدعنكم رجل يقول: هم أصحابنا وأصدقاؤنا، ولا يريدون إلا السلام! وغير ذلك من الكذب؛ لأن الله أصدق القائلين يقول: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ)) [النساء:45] يبين لكم مقاصدهم، وهو أعلم بهم، فإن كان الكافر في الظاهر لا يكن لك العدواة فإن ربك علمك فقال: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] أي: إن كنتم تفهمون.(10/9)
الفرق بين الولي والناصر
قال الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:45] ما الفرق بين الولي والناصر؟ قد يأتيان بمعنى واحد، كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] أي: ناصر ومعين للذين آمنوا، فالولاية هنا أعم من النصرة، بل النصرة داخلة فيها، يعني: الولاية عامة.
ومن أفرادها: أن ينصرك وليك، وقد يرزقك ويطعمك ويسقيك.
إذاً: من مفردات الولاية: النصر، وهذا من باب عطف الخاص على العام، ومثله قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] هذا عطف خاص على عام، كذلك قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء:163] عطف خاص على عام.(10/10)
معنى (هادوا)
قال الله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] (الذين هادوا) : هم اليهود، وهادوا معناها: مالوا {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] أي: ملنا بقلوبنا إليك.
(اهدنا) أي: مِل بقلوبنا إلى الهداية؛ لأنها من مال شخص إلى شخص آخر.
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:46] أي: زعموا أنهم هادوا، (فهادوا) معناها: مالوا بقلوبهم إلى الله، (إنا هدنا إليك) أي: ملنا بقلوبنا إليك، فهم زعموا أنهم هادوا: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] (من) هنا: للتبعيض، يعني: ليسوا كلهم يحرفون الكلم، فعوامهم جهلة، وليسوا ممن يحرف الكلم عن مواضعه، لكن الكبراء -أهل الرئاسات والوجاهات- يحرفون الكلم عن مواضعه، تأتي آية فيقول أحدهم: تحذف هذه الآية، أو تغير! فالكبراء هم الذين بأيديهم القوانين يعبثون بها كيفما شاءوا، مثلاً: هذه الأيام وزير له ابن راسب في الثانوية عشر سنين مثلاً، يقول له: يفعلها إحدى عشرة سنة، والسنة القادمة يلغيها.
فكذلك اليهود كانوا إذا سرق شريف منهم، قالوا: بدل قطع اليد تكون العقوبة خمسة آلاف درهم غرامة! وتنفذ هذه الغرامة على ولده أو على الشريف، ومثل ذلك: ما حصل من تحريم تعدد الزوجات بالقانون، لعل امرأة كان بيدها الأمور ولا تريد زوجها يتزوج عليها، فوضعت ذلك القانون، ثم يأتي من بعدها فيرجع للأصل.(10/11)
من أعمال اليهود الخبيثة
إذاً: قال الله:: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] قوله: (من) للتبعيض، فليس كل الذين هادوا يحرفون الكلم، بل كبراؤهم وأصحاب الرأي فيهم هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46] هذا قولهم.
أي: سامعون وعاصون لك، قال الله لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] فقالوا: حبة في شعرة! وقال الله لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] فدخلوا يزحفون على أسفلهم، فيزحف الواحد منهم على استه عناداً لله ولرسل الله عليهم الصلاة والسلام!! : {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: يا رب! حط عنا خطايانا، فقالوا كلمة: (حبة في شعرة) ! وآخر يقول: (حنطة!) يعني: حبة السوداء، قصدهم التحريف عن عمد، ثم يقولون مع التحريف: سمعنا وعصينا، سمعنا قولك وخالفنا أمرك وعصيناك، فهذا شأن اليهود!! وقوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء:46] لأهل العلم فيها أقوال: أشهرها: واسمع لا سمّعك الله، يعني: يدعون على الرسول ألا يسمعه الله! والقول الآخر: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع فنحن لن نستمع إلى قولك.
{وَرَاعِنَا} [النساء:46] يقصدون بقولهم: وراعنا.
الرعونة وهي: الطيش وخفة العقل، وفي الظاهر يخرجونها بلفظ مهذب، لكن يقصدون بها الرعونة، ويظهرون أنهم يريدون براعنا: أن ينظر إليهم.
{وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء:46] يلوون الكلام بألسنتهم، فيظهرون للمستمع إليهم معنى ويريدون معنى آخر، كما جاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها بجواره وكانت ذكية نبيهة فطنة، فسمعتهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: السام عليك يا محمد! يعني: الموت والهلاك عليك يا محمد! فغضبت وقالت: وعليكم السام واللعنة! وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وعليكم.
فقالت: يا رسول الله! إنهم يقولون: السام عليك يا محمد! فقال: يا عائشة إنه يجاب لنا فيهم، ولا يجاب لهم فينا وقد قلت: وعليكم، وإن الله لا يحب الفاحش البذيء) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء:46] كأهل الإيمان الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] .
قال الله: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء:46] أي: أعدل وأنفع.
{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [النساء:46] أي: كفرهم كان سبباً في إحلال لعنة الله عليهم فلم يوفقوا إلى خير.
{فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46] أي: لا يصدقون إلا بالشيء القليل، أو لا يؤمن منهم إلا النفر القليل.(10/12)
دعوة اليهود إلى الإيمان بالقرآن
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] استجاشة لما فيهم من فضل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] يا أيها الناس العقلاء! يا من يفترض فيكم أنكم تفهمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء:47] يؤخذ منها: الحكمة في الدعوة إلى الله.
فمثلاً: لو أردت أن تدعو بقالاً ثرياً لفعل خير تأتيه وتقول: أسرتك أسرة طيبة، فلماذا لا تبنون مسجداً؟ أو لماذا لا تضع ماء سبيل يشرب الناس منه؟ يا حبذا لو تضع ثلاجة ماء أمام الدكان ليشرب منها الناس؟ وتذكره بالصلاح الذي كان في آبائه وأجداده.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} [النساء:47] أي: صدقوا بالشيء الذي أنزلناه؛ فهو مصدق لما معكم، الكتب التي معكم أخبرت بأشياء هذا الكتاب جاء يصدقها، فالكتب التي معكم أخبرت بمحمد، وهذا هو محمد كما في الكتاب الذي بأيديكم، فكيف تكذبون كتبكم التي تقول: محمد سيبعث، وسيكون كذا وكذا، فهاهو محمد قد خرج وقال كذا وكذا، إذا كذبتموه فمعناه: أنكم كذبتم كتبكم التي بأيديكم.
{آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47] ليس شيئاً مجهولاً ولا شيئاً مخترعاً، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء:47] نطمسها: أي: نسويها فلا يبقى فيها معلم، ويصبح الوجه كالقفا، وهذه من العقوبات التي هُدِّدَ بها الإسرائيليون.
الطمس، يعني: أن تمحى معالم تلك الوجوه، فيصبح الوجه في معالمه كالقفا، ولا يصبح هناك أنف ولا عين ولا فم!! {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47] وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى، وجزاكم الله خيراً.(10/13)
الأسئلة(10/14)
حكم لبس المرأة لما يسمى بالجيبة
السؤال
هل يجوز للمسلمة أن ترتدي ما يسمى بـ (الجيبة) ، مع العلم بأنها تتوافر فيها كل شروط الحجاب، عدا أنها تخالف شكل الجلباب على ما يبدو؟
الجواب
نعم يجوز أن ترتدي (الجيبة) إذا كانت بهذه المواصفات، إذا كانت جيبة واسعة جداً غير مجسمة، وفوقها شيء آخر غير مجسم، فليس هناك مانع شرعي من ذلك، والله أعلم.(10/15)
حكم ليلة الحناء للعروس
السؤال
ليلة الحناء بالنسبة للعريس، ما حكمها؟
الجواب
التزين للنساء بالحناء مستحب، لكن لا يجعلنه في ليلة مخصوصة، وبعض النساء يتخذن شعاراً لهذه الليلة في كثير من البلاد، ويصنعن أشياء ما عهد أن أصحاب رسول الله كانوا يفعلون ذلك.
أما كون المرأة تتزين لزوجها فهذا من السنة، قالت أم المؤمنين عائشة: (انظر إلى ثوبي هذا ما كانت امرأة تقيَّن في المدينة -يعني: تزف إلى زوجها- إلا جاءت تستعيره مني فأصبحت هذه الجارية ترفضه لأنه أصبح رخيصاً) .
والحمد لله رب العالمين.(10/16)
وجه كون السنة التقريرية شرعاً
السؤال
كيف تكون السنة التقريرية شرعاً مع أن الرسول لم يعملها؟
الجواب
الصحابة فعلوا أشياء على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بها عليه الصلاة والسلام، مثال ذلك: الصحابي الذي دخل في الصلاة وقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت بضعة عشر ملكاً يبتدرونها) الرسول صلى الله عليه وسلم أقره، فكانت سنة تقريرية.
لكن أنا الآن إذا جئت أفعل شيئاً جديداً، وقد يكون هذا الشيء صواباً وقد يكون خطأً، من الذي سيقرني الآن على صوابي ويمنعني من خطئي؟ لا أحد، فالشرع هو الحكم وانتهت الأمور.
نحو ذلك: مسائل النفاق: كان يوجد نفاق على عهد الرسول، من الذي يوضح النفاق؟ إما رسول الله يوضحه لأصحابه، أو رب العزة سبحانه وتعالى يبين صفات هؤلاء المنافقين.
قال عمر: كان النفاق على عهد رسول الله، والآن من أظهر لنا الإسلام حكمنا له بالإسلام، ومن أظهر لنا الكفر حكمنا عليه بالكفر.(10/17)
حكم الزفة في الأعراس
السؤال
ما حكم ما يفعله الإخوة في حفلات العرس، ويسمونه (الزفة الإسلامية) ؟
الجواب
لا أعلم لها مستنداً من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الرجال يفعلونها على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأقول للعريس: اقتصر على عمل وليمة، وهذا بركة، وخلّ النساء يغنين للعروس، فحرام عليك أن تجمع الإخوة من كل بلد، وتدعو المشايخ إلى المسجد، وتكتب: عقد فلان على الشريعة الإسلامية، وعلى سنة رسول الله، ويأتي الشيخ المحاضر ويقول: نحن مجتمعون في خير بقعة، وفي خير مسلك، وفي خير ساعة، وبأفضل مكان يوقف فيه، فهذا ليس من السنة، بل هذا خرافة.
صحيح أن المسجد أفضل بقعة، لكن كون جمع الناس في المسجد للعقد أفضل من غيره يحتاج إلى دليل، وقد يكون العقد في أي مكان سواء، فسنة الرسول هي الحكم، وقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت، وفي المسجد، وتعقد حتى في الطريق، أو في أي مكان بحضور الولي والشهود.
هذه هي السنة.
لكن أن تعمل العقد في المسجد، وتقول للناس: هذه الصورة الإسلامية للعقد فهذا افتراء على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثم قول السائل: (الزفة الإسلامية) : من الذي أضفى عليها أنها إسلامية؟ من الذي قال أن هذه الزفة إسلامية؟ فقولنا: (إسلامية) يعني: أن تكون موافقة لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل مشي الرجال في الطرقات يغنون للعريس، واحد من هنا وواحد من هنا، ويمشون معه، هل فعل ذلك الرسول مع أصحابه؟ هل زف الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا على عائشة؟ هل فعلت الصحابيات ذلك بـ عائشة؟ هل زف الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم زفة إسلامية لا يهودية ولا نصرانية ولا شركية؟!! لم يفعل ذلك أبداً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يغرنك أيها السائل أفعال إخوانك حتى تعرضها على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.(10/18)
رفع الملام عن الأئمة الأعلام
السؤال
ورد عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعال وأقوال لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها، بل نهى عن بعضها، فكيف يأتون بأمر جديد لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
نرجو التوضيح؟
الجواب
ننصح القارئ بقراءة كتاب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لما فيه من خير في هذا الباب.
فالصحابي قد يأتي بأمر لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام بل نهى عنه لأمور: إما أنه خفي عليه أمر رسول الله، فيكون الرسول أمر بأمر ولم يسمعه من رسول الله، بل استمر على ما علم من علوم الشرع ولم يبلغه الخبر عن رسول الله.
من ذلك: قول عمر في شأن أبي: (أقرؤنا أبي إلا أننا ندع من لحن أبي) ، يعني: نترك كثيراً من قراءات أبي بن كعب مع أنه أعلمنا بالقراءات؛ لأنه يقول: لا أغير شيئاً سمعته من رسول الله، والله يقول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] فـ أبي سمع قراءات من رسول الله، والصحابة علموا أنها منسوخة لكن أبي يقول: أنا مصر على الذي سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ذلك، فقد تخفى السنة على الصحابي، فيعمل الصحابي برأيه وهو لا يعلم الخبر، مثال ذلك: قصة بروع بنت واشق امرأة عقد عليها رجل ولم يفرض لها صداقاً، أي: مهراً، ثم قبل البناء مات الزوج، فوقعت مسائل مشكلة: أولاً: هل لها صداق أو ليس لها صداق؟ ثانياً: هل ترث أو لا ترث؟ ثالثاً: هل تعتد أو لا تعتد؟ فوقعت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم قضية مماثلة لهذه القضية فذهبوا إلى ابن مسعود في شأنها، فقال: أقضي فيها برأيي، فإن كان خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله، والله ورسوله منه بريئان: أقضي أن لها مهر نسائها اللاتي هن شبيهات بها، فإن كانت بنت ملك فمهرها مثل مهور بنات الملوك، وإن كانت بنت عبد فمهرها مثل مهور العبيد، وإن كانت من أوساط الناس فمهرها مثل مهور نساء أوساط الناس من غير وكس -يعني: بخس ولا شطط- يعني: ارتفاع -مهر متوسط وهذا أصل في مهر المثل.
قال: وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان فقال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق مثل هذا القضاء) ، فقال: الحمد لله الذي وفقني إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وصحابة آخرون لم يبلغهم خبر معقل بن سنان فقالوا: لا تعتد، قياساً على مطلقة التي لم يدخل بها زوجها، لأن الله قال في المطلقة التي مات عنها زوجها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] يعني: عقدتم عليهن {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] يعني: قبل الدخول بهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فليس عليها عدة.
وبعض الصحابة لما لم يجد في الباب خبراً عن رسول الله بدأ يفكر، فقال: أقيسها على المطلقة، والقياس قد يصيب وقد يخطئ، والذي يخطئه هو النص، فهذا صحابي أفتى أنها لا تعتد ولا ترث، كما أن المطلقة التي لم يدخل بها زوجها لا تعتد لا ترث، فاجتهد الصحابي وهو مأجور على اجتهاده، لكن المجتهد المصيب له أجران، فهذا نموذج من النماذج التي تبين أن الصحابي قد لا يبلغه الدليل من الكتاب أو من السنة.
نموذج آخر: قد يبلغه الصحابي الدليل، ولكنه يرى أن الدليل له نازلة معينة وملابسات معينة، مثال ذلك نهي عمر رضي الله عنه عن متعة الحج، فالصحابة لما أتوا مع رسول الله إلى الحج كان منهم: القارن، والمفرد، والمتمتع، فلما اعتمر الصحابة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي معه أن يتحلل ويجعلها عمرة فتعجب، الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك! لما ترتب في أذهانهم من قبل أن الذي يعتمر في أشهر الحج فاجر من أكبر الفجار، كما عند أهل الجاهلية فكانوا يقولون: إذا برئ الدبر -يعني: الجروح التي في ظهر الدابة- وعفا الأثر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر.
فلما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمرة تردد الصحابة، ووقفوا مذهولين من أمر الرسول لهم بالتحلل بالعمرة، فقالوا: يا رسول الله! كيف نتحلل من العمرة؟ -أي: كيف نذهب إلى منىً ومذاكيرنا تقطر منياً من النساء- فشدد الرسول في الأمر، وأمرهم أمراً حازماً بالتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فقام رجل وقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا -يعني: التحلل بالعمرة- أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) أي: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (بل لأبد الأبد) ، خفي على أمير المؤمنين عمر، فكان رضي الله عنه ينهى الناس عن التمتع في الحج، وكان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالتمتع في أشهر الحج كان خاصاً في زمان رسول الله، وهذا رأيه، وصحابة آخرون لم يوافقوه، مثل: علي، وأما عثمان رضي الله عنه فقد سلك مسلك عمر رضي الله عنهم، فقال له علي: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع الرسول؟ قال: دعنا عنك، قال: كيف أدعك؟ لبيك عمرة في حجة.
فهنا عمر رضي الله عنه اجتهد، وظن أن هذه الواقعة خاصة بزمن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلي رضي الله عنه رأى أنها لزمن رسول الله ولغير زمن رسول الله، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] .
هذه نماذج من المسائل التي تختلف فيها وجهات النظر.
ومن أهل العلم من رأى أن الأمر بالعمرة أمر إيجاب في كل الأزمان وقال: التمتع واجب على كل المسلمين، وليس هناك إفراد ولا قران، وهذا قول مرجوح؛ لأن من الصحابة من حج مفرداً، ومنهم من حج قارناً، والرسول حج قارناً، ومنهم من حج متمتعاً، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:196] يعني: أن هناك من لم يتمتع.
إذاً ما معنى: دخلت العمرة في الحج؟ (دخلت) أي: أصبحت مع الحج لمن شاءها إلى يوم القيامة، وليست ملزمة، بل من شاءها إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي فهمه كثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاًَ: قد يخفى الدليل على الصحابي، وقد يبلغه ولكن يفهمه على غير وجهه، وهناك جملة مسائل كثيرة في هذا الباب، والله أعلم.(10/19)
تفسير سورة النساء [47-57]
من أساليب القرآن الكريم في الدعوة: أسلوب الحوار والمخاطبة مع غير المسلمين، ولقد برز هذا الأسلوب في حوار اليهود، والكشف عن طواياهم السيئة وأعمالهم الخبيثة؛ كإيمانهم بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المسلمين، وحسدهم العرب أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وكفرهم بأنبيائهم السابقين مع كونهم من بني جلدتهم، وبعد هذا الكفر والعناد يرتب القرآن الكريم جزاء الكافرين المعاندين أمثال هؤلاء اليهود، وجزاء المؤمنين المصدقين.(11/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:47-48] .
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نداء إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واليهود كانوا هم غالب أهل الكتاب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى فكانوا قلة.
وقوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} هو القرآن.
وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقاً للتوراة التي معكم.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} الطمس: المحو والإزالة، وطمس الشيء: محو أثره، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس:66] .
فقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} قال فريق من أهل العلم: أي: نرد الوجوه كالأقفاء، فيصبح الوجه مثل القفا لا معلم فيه لعين ولا لأنف ولا لفم ولا لخد ولا للحية ولا لغير ذلك.
ومن العلماء من قال: إن الطمس عبارة عن تغيّر الأحوال، بمعنى: أن الغني يصبح فقيراً، والعزيز يصبح ذليلاً، والقوي يصبح ضعيفاً، إلى غير ذلك.
وثمّ قولٌ آخر ثالث وهو أنَّ المراد تقليب القلوب إلى الكفر.
والقول الأول هو الأشهر، فقد حلّت ببني إسرائيل عقوبات من هذا القبيل، فقد مسخ فريق منهم إلى القردة، وفريق آخر إلى الخنازير، كما قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166] ، وقال تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْت} ، وأصحاب السبت: هم الذين اعتدوا في السبت، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، وأصل السبت: الراحة والسكون، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] أي: راحة وسكوناً لكم، فأصل السبت: الراحة والسكون، وكان يوم السبت يوم راحة لليهود وتوقف عن الأعمال، فاعْتَدَوْا فيه كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف، فحلت عليهم اللعنة لاعتدائهم في السبت بعد أن نهاهم الله تعالى عن الاعتداء فيه بقوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:154-155] .(11/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به.)
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهذه الآية من المحكم الذي لم ينسخ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ولقيتني لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) ، أو كما قال تعالى في الحديث القدسي.
فالآية من الآيات المحكمات، ونحوها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) .
وهذه الآية ردٌ على كثير من الفرق التي ابتدعت في الإسلام، كفرقة الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، وكفرقة المعتزلة، وعدد من الفرق.
فأي شخص يموت على الشرك لا يغفر له هذا الشرك، ولكن إن أشرك وتاب في الدنيا قبل الممات، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايتهم أهل شرك، فتابوا وأسلموا فتاب الله تعالى عليهم، فالآية أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة في أنه لا يلزم أن يعذب صاحب الكبيرة وإن لم يتب، فإذا ارتكب شخصٌ كبيرة، كسرقة، أو زنا، أو قتل، أو شرب خمر، ولم يتب منها فليس بلازم أن يعذب، وأمره إلى الله تعالى فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، خلافاً لأهل الاعتزال القائلين بوجوب الاستغفار حتى ينجو الشخص من العذاب.
ونحو هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن فعل ذلك فأجره على الله، ومن أتى من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
وفي الآية ردٌ على بعض العلماء القائلين بأن القاتل لا بد وأن يعذب، ويستدل بعضهم كالحبر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] .
ويقول: إن آية النساء الطولى نزلت بعد آية الفرقان، أي: أن هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] ، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، وهذه من المسائل التي خولف فيها من جماهير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] أي: إذا مات الشخص على الشرك، فالشرك لا يغفر له كما قال تعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] (الدون) تطلق على الأقل، وتطلق أحياناً بمعنى (غير) ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] ، فقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك) أي: ما أقل من ذلك، فأي ذنب غير الشرك يغفره الله سبحانه إن شاء، وإن شاء عَذّب به.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمَاً عَظِيماً} [النساء:48] أي: اختلف واخترع إثماً عظيماً.
فالإثم أحياناً يطلق على صغير الذنب، وأحياناً يطلق على كبير الذنب كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] ، وأحياناً يطلق على الشرك كقوله تعالى هنا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] .(11/3)
خطر تزكية النفس وأحوال جوازها
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، التزكية مذمومة في الأصل، ولا يزكي الإنسان نفسه ولا غيره إلا لعلة، والأدلة على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فقد أثنى رجلٌ على رجلٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك-قالها ثلاث مرات- إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، خاصةً الذين يبالغون في الثناء على الأمراء والرؤساء.
وهذا الحديث استعمله المقداد بن الأسود لما كان جالساً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وجاء رجلٌ يثني على أمير المؤمنين ثناءً زائداً في وجهه، فأخذ المقداد الحصباء وقذف بها في وجهه، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المدّاحين التراب) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله) .
فالمبالغة في الثناء قد تخرج الشخص عن حيز الاعتدال إلى حيز الذم، وهؤلاء النصارى لما بالغوا في إطراء عيسى عليه الصلاة والسلام والثناء عليه أَلَّهوهُ وجعلوه ابناً لله عز وجل، والشيعة لما بالغوا في الثناء على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أَلَّهه فريق، وزعم فريق آخر أن علياً رضي الله عنه أحق بالرسالة من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فالمبالغة في الثناء، والمبالغة في الإطراء، والمبالغة في التقليد تورث الشخص انهياراً وهزيمةً وعصياناً لله تعالى ولرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
والظواهر التي بين أيدينا في الأزمنة المعاصرة شاهدة بذلك، وما كان عقب وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام أيضاً يدل على ذلك، فـ المختار بن أبي عبيد الثقفي ادعى نصرته لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه الناس واغتروا به، وصاروا يمجدونه ويمدحونه حتى آل به ذلك إلى أن ادعى النبوة، ثم ادعى الألوهية! فقتل إلى غير رحمة الله عز وجل.
فالمبالغة في الثناء على الأشخاص أحياناً تورث شركاً، وأحياناً تورث ضلالاً مبيناً، ومن ثمّ فينبغي أن يتوسط الشخص في كل أموره وأحواله، وهذا يلحق طلاب العلم، فيلزمهم ألا يأخذوا العلم من شخص واحد أياً كان شأنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، أما أن يأخذ شخص أقوال عالم من العلماء، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويصبح له مقلداً أعمى، ويتقبل كل آرائه، فهذا يورث تقليداً بغيضاً مقيتاً، ويوقع الشخص في كل الأخطاء التي وقع فيها هذا الشيخ، وأصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام رغم فضلهم وسعة علمهم رضي الله تعالى عنهم ما طلبوا ذلك من الناس، وكلٌ منهم صدرت منه اجتهادات جانب فيها الصواب، فإذا كانوا كذلك فغيرهم من باب أولى، فمن جاءك بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبله وخذه.
وقوله تعالى: {يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، الآية محتملة لأن يكون المعنى: يزكون أشخاصهم، أو يزكون غيرهم كقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] ، من العلماء من قال أي: لا يزكي بعضكم نفسه، ومنهم من قال: ولا يزكي بعضكم بعضاً، وإطلاق النفس على الغير وارد في كتاب الله تعالى، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: على إخوانكم.
وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.
وقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] أي: يقتل بعضكم بعضاً.
فالتزكية الأصل فيها المنع إلا لعلة، ومن هذه العلل أن تكون التزكية حافزة على الخير، كما لو كان الرجل يُعلم من حاله أنه إذا أثني عليه بكلمة تشجع واستمر في الخير الذي هو فيه، فإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ إذا زكي هذا الشخص حتى يستمر في الخير الذي هو فيه استحب ذلك، وقد دلت على ذلك جملة نصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كقوله صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الشيطان يفر منك يا ابن الخطاب!) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أتيت بقدح لبن فشربته ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب.
قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت الناس وعليهم قمص، فمنهم من يبلغ القميص إلى ثدييه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم ما بين ذلك ورأيت عمر وعليه ثوب يجره.
قالوا: فما أوَّلْت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين) .
وقال صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه) .
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر: (ما أحدٌ أمنّ عليّ في صحبته وماله من أبي بكر الصديق) رضي لله تعالى عنه.
وقال في أبي ذر رضي الله عنه: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) ، وكل ذلك من الثناء.
وقال عثمان رضي الله تعالى عنه مثنياً على نفسه أمام الذين حاصروه: ألم تسمعوا رسول الله وقد قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهّز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته؟ فكل هذا يدل على مشروعية التزكية إن احتيج إليها، فإن لم يحتج إليها فالمنع هو الأولى -والله تعالى أعلم- لما فيه من قطع الأعناق.
وقد درج بعض السلف على إطلاق ألقاب على بعض أهل العلم في أزمانهم، وتبعهم ذلك بعض الخلف ولا بيان لهم من كتاب الله تعالى، أو من أفعال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يؤيد هذا المستند، كأن يقول أحدهم: العالم الفذّ، الحجّة، وحيد دهره وسيد عصره، ويسطر سطوراً في الثناء، ولا يقول مثل هذا في أبي بكر، ولا في عمر رضي الله تعالى عنهما ولا في التابعين! فالإطراء البالغ بهذه الصورة أقرب إلى الذم منه إلى المدح، والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] فهذا الأمر متروكٌ لله سبحانه وتعالى فهو الذي يرفع ويخفض.
وقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] أي: لا تظنون أنكم بترككم تزكية بعضكم أن بعضكم سوف يظلم، بل الله سبحانه وتعالى يدخر الأجور للعاملين، فهو أعلم، وهو الذي يجازي، وهو الذي يثيب سبحانه وتعالى.
والفتيل: هو الخيط الرفيع الذي يكون بين فلقتي نواة التمر، فقوله تعالى: (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي: قدر الفتيل.
قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء:50] ، أي: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم كثير منهم يفترون على الله الكذب، {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:50] ، وهذه في شأن أقوام دون أقوام آخرين على ما سيأتي بيانه.(11/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب.)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51-52] .
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء:51] هم أهل العلم من اليهود.
قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] لأهل العلم أقوال في الجبت والطاغوت، فمنهم من يقول: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الساحر، وثمّ أقوالٌ غير ذلك.
والأصل في معنى الطاغوت هو: كل من تجاوز الحد في الطغيان، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: تجاوز الحد في الظلم، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] أي: زاد الماء، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] ، أي: شدة ظلمها.
وأما الشيعة أهل الرفض، وأهل الخبث والإجرام، قاتلهم الله تعالى! فيؤولون الجبت والطاغوت بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويجعلون صلاتهم وتسليمهم البغيض المقيت لعن أميري المؤمنين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيقولون: اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيها وابنتيهما، ويعنون: أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا تفسير في غاية البطلان، فالذي قال الله فيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] يقولون: إنه الجبت! فكيف يتضارب كتاب الله على هذا النحو عندهم.
وأسقط من ذلك تفاسيرهم تفسيرهم البقرة التي أُمر قوم موسى بذبحها أنها عائشة، وهذا من عمى البصائر، فأين عائشة رضي الله عنها من زمن موسى صلى الله عليه وسلم؟! فالطاغوت: كل من تجاوز الحد في الظلم، شيطاناً كان أو ساحراً أو كاهناً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو رجلاً جباراً ظالماً قاتلاً للنفس، فكل ذلك محتمل وداخلٌ في الآية.
ومن العلماء من قال: إنه كعب بن الأشراف؛ لأنه كان طاغوتاً مطاعاً في اليهود.
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] .
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:51] أي: من أهل مكة: {هَؤُلاءِ} [النساء:51] أي: أهل مكة {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] .
وقد ورد في أسانيد ينظر فيها أن أبا سفيان وبعض وجهاء مكة قالوا: نذهب إلى أهل الكتاب نسألهم عن محمد وشأن محمد، فإن هؤلاء أهل كتاب أعلم به منا، فذهبوا إلى كعب بن الأشرف وغيره من وجهاء اليهود فسألوهم: يا معشر يهود! أنحن على حق وخير أم محمد هو الذي على الحق والخير؟ فقالت اليهود: أنتم -يا معشر قريش- أهدى من محمد وأصحاب محمد وأفضل طريقة، فأنتم تسقون الحجيج، وهم يقطعون الأرحام -بزعمهم-، إلى غير ذلك من الأساليب التي سلكها اليهود لإغواء الناس {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] .
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [النساء:52] أي: هؤلاء اليهود {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] ، ضلّال على علم، فقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] يدل على أن اليهود كما أنهم مغضوب عليهم، فهم ملعونون، وتفسير الرسول عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بأن (غير المغضوب عليهم) هم اليهود، و (الضالين) النصارى؛ ليس معناه أن النصارى غير مغضوبٍ عليهم، بل هم كذلك مغضوب عليهم، وليس معناه أن اليهود غير ضالين، بل هم ضالون أيضاً، ولكنهم اختصوا بمزيد من غضب الله تعالى واللعنة عليهم جميعاً.
ومعنى: (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي: طردهم الله من رحمته، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:52] .
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء:53] أي: هل لهم تدخلٌ في ملك الله أو في إعطاء الملك من أحد ونزعه من أحد؟ {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء:53] .
والنقير كما قال بعض العلماء: النقطة الصغيرة التي تكون على ظهر النواة.(11/5)
تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.)
قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] فاليهود حسدوا العرب، وهم والعرب أبناء عمٍ، فأبو اليهود هو إسرائيل بن إسحاق، وإسحاق أخٌ لإسماعيل، ومن إسماعيل جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاءت كل أنبياء بني إسرائيل، فحسدت اليهود العرب على ما آتاهم الله من فضله، فكانوا يتوقعون أن يخرج النبي منهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] أي: يقولون لهم سيخرج نبيٌ نتبعه، ونقتلكم قتل عادٍ وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكان من غيرهم، فلم يكن يهودياً، بل كان من العرب {كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] .
فالناس المحسودون هنا: هم العرب، وكلمة (الناس) قد يراد بها العموم، وقد يراد بها الخصوص، فمن مجيئها بمعنى العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] ، ومن مجيئها بمعنى الخصوص قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فهنا ثلاثة أصناف من الناس، وكل صنفٍ له معنى، فالمقول لهم هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والقائلون لهم: هم أهل النفاق، والذين جمعوا لهم: هم أهل الشرك.
فالناس المحسودون هنا: هم العرب، أو هم أهل الإسلام، أو بني هاشم، والشاهد أنهم الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا منزل على النبوة، ثم الآية عامة، فكل من حسد الآخرين داخل في الآية، اللهم إلا حسد أهل الكفر وتمني زوال النعمة عنهم، فهذا له مستندات شرعية.
وهذه ثاني آية في كتاب الله تعالى ذكر فيها الحسد صريحاً، فالأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] .
والثانية: قوله تعالى هنا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء:54] .
والثالثة: قوله تعالى في سورة الفتح: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15] .
والرابعة: قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] ، فالحسد ذكر في كتاب الله صريحاً في هذه الآيات، وذكر تلميحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] ، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:51] ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، فهذه الآيات تلمح وتشير إلى الحسد.
وذكر الحسد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في جملة أحاديث، منها: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين حاسدٍ الله يشفيك) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (علام يحسد أحدكم أخاه؟) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وقيل للحسن البصري رحمه الله: أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف حين قال يعقوب عليه السلام: ((يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)) [يوسف:5] .
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ} [النساء:54] أي: ما أعطاهم الله تعالى من فضله، فإن كان كذلك {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] ، أي: إن كنتم تحسدون العرب على ما آتاهم الله تعالى من نبوة فيهم، وكفرتم بهذا النبي من أجل أنه عربي وليس منكم، فما بالكم قد جاءت فيكم النبوة، إذ أنتم من آل إبراهيم، فمنكم من آمن ومنكم من صد؟! فلماذا لم تؤمنوا إذا كانت المشكلة التي حصلت هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من العرب؟ فإذا كانت هذه علتكم وحجتكم فهي علة داحضةٌ وحجة باطلة، فقد جاءكم أنبياء من آل إبراهيم ليسوا من ذرية إسماعيل، بل من ذرية إسحاق وإسرائيل، فما بالكم كفرتم بهم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما مات نبي خلفه نبيٌ آخر) فكذبوا بعض هؤلاء الأنبياء، وقتلوا فريقاً منهم، فاليهود أهل الغدر والخيانات كما وصفهم الله في كتابه.
ويؤخذ من عموم الآية أن على الشخص إذا رأى من أخيه المسلم شيئاً يعجبه أن يبرك كما قال تعالى حكاية عن الرجل الصالح: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] أي: إذا خشيت الحسد قل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) .
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] ، كملك سليمان وملك داود عليهما السلام، فكان ملكاً عظيماً، وأي ملك أعظم من أن تسخر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص؟! وأي ملك أعظم من أن يفهم الشخص لغة الطير وسائر الدواب وكلها تخضع له بإذن الله عز وجل؟! وأي ملك أعظم من أن يلين الحديد في يد شخص يتصرف فيه بيديه كيف يشاء كالحبال وكالماء؟! وأي ملك أعظم من أن تقوم تسبح فتسبح الجبال معك والطير، وتسبح الدواب معك؟! ومع هذا الملك قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:55] ، فكفروا بسليمان عليه السلام، وقالوا: سليمان كان ساحراً وأخضع الجن بسحره، فقال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، فإن كنتم لم تؤمنوا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم فقير، فقد جاءكم نبي مَلَك الأرض بإذن الله تعالى، وملك الدواب بإذن الله تعالى، وسخرت له الريح، ومع ذلك كفرتم به ووصفتموه بأنه ساحر، وبأنه عبّد الشياطين بأنواع من السحر والشعوذة!(11/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً.)
قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ، هذا خبر يراد منه التهديد، والآية ردٌ قوي على القائلين بفناء النار، فرب العزة جل جلاله يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56] ، كما يرد قولهم قوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، وجاء أنه يوقف الموت على قنطرة بين الجنة والنار في صورة كبش أملح، ثم ينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت، وكلهم ينظر إليه، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] .
فكل هذه الأدلة ترد على القائلين بفناء النار، وهناك ما يقرب من عشرين أو ثلاثين دليلاً على إبطال هذا القول.
وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)) [النساء:56] العزيز: هو عظيم الجناب منيع السلطان، الذي لا يمانع ولا يخالف.
و (حكيماً) أي: في تصرفه سبحانه وتعالى، وتفسير الحكمة في حق البشر: أنها هي التي تمنع صاحبها عن كل ما يشينه ويسيء إليه، وقد يكون هذا المعنى لغوياً، وقد يكون شرعياً.(11/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات.)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] .
بعد أن ذكر تعالى عقاب أهل النار ذكر ثواب أهل الجنة، فأتى بهذا بعد هذا، فذكر عقوبة الكافرين، ثم ذكر جزاء المؤمنين يسميه العلماء مقابلة، وقد وصف الله القرآن بأنه مثاني، قال بعض أهل العلم: لأنه يأتي بعقوبة الكافرين ثم يأتي بجزاء المؤمنين، ونحوه قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] ، فالحميم: شديد الحرارة جداً، والغساق: شديد البرودة جداً، وثمَّ أقوال أخر في تفسير المثاني.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ردٌ على من قال: إن المجنون أفضل من المؤمن العاقل، وذلك لأن المؤمن العاقل عامل للصالحات، ونصوص الوعد والثواب جاءت له، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] ، فقيد الإيمان بالعمل الصالح، والمجنون لم يعمل صالحاً، فالقول بأنه أفضل من المؤمن العاقل الذي عمل صالحاً قولٌ بلا علم، والمجنون أمره إلى الله تعالى؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعةٌ يدلون بحججهم عند الله سبحانه وتعالى، وذكر منهم رجلاً مجنوناً يقول: يا رب! أتى رسولك وأنا رجل لا أفقه، فيختبر بجنة ونار، ثم يؤمر باقتحام النار، فإن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وإن لم يدخلها عُذّب) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أن التكريم بعمل الصالحات في هذه الآية وفي غيرها يبطل أقوال المتصوفة الذين يقولون بخلاف ذلك، كمن يصلي إلى غير القبلة، ويزعم أنه ولي من أولياء الله تعالى، أو يصلي وهو يبول على نفسه في الصلاة! كما يفعله صاحب قرية ميت الكرماء واسمه: السيد العسكري، فهو يصلي إلى غير القبلة أمام الناس كلهم، ويبول في الصلاة، ويصلي في الخيش القذرة، ومع ذلك يعبده أهل ميت الكرماء إلا من رحم الله منهم، ويزعمون أنه من أولياء الله الصالحين، بل هو من الفجار في الظاهر، والحكم عند الله سبحانه وتعالى يقضي فيه بما يشاء.
وقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [النساء:57] الأزواج قد تطلق على النساء، وقد يأتي الزوج بمعنى الصنف، كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] ، ومن أهل العلم من قسر الأزواج في قوله تعالى:: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] فقال: أي: ذكراً وأنثى، ومنهم من عمم التفسير وقال: إن أزواجاً معناها أصنافاً، والتفسير الأعم أولى من التفسير ببعض المفردات في كثير من الأحيان، فالأخذ بالعموم في هذا التأويل أولى من الأخذ بالخصوص؛ لأنه يدخل فيه الخصوص، فمعنى قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] أي: أصنافاً، فمنكم الذكر ومنكم الأنثى، ومنكم القوي ومنكم الضعيف، ومنكم العزيز ومنكم الذليل، ومنكم الجميل ومنكم الدميم، إلى غير ذلك.
وأحياناً يتعين التفسير بالخصوص في بعض المفردات كما في قوله تعالى هنا: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [النساء:57] ، فالأزواج هنا لا بد أن تحمل على النساء بقرينة وهي: (مُطَهَّرَة) ، ومعنى: (مُطَهَّرَة) قال فريق من العلماء: مطهرة من البول والحيض والبزاق والتفل ونحو ذلك، وقد جاء في ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لا يبزقون فيها، ولا يبولون ولا يمتخطون) ، ومن أهل العلم من قال: مطهرة أيضاً من الغل والأحقاد، وصنوف الحيل والمكر التي تتسرب إلى نساء الدنيا.(11/8)
الأسئلة(11/9)
حكم من طلق زوجته لفظاً وكتابة للمرة الثانية
السؤال
رجلٌ طلق زوجته لفظاً وكتابةً للمرة الثانية، وانتهت مدة العدة، فهل يمكن مراجعتها؟ وما هي الطريقة؟
الجواب
نعم.
تراجع لكن بعقد جديد وبصداق جديد وبولي وشهود، ونحو هذه القصة وقعت لـ معقل بن يسار مع أخته فقد قال -كما في الصحيح-: (زوجت أختاً لي من رجل فأكرمته، فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم جاء يخطبها إليّ، فقلت له: زوجتك وأكرمتك، ثم طلقتها وتركتها فلم تراجعها حتى انقضت عدتها ثم جئت تخطبها إليّ! والله لا أزوجك أبداً، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232] .
فيجوز له أن يرجع إليها بعقد جديد وبمهر جديد وبولي وشهود، ويبني على التطليق السابق، فله طلقة واحدة، فإن طلقها بانت منه، ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، لكن إن كان طلقها مرتين، ثم تزوجت بشخص آخر فدخل بها الزوج الجديد وجامعها، ثم طلقها ورجعت إلى الزوج الأول، فهذه قريبة من مسألة الهدم، وإن كانت ليست صريحة فيها، فالنكاح الجديد يهدم التطليقتين الأوليين، ويبدأ من جديد في احتساب ثلاث تطليقات.(11/10)
صلة الجار المرتكب للكبائر والمطلوب نحوه
السؤال
جارٌ لي مريض، ولكن طبيعته سب الدين وتعاطي المخدرات والتجارة فيها ولا يصلي، فكيف أتعامل معه؟
الجواب
نعوذ بالله تعالى! فكل الموبقات عنده مجتمعة، ولكن مع ذلك الجار له حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، قال القرطبي وغيره من أهل العلم: ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين الجار المسلم وبين الجار الكافر.
ورب العزة كذلك قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، إلى قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] ، فالنصوص جاءت عامة تحث على الإحسان إلى الجار، ولكن إذا كان بهذه الصورة المذكورة، فالتعامل معه بما يصلحه في دينه ودنياه، فإن علمت أنك بزيارتك له تصلح من شأنه، وتخفف المفاسد التي هو فيها فصله واحتسب صلتك عند الله سبحانه وتعالى.
وإن كنت تخشى على نفسك مضرةً في دينك، وتخشى على نفسك إن دخلت بيته أن تتلوث وتقع في فواحش مع النساء، ويسحبك الشيطان من جانب الإصلاح فيوقعك في جانب الفاحشة وأنت لا تشعر، فحينئذٍ اجتنب واتق الله تعالى ما استطعت، فالمسألة مبنية على مسألة توقع المصلحة أو المفسدة الناتجة من الزيارة، والعلم عند الله تعالى.(11/11)
لبس الخاتم في الأصبع الوسطى
السؤال
ما حكم لبس الخاتم في الإصبع الوسطى؟
الجواب
(نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم في الوسطى والتي تليها) ، وهذا بالنسبة للرجال، وأما بالنسبة للنساء فقد قال جمهور أهل العلم: إن المرأة يحق لها ويشرع لها أن تتختم في أي إصبع كان، في الأوسط أو في غير الأوسط، وحملوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن التختم في الوسطى والتي تليها) على أنه خاص بالرجال.(11/12)
تشبيك الأصابع في المسجد وما ورد فيه
السؤال
ما حكم تشبيك الأصابع في المسجد؟
الجواب
ورد في هذا حديث فيه: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة أو إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وبنى عليه تحريم أو كراهية تشبيك الإصبع في المسجد وعند القدوم إلى المسجد، بينما جنح الإمام البخاري رحمه الله تعالى إلى الغمز في هذا الحديث بإيراده حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك -يا عبد الله بن عمرو - إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم، وأصبحوا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) ، وهذا من ناحية الصحة أصح بلا شك من حديث: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه) ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أورده الإمام البخاري رحمه الله تعالى وغيره: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وهذا من ناحية القوة أقوى بلا شك من حديث: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة فلا يشبكن بين أصابعه) ، فإذا بنينا على أن حديث: (إذا عمد أحدكم إلى الصلاة فلا يشبكن بين أصابعه) حديث حسن، فإما أن يقال: إن هذا في الطريق من البيت إلى المسجد، وإما أن يقال: إن الأمر للكراهة وليس للتحريم؛ للصوارف القوية التي صرفته عن التحريم، والله تعالى أعلم.(11/13)
حديث المجروح حين اغتسل فمات
السؤال
ما صحة حديث: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ؟
الجواب
الحديث ضعيف لاضطرابه، وقد فصلت ذلك في تحقيق رسالة (إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد) فليراجعه من شاء.(11/14)
المسح على الجبيرة
السؤال
ما حكم المسح على الجبيرة؟
الجواب
بعد أن ثبت تضعيف حديث الجبيرة لضعف في أسانيده وفي متنه، بقيت مسألة المسح على الجبيرة مبنية على النظر في عمومات أخرى، فمن أهل العلم من قال: إن الشخص يتوضأ ويمسح على الجبيرة، أي: الجزء الذي جُبّس، فيتوضأ ويغسل كل الأعضاء، ويأتي إلى الجزء المجبس فيمسح عليه، واستدل بعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، ومن أهل العلم من قال: يتيمم عن الجميع، فيضرب بيديه في الأرض ويمسح بهما وجهه وكفيه، فهذان قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: أنك تتيمم وهذا التيمم يجزئ عن الوضوء كله، والآخر: أنك تتوضأ وتمسح على الجبيرة، ومنهم من قال: تتوضأ وتتيمم للجبيرة، فأصبحت ثلاثة أقوال، والدليل الصريح لا يقضي بتفضيل أحدها على الآخر، والله تعالى أعلم.(11/15)
البدء بغسل القبل والدبر عند الاستنجاء
السؤال
هل السنة في الاستنجاء أن يُبدأ بالقبل أم بالدبر؟
الجواب
لا أعلم في ذلك شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر واسع، فتبدأ بالقبل أو بالدبر، والأمر يسير، والله تعالى أعلم.(11/16)
تفسير سورة النساء [58-65]
أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمانات عامة ولا تقتصر على الأمانات المالية فحسب، كما أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل في الحكم بين الناس، والعدل يكمن في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، فتجب طاعتهم إلا إذا أمروا بأمر مخالف لكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ لا طاعة لهم.
وقد ذكر الله تعالى أحوال من تحاكموا إلى الطاغوت، واختلاف الحكم عليهم باختلاف الدافع لهم على ذلك.(12/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] .
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الأمر لمن؟ ظاهر الآية يفيد أن الأمر لعموم الناس.
ومن أهل العلم من قال: هو أمر لعموم المؤمنين، وهذا مبني على قاعدة وهي: هل الكفار مخاطبون بنصوص الشريعة وبفروع الشريعة أو ليسوا مخاطبين بها؟ من أهل العلم من قال: إن الأمر للناس كلهم، وهذا كما سمعتم مبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهي مسألة خلافية، وكون الكفار مخاطبين بنصوص الشريعة أو غير مخاطبين بها تنبني عليها جملة أحكام فقهية لا يتسع الوقت لسردها كطلاق المشرك إذا أسلم، فعلى القول بإن تارك الصلاة كافر مشرك، فلو طلق زوجته أثناء تركه للصلاة ثم أسلم بالصلاة، هل تعتبر تطليقاته التي طلق بها زوجته؟ مسائل متعددة تنبني على هذه القاعدة، لكن لا ندخل فيها.
شاهدنا الآن: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فيها أقوال: قال فريق من أهل العلم: إنها خاصة بالمؤمنين.
وقال فريق منهم: إنها للناس كافة.
ومن العلماء من قال: إن هذا كان خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قد أخذ مفتاح الكعبة من حجبتها وهم بعض بني شيبة، فجاء الأمر من الله للنبي أن يرد لهم مفاتيح الكعبة، لكن الآية أعم من ذلك.(12/2)
هل الأمر للوجوب أم للاستحباب؟
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} يا عموم المؤمنين، وهل الأوامر من الله على الوجوب أو على الاستحباب؟ قال فريق من العلماء: إن الأوامر على الوجوب إلا إذا صرفها صارف.
ومن العلماء من فصل بين الأوامر الواردة في فضائل الأعمال والأوامر التي دون ذلك، فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا ً) ، هل هذا الأمر من رسول عليه الصلاة والسلام يفيد الوجوب أو هو على الاستحباب؟ الجمهور من أهل العلم: أنه على الاستحباب.
(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي) ، هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب؟ قال الأكثرون: إنه على الاستحباب، لكن هنا الأمر على الوجوب.(12/3)
الأمانات التي أمر الله بأدائها
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَات} ، ما هي الأمانات؟ الأمانات عامة، تشمل الأمانات المالية، وتشمل غيرها من الأمانات، فإذا استؤمنت على مال فالآية موجهة إليك أيضاً، ومن أمانات الطبيب أن يؤدي إلى المريض حقه من التشخيص، ومن أمانات أصحاب الصنائع أن يتقنوا صناعاتهم وينصحوا للناس كما علمهم الله تبارك وتعالى، ومن الأمانات الأمانة العلمية، فالعالم استؤمن على علم عليه أن يؤديه إذا طلب منه، فالأمانات عامة لا تقتصر على الأمانات المالية فحسب، وقد قال فريق من أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:72] : إن المراد بالأمانة: الغسل من الجنابة، وهذا قول قد يراه الشخص غريباً عجيباً، لكنه قولٌ تقلده عدد من أهل العلم، وقال فريق من العلماء: إنها الأمانة بصفة عامة.
فقوله تعالى هنا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} أمر إيجاب، {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إذا طلبوها منكم.(12/4)
حث الشرع على العدل
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الحكم بالعدل أحاديث، منها: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة) ، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] ، فكل هذه الآيات والأحاديث تحث على العدل بين الناس، وتحث أيضاً على القضاء بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) ، ومسألة القضاء جاءت فيها نصوص وعيد، وجاءت كذلك فيها نصوص تبين فضل القاضي الذي يقضي بين الناس بالعدل بما علمه الله إياه، فهذه كلها أدلة تؤيد رأي من قال باستحباب القضاء بين الناس بالعدل، واستحباب العمل في القضاء إذا كان الشخص واثقاً من نفسه، وأنه سيقضي بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الباب حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة) قاضٍ علم الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاضٍ قضى بجهل لم يعبأ ولم يجتهد في معرفة الحق -هذا ليس من كلام الرسول إنما هو شرح للحديث- فهو في النار، وقاضٍ قضى بجورٍ عن عمدٍ فهو في النار كذلك.
وعلى ذلك فلا يتحاكم إلى قول الشاعر: قضاة زماننا أضحوا لصوصاً عموماً في البرية لا خصوصاً ولو عند التحية صافحونا لسلوا من أيادينا الفصوصا ولو أمروا بقسمة ألف ثوبٍ لما أعطوا لعريانٍ قميصاً الله يقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] ، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله يقضي على أبيات الشعر، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله هو الذي يتحاكم إليه.
قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} والعدل في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} هذا يخول للمسلم أن يحكم بين الكفار، وأن يقضي فيهم، قال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] فيجوز للمسلم أن يحكم في كفار، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على يهوديين زنيا بالرجم، وهذا ثابت في صحيح البخاري وفي غيره، فيجوز للمسلم أن يقضي بين الاثنين ولو كانا من الكفار.
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} ، نعم الشيء يذكركم به الله سبحانه وتعالى.(12/5)
إثبات صفتي السمع والبصر لله
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية وضع إصبعه الإبهام على أذنه والإصبع الأخرى على عينه، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} استنبط منها بعض أهل العلم صفة السمع لله وصفة العين لله، لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
من المعلوم أن الله قال في كتابه الكريم: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فجاءت العين مفردة، وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فجاءت العين مجموعة، فصفة العينين لله لم ترد صريحة في كتاب الله إنما أخذها العلماء من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا إن المسيح الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور) فقالوا: نفي العور يعني إثبات العينين، واستدلوا بهذا الحديث الذي سمعتموه عند تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) .(12/6)
معنى: أولي الأمر
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} من هم أولي الأمر؟ لأهل العلم فيهم قولان: أولهما: أنهم ولاة الأمور، وثانيهما: أن المراد بأولي الأمر: أهل العلم، ولفظ أولي الأمر يأتي أحياناً محمولاً على الولاة، وأحياناً على أهل العلم، حمله على أهل العلم كما في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] فأولي الأمر هنا هم أهل العلم، فالآية نزلت في شأن عمر، لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق أزواجه، فذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بالناس جلوس يبكون، فطرق واستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له بعد ثلاث، فقال: (هل طلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا، فكبر عمر) فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، فكان عمر من أولي الأمر مع أنه لم يكن أميراً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يأتي اصطلاح أولي الأمر ويقصد به الولاة الذين قال الله في شأنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] ، وأحياناً -كما ذكرنا- يراد بأولي الأمر: أهل العلم، والآيات هنا محتملة للاثنين معاً.
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أولي الأمر هنا محمولة على الاثنين معاً، محمولة على الولاة ومحمولة على العلماء.(12/7)
طاعة الأمراء والعلماء مقيدة بالمعروف
أما طاعة الولاة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) هذا بالنسبة لولاة الأمر، لكن إذا أمر ولاة الأمر بأمر مخالف لكتاب الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذٍ لا طاعة لهم، فإن الله يقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على جيش، وأوصى الجيش بطاعة الأمير، وقيل إنه عبد الله بن حذافة السهمي فلما كان ببعض الطريق قال لأصحابه: ألم يأمركم صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، فجمعوا له حطباً، فقال: أججوا فيه النار، فأججوا فيه النار، ثم قال لهم: اقتحموها، فترددوا، ففريق يقول: أمرنا النبي بطاعته فلنطعه، وفريق يقول: إنما اتبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فراراً من النار، والله! لن ندخلها أبداً، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو دخلتموها ما خرجتم منها إلا يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف) .
فإذا أمر الأمراء بشيء مخالف لأمر الله فطاعة الله ورسول الله مقدمة على كل الطاعات، والأمر في شأن العلماء كذلك، إذا أتى عالمٌ بشيء يخالف كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام عن اجتهادٍ أو عن غير اجتهاد واتضح لنا أن الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله خلاف ما يقول؛ لزمنا اتباع الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله، والآية شاهدة على ذلك: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أنتم وولاة الأمر {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] .
وعلى هذا سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع العلماء ومع الأمراء، فكانوا يقبلون من الأمراء أقوالهم، لكن إذا أتى الأمراء بشيء خلاف كتاب الله وسنة رسول الله لم يقبلوه، فهذا عمر المحدث الملهم، الخليفة البر الراشد لما نهى الصحابة عن التمتع في الحج قام له عمران بن حصين وقال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد التمتع في كتاب الله، فقال رجلٌ برأيه ما شاء، ونحوه قال علي لـ عثمان رضي الله تعالى عنهما، فقول عمر وعثمان رضي الله عنهما كان عن اجتهاد، لكن لما لم ير علي وعمران أن الاجتهاد موافقٌ للدليل ردوا هذا الاجتهاد، وأقبلوا على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي أنتم وولاة الأمر، وهذا قد يرد، فيختلف الأمير أو العالم مع بعض العامة في مسألة، ليس معناها أنه يكفر بها هذا أو ذاك، إنما إن تنازعتم في شيء (فردوه) أي: ارجعوا الحكم فيه إلى الله وإلى الرسول {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، والتأويل له عدة معانٍ وقد تقدم الكلام عليها.(12/8)
معاني الزعم وإطلاقاته
ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الزعم يطلق على الكلام المشهور بالكذب، وأحياناً يطلق على مجرد القول، قالت أم هانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! زعم ابن أمي -تعني علي بن أبي طالب - أنه قاتل رجلاً قد أجرته يا رسول الله! قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ!) فقولها: زعم ابن أمي أي: قال.
أما القول المشهور بالكذب فهو الاستعمال الأكثر للزعم، أو القول الذي هو خطأ محض {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] .(12/9)
معنى الطاغوت وأحوال من تحاكم إلى الطاغوت
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} آمنوا بما: ما هنا بمعنى الذي، {آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} هو القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب.
وهذه الآية قد يقال: المعني بها أهل الكتاب الذين كانوا يقطنون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا آمنوا في الظاهر بما أنزل على رسول الله، وآمنوا أيضاً بالكتب الذي نزلت قبل رسول الله، لكن لقائل أن يقول: إنهم أهل النفاق، وهذا القول قوي وهو الأنسب؛ لأن أهل النفاق آمنوا جملة بالقرآن وما جاء فيه ظاهراً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يعطي حكماً فقهياً فحواه أن الذي يُجبر على التحاكم إلى الطاغوت غير الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إليه، فمثلاً: رجل سرق منه مال، ليست أمامه أي حيلة لاستخلاص هذا المال إلا بهذه المحاكم، والمحاكم تحكم بغير ما أنزل الله، فهل يترك المال يضيع أو يذهب ويأتي بماله عن طريق هذه المحاكم؟ هذه حال يختلف صاحبها عن الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إلى الطواغيت في كل شئونه، فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يفرق بين المكره على التحاكم إليها الذي يتحاكم إليها لضرورة ولنازلة حلت به وبين مرتاح القلب الهادئ البال أثناء التحاكم إليها الراغب في التحاكم إليها.
فحينئذٍ لا بد أيضاً لاعتبار إصدار الحكم بالكفر على شخص من مراعاة حاله والحامل له على هذا التحاكم، هل هو إكراه؟ هل هو حبٌ قلبي؟ هل هي نازلة حلت به؟ فليس كل من تحاكم إلى الطاغوت كافراً، فأحياناً يجبر الشخص على ذلك، وأحياناً لا يجبر لكن تأتيه بلية تحمله على ذلك، فالأمر يحتاج إلى تفصيل في تنزيل الأحكام على الأشخاص، ليس كما يفعل بعض الناس إذا رءوا شخصاً في المحكمة حكموا عليه بالضلال والكفر، لا، بل الأمر فيه تفصيل، وكل مسألة تحتاج إلى النظر في ملابستها للحكم في شأن مقترفها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن حاطب بن أبي بلتعة أرسل إلى المشركين يحذرهم من رسول الله يقول ما حاصله: انتبهوا -يا أهل الكفر- فإن محمداً عليه الصلاة والسلام يعد العدة لغزوكم، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب، فأتي به، فقال عمر المحدث الملهم أمام رسول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله! قد خان الله وخان رسول الله وخان المؤمنين، فالرسول يقول مقولة المعلم الذي يعلم أمته: (يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟) فماذا كان رد حاطب؟ قال ما حاصله: والله يا رسول الله! ما كفرت بعد إسلام، ولا أحببت الكفر، ولكني نظرت -يا رسول الله- فإذا أصحابك الذين هم معك بالمدينة لهم أقارب يخلفونهم بمكة في أموالهم وذراريهم، أما أنا فكنت ملصقاً بأهل مكة لم أكن منهم، فأردت أن أتخذ عندهم يداً - يعني نعمة أقدمها إليهم ومعروفاً أسديه إليهم- يدفع الله بتلك اليد عن ما لي وأهلي الذين تركتهم في مكة، فأردت أن أصنع فيهم معروفاً وجميلاً حتى يحافظوا لي على أموالي وأولادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقكم فلا تقولوا له إلا خيراً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ففي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ} ما يفيد أن الإرادة من القلب، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} ، والطاغوت كل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان، شيطاناً كان -والشيطان كبيرهم-، أو كان كاهناً أو ساحراً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو غير ذلك، فكل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان فهو طاغوت، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] ، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] .
((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)) ومن أهل العلم من قال: إن الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، فعلى هذا أوّل الآية فقال: كانت طائفة من أهل النفاق ترغب في التحاكم إلى كعب بن الأشرف مع أنها زعمت أنها مؤمنة بالله وما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)) والأمر بالكفر بالطاغوت وارد في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، واجتناب الطاغوت متضمن للكفر بكل ما يعبد من دون الله، وكل ما يطاع من دون الله، فيلزم المسلم أن يكفر بكل ما يعبد من دون الله.
فيجب على كل مسلم أن يكفر بكل شرع لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، ولم يشرعه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه من أصول ديننا ومن المسلّمات، من أصول الدين أن يكفر بكل شرع غير شريعة الإسلام، وبكل كتاب غير كتاب الله والكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] ، يضلهم بماذا؟ يضلهم بحملهم على التحاكم إلى الطاغوت، فالآية أفادت أن من تحاكم إلى الطاغوت فقد ضل ضلالاً بعيداً، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} بإغوائهم وسوقهم إلى التحاكم إلى الطاغوت {يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} .(12/10)
موقف المنافقين إذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} هلموا وتحاكموا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} فكل من صد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله فهو منافق، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} .(12/11)
المعاصي سبب نزول المصائب
قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] الباء سببية، فكيف إذا حلّت بهؤلاء المنافقين الذين يصدون عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبة؟ (بما) أي: بالذي، أي: بسبب الذي قدمته أيديهم، من صد عن كتاب الله وصد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
في الآية أن المعاصي سبب لنزول النقم من الله سبحانه وتعالى، فالمصائب تأتي بسبب الصد عن سبيل الله {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، فالمصيبة نزلت عليهم لما اقترفوه من صد عن كتاب الله وصد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا؛ فالحال التي نحن فيها ونعيشها مؤذنة بنزول المصائب علينا لولا رحمة الله سبحانه وتعالى بنا.
فالصد عن سبيل الله سببٌ لنزول المصائب من الله تعالى كما أثبتته الآية الكريمة {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي كيف يكون حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم؟ {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ما أردنا بإبعادنا الناس عن الكتاب والسنة إلا الإحسان والتوفيق، وهذا شأن أهل الإجرام والفساد، يصرفون الناس عن كتاب الله وعن سنة نبيه محمد ويقسمون أنهم من المصلحين! (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا) أي: ما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، ونحو ذلك قاله فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] ، فهؤلاء أهل النفاق كذلك يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} .(12/12)
ما في القلب مرتبط بسعادة العبد أو شقاوته
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] .
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} والذي في القلوب سبب لجلب رحمة الله، وسبب لنزول العذاب من الله، فإذا كان الذي في قلبك خير نزلت عليك السكينة، قال تعالى في سورة الفتح في شأن أصحاب نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، فأصلح قلبك وعلى قدر ما فيك من الصلاح يأتيك الخير.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:70-71] فرزق الله يأتي مع أخذ السبب بناءً على ما في القلوب، لما جاء العباس إلى رسول الله وكان في الأسر، وقال: يا رسول الله! والله! إني كنت مسلماً فرد علي الفدية التي أخذتها مني، فنزل: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] ، فالأجر مرتب على الخير الذي في القلوب، والعذاب كذلك مرتب على الشر الذي في القلوب، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} العلم بما في القلوب ليس لك يا رسولنا محمد! إنما مرده إلى الله سبحانه وتعالى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تكثر الجدل معهم، ولا الحديث معهم، ولا الجلوس معهم.(12/13)
الموعظة البليغة وأثرها
قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} فيه استحباب الموعظة، وأنها قد تأتي بنتيجة، حتى مع أهل الكفر وحتى مع أهل النفاق.
{وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} هنا أيضاً في هذه الآية فضل الفصاحة والبلاغة، فالذي يتعلمها ابتغاء وجه الله لبيان كتاب الله ولبيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقرارهما في قلوب العباد بإذن الله له نيته، ويثاب على ذلك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} فيه فضل البلاغة والفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) ، يمكن أن تقول له مقالة طيبة تسحر قلبه بإذن الله وتحوله من الشر إلى الخير، بناءً على الكلمات الطيبة، ولذلك كان أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على هذه الشاكلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) .(12/14)
وجوب طاعة الرسول
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} [النساء:64] الرسل أرسلت لتطاع، لا ليؤخذ من قولها ويرد، فقول الرسول ليس كقولنا، ودعاء الرسول ليس كدعائنا، ومناداة الرسول ليست كمناداتنا، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] ودعاء الرسول ليس المراد به هنا الدعاء المعهود من طلب الشيء من الله إنما الدعاء طلب الرسول منكم، لأن الآية نزلت في حفر الخندق فكان أقوامٌ يتسللون ويهربون لواذاً أثناء حفر الخندق وأثناء غزوة الأحزاب، فأنزل الله في شأنهم هذه الآية: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
وقال تعالى هنا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} ولكن هذه الطاعة منكم لأنبياء الله لا تكون إلا بإذن الله، فالقلوب لا يملكها إلا هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100] فطاعة العبد لله إنما هي من الله سبحانه وتعالى ومن توفيق الله للعبد، ولذلك يقول أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] .
والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] فالمهتدي من هداه الله.(12/15)
طلب الاستغفار من النبي يكون في حياته لا بعد مماته
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] .
هنا أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قصة العتبي، وقد ليم الحافظ ابن كثير على إيراده لها مع سكوته عليها، وهذه إحدى المآخذ التي أخذت على الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فهو وإن كان مسدداً في تفسيره، والغالب عليه التوفيق إلا أن هذا من المآخذ التي أخذت عليه رحمه الله تعالى، أورد قصة العتبي الذي كان جالساً بجانب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ يثني على رسول الله ويقول: جئتك مستغفراً يا رسول الله! فاطلب من الله أن يغفر لي وأنشد أبيات شعر: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه.
إلى آخر أبيات الشعر ثم انصرف الرجل، فنام العتبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: اذهب إلى الأعرابي وقل له: إن الله قد غفر لك، فهذه القصة لا نعلم لها إسناداً البتة، ثم هي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ منها دليلٌ ملزم، ثم هي رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تبنى عليها أحكام، فأخذ منها أهل التصوف أنهم يذهبون إلى قبر الرسول، ويطلبون من رسول الله أن يستغفر لهم ربه، ولو كان الأمر على ذلك لفعله أصحاب الرسول الكبار كـ أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فهذا وجه المؤاخذة على الحافظ ابن كثير إذ لم يعلق عليها تعليقاً يليق بها، ويبين ما فيها، والله أعلم.
فالحاصل أن طلب الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر: (استغفر لي يا رسول الله!) ، ولو كان طلب الاستغفار من رسول الله بعد موته مستساغاً لفعله كبار الصحابة، وقد تقدم أن المسلمين لما نزلت بهم نازلة المجاعة استسقوا بـ العباس، ولم يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره طالبين منه أن يدعو الله عز وجل لهم كي يسقوا.(12/16)
سبب نزول قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك.)
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] قال الزبير بن العوام: فيّ نزلت هذه الآية وفي رجل من الأنصار، كان بيننا خصومة في شراج الحرة -مكان سقيا الماء- فذهبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحاكم إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير! ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ، وذلك باعتبار أن الماء كان يمر على الزبير أولاً، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله! أوإن كان ابن عمتك؟ يعني أنك حكمت له لكونه ابن عمتك، فـ الزبير ابن صفية وصفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله التي قال لها: (يا صفية بنت عبد المطلب! سليني من مالي ما شئت ... ) فقال الأنصاري لرسول الله: أوإن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! أي: من أجل ذلك قضيت له! فتلون وجه رسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد أشار عليهما بأمر فيه إصلاح لهما معاً، فقال: (اسق -يا زبير - حتى يرتد الماء إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ففيه نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، فأمر النبي الزبير أن يستوفي حقه كاملاً، يعني العرف يقضي بأن الشخص إذا مر عليه الماء أن يسقي أرضه حتى يرتفع الماء إلى قدر معين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير في بداية الأمر بأمر فيه خيرٌ لهما معاً، أن يأخذ قدراً يسيراً من الماء ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فلما أصر الأنصاري على أن يقضي بينهما قال الرسول: (اسق -يا زبير - حتى يرتد الماء إلى الجدر -يعني: استوف حقك كاملاً - ثم أرسل الماء إلى الأنصاري) ففيه نزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
فإذا جئت إلى شخص وتحاكمت معه إلى كتاب الله، وأنت غير مرتاح القلب لهذا التحاكم فإيمانك ناقص أيضاً مع أنك تحاكمت إلى كتاب الله؛ لأن الله يقول: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} هذا هو الإيمان.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، ولهذه الآية مزيدٌ من التعليقات تأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.(12/17)
الأسئلة(12/18)
حكم ارتداء الحرير الصناعي للرجال
السؤال
ما حكم ارتداء الملابس التي تصنع من الحرير الصناعي بالنسبة للرجال؟
الجواب
الحرير الصناعي جائز للرجال، الممنوع هو الحرير الذي منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما اخترعه الناس وأطلقوا عليه اسم الحرير فلا يدخل في الباب، لكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فلقائل أن يقول بكراهته، والله أعلم.(12/19)
حكم ارتداء الملابس ذات الألوان المتداخلة للرجال
السؤال
وما حكم ارتداء الملابس الملونة ذات الألوان المتداخلة بالنسبة للرجال أيضاً؟
الجواب
إن كانت تشبه ألوان ثياب النساء فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي الحقيقة أنها تشغل المصلي والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذهبوا بخميصتي هذه وائتوني بإنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) .(12/20)
حكم من أخذت حقوقه وتحاكم إلى المحاكم الطاغوتية
السؤال
هناك رأي للشيخ الفلاني يقول: إن كان لي حقوق عند الآخرين، ولا أستطيع أخذها إلا بواسطة التحاكم لهذه المحاكم، فترك الحق أفضل من أخذه بواسطة هذه المحاكم؛ لأنها تحاكم للطاغوت؟
الجواب
هذا القول لا نوافق عليه هذا الشيخ الكريم، فإن هذا فيه تسليط لأهل الشر والفساد على المسلمين واختلاس أموالهم بحجة أن المسلمين يتركون حقوقهم تضيع، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ما لم ترتكب أنت وسيلة محرمة، فالظاهر -والله أعلم- جواز الاستعانة بالظالم بل جواز الاستعانة بالكافر لأخذ حقٍ من حقوقك الذي اغتصب منك.
النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف، كان أهل مكة يتربصون شراً برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي فقال المطعم بن عدي لقبيلته: إني قد أدخلت محمداً في جواري، فهلموا إلى حمل السلاح للدفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم، فحملت قبيلته السلاح دفاعاً عن رسول الله، ثم قال لأهل مكة: يا أهل مكة! إن محمداً قد دخل في جواري، فمن تعرض له بسوء، كانت الفاصلة بيني وبينه، ودخل النبي في هذا الجوار، ومن ثم لما أسر النبي صلى الله عليه وسلم أسرى قريش قال: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء الناس لأعطيتهم له) ، أي: جزاءً للذي عمله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الظاهر -والله أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ولو بالتحاكم إلى هذه المحاكم، وليست إرادتك أن تأخذها بواسطتها، لكن هي حلت بنا، فنحن نختار أقل المفسدتين، فإذا كان رب العزة سبحانه أجاز لك أن تتلفظ بكلمة الكفر خوفاً على حياتك أو إذا أكرهت على ذلك فما هو دون الكفر من باب أولى.
لأنه الآن أصبح لزاماً علينا -رغم أنوفنا- أن نتحاكم إلى هذه المحاكم، مثلاً: الآن التعاملات بين الناس في البيع والشراء تطورت عما كان على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان فيها نقد، وكان فيها إلى أجل، وكان فيها رهن، والرسول مات ودرعه مرهونة، والآن قد تبيع لشخصٍ، ولا يعطك المال، ويكتب عليه شيكاً أو وصل أمان، فإن قال لك: ما أعطيك الوصل، ما أعطيك القروش ماذا تصنع؟ هل تقول له: مع السلامة، هي حلال لك، النبي نهى عن إضاعة المال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) .
فلدينا شيئان: إما أن يضيع مالي وهذا أمر يكرهه ربي.
أو أطلب مالي بطريقة لا أرتكب منها إثماً، فالذهاب إلى المحكمة ليس عن إرادتي أن أتحاكم إلى شرع غير شرع الله، وإنما إرادتي أن أستخلص مالي؛ لأن ضياع المال يكرهه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.(12/21)
حكم العمل في المحاماة
السؤال
ما حكم العمل في المحاماة؟
الجواب
إذا كنت تقرر حقاً فأنت محق، وإذا كنت تقرر باطلاً فأنت مبطل، وأصبحت مهنة لازمة الآن للمسلمين، فإن كنت تنشد الحق فيها وتعمل ما يرضي الله سبحانه وتعالى فأنت محق، وكم من محامٍ نفع الله به المسلمين، فهنا أقول للشيخ الفاضل الشيخ صالح عبد الجواد نسأل الله أن يحفظه: لما منع الوزير البنات من دخول الجامعة بالنقاب، سعى سعياً مشكوراً ونفع الله به، ودخلت مائة وخمسون فتاة الجامعة بالنقاب.
أما إذا كنت تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فالله يقول: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] .(12/22)
معنى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي)
السؤال
يقول تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ،وقال عيسى عن نفسه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117] ، فهل عيسى عليه السلام مات؟
الجواب
قال فريق من العلماء: إن الموت يطلق على النوم، واهدهم قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) ، فقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] قال فريق من العلماء: معناها: منيمك ورافعك إلي، وقد جاء في الأثر ما يوضح هذه القصة بأنه ألقيت عليهم الإغفاءة فرفع الله فيها عيسى صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قال: إن الواو في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] لا تقتضي الترتيب، والدليل على أن الواو لا تقتضي الترتيب -مثلاً- قولك: جاء زيدٌ وعمرو، لا يعني: أن زيداً جاء، ثم جاء بعده عمرو، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، فالسلام قبل الاستئناس، يعني: لما تدخل البيت تطرق الباب وتسلم سلام الاستئذان، وإذا دخلت البيت فإنه فاتك الاستئذان، كما قال عمر لرسول الله لما دخل البيت: ائذن لي أن أستأذنك يا رسول الله! فالأصل أن الاستئذان للدخول (سلام الاستئذان) قبل الاستئناس، لكن الآية فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، فالواو لا تفيد الترتيب فقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] لا تعني: أنني متوفيك أولاً ثم رافعك ثانياً.
فإن فسرناها بمنيمك فالأمر مستقيم، أي: إني منيمك ورافعك إلي، وإن فسرت: إني رافعك إلي ومتوفيك بعد ذلك فالأمر ليس فيه إشكال لكن اليقين الذي لا شك عندنا فيه أن الله قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن ابن مريم أن ينزل فيكم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) .(12/23)
مسألة الظفر
السؤال
مسألة الظفر ما هي؟ وهل تجوز أو لا تجوز؟
الجواب
مسألة الظفر يوردها العلماء عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وهي أن يكون هناك رجل مختلسٌ لأموالك، وتمكنت أنت من شيءٍ من ذلك، إما على سبيل أمانة أودعك إياها، أو احتلت حيلة حتى أخذت جزءاً من ماله أو من متاعه، وبعد ذلك أخذت حقك من هذا المال، فهل هذا جائز أو غير جائز؟ مثلاً: رجلٌ أخذ منك ألف جنيه، وهو مماطل فوجدت له سيارة محملة بضاعة، جئت إلى السيارة وأخذت السيارة بما فيها وانصرفت، فكل هذا يدور حول مسألة الظفر، لكن كمثال لها: رجل استأمنك على مال وقال: خذ هذا المال أمانة عندك لي، ثم بعد ذلك أكل عليك مالاً أو فعل معك مظلمة، هل يجوز لك أن تقتص من هذا المال بقدر المظلمة؟ هذه المسألة تسمى مسألة الظفر، أجازها فريق من العلماء لعمومات؛ من هذه العمومات قول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، ولقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] .
وقصة هند مع أبي سفيان، حيث جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت -وهي زوجة أبي سفيان -: (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح يا رسول الله! فهل علي جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه، وهو لا يعلم، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، زوجها شحيح بخيل لا يعطيها ما يعطي الرجال النساء ممن هم في مثلها، فهل علي جناح أن آخذ من ماله -لأنه ثري في الأصل- بغير إذنه؟ قال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فهذه أدلة القائلين بجواز هذه المسألة.
ومنع فريقٌ محتجين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -والإسناد فيه نظر-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ، لكن في هذا الحديث نظر، والراجح عندي أنه ضعيف، واستدلوا أيضاً على المنع بالنهي عن الغدر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب لكل غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ، فهذه حجج المانعين، والورع يقتضي الامتناع، والحكم يقتضي الجواز، والله تعالى أعلم.(12/24)
تفسير سورة النساء [66-73]
في قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم) الآية، إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يلتزم أمر الله، وأن لا يتكلف؛ لأن التكلف مذموم بالكتاب والسنة، وما وقع بنو إسرائيل فيما وقعوا فيه إلا بسبب تكلفهم وتنطعهم.
والالتزام بأمر الله عز وجل سبب في تثبيت الله للعبد، وسبب في هدايته إلى الصراط المستقيم، وإذا ثبت على الحق وهدي إليه فإنه بذلك يصبح أهلاً لأن يكون رفيقاً للنبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
وهذا كله من فضل الله على عباده.(13/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68] .
قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم) الضمير في قوله تعالى: (عليهم) يرجع إلى من؟ قال فريق من المفسرين: إنه يرجع إلى أهل النفاق، والمعنى على هذا التأويل: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبنا ذلك على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا إلى الحبشة، (ما فعلوه) أي: ما فعلوا ذلك، أعني: قتل النفس، والمراد به: قتل بعضهم بعضاً كما فعل بنو إسرائيل مع بعضهم، وكذلك الخروج من الديار، لا يفعل ذلك المنافقون، فالمعنى: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبناه على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} في الآية إشارة إلى أن الشخص يقنع بالتكاليف التي كلفه الله تعالى بها، ولا يسأل الله المزيد من التكاليف، فلعله إن سأل مزيداً من التكاليف وكُلف ألا يقوم بتلك التكاليف، وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا وسلوا الله العافية) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا الآيات -أي: لا تسألوا المعجزات- فقد سألها قوم من قبلكم ثم كفروا بها) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي هذا الباب أيضاً يقول الله تعالى ناقماً على قوم سؤالهم مزيداً من التكاليف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] ، استطردوا فسألوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] لما جاءهم طالوت ملكاً قالوا معترضين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ، فالشخص ينبغي له ألا يسأل مزيداً من التكاليف، فلعله إن كلف أن ينكص على عقبيه، وقد قال الله تعالى في شأن أقوام كهؤلاء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] ، وهم كانوا قد سألوا ربهم سبحانه وتعالى التكليف بالقتال، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) ، فهذا كله يفيد أنه ينبغي للشخص ألا يسأل ربه مزيداً من التكاليف، ومن ذلك: الإمارة، إذا سألها الشخص لم يعن عليها، وإذا أتيت إليه رغماً عنه أعانه الله تبارك وتعالى عليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، فجدير بالشخص أن يقنع بما كلفه الله سبحانه وتعالى، ولا يسأل ربه مزيداً من التكاليف لعله ألا يقوم بتلك التكاليف التي أمره الله تبارك وتعالى بها.
قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) قال كثير من المفسرين -كما سمعتم-: إن (عليهم) أي: على أهل النفاق.
وقوله: (أن اقتلوا أنفسكم) أي: يقتل بعضكم بعضاً، فإن النفس تطلق ويراد بها الإخوان أو الأقارب أو الخلان كما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ، وكما قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ، وكما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم، فكل هذا يفيد أن النفس قد تطلق على نفس الشخص أحياناً، وتطلق على إخوانه أحياناً أُخر، والآية هنا محتملة للوجهين من التفسير.
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} الضمير في (فعلوه) يرجع إلى القتل، ويرجع إلى الإخراج أيضاً، يرجع إليهما معاً، والضمير قد يثنى ويراد به المفرد ويراد به الجمع، وقد يفرد ويراد به المثنى ويراد به الجمع، وهذا وارد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] ولم يقل: ولا ينفقونهما في سبيل الله، وقال تعالى في نحو هذا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] ، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، ومن العلماء من قال: (وإنها) ترجع إلى الاستعانة نفسها فخرج من الإشكال، ومن تثنية الضمير وإرادة الجمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ولم يقل: يديهما، فجمع الأيدي، والسارق والسارق مثنى، والله سبحانه أعلم.
فقوله تعالى: (ما فعلوه) أي: ما فعلوا الاثنين معاً: القتل والإخراج.
قوله: (ما فعلوه إلا قليل منهم) أي: قليل منهم من يمتثل الأمر في الظاهر، هذا إذا حملت الآية على أهل النفاق، فأهل النفاق إن نفذوه ينفذونه ظاهراً، أما باطناً فلا تطاوعهم قلوبهم على فعل أمر الله وفعل أمر رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فالأكثرون لا يقومون بالتكاليف، ومن ثم قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان أو الثلاثة، والنبي يمر وليس معه أحد) ، وقال تعالى أيضاً مبيناً أن الكثرة غاوية: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] .
قال سبحانه هنا: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} المراد بالوعظ هنا: الأمر، أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، الوعظ يطلق أحياناً على الزجر، ويطلق أحياناً على التذكرة، ويطلق أحياناً على الأمر، والمراد به هنا: الأمر، ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، أي: اقتصروا على فعل أمروا به ((لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)) أي: خيراً لهم من طلب تكاليف أخر لا يستطيعون القيام بها، فالقصد في العبادة والمداومة على القليل مطلب شرعي، سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن عمله فقالت: (كان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه) ، أو كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وهذا عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما كانت له في شبابه همة عالية للعبادة، وحثه النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كل شهر مرة فقال: (إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأه في الشهر مرتين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله، قال: فاقرأه في كل أسبوع مرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأ في ثلاث ولا تزد على ذلك) ، وفي آخر حياته كان يقول -لما كبر ولم يطق القيام والصيام-: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فالمداومة على العبادة وإن كانت قليلة، أولى من الاندفاع إليها والإكثار منها ثم الفتور والخمول بعد ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) ، أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوع(13/2)
تفسير قوله تعالى: (ولهديناهم صراطاً مستقيماً.)
((وَإِذًا)) : إذا ثبتوا وعملوا المأمور به {لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} * {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .
في قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} الهداية هنا ترتبت على فعل المأمور به، إذا فعلوا المأمور به هديناهم صراطاً مستقيماً، فأفعالهم كانت سبباً لمزيد من الهداية لهم، وهي كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، فالذي يلمس ويلتمس ويبتغي طريق الهداية، ويبحث عنها يزيده الله تبارك وتعالى هداية، والذي يسلك طريق الغواية كذلك، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاًَ، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً) الشاهد أن قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} رتب على أعمال عملوها، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .
فالهداية أصلها من الله كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] لكن هناك أسباب يسلكها العبد بها ينال هداية الله عز وجل له.
((وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا)) أي: طريقاً ((مُسْتَقِيمًا)) .(13/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول.)
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] هذه المعية هل تقتضي التساوي في الأجر؟ لا تقتضي التساوي في الأجر، فإنه وإن كان معهم قد يكونون في درجة أعلى من درجته، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الأذان: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة) .
فالشاهد: أن النبي عليه الصلاة والسلام ينال منزلة الوسيلة وهي لا تنبغي لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن المعية في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} لا تقتضي المماثلة في الأجر، إنما يكون معهم في مجالسهم يزورهم ويزورنه، يراهم ويرونه، يستضيفهم ويستضيفونه، إلى غير ذلك، لكن إذا أوى كل شخص منهم إلى رحله كانت درجته أرفع وأعلى ممن هو دونه في العمل، وقد رضي كل واحد منهم بالقسمة التي رزقه الله تبارك وتعالى إياها، وهذا كما نكون نحن في المسجد كلنا معاً، يقال: هذا كان معي أمس، وهذا معي اليوم، لكن إذا آوى أو ذهب كل منا إلى رحله، كانت لهذا منزلة وله سعادة في بيته، ولهذا منزلة دونها وله مشاكل وشقاوات في بيته، وإن كانت الجنة منزهة عن تلك الشقاوات، فهذا معنى المعية، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أيضاً: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء) وكلهم في الجنة، ومع ذلك بينهم التفاضل هذا الوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(13/4)
الصلاح أقل من مرتبة الشهادة غالباً
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ، والصلاح على هذا الترتيب أقل من منزلة الشهادة، ولكن قد يفوقها أحياناً، قال سليمان صلى الله عليه وسلم: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] مع أنه نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(13/5)
تفسير قوله تعالى: (وحسن أولئك رفيقاً)
{فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري) والنحر معروف، والسحر هو الرئتان، أي: كان مسدلاً ظهره إلى هذا المكان من جسمها (ثم شخص ببصره إلى السماء صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم! الرفيق الأعلى، اللهم! الرفيق الأعلى، قالت عائشة: وكنت أذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان صحيحاً -أي: قبل أن يمرض- أنه قال: ما من نبي يمرض -أي: مرض الموت- إلا ويرى مقعده من الجنة ثم يخير، -أي: بين البقاء في الدنيا وبين الموت- فلما شخص النبي صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء وقال: اللهم! الرفيق الأعلى، علمت أنه لن يختارنا، ثم قبض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) .
وفي قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} أن إطلاق الرفيق على الصاحب مستنده من كتاب الله، وبعض الشيوعيين يستعملونها، فيقولون للزميل: رفيق، وهي لغة لبعض البلاد كباكستان ونحوها، وهذا من المستساغ لغة الذي لا يلام فاعله، ولكن لكل بلد في هذا الشأن عادتها، وإذا اتجهنا إلى سمت رسول الله فهو الأولى والأليق، ففي باكستان مثلاً يقولون: يا رفيق، للزميل، وفي مصر يقولون: يا جدع، وفي السعودية يقولون: يا بويه، وفي اليمن: يا خبير، وفي أوصاف الإخوة يقولون: يا أخ فلان، لكن لو درجنا على ما درج عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الشخص يدعى باسمه أو بكنيته فهذا أكمل هدي وخير هدي، وهو هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فالاستحباب أن يدعى الشخص باسمه أو بكنيته، وما أخال أحداً يكره أن يدعى باسم ولده: يا أبا فلان، والمرأة تدعى باسم ولدها: يا أم فلان، والله تعالى أعلم.(13/6)
معنى الصديقية وكيفية الاتصاف بها
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] ، الصديق أصله من كثرة الصدق في الحديث، ومن كثرة التصديق كذلك، لكن يحمل التصديق على معنى شرعي وهو: تصديق الله فيما أخبر به، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن ربه تبارك وتعالى، فالصديقية مأخوذة من كثرة التصديق، ومأخوذة من كثرة الصدق كذلك، فـ أبو بكر رضي الله عنه أُطلق عليه أنه صديق؛ لكثرة تصديقه بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخبر الذي ظاهره لا يقبله العقل، لكن مع ذلك كله كان أبو بكر يصدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما مأخذه من الصدق في الحديث فلما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ، فالصديقية تنال بالإكثار من تصديق الله ورسوله، وبالإكثار من الصدق في الحديث، حتى لو كانت لك إلى الكذب ضرورة وتركته كي تقترب من مرتبة الصديقين فهذا فعل حسن، حتى في أمور المزاح، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ويقول له الصحابة: (إنك تداعبنا يا رسول الله! قال: نعم ولكني لا أقول إلا حقاً -أو لا أقول إلا صدقاً-) فكان ينادي أنساً فيقول له: (ياذا الأذنين!) ، وحقاً فـ أنس له أذنان، فيكاد أنس يرتاب من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ذا الأذنين) ! لكنه حقيقة فليس فيه كذب من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتته العجوز تقول: (يا رسول الله! سل الله أن يدخلني الجنة، فقال: إنه لن يدخل الجنة عجوز! فولت مدبرة حزينة، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إن الله يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] ) ، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل ينال مرتبة الصديقية بالإكثار من الصدق في حديثه، وتحري الصدق في الحديث، وعدم الإكثار من التورية، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام خير من يقتدى بهم في هذا الباب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) ، حتى خائنة العين والإشارة بها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) .(13/7)
مكانة الشهيد
قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69] الشهداء هم أدنى منزلة من الصديقين، فـ عمر وعثمان شهيدان كما ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع ذلك هما أدنى مرتبة من مرتبة الصديق، فالشهيد لا يفوق الأقران في كل حال، فقد يموت الرجل شهيداً لكن يسبقه غيره بأعمال أخرى عملها، فقد يأتي عمل يفضل الجهاد في سبيل الله عند بعض الأشخاص وفي بعض المواقف، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم لا يفطر) متفق عليه.
فهذا فضل الساعي على الأرملة والمسكين واليتيم، فقد تكون هناك أعمال في بعض الأحيان في حق بعض الأشخاص تفوق الشهادة في سبيل الله، ألا ترون أن أويساً القرني رضي الله تعالى عنه ورحمه الله طلب منه أمير المؤمنين عمر أن يستغفر له، وذلك بسبب بره بأمه، فعلى الشخص أن يعمل العمل الذي يقربه من الله، ولا يرائي الناس، ولا يحرص على اختيار العمل الذي يرضي الناس، إنما يحرص على العمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وليس في هذا تقليل لمنزلة الشهداء، فالشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم.(13/8)
بيان المنعم عليهم وترتيبهم في الأفضلية
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] من هم المنعم عليهم؟ فُسِّرُوا في الآية الكريمة: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] وهل الواو تقتضي الترتيب، فيقال: إن النبيين أعلى درجة من الصديقين، والصديقين أعلى درجة من الشهداء، والشهداء أعلى درجة من الصالحين، أو يقال: إن الواو لا تقتضي الترتيب؟ الواو أحياناً تقتضي الترتيب، وأحياناً لا تقتضي إلا مطلق التشريك، مثال الثاني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، فمن المعلوم أن السلام يكون قبل الاستئناس؛ لأن الاستئناس يكون إذا دخلت البيت فتستأذن أن تستأنس كما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل وقد أذن له: (أأستأنس يا رسول الله؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم) فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} المراد بالسلام هنا: سلام الاستئذان لقوله: ((عَلَى أَهْلِهَا)) ، ومن المعلوم أن الاستئناس بعد السلام، فالواو لا تقتضي الترتيب، على ذلك وبعض إخواننا يستدلون بعموم الآيات أحياناً دون تدقيق في السنة، فيستدلون مثلاً بقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] على تقديم الفاكهة في الأكل على اللحم، وقد يخدش في الاستدلال بهذه الآية على هذا المعنى، وإن كان بعض الأطباء يقرر أن أكل الفاكهة قبل اللحم أيسر على المعدة من أجل الهضم، وإذا كان ذلك فالعهدة عليهم في هذا، لكن من الناحية الشرعية سواءً قدمت هذا على ذاك، أو هذا على ذاك فالواو لا تقتضي الترتيب في كل الأحيان.
وهنا يقال: هل النبيون أعلى درجات ثم الصديقون ثم الشهداء ثم أهل الصلاح؟ قد يكون الأمر على ذلك في بعض الأحيان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد أحداً ورجف بهم جبل أحد، وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، والنبي هو محمد عليه الصلاة والسلام، والصديق أبو بكر، والشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهما، فلا شك أن النبي أعلى درجة ثم أبا بكر الصديق أعلى درجة من عمر ثم عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، فهنا الواو أفادت الترتيب، لكن في الآية قد يسلم هذا الاستدلال وقد لا يسلم؛ لأن الصديقية قد تلازم النبوة كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41] ، وقال الله سبحانه وتعالى في شأن إدريس كذلك: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56] وغيرهم من الأنبياء، فقد تلازم الصديقيةُ النبوةَ، وقد تختلف النبوة عن الصديقية، فتكون الصديقية أنزل درجة من النبوة، فيكون الصديق أقل درجة من النبي، فحال يتحد الصديق والنبي، فكل نبي صديق، وقد يفترق النبي في المعنى عن الصديق.(13/9)
كيف تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] ما هي أسباب تلك المعية التي تجعل الشخص مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ومع المنعم عليهم؟ من أسبابها طاعة الله ورسوله كما في الآية الكريمة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] .
ومن أسبابها: كثرة السجود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً كئيباً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنك تذهب في منزلة أعلى من منازلنا فلا نراك يا رسول الله! فأسألك مرافقتك في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: بل هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) ، فالإكثار من السجود يقرب الشخص من حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة.(13/10)
تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله.)
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:70] الفضل والامتنان كله من الله، إذ هو الذي قد وفق للهداية عباده، وقد تقدم قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] .
{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70] أي: عليم بمن يستحق أن يهتدي فيهديه الله سبحانه وتعالى، وبمن يستحق أن يضل فيضل، عياذاً بالله من الضلال!!(13/11)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] وهذه الآية ترد على فرق تواكلت، فرق من الصوفية، وتبعهم على ذلك كثير من الجماعات المحدثة، الذين يخرجون ويتركون أهاليهم وأموالهم، ويهملون تربية أسرهم وتربية أبنائهم بزعم التوكل على الله! فالله يقول للذين آمنوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، والنبي عليه الصلاة والسلام (كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها) ، يعني: إذا أراد أن يذهب مثلاً في غزوة إلى المشرق البعيد يقول: إني ذاهب إلى المشرق القريب، مثلاً: رجل يريد أن يذهب إلى القاهرة يقول: أنا ذاهب إلى المحلة وهو في طريقه للقاهرة سيمر بالمحلة، فإذا أراد غزوة ورى بغيرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن أخذ الحذر أيضاً إرسال الجواسيس الذين يتجسسون على الكفار من قبل أئمة المسلمين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير بن العوام) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) فجاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا -كما قال بعض أهل العلم- قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ، وكانت هذه خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن جاء الخلفاء من بعده واتخذوا الحجبة يحجبون عنهم أهل الظلم وأهل الإجرام وأهل الفساد، ويحفظون لهم أوقاتهم، فكان لأمير المؤمنين عمر حجبة، كما قال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: استأذن لي على هذا الأمير كي أدخل عليه، كما في صحيح البخاري، فأخذ الحذر مطلوب أمر الله تبارك وتعالى به، وبعد ذلك الذي في علم الله سيتم، ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اعقلها وتوكل) ، فينبغي للمسلم أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله تبارك وتعالى، ويدع الأمور بعد ذلك إلى الله، ويعتقد أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، لكن الأخذ بالأسباب أمر مشروع بل واجب أمر به الله، وفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفعله الخلفاء من بعده، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يرتب الجيوش ويرسل الجواسيس على أهل الكفر ليأتوه بالأخبار، ويذهب هو عليه الصلاة والسلام بنفسه يتحسس أهل الفساد وأهل الشر، كما في قصة ابن صياد الذي ذاع خبره في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، واشتهر بين الناس أنه المسيح الدجال، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه وهو يتقي جذوع الشجر، حتى وصل إلى ابن صياد وهو نائم؛ حتى سمع النبي صلى الله عليه وسلم همهماته وهو نائم، فقالت أم ابن صياد: يا صافي! هذا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركته بيِّن) ، فأخذ منها بعض الفقهاء مشروعية التجسس على أهل الريب والفساد، كالمروجين مثلاً للمخدرات أو المروجين للأشرطة التي تبث الدعارة والفسق والفجور، فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يتجسس عليهم؛ حتى يعلم حالهم وحتى يفشو أمرهم، لا على العابدين التائبين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقوله تعالى: {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] أي: انفروا فرادى أو انفروا مجتمعين، أو فرقة فرقة أو كلكم معاً، انفروا ثبات لمجابهة العدو أو انفروا جميعاً، وهذا يراه إمام المسلمين، إن شاء أن يرسل سراياه سرية سرية أرسل، وإن شاء أن يرسل عيوناً فرادى فرادى أرسل، وإن شاء أن يرسل الجمع كلهم لمجابهة أعداء الله فعل، فهذا الأمر إلى إمام المسلمين هو الذي يأمر بذلك.
{فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] .(13/12)
تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن.)
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] فريق منكم يتباطأ في نفسه، ويبطئ غيره معه، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] ، قد تَقْدُمُ على فعل خير من الخيرات، وتجد أخاً لك بجوارك ملتحياً يثبطك عن هذا الخير، ويخوفك عن فعله ويصدك عنه، فيكون وجوده أشد ضرراً من غيابه، وهذا الشأن كان في كثير من أهل النفاق على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، يخرجون في الصفوف مع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيثبطون أهل الإيمان، ويخوفون أهل الإيمان ويقولون لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فيثبت الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا بالقول الثابت، قال تعالى في هذا المعنى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] ، وقوله: (ولا يأتون البأس) أي: القتال، وهنا يقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء:72] جراح أو هزيمة أو شهادة في سبيل الله، فالموت مصيبة، قال تعالى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] .
قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] دليل على أن المنافق يعرف الله أيضاً، المنافق يعرف أن له رباً وخالقاً بدليل أنه يقول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} ، كذلك المشرك كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، وفي هذه الآية الأخيرة عبر بها يهودي عبد الله بن عباس يسأله فيقول له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن عباس، قال: من أين؟ قال: من قريش، قال: أنت من القوم الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} هلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليك! فقال له ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين ما زالت أرجلهم مبللة بماء البحر، حتى إذا مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم ((قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)) فرد عليه عبد الله بن عباس وكان سريع البديهة رضي الله تعالى عنهما بآية مشابهة تشبه مقالته التي قال.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] أي: حاضراً، فالشهادة هنا بمعنى: الحضور.(13/13)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أصابكم فضل من الله.)
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:73] والفوز العظيم عنده يتمثل في ماذا؟ يتمثل في شيء من المغانم التي ينالها، ورب العزة يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] .(13/14)
الأسئلة
.(13/15)
سنة الظهر والعصر الرباعية تصح متصلة ومنفصلة
السؤال
صلاة سنة الظهر والعصر هل هي ركعتان ركعتان؟
الجواب
أما الظهر فلا أعلم فيها تفصيلاً هل هي ركعتان أو أكثر، وإنما ورد من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى -أو كان يصلي- قبل الظهر أربعاً) وهل مجتمعة أو متفرقة؟ ورد في الباب زيادة في حديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهي: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) ، لكن زيادة (النهار) في الحديث زيادة شاذة، والصواب فيه: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وقد حكم بشذوذ زيادة (النهار) عدد من علماء الحديث المتقدمين.
فعلى هذا فالظاهر أن الأمر واسع، والله تعالى أعلم.
أما سنة العصر فكذلك لا أعلم شيئاً إلا حديث: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) على نزاع في تصحيحه من أصله، منازع فيه هل هو ثابت أو غير ثابت؟ وإن ثبت لا يدل على المواظبة، وإنما يدل على الفضيلة فقط، لكن معنا عموم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) .(13/16)
صحة صلاة من صلى خلف إمام نسي قنوت الفجر فسجد للسهو
السؤال
صليت في مسجد قريب منا عدة مرات صلاة الفجر فوجدته لا بد أن يقنت، وفي يوم نسي القنوت فسجد للسهو، فهل الصلاة صحيحة؟
الجواب
نعم الصلاة صحيحة.(13/17)
عدم وجوب الحج لمن يريد بناء منزل بالمال الذي معه
السؤال
أمتلك قطعة من الأرض أسعى في بناء منزل عليها لأولادي، فأنا أسكن في بيت غيري، فهل وجب علي الحج أم أقوم ببناء المنزل على قطعة الأرض، وكذلك تمتلك زوجتي قطعة من الأرض وبعض المال يساوي القيمة المطلوبة لأداء الحج؟
الجواب
لا يجب الحج والحالة هذه، إذا كنت ستبني البيت فابنه، ولا يجب عليك الحج إلا إذا يسر الله لك بعد ذلك، والله تعالى أعلم.(13/18)
حد التشهد الأوسط ودليله
السؤال
التشهد الأوسط للصلاة هل هو إلى النهاية أم ماذا؟
الجواب
التشهد الأوسط للصلاة الصحيح الذي عليه أكثر العلماء: أنه إلى: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ وذلك لشيئين: أحدهما: أن في رواية أبي عوانة من حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه التشهد، وهو علم التابعين، فجاء إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: إذا بلغت ذلك فقم) ، وهل هي مدرجة من قول ابن مسعود على الحديث أو هي من كلام رسول الله؟ فأياً كان الأمر فـ ابن مسعود هو الراوي وهو أعلم به من غيره.
ثانياً: إنه ورد أثر عن أبي بكر وعمر: أنهما كانا يجلسان في التشهد الأوسط كأنما يجلسان على الرضخ، وهي: الحجارة المحماة، فهذا يدل على سرعة جلوسهم في التشهد الأوسط.
ثالثاً: لا يجب أصلاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى في التشهد الأخير؛ لعدم وجود الدليل على ذلك، دليل الموجبين هو قول القائل: (يا رسول الله! عَلِمْنَا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد ... ) وهذا الحديث ليس فيه دليل على الوجوب، إنما هو تعليم ندب وإرشاد، والله أعلم.(13/19)
حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه
السؤال
ما هي الصفة لحلق شعر المولود؛ لأن البعض قال: لا بد أن يحلق بالشفرة، ويدهن الرأس بعد الحلق بالزعفران، فهل حق أن هذه السنة؟
الجواب
حديث: (حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه ذهباً) ضعيف، لكن الحلق يكون من باب إماطة الأذى عنه يوم سابعه، فالحلق يدخل في إماطة الأذى يوم السابع، فيشرع أن يحلق يوم السابع، لكن التصدق بوزنه ذهباً أو فضة لا أعلم له أي مستند صحيح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(13/20)
حكم العقيقة عن المولود
السؤال
هل يأثم الذي لا يستطيع أن يعق عن ولده؟
الجواب
العقيقة ليست واجبة إنما هي سنة، وقد تقدم أن الدعوة إلى العقيقة لم يدرج عليها السلف، إنما هي من باب المباح.(13/21)
كيفية جعل الولد من العلماء المجاهدين
السؤال
كيف أصنع بولدي الذي أحب أن يكون من العلماء المجاهدين؟
الجواب
ادع الله له بالتوفيق، وخذ بيده إلى أهل العلم، وبين له أن الجهاد لا يشترط أن يكون جهاداً بالسيف في كل الأحوال، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن) ، والله سبحانه يقول: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15] ، فللجهاد بالمال أوقات، وللجهاد بالنفس أوقات، فالآن تضبط مسيرته إلى أن ييسر الله للمسلمين أحوالهم وأمورهم.(13/22)
حكم من قال: علي الطلاق أو زوجتي محرمة إن فعلت كذا
السؤال
قال لوالده: علي الطلاق ما أنت جالس في البيت وإن جلست تكون زوجتي محرمة؟
الجواب
عليّ الطلاق -كاللفظ الدارج بين الناس الآن- لا يعد يميناً ولا يعد طلاقاً.
أما قوله لزوجته: تكوني محرمة علي إذا حصل كذا وكذا فهذا تحريم معلق، إذا أجريناه مجرى الطلاق المعلق ففيه الخلاف هل يقع أو لا يقع؟ فإذا أخذنا بالاحتياط فيه فالقول أنه يكفر كفارة يمين لقول الله تبارك وتعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] فجعله يميناً، وهذا رأي كثير من أهل العلم أن قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، كفارته كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
ومن أهل العلم من قال: لا شيء عليه مطلقاً؛ لأن رب العزة سبحانه وتعالى قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] لما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يشرب عسلاً، فقال: (قد شربت عسلاً ولن أعود وقد حلفت) ، فالاحتياط أن يكفر كفارة يمين.(13/23)
حديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)
السؤال
حديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر اللهلهم) ما حاله؟
الجواب
حديث ثابت صحيح.(13/24)
حكم إزالة المرأة للشعر النابت في الشارب أو اللحية
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر الشارب بدعوى أن منظره مقزز، بالرغم أنها لا ترى ذلك، فمثلها مثل باقي الفتيات وليس ملفتاً للنظر أو فيه تشبه بالرجال؟
الجواب
المسألة لما ناقشها العلماء: ناقشوا حكم ما إذا نبت للمرأة شارب أو لحية، إذا نبت للمرأة شارب أو لحية ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز إزالته، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) قالوا: وهذه وإن لم يكن لها شيء من التشبه، لكنها تفعل ما يؤدي بها إلى أن تكون امرأة كسائر النساء، يعني: إذا فعلته تكون فعلت وسيلة توصلها إلى أصلها، أصل النساء أو أصل التأنيث، فهذا رأي كثير من العلماء: أنه يجوز لها أن تزيله كي تصل بحالها إلى حال النساء، وتبتعد عن التشبه بالرجال.
ومن العلماء من منع مستدلاً بقوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] فاستدل البعض بهذه الآية على المنع كـ الطبري والنووي في قول له، ولكن هذا الاستدلال لم يره كثير من أهل العلم في محله؛ لأن المراد بتغيير خلق الله هنا: ما كان يفعله أهل الشرك من شق أذن البعير وتركه سائبة أو وصيلة أو حام للآلهة، وكذلك يلتحق به ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: (لعن الله النامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، أما إزالة الشعر بهذه الصورة فليس فيه شيء, والله تعالى أعلم.(13/25)
حكم الخلوة بالمرأة المعقود بها وتزينها للعاقد
السؤال
هل للعاقد حق أن تتزين له المرأة التي عقد بها ويخلو بها؟
الجواب
نعم، تتزين له ويخلو بها ليلة الزفاف، فرب العزة فرق بين البناء وعدمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ، ففرق بين المساس وبين البناء، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ، ففرق أيضاً بين الدخول وبين العقد، ثم المصالح المرسلة التي تنشأ من جراء التفريق بين العقد والبناء يبنى على ذلك كله، ودفعاً للمشاكل التي تحدث للمرأة، وهذا ليس على سبيل التحريم، الأمر ليس على سبيل التحريم إنما على سبيل دفع المفاسد، وعلى سبيل المصالح التي تتحقق من وراء التفريق بين العقد والبناء، وكذلك للمفاسد التي تقع من كثرة حمل المعقود عليهن.
واليوم -والله- قبل ما آتي بنصف ساعة تقريباً واحد اتصل عليّ ويقول: إنه عاقد على زوجته وجامعها، وأهلها لا يعرفون، ويقول: ماذا أصنع؟ هل أذهب للأطباء؟ أهلها يرفضون أن أدخل بها الآن، فلهذه المشاكل نقول: هناك فرق بين البناء والعقد كما كان على عهد الرسول، لكن إن شئت أن تعقد وتبني في الحال فنعم، أما أن تعقد وكل يوم تذهب في غياب والدها وتعبث بها وقد يصل إلى الجماع فلا، وإذا طلقتها ترد مشاكل شرعية: هل لها الصداق أو نصف الصداق؟ نحن لا نقول: إن الأمر على سبيل التحريم، ولكن على سبيل الاقتداء بسلفنا من أصحاب رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
إلى هنا، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/26)
تفسير سورة النساء [74-83]
حث الله عباده على الجهاد في سبيله، وجعل للمجاهد فضلاً عظيماً، وأجراً كبيراً، وللجهاد في سبيل الله مقاصد عظيمة، منها: تخليص المستضعفين من طغيان الظالمين، والجهاد لم يشرع في الإسلام من أول الأمر، بل مر بمراحل بحسب ما تقتضيه الحكمة.
والخير والشر كله من عند الله، والله يتفضل على عباده بالخير، ولا يكون الشر إلا بسبب من الإنسان، ولذا فيشرع التأدب مع الله في الألفاظ، فلا ينسب إليه الشر سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الله في كتابه بعض أخبار المنافقين وصفاتهم لنحذر منهم.
وأمر الله عباده في النوازل بالرجوع إلى أهل العلم المستنبطين؛ لأنهم أقرب إلى إصابة الحق.(14/1)
التحريض على أعمال البر
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] .
قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:74] تحريض على القتال في سبيل الله، والتحريض على أعمال البر ورد في جملة من الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء التحريض على الصدقة في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن استطاع أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل) .
وجاء التحريض على الصلاة في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، وفي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله! من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً قام من الليل يصلي فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) .
وجاء التحريض على الذكر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41-42] ، وفي السنة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) .
فالتحريض على أعمال البر ورد في مواطن كثيرة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعمال البر: قتال أعداء الله من الكفار، قال تعالى محرضاً نبيه على ذلك: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84] ، وهذه الآية تحريض عام للمؤمنين.(14/2)
التحريض على الجهاد في سبيل الله
قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] .
قوله (في سبيل الله) : سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليقال هو جريء، أي ذلك في سبيل الله يا رسول الله؟! فقال -المقالة الفاذة الجامعة-: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فهذا هو الضابط لتحديد من هو في سبيل الله.
قال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، وسبيل الله إذا أطلق يراد به الجهاد والغزو، فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] ، المراد بقوله: (وفي سبيل الله) : الجهاد، فلا يدخل فيه: إنشاء المساجد، فزكوات المال لا تنفق في المساجد إنما تنفق في المساجد صدقات عامة، مثل الصدقات الجارية إذا أرادها شخص، أو صدقات التطوع المطلق إذا أرادها شخص، وهذا رأي جمهور العلماء، ومن أهل العلم المتأخرين: من رأى أن قوله: (في سبيل الله) يشمل كل أبواب الخير وطرق البر، واستدل له بالمعنى اللغوي لكلمة: (سبيل الله) ، ومن العلماء من أدخل فيها الحج أيضاً كفريق من الحنابلة، مستدلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل امرأة تحج على إبل الصدقة، والله تعالى أعلم.(14/3)
التحذير من فتنة الحياة الدنيا والركون إليها
قال الله: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ، وهذا المتاع القليل يتمثل في الحياة الدنيا وفي عمر الشخص فيها، فالشخص عمره قليل في الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليلٌ منهم من يتجاوز ذلك) ، وقد قرأ الخليفة المأمون رحمه الله، أو سمع من يقرأ قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] ، فقال لـ ابن السماك وهو بجواره: عظني يا ابن السماك! فقرأ عليه قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] ، وحمل العد على عدد الأنفاس، وقال: يا أمير المؤمنين! إذا كانت الأنفاس تعد، وليس لها مدد، فمكتوبٌ لك -يا أمير المؤمنين- أن تتنفس مثلاً مائة ألف نفس، وكل يومٍ يمضي عليك تقطع منها شوطاً، ويعد الله أنفاسك عدّاً فيوشك أن الأنفاس تنفد، ويوشك الأجل أن ينقضي! قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ، ولا يقال: إن الآخرة خيرٌ على الإطلاق، بل الآخرة خيرٌ لمن اتقى! {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77] ، أي: لا تظلمون قدر الفتيل، وهو: الخيط الرفيع الذي بين فلقتي النواة.
قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، هذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، وكقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (إنه قد نزل بأبيك -يا بنيّة- ما الله بتارك منه أحداً) ، وكما قال القائل: الموت كأسٌ وكل الناس شاربه والقبر باب وكل الناس داخله.(14/4)
بيان ضعف كيد الشيطان على أهل الإيمان
قال الله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، هكذا يصف الله تبارك وتعالى كيد الشيطان فيقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، بعض الناس يورد هذه الآية: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وآية يوسف: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] ، فيقول: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان! وهذا وإن كان أحياناً إلا أنه لا يطرد، فلا يطرد أن يكون كيد النساء أقوى من كيد الشيطان في كل وقت، بل كيد النساء سببه كيد الشيطان، فعلى الإجمال، كيد الشيطان بالنسبة لأهل الإيمان ضعيف، والله تعالى أعلم.
قال الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وكيد النساء لا يعم، فكيد النساء وتدبيرهن في الحروب وفي التجارات وفي الصناعات ليس له كبير أثر، إنما المراد كيدهن فيما يتعلق بإغواء الرجال، ومع ذلك فكيد النساء في إغواء الرجال إنما هو من وحي الشيطان، والله تعالى أعلم.(14/5)
مراحل تشريع الجهاد في صدر الإسلام
قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] .
قال فريق من العلماء: إن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وفي أصحاب له مسلمين كانوا بمكة، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ونحن في جاهليةٍ كنا في عز وقوة ومنعة، فلما أسلمنا أصبحنا مستضعفين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم في الانتصار ممن ظلمهم، وكان الشخص إذا أسلم وضُرب يصبر على الضرب، ونهي أن يحمل السيف ويذهب للقتال في بداية الأمر، كما قال الله تعالى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] ، فلما رأوا هذه الحال: قالوا: يا رسول الله! كنا أعزةٍ ونحن في شرك فلما أسلمنا أصبحنا أذلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أمرت بالكف) ، أو معنى هذا، فلما نزل الأمر بالقتال، تخلف كثيرٌ منهم عنه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] أي: اقتصروا الآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] أي: هلا أخرتنا حتى نموت بآجالنا بدون قتل، هذا معنى قولهم، وفيه: أن الإنسان لا يأمن على نفسه إذا سأل ربه مزيداً من التكاليف ألا يقوم بها، وقد تقدم هذا في الدرس السابق، فالإنسان يكون مقتصداً عاملاً بما أمره به رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يأمن على نفسه ألا يقوم بالتكاليف التي أمره الله سبحانه وتعالى بها.
وهنا (ألم) همزة استفهام للتعجب، ويدخل فيه التأنيب كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] ، يعني: اتركوا القتال، واقتصروا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وذلك لما كانوا في مكة، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:77] ، والقتال كان في المرحلة الثانية بعد الأمر بالكف، وكان إذناً بالقتال وليس أمراً عاماً، قال الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ، أي: أذن لهم بالانتصار وبقتال من قاتلهم، وبعد ذلك جاءت آية السيف في سورة براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] .
قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] ، ذكرنا أن سبب نزولها عبد الرحمن بن عوف، والإسناد ثابت في الصحيح، ولكن هذا لا يخدش في فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فالصحابي وإن صدرت منه زلة، فهذه الزلة تغمر في فضائله رضي الله تعالى عنه، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، ولما سبه خالد بن الوليد لما كان بينهم مشادة، وخالد هو خالد، وقتاله في سبيل الله لا يخفى، وشجاعته لا تكاد توصف؛ ومع ذلك لما نال شيئاً من عبد الرحمن بن عوف دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، والكلام موجهٌ إلى خالد بن الوليد، وهو متأخر الإسلام عن عبد الرحمن بن عوف، والله يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] ، وخالد أسلم قبيل الفتح، لكن عبد الرحمن متقدم الإسلام، فإذا كان خالد لو أنفق مثل أحد ذهباً لا يبلغ مد عبد الرحمن ولا نصيفه، فما بالنا نحن الذين جئنا من بعدهم بقرونٍ طويلة!! فـ عبد الرحمن له من الفضائل ما لا يحصيه إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، وكان محسناً إحساناً كبيراً وزائداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بسند مرسل: أن أم المؤمنين عائشة كانت تقول لـ أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة؛ وذلك لأنه أعطى أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أربعين ألفاً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محسناً إحساناً شديداً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.
واستفاد العلماء من سبب النزول هذا: أن الشخص المسلم الصالح إذا صدرت منه زلة لا يؤاخذ بها، ولا بد من تقييم محاسنه بجوار زلته تلك، وليس كل من أخطأ خطأً أو اقترف إثماً يغطي هذا الخطأ وهذا الإثم سائر أعماله الصالحة، وقد تقدم أن أمير المؤمنين عثمان فر يوم أحد، ولكن قال الله فيه ومن معه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155] .
فالمحسن إذا زل وأساء، فرب العزة حكمٌ عدل، لا تطيش الإساءة عنده بكل الحسنات، بل الحسنات في أكثر الأحوال هي التي تطيش بالسيئات، كما ورد ذلك صريحاً في حديث البطاقة الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.(14/6)
الدعاء لله والعمل بالأسباب في دفع الاستضعاف
قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، تفيد الآيات: أن المستضعف يطلب من ربه تبارك وتعالى الخلاص، ليس مستضعفاً محباً للبقاء في دول الكفر، بل هو مستضعفٌ ويطلب من ربه تعالى الخلاص والفكاك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، والآية نزلت في أهل مكة، فكانت مكة قريةٌ ظالم أهلها كما قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ، إلا أن العبرة بالعموم، فكل قرية أهلها ظلمة ينسحب عليها هذا الحكم.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] ، فالقرية وإن كانت في نفسها ذات فضيلة إلا أن أهلها يظلمون الناس ويحولون بينهم وبين شرع الله، ويحولون بينهم وبين دينهم، فتترك هذه القرية وإن كانت في نفسها لها فضيلة، فمكة أفضل البلاد على الإطلاق بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على الحزورة فقال: (والله! إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ، فالقرية وإن كانت في نفسها لها فضيلة إلا أنه لا يقام فيها شرع الله يخرج منها، وإن كانت القرية التي يخرج إليها دونها في الفضيلة لكن أهلها فيهم صلاح أو عندهم ملك لا يظلم عنده أحد جاز الذهاب إليها، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جعفر في أصحابٍ له إلى النجاشي في الحبشة وهي أرض كفر، لكن فيها ملك لا يظلم عنده أحد، والله سبحانه أعلم.
قال الله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] ، و (لدنك) : قال فريق من المفسرين.
أي: عندك.
أي: واجعل لنا من عندك ولياً، واجعل لنا من عندك نصيراً، {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75] .
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:76] في سبيل الله.
أي: لإعلاء كلمة الله، كما تقدم تفسيره من حديث رسول الله.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] ، الطاغوت: عامٌ -وقد تقدم- ويشمل كل ما عبد من دون الله، وكل من أُطيع في معصية الله تبارك وتعالى.(14/7)
من فضائل المجاهد في سبيل الله
قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] ، على أي الوجهين كان أمره (فسوف نؤتيه أجراً عظيما) ، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لوددت أن أغدو في سبيل الله، فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل ثم أحيا، فأغزو فأقتل) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا الباب لا تكاد تنتهي.
قال الله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} [النساء:74] أي: إذا قتل الشخص في سبيل الله.
وأجمع حديث ورد في فضل الشهيد، حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويؤمن من عذاب القبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] ، سواء قتلت أو قتلت الآخرين وغلبتهم، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74] .(14/8)
الحكمة في مشروعية الجهاد
قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] ، وهذا يقصد به التأنيب، أي: لماذا هذا التخلف عن القتال في سبيل الله؟ {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] أي: لإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فكان بمكة قومٌ مستضعفون من المؤمنين لا يستطيعون الهجرة، ومنهم: عبد الله بن عباس وأمه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة.
على هذا فالأحاديث المرفوعة التي يرويها عبد الله بن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام حكمها أنها من مراسيل الصحابة، والصحابة كلهم عدول فمراسيلهم مقبولة.
قال الله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] ، فقد يكون هناك رجلٌ مستضعف، وقد يكون الرجل قوياً وثرياً، ولكنه مستضعف، قال تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] ، فقد يكون الرجل قوياً ثرياً ومع ذلك هو في حالة الاستضعاف، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] أي: لماذا تتركون هؤلاء على هذه الحال من الاستضعاف تحت سيطرة الكفرة: ينكلون بهم، ويشردونهم، ويستحيون النساء، ويسبون الأولاد، ويقتلون الرجال، ما لكم تتركونهم على هذه الحال؟! سئل علي: يا علي! هل اختصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: ما اختصنا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إلا هذه الصحيفة، قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فذكر أن الصحيفة في بيان الديات، والعقل.
إذاً: السعي في فكاك الأسير وإنقاذ أهل الاستضعاف من دول الكفر مطلبٌ شرعي.(14/9)
من صفات المجاهدين في سبيل الله
يقول الله تبارك وتعالى محرضاً العباد على القتال في سبيله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} [النساء:74] أي: يبيعون دنياهم مقابل الآخرة، والمراد بالآخرة: الجزاء الحسن في الآخرة، والمراد بالآخرة: الجنة كذلك، فقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] أي: بثواب الآخرة، ونعيمها، والله تعالى أعلم.
وإطلاق (يشرون) بمعنى: يبيعون، له شواهد في الكتاب، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
وهذا تفسير كثير من أهل العلم.
فالآية الكريمة فيها تحريضٌ على القتال في سبيل الله، وشرعية ذلك تؤخذ من آيات وعمومات أُخر، ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله.
قال الله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] والقتال -كما علمتم- من أفضل الأعمال، قالت أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال -يا رسول الله- أفلا نجاهد؟ قال: لكن جهاد لا قتال فيه، حجٌ مبرور) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.(14/10)
الخير والشر كله من عند الله
قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ، ما المراد بالحسنة؟ المراد بها: النعم من نعم الدنيا، فإن يصبهم نعيمٌ من نعيم الدنيا، فينزل عليهم المطر، ويرزقون بأولاد، وتلد مواشيهم، ويرزقون بأموال، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أنت المتسبب فيها -يا محمد- بشؤم وجودك معنا، فإنك منذُ أن جئتنا رأينا البلايا تنزل علينا، كما قال أصحاب القرية للمرسلين: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18] ، وكما قال قوم ثمود لصالح صلى الله عليه وسلم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47] ، وكما قال تعالى في شأن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131] ، فالمقصود من قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أن الجدب الذي حلّ بنا -يا محمد- والمصائب والأمراض التي تفشت فينا؛ إنما هي بسببك، وبشؤم بوجودك، فمنذُ أن جئتنا والبلايا تنزل علينا بلية تلو الأخرى، هذا حاصل تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] أي: أنت المتسبب فيها -يا محمد- بوجودك معنا.
ولا يخفى عليك أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التطير، فقال: (لا طيرة، ويعجبني الفأل) ، وهذا من أنواع التطير، ومن أنواعه كذلك: أن الرجل يمسك بالطائر ويرميه إلى السماء، فإن طار ذات اليمين ذهب إلى المكان الذي يريد، وإن طار ذات الشمال ترك السفر، والله أعلم.
قال الله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ، الحسنات والسيئات كلها مقدرة، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] ، هذه الآية تفيد أن القدرية نفاة القدر أغبياء؛ لأن الله قال في شأن أمثالهم: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] .(14/11)
الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من مصيبة فمن نفسك) وقوله: (قل كل من عند الله)
قال الله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ، كيف أجمع بين هذه الآية وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] ؟ في الحقيقة أن كل شيءٍ بقدر، قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فلماذا نسبت السيئة إلى النفس في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ؟ هذا معناه: أي أنت المتسبب فيها، وإن كانت هي في الأصل من عند الله، فنسبت إلى نفس الشخص تأدباً مع الله تبارك وتعالى، فمن الأدب مع الله عدم نسبة الشر إليه وإن كان كل شيء مقدراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) ، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78-79] ، فلما أتى عند المرض لم يقل: (الذي هو يمرضني ويشفين) ! بل نسب المرض إلى نفسه، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، مع أنه سار على وتيرة واحدة: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78-80]-فنسب المرض إلى نفسه- {فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ، وإن كان المرض كله مقدراً لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23] ، فكل شيء مقدر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ، فالتأدب في الألفاظ مع الله سبحانه وتعالى مستحب ومشروع، ومن الأدب أن يقول القائل: يا مدبر أمر السماوات والأرض! ولا يقول: يا مدبر أمر الخنافس والصراصير! مع أن الله مدبر أمر كل شيء، فكل الأشياء الله هو الذي يدبر أمرها، فمن باب التأدب إلى الله أن تنسب الخير إليه لفظاً، ولا تنسب الشر إليه لفظاً، وإن كان الكل من عند الله تبارك وتعالى حقيقة.
قال الله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: أنت المتسبب فيها، وهي كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، وكقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] ، إلى غير ذلك.
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء:79] عليه الصلاة والسلام، فهذه مهمتك -يا محمد- أرسلناك للناس رسولاً {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79] .(14/12)
طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله
قال الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، فطاعة رسول الله من طاعة الله عز وجل، وهذه الآية ترد على فئة القرآنيين الذين يقولون: لا نعمل إلا بالكتاب فقط! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا ليوشكن رجلٌ من أمتي متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري -يعني: يأتي الرجل ينقل له الحديث من حديث رسول الله، فيرفض ذلك- فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً حللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله) ، والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] وهذا الحديث من دلائل النبوة، ولم يورده كثير من المصنفين في الدلائل، فظهرت فرقة تقول لها: قال رسول الله، تقول: لا، بيننا وبينك القرآن، فالذي في القرآن نثبته، والذي ليس في القرآن نرده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء القوم: (ألا إنما حرم رسول الله عليه الصلاة والسلام كما حرمه الله) ، فالرسول لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] .(14/13)
التوكل على الله والأخذ بالأسباب في مدافعة مكر الأعداء
قال الله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} [النساء:81] يقولون: حالنا وشأننا أننا مطيعين لك يا محمد! (ويقولون طاعة) في الظاهر أنهم يظهرون الاستسلام والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:81] ، أصل البروز: الخروج والظهور.
أبرز فلان شيئاً، أي: أظهره، خرج فلان إلى البراز.
يعني: مكان الفضاء، {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:81] أي: خرجوا من عندك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء:81] التبييت هو: التدبير بالليل، ومنه قول القائل: هذا أمرٌ بيِّت بليل، يعني: دبر بليل، ومنه قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] ، قال الله: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81] أي: يكتب ما يدبرونه في الليل وما يتآمرون به.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء:81] ، هذا المعنى يستفاد منه: أن الشخص لا يشغل نفسه كثيراً بتدبيرات الأعداء التي لا طاقة له بها، ولا حيلة له معها، فشخصٌ قد ينام طوال الليل خائفاً من شيء لا يستطيع دفعه، وما قضاه الله لا بد أن يكون، فإذا كان الأمر كهذه الحالة فعليه أن يعرض عنهم {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء:81] ومع إعراضك عنهم توكل على الله.
فمثلاً: إذا كنت تخشى طوال الليل المباحث أن يأتوك، أو تخشى اليهود، أو أي شيء تخشى منه، فعليك أن تجتهد وتعمل ما في وسعك، لكن إذا كنت تخشى شيئاً خارجاً عن طاقتك، فحينئذٍ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] ، ومع إعراضك عنهم تتوكل على الله، وإن كانت هناك أسباب فاعمل بها، مع قولك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم لما ألقي في النار -فلم تضره وكانت عليه برداً وسلاماً- وقالها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام لما {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174] .
قال الله: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81] ، ومع الكتابة فقد يؤاخذ بها في الدنيا، وقد تؤجل له العقوبة إلى الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:26] ماذا كانت عاقبتهم؟ - {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26] ، فتخيل قوماً جالسين في بيت: يمكرون ويخططون ويدبرون ثم أتى الله البنيان من قواعده واجتثت الأعمدة من أصلها، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] ، وليس القواعد فقط، بل استؤصلت من الأصل والسقف خر عليهم {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] أي: دخل عليهم العذاب من كل مكان ومن كل طريق، وكانوا لا يتوقعون ذلك.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} [النحل:27] يخزيهم يوم القيامة فوق هذا العذاب، فيكون الرجل يتآمر لحرب المسلمين، ويتآمر لتدمير الإسلام، ويخطط ويمكر ويسعى ويفعل ويفعل، ثم الله سبحانه وتعالى يأتي بنيانه ويجتثه من أساسه.
{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] ، فإن كان جهدك جهد المقل، وحالك حال الضعيف، فلك ربٌ لا يغفل ولا ينام، وهو للظالمين بالمرصاد، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] .(14/14)
الحث على تدبر القرآن
قال الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، أي: أفلا تقرءون القرآن وتفهموا ما فيه، وتفهموا سنن الله الكونية التي ذكرها لكم فيه.
الآيات الآمرة بتدبر الكتاب العزيز كثيرة منها: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .(14/15)
الحث على أخذ الأخبار من مصادرها
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] ، هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق أزواجه، فحزن وانطلق إلى المسجد فوجد الناس يبكون، فسألهم: أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه؟ قالوا: لا ندري هو معتزل في مشربة له، فذهب عمر إليه، وأرسل غلاماً أسود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن له فلم يؤذن له، ثم أرسل يستأذن فلم يؤذن له، ثم في الثالثة أُذن له، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل طلقت نساءك؟ قال: لا.
فكبر عمر.
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] كان عمر من أولي الأمر، أي: من أهل العلم، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] .
فالآية أصلٌ في أخذ الأخبار من مصادرها الأصلية؛ فإن الخبر إذا انتقل من شخص إلى شخص يكاد يتغير وقد يدخل فيه ما ليس منه، أما إذا أخذت الخبر من مصدره الأصلي الحقيقي، قلَّت الأخطاء، وحظيت بالنقل الصحيح، وأكثر من كانوا يغيرون الأحاديث أهل العراق كما يقول القائل: يخرج الحديث من عندنا من المدينة شبراً فيصل إلى العراق ويرجع إلينا ذراعاً، فقد كانوا يبدلون في أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاً: هذه الآية أصل في أخذ الأخبار من مصادرها الأصلية، يقول الله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء:83] ، إذا جاءك أمر مفرح أو أمر مخيف مزعج فاحرص على أن تأخذه من أصله الصحيح، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، وهذه الآية أصلٌ في استنباط الأحكام.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] ، فالله هو الحفيظ وهو الحافظ لكم، ولولا فضل الله عليكم لاتبعتم الشيطان.(14/16)
الأسئلة(14/17)
كفت السراويل في الصلاة
السؤال
ما حكم كف السراويل أثناء الصلاة؟
الجواب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرنا ألا نكف ثوباً ولا شعراً في الصلاة) .(14/18)
حكم زكاة السيارة المملوكة
السؤال
سيارتي زاد ثمنها عن نصاب الزكاة، فهل عليها زكاة؟
الجواب
ليس على السيارة المملوكة زكاة، زاد ثمنها على النصاب أو لم يزد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المرء في عبده ولا في فرسه صدقة) .
أما زكاة عروض التجارة، فالجمهور على أن فيها زكاة، فالسيارات المعدة للتجارة تجب فيها الزكاة، والسائل لم يسأل عنها.(14/19)
كفارة النذر
السؤال
ما هي كفارة النذر؟
الجواب
النذر أحياناً تكون له كفارة، وأحياناً لا تكون له كفارة، وبعض أنواع النذور اختلف فيها العلماء، فإذا كان النذر نذر طاعة، مثلاً: نذرت أن أصوم شهراً أو يومين أو أكثر أو أقل أو أتصدق، فالله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] ، لكن ما هو النذر الذي له كفارة؟ يقول طائفة من العلماء: إن النذر الذي له كفارة هو: النذر الذي خرج مخرج اليمين، كأن تقول مثلاً: والله! لله عليّ أن أذهب إلى القاهرة لفعل كذا وكذا، ثم لم تذهب، فتنزل النذر منزلة اليمين، وتكفر كفارة يمين.
لكن نذر المعصية هل كفارته كفارة يمين أو لا؟ ورد حديث: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين) ، فمن العلماء من قالوا: كفارة نذر المعصية كفارة اليمين، ومنهم من لم يقل بكفارة فيه، لقصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ولا يفطر، ويصمت ولا يتكلم، ويقوم في الشمس ولا يستظل ولا يقعد، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروه فليستظل، وليجلس، وليتكلم، وليتم صومه) ، ولم يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالكفارة، والاحتياط أن يكفر عنه كفارة يمين.(14/20)
نصيحة لإمام يطيل الصلاة
السؤال
رسالة من سائل -والرسالة إلى أمام المسجد- يقول فيها: إن إمام المسجد يطيل في صلاة الفجر؟
الجواب
نذكره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) ، والسنة في قراءة صلاة الفجر الإطالة؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر من الستين إلى المائة، لكن إذا كان هناك عارض ككون عموم المصلين مرهقين، أو كان عموم المصلين مسافرين أو غير ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) أي: ينزل إلى أضعف الناس، ويأخذ بحاله رفقاً به، وإلا فالسنة الإطالة في الفجر، لكن مع النظر في أحوال المصلين وقدراتهم.
وإذا تعبت من الإطالة -أيها السائل- فاجلس، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فصل جالساً فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فلأن تصلي وأنت جالس خير من أن تحدث مشكلة في المسجد، وانصح الإمام وقل له: أنا لا أتحمل القيام فخفف قليلاً، واطرح عليه المشكلة، فإن عمل بها الإمام عمل بها، وإن لم يعمل بها الإمام لرؤية رآها فصل جالساً إذا تعبت.(14/21)
حال حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)
السؤال
حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، هل هو صحيح؟
الجواب
الرواية بهذا السياق ضعيفة الإسناد، لكن معناها ثابت؛ لأن المؤمنين قالوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: قد فعلت، ولأن الله قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فالحديث وإن كان لفظه لا يثبت، إلا أن معناه ثابت صحيح، ومن العلماء من خالف في ذلك مستدلاً بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] قال: هنا الخطأ لم يضعه الله سبحانه وتعالى عن القاتل، بل ألزم قاتل الخطأ بكفارة، أجيب عن ذلك: بأن هذا في القضاء الدنيوي، لكن فيما بينه وبين الله لا شيء عليه، والله أعلم.(14/22)
نصيحة لرجل قتل خطأ وأهل المقتول يريدونه إلى المحكمة
السؤال
رجلٌ قتل طفلةً خطأً بالسيارة، وأراد أن يدفع لأهلها الدية ويصوم شهرين متتابعين كفارة قتل الخطأ، ولكن أهل الطفلة يريدون المحاكم، فماذا يصنع هذا الرجل؟
الجواب
شكر الله سعيه، والله سينصره، لأنه متبع لشرع الله، ولكن يرسل إليهم بعض أهل الصلاح لعلهم يذعنون، وليكن أمله في الله كبير، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة -والثنية هي الأسنان المقدمة- الربيع بحجر، فقضي عليها أن تكسر ثنيتها؛ لأن الله قال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] فتكسر ثنيتها كما كسرت ثنية المرأة، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ لا والله يا رسول الله! ولم يكن قوله رداً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أبى أن تكسر ثنية أخته، فقال: والله! لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: (يا أنس! كتاب الله القصاص) ، فقال: والله! لا تكسر ثنيتها يا رسول الله! فجاء أهل المضروبة ورضوا بالأرش.
أي: رضوا بالدية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) ، قاله في أنس بن النضر.
فالشاهد: أن هذا الرجل يعتصم بالله ويسأله التوفيق، والله قادرٌ على تطييب قلوبهم، وليرسل إليهم طائفة من أهل الصلاح يذكرونهم بالله، والله أعلم.(14/23)
حكم قضاء صلاة الضحى بعد الظهر
السؤال
هل تجوز صلاة الضحى بعد صلاة الظهر لعدم تيسر صلاتها قبل الظهر؟
الجواب
الظاهر -والله أعلم- أن المواسم إذا فات وقتها يجوز أن تقضى ولو في وقتٍ لاحق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فاتته سنة الظهر صلاها بعد العصر، وذلك عندما شغله وفد عبد القيس، وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) ، فإذا فاتته الصلاة في وقت معين، فليستدركها في وقت آخر.(14/24)
تفسير سورة النساء [85-88]
تتحدث هذه الآيات من سورة النساء عن الشفاعة الدنيوية، وأن العبد إن شفع فهو مأجور سواء قبلت شفاعته أم ردت، ثم بينت أدباً من آداب المجتمع المتمثل في إفشاء السلام، وبعد ذلك ذكرت أن كل بني البشر مجموعون لميقات يوم معلوم، ثم ذكرت مدى أهمية وحدة الكلمة وتآلف القلوب وخطورة أي خلاف، خاصة إذا كان بسبب من ليس له أي قدر عند الله كالمنافقين والعياذ بالله!(15/1)
تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً.)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] هذه الآية في الشفاعات الدنيوية، وهناك آيات تعد أصولاً في أبواب من أبوب الفقه، فمثلاً: أصلاً من الأصول في أبواب الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] وأصلاً في الحيل المذمومة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] ، فهناك آيات تعد أصولاً في أبواب معينة.
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] فهذه الآية أصل في الشفاعات الدنيوية، فلم ترد الشفاعات الدنيوية في آية على التفصيل كما وردت في هذه الآية الكريمة.
أما الشفاعات التي ذكرت في آيات أخر في كتاب الله كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، وكقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وكقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] ، وكقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ، وكقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] .
فهذه الآيات وما على شاكلتها في الشفاعات الأخروية.(15/2)
الفرق بين الكفل والنصيب
قال الله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] بعض أهل العلم يقولون: إن الكفل يكون مخصوصاً بالشر، والنصيب يكون مخصوصاً بالخير، وهذا الاطراد ليس بلازم، وقال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] فهنا الكفل أطلق على كفل الرحمة.
فأحياناً يكون الاصطلاح موضوع لمعنى معين، قد ينتقل إلى معنى غيره، وهذا على النادر.
فمثلاً: في تفسير قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25] ما معنى البرد؟ من العلماء من قال: البرد هو برد الريح الذي تتنفس فتسبب برداً في الأجواف، ومنهم من قال: البرد الراحة.
إلى غير ذلك، فجاء من العلماء من قال: إن البرد المراد به النوم، واستدل ببيت شعر: بردت مراشفها عليّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: أنها نامت برأسها على صدره ونحو ذلك، وأراد أن يقبلها لكن النوم غلبها فتركها على حالها، والشاهد أنه قصد بالبرد النوم.
فـ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول ما حاصله: وهذا وإن استجيز أحياناً أن يطلق على النوم البرد، لكنه ليس هو الأغلب المعروف من كلام العرب، وتفسير كتاب الله على الأغلب المعروف من كلام العرب دون غيره، إلا إذا أتت قرينة تحملنا على أن نختار القول الذي ليس بغالب وليس بمشهور، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] فسياق الآية رجح وجهة من قال: إن المراد باليأس هنا: العلم، أي: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو أشاء الله لهدى الناس جميعاً.
فالكفل أحياناً يطلق على نصيب الخير، وأحياناً يطلق على نصيب الشر.
إذاً: يفسر معنى الكفل على حسب القرينة التي وردت.
{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85] .(15/3)
حد الشفاعة المشروعة
الشفاعات إذا لم يكن فيها تحليل لحرام أو تحريم لحلال، أو أكل حق من حقوق المسلمين، أو تقديم شخص على شخص آخر هو أكفأ منه، فهي مستحبة، وللشافع نصيب وأجر.
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} [النساء:85] والشفاعة السيئة لها صور منها: - الحيلولة دون إمضاء شرع الله وحكم الله، فإذا بلغت القضية الحاكم الشرعي ووجب فيها الحد، فحينئذٍ تحرم الشفاعة وتحرم الوساطة للتجاوز عن الحد، كما في حديث المرأة المخزومية التي سرقت فاستشفع القرشيون بـ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله!! والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .
وقد ورد حديث فيه ضعف: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره أو في حكمه) أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما بإسناد فيه ضعف.
فإن تقدمت لوظيفة -مثلاً- وكان في المتقدمين من هو أكفأ منك، فأتيت بواسطة لتكون أنت المستحق لهذه الوظيفة فهنا تحرم الشفاعة والوساطة؛ لأنك بذلك تأخذ حقوقاً ليست لك، وتتبوأ مكاناً غيرك أحق به منك، لكن إذا انتفت الموانع جاز، وهذا تفصيل في شأن الواسطة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(15/4)
بعض صور الشفاعة في الدنيا والآخرة
وهناك شفاعات أخرى: كالشفاعة لأهل الكبائر، ودليلها حديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، وفي رواية: (أما إنها ليست للمتقين) فهي نوع من أنواع الشفاعة، تكون إنما للمتلوثين الخطائين، وهناك شفاعة في رفعة الدرجات في الآخرة، وشفاعة لإنقاذ أقوام قد سيقوا إلى النار فيشفع فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
والشفاعة دنيوية هي بمعنى الواسطة، والآية ذكرت قسميها: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] ، هذه الشفاعة الدنيوية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا فلتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) .
فالشراح يقولون كما في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: أنه إذا أتاه السائل يسأل يسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يسكت بخلاً ولا أنه لا يريد إعطاءه إنما يقصد حتى يقول قائل: أعطه يا رسول الله فحينئذٍ يثاب الشافع وتحدث المودة بين المسلمين ويشكره من شفع له، ومن ثم يعطي النبي صلى الله عليه وسلم السائل مسألته، فهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمور: أولاً: مجلبة للمودة بين المسلمين، فعندما يأتي شخص يسأل أخاه، وتقول أنت للمسئول: أعطه، فإن أعطاه فإن السائل يحمد لك صنيعك.
ثانياً: أنك تثاب أمام الله سبحانه تعالى على هذه الشفاعة.
فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء) .
يعني: الغرض من شفاعتك أن تؤجر، سواءٌ قبلت أو ردت، فهذا يحمل الشخص على أن يتدخل بالشفاعة وإن كان يتوقع أن ترد؛ لأن الأجر حاصل بإذن الله.
ومن ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عبداً يقال له: مغيث وهو زوج بريرة، لما أعتقت بريرة -كما هي السنة في المعتقات- خيّرت هل تبقى مع زوجها العبد أو تفارقه فاختارت الفراق، فكان مغيث يحبها حباً شديداً ويطوف خلفها في الأسواق يبكي، فتسيل دموعه على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: (ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة وبغض بريرة لـ مغيث فقال العباس: لو شفعت له يا رسول الله؟ فشفع النبي صلى الله عليه وسلم عند بريرة فقالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا.
إنما أنا شافع.
قالت: لا حاجة لي فيه) .
فهنا ردت بريرة طلب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان شافعاً لا آمراً، واختارت عدم الزواج، والرسول عليه الصلاة والسلام مأجور على كل حال.
فإذا استشفع بك شخص فلتشفع وإن ردت شفاعتك، ولا تتردد فأنت مأجور على كل حال، وفي هذا جلب للمودة والمحبة بين المسلمين، لكن تكون شفيعاً بالحق.
وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن بلال بن رباح أخذه أخوه ليشفع له عند قوم في زواج، فذهب بلال معه وقال: أنا بلال الحبشي كنت عبداً فمن الله عليّ بالعتق في الإسلام، وهذا أخي جاء يستشفع بي عندكم كي تزوجوه، وهو رجل سوءٍ فإن شئتم زوجتموه وإن شئتم تركتم، قالوا: بل نزوجه من أجل بلال، فهنا بلال رضي الله عنه قال بالحق ومع ذلك لم تمنع هذه الشفاعة قدر الله سبحانه وتعالى المقدر.(15/5)
المقصود بحديث: (أعطيت خمساً.
الشفاعة)
والشفاعات الأخروية متنوعة أيضاً، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى معناها على شخص، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي -فذكر منها- الشفاعة) ، فقد يفهم شخص من هذا الحديث: أن الأنبياء سوى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لا يشفعون، وهذا خطأ، فهناك ملائكة تشفع، وأنبياء يشفعون، بل وأهل إيمان يشفعون، والولد يشفع في أمه وفي أبيه، والأب يشفع في ولده إذا كانوا من أهل الإيمان.
إلى غير ذلك.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت الشفاعة) محمول على نوع خاص من أنواع الشفاعات، وهي الشفاعة العظمى، هي التي أوتيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ... ) الحديث وفيه: (يبلغ بالناس من الهم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقولون نستشفع بمن؟ انطلقوا إلى آدم فينطلقون إلى آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربك فيحيلهم آدم إلى نوح، ونوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيخر لله ساجداً، ثم يقول الله له: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطى، واشفع تشفع) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي دعوة وإنما اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيام) ، فهذا بالنسبة للشفاعة العظمى صاحبها بإذن الله رسول الله عليه الصلاة والسلام.(15/6)
أقسام الشفاعة وبيان معناها
الشفاعات تنقسم إلى قسمين: - شفاعات دنيوية، وشفاعات أخروية.
والشفاعات الدنيوية تنقسم إلى قسمين: - شفاعات محمودة.
- وشفاعات مذمومة.
- وإن شئت ثلثت بشفاعات مباحة.
أما الشفاعات الأخروية فتزيد على أحد عشر نوعاً من أنواع الشفاعة.
والشفاعة معناها: التوسط للتجاوز عن الذنوب والجرائم، أو التوسط والتدخل لجلب خير لمسلم من المسلمين أو لشخص من البشر، أو لدفع شر عنه، ومن ذلك قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا واستشفعت من سراة الحي ذا ثقة فقد عصاها أبوها والذي شفعا أي: والذي استشفعت به.(15/7)
الجمع بين ما يبدو في آيات الشفاعة من تعارض
هناك آيات في الشفاعات الأخروية ظاهرها التعارض، فمثلاً قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، فالظاهر من هذه الآيات نفي الشفاعة مطلقاً، وبهذا تمسك جمهور المعتزلة الذين نفوا الشفاعات.
وجمهور أهل السنة أثبتوا الشفاعات لكنهم قيدوها بقيود: - منها: أن الشفاعة تكون بإذن الله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] .
- وأن الشفاعة تكون لمن ارتضاه الله، كما قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] .
- ولا تكون الشفاعة إلا ممن يستطيعها من العقلاء، أو من ذكر فيه نص، كالقرآن فإنه يشفع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) .
وحمل أهل السنة والجماعة الآيات التي نفت الشفاعة كقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام:70] تبسل يعني: تسلم أو تسلم {بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] ، على الكفار.
فقالوا: لا شفاعة لكافر على الإطلاق إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن العباس إن استجيز أن يطلق عليها شفاعة، قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي طالب: (يا رسول الله! أبو طالب عمك كان يحوطك ويمنعك فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم.
هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فهذه الصورة الوحيدة في الكفار التي تحدث فيها شفاعات، ومع ذلك فهي منازع فيها.
فمن أهل العلم من قال: إن الكفار في النار على دركات، فمثلاً: قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] فلكفرهم عذاب ولصدهم عن سبيل الله عذاب، ونحوه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] .
فهذا وجه جمع أهل السنة والجماعة ودرئهم للتعارض المتوهم، فقالوا: الشفاعة مثبتة بشروط: - أن تكون بإذن الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] .
- وأن تكون لمن ارتضاه الله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] .
- ولا تكون في كافر.
- ولا تكون إلا ممن أوتيها.(15/8)
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ)
قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] هذه الآية عامة وبعمومها أخذ فريق من أهل العلم كـ زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة وغيرهما فقالوا: حتى إذا سلم عليك كافر فرد عليه تحيته أو رد عليه أحسن من تحيته، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ، وبقوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] ، وبقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] وبقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] ونحو ذلك من الآيات.(15/9)
الرد على المعتزلة
قال الله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88] الله سبحانه هو الذي أضلهم لعلمه أنهم يستحقون الضلال.
وهذه الآية فيها رد على المعتزلة القائلين بأن الرب ليس له تدخل في إضلال العباد، ومنهج أهل السنة أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال الله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] كما في قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:186] ، وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] فإن قال قائل: لماذا يضلني الله، نقول: الله أعلم بمن يستحق الضلال وأنت مكلف أن تعمل كما أمرك الله وليس لك وراء ذلك سؤال، فرب العزة يقول: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [النساء:88] ، المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، فالمعنى: أتريدون أن توفقوا للإيمان وتحملوا على الإيمان قوماً أراد الله لهم الضلال، وهذا لا يستطاع أبداً، إنما الهداية التي نستطيعها هي هداية الدلالة، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى:52] أي: لتدل إلى صراط مستقيم، فهداية التوفيق هي المعنية في هذه الآية: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88] .
أي: لن تجد أي مدخل أبداً تدخل به إلى قلب هذا الذي أراد الله له الضلال، كما قال نوح: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:8-9] لو تسلك كل الطرق: الهدوء، السر والجهر أمام الملأ من الناس للتألف فلن يهتدي؛ لأن من يرد الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً.
قال الله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:88-89] فلا يكتفون بكفرهم، بل يريدون منكم الكفر كما كفروا، كما قال تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] .(15/10)
تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين سبيلاً)
خرج المنافقون للجهاد مع رسول الله في غزوة أحد أخذ ابن أبي بن سلول يخذل من خرج فرجع ومعه ثلث الجيش، فلما رجعوا مع عبد الله بن أبي حرموا ثواب الجهاد مع رسول الله، ولكن هذا الرجوع في الأصل هو من الله بسبب ما كسبوا من الذنوب.
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] ما السبب في توليهم ليس قوة ولا كثرة العدو، إنما بسبب ذنوب عملوها فكانت سبباً في فرارهم يوم أحد.
ويقول بعض العلماء: إن الرماة لما كلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بألا يغادروا مكانهم في الجهاد ولا يتعدوه ولزموا ذلك انتصر المسلمون أول الأمر، فلما خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالثبات وانقضوا على الغنيمة ودالت الدولة للمشركين فهجموا على أهل الإسلام، فقال فريق من الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: أفر خير لي من أن أقتل وأنا عاص، ففر من القتال بسبب الذنب الأول وهو عدم امتثال أمر رسول الله بالثبات في الأماكن، فجاء ذنب عقب الذنب الأول، وجاء الفرار نتيجة عدم امتثال أمر رسول الله.
وثم التماسات أخرى يلتمسها العلماء، والخلاصة: أن المعاصي سبب لزوال النعم، قال الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] تفيد أن الله ردهم عن الغزو مع الرسول بذنوبهم، لذلك لما قال الله لموسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:43-44] بدأ موسى عليه السلام يطلب من الله أن يشرح صدره ويغفر ذنبه حتى يستطيع مجابهة هذا الظالم الأثيم.
وكذلك طائفة طالوت لما برزوا لجالوت وجنوده طلبوا من الله أن يغفر لهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] فالذنب يدمر الشخص أكثر من سلاح العدو، والطاعة تقوي الشخص أكثر من السلاح اليدوي الذي في يده.
قال الله: {فَمَا لَكُمْ} [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين.
{فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] أي: مالكم يا معشر المسلمين في أمر المنافقين مختلفين إلى فئتين: فئة منكم -يا أهل الإيمان- تقول: نقتلهم، وفئة تقول: نتركهم.
وهذا لما عاد المسلمون بعد أحد إلى المدينة، وتشاورا في أمر من رجع عنهم في الغزوة من المنافقين، واختلفوا فيما يفعلونه بهم، فقال فريق منهم: نتركهم لعلهم يهتدون، وقال فريق آخر: بل نقتلهم؛ لأنهم خذلونا، فالله عتب على المسلمين أن يحصل الخلاف بينهم بسبب هؤلاء المنافقين.
والآية أيضاً فيها حث على الائتلاف وتوحيد الكلمة، وأن هذا الذي حصل ما كان ينبغي أن يحصل.(15/11)
حكم رد التحية على الكافر
قال العلماء: إن صدرت تحية من كافر رددنا عليه تحيته أو أحسن من تحيته لقوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] بينما نازع في ذلك فريق قوي الوجهة من أهل العلم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام -وفيه- وإذا سلم عليكم فقولوا: وعليكم) وفي رواية: (إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم: السام عليكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام: ومعنى السام: الموت والهلاك (فقولوا: وعليكم) فاستدلوا بهذا: على أن اليهودي أو النصراني إذا سلم عليك رد عليه بعليكم ولا تزد عليها شيئاً.
ومن العلماء من ناقش هذا الدليل -وهو من ناحية الصحة ثابت وصحيح- فقالوا: إنه لا تعارض بين قوله تعالى: ((وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (وعليكم) رد للتحية بمثلها، فلا تعارض بين الآية والحديث، وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين واليهود، فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعض أهل العلم أيضاً: إذا تأكدت أن اليهودي قال: السلام عليكم رددت عليه تحيته، وعلل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على اليهود عهده يلوون ألسنتهم كما قال الله تعالى: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:46] فيلوون السلام بسام، فلا يكاد يتفطن الشخص لذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فقولوا: وعليكم) ، قال فريق من العلماء: فإن تأكدت أنه لم يلو لسانه جاز لك أن ترد عليه تحيته أو بأحسن منها.
بينما اعترض آخرون وقالوا: إن الله قال على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وأن السلام على من اتبع الهدى، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل رسالة إلى هرقل قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى،) .
هذا مجمل القول في ذلك وحاصله: أن هناك من العلماء من قال: إذا سلم اليهود أو النصارى أو الكفار علينا، فنرد بقولنا "وعليك" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم اليهود أو النصارى فقولوا: وعليكم) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سلموا فإنهم يقولون: السام عليكم فقولوا: وعليكم) .
ومن أهل العلم من قال: إذا تأكدت من صحة كلامهم رددت عليهم السلام بما قالوا أو زد عليه، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ، ولقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وللأدلة التي تقدمت.(15/12)
أصل التحية والسلام
قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء:86] : ما هي تحية المسلمين؟ تحية المسلمين: السلام عليكم.
بدليل ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً ثم قال له: اذهب إلى هؤلاء الرهط الجلوس من الملائكة، فسلم عليهم وانتظر ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك، فلما أتى إليهم قال: السلام عليكم.
فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله) وفي رواية (وبركاته) فكانت هذه تحية ذرية آدم.
ومن ثم قالها موسى عليه الصلاة والسلام للخضر لما رجع إلى مجمع البحرين ووجده مسجىً بثوب أخضر فقال: (السلام عليكم.
فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام -أي: أنت جئت من عند الفراعنة وأنى بأرضك السلام- فقال: أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل؟ ... ) إلى آخر الحديث، فتحية المسلمين هي: (السلام عليكم) فإذا قلت لشخص: السلام عليكم فلك عشر حسنات، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله فلك عشرون حسنة، وإذا زدت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلك ثلاثون حسنة، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى.
يعني: كلمة واحدة لا تفرق المسألة، تدخل على قوم تقول لهم: (السلام عليكم) بعشر حسنات، ما هو الذي يحملك على أن تبخل على نفسك بعشرين حسنة أخرى، وتمتنع عن قولك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ من ناحية الجواز الكل جائز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] .(15/13)
الأسئلة(15/14)
حكم مخالطة أهل الكتاب بنية دعوتهم للإسلام
السؤال
بعض الناس يدعي أنه يجادل ويخالط أهل الكتاب وخاصة النصارى بغرض دعوتهم إلى الدين الإسلامي هل هذا يجوز؟
الجواب
على نيته.
إن كان ينوي بذلك دعوتهم إلى الله جاز ولا إشكال في ذلك.(15/15)
الوفاء بالنذر
السؤال
نذرت نذراً أني عندما أحصل على شهادتي وأعمل، أنَّ أهب أول راتب لي لله عز وجل، فقال لي بعض الناس: لا يجوز؛ لأن لك حقاً في هذا المبلغ، ولتعبك في تحصيله فتعطي جزءاً فهل هذا صحيح؟
الجواب
النذر يمضى، فيلزمها أن تدفع راتب أول شهر ولا تبخل، فالله يقول: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر القرون السيئة فقال: (ثم يأتي بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون) .(15/16)
حكم زيادة (تعالى) في السلام
السؤال
هل يجوز أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؟
الجواب
السنة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لكن هناك دائماً قوم أصحاب فلسفات أكثر من اللازم، تخرج بهم من الفاضل إلى المفضول، فالرسول عليه الصلاة والسلام -مثلاً- قال: (يا فاطمة! ما يمنعك أن تقولي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً أو إلى أحد من خلقك) فيأتي من يدعو فيقول: ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ويزيد (ولا أقل من ذلك) ، وهي زيادة لم ترد، والأولى أن نمتثل تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا.
مثال آخر: دعاء اللهم اهدنا في فيمن هديت، تسمع أحدهم يقول: اللهم اهدنا بفضلك فيمن هديت، فيزيد بفضلك، ويقول: وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فيزيد: واصرف عنا، فهذا ترك الفاضل إلى المفضول، فهدي محمد عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي وقد يحدث هذا من أئمة وخطباء كبار، وهو بذلك يستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون قال في بداية الخطبة: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيكون الاقتصاد واتباع السنة أولى من الإحداث في الدين، ولعل كلمة واحدة من دعاء رسولنا عليه الصلاة والسلام تجمع لك شتات مائة كلمة، ولعل دعوة واحدة من دعوات رسول الله عليه الصلاة والسلام أبرك من مائة دعوة غيرها، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلمنا جوامع الكلم، وهديه أكمل هدي عليه الصلاة والسلام، فمن ناحية الجواز جائز لك أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لكن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل، فنقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى هنا بارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(15/17)
حكم الصدقة الجارية عن الميت
السؤال
هل الصدقة الجارية للميت تكون قبل موته فقط أم تجوز بعد موته من قبل أهله؟
الجواب
تجوز قبل موته وتجوز بعد موته، وقد سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أمي افتلتت نفسها يا رسول الله -أي: ماتت- وأراها إن تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: تصدق عنها) ، وهل يجوز أن تكون الصدقة من مال أبنائه أو أقربائه أو ما إلى ذلك أم يجب أن تكون من ماله الخاص؟ يجوز أن تكون من ماله أو من مال أقربائه أو من مال أصدقائه إذ لا دليل يخصص.(15/18)
حكم قراءة القرآن للميت
السؤال
ما حكم قراءة القرآن للميت؟
الجواب
قراءة القرآن على الميت لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ورد في الحديث من قراءة (يس) فضعيف.(15/19)
حكم زيارة النساء للمقابر
السؤال
ما حكم زيارة النساء للمقابر وقراءة القرآن فيها؟
الجواب
الحاصل في زيارة النساء للمقابر أنها إذا لم تصاحبها بدعة أو أمر محرم فهي جائزة، أما الدليل على الجواز فقول أم المؤمنين عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (ماذا أقول إذا أتيت المقبرة يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإن إن شاء الله بكم لاحقون) ، وكذلك (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري) ولم يأمرها بمغادرة المقبرة.
أما المانعون فاستدلوا بحديث (لعن الله زوارات القبور) وبحديث فاطمة رضي الله عنها (أن النبي رآها مقبلة من مكان فقال: من أين أتيتي يا فاطمة؟ قالت: يا رسول الله! من عند آل فلان كنت أعزي إليهم ميتهم، قال: هل بلغت معهم القدي -أي: المقابر- قالت: لا.
قال: لو بلغتيها ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيكِ) فهذا الحديث الأخير بنى عليه بعض العلماء أن ذهاب النساء للمقبرة كبيرة من أكبر الكبائر، وسطروا ذلك في كتبهم، وهذا التسطير اجتهاد خاطئ، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا شيء ثم إنه قرن زيارة القبور بالشرك بالله، فمن ناحية المعنى كذلك مخدوش فيه، أما حديث (لعن الله زوارات القبور) ، فوجهت إليه بعض الاتجاهات والتأويلات.
أحدها: أن الحديث ابتداء ضعيف بلفظ "زائرات"، أما لفظ زوارات فهو محمول على اللواتي يكثرن من الزيارة ويصاحبن الزيارة بالبدع.
والاتجاه الثاني: أنه منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) .
ومما قوى قول الذين ذهبوا إلى النسخ ما صح عن أم المؤمنين عائشة عند الحاكم وغيره: (أنها أقبلت من مكان فسألها سائل من أين أتيت يا أم المؤمنين؟! قالت: من عند قبر أخي عبد الرحمن، قال لها: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم قد نهى ثم رخص لنا فيها) فهذه أم المؤمنين عائشة يصح عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لها في زيارة القبر وهي أعلم بشأن النساء من غيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(15/20)
حكم الصلاة عن الميت
السؤال
ما حكم الصلاة عن الميت، وقراءة القرآن عنه وهل تلحق بالصدقة والحج والصوم؟
الجواب
الأصل عند كثير من العلماء أن العبادات توقيفية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصدقة عن الميت، وفي قضاء النذر عن الميت، وفي قضاء صوم النذر عن الميت، وفي قضاء الحج عن الميت، لكن لم يرد لنا مع كثرة الميتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شخصاً صلى عن شخص قد مات، ولا أن شخصاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن عن شخص قد مات، فأصل العبادات توقيفية وما ورد فيه من نص فيخرج من هذا العموم، والذي لم يرد فيه نص لا يلحق بما ورد فيه النص.(15/21)
حكم إعطاء هدية ما لغير من شريت له
السؤال
هل يأثم من اشترى شيئاً وعقد النية على إعطائه هدية لفلان من الناس ثم أعطاه لغيره؟
الجواب
لا يأثم، حتى أصل في أشد من ذلك وهو: إذا أعطيت الكتاب هدية لشخص ثم وجدت شخصاً آخر أحوج منه فأخذت منه الكتاب بعد أن أعطيته، فالسؤال هنا: قبل أن يعطيه الآخر هل يحرم عليه أخذه من الأول؟ هذه مسألة تناقش فيها الإمامان الجليلان أحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وهي مسألة: الرجوع في الهدية، فقال الإمام أحمد: الرجوع في الهدية حرام، وقال الشافعي: بل يكره.
فسأل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الإمام أحمد: ما مستندك يا أحمد في القول بتحريم الرجوع في الهبة أو في الهدية؟ فقال الإمام أحمد: مستندي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فقال الإمام الشافعي رحمه الله: وهل حرام على الكلب أن يرجع في قيئه؟ فقال الإمام أحمد: في الحديث: (ليس لنا مثل السوء الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه) فلم يقتنع الإمام الشافعي بمسألة الإمام أحمد (ليس لنا مثل السوء) .
صحيح أن مثله مثل سيئ لكن هل يحرم عليه؟ الأصل أن الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما في صحيح البخاري، فهذا هو الوجه في هذا الباب، فالشاهد أن الأخ اشترى الهدية ناوياً أن يهديها لشخص فجاء شخص آخر فأهداها له، فليس هناك أي إثم إنما هو محسن، والله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] .(15/22)
تفسير سورة النساء [92-99]
لقد حرم الله قتل النفس المسلمة، ومن قتل مؤمناً خطأً لزمه كفارة وهي عتق رقبة مؤمنة وتسليم الدية لأهل المقتول، وإن كان المقتول معاهداً بدأ بتسليم الدية ثم تحرير رقبة، وأما إن كان مسلماً ولكنه من قوم كفار فتلزم القاتل الكفارة بعتق رقبة أو صيام، ولا دية لأهل المقتول.(16/1)
تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92] .
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ) أي: وما كان ينبغي لمؤمن، فبعض العلماء قدر هنا كلمة (ينبغي) .
ومن العلماء من قال: وما كان يحل لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ.
والمؤمن المراد به هنا: المسلم، فليس المراد به المؤمن الذي هو أعلى درجة من المسلم، إنما المراد بالمؤمن هنا: المسلم، والمعنى واحد، وما كان لمسلم أن يقتل مسلماً إلا خطأ لها نفس معنى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) .
و (إلا) هنا قد يكون من معانيها: لكن، (ففي) ترد كثيراً في كتاب الله عز وجل بمعنى لكن.(16/2)
حكم من قتل المعاهد خطأ
قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:92] أي: معاهدات، أي: أنهم قوم كفار لكن بينهم وبين المسلمين معاهدات، فدلت الآية على جواز عقد المعاهدات مع الكفار، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فقدمت الدية على الرقبة المؤمنة، وهذا الآية تؤكد أن المسلمين يحترمون العهود والمواثيق، فإذا قتلت شخصاً خطأ، وكان هذا الشخص مؤمناً من قومٍ مؤمنين فابدأ بتحرير الرقبة ثم الدية، وإذا كان الشخص من قوم كفار بيننا وبينهم معاهدة فابدأ بتسليم الحقوق لهم ثم بعد ذلك حرر رقبة المؤمنة، فهذا مما يدل على أن ديننا يحترم العهود والمواثيق في جملة أدلة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58] .(16/3)
حكم من لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها
{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، هل ترجع هذه الآية إلى من لم يجد الرقبة والدية أو إلى أحدهما؟ قولان لأهل العلم: فإذا قتلت شخصاً خطأً بسيارة وكان معك أموال، وبعد ذلك سددت الدية إلى أهل المقتول وبقيت الرقبة، ثم لم تجد رقبة تحررها، فهل تصوم أو يسقط عنك الصوم؟ قول كثير من أهل العلم أنه يلزمك أيضاً أن تصوم مع تأدية الدية إلى أهل المقتول؛ لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، وما دام أنه سكت عن الشيء بعد قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء:92] ، فتحمل على الاثنين معاً أو على أحدهما.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92] ، هل هو أذنب حتى يقال: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) ؟ الظاهر أنه لم يذنب.
فمن العلماء من قال: إن الشخص إذا ابتلي بشيء من ذلك -الذي ذكر- وكفر، فإن هذه الكفارة تكون توبة عن ذنوبٍ سابقة سالفة، وليس على هذا بعينه، فهذا الابتلاء إذا امتثلت أمر الله فيه كفرت عنك خطايا سالفة كنت قد ارتكبتها أما القتل الخطأ -كقتل خطأ- فليس فيه كفارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: وكان الله عليماً بنياتكم، وعليماً بالقاتل هل قتل خطأً أم قتل عمداً؟ لأن هذه من المسائل الشائكة، شخص يضرب شخصاً، هل نيته فعلاً أن يقتله أو أنه قتله خطأً ولم يكن من نيته أن يقتله؟ فختمت الآية بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء:92] ، أي عليماً هنا بالقاتل هل وجهته القتل الخطأ أو القتل العمد، {حَكِيمًا} [النساء:92] فيما يشرع سبحانه وتعالى.(16/4)
حكم من قتل مؤمناً من قوم كفار خطأ
يقول الله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] ، أي: إذا كان المقتول مؤمناً لكن قومه كفار، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، وحذفت الدية المسلمة إلى أهله، وهذه الآية استأنس بها العلماء الذين يقولون باعتبار المقاصد في الأحكام؛ لأن المؤمن لما قُتل وهو من قوم كفار، فإذا أعطينا للقوم الكفار الدية وسلمناهم الدية استعانوا بها على قتال أهل الإيمان، فخشية أن يستعينوا بالدية على أهل الإيمان حذفت الدية -والله أعلم- ومنع منها الكفار، واقتصر على تحرير الرقبة فقط، وهذا من اعتبار المقاصد في الأحكام، وفي الحقيقة أنه من المسائل الشائكة جداً.
ونضرب مثالاً آخر -ونحتاج من أخينا الشيخ صالح أن يعقب لنا بما يدور عندهم في المحاكم-: في مرض الموت قال رجل: زوجتي طالق، فسئل: لماذا طلقتها؟ فقال: طلقتها لكي لا ترث، ثم مات، وكان هذا الطلاق غير رجعي، إما أنه آخذ ثلاث تطليقات فتكون مبتوتة، أو أنه طلاق قبل البناء، فالشاهد: أنه طلاق غير رجعي، ثم مات الرجل، فهل يعتبر هذا الطلاق أو لا يعتبر؟ إذا اعتبرت المقاصد قلت: الشاهد أن مسألة طلاق المرأة في مرض الموت تنازع فيها السلف، وقد ذكرنا أن أمير المؤمنين عثمان يرى أن هذا الطلاق لا يقع، وقد ورث عثمان رضي الله عنه امرأة عبد الرحمن بن عوف لما طلقها عبد الرحمن في مرض الموت، وأبى ذلك عبد الله بن الزبير وقال: (لا أورث مبتوتة) .
وورد أن أمير المؤمنين عمر لما بلغه أن غيلان بن جرير الثقفي طلق أزواجه كلهن خشية الميراث، قال له: (إني يخيل إليَّ أن الشيطان فيما يسترق من السمع أخبرك بموتك، فقسمت ميراثك على بنيك وطلقت نساءك، فوالله لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال، فراجع النساء، ثم ما لبث إلا أياماً حتى مات) .
فلا أدري بم تقضي المحاكم اليوم يا شيخ صالح؟ الشيخ صالح: تبطل جميع تصرفاته عند مرض الموت.
الشيخ: أخوكم الشيخ صالح حفظه الله يقول: إن الجاري في المحاكم الآن أنها إذا طلقت في مرض الموت وثبت أن هذا المرض هو مرض الموت ولم يقم من مرضه؛ لأنه إذا قام من المرض ثم تعافى وبقي على طلاقه ثبت الطلاق، لكن إذا ثبت أنه مرض الموت ولم يقم منه بطلت جميع تصرفاته.
والإمام الشافعي يرى أن الطلاق واقع هو وأبو محمد ابن حزم.
وإن سألنا عن الدليل، هل تعلم لهم دليلاً يا شيخ صالح حفظك الله؟ هل تعلم دليلاً لإبطال تصرفات المريض كلها؟ الشيخ صالح: لسوء نيته.
الشيخ: دليل القانونيين أنه سيء النية، وما الذي أدخل القانونيين في نيته؟!! الشيخ صالح: هكذا اعتبروه.
الشيخ: هكذا اعتبروه، هب أن هناك سيء النية مثله وهو صحيح لم يمرض، كرجل معافى وصحيح، فقال: زوجتي طالق؛ حتى أحرمها من الميراث، فهذا سيء النية.
الشيخ صالح: نعم سيء.
الشيخ: سيء، ولكن لا يؤاخذه القانون.
الشاهد: أن أبا محمد ابن حزم رحمه الله سبقه الإمام الشافعي رحمه الله وسبقهم عبد الله بن الزبير رحمه الله ورضي عنه، وقالوا: بأنه يقع الطلاق، شأنه شأن الصحيح، وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه رأى عدم الوقوع، وليست هناك أدلة صريحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، ونرجع إلى التفسير:(16/5)
كفارة القتل الخطأ
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) أي: بطريق الخطأ.
(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) فذكرت الكفارة.
فإن قال قائل: إن الله وضع الخطأ والنسيان والاستكراه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك عندما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله في الحديث القدسي: (قد فعلت قد فعلت) ، فلماذا يؤاخذ المؤمن هنا بقتل الخطأ وفرضت عليه كفارة؟! وأيضاً قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصح من شواهده أنه قال: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وإن كان في إسناده بعض المقال إلا أنه يشهد له قوله تعالى: (قد فعلت) في الحديث القدسي.
فالإجابة على هذا: بأن إثم قتل الخطأ مرفوع عن الشخص لكنه ألزم بنوع كفارة.
وقد يقول قائل: إنها ابتلاء من الله له يبتليه بأن يكفّر كفارة دنيوية، فهو لم يلزم بالاستغفار؛ لأنه لم يرتكب إثماً في الحقيقة في الأصل، إنما ألزم بكفارة، وقد يقول قائل: إنها من باب معاونة أهل المقتول والمساهمة في تحرير رقاب أهل الإيمان، وليس لها تعلق بالإثم اللاحق بالقاتل الخطأ.
وهذا وجه قوي، والله أعلم.
ومن أهل العلم من قال: إن هذه الصورة مستثناة من المؤاخذة بالخطأ، فيكون الأصل أن المسلم لا يؤاخذ بالخطأ، لكن وردت أدلة تستثني بعض صور الخطأ التي يؤاخذ بها المسلم ويحاسب عليها، فلَزِمَنَا المصير إليها لوجود الدليل من الكتاب أو من السنة، وشأن ذلك شأن أي عام في الكتاب أو السنة، فهناك عمومات تأتي في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتستثنى منها أمور، فليكن هذا من العام، أي: ليكن عدم المؤاخذة بالخطأ عام، استثني منه قاتل الخطأ بأن فرضت عليه كفارة بنص في كتاب الله، فلا يكون هناك معنى لإنشاء خلاف بين الآية وبين الآية الأخرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قيدت الرقبة هنا بأنها مؤمنة، وفي آيات أخرى لا تتعلق بالقتل أطلقت الرقاب، قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] أي: هذا الكافر ما اقتحم العقبة، ما هي العقبة؟ قال فريق من العلماء: إنها جبل في النار.
ومنهم من قال: إنها الصراط.
وهذه العقبة يقتحمها الناس بأعمالهم، فينقم الله على الكافر المجادل فيقول: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، أي: ما عمل أعمالاً تؤهله لاقتحام العقبة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ، تعظيم لهذه العقبة {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] ، أي: لم يقتحم العقبة بفك رقبة، فالرقبة هنا أطلقت ولم تقيد بأنها رقبة مسلمة ولا رقبة كافرة، فبعض أهل العلم يحمل هذا الإطلاق على المخصص الوارد في آيات أخرى، وبعضهم -ورأيهم أسلم- يقول: إذا أطلقت الرقبة نطلقها، وإذا قيدت الرقبة نقيدها.
فمثلاً: قال تعالى في شأن كفارات الأيمان: {َفكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، ففي اليمين لم تقيد الرقبة بأنها مؤمنة، لكن في القتل قيدت الرقبة بأنها مؤمنة {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فيشترط في الرقبة -أي: العبد أو الأمة- أن يكونا مسلمين، {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء:92] أي: مدفوعة، {إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] إلى أهل المقتول.
وهذه الدية مسلمة فمن؟ ومن الملزم بها؟ هل القاتل أو العاقلة؟ إذا قتل شخصٌ شخصاً خطأً فهل يلزم القاتل أن يسدد الدية وحده بمفرده، أو أن رجال قبيلته يساهمون في هذه الرقبة، فالدية في حالة القتل الخطأ ليست على القاتل فحسب إنما هي على العاقلة وهم رجال القبيلة، فكلٌ يدفع قسطاً ويؤدون عن الشخص في حالة قتل الخطأ، لكن في حالة قتل العمد فإن الجاني هو الذي يتحمل، فإن ساعده أهله بشيء فلا مانع من ذلك، لكن الذي يُلزم بدفع الدية هو القاتل.
والدية قدرها مائة من الإبل.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] أي: يعتق عبداً مسلماً أو أمة مسلمة، وإضافة إلى ذلك يدفع ويسلم دية إلى أهله، ويقدرها الناس الآن أو في بعض بلاد العرب بما يقارب مائة وخمسين ألف ريال سعودي.
وصور القتل الخطأ تتعدد وتتنوع، ففي بعض البلاد تجري الأحكام أنك إذا كنت تقود سيارة فصدمت رجلاً في الطريق وقتلته، فتكون قد قتلت خطأً، وتلزم أنت مع العاقلة بسداد الدية إلى أهله، وطبعاً قوانين المحاكم التي تجري في المحاكم لا تسقط عليك أي شيء من الناحية الشرعية إنما هي في وادٍ آخر، إلا إذا عفا عنك أهل المقتول خطأ فالحمد لله، وبقي عليك فقط تحرير الرقبة المؤمنة.
ومن صور القتل الخطأ: أن تلقي حجراً مثلاً من فوق السطح -من فوق سطح البيت مثلاً- ألقيت أحجاراً أو أخشاباً على أناس بطريق الخطأ فماتوا فتتحمل أنت ديتهم، وإذا كنت تقود سيارة وصدمت شخصاً فإنك تتحمل أنت أيضاً الدية، هذه بعض صور القتل الخطأ، والصور تتعدد.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] ، ففيه ندب إلى الصدقة، وحثٌ من طرف خفي لأهل الميت على الصدقة، فإذا كان المقتول عمداً قد حث الله أهله على الصدقة، فأهل المقتول خطأً من باب أولى، فالمقتول عمداً يقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، أي: إذا قتل أخوك أو قتل أبوك ثم عفوت عن القاتل فقد كفرت ذنوبك وخطاياك، فإذا كان الله ندب إلى العفو في حالة القتل العمد، فلأن يندب إلى العفو في القتل الخطأ من باب أولى؛ لأن القاتل خطأ ما تعمد أن يقتل.
والفقهاء يفرقون أحياناً بين قاتل العمد وقاتل الخطأ بناءً على الآلة التي استعملت في القتل، وهذا من ضمن جملة أشياء يفهمها إخواننا المختصون بذلك، ولعل الشيخ صالح بن عبد الجواد حفظه الله تعالى يتحفنا في هذا الجانب، وما هو سائرٌ في المحاكم في هذه الأيام، فبعضهم يفرق في الآلات، فإذا ضرب شخصٌ شخصاً بحجر مثلاً فقتله به، وشخص ضرب شخصاً آخر برصاص وأطلق عليه رصاصة، فالأولى عمد والأخرى قد تكون خطأ.
ومن اللطائف التي سيقت في هذا الباب: أنه في بعض السجون في بعض البلاد العربية أتوا برجل تشاجر معه آخر فضربه بالفأس فقتله، فأخذوه وأثبتوا في محضر الشرطة: بمَ قتلته؟ قال: بالفأس، فدخل السجن انتظاراً للمحكمة، فسأله السجناء والخبراء بالمشاكل وقالوا له: ما هي جريمتك؟ قال: قتلت شخصاً بالفأس، قالوا له: إنك إن قلت للقاضي: قتلته بالفأس، سيحكمون عليك بالإعدام؛ لأنك قاتل عمد، ولكن إذا سألك القاضي، فقل: قتلته بيد الفأس ليس برأس الفأس -أي: بالخشبة- فقال: لقد اعترفت، قالوا له: إذا جاء وقال لك: لمَ اعترفت؟ فقل له: إن إخوة يوسف قالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] وما أرادوا أحجار القرية إنما أرادوا السكان، فقل: أنا قلت بالفأس وأريد يد الفأس، فجعلوها قارنة لصرف الحد عنه وانتقاله من العمد إلى شبه العمد.(16/6)
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا.)
ثم قال تعالى محذراً من القتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] ، ذكرت الآيات القتل الخطأ والقتل العمد، وبعض كتب المالكية أدخلوا قسماً ثالثاً وهو: شبه العمد، أي: أن هناك حالات تشك هل هي عمد أو خطأ؟ فمثلاً: رجل ضرب رجلاً بشيء يشك فيه هل يكون عمداً أو خطأ، فهذه فيجعلونها شبه عمد.
وفي الحقيقة أن من أهل العلم من يلغي هذه المرحلة بحديث (ادرءوا الحدود بالشبهات) فيرجعها إلى الخطأ؛ لعدم وجود شبه دليل صريح على مسألة شبه العمد، والله أعلم.
فمثلاً: مدرس يؤدب طالبه، وفي أثناء الضرب مات هذا الطالب، أو رجل يعالج بالقرآن وهو يضرب المريض فمات هذا المريض، فيحتمل أنه أراد قتل المريض، ويحتمل أنه لم يرد.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] هل أي مؤمن يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم أم أن المتأول له أحكام؟ لأن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل وقتل فعلاً، فطائفة معاوية رضي الله عنه قتلت عمار بن ياسر في طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه، فهل كل من قتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم؟ التقييد الأول: جزاؤه جهنم إذا لم يغفر الله له؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فإذا لم يغفر له فلن يكون جزاؤه جهنم؛ وقد جاء (أن قوماً أتوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، زنوا فأكثروا، وقتلوا فأكثروا، وسرقوا، فهل لهم من توبة؟ فنزل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ) ، وكذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض.
ثم كان مآله إلى أن تلقته ملائكة الرحمة عندما تاب.
إذاً تقيد الآية بما إذا لم يغفر له.
وروي عن الحبر الكبير عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ليس لقاتل مؤمنٍ توبة) ، واحتج بهذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، فقد تراكمت عليه العقوبات؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) .
ولذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رغم عدله الواسع المنتشر وسيرته الحسنة، إلا أنه كلف -عندما كان أميراً على المدينة من قبل بني أمية- أن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، فضربه وتركه في برد المدينة القارس الشديد، وكان خبيب رجلاً صالحاً حتى مات خبيب في البرد، فكان عمر كلما ذكر بعد أن ولي الخلافة يبكي ويقول: من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! ويتأسف غاية الأسف على الذي صنعه بـ خبيب.
قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية المسند -كما في معنى الحديث-: (إن المقتول يأتي يوم القيامة آخذاً بتلابيب قاتله معه رأسه، يقول: يا رب! سل هذا فيما قتلني.
فيقال: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيبوء بإثمه وإثمه فيتحمل القاتل كل ذنوب المقتول ويكون من أصحاب النار) عياذاً بالله.
فالآية فيها تقييدات، فمن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم إذا لم يتب الله عليه، ويقول: ابن القيم: إذا لم يكن متأولاً، وهذا التأول يكون مقبولاً أو تكون له وجهة شرعية مثلاً.
فمثلاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تقاتلوا فيما بينهم، فرب العزة يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] ، هناك شخص مؤمن في طائفة معاوية يتخيل أنه مصيب وأنه يطالب بدم أمير المؤمنين عثمان الذي قتل مظلوماً، ويبدأ برفع السيف على أخيه المسلم من وجهة شرعية، فحينئذٍ هذا التأول وإن كان لا ينجي صاحبه من العذاب جملةً إلا إذا غفر الله له، لكن لا يخلد صاحبه في النار.
وهناك قيود أخر، منها: إذا لم يكن المقتول يستحق القتل، فإذا كان المقتول زانياً محصناً فقتل، أو قاتل نفس بغير حق فقتل، أو مرتداً عن دينه فقتل، أو كان قاطع طريق، أو فعل فِعل قوم لوط واستوجب حداً أقامه عليه الإمام، فهناك استثناءات تضبط لنا هذه الآية.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] سبق أن عبد الله بن عباس يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، ويقسم في بعض الروايات أن آية النساء هذه نزلت بعد آية الفرقان، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] ، فـ ابن عباس يرى أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، يرى أن هذه الآية هي القاضية على آية الفرقان في الحكم.
أما جمهور الصحابة فلم يوافقوا على هذا الرأي وقالوا: له توبة إن تاب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) ، ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهناك جملة أدلة منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) ، وعمومات احتج بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من التمس وجهاً لـ عبد الله بن عباس فقال: إن مراد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن قاتل المؤمن في الغالب أنه لا يوفق للتوبة، فإن قيل: إن هناك من يقتل ويتوب، فالإجابة: أن هناك من يقتل ويتوب، ولكن في الغالب أن الذي يقتل لا يتوب، فإن وجد شخص أو ثلاثة أو عشرة، لكن الغالب على أن القتلة لا يتوبون، وهذا أحد الالتماسات لتوجيه رأي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وجعله يرجع إلى رأي جمهور الصحابة رضي الله عنهم، وبعض العلماء يحمل الآية على المستحل، والله أعلم.
{فجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء:93] ، فاجتمع عليه الغضب واللعن.
{وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] ، في قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ} [النساء:93] دليلٌ على أن النار مخلوقة، (وَأَعَدَّ لَهُ) دليل على أن النار معدة الآن، وقوله تعالى أيضاً: {اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ} [آل عمران:131] ، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها) ، وقد رآها النبي في صلاة الكسوف، وكل هذه أدلة تدل على أن النار مخلوقة الآن، وقوله: (بينما رجل يمشي في حلة أعجبته نفسه يتبختر إذ خسف به فهو في نار جهنم يتجلل فيه) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) ، فكل هذه أدلة تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.(16/7)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ) أي: سافرتم، والضرب في الأرض معناه: السفر، قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] ، وقال جل وعلا: {َإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، وقال صلى الله عليه وسلم (ضربت الشياطين مشارق الأرض ومغاربها) ، {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:94] أي: خرجتم غزاة مسافرين في سبيل الله.
(فتبينوا) في قراءة: (فتثبتوا) ؛ وذلك لأن المصحف لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام منقوطاً، فكانت الكلمة بدون نقط لا فوق ولا أسفل فتحتمل القراءتين معاً، وقد نزلت الآية في طائفة من أصحاب رسول الله خرجوا غزاةً، فالتقوا برجل كان بين بعضهم وبينه ثأر قديم في الجاهلية، فسلم عليهم بتحية الإسلام، وكان معه غنم له، فقتلوه وساقوا غنمه، فنزلت فيهم الآية، وجاء أيضاً أنها نزلت في أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، والآية ليست على ما يفهمها الجهلة الذين ينتمون إلى جماعة التوقف -وهم من أجهل الطوائف- حيث أسسوا جماعة التبين بناءً على هذه الكلمة، والآية نفسها ترد عليهم، ففيها: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] وهم يقولون للمصلين: لستم مؤمنين.
فالآية أخذوا منها كلمة (التبين) ، وبنوا عليها جماعة وجعلوا لهم أميراً من أجل كلمة التبين التي في الآية، فلو نظروا إلى آخر الآية: {لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] أي: احكموا لمن ألقى إليكم السلام بالإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المؤمن) ، وهم أبوا أن يقروا بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] أي: إذا خرجتم غزاةً في سبيل الله -واصطلاح (في سبيل الله) محمولٌ على الجهاد- فتبينوا، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] ، فالآية تفيد أن السلام من شعار المسلمين، ولذلك لما قدم موسى على الخضر سلم عليه، فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ فعلم الخضر أن موسى أتى بتحية المسلمين، فلذلك تعجب كيف يأتي من عند الفراعنة ويحمل هذه التحية! قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] أي: بتهجمكم عليه وقتله، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء:94] ، أي: تورعوا عن هذا المشبوه، وابتغوا الغنيمة عند الله سبحانه وتعالى، فالآية تفيد أن الشخص يترك المشتبه ويطلب الرزق الحلال الطيب من الله، فترك المشتبه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عبد الله بن سلام يقول لبعض التابعين: (إنك بأرض الربا فيها فاشٍ، فإذا أقرضت رجلاً وأهدى لك شيئاً فلا تقبله فإنه ربا) .
قال تعالى: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94] ، أسامة بن زيد نزلت فيه الآية فكان يتمنى أنه لم يولد إلا بعد أن نزلت هذه الآية أو بعد هذه الغزوة؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة بغير حق.
(أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة؟! قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أقتلته يا أسامة! بعد أن قال لا إله إلا الله؟ كيف بك يا أسامة! إذا جاء بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) ، فقتل النفس المؤمنة -يا عباد الله- جرم كبير، وقد جاءت فيه نصوص الوعيد المتكاثرة غاية الكثرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/8)
تفسير قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.)
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95] كلمة (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) تأخر نزولها عن سائر الآية، فقد كان في الآية أول ما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) نزلت هكذا أول الأمر، فجاء ابن أم مكتوم إلى رسول الله يشتكي ضرره وفقدان بصره، فأنزل الله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] وهناك دليل على أن بعض الآيات قد ينزل متأخراً عن بعض، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول (ضعوا هذا الجزء في هذه الآية، وضعوا هذه الآية في سورة كذا وكذا) ، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] نزلت هكذا، ثم بعد مدة نزل قوله تعالى: (من الفجر) .
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء:95] ، فالقاعدون لهم أجر، وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آمن بالله ورسوله كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، مات في سبيل الله أو مات في أرضه التي ولد فيها، قالوا: أفلا نبشر الناس يا رسول الله؟! قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) .
فالقاعدون لهم درجات لكن أعلى منهم درجات المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
والجهاد أعم من القتال، ولذلك المستشرقون لما جاءوا يترجمون هم والمستغربون بدءوا بترجمة كلمة (الجهاد) التي في كتاب الله بمعنى القتال، فأخطئوا؛ لأن الجهاد صورته أوسع، فقد يكون جهاداً بالمال، وقد يكون جهاداً بالنفس لا بالسيف فقط، والجهاد بالنفس يكون بالخروج لأي عملٍ يرضي الله سبحانه وتعالى وينصر دينه، وقد يكون جهاداً بالقلب، (فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) ، فاصطلاح الجهاد أعم من اصطلاح القتال، أما القتال فهو أحد صور الجهاد في سبيل الله، فلذلك الترجمة ينبغي أن تكون من رجل ملم بالأحكام الشرعية لا من رجل جاهل.
قال تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِم} [النساء:95] جهاد المال الآن يتمثل في صور منها: أن تنشر كتيباً أو شريطاً فيه رفع معنويات المسلمين أن تحث المسلمين على أعمال البر أن تتصدق بمصحف، فأفعال الخير والبر واسعة غاية الاتساع والحمد لله.
{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95] ، قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الجهاد لهم مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء؛ لتفاضل ما بينهم) .(16/9)
تفسير قوله تعالى: (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً)
قال تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:96] درجات ومغفرة للذنوب ورحمة من الله سبحانه وتعالى بهم.
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته) .
والجهاد -كما علمتم- بالنفس وبالمال، وصوره لا تنقضي ولا تنقطع إلى يوم القيامة، فاقتطع من قوتك وانشر شيئاً ينصر الله به دينه ويؤيد الله به سنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.(16/10)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ.)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97] .
نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين المستضعفين الذين كانوا يسكنون بمكة، فأجبرهم أهل مكة للخروج معهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المسلم الذي في صفوف رسول الله يضرب بسهمه فيصيب أخاه المسلم الذي في صفوف المشركين، فتحسر المسلمون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأسفوا على ذلك وقالوا: قتلنا إخواننا، فنزلت الآية رافعةً الحرج عن المسلمين الذين هم في صفوف النبي عليه الصلاة والسلام، ومحذرةً لأهل الإسلام الذين دخلوا في صفوف المشركين يكثرون السواد.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} توفتهم وهم ظالمون لأنفسهم: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} ، أُخرجنا عنوة ورغم أنوفنا: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} في هذا أنه ليس كل من أتى بعذر قبل منه، قال تعالى: {َأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .(16/11)
تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ)
ثم قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:98] أي: الذين استضعفوا حقيقة وأخرجوا كرهاً من الرجال والنساء والولدان، قال ابن عباس: (كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة) {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98-99] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجزاكم الله خيراً.(16/12)
الأسئلة(16/13)
سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن في الصلاة
السؤال
قال أحد إخواننا: في لقاء سابق أجبت على سؤال بشأن قيام إمام المسجد بقراءة القرآن في صلاة الفجر، بدءاً من سورة البقرة بترتيب المصحف حتى نهايته، وأن هذا الأمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد البعض بأن المصحف لم يكن قد دون على عهد الرسول وعليه فلا تثريب على من يفعل ذلك؟
الجواب
إذا قال الأخ: إن المصحف لم يكن رتب، فهذا أيضاً دليل عليه ليس دليلاً له، صحيح أن المصحف لم يكن رتب على عهد الرسول، فمن الذي ألزمك أن تقرأ على الناس يومياً ابتداءً من البقرة كل يوم جزءاً حتى تنتهي إلى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ؟ هل درج على ذلك سلفنا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين دونوا المصحف؟ هل درج على ذلك التابعون؟ رسولنا محمد يقول: (هلا قرأت في العشاء -أي: في صلاة العشاء- بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وبـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] * {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] ) ، وكان يقرأ في صلاة الظهر بنحو ذلك، وبنحو ستين آية أو ثلاثين آية في العصر، فالتزام الترتيب لم يلتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فالإمام غير مطالب أن يتعلم الحفظ ويختبر نفسه وحفظه على المسلمين، ينتهي من ربع ويبدأ في الربع الذي بعده حتى يختم القرآن في سنة أو سنتين، فما سلك هذا السبيل وما تكلف هذا التكلف أصحاب نبينا محمد ولا سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، والله أعلم.(16/14)
فضل الجهاد في سبيل الله
السؤال
هل للمجاهد الذي لم يقتل في المعارك التي خاضها أجرٌ، علماً بأنه لم يذهب متطوعاً ولكنه كان يعمل في القوات المسلحة وخاصةً في المعارك التي قامت؟
الجواب
إذا كانت معارك ضد الكفار لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى فله أجره، وكل خطوة يخطوها تكفر بها عنه سيئة وترفع بها درجة، وكل غبار يصيبه يثاب عليه يوم القيامة، أما إن كانت حروباً لقتال المسلمين، كالذين ذهبوا في حرب اليمن يقتّلون المسلمين هناك لنصرة الاشتراكية، فحرب اليمن ليس فيها أجر فيما علمت؛ بل إنها حرب مضيعة للمسلمين وتقتيل لهم وتشريد، فالكل مسلمون، فعلى حسب نوع الحرب التي خاضها.(16/15)
كتاب في أسباب النزول
السؤال
هل هناك كتاب في أسباب النزول محقق؟
الجواب
نعم هناك كتاب (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل الوادعي رحمه الله.(16/16)
ما جزاء الإحسان إلا الإحسان
السؤال
أخت تقدم لها أخ وهي ملتزمة ونحسبها كذلك، وتراجع عن خطبتها بعد أن أعجب بدينها وحسن أخلاقها لا لشيء إلا لأنها صارحته بعيب خلقي فيها، ولم يكتفِ الأخ بالإعراض عنها وإنما ثبط من عزم على التقدم لها، فما يقال لهذا الأخ؟
الجواب
نقول له: اتق الله في هذه الأخت المسلمة كما اتقت الله فيك، فجزاء الإحسان الإحسان، فهي قد أخبرتك بالذي فيها إحساناً منها أو تقوى منها لله سبحانه حتى لا تغشك، فلا تكن أنت منفراً، ثم دعها هي التي توضح للخطاب ما بها كما وضحته لك.
والذي سيعمله سيلاقيه يوم القيامة.(16/17)
قيام الليل هو التهجد
السؤال
ما الفرق بين صلاة التهجد وصلاة قيام الليل؟
الجواب
لا أعرف فرقاً بينهما، فقيام الليل هو التهجد.(16/18)
صلاة ركعتين بعد العصر من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
في حديث عائشة: (أن النبي لم يكن يترك ركعتين بعد العصر) ؟
الجواب
الظاهر أنها من الخصوصيات برسول الله عليه الصلاة والسلام، لحديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) .(16/19)
مقدار التشهد الأول
السؤال
هل التشهد الأول في الصلاة الرباعية يقف عند (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله) ، أم يكمل التشهد إلى (إنك حميد مجيد) ؟
الجواب
الأولى -فيما ظهر لي- أنه يقف عند (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) لأمرين: الأمر الأول: أن ابن مسعود لما علم التابعي التشهد أتى إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وقال: إذا بلغت ذلك فقم، وابن مسعود هو راوي حديث التشهد وهو أعلم به من غيره.
الأمر الثاني: لما ورد في إسناد حسن: (أن أبا بكر وعمر كانا يجلسان في التشهد الأوسط كأنما يجلسان على الرد) أي: الحجارة المحماة، أي: يسرعون.(16/20)
أبناء الأمة من الحر ينسبون إليه
السؤال
نقرأ عن السراري في الإسلام، فما هو موقف أولاد هؤلاء السراري، هل ينسبون لآبائهم أم ماذا؟
الجواب
إذا جاءت امرأة من الإماء لرجل حر، فجامعها هذا الرجل وولدت له ابناً، فهذا الابن ينسب للرجل، مثل إبراهيم ابن رسول الله، فـ إبراهيم هو ابن مارية، ومارية كانت أمة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام.(16/21)
وجود زناة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
{الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ، هل تدل هذه الآية على أنه كان هناك زناة وزانيات في المجتمع الإسلامي أثناء نزول الآية؟
الجواب
نعم كان هناك زناة وزوانٍ في عهد رسوله الله عليه الصلاة والسلام، وقد روى ابن عباس قول النبي عليه الصلاة والسلام في تلك المرأة: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه) .
وهي امرأة كان الرجال يدخلون عليها، ولم يستطع أحد أن يثبت عليها شيئاً، فلا يوجد شهود أربعة رأوا واحداً يزني بها، ومع ذلك ما انتهت، وقد زنت الغامدية وجاءت وتطهرت.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(16/22)
النصارى مشركون
السؤال
هل النصارى مشركون؟
الجواب
نعم مشركون؛ لأن الله يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] ، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي ولا بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار) .(16/23)
تفسير سورة النساء [101-104]
احتوت آيات القرآن الكريم على دروس ومواعظ، وأحكام وفوائد، من تدبرها حق التدبر عرف أسرارها، واستنبط مكنوناتها، واستخرج كنوزها، ومن تلك الأحكام الجليلة والفوائد النبيلة: أحكام صلاة الخوف، وقصر الصلاة للمسافر، ورفع الحرج والضيق عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها.(17/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض)
فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] .
هذه الآية أصل القصر في السفر، فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101] أي: سافرتم، ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] أي: يسافرون.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:156] أي: سافروا.
فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101] أي: وإذا سافرتم، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء:101] الجناح المراد به: الإثم، ومعنى الآية: وإذا سافرتم فليس عليكم إثم إذا قصرتم الصلاة.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] (من) هل المراد بها للتبعيض، أي: من بعض الصلوات؟ أو المراد: تنقصون الصلاة من أربع إلى اثنتين؛ لأن بعض الصلوات ليس فيها قصر كصلاة الصبح وصلاة المغرب؟ فلقائل أن يقول: ليس عليكم جناح أن تقصروا من بعض الصلوات، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما سائر الصلوات فتصلى كما هي.
ولقائل أن يقول: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة التي هي أربع، فتصلوها ركعتين، وهذا واضح.
فـ (تقصروا من الصلاة) ، هل هي من الخمس الصلوات تقصرون في بعضها، أو (تقصروا من الصلاة) ، أي: من الصلاة الرباعية إلى ركعتين؟ الأخير أظهر، والله أعلم.(17/2)
رفع الحرج عن هذه الأمة
قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] هذه الآية من إحدى الآيات التي ترفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فالشخص إذا كان مسافراً فقد يكون مرهقاً متعباً، والله رحيم به قد خفف عنه الصلاة من أربع إلى ركعتين، ومما يدل على ذلك: ما روي في صحيح البخاري وإن كان قد انتقد لكن له شواهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) فالسنن الرواتب في السفر لا تصلى وأنت تثاب على تركها في السفر كما كنت تصليها في بلدك، وإنما يصلي منها: ركعتا الفجر والوتر، وما سوى ذلك من النفل الراتب فلا، مثل: ركعتي الظهر أو الأربع القبلية أو البعدية، وكركعتي المغرب البعدية، وكذا ركعتي العشاء البعدية، فكل هذه النوافل لا تصلى في السفر.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين، ويحسمها قول ابن عمر رضي الله عنهما: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر على ركعتين) ، وقوله: (لو كنت مسبحاً -أي: مصلياً النافلة بعد الفريضة- لأتممت الفريضة) .
أما النفل غير الراتب -أي: التطوع المطلق- كصلاة الضحى أو صلاة التهجد، أو صلاة تحية المسجد، أو ركعات الوضوء، أو صلاة الاستخارة، أو صلاة الفتح، أو نحو ذلك من الصلوات التي ليست راتبة، فلك أن تصليها، وذلك لما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على الراحلة حيثما توجهت به) أي: النفل المطلق، والله سبحانه أعلم.
فالآية من آيات رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم منها جملة آيات: كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] ، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت بالحنيفية السمحة) إلى غير ذلك، وقوله تعالى:: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] .
فكل هذه الآيات فيها رفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي نصوص يحتاج إليها عند عدم وجود النص الخاص، فلو شق أمر على شخص فوق طاقته، فيتدخل النص للتخفيف عنه، كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] أي: ظاهراً.(17/3)
توجيه القول بأن علة القصر هي الخوف
قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] هذا التقييد يفيد أن القصر للخوف، لكن هذا بينه عمر رضي الله عنه في مسألته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد جاء (سائل يسأل أمير المؤمنين عمر يقول: لماذا القصر وقد أمن الناس، والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ؟ فقال أمير المؤمنين عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) .
إذاً: التقييد في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] على رأي بعض العلماء يخرج مخرج الغالب، فسواء خفت أن يفتنك الذين كفروا، أو لم تخف من فتنة الكفار فلك أن تقصر الصلاة مادمت مسافراً.
وخروج مخرج الغالب تقدمت له نماذج متعددة من كتاب الله: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فـ (أضعافاً مضاعفة) خرجت مخرج الغالب، ولا يفهم من الآية أنه يجوز الأكل من قليل الربا أو أقل من الضعفين.
كذلك قوله تعالى في خروج مخرج الغالب: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] أي: على الزنا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] أي: إذا أردن تعففاً، فقوله: (أردن تحصناً) خرجت مخرج الغالب، وليس معنى الآية: إذا أرادت البنت أو الأمة فجوراً أنه يجوز لك أن تكرهها على الزنا.
فكذا قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] عند بعض العلماء خرج مخرج الغالب، سواء خفت فتنة الذين كفروا أو لم تخف فتنة الذين كفروا فلك أن تقصر الصلاة.(17/4)
اختلاف العلماء في وجوب قصر الصلاة للمسافر
قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء:101] أي: ليس عليكم إثم، وقد استدل بها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم: على أن القصر ليس بواجب إنما هو مستحب؛ لأن الله قال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] ، فنفي الجناح لا يقتضي الوجوب، فإذا قلت لك: لا جناح عليك أن تسافر، فليس معناه: يجب عليك السفر، إنما إذا سافرت فليس عليك إثم.
ومن هذا الباب: قوله تعالى في الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] أي: فلا إثم عليه أن يطوف بهما، وقد يقول قائل: إذاً السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب لهذه الآية: ((فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)) [البقرة:158] أي: لا إثم عليه، وكذلك القول في مسألة قصر الصلاة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] أي: لا إثم عليكم، فلا يستفاد الوجوب.
والحقيقة أن الوجوب لا يستفاد لا في السعي بين الصفا والمروة، ولا في قصر الصلاة من الآيتين، وإنما يستفاد عند من رأوا الوجوب خاصة في قصر الصلاة من نصوص أخرى.
ما هو الدليل على وجوب القصر عند من قال بوجوبه؟ الدليل الأول: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) وقد استدل به فريق من العلماء على وجوب القصر.
الدليل الثاني: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره، فلم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام أتم في أي سفرة سافرها.
وجمهور أهل العلم قالوا: إن القصر في السفر مستحب وليس بواجب، فمن أتم في السفر فصلاته صحيحة ليست بباطلة، وقالوا: إن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة مثنى مثنى) عورض بقول ابن عباس رضي الله عنهما الذي فيه: (فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم) .
قالوا: فهذا صحابي بين أن الصلاة فرضت أربعاً في الحضر واثنتين في السفر.
وقالوا هذا لكي يعكروا الاستدلال بحديث عائشة، ولكنهم في الحقيقة وافقوا أثر عائشة رضي الله عنها، والأثران متفقان على أن صلاة السفر ركعتان، لكن الخلاف في أصل فرض صلاة الحضر هل كانت اثنتين أو أربعاً، وهذا خلاف لا يضر؛ لإجماع العلماء على أن صلاة الحضر أربع ركعات.
وقد استدلوا على عدم الوجوب بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] وبفعل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما صلّى بالناس بمنى، ولا شك أن الآتي إلى منى في الحج يكون مسافراً، ولكن عثمان صلّى بالناس الظهر أربع ركعات، وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، حتى الذي لم يوافقه في الرأي كـ ابن مسعود الذي قال: (لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنىً ركعتين، ومع أبي بكر بمنىً ركعتين، ومع عمر بمنىً ركعتين، فياليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) ومع هذا القول إلا أنه تابعه على الصلاة وصلى معه، فلو كانت باطلة لما صلّى معه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.(17/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)
قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] الخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وقواد الجيوش له تبع، فلا تسقط صلاة الخوف بوفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام كما زعم البعض؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} [النساء:102] ؛ وذلك لأن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.(17/6)
الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل
قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] في الآية رد على قوم متواكلين، يتركون أهليهم وذراريهم بدون طعام ولا شراب ويخرجون إلى البراري والصحاري أو غيرها ويجوعون أهاليهم ويقولون: نحن المتوكلون، فالآية فيها رد على هؤلاء؛ لأن أخذ الحذر وحمل السلاح، واكتساب الأرزاق لا ينافي التوكل.
ومن ثم ذم أهل اليمن لما كانوا يحجون من بلادهم ولا يحملون معهم الزاد والطعام، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا وصلوا إلى مكة في الحج سألوا الناس، فأنزل الله فيهم: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] أي: تزودوا بالطعام والشراب {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] .
من العلماء من قال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] أي: تتقي سؤال الناس وتتقي إحراج الناس بمد يدك إليهم، ومنهم من قال: هذا إشارة إلى زاد آخر وهو زاد الآخرة، أي: أن المسلمين يتقون ربهم فهو خير زاد.
والحقيقة أن المعنيين متداخلان؛ لأن تقوى سؤال الناس تدخل في تقوى الله، ولأنك إذا مددت يدك إلى الناس لم تتق ربك بإحراجك للمسلمين على هذا النحو الذي تصنعه.
ففي قوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] ما يرد به على المتواكلين من المتصوفة ومن سار على طريقتهم.(17/7)
المراد بإقامة الصلاة
وقوله تعالى: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] ليس المراد بالإقامة هنا التي عقب الأذان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن ولم يكن هو الذي يقيم، بل الذي يؤذن هو الذي يقيم إلا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك.
أما المراد بـ (إقامة الصلاة) أي: إذا صليت بهم، ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أمراء السوء: (قالوا: أفلا ننابذهم ونقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة) فإقامة الصلاة المراد بها الصلاة نفسها.
أي: ماداموا يصلون ويأمرون بالصلاة أن تصلى فلا تقاتلوهم.
وعلى هذا الغرار قوله تعالى في سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] وهذا واضح جلي.
قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] أي: صليت بهم، أو أمرت بمن يقيم الصلاة لهم.(17/8)
كيفية صلاة الخوف
قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] هذه إحدى صور صلاة الخوف، ولصلاة الخوف صور ثمان، جلها ورد بسند ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والاختلاف فيها من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد.
بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة هكذا، ومرة هكذا، ومرة هكذا، فتعددت صفات صلاة الخوف التي صلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يصلي المسلمون في الحروب حيثما تيسر لهم، ولا يلتزمون بصفة معينة، وإنما يفعلون الأسهل لهم عند مواجهة عدوهم، وهذا أيضاً من باب التيسير على أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذه الصورة المذكورة في الآية الكريمة حاصلها: أن المصلين يصفون صفين: صف وراء رسول الله، وصف ثانٍ خلفهم ويصلون كلهم، ولا يشترط في هذه الصلاة استقبال القبلة، بل يتجهون إلى العدو، فلو كانت ظهورهم أمام العدو وصلوا إلى القبلة قتلهم العدو، فلا يشترط فيها استقبال القبلة، فالإمام يصف المسلمين صفين على ما ورد في هذه الآية الكريمة، ويصلي بهم جميعاً ركعة، ويقرأ بهم جميعاً الفاتحة، ويركع، ويركع معه صف، وبعد ذلك يسجد ويسجد معه نفس الصف، يأتي معه الصف الأول ركعة، ثم يقوم الرسول بالصف الأول، فيتأخر الصف الأول ويتقدم الصف الثاني يصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة هم الآخرون، ثم يسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قد صلى ركعتين هو نفسه، وكل صف صلّى ركعة، فيصلون فرادى، وكل شخص يكمل الركعة التي لم يصلها، هذه هي الصورة الواردة في هذه الآية.
وقلنا: إن هناك ثمان صور لصلاة الخوف، فصلّ كما تيسر لك وكيفما كانت الصلاة فيها نكاية للعدو وإرهاباً له وتستراً منه.
وورد في الباب ما يقرر -كما يسميها البعض- صلاة الطالب، ولكن إسنادها ضعيف، وكيفيتها أجازها بعض العلماء عند الضرورة، وصلاة الطالب فحوى الدليل الوارد فيها (أن رجلاً كان يجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فحث النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس على قتله، فقام رجل، فقال: أنا أقتله يا رسول الله، ولكني لا أعرفه، قال: علامتك أنك إذا أتيته أخذتك قشعريرة) فذهب الرجل، وأمسك عن الكلام كأنه يريد مظاهرة هذا العدو ومناصرته ضد رسول الله، فلما رآه أخذته القشعريرة، فلما تمكن منه قتله.
والشاهد: أن الصلاة حضر وقتها وهو أمام هذا الرجل، فصلى إيماءً -أي: بالإشارة- والصلاة بالإيماء جائزة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين رضي الله عنه: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فكيفما تيسر للمسلم أن يصلي فليصل.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] أي: الصف الثاني يكون مسلحاً، فإذا سجدت أنت ومعك الصف الأول، فليكن الصف الثاني من ورائكم، أي: قياماً يراقبون العدو.
قال سبحانه: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] ولمَ لم يقل: (فإذا سجدتم) فليكونوا من ورائكم وقال: (وإذا سجدوا) ؟ لأنه خطاب لرسول الله وهو خطاب للحاضر على ما هو وارد في الآية، وهذا يسميه العلماء من باب التلوين في الخطاب، وذلك لجذب انتباه القارئ، كما قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان:21] الضمير للغائب، {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] ولم يقل: كان لهم جزاء، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] ولم يقل: (وجرين بكم بريح طيبة) ونحو ذلك كثير.
قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] أثار بعض العلماء سؤالاً وهو: لماذا قيل في الفريق الأول: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] وفي الفريق الثاني: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فأضاف الحذر للفريق الثاني؟ فأجاب ملتمسون على ذلك بالتماسات، قال فريق منهم: لأن العدو وهو يتربص بكم، قد يقوى غدره وتقوى همته للقتال لما يراكم منشغلين بالصلاة، فجاء التحذير للفريق الثاني إضافة إلى حمل السلاح.
أو أن المصلين أنفسهم عندما يرون أن العدو لم يهجم عليهم في الركعة الأولى يظنون أنه لن يهجم في الركعة الثانية، فيكسل بعضهم، فنبه على أن يحذروا، والله أعلم.(17/9)
تفسير قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم)
قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء:102] .
من أهل العلم من قال: إن الأذى هو يسير العذاب، ويستدل بقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111] فيقول: الأذى هو اليسير، ولكن اعترض على هذا بقوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186] .(17/10)
مواقيت الصلاة
قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} [النساء:103] أي: ذهب عنكم العدو {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103] أي: أتموها، أي: إذا كنتم حضوراً.
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: مؤقتاً، محدداً بوقت، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها) ، وفي رواية: (الصلاة على وقتها) ، وقد نبهنا أن من الناس من يروي الحديث أحياناً بالمعنى فيخطئ، فمن الناس من قال: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها) وهذه رواية وردت، ولكن عند التحقيق نجد إسنادها ضعيفاً، أما رواية الصحيحين فهي: (الصلاة لوقتها) ، فرواية: (الصلاة في أول وقتها) ضعيفة الإسناد، ثم من ناحية المعنى هناك إشكالات؛ لأنه أحياناً يسلم القول بأن الصلاة في أول وقتها أفضل، وأحياناً لا يسلم.
فصلاة العشاء مثلاً ليست أفضل في أول وقتها، بل إذا أخرت العشاء ما لم يشق على المأمومين فتأخيرها أفضل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي) فوقتها يبدأ بسقوط الشفق الأحمر.
وصلاة الظهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أي: انتظروا حتى يبرد الجو- فإن شدة الحر من فيح جهنم) وفي بعض أوقات السنة في صلاة الفجر قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أسفروا بالصبح، فإنه أعظم للأجر) .
أما وقت صلاة الفجر فقد جاء فيه جملة نصوص، تبين أنه يبدأ من رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود وينتهي بطلوع الشمس، ويستحب في بعض أوقات السنة أن تصلي صلاة الفجر في أول وقتها؛ لحديث أم المؤمنين عائشة: (كان النساء ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بما يقارب الستين إلى المائة آية، ومع ذلك تنصرف النساء متلفعات بمروطهن.
(لا يعرفن من الغلس) ، أي: من اختلاط ظلام الليل ببياض النهار، فيدل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام كان يبكر بصلاة الفجر.
وورد حديث: (أسفروا بالصبح) ومعناه أي: انتظروا حتى يظهر الصبح ويتأكد من دخوله، ويظهر البياض.
و (أسفروا) من قولهم: أسفرت المرأة إذا كشفت.
وظاهر الحديثين أن بينهما إشكالاً: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، وحديث: (كن ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) ، فمن العلماء من سلك هذه الوجهة، ومنهم من سلك هذه الوجهة.
- فالأحناف في باكستان يدخلون الصبح قبيل طلوع الشمس، وإذا دخلوا مبكرين يستمرون في القراءة أحياناً حتى تطلع عليهم الشمس وهم يصلون، ويستدلون بحديث: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، وبعضهم يعكس القضية.
- ومن أهل العلم من حاول الجمع، فقال: نبدأ بصلاة الفجر في أول وقتها ونطيل القراءة حتى يسفر علينا الصبح، ولكن هذا ما زال معارضاً بقول أم المؤمنين: (ما يعرفن من الغلس عند الانصراف) .
- ومن أهل العلم من قال: إن هذا يتنزل على بعض أيام السنة دون بعض، وهذا وجه طيب وقوي، فبعض أيام السنة ينصرفن من الصلاة لا يعرفن من الغلس، وهي الأيام التي يطول فيها الليل، فيأخذ النائمون حظهم من النوم، فيقومون إلى الصلاة مبكرين، فيصلي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرف النسوة متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس.
وفي الليالي القصيرة ينتظر حتى يقوم النائمون من نومهم؛ لأنك إذا انتهيت من صلاة العشاء وجلست بعد العشاء وجدت الساعة الثانية عشرة أو الواحدة، ولم يبق إلا ثلاث ساعات للفجر.
فمن العلماء من قال: هذا يتنزل على الليالي طويلة الليل، وهذا يتنزل على الليالي قصيرة الليل.
فالله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب في هذا، والحمل على التنويع الظاهر فيه أنه أولى؛ لأنه مسلك يسلكه كثير من الفقهاء في كثير من المسائل، كصلاة الخوف التي تقدمت أحياناً صلى الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، وأحياناً صلى هكذا، وأحياناً صلى على هذا النحو، والله أعلم.
أما صلاة الظهر فإذا اشتد الحر أخرناها، وإذا دخل البرد أو كان الجو طيباً بارداً صليناها في أول وقتها، وأول وقتها هو زوال الشمس عن منتصف السماء، ونعرف ذلك: أن تأتي بعصا أو أن يقف الإنسان في الشمس، عند الساعة العاشرة صباحاً -مثلاً- فترى ظل في اتجاه اليسار، وهذا الظل يبدأ في التناقص والتناقص إلى أن يأتي وقت يثبت عنده الظل ويبدأ في التحول من النقصان إلى الزيادة في الاتجاه الآخر، فيسمى هذا الوقت وقت الزوال.
أي: أن الشمس زالت إلى الناحية الأخرى، وفي هذا الوقت -وقت الزوال- تكره الصلاة، لكن إذا زالت الشمس مباشرة دخل وقت صلاة الظهر.
وهل هذا التوقيت يكون للجمعة أو للجمعة شأن خاص؟ جمهور أهل العلم يقولون: نعم يكون وقت الجمعة مثل وقت الظهر تماماً.
لكن الحنابلة يقولون: لا، بل وقت الجمعة يبدأ من وقت صلاة العيد أو من وقت الضحى، فعندهم تجوز صلاة الجمعة الساعة العاشرة، وهذا يفعله بعضهم في بلاد الحرمين الآن كالدمام وغيرها، يصلون الجمعة مثلاً الساعة الحادية عشرة، والظهر وقته في التقويم الساعة الثانية عشرة مثلاً.
ما دليلهم على ذلك؟ استدلوا بما ورد عن بعض الصحابة أنه قال: (كنا ننصرف من صلاة الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للتلول فيء يستظل به) والتلول جمع تل، وهو الجبل الصغير.
والفيء هو الظل إذا ارتد من الناحية الثانية، أي: أن الظل في الصباح في هذا الاتجاه، فإذا بدأ يتجه إلى الناحية الأخرى يسمى فيئاً، فقوله: (ليس للتلول فيء يستظل به) أي: لم تزل الشمس، لأن الشمس إذا زالت أصبح للتلول فيء، ومن ثمّ دخل وقت الظهر، فمادام الصحابي قال: (ليس للتلول فيء يستظل به) دل ذلك على جواز الصلاة قبل الزوال.
أما الجمهور فقالوا: إن معنى قول الصحابي: (ليس للتلول فيء يستظل به) ليس صريحاً في نفي الفيء، فقد يكون الفيء قليلاً يصلح للاستظلال، فيصبح كالمعدوم، فيدل على أننا نبكر بالجمعة بعد الزوال مباشرة، فهذا هو قول الجمهور في هذا الباب.
أما بالنسبة لوقت العصر فيبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله، كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هل يضاف ظل الزوال أو لا يضاف؟ تقدم ظل الزوال، لكن إذا وقفنا أنا وأنت وقت الظهر أو الساعة العاشرة مثلاً، وكان الظل طوله ثلاثة أمتار في اتجاه اليمين، أو أن ظل كلما دخل الوقت تناقص، ثم جاء عند الزوال مثلاً ثبت طوله متراً، ثم بدأ يتحول إلى الناحية الأخرى ويزداد متراً وخمسة أمتار وعشرة، فهذا ظلك عند وقت الزوال الذي هو متر يسمى (ظل الزوال) ، أي: هو الظل الذي هو ثابت للشيء بعد تحوله من الطول إلى القصر وإلى الطول مرة ثانية.
فهذا ظلك وهذا هو وقت الظهر فهل يضاف إلى هنا الظل مثله كي يدخل وقت العصر أم لا يضاف؟ بمعنى: هب أنني مسكت عصا ووضعتها وقت الظهر عند الزوال وطول ظلها 10سم، وطولها هي متر، فوقت العصر يدخل إذا كان طولها متراً وعشرة سم.
يعني: طولها الأصلي يضاف إليه طولها ساعة الزوال، وهذا رأي جمهور أهل العلم، أن وقت صلاة العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله مضافاً إليه ظل الزوال، وإضافة ظل الزوال إلى ظل المثل لم يرد في حديث الرسول، بل ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر) ليس فيه إضافة ظل الزوال، لكن جمهور العلماء قالوا: هذه متعينة؛ لأنه أحياناً قد تكون واقفاً في الظهر وظلك متراً عند الزوال في بعض أيام السنة فهل معنى ذلك أن العصر يبدأ؟
الجواب
لا؛ لأن بينهما وقتاً بلا شك.
أما الأحناف فقد استدل بعضهم باستدلال غريب مضحك، على أن وقت العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثليه، استدلوا بحديث الأجير الذي استأجر أجراء فعملوا له نصف النهار، -حديث اليهود أو النصارى- ثم تركوا الأجر وجاء وقت الظهر إلى العصر، ثم تركوا الأجر فعملت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأصابت أجرين، وهذا استدلال لا أعرف له وجهاً أصلاً، والإعراض عنه أولى.
أما وقت المغرب فإنه يبدأ بمجرد غروب الشمس وينتهي بسقوط الشفق الأحمر، وهو الحَمار الذي يكون في اتجاه غروب الشمس، والشفق شفقان: شفق أحمر يكون في اتجاه غروب الشمس وبسقوطه يدخل وقت العشاء.
وشفق أبيض قد يمتد في بعض ليالي السنة إلى منتصف الليل.
أما وقت العشاء فإنه يبدأ بسقوط الشفق الأحمر، وأما نهاية وقت العشاء فمن أهل العلم من قال -وهو اختيار البخاري -: أنه إلى منتصف الليل؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم العشاء إلى منتصف الليل) .
وأما الجمهور فقالوا: إن وقت العشاء يمتد إلى صلاة الفجر، لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى) لكن استثني من هذا الحديث صلاة الصبح بالإجماع، فوقتها ينتهي بطلوع الشمس.
وأما وقت الضحى فإنه يبدأ من ارتفاع الشمس في السماء بقدر رمح أو رمحين، وهناك مسائل تتعلق بالكتاب الموقوت تأتي في باب آخر، والله سبحانه أعلم.(17/11)
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم)
قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] (لا تهنوا) أي: لا تضعفوا.
(فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) أي: في طلب الأعداء وقتلهم وجهادهم.
و (القوم) : المراد بهم الكفار، وقد تقدم أن الإطلاق العام قد يأتي ويراد به الخصوص.
وأحياناً يأتي الاصطلاح العام ويراد به عدة أصناف: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران:173] فالقائلون أناس، والمقول لهم أناس، والذين جمعوا لهم أناس.
وقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] هذه الآية من التسلية للمؤمنين، يسلي الله عباده المؤمنين، فإن كنت تتألم أيها المؤمن فغيرك أيضاً من الكفار يتألم، ونحوها: كقوله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] .
ونحوها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا بنية، إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً من الناس) أي: الموت.
فقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] هذا تسلية لأهل الإيمان، إن كنت تجرح في القتال فالكافر يجرح، وإن كنت تقتل فهو يقتل، وإن كنت تجمع المال والديون كي تجهز العدة فكذلك الكافر، وإن كنت تبيت قلقاً فهو يبيت قلقاً، وأنت ترجو من الله ما لا يرجو، فإذا تساويتما في هذه، فأنت أضفت طلباً من الله والكافر لا يطلبه، أضفت أنك تطلب الجنة والكافر لا يطلب ذلك.
فجدير بك أن يكون صبرك أعظم من صبر هذا الكافر؛ لأن لك طلباً وهو ليس له طلب، فلتصبر أنت أكثر من صبره.
قال: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104] وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17/12)
الأسئلة(17/13)
حكم جمع الصلاتين جمع تقديم
السؤال
يسأل الوالد هل يجوز له أن يجمع صلاة الظهر مع صلاة العصر جمع تقديم؟
الجواب
بالنسبة لجمع صلاة الظهر مع العصر جمع تقديم، يشهد له فعل الرسول عليه الصلاة والسلام بعرفات؛ لأن الرسول بالإجماع صلى العصر في وقت الظهر، وهذا متفق عليه، وكان مسافراً فصلى الظهر مع العصر جمع تقديم، ووردت رواية في إسنادها إشكال فقهي أو حديثي من طريق قتيبة بن سعيد بن جميل لن نتعرض لها، وفيما ذكر يكفي بالنسبة لجمع التقديم بين الظهر والعصر.
أما أن تجمع العشاء مع المغرب جمع تقديم فلا أعلم أي حديث ثابت في هذا إلا حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو مطلق، قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، سبعاً وثمانياً -أي: جمعاً- من غير عذر من خوف ولا مرض ولا سفر) ولم يذكر أنه جمع تأخير.
ومعنى: سبعاً وثمانياً: أي: الظهر مع العصر ثماني ركعات مجتمعة، والمغرب مع العشاء سبع ركعات مجتمعة.
ولم يذكر في الحديث أنها تقديم ولا تأخير، وهذا يستأنس به لمن قال بجمع التقديم، لكن كنص صريح في المغرب والعشاء أنها قدمت فلا أعلم شيئاً فيه، والله أعلم.(17/14)
قصر الصلاة للمسافر
السؤال
هل يقصر الرجل في بيت ولده إذا كان ولده في بلدة أخرى أم يتم؟
الجواب
يقصر في بيت ولده، إذا كان بلدة بلد الولد مسافة قصر كالقاهرة وأنت مثلاً في المنصورة فيقصر.(17/15)
حكم تحديد مسافة القصر بثلاثة أيام
السؤال
هل يقصر لمدة ثلاثة أيام فقط؟
الجواب
لا نعلم دليلاً على تحديد أيام القصر، والذين استدلوا على تحديد القصر بثلاثة أيام أو بعدد معين من الأيام أدلتهم صحيحة لكنها ليست صريحة، فـ ابن عباس -مثلاً- يقول: (إن الرسول عليه الصلاة والسلام سافر تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) فإذا زدنا عن تسعة عشر يوماً أو سبعة عشر يوماً أتممنا، وإذا أقللنا عن تسعة عشر يوماً قصرنا، وهذا وجه عليه مأخذ؛ لأنه ما أدراك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مكث شهراً سيتم؟! أما الآخرون فقد أخذوا من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في الحج حيث مكث في الحج يوم النحر الذي هو العاشر من ذي الحجة، ويوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إلى وقت الزوال، ثم صلى الظهر بمزدلفة، فقالوا: إن صلاة الفجر التي صلاها الرسول عليه الصلاة والسلام في منى يوم الثالث عشر مكان صلاة الفجر التي صلاها في مزدلفة يوم النحر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يصل الفجر يوم النحر في منى، بل جلس في منى يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، إن سلم لهم بهذا القول.
وقد بنوا على أن الرسول ما مكث مدة متصلة يقصر فيها الصلاة إلا هذه الثلاثة الأيام، لكن السؤال أيضاً يرد عليهم: من أخبركم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مكث أكثر لم يتم بل لم يقصر؟ ابن عباس رضي الله عنه عدّ المدة التي خرج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أن رجع المدينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام تحرك من المدينة إلى الحج يوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وتحرك من مكة راجعاً يوم الثالث عشر، ولا أدري كيف حسبها رضي الله عنه لكنها وصلت إلى تسعة عشر يوماً.
لكن الأدلة ليست صريحة، ولذلك اختار عدد من العلماء المتحررين من التقليد أن الشخص إذا مكث أي مدة مادام مسافراً ولم يتخذ دار إقامة أن له قصر الصلاة، والله أعلم.(17/16)
حكم صلاة الفجر جماعة بنية السنة الراتبة
السؤال
هل يجوز لرجل أن يصلي جماعة وفي نيته أن يصلي سنة الفجر وبعد ذلك يصلي الفرض منفرداً وهذا خاص بصلاة الفجر؟
الجواب
الذي يظهر أنه لا يجوز، بل يصلي معهم الفجر، والله تعالى أعلم.(17/17)
تحديد مدة قصر الصلاة للمسافر
السؤال
رجل سافر لقضاء مهمة كلف بها، ولا يعلم وقت انتهاء مهمته، فكم يجوز له أن يقصر في سفره؟
الجواب
الذي يظهر -والله أعلم- أنه يقصر مادام مسافراً؛ للعمومات، فإن عائشة قالت: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر) فليس هناك دليل يقيدها بوقت والله أعلم.(17/18)
تثاؤب النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل ثبت في السنة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتثاءب؟
الجواب
الله أعلم، لا أعلم شيئاً إلا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وفي المقابل: (ما منكم من أحد إلا ووكل به قرينه، قال: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) لكن كتحديد المسألة لا أعلم.(17/19)
العلة في النهي عن كل خليطين
السؤال
هل النهي عن كل خليطين كالزبيب والتمر مثلاً بسبب الإسكار؟
الجواب
النهي عما يسبب الإسكار، وانتهى الأمر على هذا، لكن النهي عن الخليطين من باب سد الذريعة، فإذا خلط الزبيب والتمر مثلاً تم الإسكار بسرعة، فيأتي شخص يشرب ولا ينتبه أن المشروب أصبح مسكراً، فسداً للذريعة منع الخلط على هذا النحو، والله سبحانه أعلم.(17/20)
حكم أخذ الناذر من المنذور به
السؤال
أخت نذرت لله أن تذبح خروفاً وتوزعه على الفقراء إذا شفى الله ابنها، وقد تم ذلك بحمد الله، فهل لها أن تأخذ من الخروف شيئاً؟
الجواب
إذا نذرت أن توزعه على الفقراء فليس لها أن تأخذ منه شيئاً، أما إذا نذرت مجرد ذبح الخروف فقط فلها أن تأخذ منه قسطاً لنفسها، والأولى الترك.(17/21)
تفسير سورة النساء [105-115]
لقد نزل القرآن الكريم توجيهاً وإرشاداً وتأديباً لأتباعه، ومن ذلك إرشاده في طريقة الحكم، وفي التعامل مع أهل الخيانة والغدر والكيد، والإنكار على من يدافع عنهم، وتفخيم ما يرتكبه أهل الخيانة ثم يلصقون جريمتهم بغيرهم، وفتح أبواب التوبة لمن يعمل مثل هذه الأعمال ليعود إلى ربه تعالى، ومن ذلك الإرشاد إلى مواطن الكلام المحمودة والأجر فيها، وبيان العاقبة لمخالفي الرسول صلى الله عليه وسلم وسالكي غير طريق المؤمنين.(18/1)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ... ) والفائدة العقدية فيه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105] .
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا) استُدِلَّ بهذه الآية على مسألة العلو.
أي: أن الله سبحانه وتعالى في السماء مستوٍ على عرشه، أما وجه الاستدلال: فالقرآن منزل من عند الله، والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، وقد تواردت الأدلة على ذلك، حتى ذكر بعض أهل العلم أنها تقارب ألف دليل من الكتاب والسنة، ومقتضيات العقل والآثار عن السلف كلها تثبت علو الله سبحانه وتعالى وأنه في السماء.
من ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] ، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بي إلى السماء السابعة) ، وعندها فرضت الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ينزل الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة) ، إلى غير ذلك من الأدلة.
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) أي: يا محمد.
(الْكِتَابَ) هو القرآن.
وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ) اختلف فيه أهل العلم: فمن العلماء من يقول: إن قوله تعالى: (بالحق) أي: مشتملاً على الحق، فهذا الكتاب مشتمل على الحق، فكل ما فيه حق.
ومن أهل العلم من قال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي: أن هذا الكتاب حقٌ أنه نزل من عند الله، لم تتلبس به الشياطين، ولم تخلط فيه الشياطين شيئاً.(18/2)
الحكم بين الناس عمومه وخصوصه، وبماذا يكون عند العموم؟
قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) .
هل المراد بـ (الناس) العموم، فيدخل فيه الكفار واليهود والنصارى، فإذا حكم بينهم أو فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيهم بالحق، أم المراد بالناس أهل الإيمان؟
الجواب
أن (الناس) لفظة عامة، ولكنها أحياناً تأتي مخصوصة بأقوام، كقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] ، فتضمنت هذه الآية الأخيرة ثلاثة أصناف، فالمقول لهم ناس، والقائلون ناس، والذين جمعوا لهم ناس.
فعلى القول بالعموم يكون معنى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس) ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم أيضاً بين اليهود والنصارى بما أراه الله سبحانه وتعالى، فتأتي مسألة فقهية: هل الحاكم يحكم بشريعة الإسلام في اليهود والنصارى أيضاً، أم أنه يحاكمهم بشرعتهم؟ وهل يلزمه أن يحكم بينهم، أو هو مخير بين الحكم والترك؟ في الباب: قول الله تبارك تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] فهذه الآية وهي قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يحكم بينهم إن شاء، أو يعرض عنهم إن شاء، ثم جاء بعدها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، فمن العلماء من قال: إن الأخيرة نسخت الأولى، وأصبح لزاماً إذا تحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى الحاكم قوم من أهل الكتاب أن يحكم بينهم.
وقد ورد في ذلك حديث المرأة والرجل اليهوديين الذين زنيا، فقال قومهم: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنسأله عن الحكم فيهما؛ لأن اليهود كانوا قد غيّروا حكم الله الذي هو الرجم وبدلوه إلى التحميم لما كثر الزنا في أشرافهم، فكان الحد يقام على الوضيع دون الشريف، فاصطلحوا فيما بينهم -أي: اليهود- على شريعة وعلى قانونٍ للزاني والزانية ألا وهو التحميم، فقالوا: إن من زنا يؤتى به وبالمرأة التي زنا بها ويركبان على حمار ظهره لظهرها ويحممان، ومن العلماء من قال: يطليان بالسواد، ويطاف بهما في الأسواق، وهذا ليس من شريعة الله سبحانه وتعالى إنما شيء اصطلح عليه اليهود في شأن الزناة.
فلما زنا رجل وامرأة منهم قالوا: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رخص لنا اعتذرنا إلى ربنا بأن نبياً من أنبيائك قال: ليس عليهما رجم، وإن لم يرخص لنا لم نطعه، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة بشأن الزناة؟ ، فقرأ أحدهم ما في التوراة ووضع يده على آية الرجم -كما في سنن أبي داود - فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه-وكان عالماً من علماء اليهود وقد أسلم-: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي آية الرجم مثبتة، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم) ، فالحاصل: أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم.
وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... ) ليس المراد به أن القرآن نزل ليحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل نزل للحكم به، وللتذكير به، وللتحذير به، ولبيان خبر ما سلف، وخبر ما هو آت.
إلى غير ذلك، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] وغيرها من الآيات.
إذاً: قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أي: بما شرعه الله سبحانه وتعالى لك، وبما أوضحه الله عز وجل لك، (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) أي: مخاصماً مدافعاً عنهم.(18/3)
تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ... ) ومن يراد به
قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:106] أي: إن كانت زلت قدمك أو لم تزل في مسألة فاستغفر الله إنَّ اللَّه كان غفورًا رحيمًا.
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستغفر الله فغيره كذلك يؤمر أن يستغفر الله، وهذا هو دأب أهل الصلاح أنهم يكثرون من الاستغفار ويتواصون به، فقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (علمني شيئاً أدعو به في صلاتي يا رسول الله! قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل ما تدعو به في ليلة القدر، فقال لها: (قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) فهذا شأن أهل الصلاح، في حياتهم وعند اقتراب وفاتهم، فنوح عليه السلام لما أقر الله عينه بإغراق القوم الظالمين، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] وقال الله لنبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام -والناس له تبع-: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:106] .
إن قال قائل: هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب دون الكبيرة؟ أو هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبائر ابتداءً؟ ف
الجواب
أن أهل العلم من أهل السنة والجماعة متفقون على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في تبليغ الشريعة، فإذا بلغوا عن الله شيئاً فهم معصومون في أثناء هذا البلاغ لا يخطئون فيه أبداً، ولا يهمون، وإنما أقوالهم كما قال تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
وأما صدور الذنوب منهم فمن العلماء من أجاز ذلك، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم -والنص عام- نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطو، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1-4] .
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قبوله الفدية من أسارى بدر نزل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67-68] فقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لقد عرض علي عذاب أصحابي أدنى من هذه الشجرة، ولو نجا منا أحد لكان أنت يا ابن الخطاب) ، فبناءً على هذا قال بعض أهل العلم بجواز الصغائر على الأنبياء.
أما ما ورد في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] فكان ذلك قبل أن يبعث موسى صلى الله عليه وسلم، وعقب ذلك خرج موسى عليه السلام إلى مدين وبقي فيها الثمان أو العشر سنين على الأصح، ثم اتجه بعدها راجعاً إلى مصر فنزل عليه قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] عند طور سيناء كما قال فريق من أهل العلم.
فقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) من العلماء من قال: استغفر الله من اللمم أو من بعض الران، ومنهم من قال: هذا وإن كان خطاباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به أمته؛ إذ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوه.
أحدها: أن يكون المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به هو نفسه فقط، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فقوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاص به.
الثاني: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو وأمته، مثل قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] ، فهذا يراد به هو عليه الصلاة والسلام، ويراد به أيضاً أمته.
الثالث: أن يكون الخطاب لرسول الله ويراد به أمته خاصة، كأنواع الخطاب التي فيها الوصية بالوالدين، فَأَبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا قد ماتا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام.
ومما استدل به على جواز الصغائر في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ما جاء في قصة آدم عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] ونحوه قوله تعالى في قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] .
ومن العلماء من منع ذلك تماماً، وقال في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ الله) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به أمته، وإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار فإنما ذلك لرفع درجته وإعلاء منزلته، وتعليم أمته عليه الصلاة والسلام.(18/4)
تفسير قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ.)
قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] أي: يخونون أنفسهم، ويكذبون على أنفسهم ويكذبونها، ويركبون أنفسهم الخيانة.
للآية سبب نزول وإن كان متكلماً فيه إلا أن من العلماء من حسنه بمجموع طرقه، وحاصله: أن رجلاً من المسلمين سماه بعض العلماء طعمة بن أبيرق سرق شيئاً من بيت من البيوت، فعلم خبره، فلكي يبرئ ساحته أخذ هذا الذي سرقه وألقاه في بيت رجلٍ من اليهود، فذهب أصحاب السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! بلغنا أنك اتهمت صاحبنا، وإنه قد نمى إلى علمنا أن الذي سرق هو فلان من اليهود، وإن شئت أن ترسل من يبحث عن الدرع في بيته فستجدها في بيته، فأرسل صلى الله عليه وسلم من يتحقق من ذلك فوجد الدرع في بيت اليهودي، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام انتقلت عنده التهمة من السارق الحقيقي إلى آخر، فنزل قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107] والخوان: كثير الخيانة.(18/5)
تفسير قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ.)
قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] فالسارق فعل هذا الفعل الذي فعله -كما في سبب نزول الآية السابقة- كي يستتر أمام الناس.
الآية تحث على مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى، ولا يكن همه الأكبر أن ينجو أمام الناس، فهناك ملائكة لك بالمرصاد، وربك مطلع عليك وشهيد، واعلم أن المعية في قوله تعالى: (وهو معهم) معية اطلاع وإحاطة، وعلم ورؤية.
والمعية قسمان: معية خاصة ومعية عامة، فالمعية العامة كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فالله تعالى مع كل الناس، يطلع عليهم ويراهم ويعلم أخبارهم.
والمعية الخاصة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فلا يقال: إن الله مع الكافرين، ولا يقال: إن الله مع الظالمين، فإن قيل إن الله مع الظالمين فمعية عامة، أي: أن الله مطلع عليهم يراقبهم، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ) .
التبييت: هو التدبير بالليل، فيتآمرون ليلاً لينفذوا ما بيتوه صباحاً، ويطلق التبييت أيضاً على الغارة ليلاً، ويطلق التبييت أو البيات على العذاب الذي ينزل ليلاً، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97-98] .
وقوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) .
أي: يبيتون كلاماً يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يحبه.
(وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) .(18/6)
تفسير قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) وتنزيل هذه الآية
قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء:109] .
قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ) الهاء في (هؤلاء) للتنبيه، وأصلها (ألاء) ، ومنه قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] ، وقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فالهاء تزاد للتنبيه فيقال: (هؤلاء) .
وقوله تعالى:: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:109] هذه الآية تتنزل على المحامين الذين يدافعون بالزور والباطل من أجل عرض قليل زائل، فيقف المحامي الكذاب الأشر أمام القاضي ويدافع عن السراق والحشاشين وتجار المخدرات، وهو يعلم أن هذا تاجر مخدرات حرامي لص سارق، أو أن هذا قاتل، ومع ذلك لا يبالي أبداً، فرب العزة يقول:: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109] فإذا كنت -أيها المحامي- تظن أنك أنقذت صاحبك، وخرجت والناس يصفقون لك لتتقاضى الأموال، فاعلم أن هذا الذي أنجيته من الحد الذي كان يستحقه سيأتي يلعنك يوم القيامة، ويقول لك: يا ليتك تركتني حتى أقتل فأستريح من عذاب الآخرة، فالحدود كفارات.
فليحذر كل محامٍ كذاب يأكل أموال الناس بالباطل من أصحابه الذين يدافع عنهم، فرب العزة يقول: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ، ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29] ، ويقول بعضهم لبعض: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] وقوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ) .
أي: بالباطل، وإلا فالجدال عن الشخص بالحق مشروع ومحمود.
قال تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيوم القيامة لا جدل؛ لأن الله تعالى قال عنه: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) فلا أحد يتكلم بكلمة {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] فمن المفسرين من قال: إن قوله تعالى: (وقال صواباً) .
أي: كان يقول في الدنيا (لا إله إلا الله) ، ومنهم من قال: أي: يتكلم بالحق ولا يكتم الله حديثاً.(18/7)
سعة رحمة الله عز وجل
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] هنا فتح الله باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وهذا مطرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، فبعد أن تذكر العقوبات يفتح الله باب التوبة، كقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4] ثم فتح الله لهم باب التوبة فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] أي: استغفروا الله فإن الله غفور رحيم.
فهذا حث للمذنب على التوبة، خاصة إذا كان ذنبه يلحق ضرراً بالآدميين، وقد نشرت بعض الجرائد مرة قضية تنم عن أن الإيمان موجود في قلوب ناس من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وإن اقترفوا الكبائر، ففي بعض البلاد قُتل رجل فاتهم شخص بأنه هو الذي قتله، فأخذ الشخص المتهم، والأصل أن يحكم عليه بالإعدام، وكان للمجني عليه طفل صغير، وإذا كان للمجني عليه طفل صغير فالمحكمة تنتظر حتى يبلغ الطفل، وبعد أن يبلغ يستشار: هل ترضى بقتل قاتل أبيك أو تعفو عنه أو تقبل الدية؟ وهذا لم يكن موجوداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بنى على حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فقالوا: هذا له حق في الميراث، إذ قد يطلب الدية، فله حق أن ينتظر حتى يبلغ، فجلس الرجل مسجوناً هذه المدة الطويلة إلى أن بلغ الولد الصغير، والأم تلقنه بقولها: كيف يقتل أبوك؟! فأتي به، فقيل له: ماذا تريد من قاتل أبيك: أيقتل أو تعفو أو تقبل الدية؟ فقال: يقتل.
فجاء يوم الجمعة -والقتل عندهم يكون يوم الجمعة- وأخذ المتهم كي يقتل، وفي ساحة القتل والناس تنظر أتى بالرجل الذي يقوم بالقصاص آخذاً بثوبه من ظهره، فأوقف المتهم كي يضربه، وفي هذه اللحظة قام أربعة أشخاص، فقالوا: نحن الأربعة القتلة، ونحن الذين قتلناه فلا نريد أن نتحمل إثمين، إثم قتل النفس الأولى، وإثم قتل هذا البريء ويتم أطفاله، فقام الشخص وقدم الأربعة للمحكمة وقتلوا، ورضوا بهذا خشية من عذاب الله سبحانه بتعذيب شخصين.
يقول رب العزة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] ، فأي ذنب كان -يا عباد الله! - فإن رب العزة إذا علم من صاحبه صدق التوبة إليه يغفره له ويتجاوز عنه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:111] هذه الآية كقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] .
قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهذا جرم آخر، أن يرتكب جريمة ويلصقها بغيره وهذا قد قال الله فيه: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112] فلم يقتصر على كونه احتمل بهتاناً فحسب، بل احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، والبهتان: هو الكذب والزور، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: رميته وذكرته بما يكره كاذباً عليه، فأنت لم تذكره بما يكره وهو فيه فقط، وإنما ذكرته بما يكره وافتريت عليه في هذا الذي ذكرت.(18/8)
تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ.)
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يا محمد! (لَهَمَّتْ) أي: أوشكت واقتربت.
(طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) الآية تبين أن المعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان نبياً من الأنبياء، والمحفوظ من حفظه الله تبارك وتعالى، ولذلك قال رب العزة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] فهن حافظات للغيب لا بأسوتهن ولا بقوتهن، ولا بتماسكهن، لكن قال تعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] أي: بتثبيت الله عز وجل لهن، فالمثبت من ثبته الله تعالى.
ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويوسف عليه الصلاة السلام يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] .
قوله تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي: يصرفوك عن طريق الحق إلى الباطل، وعن القضاء الحق إلى القضاء الظالم الجائر، وَهَبْ أن الرسول صلى الله حكم على البريء أنه يستحق القتل فهنا قرر العلماء أن قضاء الدنيا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، وسيد ولد آدم، وقاض رزين عاقل، وقاض نبي، وفيه كل صفات الخير، ومع ذلك يقول: (إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من أخيه وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من نار، إن شاء قبلها وإن شاء تركها) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد يكون القاضي عاقلاً رشيداً رزيناً متحرياً في البحث عن كل القرائن المحيطة ومع ذلك يخطئ، فقد يجيء من أسلوبه ساحر كمحامٍ كذاب ساحر يسحر القاضي بمقالاته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من البيان لسحرا) أي: من الكلام كلام سحر يغير لك الشيء عن حقيقته، فقد يكون الرجل بريئاً غاية البراءة، فيأتي محامي الخصم يتكلم فيجعله متلبساً بالقضية لا يستطيع التحرك منها، والعكس، فالقاضي يقضي على نحو مما يسمع، وليس له أن يحكم حتى بعلمه السابق، بل يحكم بالقرائن والبينات ولا يحكم بالظنون، كذلك الشهود يشهدون على نحو مما يرون، دون البناء على المخيلات والاستنباطات.
وكما أسلفنا ابتداءً: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من يقضي أحياناً قضاء لا يكون صواباً، فنبي الله داود عليه الصلاة والسلام لما اختصمتا إليه المرأتان في الطفل إذ كان لكل امرأة منهما طفلٌ فجاء الذئب وعدا على طفل أحدهما وهرب به، فبقي طفل واحد، فكل امرأة ادعت أن هذا الطفل لها، فتحاكمتا إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام، فجاء نبي الله داود يحكم والبينات غير واضحة، فقضى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام بالطفل للكبرى خطأً، لكنه مأجور عليه الصلاة والسلام، فخرجتا من عند داود وسليمان واقف على الباب فسألهما: لمن قضى بهذا الطفل؟ قالتا: للكبرى، فأتى بسكين وقال: نقطعه بينكما نصفين، فدب الحنان إلى قلب أمه الحقيقية فقالت: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فعلم بالقرينة أن هذا الطفل إنما هو للصغرى فحكم به لها.
فالقاضي قد يخطئ إما لعدم توفيق الله سبحانه وتعالى، أو لعدم توفر البينات، أو لعدم توفر العلم الكافي في بعض الأوقات، كما روي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه رأى امرأة يسحبها الناس، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم، فقال: على رسلكم، فذهب إلى عمر وقال: يا أمير المؤمنين! أما بلغك أن الحد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق.
؟ وذكر الحديث، فأمر عمر رضي الله عنه بإلغاء الحكم فلم ترجم المجنونة.
فعلى كل من يقضي بين الناس أن يجتهد قدر الاستطاعة، ويسأل ربه التوفيق والسداد، فالمسدد من سدده الله، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه فيقول: (اللهم إني أسألك السداد سداد السهم) .
قوله تعالى: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) أي: أنهم إذا أضلوك أضلوا أنفسهم بالدرجة الأولى، فمن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، وهذا على فرض أنه تم لهم الإضلال، ولكن لم يتم الله لهم نياتهم السيئة.(18/9)
فضل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] من العلماء من قال: إن المراد بالحكمة: السنة، واستشهد بأن سنة رسول الله وحيٌ يوحى، فالمعنى يستقيم (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي: الكتاب والسنة، وفي الحقيقة السنة كلها حكمة.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالحكمة هنا: الفقه في الدين.
أي: تنزيل النص في المحل الذي يحتاج إليه، فلا يأتِ المرء إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ويلقيه على رجل يسرق أو يزني، ولا يأتِ عند الخوارج ويقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) ، فهذا من عدم الحكمة، فالحكمة أن تضع النص في محله الذي يناسبه ويراد له، وهذا واضح.
وأصل الحكمة: المنع، فرجل حكيم: أي: يمنعه عقله وحكمته من أن يفعل شيئاً يؤاخذ عليه، ومنه قول الفرزدق: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا أي: يا بني حنيفة امنعوا السفهاء الذين فيكم من الحديث، فإنكم إذا لم تمنعوا السفهاء سأغضب وألقي فيكم شعراً، أو أفعل بكم وأفعل.
ومنه قيل لما يربط به المعز أو الحمير أو البقر حكمة؛ لأنها تحكمها وتمنعها من التصرف المخل، أو التصرف الذي لا يراد، فكذلك الرجل الحكيم يمنعه عقله وما معه من العلم أن يتصرف تصرفاً طائشاً.
قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] أي: من أمور الإيمان والفقه ونحوها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ما الكتاب ولا الإيمان كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] .
وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] فالذي علمه هو الله فينسحب أيضاً إلى مسائل القدر أن المُعلَّم من علمه الله سبحانه وتعالى، ومنه: قول موسى للخضر عليهما السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] ، وقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] ، فالمعلم أي علم كان، طبّاً، أو هندسة، أو صيدلة، أو علم كتابة، أو علماً شرعياً إنما علمه الله، ولذلك يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، فمنشأه وأصله من الله سبحانه وتعالى.(18/10)
تفسير قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ.)
قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] .
(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) .
النجوى: هي الكلام الذي يتسارر به، أي: يسر بعض الناس إلى بعض به، فيحدث به الناس سراً، وأكثر الكلام الذي يتكلم به الناس كلام فارغ ليس له فائدة إن لم يكن إثماً، فرب العزة يقول: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) ، ومن العلماء من قال: (لا خير) .
أي: في الكلام، فإذا فهمت المفهوم المخالف فأكثر كلامهم شر.
قوله تعالى: (إِلّّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) هذا من الأمور المستثناة التي ليست بشر وهو أن يتناجى أحد مع الآخر، ويصحبه ويقول له: ما رأيك أن تتصدق اليوم، ونذهب عند فلان الفقير نزوره، وندخل البيوت نعطي أهلها، ونذهب اليوم إلى المستشفيات نعود المرضى ونعطيهم بعض ما يسره الله، وقليل الذين يتناجون بهذا.
قوله تعالى: (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي: فعل أي معروف كان، وقوله تعالى: (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) هذه مما فرط فيها الكثير، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تعدل بين اثنين صدقة) ، وفي رواية: (تصلح) ، و (تعدل) بمعنى (تصلح) .(18/11)
لا قبول للعمل عند الله تعالى بدون إخلاص
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء:114] أي: يأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) قيدٌ لذلك العمل بطلب ثواب الله، أما إذا فعله مرائياً فلا شيء له، فإن ذهب شخص يصلح ليقول عنه الناس: إنه رجل مصلح حلّال للمشاكل والعقد وكانت هذه نيته فلا ثواب له.
فأفعال البر التي يثاب عليها الشخص قيد فعلها بابتغاء مرضاة الله، كما في هذه الآية وغيرها من الآيات كقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] ، وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8-9] ، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19-20] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الرعد:22] فالذي يصبر ويثاب هو الذي يصبر ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فيصبر على الفقر والبلايا، ويصبر على الأسقام والأوجاع، ولكن يرى في نيته أنه يصبر طلباً لثواب الله ومرضاته الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يثاب.(18/12)
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى.)
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] .
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى) .
أي: يخالف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام من بعد ما تبين له طريق الصواب ومن بعد أن تبينت له أحكام الله وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى (يشاقق) : أي: يصبح في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق، فهو في ناحية والرسول عليه الصلاة والسلام في ناحية أخرى، ورأيه في ناحية، والكتاب والسنة في ناحية أخرى، فمن يفعل هذا الفعل فيأخذ شقاً آخر غير شق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ويخالف ويعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ، ومن أهل العلم -كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى- من احتج بهذه الآية على مشروعية الإجماع والعمل به، من قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذه المسألة عليها جماهير السلف والخلف، ومن العلماء -وهم قلة قليلة- من أبى الإجماع وقالوا: إنه يتبع كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أما الإجماع فلا حجة فيه عندهم، فأجيب عليهم بأن الكتاب والسنة فيه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ، وألزموا بإلزامات فقيل لهم: هناك مسائل لا يسعكم فيها إلا أن تذعنوا للإجماع، وإلا أتيتم بمحدثٍ من القول مبتدعٍ، كما في مسألة تعدد الزوجات إلى أربع؛ إذ يقال فيها: ما الدليل على جواز الأربع فحسب؟ فإن قالوا: إن الله يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، قيل لهم: ليس في الآية تحريم فوق الأربع، والواو أحياناً تقتضي الجمع وأحياناً تقتضي التخيير، فما الذي حملكم على أن تقولوا: إنها بمعنى التخيير؟ فإن قالوا: في الباب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ستاً ويبقي أربعاً، قيل لهم: الحديث معل، فلم يبق في هذا الباب حجة إلا إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ إذ لم يرد أن أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج فوق أربع، فصرنا إلى اعتبار الإجماع لهذا، ومما ينبغي الإشارة إليه أن من العلماء من هو متسرع في ادعاء الإجماع، كـ ابن عبد البر والنووي رحمهما الله تعالى: فكلاهما رحمة الله عليهما متسرعان في ادعاء الإجماع.
إذاً: ثبت الإجماع عمل به، والإجماع على مراتب: فمن العلماء من يطلق الإجماع ويريد به إجماع الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فيقول: (أجمعوا) ويقصد به الأئمة الأربعة، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به نوعاً خاصاً، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ومنهم من يطلق الإجماع على إجماع أمة محمد عليه الصلاة والسلام كلها.
وأما مقالة الإمام أحمد المشهورة (من ادعى الإجماع فهو كاذب) فلا يراد بها إطلاقها، وإنما يراد بها إجماعاً من نوع معين، وإلا فكثير من الحنابلة نقلوا الإجماع في عدة مسائل، فإذا قصد في حكاية الإجماع المعتبرين المشهورين من أهل العلم فله ذلك.
والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم أجمعين إذا أجمعوا على مسألة فرأيهم في الغالب مسدد موفق، لكن لا يكون دليلاً يعمل به؛ لأن هناك أئمة آخرون غير الأئمة الأربعة.
والحمد لله رب العالمين.(18/13)
تفسير سورة النساء [116-124]
التفسير هو الطريق لمعرفة كيفية التعبد وتطبيق القرآن وسورة النساء من أعظم السور، وقد تضمنت أحكاماً عدة، منها: تقرير التوحيد، وتزكية النفوس، والتحذير من عمل الشيطان.(19/1)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] .
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) .
أي: لا يغفر للعبد إذا مات على الشرك، أما إذا أشرك العبد بالله، وتاب من هذا الشرك؛ تاب الله عليه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل شرك وعبّاد أوثان، فلما تابوا من الشرك تاب الله عليهم.
إذاً: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: إذا مات العبد على الشرك، أما إذا تاب منه قبل موته غفر له، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها) وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وبين قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، فقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) تتنزل على أحد وجهين: الأول: أن الله يغفر الذنوب جميعاً بما فيها الشرك إذا تاب العبد منها في الدنيا.
والوجه الثاني: أن الله يغفر الذنوب جميعاً إذا شاء في الآخرة إلا الشرك إذا مات عليه العبد، والله أعلم.
فتقدم أن من العلماء من قال: إن هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) من أعظم آيات الرجاء في كتاب الله عز وجل، وبها يستدل على القائلين: بأن القتل لا يغفر، فإن القتل كبيرة دون الشرك.
ويستدل بها على الخوارج القائلين بالتكفير بالمعاصي.
وأفادت الآية -أيضاً- أن الله عز وجل قد يغفر للعبد وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، فإنك قد تذنب -أيها العبد- ذنباً ولا تستغفر الله منه ومع ذلك -أي: مع عدم الاستغفار- يغفر الله عز وجل لك تفضلاً منه سبحانه، وهذا مبدأ من مبادئ أهل السنة والجماعة وأصل من أصولهم.
فأهل السنة يقولون: إن الله عز وجل قد يغفر للعبد إن شاء، وإن لم يتب العبد من هذا الذنب، وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، وقد ورد ما يؤيد ذلك في قصة البغي التي كانت تزني فمرت يوماً بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزعت موقها فملأته فسقته، فشكر الله لها صنيعها فغفر لها، وهي لم تقل: أستغفر الله.
واشترط فريق من المعتزلة أن يقول العبد: أستغفر الله، وليس على ذلك الاشتراط كبير دليل.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ} [النساء:116] ، الضلال: هو الذهاب عن القصد.
{ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] أي: ذهب عن طريق الصواب مذهباً بعيداً، يعني: صار في اتجاه بعيد عن الصواب، فالضلال الذهاب والبعد عن القصد.
ويطلق الضلال على التفرق والتيه كما تقدم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] أي: إذا متنا وتفرقت عظامنا في الأرض.(19/2)
تفسير قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا.)
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء:117] ، إن: بمعنى (ما) ، وهي نافية، والمعنى: ما يدعون، (من دونه) أي: من دون الله، (إلا إناثاً) والمراد بالإناث هنا: الأوثان.
ومن العلماء من قال: إن كل صنم فيه جنية، واستدل البعض لذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه كي يقتل العزى، فلما أقبل خالد على العزى إذا امرأة ناشرة شعرها، فقال الكهنة الذين حولها: يا عزى! خبليه، -خبليه: أي: أصيبيه بالخبل والجنون- يا عزى! عوريه -وعوّريه أي: أصيبيه بالعور وافقئي عينه- وأمعنوا في الجهل، فذهب خالد وكسرها، فرجع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: ما صنعت شيئاً، وأرسله ثانية فوجد امرأة ناشرة لشعرها فتغشاها بالسيف، فقال بعض أهل العلم: إن خالداً قتل العزى لهذا الحديث.
الشاهد: أن قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) أي: إلا أوثاناً، و (يدعون) هنا بمعنى (يعبدون) ، أي: ما يعبدون من دونه إلا إناثاً.
لقائل أن يقول: إن الدعاء هنا بمعنى: العبادة، لقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40] ، وعليه فمعنى قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء:117] أي: ما يعبدون من دونه إلا إناثاً، والدعاء أحد أفراد العبادة، والعبادة أوسع من الدعاء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ، من باب تعظيم شأن الدعاء، وأن له قدراً كبيراً من العبادة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ، فللوقوف بعرفة قدرٌ كبير وعظيم من الحج لا يتم الحج إلا به، والحج أوسع وأشمل من الوقوف بعرفة؛ ففيه طواف، وسعي، ورمي جمار، ومبيت عند المشعر الحرام، ومبيت بمنىً ونحر.
إلى غير ذلك، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، يبين أهمية الوقوف بعرفة من الحج.
كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الدعاء هو العبادة) ، يبين أهمية الدعاء بالنسبة للعبادة، وقد دلّت أدلة على أن الدعاء عبادة.
منها: قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة) ، ومنها: قول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:48-49] وقد قدم قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} [مريم:48] ، على قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [مريم:49] ، فاستدل به على أن الدعاء بمعنى العبادة، وكذلك استدل بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ، وهذا أمر بالدعاء، {أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، فأفادت الآية أن الدعاء عبادة أيضاً.
فذلك قول الفتية أصحاب الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} [الكهف:14] ، قال عددٌ من المفسرين: أي: لن نعبد غيره، فالدعاء في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117] بمعنى العبادة.(19/3)
تفسير قوله تعالى: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)
قال تعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118] .
السؤال
هل يستحب الإكثار من لعن الشيطان أو أن الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتبع؟ وهل يستحب بدلاً منه: الإكثار من ذكر الله؟
الجواب
الظاهر الأخير، أنه يستحب الإكثار من ذكر الله عز وجل؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في سنن أبي داود وغيره بسند صحيح: (رأى رجلاً سقط من على الحمار فلما سقط الرجل قال: تعس الشيطان -وهذه مسبة للشيطان- فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم حتى يكون مثل الجبل، وقال: بقوتي صرعته، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت: باسم الله؛ تصاغر حتى يكون مثل الذباب) ، لكن وردت مواطن لعن رسول الله فيها الشيطان.
وهذه الآية الكريمة فيها لعن الشيطان، ولما جاء إبليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي يصلي بالليل بشهاب من نار ليقذفه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألعنك بلعنة الله التامة؛ ثلاث مرات) ، فالمواطن التي ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الشيطان فيها؛ نلعنه فيها، أما التوسع في ذلك كأن تجعل لك ورداً وحزباً من لعن الشيطان، فتقول: لعنة الله على الشيطان، لعنة الله على الشيطان، لعنة الله على الشيطان.
فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.(19/4)
الشيطان وأتباعه
قال الله تبارك وتعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:118] أي: الشيطان {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118] ، (النصيب) أكثر العباد، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] ، فأكثر العباد من أتباع الشيطان.(19/5)
مسألة: من يطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهل يشهر به ويذكر باسمه للتحذير منه؟
ومسألة مهمة يكثر الجدل حولها وهي: لو كان هناك شخصٌ يطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُذكر باسمه أو لا يُذكر باسمه؟ ف
الجواب
التحفظ أولى، ولك أن تقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام طُعن في عرضه: وقد اتهم عبد الله بن أبي بن سلول أم المؤمنين عائشة -من بيت النبوة الطاهر- بالزنا، وليس هناك أبشع من ذلك، وتبعه في ذلك بعض الصحابة، فماذا كان رد الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قام على المنبر فقال: (من يعذرني من رجلٍ قد بلغني أذاه أهلي، فوالله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، وما رأيت من أهلي إلا خيراً -والصحابة جالسون- فقال سعد بن معاذ: من هو يا رسول الله؟) فدليل على أن سعد بن معاذ لم يكن يعرف من هو.
فالشاهد: أنه لا يصار إلى الذكر بالاسم إلا إذا دعت الضرورة الملحة إليه، فإذا دعت الضرورة الملحة إلى تسمية الشخص الذي يحارب السنة؛ فيُذكر بقدر ولو بتوسع في الوصف؛ لأنه من الممكن أن تكون أنت -من الناحية العقلية- تتكلم فيه، وتذكره بالاسم فيعترض عليك شخص وتحصل فوضى في بيت الله.
أما لو قلت: (ما بال فلان) لا أحد يعترض عليك لأنك ما سميت أحداً، حتى في القوانين الوضعية أنك إذا عرضت فلا شيء عليك، لكن إذا سميت فإنهم يؤاخذونك ويتسببون في سجنك، وهذا من الجهل بسنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.(19/6)
حكم لعن الظلمة والطواغيت
ننتقل من مسألة لعن الشيطان إلى جزئية وهي: الإكثار من ذكر الظلمة ولعنهم: فهل يستحب الإكثار من ذكر الظلمة -أهل الظلم- ولعنهم؟ فتقول: لعنة الله على فلان، لعنة الله على فلان لعنة الله على فلان؟!
الجواب
الظاهر أن ذلك لا يستحب، بل قد رأى فريقٌ من أهل العلم كراهيته، وذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام: لم يكثر من قوله: لعنة الله على أبي جهل، لعنة الله على أبي جهل، لعنة الله على أبي جهل، ولكن يستحب أن يستكثر العبد من ذكر الله، وبذلك ننصح إخواننا الخطباء الذين يرتادون المنابر ويلقون المحاضرات، فينبغي أن يكون ديدنهم -بالدرجة الأولى- في خطبهم الإكثار من ذكر الله عز وجل، لا الإكثار من ذكر فلان وفلان، ولعن فلان وفلان، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ولم يقل إلى ذكر فلان وفلان.
ولم أقف على نصٍ صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول شخصاً باسمه على المنبر ليلعنه عليه الصلاة والسلام: ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام: (قنت ودعا: اللهم العن فلاناً وفلاناً) ، فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] .(19/7)
حكم لعن العصاة والكفار إجمالاً
هنا يأتي سؤال آخر: ما حكم اللعن على وجه الإجمال؟ ف
الجواب
اللعن على وجه الإجمال جائز، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لعن الله النامصة والمتنمصة، لعن الله الواصلة والمستوصلة، لعن الله المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله) ، وغيره من الأحاديث العامة في اللعن وكقول: (لعنة الله على الظالمين) ، إلى غير ذلك على التعميم فهو جائز، لكن الإكثار من ذكر فلان وفلان وتناولهم باللعن بأعيانهم هو إلى الكراهية أقرب، والله تعالى أعلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء) ، وهذا يحدو بنا إلى أن نذكر ما ذكره العلماء بشأن اللعن، فمن العلماء من قسم اللعن إلى أقسام، قال: لعنٌ بالنسبة للكفار جملةً، ولعنٌ بالنسبة للكافر المعين، ولعنٌ بالنسبة للفساق جملةً، ولعنٌ بالنسبة للفساق المعينين أي: ذكرهم بالاسم، ولعنٌ للمؤمن.
أما المؤمن فلعنه كقتله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ثابت بن الضحاك: (ولعن المؤمن كقتله) .
وبالنسبة للفاسق المعين: لا يُلعن؛ لما سمعتموه من قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ، وهذا يطّرد أيضاً في لعن الكافر المعين عند فريق من العلماء.
أما الفساق جملةً فالراجح في شأنهم أنه يجوز لعنهم إن احتيج إلى ذلك، فالنامصة فاسقة لكن لا تلعن بعينها، بل تقول: (لعن الله النامصة، لعن الله المتنمصة) ، لكن لا تقل (لعن الله فلانة بعينها) ، فلا يشرع لك ذلك، وقد تقدم أن تنزيل الأحكام على الأشخاص بأعيانهم يحتاج إلى تريث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الخمر وشاربها.
إلى أن عد فيها عشرة أصناف) ، لكن لما جاء رجلٌ وهو شارب للخمر، قال بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) ، وفي رواية: (إنه -ما علمت- يحب الله ورسوله) ، أي: أن هذا الشخص يحب الله ورسوله ولكن شهوته تغلبه.
إذاً: يتحفظ من تنزيل اللعن على الأشخاص المعينين، والله تعالى أعلم.
فعلى ذلك: فإخواننا الخطباء ينبغي أن يكون ديدنهم على المنابر الإكثار من ذكر الله والتخويف بالنار والترغيب بالجنة، فهذا هدى رسول الله عليه الصلاة والسلام، هو ما درج عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأذكر في هذه البلدة -المنصورة- أيام حكم السادات في مصر كان بعض إخواننا يطلع على المنبر يخطب الجمعة ويتناول زوجة السادات بالاسم ويقول: فلانة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان الفلاني ويحكي حكايات على المنبر، ويظن أنه جريء وهو جاهل بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكلامي هذا ليس دفاعاً عن السادات ولا عن زوجة السادات، إنما دفاعاً عن حوزة الدين فلابد أن تحفظ وهذا هو المطلوب شرعاً من كل مسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم، وليس لنا دخل بالسادات ولا بزوجة السادات من ناحية الثناء والمدح ولا من ناحية السب، لكن نقول: إنه لا ينبغي أن نستخدم المنابر لمثل هذه الأغراض، ومن أراد أن يفعل ذلك فليأتنا بدليل من سنة رسول الله أو دليل من فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نمتثل، علماً أنه لم يسلك هذا المسلك إلا طائفة من أمراء السوء الذين كانوا ينالون من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.(19/8)
تفسير قوله تعالى حاكياً عن الشيطان: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ.)
قال الله جل وعلاً: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:118-119] أي: لأصرفنهم عن طريق الحق، وأبعدنهم عن طريق الصواب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه) ، أي: على الطرقات، كأنك تسير في خط مستقيم، وعلى هذا الخط أحياء وأزقة متشعبة والشيطان يقعد عند مفترق الطرق يجتال عباد الله عن الصراط المستقيم، وفي هذا الحديث قعد له على طرق الخير يصده عنها: (قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له على باب الجهاد) ، على طريق الجهاد، ويقول: تجاهد! كيف تجاهد؟ (تجاهد! فتقتل فتنكح المرأة -امرأتك تتزوج بعدك- وتقسم الأموال، فعصاه فجاهد، ثم قعد له بطريق الهجرة، قال: تهاجر! تدع أرضك وأرض أبيك، فعصاه فهاجر، وقعد له بطريق الإسلام فقال له: تُسلم تذر دينك ودين آبائك ودين أجدادك، فعصاه فأسلم) ، فيقعد له عند كل طريق من طرق الخير، تجده مثلاً -كما قال بعض العلماء- عند طريق النفقة: إذا أردت أن تنفق أتاك وقعد لك فيصدك ويقول: تنفق! مالك يذهب، أين حض أولادك؟ وأين حض زوجتك؟ أين حض بنيك؟ فهكذا يقعد لك عند كل طريق من طرق الخير يصدك عنها، (وعند كل طريق من طرق الشر يدعوه إليها فمن عصاه فله الجنة) -أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام-.
يقول الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء:119] ، أي: يمنيهم أنه سيحصل لكم كذا وكذا، والأماني في الدنيا لا تنقطع.(19/9)
تبتيك آذان الأنعام من عمل الشيطان
قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119] أي: لأزينن لهم تبتيك أذان الأنعام؛ لأن الشيطان لا يأمر ولا ينهى في الحقيقة وإنما يشجع على فعل المعاصي ويدفع الناس إليها، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تدفعهم إلى المعاصي دفعاً.
فقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119] ، ما المراد بتبتيك آذان الأنعام؟ يأتي الرجل إلى جمل من الجمال أو ناقة من النوق بموسى -وهي الشفرة ويقال لها أيضاً: السكين- ويقطع أذن الجمل، ويقول: هذا سائب أو هذه الناقة سائبة، يعني سائبة في الصحاري لا يقربها أحد لأنها وقف على الآلهة، وهذا شرك من عمل الشيطان.
قال الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] ، وكل هذه الأصناف من الإبل: الوصيلة: هي التي تلد كذا وكذا.
الحام: هو الذي ينكح كذا وكذا.
البحيرة: هي التي من شأنها كذا وكذا ويسيبونها.
وأول من سيب السوائب وحرمها على الناس عمرو بن لحي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: (رأيت النار، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه) ، يعني: يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب.
أي: أول شخص قال: هذه سائبة، وحرم على الناس ما أحله الله لهم هو عمرو بن لحي فكانت هذه عقوبته.
وفيه دليل على أن الذي يحرم على الناس شيئاً أحله الله لهم مرتكب لجريمة، بل قد تصل هذه الجريمة إلى الكفر، والعياذ بالله، والتحليل التحريم -على وجه الخصوص- جرمٌ كبير، ولذلك فالشخص عليه أن يتحفظ -في هذا الباب- تحفظاً زائداً؛ فلا يتجرأ ويفتي بالحل والحرمة بغير برهان من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: أول من سيب السوائب هو عمرو بن لحي بوحي إبليس إليه.(19/10)
حكم تغيير خلق الله
قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] تغيير خلق الله تلحق به جملةٌ من المسائل المتعلقة بالزينة، خاصة زينة النساء.
فهناك جملة مسائل متعلقة بزينة النساء تدخل فيه هذه الآية منها:(19/11)
حكم الوشم
أما الواشمة: فهي التي تجرح امرأة أخرى بعض الجرح، فينزف دم من الجرح فتضع في مكان الدم كحلاً، فيبقى أثره كالشامة.
فالواشمة: وهي التي تشم النساء والمستوشمة هي التي تطلب من غيرها أن تشمها كلتاهما ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(19/12)
حكم حلق اللحية
اللحية هل حلقها داخل في تغيير خلق الله أم لا؟ رأى ذلك كثيرٌ من أهل العلم؛ لأن الله خلق الرجال وفطرهم على اللحية، فإزالتها حرام، وليس هناك نصٌ عن رسول الله يجوّز إزالتها، بل النص في المنع.
قال صلى الله عليه وسلم: (قصوا الشوارب وأوفوا اللحى) ، وفي رواية: (وفروا اللحى) ، وفي أخرى: (اعفوا اللحى) ، كل هذه النصوص تنهى عن حلقها فتلتحق عند كثير من أهل العلم بتغيير خلق الله تبارك وتعالى.
وحلق اللحية استطرد فيه العلماء، ولا معنى للخوض هنا، قال إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النساء:119] أي: يفعل ما يأمره به إبليس {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119] أي: ظاهراً واضحاً.(19/13)
حكم الوصل
قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) .
الواصلة: هي التي تصل شعرها بشعر آخر، وهي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعونة.(19/14)
لبس المرأة للباروكة
بالنسبة للمرأة التي تضع الباروكة: والباروكة التي تلبسها المرأة على رأسها: هل تأخذ نفس حكم وصل الشعر أو لا تأخذ نفس الحكم؟ في الحقيقة أنها تختلف من باروكة إلى باروكة، وهذا ظاهر، فهناك باروكة يفهم تماماً أنها ليست من الشعر، وإن كان على صورة الشعر، لكن يفهم تماماً أنه ليس من شعر المرأة، فإذا كان ظاهرها أنها ليس من شعر المرأة فتخرج من حكم الوصل، والله أعلم.
ثم ينظر إلى العلة التي من أجلها لبست هذه الباروكة.
أما إن كانت الباروكة على هيئة شعر المرأة بالضبط، فقول من قال: إنها كالوصل -أو أنها وصلٌ- قولٌ قوي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
إذاً: الباروكة فيها تفصيل كما تقدم، وليس فيها نص ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: فتحتاج إلى استنباط، والذي ورد عن رسول الله، هو مسألة الوصل، فما استحدث وكان في معنى الوصل له حكم الوصل، وما استحدث ولم يكن له معنى الوصل يخرج من حكم الوصل.(19/15)
حكم إزالة شعر الوجه بالنسبة للمرأة
بالنسبة لشعر الوجه: إذا نبت للمرأة شارب فأزالته، هل تكون مغيرة لخلق الله؟ من أهل العلم من رأى ذلك، ومنهم من رأى عكس ذلك، وقال: يستحب لها أن تزيله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) ، فهذه التي تزيله تعمد إلى البعد عن التشبه بالرجال، فوجهتها محمودة، وهذا القول الأخير له وجهٌ قوي وهو قول سديد إذا اعتبرنا العلة في الحكم حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التشبه.
فعلى ذلك: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن إزالة شعر اللحية والشارب إذا نبتا للمرأة جائزة، إن لم يكن مستحب، أما شعر الحاجب فتحرم إزالته قطعاً، ويحرم إزالة أي شعرٍ منه؛ لأنه داخل في النمص بالدرجة الأولى، والرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة) .(19/16)
حكم النمص للرجال
الرجال الذين يذهبون إلى الحلاق فيأخذ من شعر حواجبهم: هل يلحقهم اللعن أو لا يلحقهم اللعن؟ من العلماء من قال: هو في الرجال أشد؛ لأن المرأة وهو مطلوب منها في جانب التزين لزوجها منعت من ذلك، فالرجل من باب أولى أن يمنع من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يعني: ليس الحكم فيه بالنص إنما هو بطريق النظر والقياس والعلم عند الله تعالى.(19/17)
حكم التفلج
مسألة التفلج: والتفلج هو: أن تأتي المرأة بمبرد -مبرد أسنان- وتبرد أسنانها، وتفرق بين الأسنان من أجل تحسين الأسنان وتحديد كل سن على حدة من أجل أن تأخذ مسحة جمال، فالرسول عليه الصلاة والسلام: (لعن الفالجة والمتفلجة) ، يعني: الفاعلة والمفعول بها.
هذا إذا كان الفلج للحسن، لكن لو فرضنا أن امرأة لها سن تؤذي لسانها إذا تكلمت، أو تؤذي شفتها إذا أكلت، فتفلجت لا للحسن إنما لدفع الضرر عنها، فإذا تفلجت وبردت أسنانها لدفع الضرر عنها فلا شيء في ذلك، وقد نص على ذلك الإمام النووي رحمه الله تعالى وغيره من أهل العلم، أي: أنها إذا لم تكن متفلجة للحسن بل لعلة جاز لها التفلج.
وعلى ذلك: فطبيبات الأسنان لا بد أن ينتبهن؛ لأن طبيبات الأسنان ممكن بسهولة جداً أن تكون من (الفالجات) وهي لا تشعر، فتكون ملعونة على لسان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فتنتبه ولا تفلج أسنان امرأة إلا لدفع ضرر عنها، أما التفلج للحسن فقط فلا يجوز.(19/18)
حكم إزالة شعر الجسم (النمص)
تلحق بهذا الباب مسائل أخرى، ومنها: مسألة: إزالة الشعر من الجسم.
إزالة الشعر من الجسم لغةً تسمى نمصاً، والمنماص هو ذيل آلة لإزالة الشعر من الجسم.
فهل كل شعر يزال من الجسم يعد نمصاً؟
الجواب
ليس كل شعر يزال من الجسم يعد نمصاً؛ لأن شعر العانة يزال، وإزالته سنة، وشعر الإبط يزال، وإزالته سنة وهي عادات مستحبة.
والشعر له أحكام، وهناك كتب مؤلفة في أحكام الشعر: شعر الرأس -طبعاً- يزال أو لا يزال على ما تحب أنت، وقد ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه كان يحلق أحياناً وأحياناً أخرى يقصر شعره، لكن ثمّ شعر كشعر -مثلاً- النساء الذي يظهر في الأرجل، فهل إزالته تلحق بحكم تغيير خلق الله أو لا؟ الظاهر: أن المرأة إذا أزالته لا تكون مغيرة لخلق الله.
فهناك عمومات تبيح ذلك كحديث: (إن الله جميل يحب الجمال) ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أي النساء خيرٌ يا رسول الله؟ قال: التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر) ، لكن في المقابل: (لعن الله النامصة) ، فهل يلحق بالنمص إزالة شعر الرجل أو لا يلحق؟ النمص عند أكثر أهل العلم متعلقٌ بالحاجب، ومن العلماء من عممه على سائر شعر الوجه، أما شعر الرجلين فالراجح لدي فيه والله أعلم أنه جائز، وإن كرهه بعض أهل العلم، فلما يستغرق إزالته من وقت، ولما يحصل من كشف للعورات أثناء إزالته، فالمرأة تكشف عن فخذها لامرأة أخرى تعبث بها مدة طويلة، فهذا فيه كشف للعورة، ثم كما قال بعض المشتغلين بالطب -في هذا الباب-: إنه يضعف الجلد إذا استمرت المرأة على نتفه، والله تعالى أعلم.
لكن ليس عندنا نص صريح صحيح يفيد أنه عملٌ محرم.(19/19)
تفسير قوله تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)
قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء:120] يعدهم بماذا؟ فسرتها آية البقرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] .
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] يعدهم، ليس فقط بالفقر، بل وعوده عامة، كما وعد أبانا آدم وأمنا حواء بالخلود في الجنة إذا أكلا من الشجرة، فقال لهما: أقسم لكما بالله أنكما إذا أكلتما من هذه الشجرة ستخلدان في الجنة ولا يستطيع الرب إخراجكما منها! كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ، فآدم عليه الصلاة والسلام لم يظن أبداً أن هناك شخصاً يحلف بالله كاذباً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غرٌ كريم، والفاجر خبٌ لئيم) .
فوعد إبليس لأبينا وأمنا بالخلود في الجنة إذا أكلا من الشجرة كان غروراً وتغريراً بهما حتى أوقعهما في معصية الله عز وجل، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] .(19/20)
تفسير قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121] أي: مهرباً ومفراً، كما قال تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] ، أي: هل من مفرٍ؟! وهل من مهرب؟! فهنا: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121] .
أي: لا يجدون منها مهرباً ولا مفراً.(19/21)
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ.)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء:122] ، تكرر مراراً أن القرآن سُميّ مثاني لهذا، وهو أنه يأتي بحال أهل الشقاوة، ثم يعقب بذكر حال أهل السعادة، وأيضاً نكرر أن (عملوا الصالحات) تثبت أن المؤمن العاقل الذي يعمل الصالحات أفضل من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل الصالحات، فعلى هذا من يتمسحون بالمجانين جهلة، وهذا الفعل غلط.
فالتقييد بـ (عملوا الصالحات) يبين أن المؤمن العاقل أفضل من المجنون؛ لأن المجنون أمامه اختبار عند الله يوم القيامة ينجح فيه أو لا ينجح.
وفي قوله: (عملوا الصالحات) ردٌ على المرجئة القائلين بأن العمل لا تأثير له.
(سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ، قال فريقٌ من العلماء (من تحتها) .
أي: من تحت أشجارها، ومن تحت بيوتها وكذلك عند فريق آخر، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [النساء:122] وهذا وعد الله في مقابل وعد الشيطان، ووعد الشيطان قال عنه تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] ، فهنا في المقابل: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] .(19/22)
تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ.)
قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء:123] .
أي: ليس الأمر على ما تظنون، {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] ما هو الذي ليس بأمانينا ولا بأماني أهل الكتاب؟ هنا حذف دلّ عليه السياق.
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] .
أي أنكم ستفعلون السوء ولا تجزون به، بل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] وقد ذكر فريق من أهل العلم أن هنا حذفاً فُهم من السياق، والحذف إذا فهم من السياق استسيغ، وكان له وجه وعليه أدلته في كتاب الله في جملة مواطن قد مثلنا لذلك يقول تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ما هي التي توارت؟ الشمس، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] ردوا ماذا؟ ردوا الخيل: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33] .
وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، لماذا قال: (وشاء) ؟ لأن التمثيل به أتم.
قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] أي: ليس الأمر على ما تظنون أنتم وأهل الكتاب، بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، وردت في هذه الآية أحاديث -منازع في صحتها- أن هذه الآية شقت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الآية أفادت: أن كل من يعمل سوءاً يجز بهذا السوء: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وفي هذه الأحاديث التي أشرنا إلى أنه اختلف فيها، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (يا أبا بكر! ألست تنصب؟) يعني: تتعب، فالتعب يزيل السيئات، ألست تحزن؟ فالهم والحزن يزيلان السيئات، ألست تصيبك اللأواء؟ اللأواء والأدواء والأمراض تذهب السيئات، وفي معنى هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله به من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها) ، وفي رواية: (حتى الشوكة يشاكها) ، وفي رواية -نوزع في تصحيحها-: (حتى الهم يهمه) ، يعني: الهم الذي تصاب به يهيل السيئات، لكن روايات الهم منازع في صحتها.
وأيضاً يقال: إن الآية أفادت: أن أي شخص يعمل سوءاً يجز به، لكن ثَمَّ آيات قيدت، وثَمَّ آيات رفعت الحرج، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، فـ (يعفو عن كثير) أفادت أن هناك من الذنوب ذنوباً لا نؤاخذ بها، كذلك في قول أهل الإيمان: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: قد فعلت.
قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، لابد أيضاً من النظر فيه بعيداً عن مسألة إزالة الأمراض والهموم والأحزان للذنوب، فهل يلزم أن كل من أذنب تأتيه عقوبة من الله، إما في صورة شوكة يشاكها أو مرض يمرضه أو هم؟ الصحيح: أنه لا يلزم ذلك، فإن قيل: فكيف توجهون الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فالإجابة، أن هنا تقديرٌ يفهم من السياق ومن العمومات الأخرى التي تحملنا على هذا التقدير، فيكون التقدير: (من يعمل سوءً يجز به) إلا إذا عفا الله عنه، وهذا المعنى يستقيم مع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ويستقيم مع قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، فالتقييد يجز به، إلا إذا عفا الله عنه: فإذا عفا الله عنه وإلا كان الأمر كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، فعلى هذا تضبط الآية من وجهين: الوجه الأول: هو ما ذُكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، على قول من صححه، وهو أن الهموم والأحزان والأمراض كفارات.
القول الثاني: أن الآية مقيدة بمغفرة الله عز وجل، وثمة قول ثالث -لكن يحتاج إلى إثبات- وهو القول بالنسخ، وأن الآية منسوخة بآيات أخرى، أفادت عفو الله عز وجل عن كثير من الذنوب، لكن القول بالنسخ لا يتأتى إلا بعد معرفة المتقدم من المتأخر، وهذا غير متيسر هنا.
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، من العلماء من يقول: إن الشخص قد يعد، وقد يوعد فهناك الوعد والوعيد، ومن خصال الكرام: الوفاء بالوعد وإخلاف الوعيد.
ومنه قول القائل: وإني إن وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالوفاء بالوعد محمود، وإخلاف الوعيد محمود من فعل الكرام.
والفرق بين الوعد والوعيد: أن الوعد في الخير والوعيد في الشر والتهديد، والله تعالى أعلم على ذلك فالذي يخلف وعيده لا يذم من البشر، ولله المثل الأعلى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] ، قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، والسوء هو من ما يسيء الشخص، وكل المعاصي تسيء صاحبها يوم القيامة، ومنه قيل: للسوأة سوء، وللسوأتان سوأتان؛ لأن رؤيتهما تسيء للشخص المرئي، فلذلك أطلق عليهما (سوأتان) .
قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] ولياً يتولاه، ولا نصيراً ينصره.
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124] أي: قدر النُّقْرَةِ في ظهر النواة.(19/23)
الأسئلة(19/24)
حكم تدريس الرجل للمرأة
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
السؤال
أنا مدرس وأعطي دروساً خصوصية بدون ظلم لأحد، ولكن يأتيني بنات من الصف الأول الإعدادي إلى الثالث، فهل هذا حرام؟ وإن كان حراماً فهل معنى هذا أن الأجر الذي آخذه يعتبر مالاً حراماً، على الرغم من أني أتعب فيه؟ الجواب: بالنسبة لتدريس الرجل للمرأة، فأصل الحكم فيه مبني على الملابسات المحيطة به، لأنه لا دليل لدينا على أن تدريس الرجل للمرأة حرام، لكن إذا خلى الرجل بامرأة واحدة، كان الحكم بالحرمة مبنياً على أن الخلوة نفسها محرمة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجلٌ بامرأة فإن ثالثهما الشيطان) .(19/25)
تفسير سورة النساء [127-136]
لقد حفظ الله حقوق اليتامى من ذكور وإناث، كما في قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ... ) الآية، فإن هذه الآية نزلت في اليتيمة التي لها مال، ووليها لا يريد أن يتزوجها ولا أن يزوجها غيره خشية الميراث، وقيل: نزلت في اليتيمة الجميلة الحسناء التي يريد وليها أن يتزوجها ولكنه لا يقسط في مهرها، وفي هذا دلالة كبيرة على أن الشرع حفظ للنساء حقوقهن حتى وهنَّ يتامى فضلاً عن كون آبائهن أحياء.
وبين الله عز وجل بعد ذلك أحكام النشوز الحاصل من المرأة ومن الرجل، وكيف أن العدل بين الزوجات من الواجبات إلا في الميل القلبي وغيرها من الأحكام.(20/1)
تفسير قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ.)
باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127] .
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} [النساء:127] أي: يطلبون منك الفتيا في شأن النساء، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني) أي: طلبت منك الطعام فلم تطعمني، (قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه) الحديث، فقوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء:127] أي: يطلبون منك الفتيا أو الفتوى أن تفتيهم في شأن النساء.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] ، سأل عروة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] .
فأفادت بما حاصله: أن هذه الآية نزلت في اليتيمة التي عندها ميراث، تكون في حجر وليها، القائم عليها، الذي من حقه شرعاً أن يتزوجها، لأنه ليس أباً ولا أخاً ولا عماً لها، لكنه ولي من الأولياء البعيدين الذين يحل لهم أن يتزوجوها، لكنه يرفض الزواج بها، ومع رفضه للزواج بها يمتنع أن يزوجها لآخرين خوفاً من ضياع الميراث، فيبقيها في حالة من الإعضال، هذا قول.
والقول الآخر: أن هذه الآية ومن قبلها آية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] نزلت في اليتيمة التي تكون جميلة وحسناء يريد أن يتزوجها ولا يقسط لها في الصداق، أي: لا يعطيها صداق مثلها من النساء، فأمروا إما أن يقسطوا لهن في الصداق، أو يتزوجوا غيرهن، فالنساء سواهن كثير.
ومسألة القسط في الصداق: تؤصل لنا مسألة مهر المثل؛ لأن هناك مهراً يصار إليه يقال له مهر المثل، تقاس المرأة أو البنت فيه على أترابها من بنات أعمامها وبنات أخوالها، وبنات عماتها وبنات خالاتها، وجيرانها الذين هم في نفس طبقتها، إذاً يصار إلى مهر المثل عند التنازع في مسألة الصداق.
قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] أي: أن المهر مكتوب لهن، فالمهر فرض، وقد تقدم قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: فريضة.
فالمهر فرض، لا حد لأقله ولا حد لأكثره، فأقل المهر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد، قال: ما عندي ولا خاتم، قال: زوجتك بما معك من القرآن) ، وتزوجت أم سليم على الإسلام.
وقد ورد حديث فيه ضعف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لامرأة تزوجت مقابل نعلين: أرضيت من نفسك بنعلين؟!) لكنه حديث ضعيف.
إذاً: لا حد لأقل المهر، وأكثر المهر لا حد له كذلك، قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] فالمقرر عند الجمهور من أهل العلم أنه لا حد لأقل المهر ولا لأكثر المهر، وإنما يختلف باختلاف الأماكن، واختلاف الأزمان، واختلاف الأشخاص.
قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ} [النساء:127] أي: لا تعطونهن، {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] أي: ما فرض لهن، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] أي: لعلكم ترغبون أن تنكحوهن.
ترغب عن الشيء ترفضه، وترغب في الشيء تحبه وتقبل عليه وتريده، أما (ترغب أن تنكحها) ، فتحتمل الوجهين، وإن كان أقرب إلى الإرادة والرغبة في الشيء.
قال تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] يعني: أنتم تريدون أن تتزوجوا بنتاً يتيمة جميلة، ولكنكم تريدون بخسها حقها، فإذا أردتم الزواج بها فأقسطوا إليها وأدوا حقها، كالذي يؤدى لأترابها وأمثالها.
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء:127] أي: وتفعلون مع اليتامى القسط والعدل الذي أمركم الله عز وجل به، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127] .(20/2)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا.)
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] البعل: هو الزوج.
قوله: (نُشُوزًا) أي: ارتفاعاً وتعالياً ورفضاً، ورغبة عنها، فمعنى النشوز: الارتفاع، ومنه الأرض النشز، أي: الأرض المرتفعة، والمرأة الناشز هي المتعالية المرتفعة على أمر زوجها وقوله، فالنشوز يكون في النساء وفي الرجال.
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128] أي: رداً لها وعدم رغبة فيها.(20/3)
مرتبة الإحسان وفضله
قال سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128] أي أن الصلح وإن كان جائزاً فإن لك يا رجل أن تقبل من زوجتك أن تتنازل لك عن ليلتها مقابل إبقائها، فهذا صلح، لكن الإحسان أفضل، فأرشدك الله إلى الإحسان، وإن كانت أذنت لك بذلك.
فالرجل قد يتفق مع المرأة على شيء، فلضعف المرأة تقر هذا الشيء وترضخ؛ لأنه ليس لها متنفس غير هذا الشيء، فهذا يا زوج! وإن كان جائزاً لك ما تصنعه المرأة من تنازل عن بعض حقوقها، لكن الله يرشدك إلى الإحسان، والإحسان مرتبة فوق العدل، فيستحب لك أن تسلك مع هذا الصلح الذي دار بينكما سبيل المحسنين، الذين يتركون حقوقهم لله سبحانه وتعالى.
{وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128] أي: وسيجازيكم على هذا الإحسان.(20/4)
دلالة الآية على كراهة الطلاق ودخوله في الأحكام الخمسة
هذه الآية دلت على أن الطلاق -وإن كان مباحاً في الأصل- يكره في كثير من الأحيان، فإن الطلاق عمل يسعد الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عرش إبليس على الماء وإنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة، يأتي أحدهم فيقول: ما تركته حتى فعل كذا وكذا، فيقول له الشيطان، ما صنعت شيئاً، حتى يأتي شيطان فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه ويقربه ويقول: أنت أنت) .
ومعناه: أنت الذي فعل الفعل الذي يحمد ويشكر عليه، فالتفريق بين الزوجين مذموم أو مكروه، وإن كان بعض الأوقات يستحب فيها الطلاق، وأوقات يجب فيها الطلاق، فالطلاق تنسحب عليه الأحكام التكليفية الخمسة.
ومن ثم قال الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لزوجة إسماعيل: (إذا أتى إسماعيل فأخبريه أن رجلاً قدم عليكم وقولي له: إنه يوصيك أن تغير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل -كما في البخاري من حديث ابن عباس موقوفاً عليه- وآنس في البيت شيئاً لم يكن على العادة، قال: هل دخل أحد البيت قالت: نعم جاء رجل كبير صفته كذا وكذا، قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أوصاني قال: إذا جاء إسماعيل فقولي له: غير عتبة بابك، فقال لها: أنتِ عتبة الباب، الحقي بأهلك) وطلقها إسماعيل.
وهذا لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سألها عن حالهم أولاً فتسخطت وقالت: نحن في ضنك وبلاء وشدة وكرب، ولم تحمد الله على ما هي فيه، ولم تشكر الله على ما هي فيه، فكانت نصيحته لولده، أن يفارقها، وفي الرواية الأخرى: (بعد أن تزوج امرأة غيرها وجاء إبراهيم فسألها كيف عيشكم؟ فحمدت الله وأثنت عليه، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فأخبريه أن شيخاً أتى إليه يقرئه السلام، ويقول له: ثبت عتبة بابك) ، فأحياناً الطلاق يكون مستحباً.
فلما جاء عمر إلى رسول الله يشكو ولده عبد الله وحاله مع زوجته، وأمر عمر عبد الله أن يطلق زوجته فأبى عبد الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أطع أباك) فأطاع أباه وطلقها، فأحياناً يكون الطلاق له مسوغات ويستحب، وأحياناً يكون الطلاق مكروهاً، وأحياناً يكون الطلاق محرماً، وأحياناً يكون واجباً، لكن التقعيد أنه إلى الكراهية أقرب، وقد تقدم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأة له، فجاءته المرأة وقالت: يا عبد الله! هل تنقم عليّ شيئاً في خلقي وفي ديني؟ قال لها: لا.
قال: هل رأيت مني شيئاً تكرهه؟ قال لها: لا.
قالت: ففيم تطلق امرأة مسلمة مصلية صائمة؟ فأبقى عليها عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وردها إليه.(20/5)
إباحة الصلح بين الزوجين وإسقاط المرأة حقها
قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] هذه الآية نزلت في سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما كبر سنها، وخشيت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: أجعلك في حل من ليلتي لا تقسط لي، وتبقيني معك، أي: حتى أكون من أزواجك في الجنة.
خشيت أن يطلقها النبي عليه الصلاة والسلام فعرضت عليه أمراً قالت: إن كان يشق عليك المبيت معي يا رسول الله! وتشق عليك القسمة لي يا رسول الله! فلا تطلقني، وأجعلك في حل من شأني، ولا أطالبك بشيء من القسمة، على أن أبقى عندك، فنزلت الآية مجيبة لذلك ومبيحة لذلك: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} [النساء:128] أي: من زوجها {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [النساء:128] أي: على الزوج وزوجته {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] ، فالصلح جائز ما لم يحل حراماً وما لم يحرم حلالاً.
قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] أي: الصلح على هذا النحو خير للفريقين من الطلاق.
وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] وإن كانت نزلت في هذا الموطن إلا أن الصلح خير على العموم، ومن ثم قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] .(20/6)
معنى الشح في قوله تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ.)
قال سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] : الأنفس إذا جاءت تصطلح دخلها الشح؛ لأن المصالح في الغالب يتنازل عن شيء، فعندما يأتي وقت الصلح يشح كل من المصطلحين بالشيء الذي سيتنازل عنه، فالرجل إذا جاء يصالح المرأة على ما ذكر في الآية، لتقول له المرأة: أجعلك في حل من القسمة لي وأبقى معك، فالرجل أصلاً لا يحب هذه المرأة، كأن تكون امرأة ذميمة مثلاً، أو لسانها طويل، أو تشتمه أو غير ذلك، فليس له رغبة فيها من الأصل، فإذا جاء عند الصلح يقول: إذاً: وأنا لماذا أتركها عندي، وأنفق عليها وأكسوها؟! وهي الأخرى تقول: وأنا لماذا أتنازل عن يومي، وأتنازل عن ملكي؟ هل أنا أقل من الضرة الثانية حتى أتنازل عن حقي وعن يومي؟! فيبدأ الشح يحضر الرجل ويحضر المرأة، يحضر الرجل في النفقة التي ينفقها على زوجته التي لا يرغب فيها، ويحضر للمرأة إذ تقول: لماذا بخست حقي وغيري استوفى حقه كاملاً، فكل واحد يأتي الشح إلى نفسه كي يفسد هذا الإصلاح.
فالله سبحانه وتعالى قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] يعني: خذ أنت على نفسك يا زوج وأنفق، وخذي أنتِ على نفسك يا امرأة واصبري على اليوم الذي سقط، فهذا خير من الطلاق.(20/7)
تفسير قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ.)
قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] : أي: لن تستطيعوا يا معشر الرجال! يا من تزوجتم بأكثر من زوجة! أن تعدلوا بين النساء (ولو حرصتم) ، أي: ولو اجتهدتم في هذا الباب، والله سبحانه وتعالى قال في الآية الأخرى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] فكيف يجمع بين الآيتين؟ قال في الأولى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129] فجزم بأننا لن نعدل، وقال تعالى في الثانية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] ؟! إذاً: ما دام مقرراً أننا لن نعدل، فلماذا نقبل على الزواج؟! فالإجابة على هذا هي: أن العدل له صورتان: الصورة الأولى: عدل في المبيت والحقوق الظاهرة، بأن تبيت هنا ليلة وتبيت هنا ليلة، تعطي هذه خمسة قروش وتعطي هذه خمسة قروش مثلها، تأتي لهذه بثوب وتأتي لهذه بثوب، فهذا العدل في الظاهر وهو مستطاع، لكن العدل في المحبة القلبية لا يستطاع؛ لأنك لا تملك قلبك.
الصورة الثانية: العدل في الجماع والمحبة القلبية، فهذا لا يستطاع؛ لأن هذا متوقف على ميلك القلبي، كأن تكون إحدى الزوجات جميلة والأخرى دميمة، فتقف على جملة أمور فلا تستطيع أن تملكها.(20/8)
معنى الميل في قوله: (وَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)
قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] يعني: إذا كنت تحبُّ واحدة فلا تبالغ في إعطائها كل ما تريد وتترك الثانية كالمعلقة، صحيح أنه لا يجب العدل في الجماع، لكن الرحمة مطلوبة، فلا تترك الزوجة التي لا تحبها كالمعلقة: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] أي: كالتي لا زوج لها، لا هي متزوجة ولا هي بدون زوج؛ لأنها لو كانت بدون زوج لبحثت لها عن زوج.
فهنا تظهر جهالات القوم الذين لا يخافون الله، يتزوج رجل على زوجته ويتركها شهوراً وسنوات لا يقربها، فهذا والعياذ بالله! آثم، بل مرتكب لكبيرة، وقد روي في ذلك حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما أتى يوم القيامة وشقه مائل) ، والحديث متكلم في إسناده، لكن الوعيد مأخوذ من عمومات أخر كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لبيتك عليك حقاً) وغيرهما من الأحاديث.
قال سبحانه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129] .(20/9)
عدم استطاعة الرجل العدل بين النساء في المحبة القلبية
فقوله تعال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء:129] أي: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في المحبة القلبية ولا في الجماع، حتى نبينا عليه الصلاة والسلام لم يستطع العدل في هذا الباب؛ لأن قلبه ليس بيده صلى الله عليه وسلم، فقد ورد فيه حديث متكلم في إسناده عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه كان يقسم بين النساء ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك) .
فالقسمة في المحبة القلبية والجماع غير مستطاعة، ولذلك ترى تفاضلاً بين محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجة، ومحبته لزوجة أخرى، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب الناس إليك يا رسول الله؟! قال: عائشة) .
وغارت عائشة من رسول الله أيضاً؛ لما كان يكثر من ذكر خديجة؛ ولأنه كان إذا ذبح الذبيحة يرسل بجزءٍ منها إلى صديقات خديجة رعاية للعهد: (فاستأذنت هالة بنت خويلد على رسول الله، فارتاع لها النبي عليه الصلاة والسلام وقام فزعاً من مكانه، قائلاً: اللهم هالة، فغارت عائشة غيرة شديدة وقالت: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين هلكت في غابر الدهر، أبدلك الله خيراً منها قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إني رزقت حبها) ، فالمحبة تختلف من شخص إلى شخص.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية التخيير: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] بدأ بـ عائشة وقال: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك) ، لكن لم يقل هذا الكلام لغيرها، بل قد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حفصة وراجعها.
وفي الحديث: (قالت عائشة لرسول الله: يا رسول الله! لو نزلت واديين يا رسول الله بهما أشجار فوجدت شجرة أُكل منها، وشجرة لم يؤكل منها، ففي أيها كنت ترتع بعيرك يا رسول الله؟ قال: في الشجرة التي لم يؤكل منها) .
تشير إلا أنه لم يتزوج بكراً غيرها، فالمحبة القلبية غير مستطاعة، والعدل في المحبة القلبية لا يطاق ولا يستطاع، فهذا هو الحكم في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] .(20/10)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)
قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130] .
أحياناً يكون في الفرقة خير، فإذا استحالت الحياة الزوجة بين الزوجين وحدث كل يوم سباب وشتائم، وعدم إقامة لحدود الله سبحانه وتعالى، وعدم تعاون على إقامة سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففي هذه الحالة إن يتفرقا يبدل الله الزوج خيراً من زوجته، ويبدل الله الزوجة خيراً من زوجها، وهذا هو معنى: (يغن الله كلاً من سعته) .
فالطلاق ليس في كل الأحيان شراً، بل قد يكون في بعض الأحيان خروجاً من المشاكل، ومن السباب، ومن مخالفة أمر الله ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى.
تأيمت حفصة رضي الله عنها فعرضها عمر على عثمان فرفضها عثمان، وقد تزوج عثمان بنت رسول الله بعد ذلك، وهي خير له من بنت عمر من ناحية النسب، وحفصة تزوجت رسول الله خير لها من عثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] وهذه الفرقة إذا وقعت فيجب أن تكون بإحسان، فإن الله تبارك وتعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أي: الطلاق الرجعي الذي للزوج حق الرجعة فيه على زوجته مرتان، فإذا طلقها المرة الأولى وراجعها والثانية وراجعها؛ فإنه بعد الثانية إما أن يمسك بمعروف، بأن يردها إليه ويرجعها بالمعروف، أو يسرحها بإحسان.
ما معنى التسريح بإحسان؟ قال بعض أهل العلم إن التسريح بإحسان هو الطلاق، لكنه قول مرجوح؛ لأنك إذا قلت: إن التسريح بإحسان هو الطلاق ورد عليك في الآية نفسها {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] فعلى هذا تكون طلقة رابعة، ولا يجوز ذلك بالإجماع.
فالتسريح بإحسان من العلماء من قال: إنه الطلاق، لكنَّ الأكثرين على أن التسريح بإحسان معناه: أن تترك الزوجة بعد أن تطلقها التطليقة الثانية بدون أن ترجعها إليك، حتى تنقضي عدتها، وهذا القول أفضل من ناحية النظر؛ لأنك إذا غدرت بعد أن تركتها حتى انتهت عدتها وذهبت إلى أهلها، فإذا بدا لك أن تتزوجها فإنه يجوز؛ لأنه بقي لك طلقة، فإذا قلنا: التسريح بإحسان، فإن الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فإذا قلنا لك: طلقها ثالثة فهو غلط، لأنه ما أمر بالطلاق، بل يفهم من الآية أن يسرحها بإحسان، فكأنك تقول له: طلقها مرة ثالثة، والآية لا تتحمل هذا المعنى.
وإن قال بعض أهل العلم: إن التسريح بإحسان هو الطلاق، وأورد فيه حديثاً فيه ضعف، لكن التسريح بإحسان هو أن تتركها سارحة حتى تنقضي عدتها فتبتعد عنك بدون طلاق، فيكون محفوظاً لك عندها طلقة.
قد يقال: جاء في الآية قوله: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} فقوله: (أُسَرِّحْكُنَّ) أي: أطلقكن.
و
الجواب
أن التسريح في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] معناه أعم من التطليق، كما يقال: يغدو عليهم بسارحة لهم، ويقال: سرحت البهيمة، أي: تركتها وأرسلتها؛ لأن الفلاحين يقولون: نحن سنروح في الصباح بالبهائم لترعى، إذاً: فالتسريح أعم من التطليق.
ولذلك قال أهل العلم في باب ألفاظ الطلاق: ألفاظ الطلاق ثلاثة: طلقتك، وهذا لا يحتاج إلى نية عند التلفظ به، ولا يحتاج إلى سؤال عن النية، كأن تقول: طلقتك، أو أنتِ طالق، لكن هناك لفظان يحتاجان إلى نية وهما: سرحتك، وفارقتك؛ لأن فارقتك تحتمل الطلاق، وتحتمل غير الطلاق، كذلك التسريح يحتمل الطلاق ويحتمل غير الطلاق، فالتسريح من الكلمات التي تعددت معانيها.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130] فأتى بقوله: (وَاسِعًا) من جنس (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فالآيات في الغالب تختم باسم من أسماء الله سبحانه أو صفة من صفاته موافقة للأحكام التي فيها، ولما يريده الله سبحانه وتعالى منك.
أي: إذا كنتِ يا أيتها المرأة التي تزوجت من زوج مؤذٍ لا يراقب الله ولا يراقب رسول الله، ولا يقيم حدود الله فيك، ويمنعك من إقامة حدود الله في نفسك، فلا تتردي في مسألة الطلاق ولا تخافي، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] .
ويا أيها الرجل يا من تزوجت بامرأة شريرة لا تساعدك على إقامة حدود الله، وتخونك إذا خرجت، إن الله لم يضيق عليك، فإن تفارقها يغنك الله سبحانه وتعالى.
فالطلاق ليس في كل الأحوال شراً، وليس في كل الأحوال أيضاً خيراً؛ لما فيه من تشتيت للأولاد وتشريد لهم، والله أعلم.(20/11)
تفسير قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] .
هذه هي الوصية الجامعة التي وصى الله بها أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ووصى بها الأنبياء، ووصى بها الرجال، ووصى بها النساء، ووصى بها الناس أجمعين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:131] وهم اليهود والنصارى، (وَإِيَّاكُمْ) أي: ووصيناكم أنتم أيضاً {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فهي وصية وصى الله بها أهل الكتاب، ووصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ووصى بها النساء حيث قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] .
وجاءت الوصية بها في عدة آيات، وفي جملة أحاديث لا تكاد تستقصى.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] وقد تقدم تفسير التقوى، واتقوا من الاتقاء ومنه قول الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد أي: غطت وجهها بيدها.
وقال سبحانه: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131] أي: أن كفركم لا يؤثر في الله شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) أي: إن تكفروا فاعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تؤثروا شيئاً فيما عند الله سبحانه وتعالى، {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} [النساء:131] أي: غنيّاً عنكم إن لم تتقوه، {حَمِيدًا} [النساء:131] لكم إن اتقيتموه.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:132] .(20/12)
تفسير قوله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ.)
قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133] وفي معناها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5] .
فالذي لا يتقي الله لن يضر الله شيئاً وإنما يضر بالدرجة الأولى والأخيرة نفسه، والله في غنىً عن عبادته: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] .
فقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133] هي كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
ثم قال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133] .(20/13)
تفسير قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا.)
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] .
أثبتت الآية صفة السمع والبصر لله سبحانه وتعالى، (وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى إصبعيه على أذنه والأخرى على عينه) ، فاستنبط بعض العلماء من ذلك إثبات صفة العين وكذلك صفة السمع لله سبحانه وتعالى.(20/14)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ.)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] وهي كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] .
قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] تحتمل عدة معانٍ أي: ترجون بشهادتكم وجه الله سبحانه وتعالى.(20/15)
بيان اللي ومعناه وعقوبته
فقال تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] : فاللي يطلق على معانٍ: ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه ويحل عقوبته) أي: ممطالة الغني المديون ظلم، كما لو كان لك دين عند شخص غني والغني يماطل، فمماطلته تسمى: ليّ، فالرسول يقول: (لي الواجد ظلم يحل عرضه) يعني: يجوز لك أن تقول: فلان أكل مالي أو فعل بي وفعل بي وفعل؛ بقدر المظلمة.
{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] أي: عن الحق {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] .(20/16)
الشهادة بالحق في كل الأحوال
فالعدل به قامت السماوات والأرض، ومن ثم قال رسولنا عليه الصلاة والسلام: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] أي: ولو على نفسك، {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] معنى الآية: لو أن شخصاً كان شاهداً في خصومة بين فقير وغني، فقد يطمع الشاهد في مال الغني ويقول: أشهد للغني لعله يعطيني، أو يعينني على وظيفة، والثاني بالعكس تجده يقول: لا.
الأغنياء هم كذا وكذا، فلابد أن أخرب بيوتهم، ويشهد للفقير، والله يقول: ليس ذلك من حقك {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] أي: إن كان غنياً أو فقيراً فما عليك إلا أن تشهد بالحق فقط، ليس لك أن تجامل هذا لغناه، ولا أن تعطف على هذا لفقره.
فالحقوق شيء والإصلاح شيء آخر، ففي الإصلاح بين الناس يجوز لك أن تقول للغني: يا فلان! لو تترك من حقك للفقير شيئاً قليلاً، فهذا في الإصلاح لا في الأحكام، فكل شخص في الأحكام يأخذ حقه مستوفى، فله أن يتنازل أو لا يتنازل، فهذا الشيء يرجع إليه.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا} [النساء:135] أي: إن يكن المشهود له أو المشهود عليه غنياً أو فقيراً، فالله أولى بهما منك.
{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] أي: إذا حاولت أن تؤولها بأي طريقة حتى تصل إلى مرادك وشهوتك فاعلم أن الله مطلع عليك، ومن ثم يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار إن شاء أخذها وإن شاء تركها) فهناك أناس سحرة يسحرون بالكلام.
ومن ثم لما رمت امرأة ضرتها بحجر في بطنها، وكانت المضروبة حاملاً فسقط الحمل، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام: أن على العاقلة غرة عبداً أو أمة، أي: عليهم أن يقوِّموا عبداً أبيض أو أمة بيضاء ويدفع القيمة للمضروبة، فجاء رجل وقال: (يا رسول الله! كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا نفخ ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟!) يعني: كيف تغرمني قيمة واحد لم يأكل ولم يشرب، ولم يتكلم، ولم يستهل، ولم يخرج من فرج أمه، فمثل ذلك يطل؟! أي: هدر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) ؛ لأنه يحاول بهذه الألفاظ أن يضيع الحقوق الشرعية.(20/17)
إقامة الشهادة لله تعالى
فيجب أن تكون شهادتك لله سبحانه وتعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] والقسط يطلق على العدل، فمنه قول أبي طالب في لاميته: بميزان قسط لا يخيس شُعيرة له شاهد من نفسه غير عائل {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] وقد روي بإسناد ضعيف (أن عبد الله بن رواحة ذهب إلى اليهود ليقضي فيهم، حيث كانت بينهم وبين رسول الله خصومة، فأرسل ابن رواحة ليحكم في القضية، فقال: يا معشر يهود! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليّ، والله يعلم إنكم أبغض خلق الله إليّ، ولكن لا يحملني حبي له وبغضي لكم على أن أقضي فيكم بغير الحق، قالوا: يا ابن رواحة بهذا قامت السماوات والأرض) فبالقسط وبالحق قامت السماوات والأرض.
فهكذا ينبغي أن تكون الشهادات، أن لا تشهد إلا بالذي رأيته، ولا تشهد بما فهمت، أنت إذا وجدت واحداً يضرب واحداً تقول: رأيت فلاناً يضرب فلاناً، ولا تقول: ضربه لأنه فعل كذا وتشهد بناءً على ظنك وتأويلاتك، فهذا لا دخل لك فيه، اشهد فقط بما رأيت لا بما علمت؛ لأن الاستنباط في الشهادة إنما هو للقضاة، فدع الاستنباط لأهله، وما عليك إلا أن تشهد بالذي رأيت فقط، وأن تحكي الذي رأيت، وأن تقول الذي سمعت، والقضاء فيه قوم أذكياء يعرفون كيف الاستنباط.
ومن قصص داود صلى الله عليه وسلم في هذا الباب مع سليمان، ورد عند ابن عساكر بأسانيد ينظر فيها: (أن في زمن داود عليه السلام كانت هناك امرأة حسناء، فجاء أربعة من الرجال كلهم من أشراف القوم، كل يراودها عن نفسها على انفراد، فرفضت الأربعة، فاتفقوا فيما بينهم أن يشهدوا عليها عند داود عليه الصلاة والسلام.
فذهبوا إلى داود وقالوا: يا نبي الله! هذه المرأة مكنت من نفسها كلباً، أي: جعلت كلباً يزني بها، وشهدوا بذلك وأقسموا الأربعة، فحكم عليها بالرجم، فخرجت من عند داود عليه الصلاة والسلام.
وكان سليمان جالساً، وسمع القضية والذي حدث فيها، فقال: انتظروا فذهب وأتى بأربعة شباب وأتى برجل آخر غير شاب ونصب قضية صورية يعني: حتى يذكر والده بالذي حدث، فالأربعة جاءوا وقالوا: إن هذا الرجل قتل كلباً لنا، والقضية أديرت مرة ثانية أمام داود عليه الصلاة والسلام؛ أدارها سليمان، والأربعة أقسموا بالله أنه قتل الكلب، قالوا: نعم نقسم بالله العظيم أنه قتل الكلب، فأخرجهم سليمان صلى الله عليه وسلم وأدخلهم أمام أبيه واحداً واحداً فسأل الأول: ما هو لون الكلب؟ قال الأول: أحمر، قال: انتظر هنا، دخل الثاني: ما هو لون الكلب؟ قال: أسود.
فاختلفوا فتبين أنهم كاذبون؛ لأن كل واحد أتى بلون جديد للكلب، فانتبه داود صلى الله عليه وسلم، وعرف أن الذي حدث خطأ، وأنه كان ينبغي أن يتحرى في هذه المسألة وخاصة وفيها رجم، ويسأل كل واحد على انفراد، ورد الحكم عليهم مرة ثانية) .
لكن هل يؤخذ بالتفريق بين الشهود دائماً؟ لا يؤخذ به دائماً؛ فقد وردت لطيفة من اللطائف يذكرها الإمام الشافعي رحمه الله يقول: شهدت أمي عند قاضٍ بمكة هي وامرأة أخرى على قضية، فالقاضي أحب أن يفرق بينهما ويسمع من كل واحدة كلامها مستقلاً، فقامت أم الإمام الشافعي وقالت: ليس لك ذلك، إن الله يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] تعني: هي تذكرني إذا نسيت.
إذاً فالقاضي ليس له أن يفرق بين الشهود في كل المواطن.(20/18)
المبادرة بالشهادة وخير الشهداء
وهل يستحب للشخص أن يبادر ويشهد إذا رأى شيئاً، أو يستحب له أن يصمت ولا يشهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها) وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون) أي يشهدون بدون أن تطلب منهم الشهادة، فهم قوم سوء؛ فكيف نجمع بين الحديث الأول والحديث الثاني؟ قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) ، هذا في الشهادة التي بها تقام الحقوق، وستضيع الحقوق إذا لم تشهد، مثلاً: أنت رأيت شخصاً يقتل آخر، ثم انصرف القاتل، وأنت الشاهد، فأنت إذا سكت ضاع دم المسلم، لكن إذا جئت وقلت: يا ناس! إن فلاناً قتل فلاناً؛ تشهد على ذلك، فأنت بشهادتك حفظت الاثنين، فإن القاتل إما أن يقتل فيكون قتله كفارة له وإنجاءً له من عذاب الله سبحانه، لأن الحدود كفارات لأهلها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) وتكون أيضاً قد حفظت لأخيك المقتول حقوقه.
فقوله: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) يحمل على ما إذا كانت الحقوق ستضيع، وجبن الناس عن الإدلاء بالشهادة وما بقي إلا الشهادة التي ستقوم أنت بها، فحينئذٍ إذا تقدمت بالشهادة فأنت خير الشهداء إذا جبن الناس.
أما حديث: (يشهدون ولا يستشهدون) فمحمول على القوم الذين يسرعون بالشهادة للمجاملات، ويسرعون بالشهادة طلباً لمتاع الحياة الدنيا، ويسرعون بالشهادة أيضاً ويكذبون فيها، فكل ذلك وارد، والله وتعالى أعلم.(20/19)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] لأهل العلم في ذلك أقوال: القول الأول: أن المراد بالذين آمنوا: الذين صدقوا محمداً عليه الصلاة والسلام، فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] أي: اثبتوا على إيمانكم وازدادوا إيماناً، فأفادت الآية على هذا القول من التأويل أن الإيمان يزيد، وقد قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124] .
فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] أي: طلب لزيادة الإيمان وللثابت على الإيمان.
القول الثاني: أن المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب، أي: يا أيها الذين آمنتم بعيسى وبموسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أنها في أهل النفاق، أي: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولما يدخل الإيمان إلى قلوبهم، بادروا وادخلوا الإيمان إلى قلوبكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136] لكن سياق الآية يجعل الحمل على أهل الكتاب أولى، أي: فيا من آمنتم بعيسى، ويا من آمنتم بموسى آمنوا بالله وبرسوله محمد، وبالكتاب الذي نزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن سورة النساء نزلت في المدنية، والذين كانوا فيها يهود، وكان فيها أهل كتاب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] : الكتاب قد يأتي اسماً مفرداً وقد يأتي ويراد به الجنس، فقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] : يعني والكتب التي نزلت من قبل.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] أي: من يكفر برسول الله فقد كفر بعموم الرسل، ومن يكفر بملك فقد كفر بجميع الملائكة، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] والضلال: الذهاب عن القصد، فمعنى ضل ضلالاً بعيدا: ذهب مذهباً بعيداً عن طريق الصواب.
والله أعلم.(20/20)
تفسير سورة النساء [138-146]
كان الناس في بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم منقسمين الى قسمين: كفار أصليون، ومسلمون، ولم يعرف النفاق إلا في المدينة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، فظهر من هؤلاء من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ومن يرائي بصلاته وصيامه، وقد ذكرت هذه الآيات من سورة النساء أهم صفات المنافقين، والوعيد الذي ينتظرهم في يوم القيامة، إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله تعالى.(21/1)
تفسير قوله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139] .(21/2)
العزة لا تطلب إلا من الله سبحانه
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139] الهمزة للاستفهام تحمل معنى التعجب والإنكار والتوبيخ (أيبتغون عندهم العزة) وهذا الحاصل: فإن كثيراً من الناس ومن الحكام يوالون أهل الكفر من اليهود والنصارى، ويتقربون إليهم طلباً للتعزز بهم وللتحصن بهم.
قال الله تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] أي: من كان يطلب العزة فليطلبها من الله، وليطلبها بطاعة الله سبحانه وتعالى وامتثال أوامره، أما الكفار فليس عندهم إلا الذلة، قال سبحانه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113] .
فإذا ركنت إلى أهل الظلم والجور والكفر طلباً للعزة منهم فقد خاب ظنك وضل سعيك، فإن الله قال: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) ، وقال تعالى: {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] .
فالآية محذرة لكل من سولت له نفسه أن يوالي الكفار ويطلب العزة من عندهم، فإنه إن فعل فقد عصى ربه، ومن عصى ربه استحق أن يذل، فتنعكس عليه الغاية وهو لا يشعر.
{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] أي: إن كنت تريد العزة لنفسك فاعلم أن العزة لله جميعاً، وقد قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قذفته ناري) لكن إن كانت العزة بمعنى التقوي بالله، وكان طلبها طلباً للتعزز على أهل الكفر والتقوي عليهم؛ فهذا باب آخر يجوز للشخص أن يطلبه، فإن الله تعالى قال: {تُُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] وذكر أنه سبحانه يعز من يشاء.
أما العزة التي بمعنى الاستعظام في النفس والتكبر والتجبر على عموم الخلق، فهي مذمومة ولا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.
{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] هي لله وهي من الله سبحانه وتعالى أيضاً.(21/3)
موالاة الكفار وعلاقتها بالنفاق
موالاة الكفار: هل هي من نفاق الاعتقاد، أم من نفاق العمل؟ الله يقول في هذه الآية الكريمة: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، ثم ذكر الله سبحانه وتعالى خصالهم فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:139] فهذا نفاق، لكن هل هو نفاق اعتقاد، أو نفاق عمل؟ هذا مبني على القصد من وراء تلك الموالاة، فإذا كان الشخص يوالي الكافرين حباً لدينهم، وتفضيلاً لدينهم على دين الإسلام، فهو منافق نفاق اعتقاد قال الله سبحانه في أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] ، أما إذا كان يوالي الكفار طلباً للدنيا وحباً لها، وطمعاً في مال أو في جاه أو في رئاسة، أو في أي غرض من أغراض الدنيا فهو نفاق عمل.
وقد أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين بمكة خطاباً يخبرهم فيه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لغزوهم، فلما أطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على الذي كان من حاطب بن أبي بلتعة قال عمر: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! والله ما بي من كفر، ولا أعدل بالإسلام ديناً -أو كما قال- ولكني نظرت فإذا كل أصحابك يا رسول الله لهم بمكة من يدفع الله به عن أهلهم ومالهم، وكنت امرأً ملصقاً بالقرشيين، فأردت أن أتخذ عندهم يداً يدفع الله بها عن أهلي ومالي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت، ولا تقولوا له إلا خيراً) .
وفي رواية أخرى: (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) .
فإن كانت الموالاة طلباً لجاه أو لدنيا، فلا تخرج صاحبها من عداد المسلمين إلى عداد الكفار، وإن كانت هي في نفسها نفاقاً وحراماً وكبيرة من الكبائر؛ لكن كونها تُكفّر صاحبها وتخرجه من عداد المسلمين إلى عداد الكفار فيه نظر.
فالحاصل: أن العبرة بالقصد من وراء موالاة أهل النفاق، فإن كان الشخص يواليهم حباً لدينهم فهو مثلهم، وإن كان الشخص يواليهم لدنيا فهو آثم لكنه ليس بكافر، والله أعلم.
قد يقول قائل: إن قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يفيد: أنهم كفار؟ فالإجابة على هذا الذي قد يرد: أنه إذا قلنا هنا إن المراد بالعذاب الأليم الخلود، فيراد بالمنافقين: منافقي الاعتقاد.
أما إذا قلنا إن العذاب الأليم قد يلحق قوماً من أهل الإسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: يكثرن الشكاة ويكفرن العشير) ، فكثرة الشكوى وكفران العشير أودى بالنساء إلى النيران، ومع ذلك لسن بكافرات، والمفلس كذلك يلقى في النار وليس بكافر، ثم بعد ذلك يخرج منها، بل وصاحب نبي الله صلى الله عليه وسلم وخادمه الذي كان يخدمه قتل ومات مع النبي في غزوة، فقال الصحابة: (هنيئاً له الجنة! قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشملة التي غلها يوم خيبر لم تصبها المغانم لتشتعل عليه ناراً) .
الشاهد: أن المنافقين هنا إذا قلنا إنهم منافقو الاعتقاد فلا إشكال (فلهم عذاب أليم) أي: عذاب الخلود، وإذا قلنا: إن النفاق نفاق عمل فكل عذاب النار مؤلم وموجع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل النار منزلة: من له شراكان من نار يغلى منهما دماغه) أي: نعلان من نار يغلي منهما دماغه.(21/4)
تقييد البشارة بالخير وبالشر
أما إذا قيدت البشارة فأحياناً تقيد بالخير وأحياناً تقيد بالشر، أما تقييدها بالخير فأكثر من أن يحصر، وأما تقييدها بالشر ففي هذه الآية الكريمة: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وحيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار) ، وهنا قيدت البشارة وأريد بها البشارة بالشر.(21/5)
أنواع النفاق
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] ، والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد.
فنفاق الاعتقاد: قال الله سبحانه وتعالى في أهله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] .
ونفاق العمل: من صوره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدّث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا اؤتمن خان) أو قريباً من هذا اللفظ.
فالشاهد: أن النفاق يكون على قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد.
نفاق الاعتقاد: أن يبطن الشخص الكفر في قلبه ويظهر الإسلام، وكانت هذه التسمية -تسيمة النفاق- على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليها الزندقة التي هي: إبطان الكفر وإظهار الإسلام.
ونفاق العمل قد ذكرنا بعض صوره.(21/6)
الأصل أن تستعمل البشارة في الخير
قوله تعالى: (بشر) : البشارة أكثر استعمالها في الخير، وإذا أطلق التبشير فهو محمول على التبشير بالخير، قال الله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62-64] ، فالبشرى هنا أطلقت فهي محمولة على البشارة بالخير: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فهي محمولة على البشارة بالخير، على اختلاف بين العلماء في معنى هذه البشارة: فمنهم من قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المؤمن أو ترى له.
ومنهم من يقول: هي الثناء الحسن يسمعه الشخص المؤمن من الناس يثنون عليه به إلى غير ذلك؛ لكن على كلٍّ هي في الخير.
فالبشارة إذا أطلقت ولم تقيد فهي محمولة في الغالب على الخير، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18] ، فهي بشارة أيضاً بالخير.(21/7)
تفسير قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا.)
قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء:140] .
(نزل عليكم في الكتاب) : فُسر ذلك بالذي ورد في سورة الأنعام، فسورة الأنعام وإن كانت في ترتيب المصحف بعد سورة النساء إلا أن سورة النساء نزلت بعد الأنعام، وسورة النساء وإن كانت الثالثة في المصحف إلا أنها نزلت بعد الأنعام التي وردت بعدها بسورة.
فترتيب المصحف الذي هو بين أيدينا ليس ترتيباً زمنياً، فأول ما نزل سورة العلق، ولكن الفاتحة وضعت أول شيء وهي مكية، ثم ثنيت وأتبعت بالبقرة وهي مدنية، فترتيب المصحف على النحو الذي هو عليه الآن ليس ترتيباً زمنياً.
فالشاهد أن الله قال: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام:68] بعد أن تتذكر وبعد ما جاءك من هذه الموعظة {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] .
فهذا تأويل قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب) كما حرره كثير من أهل التفسير.(21/8)
التحذير من مجاورة ومجالسة أهل الظلم
قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] : وهذا أصل في الكتاب العزيز وفي ديننا بصفة عامة، ألا وهو أن أهل الظلم ينبغي ألا يجاوروا ولا يساكنوا والأدلة على هذا متعددة، قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) ، وقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المخنثين من البيوت) .
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر قاتل التسعة والتسعين نفساً، ثم أتمهم بشخص فكان المجموع مائة، فذكر أن العالم أفتاه أن يترك أرضه أرض السوء.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنفي البكر من الزناة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني! خذوا عني! قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) فالشاهد: أن السنة في الزناة الأبكار أن يغربوا وينفوا من البلاد سنة.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، فإن عادت فليبعها وولو بضفير) أي: بضفير شعر، وذلك ليتخلص منها.
فهذه النصوص كلها تضع لنا أصلاً؛ وهو البعد عن مجالسة أهل الظلم، والحرص على مجالسة أهل الصلاح، فإن أهل الصلاح لا يشقى بهم جليسهم، وأهل الفساد قال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] أي: لا تنزل بالمصيبة على الظالمين فحسب بل تعم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم يا رسول الله؟! قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) الحديث.
فكل هذه النصوص تؤصل لنا أصلاً قوياً وهو: أن الشخص ينبغي أن يحترز أشد الاحتراز من مجالسة أهل الظلم والفسق ولا يجلس معهم إلا بقدر، ويؤيد هذا الباب أيضاً بقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ويتأيد هذا الأصل أيضاً بما ورد من أنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقالت امرأة لناقتها: شأ لعنك الله -أي: امشي لعنك الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصحبنا ناقة ملعونة) ورد النبي صلى الله عليه وسلم الناقة، وأيضاً في هذا الباب من الطرف ما يكاد يكون خفياً كقول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام موصياً ولده إسماعيل (غير عتبة بابك) .
فكل هذه النصوص تدل على أصل ثابت في شريعتنا، وهو أن الشخص لا ينبغي أن يوالي الكفار وأهل الظلم، فإنه يلحقه من موالاتهم ومجالستهم نار وعذاب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك فهذه الضرورة تقدر بقدرها، وإذا انتهت فلا معنى للجلوس، قال الله جل ذكره: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] ، وإذا لم تفعلوا وتتركوا المجلس: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] عياذاً بالله.
فالآية تصور الواقع الذي نعيشه: أقوام يلتمسون من الكفار العزة، ويطيرون إليهم، ويستبشرون بمقابلتهم، فرب العزة يقول: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] .(21/9)
تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] فأهل الكفر يتربصون بأهل الإيمان، وأهل النفاق يتربصون بأهل الإيمان، والتربص معناه هنا: انتظار الشر، أما التربص بمعنى الانتظار ففي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهنا المراد بالتربص: انتظار الشر.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] أي: ينتظرون نزول الشر وحلول البلايا والنقم بكم.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء:141] وهذا يشجع على القول بأن المراد بالتربص هنا أيضاً عام، (يتربصون) أي: ينتظرون مآل أمركم، (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ) أي: نصر وقضاء قضاه الله لكم كما في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق، وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ} [سبأ:26] أي: يقضي بيننا بالحق.
فالفتح هنا: إما أن يتنزل على معنى النصر، فيكون المعنى: (فإن كان لكم نصر من الله) ، وإما أن يتنزل على معنى القضاء فيكون المعنى: (فإن كان لكم قضاء من الله بالنصر لكم قالوا ألم نكن معكم) ، يأتي أهل النفاق مهرولين قائلين لكم إذا انتصرتم وإذا قضى الله لكم بالنصر: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فنحن شهدنا بألسنتنا أن لا إله إلا الله معكم يا أهل الإيمان، وصلينا وصمنا معكم، وشهدنا جنائزكم، وعدنا مرضاكم، وخرجنا معكم.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون من شر الناس ذا الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه) فهذا شأن المنافق: يذهب إلى أهل الإيمان بوجه، ويذهب إلى أهل الكفر بوجه.(21/10)
معنى السبيل في قوله: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)
{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:141] : وسيخيب ظن أهل النفاق، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، قد يقول قائل: إن هناك الآن في الظاهر سبيلاً للكفار على المؤمنين، بل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الهزائم التي لحقت أهل الإيمان، وقد انتصر أهل الكفر على أهل الإيمان يوم أحد، ويوم حنين ولى المؤمنون الأدبار إلا القليل، وإنما كانت الغلبة لهم من بعد، فكيف يقال: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً؟ ولقائل أن يقول: إن الآية مقيدة بمعنى: إذا كان أهل الإيمان مستمسكين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومهم، فلن يجعل الله للكافرين عليهم سبيلاً.
وهنا يأتي القول بأن ما أصاب أصحاب النبي يوم أحد كان ببعض تفريطهم وكسبهم، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران:166-167] ، وقد قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] وكان فريق قد خرج إنما يريد الدنيا فنزلت العقوبة لذلك.
فإما أن يقال: إن السبيل المنفي عن عموم المؤمنين مقيد بما إذا استمسك عمومهم بكتاب الله وسنة رسول الله، فأما إذا تركوا ثغرة من جراء معصيتهم فإن أهل الكفر يدخلون من هذه الثغرة ومن هذه المعصية فيتسلطون عليهم بعض التسلط.
أو يقال: إن السبيل المنح سبيل الحجة، فسبيل الحجة لا يقيمه كافر على مسلم مؤمن، فيكون السبيل المنفي هو: التسلط على قلوب أهل الإيمان لردها إلى الكفر، فقد قتل من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام قوم كثيرون، ومع ذلك لا يقال: إن الكفار وجدوا سبيلاً عليهم، فلما مات أهل الإيمان على إيمانهم لم يجد أهل الكفر لأنفسهم تسلطاً على قلوبهم ولا حجة لتشكيكهم فيه.
وهناك جملة أوجه متعددة للإجابة على هذا السؤال مذكورة في مظانها وستأتي إن شاء الله قريباً.(21/11)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ... ) الآيات
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء:142] أي: يظنون أنهم يخادعون الله وأهل الإيمان، ولكن الله عز وجل خادعهم.
وأصل المخدع: المكان الذي يختفى فيه أكثر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في حجرتها) أي: كلما ضاق عليها المكان وابتعدت عن الأنظار كان أفضل.
فالشاهد: أنهم يظنون أنهم يخفون أمرهم عن الله عز وجل.(21/12)
قلة ذكر الله من صفات المنافقين
قال تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] بصلاتهم وقيامهم؛ أي: يظهرون للناس أنهم أهل صلاة {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فمن سمت المؤمن كثرة ذكره لله سبحانه وتعالى، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل، أما أهل النفاق فلا يذكرون الله إلا قليلاً.
وقد استدل الإمام علي رضي الله عنه على أن الخوارج ليسوا منافقين فيما روي عنه بإسناد يُنظر فيه أنه لما سئل عن الخوارج: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله صباح مساء، قيل: من هم إذن؟ قال: هم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدهم في نصله فلا يوجد فيه شيء، وفي نضيه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم) .
يعني: السهم السريع، أو الرصاصة على مثال أدق، فإنها إذا أطلقت تخرق الجسم أحياناً وتخرج من الناحية الأخرى، تنظر فيها من سرعتها هل أصابها دم! فتجد أن الدم لم يلتصق بها، تنظر هل أصابها فرث من جوف المضروب أو أي شيء! فلا تجد فيها أي أثر من سرعتها.
فهؤلاء الخوارج يدخلون في الدين ويخرجون منه وهذه حالهم باستمرار، دخول وخروج! دخول وخروج! كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(21/13)
التذبذب بين الإيمان والكفر نفاق
قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء:143] أي: بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين الإيمان والكفر.
والذبذبة: هي الحركة اليسيرة عن اليمين والشمال، أو إلى فوق وإلى أسفل، أي: احتاروا في أمرهم، ماذا يصنعون؟ فهم يشهدون أن لا إله إلا الله عن كره خوفاً من السيف، وقلوبهم مع الكفار.
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] فواجب على المسلم أن يكون حازماً في أمره غير متردد وغير شاك في أموره، فإن التردد والتشكك من شأن أهل النفاق ومن شأن ضعفة الإيمان، ولكن كما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: المؤمنين، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] (اعقلها وتوكل) ولا تتردد ولا تتحير ولا تتذبذب، فأهل النفاق مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والمنافق متحير، لأن همته الدنيا يريد أن يحافظ عليها بأي حال وعلى أي وجه.
قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [النساء:143] أي: ومن يصرفه عن طريق وسبيل الحق، فالضلال: الذهاب والبعد عن القصد، يقال: ضل الشخص عن الطريق، إذا ذهب عنه وابتعد.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ) أي: من يصرفه الله عن طريق الهداية والحق، ((فلن تجد له سبيلاً)) طريقاً يصل به إلى الحق والهداية، هذا هو المعنى، أي: أن للحق طريقاً وسبيلاً، هذا الطريق هو طريق الحق، من أضله الله عنه فلن تجد له سبيلاً يدخل منه إلى هذا الطريق.
وقد أفادت الآية رداً على القدرية الذين يقولون: بأن الإنسان مخير يفعل ما يريد، وما الرب عندهم إلا كالطبيب الناصح، قالوا: إن الإنسان يختار لنفسه ما يشاء من طريق الهداية أو طريق الغواية.
أما أهل السنة فأثبتوا للعبد اختياراً، لكن هذا الاختيار خاضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلا يجري شيء في الكون عن غير رضا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يضل من يشاء، وهو الذي يهدي من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143] .(21/14)
التكاسل في القيام إلى الصلاة من علامات النفاق
وقوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] فيه رد قوي على المرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: إن (لا إله إلا الله) تكفي بلا عمل، فهؤلاء أهل النفاق لم يكونوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فحسب، بل كانوا يصلون، لكنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
فإذا كان أهل النفاق يعذبون وهم يصلون فتارك الصلاة كذلك، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] ، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] كل هذه النصوص تتنزل على تارك الصلاة.
قال الله سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] : من المقرر أن المسلم عليه أن يخالف أهل الشرك والنفاق في سمته وهديه ودله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على مخالفة أهل الشرك، وكان يجعل للإسلام سمتاً وهدياً ودلاً ومنطقاً خاصاً به، إذا كان ذلك كذلك فلا ينبغي لك إذا سمعت المؤذن أن تقوم كسلاً، فإن الكسل عند القيام للصلاة من صفات أهل النفاق.
وفي صحيح مسلم أن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم -وفي رواية: في صلاة الفجر- إذا سمع المؤذن وثب إلى الصلاة) يقول الراوي: ولا والله ما قالت أم المؤمنين قام إلى الصلاة، ولكن قالت: (وثب إلى الصلاة) ، فالقيام إلى الصلاة قيام الكسلان هو قيام المنافقين، ونحن مأمورون بترك التشبه بكل من هو بعيد عن طريق الله من الكفار واليهود والنصارى وأهل النفاق، بل منهيون عن التشبه بالأعراب كذلك.(21/15)
المراد بخدعة الله تعالى للمنافقين
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] خدعتهم لأولياء الله: أنهم يشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله ويخفون الكفر في قلوبهم، فيظنون أنهم يخادعون أهل الإيمان، ويظنون أنهم يخادعون الله.
وخدعة الله لهم كما ذكرها كثير من أهل التفسير: أن الخدعة هي التي ذكرت في سورة الحديد، قال الله سبحانه وتعالى فيها: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] حيث يوزع النور على أهل الإيمان كل بحسبه، وعلى كل من شهد أن لا إله إلا الله على قول، فيمشي المؤمنون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأمامهم وخلفهم، فيأتي نور أهل النفاق فيُطفأ، ويقول أهل الإيمان: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] فيبقى نور أهل الإيمان، فيمشي أهل الإيمان وراء نورهم الذي يسعى من بين أيديهم ومن خلفهم.
فأهل النفاق ينادون أهل الإيمان: يا أهل الإيمان! أمهلونا، وانظرونا نقتبس من نوركم، انظرونا أي: انتظرونا نمشي وراءكم نستضيء بنوركم في هذه الظلمات -يوم القيامة- {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] وحتى تبرأ ساحة أهل الإيمان من الكذب لم يقل: قال أهل الإيمان ارجعوا وراءكم، بل قال: (قيل ارجعوا وراءكم) (قيل) والله أعلم من القائل! {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] أي: ارجعوا إلى مكان النور الذي كان يقسم فيه فالتمسوا نوراً، فيهرول أهل النفاق إلى حيث كان النور يقسم، فلا يجدون نوراً، فيأتون كرة أخرى إلى أهل الإيمان كي يلحقوهم، فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
فهذه هي خدعة الله التي يخدعهم بها، فيضرب بينهم بسور له باب: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] أهل الإيمان بما هم فيه من نعيم وبما معهم من نور، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فينادونهم من خلف هذا السور {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] كما في هذه الآية {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:141] ، {وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] أي: شككتم في بعث الله {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:14] الآيات قال الله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فهذه هي الخدعة التي يُخدع بها أهل النفاق يوم القيامة كما أطلق ذلك كثير من أهل التفسير وتواردوا عليه.(21/16)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ.)
ثم جاء التحذير مرة ثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:144] أي: يا من شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: {لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] .
فيا عبد الله! لا تتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإنك إن فعلت جعلت لله منفذاً يدخل عليك منه لتعذيبك، وجعلت هناك تسلطاً يُتسلط به عليك لمخالفتك أمر الله عز وجل.
وهذا واضح، قال الله سبحانه: (أَتُرِيدُونَ) أي: بمصادقتكم وموالاتكم للكفار (أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) يعني: طريقاً لتعذيبكم؛ لأنك إذا كنت مستقيماً على شرع الله وعلى أمره فلن يعذبك الله! فإذا كنت مطيعاً لله فلماذا تعذب؟! الله يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] أي: ماذا يستفيد الله من تعذيبكم؟ لكن إذا بدأت في المعصية فالمعصية سبب لنزول العذاب عليك.
فالآية فيها أنكم إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين جعلتم لله عليكم سلطاناً مبيناً.
وإن أردت أن تفسرها أو تنزلها كما تنزل أمور الدنيا فإنك تقول: جعلت لشخص حجة عليك كي يعذبك، فمثلاً: إذا قال لك شخص: لا تفعل كذا، فإن فعلته فستضرب.
فأنت لم تفعل لم يكن له سلطان عليك لماذا يضربك؟ لكن إن فعلت جعلت له عليك سبباً بسببه يتسلط عليك، ورب العزة له المثل الأعلى.
وتكررت الآية علّ معتبراً يعتبر أو متعظاً يتعظ! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] .(21/17)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] وهم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين معتقدين سلامة منهجهم ودينهم.
فأفادت الآية الكريمة أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- دركات، وأن أهل النفاق في الدرك الأسفل من النار.
{وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] أي: لن تجد لهم من ينصرهم ويغيثهم وينقذهم منها.
ومما يؤيد أن النار دركات قول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] .
ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى -أو أهون- أهل النار عذاباً الحديث) فمفهوم المخالفة يفيد أن هناك أنواعاً من العذاب، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] وهذا واضح جلي.
{وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] ينصرهم.(21/18)
تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بالله.)
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء:146] والآيات إذا ذكرت عملاً من الأعمال وأنه خطأ، فمن رحمة الله أنه يفتح باب التوبة للتائبين بعد هذا الخطأ، قال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39] ، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4-5] ، ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] .
فهنا فُتح باب التوبة لمن والى الكفار يوماً من دهره ويوماً من زمانه، ثم أراد أن يتوب، فقال سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] فالآية الكريمة أفادت أنه لا يقبل من كل تائب أن يقول: أستغفر الله؛ فحسب، أعني: كلمة (أستغفر الله) ، أو: اللهم اعف عني وتب عليَّ، والإقلاع عن الذنب قد يكون كافياً في بعض الأحيان لكن في أحيان أخر لا بد من أشياء أخر مع الاستغفار.
مثلاً: شخص عالم سئل سؤالاً وهو يعرف وجه الإجابة الصحيحة فيه، فقال إجابة غير التي يدين الله بها، فغلط عن عمد، وسار الناس على طريقه، فهذا لا يكفيه أن يقول: أستغفر الله، فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:150-160] فعليه أن يبين للناس الشيء الذي غشهم فيه إن كان يستطيع، أما إذا لم يكن بوسعك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فموالاة الكفار تستلزم التوبة منها {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [النساء:146] فإن كنت أفسدت شيئاً بموالاتك للكفار فعليك أن تصلحه.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146] أي: وهذه من خصال المؤمنين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146] أي: لا تحزن يا من فاتك شيء من موالاة الكفار، فإنك قد دخلت في عداد المؤمنين، والله لن يضيع المؤمنين فسوف يؤتيك الله عز وجل أجراً عظيماً.
فالآية الكريمة لما ختمت بقوله تعالى: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146] كانت بمثابة التسلية والتعزية لمن فقد شيئاً من جراء مناهضة الكفار وترك سبيلهم، فلما فقد الشخص شيئاً من متاع الحياة الدنيا عندما ترك موالاة الكفار، فرب العزة يبشره بأن عنده العوض، فكأنه يقول: يا من فعلت ذلك قد دخلت في عداد المؤمنين، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً، وهذا ونحوه من باب التسلية لمن ترك سبيل الكفر ودخل إلى سبيل الإيمان.
والحمد لله رب العالمين.(21/19)
تفسير سورة النساء [148-156]
الجهر بالسوء يكون على قدر المظلمة التي ظلم بها العبد، وهذا هو العدل، ولكن الإحسان هو العفو والكتم، وقد تحدثت هذه الآيات البينات عن واقع بني إسرائيل مع أنبيائهم، وأنهم قتلوا الأنبياء، ونقضوا المواثيق والعهود، فلعنوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.(22/1)
تفسير قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ.)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] .
هذه الآية فيها بيان أن الأصل في السوء من القول أنه لا يتحدث به، فالقول السيئ الذي يسيء إلى عباد الله، والذي ينشر المنكر والفاحشة فيهم، والذي يكون سبباً للطعن فيهم؛ كله حرام ولا يجوز، ولا يحبه الله سبحانه وتعالى.(22/2)
إثبات صفة الحب لله تعالى
في الآية إثبات صفة الحب لله، فالله سبحانه وتعالى يحب، والله سبحانه وتعالى يبغض، فصفة الحب والبغض ثابتتان لله عز وجل، لكن على قاعدة أهل السنة والجماعة أنه حب يليق بجلاله سبحانه، وكذلك بالنسبة للبغض.
والحب والبغض ثابتان في حديث البخاري ومسلم: (أن الله عز وجل نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، -وفي الحديث: وإذا أبغض عبداً قال: إني أبغض فلاناً فأبغضه) .(22/3)
الستر على العباد مطلب شرعي
قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] فكل ما كان سيئاً من القول فالجهر به لا يحبه الله، وهذه الآية تبين لنا أن صفحة الحوادث التي تفرزها الصحف مخطئة شرعاً، وينبغي أن تحذف من صحف المسلمين؛ لأن هذا فيه نشر للرذيلة بين العباد، فإذا أذنب شخص ذنباً أو ارتكب كبيرة، كأن قتل نفساً بغير حق، أو زنا أو سرق، فباب التوبة مفتوح للعبد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) .
فإذا تاب هذا المذنب وكانت الصحف قد شوهت صورته على صفحاتها، وأحب أن يرجع إلى الله، فإنه يجد الصحف وصمة عار عليه، حيث إنها قد سجلت اسمه ونشرت خبره على رءوس الأشهاد، وصفحات الحوادث والاهتمام بها شيء محدث دخيل في الدين، إذا نشر للعام والخاص يقرءونه، فالله لا يحب نشر الرذيلة؛ لأن فيها سوءاً من القول، وفيها تشهيراً بالعباد، وتجريحاً لهم، فحتى أهل التقى تصدر منهم معاصٍ وكبائر، ولكن الستر مطلب شرعي حث عليه رب العزة في كتابه وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.(22/4)
حدود المجاهرة بالسوء
قال تعالى: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : فمن ظلم جاز له أن يجهر بقدر مظلمته ولا يزيد، فيجوز له أن يقول: فلان ظلمني، أو أكل مالي، أو انتهك عرضي وذلك بقدر المظلمة، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته) ؛ لأن الذي عليه الدين وهو يماطل في أدائه، فإنه يجوز لصاحب المال أن يتكلم فيه، ويقول: فلان أكل مالي، أو ماطلني، أو أخلف معي الميعاد وهكذا.
قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا) أي: بالقول الذي قال (عَلِيمًا) أي: بالذي ظُلم من الذي لم يُظلم.(22/5)
تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ.)
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء:149] ، وختام الآية بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} : فيه إرشاد إلى العفو، وإلى سلوك سبيل العفو، فختم الآية ببعض الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى له مدلول.
وختمها بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) أي: اعفوا أيها الناس فإن الله عفو، فلله صفات يحب أن تكون في عباده، وصفات لا يحب أن تكون إلا له وحده سبحانه وتعالى، ومن الصفات التي يجب الله أن تكون في عباده أنه: كريم يحب الكرم، رحيم يحب من عباده الرحماء، عفو يحب من عباده العافين عن الناس.
ومن الصفات التي لا يحبعل لهم أنه: جبار لا يحب لعباده أن يكونوا جبارين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته) .
ومن صفات الله التي يحب أن تكون في العباد، أنه جميل يحب من عباده التجمل: (إن الله جميل يحب الجمال) وهكذا.
فصفة العفو يحبها سبحانه وتعالى في العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .
فعلى هذا فمعنى هذه الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] : أنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول إن ظلم، وإن عفا فهو خير له؛ لأن الله عفو، فالآية أرشدت إلى معنى متكرر في عدة آيات نسوق منها ما تيسر، وكلها تدور على تأصيل القاعدة الكامنة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:90] .
العدل: هو أن تنتصر بقدر مظلمتك.
والإحسان: أن تعفو.
وهناك أقوال أخرى في تفسير العدل والإحسان، لكن في هذا الموضع العدل: هو الانتصار بقدر المظلمة، والإحسان: العفو، أي: إذا ضربك شخص فالعدل أن تضربه كما ضربك، والإحسان أن تعفو عنه، وإذا تكلم شخص في عرضك جاز لك أن تتكلم في عرضه بالقدر الذي تكلم به فيك، والعفو أفضل، ومن أدلة ذلك: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:90] ففيه إرشاد إلى الإحسان.
- ومنها قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] إحسان.
- ومنها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] عدل، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} [الحج:60] الشاهد هو العفو {غَفُورٌ} [الحج:60] فهو إحسان.
- ومنها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] كله عدل، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] إرشاد إلى التصدق والعفو، فهو إحسان.
فهذا المعنى ثابت في عدة آيات، فإن الله يأمر بالعدل، وبعد أن يأمر بالعدل يرشد إلى الإحسان، فإن تكلم في عرضك فالأفضل لك والأكمل أن تترك الكلام في عرضه فهو خير لك، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى ما حاصله: إن الله عز وجل قال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، فإذا شتمك أحد أو سبك فشتمته وسببته بقدر ما سبك به وشتمك به، ثم اعتدى عليك بعد ذلك، فالله وعد أنه سينصرك، قال: فمن باب أولى الذي ترك حقه كله لله.
أي: إذا كنت قد انتصرت فسينصرك الله، وإذا تركت حقك كله لله فأنت تستحق مزيداً من نصر الله عز وجل لك، فالآية وإن رخصت للمظلوم أن ينتصر بقدر مظلمته لكنها أرشدت إلى العفو، فهو خير وأفضل.
قال الله سبحانه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] ، قال بعض المفسرين: كنت في بلدة إذا سمعنا عن شارب للخمر استنكرناه جميعاً في القرية، وإذا سمعنا عن قاتل ضربته كل القرية، فلما انتقلنا إلى بلاد يباع فيها الخمر في الطرقات قلّت كراهيتي لصاحب الخمر شيئاً فشيئاً حتى تكاد تتلاشى؛ لكثرة شيوع شرب الخمر.
فكذلك الكلام على الحوادث في صفحات الصحف ومجلة الحوادث برمتها، إذا قرأت فيها اليوم عن رجل زنى، فيأخذك الغضب وتأخذك الغيرة؛ لأن هذا زنا، فإذا استمرت هذه الصفحة على هذه الوتيرة شهراً كاملاً، كل يوم فلان زنى، قلّت كراهيتك للزاني، وأصبح الخبر عادياً، فيعمد الشياطين إلى الانتقال إلى شيء آخر، وهو: فلان زنا بمحرم من محارمه، فتستبشع الحادثة لأول وهلة، فيضربون على هذا الوتر شهوراً وسنوات إلى أن تصبح شيئاً عادياً عندك، فيأتون بطامة أكبر: فلان زنى في الطريق أمام الناس، فتستبشع ذلك أولاً ثم بعد ذلك يهون، فهكذا تروج هذه الصحف الفواحش والعياذ بالله.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء:149] أي: عنكم إذا عفوتم، {قَدِيرًا} [النساء:149] أي: على الانتصار ممن ظلمكم.(22/6)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] .
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تقدم الكلام على معنى الكفر، ومن معانيه: التغطية.
ومنه قول الشاعر: (في ليلة كفر الغمام نجومها) ، أي: غطى الغمام نجومها.
وقوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] أي: الذين يضعون البذر في الأرض ويغطون عليها، فسموا كفاراً؛ لتغطيتهم البذرة في الأرض.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150] أي: كاليهود والنصارى، فاليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150-151] : فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولما قالت اليهود عن جبريل عليه السلام: إنه عدو اليهود من الملائكة، أنزل الله سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97-98] ، فالذي يكفر برسول واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بالله، والذي يكفر بملك واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بجميع الملائكة وكفر بالله.
ومن ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] مع أنهم كذبوا هوداً فقط في زمانهم، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] مع أنهم كذبوا نوحاً فقط، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} [القمر:33] ، إلى غير ذلك من الآيات.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] أي: طريقاً، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:151-152] أي: صدقوا المرسلين، {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:152] .
أي: وسيغفر لهم ذنوبهم وسيرحمهم.
فيؤتيهم أجورهم، أي: يثيبهم على ما صنعوا من خير، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) أي: سيغفر لهم ما ارتكبوه من سيئات وسيرحمهم، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .(22/7)
تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ.)
قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي مقابلهم العرب فإنهم أميون.
قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] ويطلق عليهم أيضاً أهل الذكر، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: اسألوا أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون.(22/8)
معاني السلطان في القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:153] : السلطان يطلق أحياناً على الملك، وأحياناً يطلق على الحجة، وقد تقدم شيء من ذلك في تفسير قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وذو سلطان مقسط متصدق) ، فالسلطان هنا يقصد به الملك، لكن قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ، وقوله تعالى: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} [يوسف:40] ، المقصود به الحجة، والله أعلم.(22/9)
عفو الله عن بني إسرائيل حين تابوا
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} [النساء:153] ، أي: عفونا عن قولهم: (أرنا الله جهرة) ، وعفونا عن اتخاذهم العجل من بعد ما جاءتهم البينات بعد توبتهم.
وقد يقول قائل: إن هذه الآية فيها نوع إشكال، وهو: أن الله عز وجل عفا عن عبادتهم العجل وهو شرك، فهل الشرك يغفر، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ؟ والإجابة على هذا التساؤل: أن الشرك يغفر إذا تاب منه صاحبه في الدنيا، أما إذا مات مشركاً فلا يغفر هذا الشرك، فإذا أشرك العبد بالله ثم تاب من هذا الشرك تاب الله عليه، فبعض أصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام كانوا مشركين، فلما أسلموا تاب الله عليهم، فكذلك بنو إسرائيل عبدوا العجل، ثم لما أمرهم الله بصورة من صور التوبة وهو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] ، كان الرجل يمر بأخيه فيقتله، ويمر بولده ويقتله، ويمر بأبيه فيقتله، حتى حصلت فيهم مجزرة عظيمة، فتاب الله عليهم، وتوقف سفك الدماء فيما بينهم، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] .
فقوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:52] أي: بعد توبتكم منه، وإلا فإن الشرك لا يغفر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.(22/10)
من جرائم بني إسرائيل
قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153] : وهذه من جرائم بني إسرائيل، أنهم يطلبون رؤية الله عز وجل جهرة، ويعبدون العجل: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153] أي: من بعد ما أغرق الله عدوهم، واستخلفهم في الأرض، وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها، وورثوا أموال الفراعنة، ومع ذلك كله مع أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام كان بينهم؛ لكنهم عبدوا العجل، وقال قائلهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] .
يقول لهم قائلهم السامري: إن موسى ذهب يكلم ربه ثم نسي مكان ربه، فها هو ربه قد جاءكم هاهنا وهو العجل، فعبدوه، وكادوا يقتلون هارون عندما نصحهم وذكرهم، قال هارون لموسى: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] .
فجرائم اليهود متوالية، ليس الآن فحسب، بل في زمن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، اتخذوا العجل إلهاً بعد مجاوزتهم للبحر كما قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] فبمجرد ما جاوز بهم موسى عليه الصلاة والسلام البحر وأغرق الله عدوهم لكنهم كما قال الله: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] فطلبوا الشرك والكفر والعياذ بالله.(22/11)
رؤية الله تعالى في الدنيا
قال الله سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] ، ما هو سؤالهم الأكبر من ذلك؟ قال الله تعالى: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] ، وهذا في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: عياناً.
قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] ، ورؤية الله عز وجل في الدنيا جهرة مستحيلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد أنذر قومه المسيح الدجال، ألا إني أنذركموه، إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) .
ولقد سأل موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية، فقال الله عز وجل: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] فرؤية الله عز وجل في الدنيا مستحيلة.
قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] أي: عياناً، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] وهذا فيه دليل على أن السؤال أحياناً يكون فيه ظلم وإثم، مثل سؤال الكفار: (أرنا الله جهرة) فإنه اعتبر ظلماً، وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] ، فكان ظلمهم هو طلبهم رؤية الله جهرة.
لكن قد يقول قائل وقوله حسن: إن الآيات يبين بعضها معنى بعض، فالظلم هو تعليق الإيمان على رؤية الله تعالى في الدنيا.
ولقائل آخر أن يقول: إن مجرد السؤال على هذا النحو ظلم؛ لآية النساء التي بين أيدينا: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] .
لكن آية البقرة بينت أن الله عفا عنهم بعد ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56] .(22/12)
الحث على التأسي بالسابقين الصالحين
قال الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] أي: فلا تستغرب ولا تتعجب من سؤالهم، فإنهم قد سألوا موسى أكبر من سؤالهم لك.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى العلة من عدم إنزال الكتاب من السماء، فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] أي: حتى لو نزَّل لهم كتاباً من السماء، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي: أمسكوا به بأيديهم، (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فالآيات لا تنفع من ختم الله على قلبه.
قال الله عز وجل: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] وموسى عليه الصلاة والسلام قد سئل مسائل عظيمة، ولما أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153] فيه تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس من التسلية المعلومة عند الناس، بل التسلية بمعنى المواساة، كما قالت الخنساء في بيت شعري لها مشهور: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي يعني: أنها تتأسى أو تتسلى بهم وببكائهم على أخيها الفقيد.
فهذا الاشتراك في المصيبة يهونها في الدنيا، أما في الآخرة فلا، قال سبحانه: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] .
فجاءت جملة آيات في كتاب الله تحث على التأسي بالسابقين، وتواسي الأنبياء وأهل الصلاح وتسليهم، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] أي: اصبر كما صبروا يا محمد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلماً أصحابه لما جاء بعضهم يشكو إليه ما حلّ بهم: (ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟! فقال: إنه قد كان من قبلكم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشقه نصفين، ولا يصده ذلك عن دينه) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة: (يا بنية! إنه قد حلّ بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً) .(22/13)
تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ.)
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] الطور: هو جبل الطور.
وقال بعض العلماء: الطور هو الجبل الذي ينبت عليه نبات أخضر.
ومن العلماء من قال: إنه طور سينا.
وهناك أقوال أخرى.(22/14)
أخذ الميثاق على بني إسرائيل
قال تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:154] : أعطوا العهود والمواثيق على ألسنة أنبيائهم، وأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء؛ لأن بني إسرائيل خاصة كانت تسوسهم أنبياؤهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كلما هلك نبي جاء نبي آخر، ومن ثم قال زكريا عليه السلام عندما لم يبعث في بني إسرائيل بعده نبي: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] أي: خفت الموالي أن لا يقيموا دينك يا رب.
(خفت الموالي) : أولاد عمي وأقاربي أن لا يقيموا دينك، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] ، فكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، فأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء: على أن لا يعتدوا في السبت.
فعلى المسلمين أن يعتبروا ويتعظوا، فإذا جاء اليهودي إلى مصر وأعطى لرئيس مصر عهوداً ومواثيق، فجدير برئيس مصر أن يعلم أن هذه العهود والمواثيق لا قيمة لها عند اليهود أبداً، فإنهم قد غدروا بالأنبياء!(22/15)
اعتداء بني إسرائيل يوم السبت
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] أي: بسبب نقضهم الميثاق، {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] ، فاعتدوا في السبت.
والسبت معناه الراحة والسكون، ومنه قولهم: في سبات عميق، فالسبت من معانيه الراحة، وكان محرماً على الإسرائيليين العمل يوم السبت، كما في قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت} [الأعراف:163] ، وكما هنا: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154] .
وقال تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فكان الاعتداء في السبت هو اصطياد السمك والحيتان يوم السبت.
{وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] ، فإن قال قائل: لماذا نهاهم الله سبحانه وتعالى عن الاعتداء في السبت؟ فالإجابة: أن الله عز وجل يكلف بما يشاء من التكاليف اختباراً للعباد، وأحياناً يختبرهم ويبتليهم لفسقهم، كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] ، فرب العزة سبحانه وتعالى يبتليهم لفسقهم، ويكلفهم بتكاليف ابتلاء لهم.
قال الله لهم: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْت} [النساء:154] أي: لا تعتدوا ولا تقربوا الأعمال يوم السبت، فأقروا بذلك، فأراد الله أن يبتليهم بفسقهم، فأرسل إليهم الحيتان يوم السبت شرعاً، أي: ظاهرة على وجه الماء، قال تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] فاعتدت طائفة منهم.(22/16)
كيف رفع الطور فوق بني إسرائيل?
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء:154] ، كيف رفع الطور؟ ارتفع الجبل من على الأرض وتعلق في السماء وهدد به الإسرائيليون أن يسقط عليهم، فلما رأوا ذلك خروا سجداً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] .
فالجبل نُتِقَ فوقهم، كأنه مظلل فوقهم، وهددوا أن يسقط عليهم، فمن أهل العلم من قال: خر الإسرائيليون سجداً على أعينهم اليسرى ونظروا بأعينهم اليمنى إلى الجبل خشية أن يسقط عليهم.(22/17)
القرية التي أمر الله بني إسرائيل بدخولها
قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء:154] : أي: باب القرية التي أمرهم الله عز وجل بدخولها، قيل: إنها بيت المقدس.
وقيل: إنها القرية التي أمرهم نبيهم بدخولها، وهي المذكورة في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:21-22] .
فلما امتنعوا عن دخولها ضرب عليهم التيه في الأرض أربعين سنة، فتاهوا في الأرض، ثم تاب الله عليهم، وأمروا بدخول القرية شاكرين لله على نعمائه وشاكرين لله على ما فتح عليهم.(22/18)
تحريف بني إسرائيل للكلم عن موضعه
قيل لبني إسرائيل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] فدخلوا مبدلين ومغيرين لأمر الله عمداً، دخلوا يزحفون على أستاههم بدلاً من أن يدخلوا ساجدين، وقالوا: حبة في شعرة، مكان حطة، وفي بعض الروايات: قالوا: حنطة.
وما معنى قولهم: حنطة مكان حطة؟ معنى حطة، أي: حط عنا خطايانا يا رب، لكنهم اتخذوا الأمر للسخرية، فقالوا: حنطة؛ تبديلاً وكفراً.
أو قال قوم آخرون منهم: حبة في شعرة.
وقد ورد الأثران في ذلك، فهو محمول على أن بعضهم قال: حطة، وبعضهم قال: حبة في شعرة، والقصد أن هؤلاء وأولئك حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى، وكلهم ما دخلوا سجداً بل دخلوا يزحفون على أستاههم عياذاً بالله.
أما أهل الإيمان فإذا فتح الله عليهم البلاد صلوا صلاة الشكر، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند فتح مكة هي صلاة الفتح، واستدلوا لذلك: بأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه روي عنه أنه لما فتحت مدائن كسرى صلى ثماني ركعات.
وعندنا أهل الإسلام إذا بشر الشخص بأمر يسره خر ساجداً لله سبحانه، فلما بشر كعب بن مالك بتوبة الله عز وجل عليه خر ساجداً، فيشرع سجود الشكر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في سجدة ص: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) ، فسجود الشكر مشروع لنا، وقد أمر الله بني إسرائيل بذلك: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] أي: باب القرية التي فتحها الله لكم، فغيروا وبدلوا وحرفوا كما هو واضح.
ومن أهل العلم من قال: إن قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] المراد به: ركعاً؛ لأنهم لا يقدرون به يدخلوا ساجدين؟ قالوا: لأن السجود والركوع قد يأتيان في الكتاب العزيز بمعنى واحد، فيأتي الركوع بمعنى السجود والسجود بمعنى الركوع، والركوع بمعنى الصلاة بالكلية، كما قال تعالى: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] أي: صلي مع المصلين، ونحو ذلك.
فمن العلماء من قال: إن المراد بالسجود هنا الركوع.
ومن العلماء من أبقاها على ظاهرها.
والله تعالى أعلم.
لكن لقائل أن يقول: إن الركوع إذا اقترن بالسجود فللركوع معناه وللسجود معناه المعلوم لدينا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] ، فالركوع له معناه والسجود له معناه، لكن إذا انفصل أحدهما فإنه يحمل على المعنيين معاً، فقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] يدخل فيه الركوع على قول بعض العلماء.(22/19)
تفسير قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ.)
قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] : دلت الآية على أن بني إسرائيل أو اليهود نقضوا ميثاقهم مع الأنبياء ومع الله سبحانه وتعالى، وقد حدث أن نقضوا عهوداً ومواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا يوفون بعهد ولا لهم ميثاق، فقد غدروا بأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام وخانوهم وقتلوهم، ولكن من يفقه ومن يعقل! قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:155] والتقييد: (بغير حق) خرج مخرج الغالب، فالأنبياء لا يفعلون شيئاً حتى يقتلوا به، أو حتى لا يقال: مخرج الغالب، يقال: من باب تبشيع الجرم، لأنهم قتلوا الأنبياء مع أن الأنبياء لم يفعلوا شيئاً يقتلون به.
قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء:155] .
للعلماء في معناه قولان: أحدها: أن قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم من علمك، فهي أوعية للعلم.
وثانيها: أنهم يريدون أن قلوبهم طمست فلا يصل إليها الخير.
والقول الأول تداوله كثير من أهل التفسير: أعني أن مرادهم بقولهم: (قلوبنا غلف) أنها أوعية للعلم فلا يصل إليها شيء من علمك يا محمد، أو لسنا في حاجة إلى علمك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83] {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85] .
قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] أي: هي ليست بمغلقة لأنها امتلأت علماً، بل مغلقة لأن الله طبع عليها وختم عليها فلا يصل إليها شيء من الخير بسبب كفرهم.
فإذا قلتم يا يهود: إن قلوبكم غلف، أي: أوعية قد امتلأت علماً فلا يدخل إليها شيء من الذي تأتي به يا محمد.
ف
الجواب
أن قلوبكم تغلفت، لكن ليس لأنها امتلأت علماً، بل لأن الله هو الذي طبع عليها بسبب كفركم {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155] .(22/20)
تفسير قوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ.)
قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] : وهذا البهتان العظيم هو وصفهم لمريم عليها السلام بالزنا، فقد رموا مريم عليها السلام بالزنا بـ يوسف النجار ووصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام وبرأه الله مما قالوا حين وصفوه بأنه ولد زنا صلى الله عليه وسلم.
وفقنا الله وإياكم إلى الالتزام بالشريعة، والتمسك بها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله.(22/21)
تفسير سورة النساء [166-176]
الحذف قد يرد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويقدره العلماء بتقديرات مختلفة.
وهناك من المفسرين من قال بأن المقصود بالحق الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بأنه القرآن، ومنهم من قال بأنه التوحيد، ومنهم من قال بأنه الإسلام، وكلها معانٍ يرجع بعضها إلى بعض، وقد يذكر المفسرون بعض أفراد العموم بينما العموم يضم ذلك كله.
وقد اشتمل هذا المقطع من سورة النساء على بيان معنى الكلالة، والأحكام المتعلقة بها، وهناك فرق بين الكلالة التي وردت في أول السورة وفي آخرها، وغير ذلك.(23/1)
تفسير قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ.)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:(23/2)
إثبات صفة العلم لله عز وجل
(أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) : فيها إثبات صفة العلم لله، وقد تواردت على ذلك أدلة لا حصر لها من الكتاب والسنة، لكن ما المراد بقوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ؟ منهم من قال: أي أنزله عليك وهو يعلم أنك أهل لإنزال القرآن عليك، فهو يعلم حالك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، هذا قول عدد من المفسرين، أن قوله: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي: أنزله عليك وهو يعلم أنك أهل لنزول القرآن عليك.(23/3)
تسلية الله لرسوله مقابل تكذيب الكفار
وفي قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: إن كفر هؤلاء بالذي نزل عليك يا محمد، فاعلم أن هناك من يشهد لك بصحة ما نزل عليك وهو الله سبحانه وتعالى، وفي هذا فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي الآية تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهها: أن هناك من هو خير من الكفار يشهد لك إذا كفر هؤلاء بالكتاب.
وهذه الآية في التسلية كقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] ، وكقوله تعالى في باب التسلية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] مع الفارق.
(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) شهادة الملائكة مقابل تكذيب أهل الكفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فشهادة الله وحدها تكفي: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] .
والآية كقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، وكانت موالاة الله تكفي؛ لكن ضم إليها: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] .
أي: فمع أن شهادة الله عز وجل لوحدها تكفي، لكن إن تظاهرتم عليه فهناك من الملائكة من يتظاهر ضدكم، وفوق ذلك كله رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي: بصدق ما أنزل إليك.(23/4)
تقدير المحذوف في قوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ.)
فيقول الله سبحانه وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] .
قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) من العلماء من قدر هنا محذوفاً فقال: وإن لم يقر لك الذين كفروا بالشهادتين وكذبوك فالله يشهد بما أنزل إليك فقد أنزله بعلمه، بني على أن هناك حذفاً في السياق.
والحذف يرد كثيراً في مواطن من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويقدره العلماء بتقديرات مختلفة، فمثلاً: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] ، أقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبشاهد ومشهود، ما هو جواب القسم؟ للعلماء فيه وجهان: وجه يقول: إن جواب القسم مذكور في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] ، أي: لُعن أصحاب الأخدود، فالله يقسم بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد والمشهود، أن أصحاب الأخدود لعنوا، أي: لعن الذين خدوا الأخاديد للناس.
ومنهم من قال: إن جواب القسم هو قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] جوابها: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] .
ومن العلماء من قال: إن جواب القسم محذوف، وهو قول الطبري رحمه الله تعالى، فإنه قال: فُهم جواب القسم من السياق.
فمن العلماء من قدر المحذوف، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1-3] ، لتُختبرُن يا أصحاب محمد كما اختبر من قبلكم من المؤمنين، ولينتقمن الله ممن ظلمكم وفتنكم كما انتقم الله سبحانه وتعالى ممن ظلم المؤمنين وخد لهم الأخاديد.
فأحياناً يكون في الكلام حذف يفهم من السياق، ولا يقولن قائل: إن الحذف لا يوجد في كتاب الله، فالإجابة على ذلك: أن كتاب الله نزل بلسان عربي مبين، فما تحتمله لغة العرب يحتمله كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه قد نزل بلغة العرب.
فقوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) أي: إن لم يقر هؤلاء الكفار بالقرآن ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن القرآن نزل من عند الله، فالله يشهد بما أنزل إليك.(23/5)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] : من العلماء من قال: الآية عامة في كل كافر يصد عن سبيل الله، ومنهم من قال: هي خاصة باليهود؛ لأنهم كانوا يكتمون صفة محمد عليه الصلاة والسلام، ويكتمون أمر محمد عن الناس فيصدون بذلك عن سبيل الله، كما قال تعالى في آيات سبقت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51] ، فكانوا يصدون عن سبيل الله ويقولون لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلاً من محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] أي: ابتعدوا عن طريق الصواب ابتعاداً شديداً.(23/6)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} [النساء:168] قال بعض العلماء: بكتمان صفة محمد، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] .(23/7)
كيفية الجمع بين قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) وبين الواقع من إيمان بعضهم
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:168] كيف ذلك وهناك كفرة وظلمة قد هداهم الله سبحانه، فكيف يوفق بين الآية الكريمة: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] وبين الواقع الذي حدث وأنه قد آمن أقوام كفرة ظلمة؟
و
الجواب
أن الآية محمولة على الذين كتب عليهم الشقاء وهم في بطون أمهاتهم، أي: فالذين كتبت عليهم الشقاوة وهم في بطون أمهاتهم {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] أي: سيموتون على الكفر ولم يغفر لهم، وهم الذين غلبت عليهم شقوتهم كما قالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] .
وقولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] أي: غلبت علينا الشقاوة المكتوبة علينا ونحن في بطون أمهاتنا، كما عليه جمهور المفسرين في هذه الآية، فجمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] قالوا: الشقاوة التي كتبت عليهم وهم في بطون أمهاتهم عن طريق الملك لما كتب شقياً أو سعيداً.
ونحوها قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) .
أما القرطبي فقد سلك في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106] مسلكاً خالف فيه الجمهور وقال: غلبت علينا اللذات والأهواء حتى آلت بنا إلى الشقاوة، ولكن الجمهور خالفوه على النحو الذي ذكرنا.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:168] محمولة على الذين كتب عليهم أن يموتوا على الكفر، فيخرج منها الكفار الذين أراد الله لهم الهداية.
ومن العلماء من أول تأويلاً آخر فقال: إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ما داموا قائمين على كفرهم وظلمهم، ولا ليهديهم سبيلاً إلا إذا سلكوا طريق الهداية، فالله يقول: (من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً) .(23/8)
نوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)
قوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:169] .
(إلا) إلا هنا هل هي من الاستثناء المنقطع؟ أي بمعنى: لكن يهديهم إلى طريق جهنم، أو من المتصل، فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه؟ كلاهما له وجه: فإذا قلت: إن الطريق هنا عامة تشمل جميع الطرق فسيكون الاستثناء من نفس الباب، فإن طريق جهنم هي إحدى الطرق، فتدخل عموم الطرق، وإن قلت المراد بالطريق في قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] طريق الهداية، فسيكون استثناء من غير جنس المستثنى منه، كما قال القائل: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس أو: جاء القوم إلا حماراً، فالحمار ليس من جنس القوم، فالحكم على الاستثناء أنه استثناء منقطع -أي من غير جنس المستثنى منه- يبنى على تفسير الطريق، فإن قلت الطريق في قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] تشمل كل الطرق، فالاستثناء غير منقطع، أي: إلا طريق جهنم أحد أجناس الطرق، أما إن قلت: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً من طرق الهداية، فيكون الاستثناء منقطعاً، وتكون إلا بمعنى: لكن.
وقوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء:168] الهداية هنا هداية الدلالة بأن يدلهم، وهداية التوفيق أيضاً، أي: لم يكن الله ليوفقهم إلى طريق من طرق الهداية.(23/9)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ... )(23/10)
المراد بالحق الذي جاء به الرسول
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170] ما هو الحق؟ من العلماء من قال: الحق هو القرآن، فالمعنى: يا أيها الناس قد جاء كم الرسول بالقرآن من الله سبحانه وتعالى.
ومنهم من قال: الحق هو التوحيد.
وكلها معان يرجع بعضها إلى بعض، سواء قيل بالإسلام، أو بالقرآن، أو بالتوحيد، أو جاء متلبساً بالحق، فكلها معانٍ يرجع بعضها إلى بعض.
{فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:170] أي: الإيمان خير لكم من الكفر، قد يقول قائل: هل في الكفر خير حتى يقال إن الإيمان خير من الكفر؟ فالإجابة: إن هذا كقوله تعالى في سورة الفرقان: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] مع أنه ليس هناك وجه للمقارنة، ولا هناك أي خيرية للكفار.(23/11)
غنى الله تبارك وتعالى عن الخلق
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:170] أي: آمنوا بالرسول وبما جاء به الرسول، {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] أي: كفركم لن يضر الله شيئاً، ولن ينقص من ملك الله عز وجل شيئاً.
ويفسر هذه الجزئية من الآية الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) ، فليس معنى أن يدعونا الله إلى الإيمان أن إيماننا ينفع ربنا بشيء.
{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] أي: هو غني عنكم سبحانه وتعالى وعن إيمانكم.
فإذا قيل: ما هو الرابط بين قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء:170] وبين قوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء:170] ؟ فالإجابة: أن الكفر لن ينقص من ملك الله عز وجل شيئاً، وأن الإيمان لن يزيد في ملك الله عز وجل شيئاً، فهي كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) .(23/12)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.)
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] : الخطاب هنا موجه للنصارى بالدرجة الأولى، ولقائل أن يقول بالتعميم وأن اليهود يدخلون فيه أيضاً، لكن السياق موجه للنصارى بدلالة قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء:171] ؛ لأن النصارى غالت في عيسى عليه الصلاة والسلام أشد الغلو.
(لا تغلوا) : الغلو هو تجاوز الحد، ومنه: (غلا السعر على عهد رسول الله) ، أي: ارتفع السعر وتجاوز الحد، فقوله: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] أي: لا تتجاوزا الحد في دينكم.
فطريق الاستقامة فوقه طرق ضلالة وتحته طرق ضلالة وهو وسط بين هذه الطرق، فهم تجاوزوا الحد في شأن عيسى، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان) ، فالشيطان يغري الشخص، فيعظم النبي حتى يخرج من حد التعظيم إلى حد تأليه الرسول عليه الصلاة والسلام، فيخرجك إلى حد الشرك والعياذ بالله، وتجعل البشر شريكاً لله سبحانه وتعالى.
فالغلو قد يكون بالزيادة في الحق.
ومن العلماء من قال أيضاً: إن الغلو قد يكون بالنقص من الحق كذلك، ومن ثم قال القرطبي: إن الآية عامة في أهل الكتاب يهوداً ونصارى، قال: أما غلو النصارى فكان في تأليه عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما غلو اليهود فكان بالطعن في عيسى عليه الصلاة والسلام، فاتهمت اليهود عيسى بأنه ابن زنا، والنصارى قالوا: هو الله.
فـ القرطبي رأى أن الغلو يشمل الإفراط ويشمل التفريط، وغيره من العلماء قالوا: الغلو هو المبالغة في التعظيم.(23/13)
سبب اختصاص عيسى بأنه روح من الله
قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] : وهذا هو الذي شكك النصارى أو شكك أهل الزيغ، فقالوا بأنه روح من الله، وما دام أنه روح من الله فهو ابن لله، وتركوا المحكم في هذا واتبعوا المتشابه.
أما المحكم: فمنه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59] أي: ما هو إلا عبد، {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ، ومنه قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] ، ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، واتبعوا المتشابه: ألا وهو قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] .
فالإجابة على هذه الجزئية (وروح منه) أن يقال: إن كل البشر روحٌ من الله وليس ذلك لعيسى فقط، بل محمد عليه الصلاة والسلام روح من الله، وكذلك عموم البشر.
فإن قيل: لماذا اختص عيسى بأنه روحٌ من الله؟ فالإجابة: أن هذه الإضافة إضافة تشريف وتكريم لعيسى، كما قال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] مع أن الأرض كلها لله، وكل النوق لله، لكن قيل: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] تكريماً وتشريفاً لهذه الناقة بعينها.
وكما قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] مع أن كل البيوت لله، ولكن قيل عن البيت الحرام خاصة أنه بيت الله تشريفاً للحرم.
وكما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] مع أن الأسواق لله، والبيوت لله، والشوارع لله، وكل ما بين السماء والأرض لله، لكن قيل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] تشريفاً للمساجد، فقوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] تشريف لعيسى صلى الله عليه وسلم، وثم أوجه أخر.
قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171] لأن فريقاً منهم يقول: إن عيسى ومريم ورب العزة سبحانه ثلاثة أقانيم في أقنوم واحد، كالأصبع فيه ثلاث مفاصل، فيعبدون هذا الإله.
قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171] (سبحانه) أي: تنزه.(23/14)
غلو الشيعة واليهود
ومن هذا الباب غلو الشيعة في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فالشيعة -عليهم لعنة الله- يؤلهون علياً ويخطئون جبريل عليه الصلاة والسلام، ويقولون: خان الأمين، ويفترون الكذب على ديننا، ويقولون: القرآن محرف، ويكذبون كذباً قذراً وقحاً، ويقولون: إن عندنا قرآن فاطمة وهو أضعاف قرآنكم الذي بين أيديكم، ليس فيه حرف من قرآنكم، وهي تسطر في أسطور كتبهم، فهم أيضاً لحقوا باليهود والنصارى، فغلوا في شأن علي غلواً كفروا به، فمنهم من أله علياً، ومنهم طائفة ما زالت تقول: علي حي وهو الذي يسير السحب، وعمومهم الآن من عباد القبور والمشركين بالله.
فالشيعة أخذوا من كل الفرق قبائحها، أخذوا من اليهود القبائح التي في اليهود، ومن النصارى القبائح التي في النصارى، ومن المجوس القبائح التي في المجوس، ويجتمع عندهم دين ليس من دين الإسلام في شيء، فمعتقدهم في غاية الزيغ: فمع كتاب الله يتهمون القرآن بالتحريف والقصور، ومع الملائكة يطعنون في جبريل ويقولون: خان الأمين، ومع الرب سبحانه وتعالى يشركون آلهة أخرى، ويقولون: إن الأموات ينفعون ويضرون، ومع أصحاب رسول الله فالصحابة أو جل الصحابة عندهم كفار إلا خمسة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام! وللأسف أن هذه الأفكار الزائغة تجد أُناساً أعمى الله بصائرهم يدعون إليها، وقلوباً كافرة تستقبل مثل هذا الكلام والأكاذيب على الله وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وليس بغريب أن يتواجد في بلادنا مثل هذه الأشكال.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] ، غلو النصارى كان بتأليه عيسى، وغلو اليهود كان باستنقاص عيسى صلى الله عليه وسلم، والغلو له صور متعددة، أما الغلو المذكور في الآية فهو بشأن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سيأتي.
واليهود قد غالت في دينها غلواً آخر، ففي حديث أبي موسى وغيره، أن اليهود كان إذا بال أحدهم ووقعت نقطة من البول على جلده يأتي بمقراض ويقرض الجلد الذي وقع عليه البول، فهذا أمر في غاية التشدد.
وبعض فرقهم تحرم الزواج من المرأة إذا كان بينك وبينها إخوة إلى الجد السابع؛ ففي ديننا لا تتزوج أختك، لكن لك أن تتزوج ابنة عمك، وأما اليهود فلا تتزوج ابنة عمك ولا أي واحدة يربطك بها إخوة حتى الجد السابع.
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] ، وهي قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] أي: كن عيسى فكان عيسى عليه الصلاة والسلام، كن ولداً فكان ولداً، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:50-60] ، فقوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ} [النساء:171] أي: الكلمة التي خلق الله عيسى بها، وهي كلمة كن.(23/15)
إثبات عبودية المسيح لله سبحانه وتعالى
قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} [النساء:172] : الاستنكاف يأتي بمعنى الاستكبار أحياناً، فقوله: (لن يستنكف) أي: لن يمتنع ولن يستكبر، {الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] أي: سيجمعهم إليه جميعاً.
وهذه الآية ختامها خبر يقتضي التهديد: {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} [النساء:172] فكان الجزاء: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] وهذا متضمن تهديداً لهم في ثنايا الحشر، {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] .
ثم قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] : توفية الأجور بأن يجزي الحسنة بمثلها، والزيادة من فضله التضعيف، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فيوفيهم أجورهم على الأعمال ويزيدهم تضعيفاً للحسنات.
ومن العلماء قال: يوفيهم أجورهم كما وعدهم أنه الحسنة بعشر أمثالها، ثم يضاعف لمن يشاء سبحانه وتعالى، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] .
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173] ، والفقرة تبين العقوبة المذكورة وإن تأخرت بعض الشيء.
ومعنى (أليماً) : مؤلماً موجعاً {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173] .(23/16)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174] : فالبرهان الحجة، ومن الممكن أن يقال: إن هذه الحجة هي القرآن، ويمكن أن يقال: البرهان محمد عليه الصلاة والسلام، فالآية تحتملهما.
{قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174] وهو القرآن، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] .
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175] أي: يوفقهم، فالهداية هنا شاملة للتوفيق وللدلالة.(23/17)
تفسير آية الكلالة
قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء:176] أي: يطلبون منك الفتيا، وحذف المستفتى عنه، وهو الشيء المسئول عنه، فالمضمر: يستفتونك في الكلالة.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ، ففهم من الإجابة ماهو المضمر الذي سُئل عنه.
وقد تقدم في أول السورة قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
وهنا قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] .
فقد يقول قائل: كيف يقول في الآية المتقدمة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، وهنا يقول سبحانه: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ} [النساء:176] ، فهذه كلالة وهذه كلالة، فما الفرق؟
و
الجواب
أن الكلالة المذكورة في أوائل سورة النساء إنما هي الأخت لأم أو الأخ لأم، أما الكلالة هنا فالإخوة الأشقاء، فالإخوة الأشقاء يخصهم الحكم الوارد في الآية الأخيرة من سورة النساء (آية الصيف) .
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ، والكلالة جاء جزء من تفسيرها في الآية ألا وهو: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] هلك: بمعنى مات، (ليس له ولد) الجمهور يقولون: ليس له ولد ولا والد، الآية الكريمة ذكرت الوالد يموت وليس له ولد، لكن الجماهير على أن يضاف: (ولا والد) .
الولد ذكر نصاً: (ليس له ولد) في الآية السابقة، والوالد يفهم بإمعان النظر في الآية؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] ، فإذا كان للميت والد فإن الأخت لا تأخذ النصف ولا ترث شيئاً، فترجح قول الجمهور للقرينة المذكورة في الآية، ألا وهي قوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] .
فأصل الكلالة هنا: امرأة ماتت أو رجل مات ليس له والد ولا ولد، لا من أعلى ولا من أسفل، ولا جد ولا حفيد.
وهذه الآية هي آخر آية نزلت على رأي البراء بن عازب، قال البراء بن عازب كما في الصحيحين: (آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176] ) .
ومن العلماء من قال: إن آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] .
أما آخر سورة نزلت فهي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] .
وثمّ قول آخر: أن آخر آية نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] إن قيل: كيف نجمع بين هذه الأقوال؟ فالإجابة: أن كل صحابي أفتى بالذي علمه، فأفتى البراء على الذي بلغه وعلمه أن آخر آية نزلت هي آية الكلالة.
وذهب غيره إلى أنها آيات الربا التي في ختامها: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] .
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176] أي: مات، وكلمة (هلك) بمعنى مات قد تطلق أيضاً على المسلم، قال جابر لرسول الله: (إن أبي هلك يا رسول الله وترك تسع أخوات لي) ، لأن البعض يظن أن هذه خاصة بالكفار، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] فهلك تطلق على من مات سواء كان مسلماً أم كافراً، وتطلق على الضياع، (هلكت قلادة لأسماء) أي: ضاعت وفقدت.
قال تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] أي: ولا والد، {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] .
{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] أي: ولم يكن لها أيضاً أب، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] بمعنى: كي لا تضلوا، وعلى ذلك جملة أدلة لغوية، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176] .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد تقدم أن من الفروق بين آية الكلالة هنا وآية الكلالة التي في أوائل سورة النساء، أن الإخوة لأم هناك ذكرهم مثل أنثاهم في الميراث، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] أي: فالأخ له السدس والأخت لها السدس، أما هنا فهي في الإخوة الأشقاء، {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] .
ومن الفروق بينهما: أن الإخوة لأم لا يتجاوز نصيبهم كلهم مجتمعين الثلث {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أما هنا في حالة الإخوة الأشقاء فقد يحوزوا على الميراث كله، {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] .
هذه الآية نزلت في جابر بن عبد الله، قال جابر: (مرضت فأغمي عليَّ فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فقلت: يا رسول الله! إني أموت ولا يرثني إلا كلالة، فتوضأ وصب عليَّ من وضوئه، فنزلت آية الكلالة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ) .
وهذه الآية مع السهولة التي سمعتموها في تفسيرها كما ذكر ذلك عدد من العلماء إلا أنها من الأمور التي خفيت على أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بشدة، حتى قال: (ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، ما سألته عن الكلالة) وفي رواية: (ثلاث وددت أن النبي مات وقد عهد إلينا فيها عهداً: الكلالة، وأبواب من الربا، وذكر شيئاً ثالثاً) وفي الرواية الأخرى يقول: (كنت أكثر من سؤال النبي عن الكلالة حتى ضرب بيده في صدري وقال: (يا ابن الخطاب ألا تكفيك آية الكلالة التي في آخر سورة النساء) .
فبهذا تنتهي سورة النساء، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله أن يتجاوز عن الأخطاء والهفوات والزلات، والأمر لله سبحانه وتعالى، ثم لإخواننا أن يقرروا هل سيحدث اختبار فيها أو لا، والكلام فيها عند الشيخ محمد غريب حفظه الله تعالى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(23/18)
الأسئلة(23/19)
حكم غسل الزوج لزوجته والعكس
السؤال
هل يجوز أن يغسل الرجل زوجته والزوجة أن تغسل زوجها؟
الجواب
نعم يجوز، وقد وردت رواية -على ما أذكر- من طريق محمد بن إسحاق لما قالت عائشة: (وارأساه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: بل أنا وارأساه، قالت: والله ظننت أنك تريد موتي يا رسول الله، قال: ذاكِ لو كان وأنا حي لغسلتكِ وكفنتكِ) ففيها زيادة: (لغسلتكِ) في خارج الصحيحين، وإسنادها على ما يحضرني الآن أنه حسن، فبه يستدل على جواز أن يغسل الرجل امرأته.
وقد ورد عن عائشة أنها قالت: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) وليس هناك دليل يمنع، والله أعلم.(23/20)
حكم صلاة تحية المسجد وقت الكراهة
السؤال
من الأوقات التي يكره فيها الصلاة؛ بعد العصر، فإذا دخلت المسجد في هذا الوقت فهل أصلي تحية المسجد؟
الجواب
بل صلها؛ فإن ذوات الأسباب تصلى حتى في أوقات الكراهية، قضى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الظهر بعد العصر لما شغله وفد عبد القيس.
إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/21)
اسم الرميصاء ومصادر ترجمتها
السؤال
من هي الرميصاء؟ وفي أي الكتب نقرأ عنها؟
الجواب
الرميصاء هي أم سليم رضي الله تعالى عنها.
واقرأ عنها في فضائل الصحابة، واقرأ عنها في الطبقات الكبرى لـ ابن سعد، واقرأ عنها في الكتب المصنفة في الصحابة على العموم.(23/22)
حكم استعمال الكلونيا
السؤال
هل الكلونيا المتداولة الآن حرام؟
الجواب
الكلونيا المتداولة الآن الحكم فيها مبني على إسكارها، هل هذه الكلونيا تسكر أو لا تسكر؟ فإن كانت لا تسكر فلا شيء فيها، وإن كانت تسكر فيأتي هنا قولان: قول لبعض أهل العلم أن الخمر نجسة نجاسة عينية وهم الجمهور، مستدلين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] أي: نجس.
وفريق من أهل العلم كـ الليث بن سعد وغيره من العلماء يرون أن النجاسة معنوية، فعليه إذا قلنا إن الكلونيا تسكر، أي: بمنزلة الخمر عند الليث بن سعد فلا حرج في استعمالها.
أما الجمهور في حالة ما إذا كانت تسكر فهي تجري مجرى الخمر فتترك، والله أعلم.(23/23)
حكم ارتداء المرأة قميصاً رجالياً في الصلاة
السؤال
هل يجوز أن أرتدي قميصاً رجالياً في الصلاة؛ وذلك لكونه أبيض وطويلاً وواسعاً، أم يعتبر ذلك تشبه بالرجال؟
الجواب
الظاهر الجواز، ما دامت لا تخرج تتشبه به عند الرجال، وكانت المرأة باقية في البيت، وتصلي فيه؛ لأنه ثوب واسع ومريح لها، فالظاهر أنه ليس من باب التشبه.(23/24)
حكم ارتداء الزوجة لملابس زوجها في البيت للزينة
السؤال
هل إذا ارتديت بعض ملابس زوجي في البيت للزينة يعتبر تشبهاً بالرجال؟
الجواب
إذا كنتِ تتزينين للزوج فلتتزيني له بما شئتِ، وأظن أن ذلك لا يعد تشبهاً، قد تتوق نفسه إلى شيء من ذلك أحياناً، فإن فعلتِ فنرجو الله أن لا يكون تشبهاً؛ لأنكِ لم تخرجي به.(23/25)
حكم تصوير الكتب والمجلدات
السؤال
هل يجوز تصوير الكتب والمجلدات لكونها غالية؟
الجواب
إذا كان للاستعمال الشخصي والشخص لا يستطيع أن يشتريها {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] والأمر إلى الجواز أقرب، أما إذا كان للاتجار والإضرار بالناس فلا يجوز، فإذا كنت ستضر بالتجار وتتاجر بها، فهو يتعب في صفها وتصحيحها وأنت تطبعها دون أن تبذل أي مجهود، فلا يجوز لك ذلك، أما إذا كان لاستعمالك الشخصي وأنت لا تستطيع شراء الكتاب الأصلي فجائز، والعلم عند الله تعالى.(23/26)
حكم رفع اليدين في الدعاء عند خطبة الجمعة
السؤال
هل صح عن النبي أنه كان يرفع يديه في الدعاء عند خطبة الجمعة؟
الجواب
الذي أعلمه في ذلك أنه كان يرفع يديه في صلاة الاستسقاء لما استسقى في خطبة الجمعة، لكن غير ذلك لا أعلم فيه شيئاً.(23/27)
حكم المسابقات الثقافية التي يعقد لها جوائز عينية
السؤال
ماذا تقولون في المسابقات الثقافية التي تعقد وينصب لها جوائز عينية أو مالية؟
الجواب
إذا كان الذي يضع الجوائز أناساً غير المتسابقين جاز، مثلاً: رجل قال: سأعقد مسابقة وأدفع للفائزين هدايا من عندي، فهذا لا شيء فيه، أما إذا دفع هذا جنيهاً وهذا جنيهاً والفائز منهما يأخذ الجنيهين فلا يجوز.(23/28)
معنى السفير وحكم عمله
السؤال
ما الحكم في السفير؟
الجواب
السفير هو الذي يرسل من بلدة إلى بلدة، فالسفير عمله مشروع ولا شيء فيه أبداً، وفي الإسلام سفراء حتى السفير لإسرائيل جائز، لأن السفراء بين الكفار والمسلمين كانوا يسمون الرسل على عهد الرسول، فمثلاً مسيلمة الكذاب أرسل رسولاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.(23/29)
حكم من استسمح مسلماً فلم يسامحه
السؤال
أذنبت ذنباً في حق مسلم فإذا لم يرض أن يسامحني من هذا الذنب حتى ولو أعطيه مالاً من أجل أن يسامحني؛ فهل أظل مذنباً؟
الجواب
الله أعلم بنيتك، إن يعلم الله في قلبك خيراً فسيؤتيك خيراً مما أخذ منك.(23/30)
كيفية قضاء صلاة الوتر لمن نام عنها
السؤال
من نام عن صلاة الوتر فمتى يصليها؟
الجواب
إذا نام عن صلاة الوتر فعنده نص عام: (من نام عن صلاة أو نسيها فصلاتها حين يذكرها) رواه البخاري ومسلم.
ومن أهل العلم من قال: من نام عن صلاة الوتر صلى من النهار مثنى، فإذا كان يوتر بثلاث صلى من النهار أربعاً؛ لأن النبي كان إذا فاته حزبه من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة.(23/31)
حكم بيع أمواس الحلاقة
السؤال
هل بيع أمواس الحلاقة حلال أم حرام؟
الجواب
حلال، وأما كونه حراماً فلا أعرف عنه شيئاً.(23/32)
حكم الصلاة في مكان تمر عليه الكلاب
السؤال
شخص يعمل عند النصارى وفي العمل كلاب، والشخص يصلي في هذا المكان؛ فهل الصلاة صحيحة؟
الجواب
نعم الصلاة صحيحة، فقد فكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، إلا إذا استوطن الكلب في مكان فيرش هذا المكان الذي استوطن فيه الكلب، أعني أنه إذا عرف أن الكلب ينام في مكان ما فإذا جئت تصلي في المكان فلابد أن تنضح عليه، أما إذا كان يمر مجرد مرور فيه، فلم يكن الصحابة يرشون شيئاً من ذلك.(23/33)
سلسلة تفسير سورة يوسف [1]
سورة يوسف عليه الصلاة والسلام هي أحسن القصص كما وصفها الله عز وجل، وليس على هذا مزيد، وتبدأ هذه القصة برؤيا لهذا النبي الكريم، ثم تجري أحداث القصة لتكون هذه الرؤيا هي آخر شيء يفسر على أرض الواقع بعد سنين طويلة، وفي ثنايا هذه السنين تدور رحى الأحداث؛ لكن أول شيء في هذه القصة بعد الرؤيا هو حسد الإخوة لأخيهم وتآمرهم عليه بالقتل، ثم بإلقائه في الجب، ويوحي الله إلى يوسف بأنه سوف يخبرهم بفعلهم فيما بعد عندما ينجيه الله عز وجل.(24/1)
من مكارم سورة يوسف عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد: فسنتناول بمشيئة الله تبارك وتعالى سورة نبي الله يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بالتأويل والبيان، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وابتداءً فنبي الله يوسف هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سئل صلوات الله وسلامه عليه: (من أكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) وفي رواية: (نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) .
فهذا شيء من فضل نبي الله يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، وقد أوتي شطر الحسن صلى الله عليه وسلم كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رؤيته له في ليلة المعراج عليه الصلاة والسلام.
أما سورة يوسف فهي سورة مكية، وقد جمعت هذه السورة الكريمة قصة نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم، ولم ترد قصة نبي الله يوسف إلا في هذه السورة الكريمة، فثَم أنبياء من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام ذكرت قصصهم في عدة سور من كتاب الله، أما سورة يوسف فقد حملت قصة يوسف كاملة، ولم يأت شيء من قصة يوسف في غير هذه السورة الكريمة المباركة، وهي سورة مكية على رأي أكثر أهل العلم.(24/2)
تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب المبين)(24/3)
معنى قوله: (الكتاب المبين)
قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، أما الكتاب فهو القرآن، ومن معانيه: المظهر الموضح للأشياء، ومن هذه المعاني: أنه موضح للحلال والحرام، ومبين لأمور الاعتقادات، ومبين للعبادات، ومبين لأخبار من كان قبلنا، ونبأ من سيأتي من بعدنا.
فقوله تعالى: (المبين) أي: المظهر الموضح للأشياء، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، أي: بالأفق المظهر الموضح للأشياء، وهو اتجاه طلوع الشمس.(24/4)
أقوال أهل العلم في الأحرف المقطعة
يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] .
أما (الر) : فهي أحرف مقطعة بدأت بها بعض سور الكتاب العزيز، وللعلماء فيها طريقان في التأويل: الطريق الأول: نعرض عن تأويلها ونكل الأمر في تأويلها إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ لم يرد شيء في كتاب الله صريح يفسرها لنا، وكذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صريح يفسر لنا الأحرف المقطعة.
الطريق الثاني: ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أنه ينبغي أن نلتمس لها تأويلات، ونحن مأجورون على كل حال، إن التسمنا تأويلاً فأصبنا فيه فلنا أجران، وإن أخطأنا فيه فلنا أجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
ثم هؤلاء الذين التمسوا تأويلات في هذه الأحرف المقطعة منهم من قال: إنها أحرف سيقت على سبيل التحدي، فكأن المعنى: (الر) أحرف تعرفونها وتقرءونها وتكتبونها، ولكنكم لا تستطيعون أن تؤلفوا منها قرآناً كما ألفناه، ولا حتى آية كما ألفنا، ودل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] ، وقوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} [السجدة:1-2] ، وهنا يقول سبحانه وتعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ، هذا هو الوجه الأول من أوجه التأويل: أن الأحرف سيقت للتحدي.
والوجه الثاني: أنها أحرف حملت اسم الله الأعظم، وليس ثَم دليل على هذا القول الثاني.(24/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه.)
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] .
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يستدل به فريق من أهل العلم على علو الله سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى في السماء، كما قال عن نفسه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، وكما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فالإنزال كما هو معلوم يكون من أعلى إلى أسفل.
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) : هذه منة من الله سبحانه وتعالى على العرب إذ نزل القرآن بلغتهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى العرب: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ، أي: لشرف لك ولقومك يا محمد أن نزل عليك هذا القرآن، وأن نزل بلغتك ولغة قومك.
فشرف للعرب أن القرآن نزل بلغتهم، ولهذا شكر لا بد أن يقدم، فمن المعلوم من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النعم تستلزم مزيداً من الشكر، فكلما أنعم الله على قوم بنعمة لزمهم أن يقدموا لها مزيداً من الشكر، كما قال الله تعالى لمريم عليها والسلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42] ، فأمام هذا الاصطفاء والتطهير: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] .
وكما قال الله سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] ، وكما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ، فلأنا أعطيناك الكوثر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] .
وكذلك قال تعالى ممتناً على نبيه عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1-3] ، ثم ختمت السورة بقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] .
فكل من أنعم الله عليه بنعمة فإنه يلزمه أن يقدم لها شكراً موازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا أكل أحدكم الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها) ، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .
فعلى العرب أن يشكروا نعمة الله عليهم؛ إذ أنزل القرآن بلغتهم، فلزاماً عليهم أن يحملوا عبء الدعوة إلى الله أكثر من غيرهم، فهي نعمة أسداها الله إليهم ولم تُسد إلى غيرهم؛ فجدير بهم إذاً أن ينهضوا إلى حمل دعوة الإسلام وبثها ونشرها في العالم، بل ويلزمهم ذلك، وقد قال الله تبارك وتعالى محذراً إياهم من التخاذل عن هذه المهمة: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] .
من هنا ينشأ اعتزازنا بلغة العرب، لا لأنها لغة لجنسنا ولبني جلدتنا، ولكن لأنها اللغة التي نزل بها كتاب ربنا، والتي تحدث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ثم لزمنا التمسك بها، ولزمنا بثها ونشرها من غير استحياء ولا استنكاف.
قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، أي: لعلكم تفهمون، وكما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] .(24/6)
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك.)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] ، لهذه الآيات الكريمة سبب نزول ذكره سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فقال: (نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زماناً، فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ثم تلاه النبي صلى الله عليه وسلم زماناً، فقالوا: يا رسول الله! لو حدثتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] الآيات) ، هذا سبب نزول صحيح وثابت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه.
وقد أورد بعض أهل العلم أسباب نزول أخر لا يكاد يصح منها سبب، منها: ما روي من طريق الضحاك عن ابن عباس: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت السورة، وفي هذا السبب ضعف، وليس ذلك بدافع أن يكون اليهود سألوا النبي عن هذه السورة، ولكن سبب النزول هذا فيه ضعف.
قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] .
من أهل العلم من قال: كان من الغافلين عن هذا القرآن، وعن هذه القصص، وعن الإيمان جملة، واستدل قائل هذه المقالة بقول الله تبارك تعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] .(24/7)
رؤيا يوسف عليه السلام
قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [يوسف:4] ، وأبوه هو يعقوب عليه السلام كما تقدم.(24/8)
أدب الأنبياء عليهم السلام مع والديهم
ومن قوله: (يا أبت) نلتمس أدباً في تخاطبنا مع آبائنا، أيضاً مع أمهاتنا، فلم يقل: يا بابا إني رأيت أحد عشر كوكباً، ولكنه قال: يا أبت! فجدير بنا أن نحيي لغة كتاب ربنا، ولغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نتبع سنن الهلكى والحيارى.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي) ، ولم يقل: استأذنت ربي أن أزور قبر ماما، وكذلك قال الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] .(24/9)
سبب تكرير قوله: (رأيتهم)
قال يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف:4] ، رأى ذلك في رؤيا منامية، وقد قال فريق من أهل العلم كـ عبيد بن عمير وغيره: (رؤيا الأنبياء وحي) ، واستدلوا لذلك بقول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] .
فيوسف صلى الله عليه وسلم رأى هذا الذي يذكر في رؤيا منامية، فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] أي: ورأيت كذلك الشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
وتكرار قوله: (رَأَيْتُهُمْ) : من أهل العلم من يقول: لما طال الكلام حسن أن يكرر كلمة: رأيت، كأن تقول -على سبيل المثال- قال فلان كذا وكذا وكذا، وترجع وتقول مرة ثانية: قال: كذا، لأن الأمد قد طال.
ومن العلماء من قال: إن مضمراً يفهم من السياق، فلما قال يوسف: (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ، كأنه قيل له: كيف رأيتهم يا يوسف؟ فقال مبيناً: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) .(24/10)
حكم السجود في شريعتنا
يطرح سؤال هنا، وهو: هل سجود المخلوق لمخلوق جائز؟ ف
الجواب
أن هذا كان جائزاً على سبيل التحية في شريعتهم من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونسخ في شريعتنا.
أما جوازه في الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلما سيأتي من قول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] .
أما منعه في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ، من عظم حقه عليها، ثم للإجماع المنعقد على ذلك أيضاً.
قال: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) ، قال أبوه معلماً إياه، والأنبياء هم أعقل وأرشد الخلق عليهم الصلاة والسلام، قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] ، أي: فيدبرون لك تدبيراً، ويأتمرون عليك مؤامرة، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، أي: إن الشيطان سيحملهم على الكيد لك، وسيوغر صدورهم تجاهك؛ إذ رأيت من الرؤى الطيبة ما لم يروا.(24/11)
حكم التحدث بنعم الله
وهنا يرد بحث عاجل وسريع يتعلق بمسألة التحدث بنعم الله تعالى على الأشخاص: فإذا أنعم الله على عبد بنعمة، هل يشرع له أن يحدث بهذه النعمة، أم أنه يكتمها ولا يحدث بها؟ عندنا نصوص تفيد أنه يجب علينا أن نتحدث بنعم الله تبارك وتعالى علينا، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، فهذا أمر بالتحديث بالنعمة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، فهذا حث على التحديث بالنعمة.
وهناك نصوص أخرى تجعلنا نحجم عن التحديث بالنعم، كقول يعقوب عليه السلام: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به من يحب) ، مفاده: ألا يحدث به من يكره.
وفي الباب في معرض المنع من التحديث: حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي صحته نزاع، ونرى أنه ضعيف لا يصح، ألا وهو: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود) ، هذا الحديث وإن حسنه بعض الأفاضل من المعاصرين إلا أن أكثر الأولين على تضعيفه؛ كالإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من العلماء.
فالشاهد من ذلك: أن مسألة التحديث بالنعم لها فقه، فإذا كنت ترجو من الذي تحدثه بنعمة الله عليك أن يدعو الله لك بالبركة وأنه سيفرح لفرحك؛ فحينئذ حدثه بالنعمة، وإذا كنت تراه حاسداً يخطط لتدميرك ويسعى في الكيد لك؛ فلتكتم عنه هذه النعمة، ومن هنا قال يعقوب ليوسف: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] ، ثم ذكر السبب قال: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، من العلماء من قال إن هذا من قول يعقوب.
وهو الأظهر.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6] ، أي: يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك، فالذي يجتبي ويختار هو الله، والذي يفضل هو الله، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] ، فليس لك إذاً أن تعترض على أقدار الله تبارك وتعالى.
قال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ، وتأويل الأحاديث هنا هو تأويل الرؤى، فقد أوتي يوسف صلى الله عليه وسلم فيها ومنها علماً عظيماً لا يبارى.
(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بالنبوة، فهي أعظم النعم، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] .(24/12)
دلالة قصة يوسف على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم بين الله سبحانه وتعالى قصة يوسف مع إخوته بمزيد بيان، فقال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:7] ، آيات: أي دلالات للسائلين عن الآيات والدلالات، أو السائلين عن قصة يوسف صلى الله عليه وسلم.
ففي قصة يوسف دلالات وآيات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن وجوه الإعجاز التي أيد الله بها نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: الإخبار بما فات وبما هو آت، وهذه من دلائل النبوة التي يوردها العلماء في بيان معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: إخباره بأمور قد فاتت لا يعلمها هو ولا قومه، وأمور أيضاً هي آتية، كقوله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وكإخباره عليه الصلاة والسلام فيما نزل عليه من القرآن بخروج دابة الأرض ويأجوج ومأجوج، وإخباره بالكاسيات العاريات، وإخباره بكثرة الأسواق، وبنحو ذلك.
فقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) ، أي: دلالات على صدق ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تتمثل هذه الآيات في بيان عواقب الصبر والإحسان، وعواقب طاعة الله وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام.
(آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) أي: للسائلين عن الآيات كما تقدم، أو للسائلين عن قصة يوسف على وجه الخصوص.(24/13)
عدم مؤاخذة الله للعباد بالمحبة القلبية
قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] .
أخوه هو أخوه الشقيق كما عليه جمهور المفسرين، ومن العلماء من يقول إن اسمه: بنيامين، ولم يرد في هذا خبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا خبر من كتاب الله، ولو كان في تسمية الأخ خيراً كبيراً لذكره الله عز وجل في كتابه، ولذكره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، وعلى كلٍ فقد ذكر جمهور المفسرين أنه بنيامين.
(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، وهل ثم خطأ في محبة الرجل لبعض أبنائه أكثر من الآخر؟ ليس ثم خطأ ولا إثم في هذا؛ إذ المحبة محلها القلب، وقد عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب حبه لـ خديجة، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إني رزقت حبها) ، فالحب القلبي لا يؤاخذ عليه الشخص.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) .
فلست مؤاخذاً إذا أحببت بعض ولدك أكثر من الآخر، وكذلك أيضاً لست مؤاخذاً في محبتك بعض نسائك أكثر من الأخرى، ولست بمؤاخذ في محبتك بعض الأصدقاء أكثر من الآخرين، فكما قال العلماء: (إن المقة من الله) واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] ، أي: محبة في قلوب العباد.
إذاً: يعقوب عليه السلام لم يخطئ في محبته ليوسف، وهو نبي كريم صلى الله عليه وسلم.(24/14)
مكيدة إخوة يوسف
قال الله تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف:8] .
(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي: ونحن جماعة، ومن العلماء من يقيد العصبة فيقول: عشرة، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص، وعلى كل فالأليق هنا أنها الجماعة.
فقالوا: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي: ينتفع بنا أبونا، فنحن أكثر نفعاً من يوسف وأخيه.
{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، والضلال: الذهاب عن القصد والصواب، أما المبين فمعناه: الواضح البين الظاهر.
ثم قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف:9] ، أي: القوه في أرض بعيدة عن أعين الناس، أو عن أعين أبيه، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] .
فمن عجيب أمرهم ما ذكره العلماء بشأنهم: أنهم أضمروا التوبة قبل فعل الذنب، ولعل الله أكرمهم بسبب ذلك، فإنهم قالوا: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) ، فطلبوا محبة الأب، وطلب محبة الأب شيء مرغب فيه، فمن وجهة نظرهم أنهم لا يرغبون في العقوق، بل يرغبون في إقبال أبيهم عليهم، ومن وجهة نظرهم أن يكونوا أيضاً قوماً صالحين فيما بعد.(24/15)
بداية تنفيذ المؤامرة
قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:11-12] .
أما قوله تعالى: (يَرْتَعْ) ، فمن أهل العلم من قال: يأكل، وذلك لما ورد عن ابن عباس: (أنه أتى على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، قال: فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع) .
ومن العلماء من قال: إن كلمة (يرتع) معناها: يسعى، وثَم أقوال أخر، والمعنى متقارب.
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فيعقوب صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم أصل اللعب للطفل الصغير يوسف صلى الله عليه وسلم، فأخذ من عدم إنكاره ما ذكرته عائشة رضي الله تعالى عنها إذ قالت: (اقدروا قدر الجارية صغيرة السن الحريصة على اللعب) ، فالصغير له حق أن يُلاعب وأن يُداعب.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً حسناً في هذا، فكان يدخل على عائشة رضي الله تعالى عنها صويحباتها يلعبن بالبنات معها، وهي: العرائس الصغيرة التي صنعت من العهن، فيختفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسربهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة يلعبن معها.
قالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:12-13] ، فتعلل يعقوب عليه السلام بعلتين لمنع يوسف من الخروج معهم، العلة الأولى هي: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} ، أي: يشق علي فراق ولدي يوسف صلى الله عليه وسلم، ولا أكاد أصبر على بعد ولدي هذه المدة، وشيء آخر: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) ، أي: منشغلون بجريكم وبصيدكم وبرعيكم.
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:14-15] ، أي: اتفقت كلمتهم على هذا، وما الحامل لهم على هذا الاتفاق؟ تقدم من قبل أنهم قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، فظهر أن الحامل لهم على هذا هو حسدهم ليوسف ولأخيه.(24/16)
اتفاق الإخوة على إلقاء يوسف في الجب
قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} ، أي: يقبل عليكم أبوكم بوجهه، {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} ، أي: من أهل الصلاح والتقوى.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:10] ، والذي حمله على قوله: (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) ؟ هو الله سبحانه، فالله غالب على أمره، فهو سبحانه وتعالى الذي يصرف السوء عن عباده، ومن العلماء من يقول: إن القائل هو أخوهم الأكبر، وليس ثم دليل على ذلك ولا على نفيه، وإنما ذكر ربنا: (قَالَ قَائِلٌ) ، فالتكلف قد نهينا عنه، قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، فليس لنا أن نتكلف ونؤول ونتجشم المشاق حتى نحرر القول في هذا القائل من هو، هل هو الأكبر أو الأوسط أو غير ذلك؟ {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:10] ، قال فريق من أهل العلم: أي: في أسفل الجب، والجب هو البئر كما هو معلوم.
{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:10] ، فكأنهم اتفقوا على هذا الرأي، بل قد اتفقوا عليه؛ لما سيفهم من السياق، ودل سياق الكتاب العزيز أنهم اتفقوا فيما بينهم على أن يلقوه في غيابة الجب.(24/17)
تحرير مقولة: الغاية تبرر الوسيلة
هنا يرد علينا بحث يتعلق بالمقولة التي اشتهرت: (الغاية تبرر الوسيلة) فهل الغاية الحسنة تبرر الوسيلة التي أصل بها إليها أم لا؟ الحقيقة أن الأمر فيه تفصيل وإن كان البعض يطلق أن الغاية لا تبرر الوسيلة، والبعض يطلق أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا مبحث فقهي دقيق لا يتسع المقام له الآن، ولكن نورد على كل رأي ما يعكر عليه، ونقرر في النهاية أن كل مسألة بحسبها.
فعلى سبيل المثال: يرد على الذين يقولون: إن الغاية لا تبرر الوسيلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله.
فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله! ولكن ائذن لي أن أقول فيك قولاً) فرخص له في ذلك.
وكذلك مما ورد في هذا الصدد: ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الكذب من أجل الإصلاح، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً) فهذا من باب أن الغاية تبرر بعض الوسائل إليها.
ومن باب أن الغاية لا تبرر الوسيلة قوله تعالى وقد نقم عليهم ذلك وكانوا من الجاهلين فيه-: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} .
فالحاصل في هذه المسألة: أن كل مسألة بحسبها، وبحسب الملابسات المحيطة بها، ومن ثم يصدر حكم فقهي ينتظم جميع الأدلة الخاصة بهذه المسألة.(24/18)
آفات الحسد
سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: يا حسن! أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله ما أنساك لإخوة يوسف! أي أنهم حسدوا يوسف صلى الله عليه وسلم على ما أنعم الله به عليه من محبة أبيه له، فالحسد وارد حتى بين أهل الإيمان، والعين حق حتى بين أهل الإسلام، وقد ثبت: (أن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه وكان رجلاً أبيض وسيماً جميلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قام يوماً يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة فرأى زنده البيضاء الحسناء، فقال: والله ما رأيت جلد مخبأة كهذه الجلد! والله وكأنها زند جارية! فسقط سهل صريعاً في الحال، فذهب أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً صريعاً! قال: فمن تتهمون؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأتي به فقال: علام يحسد أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ وأن يغسل ركبتيه وداخلتي إزاره، وأخذ الماء فصب على سهل بن حنيف، فقام وكأنما نشط من عقال) ، أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه.
فالحسد وارد حتى بين أهل الإسلام، ولكن على المسلم أن يجاهد نفسه، وإذا رأى من أخيه ما يعجبه فليدعو له أن يبارك له الله فيما رزقه، فإنه إذا أطلق لنفسه العنان في الحسد فقد يصل بحسده إلى الكفر والعياذ بالله، والذي حمل إبليس على الكفر إنما هو حسده لآدم صلى الله عليه وسلم، إذ قال متكبراً حاسداً: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] ؟ فإذا رأيت الله سبحانه فضل بعض الناس عليك في مال أو جاه أو منصب أو ذرية أو صحة وعافية أو وسامة وجمال؛ فادع لهؤلاء بالبركة، ولترض بقضاء الله سبحانه الذي قسمه الله سبحانه وتعالى لك، ولتمتثل أمر نبيك عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه في المال والخلق، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) .
فإذا رأيت أخاك المسلم في نعمة فلا تعترض ولا تحسد، ولتعلم تمام العلم أن الحاسد معترض على أقدار الله، فهو يحسد الناس على ما قدر الله لهم وآتاهم من الجمال، أو على ما قدر الله لهم من المال، فالحاسد معترض على أقدار الله.
والحاسد كذلك مشابه للشيطان؛ فإن الشيطان يكره النعم التي ينعم الله بها على العباد، مشابه للكفار؛ فالكافر يكره النعم التي ينعم الله بها على أهل الإيمان، فإذا حسدت إخوانك المؤمنين فتلعلم أنك معترض على أقدار الله، وأنك متشبه بالشيطان بل ومن جنده، وأنك كذلك متشبه بالمشركين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) .
فليس التشبه في الزي أو الملبس هو المنهي عنه فقط؛ بل نهينا عن التشبه بهم في أصول الاعتقاد، وهو أعظم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:156] ، أي: لا تتشبهوا بالكفار النادمين على خروج إخوانهم وموتهم في الأسفار.
فالكافر إذا خرج أخوه في سفر فمات قال: يا ليته ما سافر، يا ليته جلس، يا ليته ما خرج، يا ليتني كنت بجواره ويتأسف ويتحسر حسرات شديدة فينهانا ربنا عن التشبه بالمشركين في هذا المعتقد الرديء، فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] .
فالشاهد من ذلك أنه يحرم عليك أن تحسد إخوانك المسلمين المؤمنين على ما منَّ الله به عليهم وتفضل، وعليك إذا حسدت قوماً أن تستغفر الله، وأن تدعو لإخوانك بالبركة، وللحسد مباحث ستأتي في مظانها إن شاء الله تبارك وتعالى.(24/19)
منهج القرآن في التسلية وجبر الخواطر
قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} ، أي: اتفقت كلمتهم واشتركوا فيها جميعاً، {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} [يوسف:15] .
جمهور المفسرين يقولون: هذا وحي ليوسف صلى الله عليه وسلم، وهل يلزم من ذلك القول بنبوته أثناء ذلك؟ من العلماء من قال: إن الوحي في هذا الموطن لا يستلزم النبوة، وهو كالوارد في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] .
وثَم وحي آخر: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] ، وثَم وحي ثالث في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] .
فمن العلماء من قال: لا يلزم حينئذ أن نقول إنه كان نبياً في هذا الوقت؛ لأنه كان صغيراً صلى الله عليه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) ، أي: إلى يوسف صلى الله عليه وسلم، فبماذا أوحى إليه؟ من أهل العلم من يقول: إن هذا الوحي لتثبيت يوسف ولجبر خاطره؛ فإنه ذاك المظلوم الذي أوذي من أخوته، فالذي يؤذى ويظلم يحتاج إلى جبر خاطر، ومن ثَم شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
وقد قال تعالى في جبر الخواطر المنكسرة كما في التي كسر خاطرها بسبب طلاقها: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، وقال تعالى جبراً لخاطر الأيتام والمساكين الذين يحضرون قسمة الميراث: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] .
فالخواطر المنكسرة يلزمنا أن نجبرها، وهذا منهج أصيل في كتاب الله، وفي منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول صلى الله عليه وسلم وقد تخاصم وتحاكم إليه ثلاثة من أصحابه الكرام في شأن ابنة لـ حمزة عام الفتح لما خرجت تتبع رسول الله وتناديه: يا عمي يا عمي! فأخذها علي وقال لـ فاطمة: دونك ابنة عمك، ثم جاء جعفر ينازع فيها، وجاء زيد بن حارثة ينازع فيها، فتخاصم الثلاثة الفضلاء كل يريد أن يأخذ ابنة حمزة رضي الله تعالى عنه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين الثلاثة الفضلاء من أصحابه، وبين يدي القضاء يجبر خواطرهم جميعاً، فيقول لـ علي: (يا علي! أنت مني وأنا منك، وقال لـ جعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لـ زيد بن حارثة: أنت أخونا ومولانا) وهذه توطئة طيبة بين يدي الحكم حتى يستقبل الحكم عن طيب نفس، ثم قال: (أعطوها لـ جعفر فإن الخالة بمنزلة الأم) ، وكانت خالتها زوجة لـ جعفر رضي الله تعالى عنه.
فجبر الخواطر المنكسرة أمر أصيل في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، (وجبر الله خاطر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كسر بتكذيب قومه له وبإخراجه من بلدته، وجعل كلمة التوحيد باقية في عقبه، كما قال عز وجل: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] .
فمن ثَم جاء الوحي إلى يوسف عليه السلام وهو يشتم من هذا ويضرب من هذا، ويأتي يلقي بنفسه على أخيه ينتظر منه رحمة أو رفقاً فلا يجد شيئاً بل يجد هذا يزجره وهذا ينهره وهذا يضربه، وليس له عند إخوته ملجأ، لكن ملجأه إلى الله، قال عز وجل: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ، أي: أنك يا يوسف ستخبر إخوتك بصنيعهم هذا في وقت هم لا يشعرون فيه أنك أنت يوسف.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أثر رواه الطبري رحمه الله في تفسيره -وإن كان لنا تحفظ عليه من جهة الإسناد-: أن يوسف عليه السلام لما أتاه إخوته كي يمتاروا لأهليهم، ويأخذون الطعام لهم، أتاهم بالصواع ونقر نقرة عليه بعد أن حملهم بالمتاع، قال: إن الصواع يخبرني أنه كان لكم أخ اسمه يوسف، وأنكم أخذتموه وألقيتموه في بئر.
ثم نقر أخرى فقال: إن الصواع يخبرني أنكم ذهبتم إلى أبيكم وكذبتم عليه وقلتم: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] .
ثم ضرب ثالثة وقال: إن الصواع يخبرني أن لكم أخاً اسمه كذا وكذا فائتوني به.
وبعضهم ينظر إلى بعض، وبعضهم يتعجب من هذا الإخبار، والصواع لا يخبر وإنما يوسف عليه السلام يصل إلى مراده بهذه الحيلة كما لا يخفى، وإلا فالصواع لا يتكلم، والأثر موقوف على ابن عباس.
قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) ، أي: إلى يوسف صلى الله عليه وسلم (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا) ، أي: بصنيعهم هذا الذي صنعوه فيك، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وتأويل هذا في قول يوسف عليه السلام لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، فقد كانوا لا يشعرون، إلا أنهم فوجئوا بهذا القول، فقالوا: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] .
ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/20)
سلسلة تفسير سورة يوسف [2]
إن المتأمل في ثنايا هذه القصة ليرى أنها بنيت على قول الله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) كما يقول بعض أهل العلم، فإرسال يعقوب له مع إخوته، وإلقاء إخوته له في الجب بدل أن يقتلوه، وشراء العزيز له، وإكرامه، كل هذا دليل على أن الله غالب على أمره، ولكن مع الغلبة حكمة في إنجائه له من ابتلاء الجب والبيع والشراء، وأخيراً -وليس آخراً- ابتلاء امرأة العزيز أمام العزيز نفسه.(25/1)
من أحكام الرؤى والأحلام
المقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا بحث مختصر يتعلق بالرؤى وبعض أحكامها؛ إذ قد كثرت في هذه السورة الكريمة، فمنها رؤيا يوسف صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، ومنها رؤيا الملك، ومنها رؤيا صاحبي السجن، فلزاماً إذاً أن نورد بعض ما يتعلق بالرؤى من أحكام.(25/2)
الزمن الذي تتحقق فيه الرؤى
هذا وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث فحواه: (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت فقد وقعت) ، وهذا الحديث ضعفه فريق من العلماء.
هذا وقد تتحقق الرؤيا بعد مرور سنوات طوال، فإن يوسف عليه السلام رأى الرؤيا وهو صغير وتحققت بعد سنوات طويلة كما هو معلوم ومشاهد في هذه السورة الكريمة.
وكذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رؤيا: رأى أنه سيدخل هو وأصحابه مكة محلقين رءوسهم ومقصرين، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج متجهاً إلى مكة صده المشركون عن مكة، فاصطلح معهم صلح الحديبية المشهور، فقام عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: ألم تكن تحدثنا أنا سنحج هذا العام، وسنأتي البيت ونطوف به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم حدثتك أنك ستحج، فهل أخبرتك أنك ستحج هذا العام؟ قال: لا.
قال: فإنك ستحج وتطوف بالبيت) أو كما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالشاهد: أن الرؤيا قد تتحقق بعد زمن طويل ولا يلزم أن تتحقق عقب رؤيتها، ولهذا شواهد متعددة.(25/3)
ما يستأنس به في تأويل الحديث
يستأنس بالأسماء التي ترى في الرؤى على تأويلها، ويسترشد بها على تأويلها، وكذلك يستأنس أحياناً بالألوان التي ترى في الرؤى، وبالأشخاص الذين يرون في الرؤيا، وبالكلمات التي تقال في الرؤيا، كل هذه مستأنسات يستأنس بها في تأويل الرؤى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأنا في بيت عقبة بن رافع، وأتي إلينا برطب من رطب ابن طاب، فأولتها أن الرفعة لنا في الدنيا، وأن العاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) ، هذا بعض ما يتعلق بالرؤى.(25/4)
أقسام الرؤى وآداب كل قسم
الرؤى على ثلاثة أقسام، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما حاصله: أن الرؤيا: إما حديث للنفس، وإما رؤيا من الله، وإما حلم من الشيطان.
ولكل آداب.
أما الرؤيا التي هي من الله سبحانه وتعالى فمن آدابها: أن تحدث بها من تحب بعد حمد الله سبحانه وتعالى عليها، فمن ثَم لا تحدث بها من تكره.
أما الرؤيا التي هي حلم من الشيطان، فالآداب المتعلقة بها خمسة: أولاً: أن تتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ولا تحدث بها أحداً، وتتفل عن يسارك ثلاثاً، وتتحول عن جنبك الذي كنت عليه، فهذه خمسة آداب تتعلق بالرؤيا التي تكره.
والرؤيا التي تكره قال في شأنها أبو قتادة رضي الله عنه: (كنت أرى الرؤيا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أثقل علي من الجبل، فلما سمعت حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا سريَّ عني) ، فحاصل الآداب المتعلقة بالرؤية المكروهة: أنك تتعوذ بالله من شرها، ولا تحدث بها أحداً، وتتحول عن جنبك الذي كنت عليه، وتتفل عن يسارك ثلاثاً، وإذا كانت الرؤيا مفزعة فقم وصلِّ ما كتب الله لك أن تصلي.
أما الرؤيا التي هي حديث للنفس فهي في الغالب أضغاث أحلام ولا يلتفت إليها كثيراً، والله تعالى أعلم.(25/5)
تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء ... ) الآيات
قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16] ، أي: جاء إخوة يوسف إلى أبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة؛ من إلقاء أخيهم في غيابه الجب، ومن التفريق بين الوالد وولده، ومن عقوق الوالد المشاهد، ومن عدم رحمة الطفل الصغير؛ رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون، أي: يتباكون على الصحيح، فلم يكن بكاؤهم ببكاء، وكما قال الشاعر: إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فكان بكاؤهم تباكياً وليس بكاء على الحقيقة، جاءوا متصنعين بهذا البكاء ملتمسين العذر عند أبيهم، وملتمسين العفو.
وكما هو معلوم فإن القرائن تقدّم على الدّعاوى والأقوال، فكل قول ليس مدعماً ببينات وقرائن فهو قول متحفظ عليه، وليس مجرد البكاء بنافٍ للتهم عن المتهمين، فثَم أقوام يبكون عن حقيقة، وثَم آخرون يتباكون، فدائماً القرائن والبينات تقدم على الدعاوى والأحوال المصطنعة المتصنعة.(25/6)
حكم بث الشكوى لغير الله تعالى
لكن قد يرد في المسألة بحث متعلق ببث الشكوى: هل يجوز لنا أن نبث الشكوى لغير الله، أم أن ذلك غير جائز؟ الظاهر الجواز ما لم يكن فيه تسخط على أقدار الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها يوماً وهي تقول: وا رأساه! أي تشكو رأسها، فقال: (بل أنا وا رأساه!) ، وكذلك ورد أن عائشة دخلت على أبي بكر في مرض أصابه لما قدم إلى المدينة وهو يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وقال بلال في نفس المرض: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وأردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل وشامة وطفيل: جبلان بمكة.(25/7)
الاستعانة بالصبر في الشدائد
قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] : أي فهو الذي يطلب منه العون، به نستعين سبحانه لكنها استعانة بالصبر الجميل، واستعانة بالله وبذكره وبالصلاة له كما أمرنا ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] .
عند الشدائد يستعان بالصبر وبذكر الله وبالصلاة، قال تعالى في كتابه الكريم: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39-40] ، وقبلها قال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ، فيستعان على الشدائد بالصبر وبذكر الله، وبالصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97-99] ، أي: اعبد ربك صابراً على عبادته حتى يأتيك الموت، فمن أعظم الأمور التي يستعان بها على الشدائد الصبر والصلاة والذكر.
دخلت سارة جدة يوسف عليه السلام على الجبار، قيل له: قد دخل بلادك اليوم امرأة هي أجمل امرأة على وجه الأرض، وليس على وجه الأرض امرأة مثلها، وكان معها إبراهيم عليه السلام خارج البيت لا يملك حولاً ولا قوة إلا بالله سبحانه، فقام خارج البيت يصلي ويدعو، وزوجته سارة تدعو داخل البيت: اللهم كف يد الكافر، فمد الكافر يده ليتناولها فقالت: اللهم كف يد الكافر، اللهم كف يد الكافر، فشلت يده، ومنعت من الوصول إليها، فقال: ادعي الله لي ولا أقربك بسوء، فدعت الله له، فمد يده ثانية ليتناولها فقالت: اللهم كف يد الكافر، ثلاث مرات ولم يستطع الوصول إليها، فقال: أخرجوها من هنا، والله لقد جئتموني بساحر ولم تأتوني بإنسان.
وأخدمها هاجر أم إسماعيل -فيما بعد- فكان من نسلها إسماعيل عليه السلام، الذي من نسله نبينا محمد سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، ببركة الصلاة والذكر وتقوى الله سبحانه.(25/8)
صبر يعقوب على مصيبته في يوسف
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:17-18] ، أي: بدم مكذوب ليس هو على الحقيقة.
قال أبوهم -والأنبياء كما سلف هم أعقل وأزكى الخلق، وهم الذين اصطفاهم الله من خلقه عليهم الصلاة والسلام-: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، أي: حسنت لكم أنفسكم أمراً سيئاً، وزينت لكم أنفسكم أمراً شريراً، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، إلى من أشكو والذي خذلني هم أبنائي، إلى شامت يشمت فيّ؟ فكما قال الشاعر: قومي همُ قتلوا أميمة أخي فإذا رميت يصيبني سهمي أأشكو أبنائي إلى شامت أم إلى حاسد لا أشكوكم إلا إلى الله ولا أشكو أمري إلا إلى الله، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، أي: صبر لا شكوى معه إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالصبر الجميل هو الصبر الذي لا تصاحبه شكوى للخلق.
{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، فهو الذي يطلب منه العون على ما جئتم به، وعلى ما ادعيتموه.(25/9)
خبر النبي في قضية الإفك
ومثل هذه المقالة قالتها عائشة رضي الله تعالى عنها لما خاض الناس في الإفك بالذي قد خاضوا به، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة بعد مضي شهر وهي في بيت أبيها وعند أمها، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، فقال: (يا عائشة! إني محدثك بأمر فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، ثم ذكرها بحديث الإفك، فقالت عائشة رضي الله عنها لأبيها: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال أبوها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله؟ فقالت لأمها: أجيبي عني رسول الله! فقالت أمها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟) .
وكانت عائشة تبكي بكاءً شديداً مريراً تظن أن سيفلق كبدها منه، فقالت: (والله لقد رميتموني بأمر يعلم الله أني منه بريئة، ولكن إن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت: إني ألممت بالذنب صدقتموني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ولم تكن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام، فقد كانت جارية صغيرة؛ فأنزل الله سبحانه بكرمه وفضله براءتها في قرآن يتلى في المحاريب.
قال يعقوب أمام هذه الصدمة العنيفة التي ابتلي بها، وقد كان من قبل لا يستطيع أن يفرط في ولده، فمجرد أن يذهب الولد زمناً يسيراً أو ساعات قليلة ثم يرجع يقول: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف:13] ، فأي حزن بعد فقدان طويل أي حزن بعد أن يدعي أبناؤه أن الذئب قد أكل أخاهم؟ حينئذ لا يطلب الصبر إلا من الله، ولا يطلب العون إلا من الله.(25/10)
من أحكام السبق في الإسلام
إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف:17] ، أي: نتسابق فيما بيننا، وهل التسابق مشروع أم ليس بمشروع -وإن كان هذا ليس له مساس مباشر بالتأويل-؟ فالسباق مشروع، وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضمرت من الجيفاء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وهذا يؤخذ منه مراعاة التكافؤ، فلا تسابق بين شخص كبير وشخص صغير، وهكذا.
فالسباق مشروع، ولا يجوز السباق على وجه الرهان إلا في ثلاثة أحوال، وهي المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) ، فقوله: (لا سبق إلا في خف) ، أي: في الدواب ذوات الخف، كالإبل، (أو حافر) : وهي الدواب التي لها حوافر كالخيل والحمير، (أو نصل) : وهو الترامي بالسهام، أما ما سوى ذلك فلا يجوز على وجه الرهان.
وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فسبقته مرة وسبقها مرة صلى الله عليه وسلم، وهذا مبسوط في مظانه، فـ عائشة رضي الله عنها تقول: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فأمر الجيش بالتقدم، ثم قال: سابقيني يا عائشة! فسابقت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت حينئذ خفيفة لم أحمل اللحم فسبقته، ثم لما تقدمت بي السن خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فقال: سابقيني يا عائشة! فسبقني، وقال: هذه بتلك) ، فالمسابقة لا شيء فيها، ولكن لا تجوز على وجه الرهان إلا في الثلاثة التي ذكرت آنفاً.(25/11)
عمل يعقوب بالقرائن لبيان كذب أبنائه
قال الله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف:17] ، فيه أيضاً مشروعية توكيل شخص بحفظ المتاع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) .
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] ، من العلماء من قال: لا يستحب لشخص أن يلقن شخصاً أموراً قد يحتج بها عليه، فإن فريقاً من أهل العلم ذكر أن إخوة يوسف لم يكونوا يضمروا بأن الذئب قد أكل أخاهم، ولكنهم ذكروا بقول أبيهم: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13] ، فلا ينبغي أن يلقن شخص، فإن قال قائل: قد صدرت من يعقوب عليه السلام وهو نبي؟ فالجواب عن ذلك: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، أي: وما أنت بمصدق لنا، فمؤمن لنا معناه: مصدق لنا، ومنه قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] ، فقوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى) أي: فما صدّق لموسى.
{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، أي: وما أنت بمصدق لنا، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] ؛ لما استقر في نفسك من حبك الشديد ليوسف، فأي شيء سننقله لك عن يوسف فلن تصدقنا فيه.
أخذ فريق من أهل العلم من سياقات هذا الحديث: أنه يعمل بالقرائن، فإن العلماء قد ذكروا أن يعقوب نظر إلى قميص يوسف، وإلى الدم الذي على القميص؛ فلم ير القميص مزق تمزيق ذئب، وإنما تمزيق بعض بني آدم، وأن الدم كذلك ليس بدم بشر، إنما هو دم حيوان آخر، وليس بدم يوسف صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخذ من قولهم: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] ، هذه الأمور الثلاثة: نوع الدم، طريقة التمزيق، وطريقة الخطاب.
فكلها قرائن تدل على كذبهم في دعواهم؛ فمن ثَم أعمل بعض العلماء القرائن.
وهناك ما يدل على إعمال القرائن: كالولد في قصة سليمان عليه السلام مع المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن إحداهما؛ فقد خرجت امرأتان ترعيان زمن داود عليه السلام، ومع هذه ابن لها، ومع تلك ابن لها، فعدا الذئب على ولد من الولدين فقتله وأخذه، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام وكل منهما تدعي أن الولد الباقي لها، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا من عند داود عليه السلام فمرتا بسليمان فاستوقفهما سليمان عليه السلام، وقال: أنا أقضي بينكما في هذا الولد المتبقي، ائتوني بسكين لكي أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! فعلم من قرينة الرحمة التي بذلت من الصغرى أن الطفل لها، فقضى بالطفل للصغرى صلى الله عليه وسلم.
فيعمل بالقرائن أحياناً وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله تعالى.(25/12)
عدم جواز العمل بالرؤى
وهذا يجرنا إلى شيء قد نستفيد منه في ديننا -على سبيل المثال-: وإذا كان مؤدى الرؤيا مخالفاً للشرع، كأن يرى شخص رؤيا أنه أتاه آتٍ بأمره أن لا يصلي غداً، فلا يبني في حال من الأحوال على هذه الرؤيا؛ لأن الله أمرنا بالصلاة، فإذا جاءت رؤى تخالف أمراً من كتاب ربنا فلا يعول عليها، وهي حينئذ حلم من الشيطان.
وكذلك في هذا الباب: إذا كان ثَم امرأة متبرجة، ورأى شخص رؤيا -وهو من الصالحين- أن تزوج هذه المتبرجة؛ فلا يعمل حينئذ بهذه الرؤيا، لأنا أمرنا بنكاح ذات الدين كما أمرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالنصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله والبينات والقرائن، تقدم على التظاهرات والدعاوى والأحلام.(25/13)
قصة بيع يوسف بعد استخراجه من الجب
قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، وأسدل الستار على يعقوب هنا.
ثم قال تعالى في بيان يوسف والحال التي جرت بيوسف عليه السلام وهو في البئر المظلم الموحش: فالبئر عميق، وبه ماء، والآبار من العمق باردة، وهو طفل صغير صلى الله عليه وسلم، لكن إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعز عبداً فلا مذل له، كما قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت) ، فأراد الله سبحانه ليوسف رفعة في الدنيا ورفعة في الآخرة، ولم يكن الله ليضيع أولياءه ولا الصالحين من عباده.(25/14)
خروج يوسف من ابتلاء البئر
قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف:19] ، أي: الذي يبحث لهم عن الماء، ويرد به على أصحابه، والسيارة: القافلة التي تسير.
{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف:19] ، أي: في البئر، فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، فاستخرج الرجل يوسف عليه السلام، فإذا به يرى غلاماً ليس على وجه الأرض له مثيل ولا شبيه، غلام قد أوتي شطر الحسن صلى الله عليه وسلم، غلام بهي نجيب جميل يسر الناظرين، كأنه ملك كريم عليه الصلاة والسلام، فقال الوارد: {يَا بُشْرَى} [يوسف:19] ، أي: يا بشرى هذا وقتك وهذا يومك، فإن أنا أجد ولداً جميلاً وسيماً على هذا القدر من الجمال الخارق، وعلى هذا القدر الطيب وسماحة الوجه يا بشرى تعالي فهذا مقامك.
وفي ضد ذلك قول الكافر: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ، أي: يا حسرة تعالي وحلي وانزلي على نفس فرطت في جنب الله، وهنا في المقابل: يا بشرى هذا وقتك فتعالي وحلي وانزلي.(25/15)
بخس السيارة ليوسف وبيعه
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف:19] ، أسروه: من الإسرار، والإسرار الكتمان، فمن الذين أسروه بضاعة؟ من أهل العلم من يقول: إن الذين أسروه بضاعة هم الوارد ومن معه، أي: أسروه عن سائر القافلة، وأخفوا عن سائر القافلة أنهم وجدوه في البئر، أي: كتموا أمره على أنه بضاعة وأنهم اشتروها وسيبيعونها، ولم يقولوا: إنا وجدناه في البئر، وهذا القول هو الأقرب إلى سياق الآيات الكريمات، والأقرب إلى ظواهرها.
فالذين أسروه بضاعة على هذا القول هم: الوارد ومن معه، أو الوارد ورفقته الخاصة دون سائر السيارة، فكأنهم أظهروا أنهم اشتروه وسيبيعونه، ولم يقولوا: إنا وجدناه في البئر، فمعنى الإسرار الكتمان.
وثَم قول آخر: أن الذين أسروه وكتموا أمره هم إخوته، وكيف ذلك؟ أورد بعض المفسرين -وليس ثَم دليل يشهد لذلك- أن أخا يوسف الكبير كان يتفقد أحواله يوماً بعد يوم؛ فيذهب إلى البئر فينظر إلى ماذا آل أمر أخيه يوسف، فلما وجد الوارد قد استخرجه أتى إليه سريعاً، وقال: هذا عبد لنا قد أبق، وأخفى أنه أخ له، وأخفى يوسف كذلك أنه أخوهم حتى لا يأخذوه ويقتلوه، فرضي بالبيع، ورضي أخوه بأن يبيعه.
قال تعالى: {وَشَرَوْهُ} [يوسف:20] ، أي: باعوه، فـ (شرى) بمعنى باع.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] ، أي: الذين وجدوه باعوه، أو أن إخوته باعوه، على تأويلين للعلماء، والمعدودة معناها هنا: القليلة التي تعد، ومنه قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ، أي: قليلات يأتي عليها العد.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] ، وعلى هذا جوز بعض أهل العلم بيع السلعة النفيسة ذات القيمة الكبيرة بثمن قليل ما دام الرضا من البائع موجوداً ولا يوجد إكراه.
وفي مقابل ذلك: الغبن الفاحش، هل هو جائز أو غير جائز؟ الظاهر أن الغبن الفاحش ترد به السلعة؛ لأنه نوع من أنواع الغش، بمعنى إذا كان مثلاً كيلو العنب يباع بجنيه أو بجنيهين فأرسلت ولداً لك يشتريه، فباع له البائع كيلو العنب بمائة جنيه، فلك أن ترد على هذا البائع السلعة وأن تسترد مالك؛ لأن هذا نوع من الغبن الفاحش، والذي به السلعة كما قال الفقهاء، لكن هذه تختلف عن صورتنا في هذا المقام.(25/16)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر ... ) الآيات
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} [يوسف:21] ، ومصر هنا المقصود بها هذه البلدة، وليست بلدة من البلدان كالواردة في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة:61] ، فإن المقصود بها: أي مصر من الأمصار وأي بلدة من البلدان، لكن هنا: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} [يوسف:21] ، المقصود بها: مصر المنسوبة إلى فرعون.(25/17)
إحسان الله ليوسف بإيتائه العلم والحكمة
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:21-22] : وبلوغ الأشد من العلماء من قال فيه: يكون ببلوغ الحلم، ومنهم من قال: ببلوغ الثلاثين، ومنهم من استدل بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] ، فقالوا: إن بلوغ الأشد هو أربعون سنة، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] ، ومنهم من قال: الحكم هنا من الحكمة، والعقل وضع الأمور في أنصبتها اللائقة بها.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، فيذكر الله سبحانه وتعالى الناس بالإحسان ويحثهم عليه، إذ المحسن يكرمه الله؛ فيبين الله سبحانه وتعالى في القصص القرآني الكريم أحوال أهل الصلاح ويعمم الحكم، فمن سار على مسيرتهم جوزي خير الجزاء، كما يذكر الله سبحانه أيضاً أهل الشر، ويتوعد من سار سيرهم كما قال تعالى في شأن الحجارة التي أرسلت على قوم لوط: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] .
ويذكر الله سبحانه إنجاءه لعباده ويقول: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35] ، أي: من شكر جازاه الله بأنواع من الجزاء مثل هذا الذي صنعناه.
فالله سبحانه ذكرنا بإكرامه لنبيه يوسف عليه السلام ثم قال: إن هذا العطاء منا ليس خاصاً بيوسف عليه السلام بسبب النبوة، بل الإنجاء والإكرام عام، فلما أبان الله الإكرام الذي أكرم به نبيه يوسف قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، فهذا لابد أن ينتبه له.
فالقصص القرآني نأخذ منه العبر، ونتأسى بمن كان قبلنا من أهل الفضل والصلاح، فالله سبحانه ذكر قصة أيوب عليه السلام فقال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ، أي: يتذكرها العباد فيسيروا سيرهم.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] ، المحسنون هم الذين يعبدون الله ويراقبونه مع عدم رؤيتهم له، ويعبدون الله كأنهم يرونه، ويخشون ربهم بالغيب المحسنون كاظمون للغيظ وعافون عن الناس.
فتلك من شيمهم المحسنون يقابلون الإساءات بالإحسان، والسيئات بالعفو والغفران هؤلاء هم المحسنون!(25/18)
إكرام العزيز ليوسف
شاء الله أن يشتريه عزيز مصر: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21] ، أي: أكرمي مقامه، وأحسني إليه، {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] .
ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه بسند يحتاج إلى بحث أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: (عزيز مصر إذ قال لامرأته في شأن يوسف عليه السلام: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ، وابنة الشيخ الكبير التي قالت لأبيها في شأن موسى عليه السلام: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، وأبو بكر لما استخلف عمر رضي الله عنهم أجمعين) .
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، قال العلماء: كان هذا الرجل عقيماً لا ينجب، وكان هذا التبني موجوداً إلى أن نسخ في شريعتنا على لسان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] .(25/19)
مراودة امرأة العزيز يوسف عن نفسه
بين الله سبحانه ابتلاءً يتعرض له المسلمون خصوصاً والناس عموماً في دنياهم ابتلاء من الابتلاءات التي تكثر في الناس، والتي خشي علينا منها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الابتلاء والفتنة بالنساء، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) .(25/20)
خطر النساء على الرجال
يبين ربنا سبحانه فتنة تعرض لها يوسف عليه الصلاة والسلام، وحذرنا منها نبينا عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن لابد أن يبتلى في الدنيا، فقد يبتلى بضراء في بلد، وقد يبتلى بالسراء، أو بإغواء الغواة، أو بفتنة الفاتنين والمضلين، أو بمال، أو بمرض، أو بولد سيئ، أو بامرأة سليطة اللسان.
أو تبتلى امرأة بزوج شرير مفسد.
فالابتلاءات تتنوع، ويوسف عليه السلام ما لبث أن خرج من فتنة البئر ومن فتنة حسد إخوته له، ودخل قصر العزيز ينعم فيه بنعيم الدنيا من مطعم ومشرب وملاذ، لكن جاءته فتنة شديدة لا يصبر عليها إلا الصابرون، ولا يتقيها إلا المخلصون المحسنون إنها فتنة النساء.
فتنة عظمى ابتلي بها يوسف صلى الله عليه وسلم، فقد أحبته امرأة العزيز حباً شديداً فوق كل حب، إذ أوتي شطر الحسن، وبشهادة النسوة: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ، هكذا وصفه النسوة، ووصف نبينا أدق: (أوتي يوسف شطر الحسن صلى الله عليه وسلم) .
فابتلي يوسف من وراء هذا الجمال بابتلاء: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، والمراودة هي المطالبة برفق ولين، وأحياناً تكون أشد وقعاً وتأثيراً من المطالبة بالعنف والشدة، أما العنيف فإنه يقذف الكراهية في قلب من يطلب منه الشيء؛ فالمراودة هي المطالبة بالرفق واللين.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، ولم يذكر اسمها صيانة لعرضها، وفي التعبير بقوله تعالى: (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) بيان أنه كان يفترض فيها أنه عبد عندها وعند زوجها وأن عليها أن تراقب الله فيه.
وقد نال يوسف حظاً كريماً من قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) ، وقد نال يوسف عليه السلام قسطاً عظيماً من هذا الحديث النبوي الكريم.(25/21)
امتناع يوسف من امرأة العزيز
قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] ، أي: طلبت منه فعل الفاحشة معها، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، أي تهيأت لك وتزينت، فهلم وتعال.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] ، أي: أعوذ بالله من هذا الصنيع، {إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف:23] ، أي: زوجك سيدي قد اشتراني وأنا عنده عبد مملوك، فهذا تأويل، والتأويل الآخر: أن المراد بالرب هو الله سبحانه، وكلا التفسيرين له وجه من التأويل، وكلا التفسيرين صحيح.
فعلى القول الأول: {إِنَّهُ رَبِّي} أي: سيدي قد أحسن إلي واشتراني بخالص ماله، فلم يكن لي أن أقابل الإحسان بالإساءة، ولا المعروف بالجحود والنكران، فهذا شأن كافري العشير؛ إذ هم الذين يقابلون الإحسان بإساءة، والإنعام بجحود ونكران وكفران، أما أنا فلا: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أكرم مقامي.
وعلى التأويل الآخر: إنه الله كريم سبحانه وتعالى، أنقذني من غيابة الجب، وأنقذني من حسد الحاسدين، وأكرمني بالمقام عندكم، فلا أكفر نعمة ربي عليّ.
فكلا التفسيرين له وجه، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ، فالظالم هو الذي يكفر نعم الله، وكذلك يكفر نعم الخلق.(25/22)
معنى قوله: (ولقد همت به.)
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، ما هو الهم الذي صدر منها؟ وما هو الهم الذي صدر منه؟ الهم: القصد والإرادة، وقد يُصَاحب الهم بالفعل أحياناً، هم بالشخص ضربه أحياناً، فالهم كان منها ببذل جهدها وإبداء رغبتها، بل وبالسعي جاهدة وراء يوسف لنيل الفاحشة منه، بينما الهم منه كان حديث نفس على الظاهر من تأويل الآيات اللغوي، وحديث النفس معفو عنه ما لم يبرز، بل قد يبدل الهم بالسيئة إلى حسنات تكتب للشخص؛ وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (إن الله عز وجل يقول لملائكته: إذا هم العبد بالحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشراً، وإذا هم عبدي بسيئة فارقبوه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإن لم يعملها فلا تكتبوها شيئاً) وفي رواية: (فاكتبوها له حسنة) ، وفي رواية أخرى: (فإنما تركها من جرائي) .
فإذا ترك العبد السيئة خوفاً من الله كتبت له حسنات، ودل على ذلك أيضاً حديث ابن العم الذي جلس بين رجلي ابنة عمه، فقالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ثم توسل بهذا الصنيع إلى ربه لما انطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار، ففرج الله عنهم.
فالعبد إذا هم بسيئة وتركها لله كتبت له حسنات، كذلك يوسف حدثته نفسه كبشر بما شاء الله أن تحدثه؛ لكنه خشي الله وترك هذا خوفاً من الله؛ فبدلت هذه الأنواع من الهم إلى حسنات، هذا الظاهر والواضح، وهذا الذي لا يليق غيره بمقام النبوة الكريم؛ فالأقوال المفتراة على نبي الله يوسف، والإسرائيليات المبثوثة والمدسوسة على نبي الله يوسف لا تليق بنبي كريم، وإنما حدثته نفسه، ثم حول هذا التحديث إلى طاعة لله، ووجل من الله سبحانه، فحينئذ ترتفع درجاته عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، وما هو برهان ربه؟ لم يرد شيء صريح عن رسول الله في هذا البرهان، وللعلماء فيه أقوال متعددة، لا ينبني شيء منها على كبير دليل، ومؤداها أنه تذكر الله فذكر ورجع عليه الصلاة والسلام.(25/23)
صرف الله السوء والفحشاء عن يوسف
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ، فالذي يصرف السوء هو الله.
والذي يصرف الفحشاء هو الله، والسوء كل ما يسيئ، والفحشاء كل ما يستفحش ويستقبح ويستنكر من عظيم الذنوب، والسوء والفحشاء هو الزنا ومقدمات الزنا.
السوء: المقدمات على رأي بعض العلماء، والفحشاء هي الفاحشة الكبرى، فطهره الله سبحانه وتعالى منها، ولم يقترف شيئاً من السيئات ولا من الفواحش، فهو نبي كريم بوصف نبينا محمد له: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) .
قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ؛ فالذي يصرف السوء هو الله، فلنلتمس منه صرف السوء عنا، وعن ذرياتنا ونسائنا وإخواننا وأخواتنا، والمسلمين والمسلمات.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، أي: لسابقة خير صدرت منه عليه السلام، وهو اجتهاده في مرضاة ربه.
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] ، وهذا من خير ما يدل على نزاهة يوسف وبراءته؛ إذ هو يجري وهي تتابعه، فهل أدل على براءته من أن يجري هارباً وهي تلاحقه كي يفعل معها الفاحشة؟ إنه نبي كريم، منزه مبرأ من الخطأ! (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) : جرى صوب الباب كي يفتح ويهرب عليه الصلاة والسلام، فأدركته {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] ، أي: قطعت قميصه من الخلف، وشاء الله وقدر: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، أي: وجداه، حيث فتح الزوج الباب لأمر قدره الله وشاءه، وإذا بيوسف وامرأة العزيز بعد يوسف تطارده وتجري بعده.
فلما دخل زوجها إذا بها تلصق التهم بغيرها، تلصق التهمة بالبريء الكريم! فتقول مباشرة لزوجها ملصقة التهمة بيوسف عليه السلام: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] ، وهكذا معشر المسلمين تسجن العفة والطهارة معها، ويسجن البريء، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فتطالب بسجن يوسف أو بتعذيبه، ولم العذاب الأليم ولم يصنع يوسف عليه الصلاة والسلام شيئاً؟ ولكنه ابتلاء تلو ابتلاء، فليصبر الصابرون وليحتسب المحتسبون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في مرض موته: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة لـ حفصة: يا حفصة! قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يسمع الناس قراءته من البكاء! فمر عمر فليصل بالناس، فأعاد وأعادت عائشة وحفصة، وأعاد وأعادت عائشة وحفصة، فقال عليه الصلاة والسلام مشتداً: مروا أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف) .
ويعني بذلك عليه الصلاة والسلام: أنهن يردن أمراً ويظهرن أمراً آخر، فـ عائشة تقول عن نفسها: (والله ما حملني على قولي: إن أبا بكر رجل أسيف إلا أني خشيت أن يأتي أبي بعد رسول الله يأمُّ الناس فينظر الناس من الذي جاء بعد رسول الله فيجدونه أبا بكر فيتشاءمون بـ أبي بكر، فأردت أن أبعد عن أبي هذا التشاؤم وليلصق هذا التشاؤم بغير أبي، فقلت لـ حفصة: قولي له مر عمر فليصل بالناس) ، ليس رفضاً للإمامة ولكن رفضاً لتشاؤم الناس بـ أبي بكر بعد رسول الله.
فكان هذا نوعاً من الدهاء، ونوعاً من الكيد الذي يصدر من النساء، فليعلم كل سائسٍ للنساء أن كثيراً من النساء من ذوات الحيل يردن أمراً ويظهرن أمراً آخر، كما قالت حفصة لـ عائشة وكانتا في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يركب مع عائشة على جملها، فعماد القسم في السفر النزول، كما أن عماد القسم في الحضر الليل، فكان الرسول يسير مع عائشة على الجمل في السفر، فأرادت حفصة يوماً أن تركب هي مع الرسول، فقالت لـ عائشة مظهرة أمراً آخر: يا عائشة! ألا تركبين بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر، أي تنظرين في اتجاهي وأنا أنظر في اتجاهك؟ ولم تقل: إني أريد الرسول، قالت: بلى، فركبت عائشة مكان حفصة وحفصة مكان عائشة، فأتى الرسول إلى بعير عائشة فركب معها فإذا هي حفصة، فسار معها طول الطريق واستحيا أن ينزل، وعائشة تنتظر الرسول يأتيها فلا يأتيها، فحزنت حزناً شديداً، ونزلت تضع رجليها بين الإذخر، أي: بين الحشيش الذي في الأرض وتقول: يا رب سلط علي عقرباً تلدغني، نبيك وما أستطيع أن أقول له شيئاً، فانظر كيف احتالت حفصة هي الأخرى على عائشة رضي الله عنهن أجمعين.
والله تعالى أعلم.(25/24)
سلسلة تفسير سورة يوسف [3]
ما زالت فتنة النساء هي المحك الذي ربما يسقط فيه الكثير ممن لا يثبته الله تعالى، وقد ثبت الله نبيه يوسف عليه السلام أمام امرأة العزيز التي كانت ذات منصب وجمال أيضاً، وقد كانت نتيجة هذا الثبات السجن، ثم يثبته ويسليه في هذا السجن بمن يسجن معه، ولم يمنعه السجن عن الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له على ما كان عليه آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وذلك هو الذي أنجاه في بادئ الأمر وثبته.(26/1)
تبرئة الله ليوسف عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26-27] ، قول يوسف صلى الله عليه وسلم: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) مستعملاً ضمير الغائب إشارة إلى أدب جم كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لها، ولم ينزل إلى مستوى المحاججة معها بقوله: (أنت راودتيني عن نفسي) ، فهي أياً كانت امرأة ناقصة عقل ودين، فترفع يوسف عليه السلام عن قول: (أنت راودتيني عن نفسي) .(26/2)
شاهد يوسف ببراءته
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، من هو هذا الشاهد؟ هل الشاهد طفل تكلم في المهد، كما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؟ فقد ذكر عدداً من الذين تكلموا في المهد وقال: (وشاهد يوسف صلى الله عليه وسلم) ، أم أنه رجل آخر؟ أما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلو صح لكان هو الفيصل، كما قال القائل: (قطعت جهيزة قول كل خطيب) ، ولكن الحديث اختلف في رفعه إلى رسول الله ووقفه على عبد الله بن عباس، واستظهر فريق من أهل العلم أنه موقوف على عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26] ، والشاهد من أهلها له دلالاته وله شهادته؛ لأن الذي من أهلها في الغالب أنه لن يجور عليها، أما إذا لم يكن من أهلها فاحتمال جوره عليها وارد، فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، لمزيد من الإثبات لبراءة يوسف صلى الله عليه وسلم، إذ الشاهد كان من أهلها.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26] ، فقدم ما يبرؤها به قبل ما يبرئ به يوسف صلى الله عليه وسلم، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] ، (من دبر) أي: من الخلف، وهذا من إعمال القرائن أيضاً، فالقرائن يعمل بها في الأحكام، وقد ورد أن شريحاً القاضي رحمه الله أتى إليه خصمان يختصمان في وشاح أحمر يغطى به الرأس، وكل يدعي أنه له، فقال لهذا: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، وقال للآخر: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، فالذي نزل من شعره حمارٌ زائد حكم له به، وهذا من إعمال القرائن.(26/3)
خطورة كيد النساء
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] ، أي: من كيدكن يا معشر النساء! {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، فكيد النساء أقوى من كيد الشيطان، ويستدل من يقول بهذا بقول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} للنساء، وبقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] ، وهذا الاستدلال عليه مأخذ، فقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} للنساء إنما هو فيما يتعلق بمعاملتهن مع الرجال، ولكن من ناحية الفروض، وإدارة الأعمال، والبلدان، ونواحي الصناعات ونحو ذلك، فتدبير الرجال أشد، وبأس الرجال أقوى، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) .
فهذا يبين لنا أنه لابد من استحضار سنة النبي عليه الصلاة والسلام عند تأويل الآيات، حتى لا نذهب مذهباً بعيداً في التأويل، بناء على ظواهر الآيات مع إغفالٍ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولعمومات الشرع في هذا المقام.(26/4)
تفسير قوله: (واستغفري لذنبك)
قال الله سبحانه وتعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29] ، أي: يا يوسف! أعرض عن هذا، {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] ، من المفسرين من يقول: إن هذا الزوج كان متبلد الإحساس غير غيور على عرضه، لاكتفائه بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) ، ومن العلماء من التمس له عذراً في ذلك فقال: إن الجمال الزائد الذي رآه من يوسف عليه السلام جعله يعذر امرأته ويكتفي بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) .
فما معنى قوله: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} ؟ من العلماء من أول ذلك بقوله: اطلبي مغفرة زوجك لك، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14] ، وكما قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي: اغفر له يا رسول الله! أو اعف عنه واصفح يا رسول لله! فهذا وجه ساقه بعض أهل العلم.
فقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} توجيه، {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ، لِم لَم يقل: من الخاطئات؟ من أهل العلم من قال: إن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، مستدلاً بهذه الآية: {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ، ولم يقل: من الخاطئات، وكذلك استدل بقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] ، ولم يقل: من القانتات، فاستدل بذلك فريق من أهل العلم على أن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، فالتكليف الذي يأتي للذكور يشمل الذكور والإناث ما لم يأت نص يخصصه.
ومن العلماء من قال: خطاب الذكور للذكور والنساء يلزمهن خطاب مستقل، واستدل هذا القائل بقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية، وبقوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، وبقول الشاعر: ولا أدري ولست إخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء فقال بناء على هذا: إن خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث، إلا أن الأولين وجهوا ذلك بأن قوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، من باب عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام جائز، وهذا ينبني عليه اختلاف في بعض الأحكام الفقهية، ومن أمثل الأمثلة التي تساق لذلك: مسألة المجامع في رمضان، هل تلزم امرأته هي الأخرى بكفارة أم لا؟ فعلى قول من قال: إن خطاب الذكور للذكور والإناث يلزمها بكفارة هي الأخرى، وعلى قول من قال: إن النساء يلزمهن خطاب مستقل فسيقول: إن النبي لم يلزم هذه المرأة التي جامعها زوجها في رمضان بكفارة، ومن ثَم يتألق قول من قال: إن الكفارة عليهما معاً.
والله أعلم.(26/5)
ابتلاء يوسف بمجمع من النسوة
تسرب الخبر إلى الناس؛ إذ أخبار الملوك والرؤساء وذوي الوجاهات تتسرب سريعاً إلى الناس، فأعين الناس تتجه إلى بيوت أصحاب الوجاهات والمناصب والملوك والرؤساء والوزراء، وأخبارهم تنتشر أكثر من غيرهم؛ إذ الأنظار كلها تتجه إليهم: ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ أين خرج؟ ماذا لبس؟ ماذا ركب؟ فأخبارهم على ألسنة الناس دائماً، ومن ثم تشعر بالعافية الذي أنت فيها إذا كنت بعيداً عن مثل هذه المناصب، فستكون في كثير من الأحوال بعيداً عن الأنظار وعن الانتقادات.(26/6)
ما تمخض عنه مجلس النسوة الآثم
قال تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، فقالت بعد أن أخذت عليهن ما أخذت من تقطيع الأيدي، وهي شهادة ظاهرة بحسن يوسف صلى الله عليه وسلم تحتج بها المرأة، بل وتتفوه المرأة بكل قوة حينئذٍ بلسانها، فالأيدي هاهي مقطعة، فإذا كنتن لم تصبرن على رؤية يوسف وقطعتن الأيدي فالحمد لله الذي لم يجعلني أقطع يدي كما قطعتن أيديكن، فحينئذ جهرت المرأة بما في نفسها أمام هؤلاء النسوة قائلة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:32] ، فاعترفت، والنساء في الغالب يستترن، لكنها لم تستطع أن تستتر، وجهرت بطلبها لعل النسوة يساعدنها على طلبها، ويتظاهرن معها على يوسف صلى الله عليه وسلم، فقالت معترفة للنسوة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} ، أي: طلبت منه فعل الفاحشة {فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] ، أي: فامتنع، {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] ، أي: من الأذلاء الحقيرين المذمومين.(26/7)
استجابة الله ليوسف وصرف كيد النسوة عنه
ماذا قال يوسف والنسوة يتواطأن عليه ويتظاهرن عليه ويتفقن عليه، وكل منهن تلح أن يفعل الفاحشة معها ومع امرأة العزيز؟ حينئذ ليس ليوسف ملجأ من الله إلا إليه، فقال يوسف صلى الله عليه وسلم مقولة الكريم المحسن العفيف الطاهر الطيب: {قَال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، أي: أميل إليهن، ومنه قول الشاعر: إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبا فاستفدنا من الآية الكريمة: أن المحفوظ من حفظه الله، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، وهذا المعنى مستفاد كذلك من الكلمة التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فمن معاني تلك الكلمة المباركة الطيبة التي لا يدرك معناها كثيرون: لا تحول لي عن معصية الله إلا إذا حولني الله، ولا قوة لي على طاعة الله إلا إذا قواني الله، لا تحول لي عن أمر مهما كان إلا إذا حولني الله عز وجل، ولا قوة لي على أي عمل كان إلا إذا قواني الله عليه.
وهذا المعنى معنى حسن ينبغي أن يتفطن له أهل الفطنة والإيمان، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أتريدون أن تجتهدوا في العبادة؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهذا المعنى فهمه أولو الألباب، وقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] ، أنا لا أخشى أصنامكم ولا آلهتكم، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام:80] ، فإذا شاء الله لي أن أتحول إلى الشرك -والعياذ بالله- سيتحول الشخص إلى الشرك، فجدير بالمسلم أن يفهم تماماً هذا المعنى، أن الذي يصرف السوء هو الله، وأن الذي يعصم من الزلل هو الله، فليسأل ربه العصمة من الزلل، وليسأل ربه الثبات على الإيمان، فأنت يا عبد الله ضعيف، ولا قوة لك إلا بالله، فاطلبها منه واستمدها منه سبحانه وتعالى.
قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، إذا خيرت يا رب بين الفاحشة وبين السجن فأنا أختار السجن، وهو أحب إلي مما يدعونني إليه، فإذا زلت قدم في الزنا تنزع النور والبهاء من قلب الزاني والعياذ بالله! ينزع الإيمان ويكون فوق رأسه كالظلة إذ هو يزني، وتجلب له نكداً وهماً في الدارين الدنيا والآخرة، وتتسبب في حرق فرجه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومررت برجال ونساء عراة على مثل التنور يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم، فيسمع لهم ضوضاء وصياح، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني!) ، فهذا شيء من مصيرهم، قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] ، فعياذاً بالله من هذه الفاحشة! وعياذاً بالله من هذه الموبقة! قال يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ، سجن لطاعته لربه يرث فيه إيماناً يجد حلاوته في قلبه، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، هنا يقول العلماء أو فريق منهم: لا إكراه على الزنا لهذه الآية، فإذا أكرهت على الزنا فلتسجن خير لك.
وفي الآية دليل على أنهن تآمرن جميعاً عليه، وكدن لهن جميعاً، سواء كدن لأنفسهن أو كدن لأمرأة العزيز، بدليل قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} ، أي: أميل إليهن، {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، ليس المقصود بالجاهل هنا الذي خفي عليه حكم مسألة، إنما الجاهل هو الذي عصى ربه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] ، فليس معناه الخطأ، فالمخطئ مرفوع عنه القلم، ولكن كما قال ابن عباس وغيره: (كل من عصى الله فهو جاهل) .
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34] ، فإنه مخير: إما أن تسجن وإما أن تزني، وكلاهما شر، فاختار أخف الشرين وهو السجن، ولهذه القاعدة شواهد، منها قصة موسى مع الخضر في شأن السفينة، فخرق السفينة وارد، واغتصابها وارد، فاختار الخضر خرق السفينة بدلاً من أن تغتصب، وكذلك في المرأة المختلعة، التي خافت ألا تقيم حدود الله مع زوجها، فهي بين الشرين: إما أن تتنازل الزوجة عن المال وهو المهر، وإما أن تضار في دينها، فدفعت الضرر عن دينها بمال دفعته لزوجها، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] .
وهذا أصل عظيم يعمل به في الملمات والشدائد، فلو أتاك رجل يجري وخلفه سفاح قاتل، فدخل الذي يجري بيتك وجاء السفاح فسألك: هل دخل بيتك فلان؟ فإذا أخبرته قتله، وإذا كذبت فقد كذبت والكذب إثم، فتختار أخف الضررين وهو الكذب دفعاً لمفسدة القتل، وهكذا تسير الأمور.
فإذا تواردت المفاسد اخترنا أخف المفاسد، فالغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وقتله إثم وجرم، ولكن اختير القتل على تكفير الأبوين وإرهاقهما، فإذا تواردت علينا الشرور والمفاسد اخترنا أخفها.
وحينئذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، السميع للأقوال، وللدعوات، الذي لا يخفى عليه دعاء داعيه، ولا سؤال سائله، العليم بالنوايا، وبالقلوب، علم ربنا من قلب نبيه يوسف عليه السلام أنه لا يريد الفاحشة، فصرفه الله عنها، فالتعويل في كثير من المسائل على القلوب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70] ، وقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] .(26/8)
انتشار خبر امرأة العزيز
المهم أن الخبر شاء الله أن يتسرب، {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30] ، من النسوة؟ نسوة لا نتكلف تسميتهن، إذ نهينا عن التكلف، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، ولا معنى لتسويد صفحات بأسماء هؤلاء النسوة، ولا لتضييع أوقات بذكر هؤلاء النسوة، فالمهم والشاهد: أنهن نسوة.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} ، والنساء كثيرات الحديث أكثر من الرجال، {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، أي: تطلبه لنفسها، {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف:30] ، أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وكما قال البعض: هو حجاب القلب، فوصل حب يوسف إلى شغاف قلب المرأة وتمكن حبه من قلبها.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] ، أي: في ذهاب عن القصد بعيد، وذهاب عن الصواب والحق.(26/9)
أحداث خروج يوسف بين النساء
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} [يوسف:31] ، أي: بخوضهن في عرضها، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف:31] ، مجلساً يتكئن عليه، وقدمت لهن أنواع الأطعمة والأشربة، وأنواع الفاكهة، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف:31] ، وهذا من دهاء هذه المرأة، فهي امرأة من ذوات الحيل، وقد ظهرت حيلها من سيرتها، لكن كلل الله أعمالها بالستر بعد ذلك.
وهل لنا نحن أن نأكل ونحن متكئون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا آكل متكئاً) ، فيكره الأكل وأنت متكئ، لكنه لا يحرم، وفي الاتكاء قولان للعلماء: القول الأول: أن الاتكاء الميل بأحد الشقين على الأرض، والقول الثاني: الاتكاء هو: التربع.
{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} ، أي: أعطت كل واحدة منهن سكيناً، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف:31] ، وهو عبد مأمور في بيت ساداته، فخرج يوسف صلى الله عليه وسلم، ولكن سياق الكتاب العزيز موجز، فلم يقل: فخرج عليهن، وإنما فهم ذلك من السياق، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] ، أي: أعظمنه وأجللنه، ورفعن شأنه، وهو مرفوع الشأن عليه الصلاة والسلام، (أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه إعظاماً شديداً لا يوصف.
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، انظر كيف صنع جمال يوسف بعقول هؤلاء النسوة!! لقد ذهب بعقولهن، حتى إن المرأة منهن تقطع يديها وهي لا تشعر بألم القطع؛ إذ الذهن كل الذهن منصب على رؤية يوسف الصديق، وكما سلف: أنه قد أوتي شطر الحسن عليه الصلاة والسلام، ونصف الحسن الآخر قسم على العالم كله، أما يوسف فقد استأثر بشطر الحسن، فلم تشعر النسوة مع جمال يوسف ونظرهن إلى جمال يوسف بالأيدي وهي تقطع.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ، أي: ما هذا إلا ملك كريم، فما ظنك بالحور العين؟! وما ظنك بأهل الجنة ونسائها اللواتي وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يرى مخ سوقهن من وراء اللحم من الحسن) ؟!(26/10)
ابتلاء يوسف عليه السلام بالسجن
قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] دخل الصديق يوسف عليه السلام السجن لا لذنب اقترفه، ولا لجرم ارتكبه، ولكن لعفته وطهارته، وبعده عن الخنا والزنا والعياذ بالله! لعفته وطهارته سجن، فلا جرم أن يسجن أحياناً البريء، فكم من بريء قد سجن، وكم من بريء قد اتهم، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، والعاقبة للتقوى.
دخل يوسف السجن لعفته وطهارته، كما طالب قوم لوط إخراج لوط من قريتهم، لِم؟ {قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ، فليخرج المتطهرون من البلدان، وهكذا يفعل بالأتقياء والأولياء.(26/11)
هل تتحقق رؤيا الكفار؟
ومما سبق يطرح سؤال مؤداه: هل رؤيا الكفار تتحقق؟ وكيف ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة؛ يراها العبد المؤمن أو تُرى له) ، ويقول: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، فكيف يتأتى ذلك للكافر إذاً؟ الجواب على مثل هذا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، وهذا على الغالب، ولا مانع أن تتحقق رؤيا الكافر لتحقق رؤيا هذين الفتيين، ولتحقق رؤيا الملك، وسوف تأتي إن شاء الله.
قال الله: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، والبضع كما هو رأي كثير من العلماء: من ثلاثة إلى تسعة، وورد في هذا الباب: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قد رأى أن الروم ستغلب الفرس، فلما نزل قول الله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وكان قد وقت خمس سنين، فلما مرت الخمس ولم تغلب الروم الفرس ذهب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليه: لو مددت إلى تسع، فما مرت التسع إلا وقد غلبت الروم الفرس، فاستأنس البعض بذلك على أن البضع أقل من العشرة، أي: من ثلاثة إلى تسعة، والله تعالى أعلم.(26/12)
نسيان يوسف لذكر الله بعد تعبيره للرؤيا
قال الله عز وجل: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] ، أي: قل لسيدك، قل للعزيز أو للمك: إن في السجن شخصاً مظلوماً هو يوسف صلى الله عليه وسلم، عله أن يخرجني، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، فمن ثَم لا يتعلق شخص ببشر، إنما نكل الأمر إلى الله ربنا سبحانه كي يكشفه عنا، وننزل أحوالنا وأمورنا بالله؛ كي يكشفها عنا سبحانه.
{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ، وهل هذا من باب الأخذ بالأسباب المشروعة، أم أن ترك ذلك أولى؟ إن فعلنا ذلك ونحن مطمئنون إلى أمر الله راجون فرج الله، وجعلنا هذا فقط مجرد سبب؛ فلا بأس بذلك، أما أن نجعل هذا هو السبب الأعظم، ونتخلى عن دعائنا لربنا سبحانه وتعالى؛ فهذا فيه خلل كبير في القصد والمعتقد.
وثم وجه آخر في تفسير قوله الله تبارك وتعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42] ، ألا وهو: أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف صلى الله عليه وسلم، فإن اعترض على هذا التأويل باعتراض: أن هذا نبي، وقد لا يتأتى في حقه هذا المذكور.
ف
الجواب
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، وأنسى كما ينسى البشر) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] .(26/13)
تفسير يوسف لرؤيا الفتيين
قال الله سبحانه وتعالى: وقال يوسف الصديق بعد هذا البيان في التوحيد، وبعد ذكر فضل الله عليه، وعلى آبائه وأجداده، قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف:41] ، أي: سيخرج وينجو، ويرجع إلى بيت السيد الملك، ويسقيه خمراً مرة ثانية، ويقوم على خدمته ويناوله كئوس الخمر، {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] ، من أهل العلم من قال: إنهما لما أُخبرا بهذا التأويل قالا: ما رأينا شيئاً، فخاطبهما يوسف بقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، أي: قد حق تأويل الرؤيا عليكما، ولم نقف على شيء من السنة إنما هي آثار مأخوذة عن بعض السلف الصالح رحمهم الله.(26/14)
دعوة يوسف للمسجونين إلى توحيد الله وعبادته
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] ، وهذا من حسن الأدب في الخطاب، فيذكر هنا بشيء جامع له معهما، أي: يا صاحباي في السجن، وهذه لها أثرها في التأثير في النفوس، كما تقول: يَبْنَؤُمَّ! فتذكره بالرابطة التي بينك وبينه، أو: يا ابن أخي! يا ابن بلدي! يا مسلم مثلي! فكلها روابط تجعل النفس مؤهلة لقبول ما سيلقى عليها.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} ، يا من ابتليتما مثلي بالسجن! فهذه رابطة يثيرها يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن نثير الروابط التي تفتح الصدور عند الخطاب، فإن الأنفس جبلت على التقارب من مثيلها ونظيرها، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، أآلهة متعددة خير أم إله واحد؟ من نطيع من هؤلاء الأرباب؟ إن الله سبحانه ضرب مثلاً للموحد مع المشرك، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] ، أي: عبد يتنازعه جملة من السادة، {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29] ، أي: رجلاً يتلقى أوامره من رجل واحد، وآخر يتلقى أوامره من عشرة، هذا يقول له: افعل كذا، وهذا يقول له: بل افعل كذا، وثالث يقول له: بل افعل كذا، فإذا أطاع هذا أضر به ذاك، وإذا أطاع هذا أضر به الآخر، فأيهما أسلم وأحكم: أن أتبع إلهاً واحداً أم آلهة متعددة؟ وليس ثَم إله إلا الله فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وكما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:42-43] .
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، الذي قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، ثم قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40] ، أسماء لا حقيقة لها، ولا تأثير لها، سميتموها واختلقتموها وادعيتم لها الربوبية، وليست من الربوبية في شيء، وليست من الألوهية بمكان، {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] ، فما أنزل الله في كتابه: أن اعبدوا اللات أو العزى، أو مناة الثالثة الأخرى، أو هبل، أبداً، ما أنزل الله ذلك في كتابه، ولا أنزل الله على لسان رسله: أن ادعوا الولي الفلاني من دون الله وإلى من كان يتقرب الخليل إبراهيم؟ وماذا قال الخليل إبراهيم؟ {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80-81] سبحانه وتعالى جل شأنه وعز جاهه.
{مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، وليس ثم حجة على ربوبيتها، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ، الأمر والقضاء لله، والحكم حكمه، والخلق خلقه، والقضاء قضاؤه، والتشريع شرعه سبحانه وتعالى، {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] ، القويم المستقيم، الموصل إلى مرضاة الله، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أن نفرد الله بالألوهية وبالوحدانية، وأن نتحاكم إليه وحده لا شريك له.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وحق ما قاله ربنا؛ فأكثر الناس جهلة، وأكثر الناس في شرك وضلال، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وكما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وكما قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر وليس معه أحد) ، ففي هذا تعزية وتسلية لأهل الإيمان، فأهل الإيمان أقلة، أهل الإيمان قلة على مستوى أو على مدار القرون والعصور، فلتتعز ولتتسل بقلة أهل الإيمان في كل زمان وفي كل مكان، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في سائر الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض) .
قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، فهم في غمرة ساهون، جهلة بعيدون عن الصواب والحق.
ثم بعد هذا التقرير والتمهيد في أبواب التوحيد، لم يكن ليوسف عليه السلام أن يغفل دعوة التوحيد؛ فهؤلاء جهلة، ولهم حق علينا أن نعلمهم أمر دينهم، قوم لم يرد عليهم من يعلمهم الدين ولا التوحيد، فعلى نبي الله يوسف وعلى سائر الدعاة أن يعلموا أمثال هؤلاء الدين الحق؛ إذ الدعوة إلى الله لازمة، ثم هي شرف لفاعلها، فهي عمل المرسلين عليهم الصلاة والسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، فلم يمتنع يوسف لكونه في السجن من أن يبلغ دعوة الله ودين الله الحق، وما صده سجنه عن ذلك أبداً؛ بل أدى الرسالة صلى الله عليه وسلم كما أداها إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولم يمنعه السجن من إبلاغ دعوة الله بين يدي تأويل الرؤيا.
فالأمور يقدم أهمها ثم الأهم؛ (فإن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وثَم رجل يخبر بأنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه، فليذكر مثل هذا بشيء عساه أن ينتفع به قبل الممات، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل، فلقد عاد النبي عليه الصلاة والسلام غلاماً يهودياً كان يخدمه، فقال له (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله ثم مات.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) ، وهذا مقام ليوسف عليه السلام يفسر فيه رؤيا، وفي تفسيرها: أن أحدهما سيموت، فجدير به إذاً أن لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، بل يعلمهم وينتفع بذلك، فهو أولى من تعليم الرؤيا، وحينئذ قدم يوسف عليه السلام الأنفع وهو تعليم التوحيد قبل تأويل الرؤيا.(26/15)
إعلام الله لأنبيائه ببعض علم الغيب
نرجع فنقول: إن علامات الإحسان كانت بادية على يوسف صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من جمال وعقل صلى الله عليه وسلم، فمن ثم قال الفتيان: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، فقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم معلماً وبالله مذكراً: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] ، أي: أي طعام سيأتيكم سأخبركما به، ستأكلان غداً كذا وكذا، وستأكلان ظهراً كذا وكذا، وعصراً كذا وكذا فإن قال قائل: هذا علم غيب، وعلم الغيب لا يعلمه إلا الله، فما هو وجه قول الصديق يوسف لهما هذا القول؟!
و
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى يستأثر أنبياءه ببعض أنواع العلوم التي لا يستأثر بها غيرهم، فالله يستأثر أنبياءه ويخصهم ببعض أنواع العلوم مما هو آت مما لا يعلمها غيرهم، إكراماً من الله لهم، ودليل ذلك من كتاب الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26-28] ، فقول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من كتاب حين نزل عليه: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وإخبار النبي بأمور لم تكن وقعت، فوقعت بعد ذلك ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فمن ثم قال يوسف عليه السلام: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] ، أي: ليس من عند نفسي، إنما هذا العلم من الله، فهو يخبرهم عن الله، ويعلمهم بالله، فهم قوم يجهلون ربهم، ويجهلون معرفة الله، فقال لهم يوسف بالله معلماً ومذكراً: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] .(26/16)
ترك يوسف لملة الكفر واتباعه لملة الإسلام
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} الذين هم: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، فيجوز إذاً أن يطلق على الجد البعيد أب، وقد قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، وهذا له أثره الفقهي؛ ففي أبواب الفرائض منزلة الجد عند عدم وجود الأب، ومن العلماء من قال: إنه يحجب الإخوة في حالة عدم وجود الأب، وهذا قول فريق كبير من العلماء، ومنهم من أشركه مع الإخوة في الميراث.
قال الله تبارك وتعالى: قال يوسف الصديق، وهنا نقول: هل الأصوب أن نقول: قال يوسف الصديق، أم نقول: قال الله تعالى إذا رمنا أن نقول: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ؟ الظاهر أننا نقول مباشرة: قال يوسف الصديق: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، ولا نقول: قال الله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ، ولا نقول أيضاً كما قال البعض أن هذا حكاية عن يوسف؛ لأن هذا ليس من صنيع الرسول، بل الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] ، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ) ، ولم يقل: إذ قال الله حكاية عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] ، وكذلك قالت عائشة فيما سلف بيانه: (فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ، ولم تقل: كما قال الله حكاية عن أبي يوسف، فمن ثَم نقول: قال يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} ، والملة هي: الدين، ولها معانٍ أخر.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، أي: ما كان ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء، ما صح وما جاز وما ينبغي لنا أبداً أن نشرك بالله من شيء، {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} ، وأكبر فضل على الإطلاق أن يرزقنا الله التوحيد سبب النجاة يوم القيامة؛ فمن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار، والشرك ذنب لا يغفر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومن ثم فالفضل كل الفضل في توحيد الله سبحانه، فهي أعظم النعم على الإطلاق أن نرزق التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ} ، أي: ما رزقنا به من التوحيد من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، ويجعلون لله شركاء.(26/17)
تسلية الله ليوسف بالفتيين في السجن
وقوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} ، كما هو معروف أن الاشتراك في المصيبة يخففها ويهونها، ما دامت في مصيبة من مصائب الحياة الدنيا، وقد قالت الخنساء مقولتها المشهورة: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس منهم بالتأسي وأحسن من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً) ، أي: الموت، فيعزيها النبي صلى الله عليه وسلم ويسليها، وبأن الذي يصيب أباها يصيب غيره كذلك، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] .
أرجع فأقول -وبالله التوفيق-: إن الاشتراك في المصيبة يهونها ويخففها، إلا مصائب الآخرة والعياذ بالله! فالله يقول لأهل الكفر: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ، أي: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب يوم القيامة في التخفيف عنكم شيئاً، فدخول الفتيين مع يوسف السجن فيه نوع من التخفيف عنه صلى الله عليه وسلم.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان تبدو على الوجوه، سواء في السجون أو في خارج السجون، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان والصلاة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ، وكذلك علامات الصلاح تظهر من كلمات تخرج من الأفواه، فالرجل الطيب والمرأة الطيبة تعرفهم من طيب قولهم، إذ قال الله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، وقال في شأن أهل النفاق: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] .(26/18)
دخول الفتيين السجن مع يوسف
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} ، الفتى هو الشاب، والفتاة هي الشابة، قال أحدهما ليوسف صلى الله عليه وسلم مستفسراً ومخبراً: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] ، أي: يعصر عنباً، فيؤول العنب إلى خمر، وأطلق عليه خمر باعتبار ما سيؤول إليه، فأحياناً يطلق اللفظ باعتبار ما هو آت، وأحياناً يطلق باعتبار ما قد فات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، أي: باعتبار ما ستؤول إليه أموال اليتامى، فإنها ستؤول إلى نار في البطون، وباعتبار ما قد فات، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] ، ولا يُؤتى اليتامى أموالهم إلا بعد البلوغ، ولا يتم بعد بلوغ، فأطلق عليهم يتامى باعتبار ما كان من أمرهم، كما أطلق على الرسول: يتيم أبي طالب، لكونه كان يتيماً عند أبي طالب، وكما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46] ، فأطلق عليهم سحرة باعتبار ما كانوا فيه من سحر، وإلا فلا سحر مع سجود.
{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ، يعني: أعصر عنباً فيؤول العنب إلى خمر، {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان وسيم الصلاح تصاحب المحسنين في السجون والبيوت والطرقات.(26/19)
سلسلة تفسير سورة يوسف [4]
صبر يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن، وكانت العقبى هي الوزارة والملك وإظهار براءته على الملأ بأنه سجن بلا سبب يظهر للناس، وأبدله الله بالعبودية الملك والتمكين في الأرض، إذ هو أهل لكل ذلك ولا شك، وهذه سنة الله تعالى مع كل عبد صالح.(27/1)
رؤيا الملك وتعبيرها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43] ، هذا يقوله ملك مصر لملئه وحاشيته، {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} ، أي: في رؤيا منامية، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} ، أي: ضعاف هزال، وهذا منظر ملفت للنظر: أن يرى شخص رؤيا مؤداها: أن سبع بقرات هزال يأتين على سبع سمان فيأكلنهن.
{وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [يوسف:43] ، والملأ: هم الأشراف، {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف:43] ، أي: أولوا لي رؤياي وعبروها لي، {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] ، إن كنتم من أهل العلم بتعبير الرؤى، لكنهم قالوا مقولة من لا علم له بهذا الباب: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف:44] ، ومرادهم بالأضغاث: الأخلاط، أي: أخلاط من التي تأتي المرأ في نومه، والضغث: هو الخليط، والضغث أيضاً جاء في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] ، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44] ، وهذه رؤيا قد ساقها الله إلى هذا الملك لأمر يريده ويدبره الله سبحانه، فالله هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.(27/2)
تفسير قوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه.)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] ، قوله: ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)) هل هو استمرار لمقولة المرأة، أي: أنها تحرص على إرضاء يوسف في غيابه؟ هذا ما قال به فريق من المفسرين، أم هو قول يوسف عليه السلام: أي أني لم أخن سيدي بالغيب في امرأته؟ وهذا له وجه كذلك، ومن العلماء من استظهر له بنماذج من كتاب الله، وأن قول يوسف عليه السلام كقول الكفار: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] ، أي أن الملائكة تجيبهم إذ قالوا: ((مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)) ؟ ((هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) ، فهنا تحول في الخطاب، وكذلك في قول الله تعالى: قالت ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34] ، فهل قوله: ((وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) من قول المرأة، أم إقرار من الله لها؟ فيه وجهان لأهل العلم، ونحو ذلك: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34-35] ، فقول: ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) هل هو من قول فرعون مستمراً في قوله، أم هو قول الملأ من قومه؟ لما قال لهم: ((إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)) ، أجابوه بقولهم: ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) ؟ على لهجة من يعظمون الملوك ويخاطبونهم بلفظ الجمع.
فقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] هل هو قول المرأة أو قول يوسف؟ فيه وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: أن المرأة تحرص على إرضاء يوسف في غيابه، وتريد كذلك أن تكون وفية أمام يوسف عليه السلام.
والوجه الثاني: أنه من قول يوسف حتى يبرئ ساحته ولا يكون قد خان سيده الذي كان يعمل عنده، وكما تقدم: أن تبرئة الساحات مطلوب خاصة لمن سيتقلد عملاً من الأعمال المهمة التي تهم العموم، والله أعلم.
{وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ، ولا يوفق الخائن في تدبيره وسعيه، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف:53] ، هل هو قول يوسف أو قول المرأة؟ فيه قولان كذلك: فمن العلماء من قال: لما سمع يوسف ذلك قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، ومنهم من قال: إن المرأة ما زالت مستمرة في تخطئة نفسها وإظهار براءة يوسف صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] ، وهم قليل، وغفور: أي كثير المغفرة رحيم بخلقه، فباب التوبة دوماً مفتوح، فليقبل على الله كل مذنب، وليقلع عن ذنبه، وليقبل إلى الله كل ظالم وليقلع عن ظلمه.(27/3)
تبرئة الله للصالحين في كل موطن
قالت امرأة العزيز مبرأة ليوسف صلى الله عليه وسلم: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] ، أي: وضح الحق وتبين، {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ، مفاد كلامها: أنها هي التي من الكاذبين، فحينئذ أظهرت الحق جلياً واضحاً، وكل ذلك بإذن الله، وكل ذلك نصرة من الله للمظلوم، وتبرئة من الله سبحانه وتعالى للمظلوم، وهكذا ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، فليهدأ بالاً كل مظلوم فإن الله سبحانه وتعالى سيبرئه، كما برأ مريم مما اتهمت به، إذ قال لها قومها: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] ، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، فبرأها لله وأنطق لها وليدها في المهد قائلاً: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:30-31] ، وكما برأ الله سبحانه وتعالى عائشة رضي الله عنها مما اتهمت به من الإفك والبهتان في حديث الإفك في آيات تتلى في المحاريب.
وبرأ الله جريجاً العابد كذلك؛ فقد أتته إحدى المومسات، وقالت لقومها: لأفتنن جريجاً، فذهبت إليه تدعوه إلى البغاء معها، فأبى عليها وامتنع، فأمكنت نفسها من راعي للغنم، فحملت منه وولدت، فأتاها قومها وقالوا لها: من أين جئت بهذا الولد؟ قالت: من جريج! فجاءوا إليه وأنزلوه من صومعته وضربوه وآذوه، وهدموا الصومعة، فقال: ائتوني بالطفل، فأتي به، فقال له: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي الراعي! وبرأ الله جريجاً بذلك، فبنوا له صومعته وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب فعلنا، فقال: لا أعيدوها كما كانت.
وبرأ الله سبحانه وتعالى زيد بن أرقم لما نقل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقولة أهل النفاق؛ إذ قال عبد الله بن أبي ابن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، فجاء ابن أبي وأنكر ذلك أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على زيد بن أرقم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم يقول له: (إن الله قد صدقك يا زيد) ، وبذلك كانت الأنصار تفتخر فتقول: (ومنا الذي أوفى الله له بأذنه) أي: صدق الله له أذنه.
وكذلك كانت ثَم جارية زمن عائشة رضي الله عنها تأتي عائشة فتقول: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني وكانت تكثر من ذلك، فسألتها عائشة رضي الله عنها عن سبب قولها لهذا البيت، فحكت لها ما هذا معناه: أنها كانت عند قوم، ففقدوا وشاحاً من ابنتهم، فاتهموا به الجارية، قالت: ففتشوا كل شيء فيّ حتى فتشوا قبلي، قالت: وبينما هم كذلك إذ جاءت حديّة فألقت الوشاح علي وهم يفتشونني، فأظهر الله عز وجل براءتي.
وهكذا ينجي الله المتقين، وهكذا يبرئ الله ساحة المظلومين، وإن كان هذا في الدنيا فهو في الآخرة آت يقيناً لا محالة، فربنا سبحانه ينصر أولياءه ويبرئ ساحاتهم.(27/4)
استدعاء الملك ليوسف
قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] ، والناظر إلى هذه الآية الكريمة وما سلف يتبين له بوضوح وجلاء: أن جمال يوسف صلى الله عليه وسلم كان سبباً في دخوله السجن جماله ثم عفته وطهارته، لكن علمه الذي آتاه الله إياه كان سبباً في إخراجه من السجن، فيظهر حينئذ فضل العلم على الجمال، وكذلك في مواطن أخر يظهر فضل العلم على المال، قال الله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] ، وقال في الدنيا برمتها وما يُؤتاه ابن آدم فيها: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] .
فمن ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، ولا يخفاكم -معشر الإخوة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، وقال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، ومن هنا تظهر فائدة العلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف:50] ، أي: ارجع إلى سيدك الملك، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] ، ولم يقل: فاسأله ما بال امرأة العزيز؟ فالتعميم أولى من التخصيص؛ لأن التعميم أولى وأبعد عن التجريح والإهانة من التخصيص، ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع من رجل شيئاً وأراد أن يخطب في الناس خطب فقال: (ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا) ، ولا يسمي هذا الشخص باسمه، عليه الصلاة والسلام.
فمن ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام معمماً غير مخصص: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي: ما شأنهن، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] ، فسألهن الملك كما أفاده السياق، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} [يوسف:51] ، أي: ما شأنكن {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] ، مظهرة للحق ومجلية له، ومعترفة بالذنب: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] ، اعترفت هذه المرأة بالحق الذي كان من أمرها مع يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينصر الله سبحانه وتعالى الفضيلة، وهكذا ينصر الله الفضلاء، فهي تثني على من امتنع عن فعل الفاحشة معها، وثَم نساء يلعنَّ من فعل الفاحشة معهن، وثم نساء وفتيات يتلذذن لحظة من اللحظات بالفاحشة، ثم بعد ذلك يلعن من ارتكب معهن الفاحشة في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لكن ينصر الله الفضيلة، ويعز الله أهلها دائماً.(27/5)
تعبير يوسف لرؤيا الملك
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] ، أي: في رؤيا مؤداها: سبع بقرات سمان، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:46] ، أي: هزال ضعاف، {وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46] ، فيوسف صلى الله عليه وسلم قد علمه من قبل التوحيد وأظهر له أمر الدين والمعتقد، فالمقام حينئذٍ مقام دخول مباشر في تأويل الرؤيا، ولم يشترط يوسف للتأويل شرطاً، وهذا من كرم يوسف صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بإسناد مرسل -والمرسل من قسم الضعيف- من طريق عكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد عجبت والله من كرم أخي يوسف وفضل أخي يوسف، لما أتاه السائل يسأله: أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، عبر له الرؤيا، ولو كنت مكانه لاشترطت الخروج من السجن، والله يغفر له،) (ولقد عجبت والله من كرم أخي يوسف وصبر أخي يوسف والله يغفر له، لما أرسل إليه الملك قائلاً: ائتوني به! قال: ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه لأجبت الداعي) ، وهذا الخبر مرسل كما سمعتم، وسيأتي بعضه متصلاً.
قال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم مفسراً الرؤيا ومعبراً لها: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف:47] ، أي: متصلة متواصلة، تثمر فيها الأرض باستمرار طول السبع سنين، {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47] ، أي: فاتركوه في سنبله، وهذا من فن علم التخزين، فكتاب ربنا ما فرط الله فيه من شيء، فإن أصول العلوم في كتاب الله فأصل علم الحدادة في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] ، والهندسة والفواخير في كتاب الله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] ، وكذلك قول الله تعالى: {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] ، وأصل علم الزراعة كذلك في كتاب الله، وأصول الصنائع كلها في كتاب الله، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47] ، أي: اتركوه مخزنين له في السنبل، {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47] ، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48] ، أي: قحط شديد، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] ، أي: تدخرون، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49] ، أي: يأتيهم الغيث، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49] أي: يعصرون العنب فيصبح خمراً، ويعصرون القصب فيصبح سكراً.
هكذا فسر يوسف صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا للمك: تزرعون سبع سنين متصلة، فما حصدتم فذروه في سنبله، فهو يعلمهم كذلك ولا يكتفي بالإخبار، فهل يجوز من ذلك بيان وجوه الانتفاع للكفار؟ استدل به على جواز ذلك؛ لأن يوسف عليه السلام علم الكفار ما ينفعهم وينقذهم من المجاعات، فعندئذ يجوز مثل هذا ما لم يكن الكافر محارباً، وسيأتي في ذلك مزيد بحث إن شاء الله تعالى.
فيوسف أوَّل الرؤيا وعملهم كذلك طريقة العلاج أثناء هذه السنوات: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] .(27/6)
مشروعية دفع الشبهات عن النفس
أعجب الملك بهذا التأويل إعجاباً شديداً، فأرسل ليوسف صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] ، فلم يتعجل يوسف صلى الله عليه وسلم الخروج، بل قال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] ، هكذا أراد يوسف صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ساحته قبل الخروج، فأخذ من ذلك مشروعية دفع الشبهات التي ترد على الشخص، ولهذا أصل عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بل أصول؛ فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته زوجته صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، فقضت معه ساعة، ثم خرج معها يقلبها إلى دارها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد، فبينا هو على باب المسجد إذ مر به رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً) ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع الشبهة عن نفسه حتى لا يظن به أحد الظنون، فأبان للصحابيين الجليلين أن المرأة التي معه إنما هي صفية بنت حيي.
وكذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يقضي بينهما في مسألة العسيف المشهورة، فقال أحدهما: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا الرجل -أي: أجيراً عنده- فزني بامرأته، وإني قد أعطيت هذا الرجل مائة شاة ووليدة -أي: أمة فداء لابنه- ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني بغير ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وأقسم حتى يقذف في قلبيهما اليقين بالحكم الذي سيصدر- قال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الشاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) .
ومن ذلك أيضاً: سرور النبي صلى الله عليه وسلم الزائد؛ فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً تبرق أسارير وجهه من السرور، فسألته عائشة رضي الله عنها عن سبب سروره، فقال: (يا عائشة! أما شعرت أن مجززاً المدلجي نظر آنفاً إلى زيد وأسامة فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) ، ومجزز هذا رجل قائف، أي: يقف الآثار، ويعرف قدم هذا من قدم ذاك، ويد هذا من يد ذاك، وكان زيد بن حارثة وابنه أسامة نائمين وغطيا أجسامها وبدت أرجلهما، وكان زيد -كما هو معلوم- أبيض شديد البياض، أما أسامة فكان أسود شديد السواد، فمن ثَم كان البعض يغمز في أسامة، فأتى مجزز المدلجي ورجل أسامة بادية وهي سوداء، ورجل زيد بادية وهي بيضاء، فقال مجزز: أشهد أن هذه الرجل من تلك الرجل، أي: أن هذا ولد لذاك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الشبهة عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
فكهذا ينبغي للشخص -خاصة من سيتقلد منصباً كيوسف صلى الله عليه وسلم- أن يبرئ ساحته حتى لا يتهم، وأن يبعد الظنون عن نفسه، فهذا مقصد شرعي، فلذلك لما أرسل الملك رسوله قائلاً: (ائْتُونِي بِهِ) ، لم يتعجل يوسف ولم يتسرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثنياً عليه في هذا الصنيع: (لو لبثت ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ، وفي رواية: (ثم أتاني الداعي لأجبته) ؛ ففي هذا ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام، ومن العلماء من يقول: إن الشخص إذا لم يكن يتحمل السجن وأتاه الداعي فليخرج، وحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.(27/7)
إرسال الملك الرسول إلى يوسف
حينئذ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} [يوسف:45] ، أي: من الفتيين اللذين كانا مع يوسف صلى الله عليه وسلم؛ ففيه دليل على أن رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام قد تحققت، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] ، أي: تذكر بعد أمة، والأمة هي المدة الزمنية، وأحياناً تطلق الأمة على معانٍ أخر، منها: الجماعة من الناس، كما في قوله تعالى: {فوَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] ، وتطلق الأمة أيضاً على الملة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] ، على رأي كثير من المفسرين، أي: ملتكم ملة واحدة، وتطلق الأمة كذلك على الرجل الحنيف العاقل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، وهنا تطلق الأمة على المدة الزمنية؛ فالكلمة الواحدة من كتاب الله تتعدد معانيها، وينبغي أن تفسر في كل سياق بالمعنى المناسب لها، وإلا حدنا عن طريق الجادة في التأويل والتعبير والبيان.
قال الله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45] ، أي: فأرسلوني إلى يوسف في السجن واسمحوا لي بزيارته، فأفاد السياق أنهم أذنوا له وأرسلوه، فانطلق قائلاً: {يُوسُفُ} [يوسف:46] ، أي: يا يوسف! {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] ، أي: يا أيها الصديق! يا من بشرتني بالنجاة، وفيه ثناء على الشخص بين يدي الطلب منه.(27/8)
تمكين الله ليوسف في الأرض
لما سمع الملك هذه الشهادة الطيبة من هؤلاء النسوة عموماً، ومن امرأة العزيز على وجه الخصوص، كل ذلك لما سمعه الملك بوضوح وجلاء، وبلا تدليس وغش، قال على إثر ذلك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] ، أي: أجعله مستشاراً خاصاً بي أستشيره في أموري، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} [يوسف:54] ، إن يوسف عليه السلام قد رفع الله قدره في الدنيا فضلاً عن الآخرة أتى يوسف إلى الملك من سجنه، وكلم يوسف الملك، وكلم الملك يوسف صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] ، أي: عندنا ممكن أمين، أي: لك مكانة ووجاهة ومستأمن.
وحينئذٍ سأل يوسف صلى الله عليه وسلم عملاً عند هذا الملك -وهو كافر- لمصلحة عامة يراها صلى الله عليه وسلم، ولأمر يريده الله سبحانه وتعالى.(27/9)
أعطاء الله الملك ليوسف وتدبيره له
يوسف عليه السلام كان ينتظر سبعاً شداداً وقبلها سبعاً سماناً، فكان يحتاج إلى تدبير الأمور، وقد علمه الله ذلك، فحينئذٍ ليس هناك مانع في أن يظهر ما عنده من الكفاءات، وليس هذا من باب الرياء بل للصالح العام، وجائز أيضاً مساعدة من هم على غير الإسلام في كرب سيقعون فيه ما لم يكونوا من المحاربين.
فأجابه الملك إلى طلبه، فهو عنده كما ذكر من قبل: مكين أمين، قال الله سبحانه وتعالى وهو الذي يولي الناس المناصب، وهو الذي ينزعها منهم، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وما الملك إلا سبب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} فالذي مكن له في الحقيقة هو الله وليس الملك، فما الملك إلا سبب من الأسباب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف:56] ، أي: ينزل منها حيث أراد.
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:56] ، أي: نتفضل برحمتنا على من نشاء، ونصيب بفضلنا من نشاء، كما قال تعالى في السحاب المسخر الذي ينزل على أنه غيث فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، فالله يرزق من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، فإذا علم الناس ذلك فعليهم أن يأتوا البيوت من أبوابها، ويطرقوا باب ربهم سبحانه وتعالى الذي لا يغلق، فإليه المنتهى في كل شيء: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ، فخزائن كل شيء بيديه، والأمر في كل شيء ينتهي إليه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56] ، فالمحسن لا يذهب إحسانه عند الله سدى، بل الله له شاكر، قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ، فالله لا يضيع أجر المحسنين أبداً، بل يثيبهم على أجرهم، ويعجل لهم بالخيرات أحياناً، ويدخر لهم كامل الثواب أحياناً أخرى.
فليفهم ذلك الفاهمون، وليعمل لذلك العاملون، وليحسن في الأبواب كلها المحسنون، وليس هذا في الدنيا فحسب؛ بل قال تعالى: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57] ، فلنحتسب الأجور عند الله، ولنقدم على عمل الصالحات والإحسان؛ فربنا رب شكور غفور {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(27/10)
حكم تولي الإمارة وتزكية النفس
وهنا يرد سؤالان: السؤال الأول: كيف سأل يوسف عليه السلام الإمارة ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، ويقول: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها وكلت إليها، وإن أعطيتها بغير مسألة أعنت عليها) ، فكيف إذاً يسأل شخص الإمارة والنبي نهى عن ذلك؟
و
الجواب
أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام ظلم متفش، وبتوليك للإمارة ستصلح ما أفسد غيرك من الناس، وترى في نفسك القدرة على ذلك؛ فلا بأس حينئذ بطلب الإمارة، وقد طلبها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه: وهو قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، فكيف زكى نفسه ورب العزة يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أثنى رجل على رجل فأطرى وبالغ في الثناء-: (ويحك! قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) .
فكيف نوفق بين هذه النصوص وبين سؤال يوسف وبين تزكيته لنفسه؟ والجواب: أن المقام مقام يحتاج إلى بيان القدرات، وهذا من بيان القدرات، وليس من باب التعالي على الخلق، وأيضاً قد زكى النبي قوماً من صحابته كي تحفزهم هذه التزكية على ممارسة العمل ابتغاء وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عثمان: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، وقال في شأن علي: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ثم قال: أين علي؟) ، وقال في شأن أبي بكر: (آمن بي إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني) ، وقال في شأن عمر: (ما لقيك الشطان سالكاً فجاً إلا سك فجاً غير فجك يا ابن الخطاب، إن الشيطان ليفر منك يا عمر) ، وقد قال عثمان يوم أن حوصر -وقد أشرف على الناس-: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حفر بئر رومة فله الجنة) ، فحفرتها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) ، فجهزته؟ فقالوا: اللهم نعم.
فقال: فبم يقتلونني؟ فأظهر بعض مناقبه حتى يدفع هؤلاء الأشرار الذين أرادوا قتله، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد قتله الثوار الخوارج لا جزاهم الله خيراً.
إذاً: معشر الإخوة! تجوز التزكية أحياناً بحسب الاحتياج إليها، فقد يكون في التزكية -أحياناً- دفع للهمم وشحذ لها؛ لمواصلة العطاء، أما إذا كان في التزكية قطع للأعناق وتملق وتكلف، فتذم حينئذٍ التزكية، وينبغي أن ننزل الأمور المنزلة اللائقة بها، وهذا هدي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وجاء عدي بن حاتم الطائي وهو معروف بكرمه وببذله للإسلام وبعطائه، وقد ارتد قومه بعد وفاة الرسول وثبت هو، وحارب قومه إلى أن يسلموا، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوجد أمير المؤمنين عمر معرضاً عنه، فناداه: يا أمير المؤمنين! أما تعرفني؟ فقال عمر: أعرفك وكيف لا أعرفك؟ أنت الذي أسلمت وثبت إذ كفروا، أنت الذي أعطيت إذ منعوا، أنت عدي بن حاتم، فقال: إذاً لا أبالي يا أمير المؤمنين! فأحياناً يحتاج الشخص إلى إظهار مناقبه وبيان قدراته لعمل يوكل إليه.(27/11)
ما يشترط توفره في الأجير والعامل
قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، لِم؟ قال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، ومن هنا يؤخذ شيء يتعلق بالفقه في العامل الذي يستأجر للعمل، فالعامل الذي يستأجر للعمل ينبغي أن يكون قوياً على هذا العمل، والقوة بحسبها، وينبغي أن يكون أميناً، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، فلزاماً في الأجير أن يتوافر فيه الشرطان: القوة والأمانة، القوة بحسبها، والأمانة معروفة.
وكشاهد آخر لهذا المعنى الذي ينبغي أن يكون في المستأجر: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39] ، وقال تعالى في شأن جبريل عليه السلام وهو السفير بينه وبين رسله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ، أي: قوي له مكانة، مطاع هناك في الملأ الأعلى، وأيضاً هو أمين، فَوُصف جبريل بالقوة والأمانة كذلك.
وهنا يوسف عليه السلام يقول: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، حفيظ الأمانة، عليم القوة، وكما سلف فالقوة بحسبها، فقوة الطبيب لا تكون في بدنه بالدرجة الأولى؛ إنما تكمن في قدرته على تشخيص الأمراض، ووصف العلاج المناسب للداء، وقوة المهندس لا تكمن في بدنه بالدرجة الأولى بل في عقله وذكائه وقدرته على التخطيط، وقوة المدرس تكمن في علمه وإيصاله المعلومة إلى طلابه، وقوة العالم تكمن في حفظه وذكائه وعلمه بأحوال الناس، وإعطاء الفتيا المناسبة لكل حال من الأحوال، وهكذا فالقوة بحسبها وبمنزلتها، فقد يكون الشخص قوياً في دينه لكنه لا يصلح في جانب آخر من الجوانب.
فعلى سبيل المثال: أبو ذر رضي الله عنه في دينه أقوى من خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد قال النبي في أبي ذر: (ما أقلت الغبراء -أي: الأرض- ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) ، ولكن في الإمارة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! لا تتأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) ، وخالد كان يتولى الإمارة ويؤمره النبي صلى الله عليه وسلم على عدد هائل من فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، أي: عليم بتسيير الأمور بإذن الله، فالسنوات القادمة سنوات شدة ومجاعة تحتاج إلى حفظ وعلم بالإدارة كذلك.(27/12)
حكم العمل عند الكافر لمصلحة
وهنا يرد بحث: هل يسوغ لمسلم أن يؤاجر نفسه من مشرك؟ والجواب فيه تفصيل: فإن كان هذا العمل عند المشرك فيه إهانة لدين المسلم، فلا يسوغ له أن يعمل عنده.
أما إذا لم يكن فيه إهانة وكان العمل في نفسه مشروعاً، فلا بأس بهذا العمل، فقد أورد البخاري في صحيحه باباً: (هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب؟) وأورد حديث خباب بن الأرت قال: كنت قيناً في الجاهلية، فعملت للعاص بن وائل، ثم جئت أتقاضاه فقال: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى قيناً: أي حداداً، والعاص بن وائل هو العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص، قال: فقلت له: لا والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم ييحيك، قال: أو أنا ميت ثم حي؟ قلت: نعم، ستموت ثم تحيا، قال: فعند ذلك أعطيك حقك؛ فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77-80] ، ففي قوله: (كنت قيناً فعملت للعاص بن وائل) ما يدل على الجواز.
وقد ورد في هذا الباب أثر عن علي ينظر في إسناده: أنه كان جائعاً ذات يوم فعمل عند يهودي على استخراج ماء من بئر كل دلو بتمرة، فاستخرج إلى أن استجمع تمرات تكفيه، ثم ترك العمل.
وهذا لم أبحثه بعد، ثم هو موقوف إن صح على علي رضي الله تعالى عنه.(27/13)
سلسلة تفسير سورة يوسف [5]
يوسف عليه السلام كريم كآبائه كما وصفهم النبي عليهم الصلاة والسلام جميعاً؛ فرغم كل ما صنعه به إخوته فقد أوفى لهم الكيل، وأكرمهم في المنزل، ورد إليهم بضاعتهم، وطلب منهم أخاً زيادة لهم في الكيل؛ فعادوا إلى أبيهم ليرسل معهم أخاهم؛ فأرسله معهم، لكن بعد أن استوثق منهم بالأيمان، ونصحهم بنصائح أخذاً بالأسباب، ولعلم علمه الله إياه؛ فهو نبي، وعنده من العلم الشيء الكثير.(28/1)
مجيء إخوة يوسف ودخولهم عليه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول الله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ، بيانه أنه قد حلت بمصر وبالبلدان المجاورة لها مجاعة شديدة اشتهرت في التاريخ، وبها كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل إذا دعا على المشركين فيقول: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف) ، فهي سنوات شدة وجدب شديد، وهي التي عبرها يوسف عليه السلام للملك بقوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] .
فحلت بمصر مجاعة شديدة، وعمت هذه المجاعة البلدان المجاورة لمصر، فجاء إخوة يوسف عليه السلام من بلاد كنعان إلى مصر من أجل التماس الطعام والزاد لأهليهم، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ، أي: لا يعرفونه، {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59-60] ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني بذلك شقيقه الذي سماه جمهور المفسرين: بنيامين.(28/2)
مزيد إحسان يوسف إلى إخوته
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62] ، أي: البضاعة التي أتوا بها من بلادهم كي يأخذوا مكانها زاداً وطعاماً براً أو قمحاً أو شعيراً؛ ردوها إليهم مرة ثانية في ثنايا الرحال، والرحل: هو الوعاء الذي يضع فيه الشخص متاعه، فبعد أن جهزهم يوسف عليه السلام بالزاد الذي أتوا من أجله وبالطعام الذي جاءوا راغبين فيه؛ أمر غلمانه بأن يدسوا الأموال التي أتى بها إخوته في ثنايا الرحال والطعام والبر والقمح والشعير، فقال لهم: (اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ) ، أموالهم التي أتوا بها وسلعهم التي أتوا لاستبدالها؛ ودسوها ثانية في أوعيتهم، لم؟ قال: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .
لسببين أمر يوسف صلى الله عليه وسلم أن تدس البضاعة في الرحال مرة ثانية: السبب الأول: لعلهم يعرفونها، ومن ثَم يعرفون كرمنا إذا رجعوا إلى أهليهم، فيطمئنوا أهليهم وأباهم أن أخاهم سيكون في يد أمينة، فهذا ملك لا يظلم، وعزيز لا يظلم، فقال لهم: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} [يوسف:62] ، ومن ثم يعرفون كرمنا وإحساننا.
هذا سبب.
السبب الآخر: (لعلهم يرجعون) ، فنحن إذا أخذنا منهم الأموال ورجعوا إلى بلادهم قد لا يكون عندهم أموال أخرى ولا بضاعة أخرى يأتون بها كي يأخذوا مكانها القمح والشعير، لكن إذا وجدوا أموالهم رجعت إليهم رجعوا إلينا مسرعين بأخيهم كي يأخذوا طعاماً جديداً، هذا هو الذي ذكره العلماء في هذا الباب.
غرضان من أجلهما قال يوسف لفتيانه: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} ، الغرض الأول: لعلهم يستدلون على ذلك بإكرامنا وكرمنا، والغرض الثاني: حتى يسرعوا الرجوع إلينا بأخيهم، فإذا وجدوا بأيديهم أموالاً وبضاعة أتوا مسرعين لأخذ القمح مكانها، إذ الناس في أزمة وجوع شديد، وهذه حيلة من الحيل.(28/3)
من أحكام الحيل في الشرع
وكذلك ستأتي حيلة في قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ، وهذه وتلك يؤخذ منها شيء، وهو: مشروعية بعض الحيل إذا لم يكن فيها مخالفات للشرع، والحيل على قسمين في الجملة: حيل مباحة ومستحبة أحياناً، وحيل مكروهة ومحرمة.
أما أصل الحيل المباحة المشروعة في كتاب الله فما جاء في قصة أيوب عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام قد أقسم في مرضه أن يجلد امرأته مائة جلدة لما تخلفت عنه لأمر لم يكن عن تعمد منها، فأقسم إن شفاه الله أن يجلدها مائة جلدة، وامرأته لا تستحق هذا العقاب الشديد، فقال الله له حتى لا يحنث في يمينه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] ، أي: شمراخاً به مائة عود، أو حزمة بها مائة عود، واضرب الزوجة بها ضربة واحدة تكن قد بررت في يمينك يا أيوب، (وَلا تَحْنَثْ) ، أي: ولن تقع في الحنث في اليمين الذي هو عدم الوفاء باليمين.
فهذا من الحيل المشروعة.
ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي ما زالت في عدتها، فكما هو معلوم أنه يحرم على شخص أن يتقدم لخطبة امرأة مات عنها زوجها وهي ما زالت في العدة، لكنه يجوز له أن يعرض، كما قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} [البقرة:235] ، فإذا كانت المرأة على سبيل المثال طويلة وسمراء، ولها أولاد أيتام، فيأتي إليها الرجل معرضاً ويقول: والله وددت أنني تزوجت امرأة سمراء طويلة، أو وددت كذلك أن أكفل أيتاماً، فهذا تعريض، وهي الأخرى تقول: قد فهمت، لعل الله أن يجيبك إلى ما سألت، فهذه صورة من صور التعريض.
وقد ورد عن بعض أبناء جعفر أنه جاء إلى امرأة مات عنها زوجها وهي في العدة يعرض لها فيقول ما معناه: أنا ابن جعفر الطيار، أي: أن أباه يطير بجناحيه مع الملائكة، وعمي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وابنا عمي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعمي علي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قالت المرأة: أتخطبني وأنا في العدة؟ قال: ما خطبتك إنما أنا أعرض، رضي الله تعالى عنه.
الشاهد: أن هذه من الحيل الجائزة، لكن ثَم حيل محرمة ومكروهة: أما المحرمة فتلك التي صنعها الإسرائيليون؛ إذ ذكرهم الله سبحانه في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف:163] ، أي: تأتي الأسماك ظاهرة على وجه الماء غير مختفية، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] ، فكان الإسرائيليون قد حُرِّم عليهم العمل يوم السبت، وابتلاهم الله في هذا اليوم بأسماك تأتي على وجه الماء ظاهرة وبادية في جماعات كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي؛ ابتلاء من الله بسبب الفسق الذي هم فيه، فاحتالوا حيلاً لصيد الأسماك -كما ذكر بعض العلماء ذلك- فنصبوا شباكاً يوم الجمعة؛ حتى يقع السمك فيها يوم السبت ثم يسحبونها يوم الأحد، وغير ذلك من الحيل المحرمة.(28/4)
ضرورة استعمال الرفق والحزم في الأعمال
قال يوسف عليه السلام: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60] ، أي: لا تقتربوا مني ولا من بلادي، وأخذ العلماء من ذلك فقهاً يتعلق بمدراء الأعمال، أو برؤساء الهيئات والحكومات وبرب البيت كذلك، أخذوا فقهاً يتعلق بكل مسئول عن عمل ألا وهو: أن المسئول عن العمل عليه أن يلتزم بشيئين: بالرفق، وكذلك بالحزم إن احتيج إليه.
فيتسم بالرفق إذ هو الأصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإذا أراد بأهل بيت شراً حرموا الرفق) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في كل شيء ويكره التفحش) ، فالرفق يحبه الله سبحانه وتعالى، ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسئول عن العمل أن يتسم به، ويكون رفيقاً بمن هم تحت يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) ، هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فجدير بالمسئول عن العمل أن يكون رفيقاً مرغباً، وأن يكون حازماً شديداً إذا احتاج الأمر إلى حزم وشدة، فإن الله قال لذي القرنين: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] ، فماذا قال؟ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87-88] ، فاستعمل مبدأ الثواب والعقاب كذلك.
وكذلك قال الله سبحانه في شأن نبيه سليمان: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20-21] ، فاستعمل طريقة العقاب كذلك؛ إذ الأعمال تصلح أيضاً وتسلم إذا كان ثم عقاب يُوقع على المخطئ.
هذا وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحليم الرحيم بأمته مبدأ الشدة أحياناً، فقد أرسل رجلاً من أصحابه عاملاً يجمع له الصدقات من بني سليم، ويقال لهذا الرجل: ابن اللتبية، فرجع الرجل فقال: يا رسول الله! هذا المال لكم، وهذا المال أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك، ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس! ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر ما يهدى إليه) ، فاستعمل الرسول الشدة في هذا اللفظ عليه الصلاة والسلام؛ إذ المقام يقتضي ذلك.
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فرأى سعد بن أبي وقاص سيفاً فأعجبه، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ضعه، ثم قال سعد بعد مدة -وقد غلبته نفسه على هذا السيف-: أعطنيه يا رسول الله! فقال: ضعه، ثم بعد مدة قال سعد مرة ثالثة: نفلنيه يا رسول الله! فقال صلوات الله وسلامه عليه: ضعه من حيث أخذته، قال سعد: وحد بي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته) ، أي في المرة الثالثة اشتد عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
فيوسف عليه السلام استعمل هذا الترغيب والترهيب قائلاً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، ثم عرج على الباب الآخر الترهيب والتخويف بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60] ، أي: لا تقتربوا مني! {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:61] ، أي: سنطلبه من أبيه برفق وتلطف، وبشيء من الاحتيال كذلك، فهذا تقتضيه لفظة المراودة، وقد قدمنا معناها.(28/5)
كرم يوسف عليه السلام
أما قوله: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: خير من أكرم الأضياف وأنزلهم منازل حسنة، فإكرام الضيف من سنن المرسلين ومكارم الأخلاق، ومن ثم قال الله سبحانه في شأن إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26-27] ، وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه) ، أي: بقدر الذي ينبغي للضيف، وما زالت العرب والشعراء يثنون على من أكرم الأضياف، فيثني بعضهم على آل عبد المطلب قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف والرجاف: البحر، وما زال الناس يذمون البخلاء؛ بل ذمهم الله في كتابه، وذمهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني عمرو بن الجموح من سيدكم؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على أنا نبخله يا رسول الله! قال: وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم فلان) ، فاختار لهم سيداً آخر غير هذا السيد البخيل.
وقد قال شاعر يذم بخيلاً: رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحكا وما زال الناس يذمون البخلاء؛ فيوسف عليه السلام لم يكن ببخيل صلى الله عليه وسلم، بل قال عن نفسه: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) ، وكيف لا وجده الخليل إبراهيم عليه السلام من أوائل من أكرم الأضياف صلى الله عليه وسلم، وأحسن منازلهم وأكرهم مثواهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكما يقول العلماء: إن العرق نزاع، فيوسف صلى الله عليه وسلم اقتبس كرماً من كرم آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، واقتبس حلماً من حلم آبائه وأجداده صلى الله عليهم وسلم، واقتبس إيماناً من إيمان آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، وقال الله تعالى في شأن قوم من الأنبياء الفضلاء: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] ، أي: في الخير والصلاح.(28/6)
إيفاء يوسف للميزان والمكيال
ثم قال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، فتمدح نفسه بصفتين: أولاهما: أنه يوفي الكيل، وهذه صفة محمودة، وقد ذم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الذين يطففون المكاييل والموازين وتوعدهم بأشد الوعيد، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] .
وأمر الله سبحانه وتعالى بإيفاء المكاييل والموازين في عدة سور من كتابه، فقال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183] .
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] ، وبعث الله نبياً من أنبيائه كان محور دعوته بعد الدعوة إلى التوحيد: الأمر بإيفاء المكاييل والموازين، ألا وهو نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام.
فيوسف صلى الله عليه وسلم قال لإخوته: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: خير من أكرم الأضياف، وهذا ثناء على النفس احتيج إليه في هذا المقام لعلة من العلل، فلا بأس بالثناء على النفس أحياناً، وقد قدمنا ما يفيد ذلك عند تأويل قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .(28/7)
أحداث عودة إخوة يوسف إلى أبيهم
قال الله عز وجل: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف:62-63] ، وهل منع منهم الكيل حقاً؟ لا، ذلك أن يوسف عليه السلام جهزهم بجهازهم -كما سبق- وزيادة في الفضل منه رد إليهم أموالهم وبضاعتهم، فكيف قالوا إذاً: (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ؟ وجه
الجواب
أنهم قالوا: منع منا الكيل باعتبار ما هو آتٍ، أي: يا أبانا! سيمنع منا الكيل، ولهذا نظائر في كتاب الله، فيطلق الشيء واللفظ باعتبار ما هو آتٍ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، فأطلق على أموال اليتامى ناراً باعتبار ما ستئوول إليه، وكذلك تقدم قول السجين ليوسف عليه السلام: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] ، أي: أراني أعصر عنباً فيئول العنب إلى خمر، فأطلق على العنب خمراً باعتبار ما ستئول إليه.
فقولهم: (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) ، أي: يا أبانا سيمنع منا الكيل.(28/8)
ثناء الله على يعقوب بأنه ذو علم
قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:68] ، حرصه على سلامتهم صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتوهم متوهم أن يعقوب ليس على علم، فالله يدافع عن يعقوب، وكما هو الحال فالله يدافع عن أنبيائه وأوليائه، فيقول تعالى مثنياً على يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، حتى لا يأتي شخص يتهم يعقوب ويقول: أخطأ يعقوب، لماذا قال لهم كذا؟ ولماذا قال لهم كذا؟ فيقول ربنا: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، فالله سبحانه وتعالى يدافع عن أنبيائه أوليائه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم داود وسليمان فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78-79] ، وحتى لا يتوهم متوهم أن داود ليس عنده علم قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:79-80] ، فهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، وهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أوليائه.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، فجدير بك أيضاً أن تستعمل هذا الأسلوب وهذا الأدب إذا كنت تحكم أو تقضي بين اثنين، أو ترجح بينهما، فرجح الراجح ثم بعد ذلك لا تحرم الثاني من نوع من أنواع الثناء جبراً للخاطر.(28/9)
مشروعية الأخذ بالأسباب
عُلمنا من نبي الله يعقوب هدياً في هذا الصدد: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، وإلا فالمقدر سيكون، فقد أمرنا بالأخذ بالأسباب كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] .
وكما مر عمر مع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام بأرض بها الطاعون فاستشار عمر أصحابه: أندخل الأرض التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فبعضهم قال: ندخل ونتوكل على الله، وبعضهم قال: لا ندخل ونحن أيضاً متوكلون على الله، فأخرجهم عمر وقال: أدخلوا علي مشايخ المهاجرين والأنصار، ثم استشارهم: أندخل القرية التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فقالوا: لا ندخل يا أمير المؤمنين! فأخذ عمر الجيش وانصرف إلى مكان آخر، فإذا بصائح يصيح ومناد ينادي قائلاً: أفراراً من قدر الله يا ابن الخطاب! فسكت عمر ونظر، فإذا القائل أمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فتعجب عمر المسدد الملهم وقال: لو قالها غيرها يا أبا عبيدة! أي ما كانت هذه الكلمة تصدر منك يا أبا عبيدة، ثم قال: يا أبا عبيدة! أرأيت إذا نزلت بأرض خصبة وأرض أخرى جدباء في أيها ترتع إبلك وبعيرك أو غنمك؟ قال: في الأرض الخضراء، قال: إنك إن رعيتها في الأرض الجدباء رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في الخضراء رعيتها بقدر الله، ثم بينما هم على ذلك إذ جاء رجل من بعيد يسرع، وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: عندي في هذا والله خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاستبشروا إذ سمعوا الخبر عن رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام، قالوا: هات! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا وقع بأرض ولستم فيها فلا تدخلوها) ، فكبر عمر وحمد الله على ما وفق به؛ فالأخذ بالأسباب لا يخدش في التوكل على الله.
قال يعقوب: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] ، أي: إذا كان الله أمر فأمر الله نافذ وإن أخذنا بالأسباب، فأمر الله سبحانه نافذ رغماً عنا، لكنها أسباب أمرنا بالتماسها، وأمر الله فوق كل أمر: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فنأخذ بالأسباب ونعتقد اعتقاداً جازماً أن أمر الله نافذ.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67] ، الأمر والقضاء لله، يقضي كيف يشاء، يفعل ما يريد، يحكم كيف يريد سبحانه، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] .(28/10)
مشروعية تعويذ الأبناء من العين والحسد
قال موصياً أبناءه: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، لم أمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد ويدخلوا من أبواب متفرقة؟ لأمرين ذكرهما العلماء: الأمر الأول: أن هؤلاء إخوة يوسف عليه السلام كانوا على درجة كبيرة من الجمال، وكذلك آتاهم الله بسطة في الأجسام، ومما يستأنس لذلك به قوله تعالى عن أجدادهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] ، أي: الأقوياء العلماء، فهؤلاء ذرية هؤلاء الأنبياء الأقوياء العلماء أولي الأيدي والأبصار.
فكانوا على درجة كبيرة من الجمال، فجدتهم سارة، ثم كذلك كانوا من ذوي الأجسام الكبيرة والشارات الحسنة، فإذا دخلوا جميعاً من باب واحد الواحد تلو الآخر؛ اتجه إليهم أذى المؤذين وحسد الحاسدين، فإذا رآهم شخص قد يكيد لهم إذا رآهم على هذا المنظر، والأمر الآخر: قد يصيبهم عائن بعين.
فالعين حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا) ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] ، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام في وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، أي: تغيراً وسواداً، فقال: (إن بها النظرة فاسترقوا لها) ، وقد مر حديث سهل بن حنيف الذي كان وسيماً وقام يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله ما وجدت جلد مخبأة كهذا الجلد، ولا كأنها جلد جارية عذراء، فسقط سهل صريعاً في الحال، وجاء أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: أدرك سهلاً صريعاً يا رسول الله! فقال: (من تتهمون؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: علام يحسد أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة) ، ثم أمر عامر بن ربيعة أن يغسل ركبتيه بعد أن يتوضأ وداخلتي إزاره، ثم يؤخذ الماء ويصب على سهل بن حنيف، فقام كأنما أنشط من عقال، أي: حل من وثاق كان فيه، وقام منطلقاً سريعاً.
ومن هنا يقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا) ، بمعنى: إذا شك أحد في أحد أنه أصابه بعين فله أن يقول له: توضأ لي أو اغتسل لي، ويأخذ هذا الماء فيغسل به نفسه، ولا ينبغي أن يمتنع من طلب منه الاغتسال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا) ، فللعين تأثير وهي حق بإذن الله.
وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر بعد مقتل جعفر بثلاثة أيام يعزي أسماء بنت عميس زوجة جعفر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءها بجوارها ضعافاً كأنهم أفراخ، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم) ، فقد ترى الطفل يذهب إلى الأطباء فلا يجدونه مريضاً وليس ثم مرض بدني، ومع ذلك فالولد نحيف وضعيف بسبب داء آخر يلم به، ألا وهو عين العائنين وحسد الحاسدين.
ولذلك ينبغي أن نعوذ أبناءنا كما علمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ، ويقول: (إن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق) ، فجدير بكل أب أن يعوذ أولاده وبناته، وأن تعوذ الأم أبناءها وبناتها، فلتمسح على رءوس الأولاد وأجسامهم قائلة: (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) ، الحين بعد الحين، امتثالاً لصنيع نبينا محمد، والتماساً لهديه صلوات الله وسلامه عليه، ثم دفعاً للشرور عن الأبناء بإذن الله تبارك وتعالى.
ثم بالمعوذات كذلك، فإن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان في سفر فقال: (يا عقبة بن عامر! قل.
قال: ما أقول يا رسول الله؟ فقال ثانية: يا عقبة بن عامر! قل.
قال: ما أقول يا رسول الله؟ فقال: يا عقبة بن عامر! قل.
قال: ما أقول يا رسول الله؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] حين تصبح وحين تسمي تكفيك من كل شيء) ، وفي رواية: ( {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فما سأل سائل بمثلهما، وما استعاذ مستعيذ بمثلهما) ، فجدير بالأب إذا أراد أن يحفظ ولده -والمحفوظ من حفظه الله- أن يمسح رأسه بالمعوذات، وبالذكر الذي سمعتموه عن النبي آنفاً.
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ، الوجه الذي ذكرناه أيضاً من قبل: أنهم إذا دخلوا من باب واحد قد يؤذيهم مؤذ، فإنك إذا دخلت بلدة من البلدان في بعض الدول تجد على مداخلها كمائن للشرط تستوقف الداخلين، فإذا رأوا عشرة عليهم ثياب بيضاء ومن الذين عليهم سيما الفضل والصلاح، ومتزينون بزينة رسول الله، ومتبعون لسنة رسول الله في لحاهم؛ إذا رأوهم يدخلون من باب واحد استوقفوهم وأحالوهم إلى الإدارات مما يسبب لهم بعض الأعطال.(28/11)
طلبهم إرسال بنيامين معهم للكيل
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63] ، وكما هو معلوم: فالأنبياء عليهم السلام هم أذكى الخلق وأكمل الخلق علقاً، وأفهم الخلق، عليهم الصلاة والسلام، وما كان ينبغي لمؤمن أن يلدغ من جحر واحد مرتين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) ، وأيضاً ورد أن الزهري استدان فذهب إلى بعض أمراء بني أمية لقضاء الدين عنه، كي يقضي الأمير الدَّين عن الزهري، فأعطاه الأمير المال، لكنه أتبعه بكلمة قال فيها: يا زهري! تعود تدان، كلمة توجع، فالمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
فلما قال إخوة يوسف لأبيهم: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، لم يأخذ يعقوب عليه السلام بقولهم هذا سريعاً، بل تثبت وقال مذكراً: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف:64] ، أي: أي أمن هذا الذي أتوقعه منكم؟! أهذا الأمن الذي وعدتموني به في شأن يوسف صلى الله عليه وسلم، ثم أضعتموه بعد ذلك؟ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] ، فلستم أنتم الحفظة وإن وعدتم بذلك.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف:65] ، أي: ماذا نطلب وماذا نريد بعد هذا الإحسان بإعطائنا غلالاً ورد ثمنها إلينا؟ ولا نريد البغي كذلك، وكل هذا محتمل، {مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65] ، فهذا دليل على كرم هذا العزيز الذي على مصر، فهذه بضاعتنا ردت إلينا، (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) أي: نجلب لأهلنا الزاد، والميرة: هي الطعام والزاد، (وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ، أي: الكيل الذي أتينا به كيل قليل، وقيل: إن كيل أخينا وهو البعير الزائد سهلٌ على الملك.(28/12)
أخذ يعقوب العهد من أبنائه بحفظ أخيهم
فماذا قال يعقوب عليه الصلاة والسلام؟ {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] ، يعني: إلا أن تهلكوا عن آخركم، فالإحاطة بالشيء أحياناً يكون من معناها الإهلاك، كما قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] ، أي: هلك ثمره.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف:66] ، أما الموثق فهو العهد المؤكد باليمين، ومن العلماء من قال: إن الموثق العهد المصحوب بإشهاد الله عليه، ومنه قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] ، فذكر بعض المفسرين أن الرجل كان يقول للآخر إذا زوجه ابنته أو موليته: عليك عهد الله أن تحسن إليها ولا تسيء، عليك عهد الله أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان، وكما هو معلوم أن الأيمان تتأكد بصور من التأكيد، فأحياناً إذا قلت: أقسم بالله العظيم، وأردت أن تؤكده فإنك تؤكده بتكراره، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] ، قال: توكيدها: تكرريها، وأحياناً يتأكد اليمين بأن يكون بعد صلاة العصر؛ بأن يحبس الذي سيقسم في المسجد بعد أن يصلي صلاة العصر ويقسم اليمين التي تطلب منه، وهذا تأكيد ثانٍ.
وتأكيد ثالث: وهو أن يكون اليمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين صبر هو فيها كاذب -أي: على يمين قد حبس عليها وهو فيها كاذب- ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) .
قال الله تبارك وتعالى في كتاب الكريم: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] ، فلما أعطوه الموثق الذي طلبه منهم: (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) ، فلهذا ينبغي أن تختم الاتفاقيات التي تبرم بين الأشخاص بهذا، كما قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] ، فختمها بقول: والله على ما نقول وكيل.(28/13)
سلسلة تفسير سورة يوسف [6]
ما زال إكرام الله يتوالى على يوسف عليه السلام، فقد أنعم الله عليه بأخذ أخيه من إخوته، وفي مرجع إخوته إلى أبيهم بدون أخيهم دروس وعبر، ثم يظهر كرم الكريم مرة أخرى بعفوه عن إخوته، وبمعجزة من المعجزات بقميصه عليه السلام، ثم تنتهي هذه السنوات بآثامها باستغفار يعقوب لهم، وبعفو يوسف عنهم ولمِّ شملهم في ملك أخيهم.(29/1)
عودة إخوة يوسف إليه مرة أخرى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للإنس والجن أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف:69] ، أي: ضمه إليه قائلاً: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69] ، أي: لا تحزن، ولا تتضايق، ولا تتبرم بالذي صنعه إخوتك معك، فهذا يدل على أن شقيق يوسف لقي عناءً وشدة وإهانة من إخوته بعد فراق يوسف كذلك، وبدليل الآتي: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، فلهذا كان شقيق يوسف يلاقي عناءً من إخوته بعد فراق أخيه يوسف صلى الله عليه وسلم.(29/2)
يأس إخوة يوسف من إرجاع أخيهم
قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] ، فلما استيأسوا من إرجاع أخيهم إليهم ومن أن يستبدل أحدهم بـ بنيامين خلصوا نجياً، أي: يتسارون فيما بينهم ويتناجون فيما بينهم حيث لا يسمعهم أحد إلا الله، كما قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] ، فالتناجي في الآية الكريمة هو التسارر بحيث لا يسمعهم أحد إلا الله سبحانه وتعالى، والنجوى لها أحكام وفقه، فإذا لم يكن حاجة داعية إلى التناجي فلا تتناجى حتى لا تؤذ إخوانك، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر؛ فإن ذلك يحزنه) ، وكذلك قال العلماء: إذا كنتم أربعة فلا يتناجى ثلاثة دون الرابع، وإذا كنتم عشرة فلا يتناجى تسعة دون العاشر، وهكذا.
قال الله سبحانه: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] ، يتناجون فيما بينهم، ويتسارون فيما بينهم.(29/3)
تدبر السلف لكتاب الله
أعجبت هذه الآية الكريمة أعرابياً من الأعراب فقال: أشهد أن هذا القرآن من عند الله.
فكان الناس يتدبرون آيات القرآن ويتفهمونها، ويحضرني في هذا المقام أثر في كيفية تدبر الصحابة للقرآن، وإن لم يسعفني النظر في إسناده، وهو عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ يبين كيف كان ابن عباس يتلقى هذا القرآن ويفهمه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جالساً وأصحابه بعد صلاة الفجر، فقد كان يصلي الفجر ثم يدخل معه حملة كتاب الله يستشيرهم في أموره، ويتدارس معهم كتاب الله عز وجل، وكان يدخل معه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فدخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يوماً مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع سائر الصحابة الذين هم من حملة كتاب الله، فإذا بقارئ يقرأ عليهم فبدأ بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204-206] ، ثم قرأ القارئ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] ، فلما قرأ القارئ هذه الآية الكريمة ضرب ابن عباس برجل صاحبه الذي يجاوره وقال: اقتتلا والله اقتتلا والله!! استوقفت هذه الكلمة عمر رضي الله عنه، فقال لـ ابن عباس: ماذا قلت يا ابن عباس؟ فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟ فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر وأقسم عليه: ماذا قلت يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! قلت: اقتتلا! قال: من اللذان اقتتلا؟ قال: اقتتلا يا أمير المؤمنين! قال: من اللذان اقتتلا؟ قال ابن عباس شارحاً الآيات: يا أمير المؤمنين! هذا رجل يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وتولى: أي خرج، أو أصبح والياً، فلما تولى مشى في الأرض يقتل هذا ويقتل ذاك، ويهلك حرث هذا ويهلك حرث ذاك، ويشتم هذا ويضرب ذاك يمشى على هذه الطريقة، يضرب ويقتل ويسمّ البهائم، ويحرق الأشجار، ويدمر الثمار، والناس تعبوا يقولون: اتق الله! خف الله! حرام عليك صنيعك هذا! فتأخذه العزة بالإثم ويزداد، فحينئذٍ لم يعجب هذا الصنيع رجلاً من الصالحين، فقام مشترياً نفسه ابتغاء مرضاة الله وقال: إني أوقف زحف هذا العدو الصائل الباغي، فقام متصدياً له، فحصلت المعركة، وحصل الاقتتال.
فانظر إلى فهم ابن عباس وتمشيه مع كتاب الله، وتدبره لآيات كتاب الله العزيز، وانظر إلى حالك مع كتاب الله، إن الله يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] ، فلتستغفر الله يا عبد الله، لتستغفر الله حتى تزال الحجب التي على قلبك من جراء المعاصي، وتفهم كتاب الله على الوجه اللائق به، مستعيناً بالله ثم بالمذاكرة وبالمتابعة.(29/4)
توسل إخوة يوسف برد أخيهم
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:78] ، وهذا فيه جواز إطلاق العزيز على بعض البشر، وهناك أسماء لله يجوز إطلاقها على بعض البشر، مع أن الفارق بين الاسم والمسمى كالفارق بين الخالق والمخلوق.
فالعزيز -على سبيل المثال- اسم من أسماء الله، وأطلق هنا العزيز على عزيز مصر فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:78] ، وكذلك المؤمن اسم من أسماء الله، وأطلق الله على عبادة المؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟) ، وربنا هو الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وقال الله لموسى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] ، وهناك أسماء لله يتسمى بها ربنا لا يشاركه فيها غيره، كلفظ الجلالة: (الله) كما قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، على الوجهين من أوجه التأويل، أي: هل تعلم أحداً تسمى (الله) ؟ أو هل تعلم له شبيهاً أو نظيراً؟ وكذلك الاسم الآخر: (الرحمن) فلا يتسمى شخص أحد بـ (الرحمن) ، ولما تشدق مسيلمة الكذاب ولقب نفسه برحمان اليمامة، فكان دائماً يوصف بالكذاب، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف:78] ، توسلوا بشيخوخة أبيهم إلى يوسف عليه السلام، فالكبير كان له حق، وما زال له حق، فقد جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الأصغر منهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّر كبِّر) ، يعني: أن الأكبر هو الذي يتكلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني الليلة أتسوك بسواك، فجاءني رجلان فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّر كبِّر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) ، أي: ليس على طريقتنا ولا على أدبنا هذا الشخص الذي لا يوقر الكبير، فللكبير حق.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن؛ أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أتكلم فنظرت فإذا شيوخ القوم -وفي رواية: فإذا أنا أصغر القوم- فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) ، فانظر إلى حياء ابن عمر أن يتكلم بحضرة كبار السن رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فعلينا أن نتأدب بهذا الأدب مع الكبار، فكم صلى هذا الكبير لله من صلاة، وكم ركع لله من ركعة، وكم سجد لله من سجدة، وكم ابتلي فصبر فأجر على صبره، وكم سبح من تسبيحة، وكم كبر من تكبيرة وهلل من تهليلة! فجدير بنا معشر الإخوة! أن نوقر كبار السن، وأن ننزلهم منازلهم اللائقة بهم، فهذا هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلنتأدب بأدب نبينا محمد عليه أفضل صلاةٍ وأتم تسليم.
قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78] ، حفاظاً على الميثاق الذي واثقوا به أباهم، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ، فعلامات الإحسان ظاهرة وبادية على يوسف عليه السلام، على وجه هذا الكريم الحليم العفيف عليه الصلاة والسلام علامات الإحسان بادية على وجه هذا المظلوم الذي رفعه الله سبحانه.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:79] ، نعوذ بالله أن نظلم ونأخذ أحداً مكان أحد، فلا يصح هذا ولا يعقل، إن الله قال في كتابه الكريم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36-37] ، ماذا في صحف موسى؟ وماذا في صحف إبراهيم الذي وفى؟ قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] ، فلا يؤخذ شخص بجريرة شخص آخر، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38-39] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] ، فما بال شخص يقتل آخر بريئاً من أجل شخص آخر، فلا يصح ولا يجوز، يعلمنا هذا نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم؛ فقد أمرنا بالاقتداء به كذلك.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:79] ، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، لكن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] ، أترضى لنا بهذا الظلم نأخذ شخصاً بريئاً ونترك مرتكب الجريمة؟ إنا إذاً لظالمون، لا يصح ولا يليق أبداً أن يؤخذ البريء ويترك المتهم، لا يؤخذ البريء ويترك الجاني، أي شرع هذا؟ فحاولوا معه وحاولوا، ولكن لم تجدِ المحاولات معه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تجد محاولة من أراد أن يلقي ببريء مكان متهم.(29/5)
حلم يوسف على إخوته
قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف:77] ، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان وأهل العقل الراجح والمسئولون عن الأعمال، عليهم أن يكونوا حلماء، عليهم أن يكونوا من الصابرين ضابطي النفس غير المتهورين؛ فيوسف عليه السلام نبي عاقل كريم ليس سريع الغضب ولا سريع الانفعال؛ بل هو هادئ يستمع ويصبر على ما يلاقي من الأذى، وعلى ما يسمع من الكلمات الشديدة اللاذعة.
{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف:77] ، لم يظهرها لهم يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن يتحلى المسئول عن العمل بالحلم وترك المعاجلة بالعقوبة؛ فالحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، بل يصبر ويتريث، وينظر بعد ذلك هل الأمر هذا يستحق المعاقبة على فعله أو لا يستحق.
وكما لا يخفى أن الله وصف إبراهيم عليه السلام الذي هو جد يعقوب أبي يوسف عليه السلام وصفه بالحلم، ومناسبة ذلك: أنه قد صدر من قوم لوط ما صدر من جرم وفحش ومنكر، ومرت الملائكة عليهم السلام بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم لتدمير مدائن قوم لوط، فسألهم إبراهيم عليه السلام إلى أين يذهبون، قالوا: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] ، أي: لندمر عليهم مدائنهم، يقول تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] ، أي: يطلب إمهال قوم لوط، ويطلب تأخير العذاب عن قوم لوط، فأثنى الله عليه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] ؛ فالحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، لكن لم يجب إبراهيم إلى طلبه؛ لأن أمر الله قد جاء، قال الله: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] .
فينبغي أن يتسم الفضلاء بالحلم، وألا يكونوا سريعيِّ الانفعال، إنما يتريث أحدهم ويدرس المسألة، ويعيد النظر وينظر مرة ثانية وثالثة: هل الأمر يستحق العقاب أو العفو؟ وما نوع العقاب الذي يستحقه الأمر؟ هل عقاب بالكلمة يكفي، أم عقاب بالسوط، أم عقاب بالسجن واللازم المطلوب؟ فينظر ويعيد النظر مرة بعد مرة.
قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] ، أي: لم يظهرها لهم عليه الصلاة والسلام، {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] .(29/6)
أخذ يوسف لأخيه بأمر الله وتدبيره
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:75-76] ، لنفي التهمة والشبهة، حتى لا يقال: إن هذا أمر مدبر مخطط، فإذا أخر وعاء أخيه إلى آخر الأمر في البحث والتفتيش والتنقيب وفتش رحل الأكبر فوجده بريئاً، فحينئذٍ يطمئن الأكبر إلى عدل هذا الملك، ثم يتفش رحل الذي يليه فيجده بريئاً فيطمئن هو كذلك إلى عدل الملك، فإذا اطمأن الكل إلى أنه عادل: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:76] .
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] ، أي: دبرنا ليوسف، فهذا التدبير كان من الله سبحانه وتعالى، وهذا الحكم باسترقاق السارق الذي حكم به إخوة يوسف كان بإذن الله أيضاً، فوُفق يوسف عليه السلام لهذه الحيلة بإذن الله تعالى.
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:76] ، أي: بالنبوة والعلم، فالعلم بعد الإيمان ومع الإيمان، نرفع درجات من نشاء بالعلم والفقه، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ، كل عالم فوقه عالم، كل عالم فوقه عالم، وعلم الله فوق علم جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن بعض أبواب العلوم كالطب مثلاً: (ما أنزل الله داءً وإلا وأنزل له دواء؛ علمه من علمه وجهله من جهله) ، فكل صاحب علم فوقه عليم، كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
ثم قال إخوة يوسف وقد أظهروا ما بداخلهم تجاه أخيهم: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] ، يريدون يوسف عليه السلام، ويريدون أيضاً أن العرق دساس، {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} ، فأخرجوا ما بداخلهم تجاه أخيهم، ويوسف يعلم مرادهم عليه الصلاة والسلام.(29/7)
تمهيد يوسف لأخذ أخيه منهم
قال تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ} [يوسف:74] ، أي: فما جزاء السارق إذا وجدناه متلبساً بالسرقة، {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] ، قال إخوة يوسف: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} ، أي: جزاء السارق الذي سيوجد الصواع في رحله، {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] ، أي: أن الذي تجدون عنده الصواع خذوه كعبد مسترق عندكم مقابل هذه السرقة، وهذه الفعلة القبيحة التي صدرت منه.
وهذا كان في شرع يعقوب عليه السلام، أما في شرع أمة محمد عليه الصلاة والسلام: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] ، لكن في شرع يعقوب عليه السلام كان السارق يؤخذ عبداً مسترقاً مقابل السرقة، فأنت إذا سرقت مني شيئاً فيحق لي أن آخذك كعبد عندي مقابل سرقتك، أبيعك إن شئت، أو أستخدمك في أعمالي إن شئت؛ على ما يقتضيه معنى العبد، فكان هذا في شرع يعقوب، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى) ، أي: أصل دينهم التوحيد واحد، لكن الشرائع فيها بعض الاختلاف.
فإخوة يوسف هم الذين اقترحوا العقوبة لما سئلوا: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74-75] ، أي: خذوا من وجدتم الصواع في رحله كعبد لكم، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] ، أي: في شريعتنا، فالذين اقترحوا العقوبة هم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام بهذا الذي سمعتموه: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .
كذلك نلفت النظر هنا إلى شيء لعله ينفع فيما بعد، وليس فيه خبر عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نقله كثير من المفسرين: أن يوسف عليه السلام إذ كان صغيراً كانت عمته تربيه، فلما تقدم به السن بعض الشيء أراد أبوه أن يأخذه من عمته، وكانت عمته قد أحبته حباً زائداً؛ فطلبت من أبيه أن يبقيه عندها، فأبى، فألصقت به تهمة السرقة وأنه أخذ شيئاً منها، ومن ثم قبضته عندها في بيتها، ومن ثم قالوا: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] ، وهذا سيأتي، وتقدم أنه ليس فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه مأخوذ من الإسرائيليات، والله تعالى أعلم.(29/8)
خطة يوسف لأخذ أخيه
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70] ، والسقاية: هي الصواع الذي سيأتي ذكره، ومن أهل العلم من قال: إن الملك كان يشرب به ويكيل به أيضاً للناس، وهناك من تجشم أقوالاً فقال: كان من فضة، أو كان مرصعاً بالجواهر، إلى غير ذلك من الأقوال، والله أعلم بصحتها، والرحل: هو الوعاء الذي توضع فيه الأشياء ويحمل على البعير.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [يوسف:70] ، أي: نادى منادٍ، فالأذان هو الإعلام، {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] أي: يا أصحاب العير! يا أصحاب هذه الإبل! إنكم لسارقون، {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:71] ، يؤخذ من قوله: ((قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ)) إعمال القرائن، فالمتهم البريء يكون جريئاً، فهؤلاء ناداهم المنادي: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ، فلم يقفوا في مكانهم، ولم يهربوا؛ بل قالوا وأقبلوا عليهم، فالمتهم البريء يكون جريئاً في أكثر الأحيان، حتى العجماوات تفهم ذلك، يقول العلماء: إذا كان بجوارك هرة وأنت تأكل سمكاً فناولتها قطعة أكلتها آمنة مطمئنة بجوارك، لكن إذا سرقت الهرة سمكة هربت تأكلها بعيداً خفية عن عينك، فحتى العجماوات تفهم شيئاً من هذا.(29/9)
حكم أخذ الأجر على إيجاد اللقطة
قال الله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] ، أخذ من ذلك: أن الشخص الذي وجد لقطة وأهدى إليه صاحب اللقطة شيئاً من غير مسألة ومن غير إيجاب، فلا بأس أن يقبلها، فإذا وجدت -على سبيل المثال- ألف جنيه، وجاء صاحب الألف وقال: من وجد الألف التي فقدت مني فله مني مائة، فلك أن تأخذ المائة إذا طيّب نفساً بذلك، أو أن تشترط، وليس لك أن تجبره على دفع هذه المائة، بل إن طاب خاطره بها فلا بأس؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن اللقطة فقال: (عرفها حولاً -أي: سنة- فإذا جاء صاحبها فأدها إليه) ، ولم يقل: فخذ منه شيئاً.
فإذا أعطاك صاحب اللقطة شيئاً بنفس طيبة من غير طلب منك ولا إلزام منك له بشيء، فاقبله ولا بأس بذلك، ودليل ذلك {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] ، أما قوله: زعيم، فمعناه: كفيل وضامن، ومنه قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) .
فالزعيم معناها: الكفيل والضامن، فكأن المنادي ينادي ويقول: ولمن جاء بصواع الملك مكافأة، وهي: حمل بعير أزوده به، وأنا ضامن، وكفيل بذلك،: {قَالُوا تَاللَّهِ} [يوسف:73] ، أي: والله! {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:73] ، بل نحن قوم ضعفاء جئنا نلتمس الطعام لأهلينا وأسرنا، ولم نأت للسرقة، ولم نأت للفساد أبداً، {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73] .(29/10)
عودة إخوة يوسف إلى يعقوب عليه السلام
قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ} [يوسف:80] ، أي: أكبرهم سناً، والذي يعرف قدر العهود والمواثيق -يفترض هذا- أكثر من غيره، قال كبيرهم مذكراً لهم: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] ، أي: لن أغادر هذه البلاد حتى يأذن لي أبي، {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف:80] ، برد أخي أو بالانتصار على عدوي، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80] .(29/11)
عتب يعقوب على أبنائه
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:83] ، أي: زينت لكم أنفسكم أمراً، وحسنت لكم أنفسكم تدبيراً ومكراً، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83] ، صبر جميل لا شكوى معه إلا الله، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83] ، العليم بحالي، العليم بكبر سني، العليم بما أصابني، وبالحزن والهم الذي حل بي.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [يوسف:84] ، أي: أعرض عنهم وانصرف، فلم يقبل عليهم، وقد أصيب بسببهم برزيتين كبيرتين: بفقدان يوسف عليه الصلاة والسلام، ولم يدر ما صنعوا به، ثم بفقدان أخيهم واتهامه بالسرقة إلى من يشكو؟ إلى عدو شامت، أو إلى جار حاسد، أو إلى متربص يتربص به الدوائر؟ ومن يشكو؟ أيشكو أبناءه الذين هم من صلبه؟!! إلى من يشكو إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي يسمع ويرى.
قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] ، أنساه حب يوسف شأن بنيامين، (وَقَالَ يَا أَسَفَى) أي: يا أسف تعال وحل، تعال وحل يا ندم، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] ، أي: ممتلئ هماً وغماً وكرباً ونكداً، فالكظيم هو الممتلئ، ومنه قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] ، تبدل سواد العين بياضاً، وهو ممتلئ حزناً وهماً وغماً عليه الصلاة والسلام، {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} [يوسف:85] ، أي: حتى يبلى جسمك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85] ، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] ، أشكو ما بداخلي من هموم وغموم وآلام وأحزان إلى الله، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] .(29/12)
استشهاد إخوة يوسف بأهل القرية والعير
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] ، أي: اسأل يا أبانا أهل القرية، كما قال القائل: وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهارا أي: سبح أهل المدينة.
فقولهم: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: واسأل أهل القرية، ومن أهل العلم من أورد وجهاً آخر فقال: واسأل القرية نفسها ببيوتها وأشجارها وأحجارها، فأنت نبي، والأنبياء لهم مثل هذه الخصائص، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) ، فهذه من خصوصيات الأنبياء.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} ، أي: فقد شاع الخبر فيها، وأي بلاء أشد من هذا البلاء؟! وأيضاً على يعقوب عليه السلام أي بلاء أشد من أن يؤخذ ولده بجريرة السرقة؟! فالبلدة كلها تتحدث، مصر تتحدث أن ثَم رجالاً قدموا من بلاد كنعان أحدهم قد سرق، هكذا يتحدث أهل هذه القرية، والعير أيضاً: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82] ، فالعير وأصحاب القوافل يتحدثون أيضاً أن ولداً من أولاد يعقوب قد سرق، فتخيل أنت هذا المأزق وهذه المحنة، وهذا الابتلاء الشديد!! إذا أتاك آت وقال: ولدك سارق، ولدك أخذ كعبد مسترق من أجل السرقة إنه بلاء تلو بلاء يعتري الأنبياء وأهل الفضل والصلاح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبتلى الرجل على قدر دينه؛ فإذا كان في دينه صلابة زيد له في البلاء) ، وكما قال ابن مسعود: (يا رسول الله! ما لك توعك كما يوعك رجلان؟ قال: أجل؛ إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء) .
فنبي الله يعقوب ابتلي بفراق يوسف، ثم ابتلي بفراق شقيق يوسف بنيامين، وليس بموته، فالموت كتبه الله على كل نفس، ولكن لسرقة ولاسترقاق ناله بعد هذه السرقة، وأصبح الناس يتحدثون، فالقوافل راجعة إلى بلادها تحمل الطعام والشراب، وإخوة يوسف يرجعون إلى بلادهم بتخلف أخيهم، وبحمل تهمة السرقة إلى أبيهم هكذا يبتلي الله سبحانه أهل الفضل والصلاح، وهكذا الحياة الدنيا، يصبر على ذلك الصابرون وييأس اليائسون.(29/13)
إخبار إخوة يوسف يعقوب بخبر بنيامين
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} [يوسف:81] ، أما أنا فلن أرجع، {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} [يوسف:81] ، قال: قولوا: يا أبانا، ولم يقل: قولوا: يا (بابا) إن ابنك سرق، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ، أي: نحن ما رأيناه يسرق لكن رأينا صواع الملك في رحله، وهكذا ينبغي أن يكون الشهداء، فإذا شهدت على شيء فاشهد بالذي رأيته فقط، فليس لك أن تقول: إنه سرق قاطعاً بذلك، لكن تقول: إني وجدت الصواع استخرج من رحله، هذا هو الصحيح، فلا تبن على ذلك أنت ودع البناء للقاضي، فلا تقل: بما أني وجدت الصواع في رحله إذاً هو الذي سرق لا؛ بل قد يكون الصواع دس له في رحله، فالذي تشهد به هو الذي تراه بعينك أو تسمعه بإذنك، كما أنك ترى الشمس ساطعة والقمر بازغاً.
{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] ، فنحن وعدناك أن نحفظ أخانا ولكن ما كنا للغيب حافظين، فقد يقول العبد يوماً: إن شاء الله سأفعل كذا، ولا يشاء الله له أن يفعل، كما قال موسى عليه السلام للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] ، فمرت حالتان وقبيل الحالة الثالثة قال موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76] ، وما صبر موسى بعد الثالثة، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وددنا والله أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أخباره) ، مع أن موسى قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف:69] ، لكن لم يشأ الله ذلك.
فإخوة يوسف قالوا: نحفظ أخانا، ثم قالوا بعد ذلك: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] .(29/14)
أمر يعقوب لأبنائه بالبحث عن يوسف وذهابهم إلى يوسف
{يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فهكذا لا ينقطع رجاء الأنبياء والصالحين في الله أبداً، فاليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر، سطرها الذين صنفوا في الكبائر في كتبهم، مستدلين بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، وبقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا} [يوسف:88] ، وانظر إلى هذه الذلة والمهانة والانكسار، وانظر كيف يرفع الله سبحانه وتعالى المظلوم وكيف يخفض الظالم! انظر إلى هذه الذلة والانكسار في قول إخوة يوسف الذين ظلموه يوماً ما، انظر إليهم وقد قالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ، أي: في الأبدان، أولادنا مرضوا، وآباؤنا تعبوا وأصيبوا بالعمى، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88] ، ونحن فقراء، فالبضاعة التي أتينا بها قليلة لا تستحق أن نعطى من أجلها طعاماً وزاداً، ولكن نرجو كرمك بعد كرم الله، و (مزجاة) أي: قليلة، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] ، أي: يسوقه سوقاً قليلاً قليلاً ضعيفاً ضعيفاً حتى يضم بعضه إلى بعض، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88] ، هكذا يتسول الظالم من المظلوم، قال إخوة يوسف ليوسف: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] .(29/15)
استغفار يعقوب لأبنائه
قال يعقوب عليه السلام: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96] ، {قَالُوا} [يوسف:97] ، أي: أبناؤه، {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97-98] ، وعدهم أن يستغفر لهم صلى الله عليه وسلم.
وإذا طرح سؤال مؤداه: لم أخر يعقوب عليه السلام الاستغفار لأبنائه؟ فمن أهل العلم من قال: شدة وجده وحزنه منهم لم تجعله يبادر لهم بالاستغفار في الحال، وهذا قول تكلم به البعض، ولكن آخرون -وهم الأكثر- قالوا: أخر الاستغفار إلى وقتٍ الإجابة فيه أجدر وأولى، وهو الثلث الأخير من الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه) ، هكذا يقول ربنا سبحانه إذا كان الثلث الأخير من الليل.(29/16)
معجزات الانبياء وكرامات الصالحين
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] ، إن قلت: كيف يأتي بصيراً بالقميص؟ فنقول: إن الله على كل شيء قدير، إن الذي أذهب بصره قادر على أن يرد عليه البصر، فالذي أذهب البصر هو الله، وما القميص إلا سبب من الأسباب، وهذه إجابتنا دائماً عن المعجزات التي يؤيد الله بها أولياءه، والتي يؤيد الله بها أنبياءه، إجابتنا عنها: أن الله على كل شيء قدير الله قادر على أن ينزل مائدة على عيسى من السماء فيها صنوف الطعام والشراب قادر على أن يسخر الريح لسليمان عليه السلام قادر على أن يجعل شجرة تأتي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتسعى حتى تقف بين يديه قادر على أن ينطق حجراً لرسول الله، كما قال الرسول: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) ، قادر على أن يشفي مريضاً طال سقمه، فربنا قادر على كل شيء.
هذه هي إجابتنا على هؤلاء الذين ينكرون المعجزات التي تحدث للأنبياء وللأولياء الصالحين المتمسكين بكتاب الله، لا الأولياء المشعوذين المشركين الذين ينحرفون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام معجزة من جنسها كما قال الإمام الشافعي، وقد ورد في سير أعلام النبلاء أن أحد أحفاد قتادة بن النعمان دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال له عمر بن عبد العزيز: من أنت؟ فقال له: من أنا، ألا تعرفني؟ قال: ما أعرفك، من أنت؟ قال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أجمل الرد فعادت كما كانت لأول وهلة فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد قال العلماء -وهذا أحتاج إلى نظر في إسناده إلى الرسول بسند آخر غير السير-: إن الله رد على قتادة عينه ببركة دعاء رسولنا محمد بيد النبي محمد عليه الصلاة والسلام.(29/17)
قميص يوسف وما يحمله من بشارة
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف:93-94] ، أي: خرجت العير عن مصر، وانفصلت عن بلاد مصر في طريقها إلى بلاد كنعان حيث يتواجد يعقوب عليه السلام وأسرته، {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ} [يوسف:94] ، أي: هناك في بلاد كنعان: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] ، أشم ريح يوسف عليه السلام، {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] ، أي: أن تفندوا دعواي، وتتهموني بالتخريف وبالجنون، إني أجد ريح يوسف حقيقة، وأشمها بأنفي.
ترى من الذي أوصل هذه الريح من دولة إلى أخرى؟! إنه الله سبحانه، فهو قادر على كل شيء، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام حدثت له من هذا النوع معجزات ومعجزات، ففي اليوم الذي مات فيه النجاشي في الحبشة والرسول بالمدينة يخرج -وليس ثَم هواتف- إلى أصحابه فيقول: (إن أخاً لكم بالحبشة قد مات؛ فهلموا نصلي عليه) ، فيصفهم صفوفاً ثلاثة أو صفين، ويكبر عليه أربعاً، وكذلك لما استشهد الثلاثة الشهداء: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة؛ خرج الرسول -وعيناه تذرفان- إلى أصحابه ينعي الثلاثة قائلاً: (إن إخوانكم قد لقوا ربكم عز وجل، ما يسرهم أنهم عندنا) .
قال يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا} [يوسف:94-95] ، أي: جلساؤه، {تَاللَّهِ} [يوسف:95] ، أي: والله {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ، ما زلت تخرّف، والضلال: هو الذهاب عن القصد والصواب، {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف:96] ، بقدرة الله سبحانه، فماذا قال بعد أن ارتد بصيراً؟ ذكّر بنعم الله، وهكذا الأنبياء يعرفون نعم الله سبحانه، قال مذكراً بفضل الله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96] ، فلا يتذكرون إلا فضل الله عليهم عند حلول الخيرات أو الملمات.
وسليمان عليه السلام لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ماذا قال؟ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] ، فهل قال ناجح في الامتحان ومتفوق فيه: هذا من فضل الله عليّ؟ هل قال قائل هذه المقولة لما بشر بنجاحه في الامتحان؟ هل قالها لأول وهلة؟! ما نجد أحداً يقول هذا إلا القليل النادر.(29/18)
عفو يوسف عن إخوته
قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:90] ، فنسب الفضل إلى مسديه وهو الله سبحانه وتعالى، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] ، {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} ، فالمنة لله وحده، والفضل لله وحده، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ، درس آخر نتعلمه من نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام.
{قَالُوا تَاللَّهِ} [يوسف:91] أي: والله {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ، أي: فضلك الله علينا وإن كنا لخاطئين، اعتراف منهم بالذنب في كلمة قصيرة موجزة، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن قطعوا الأرحام، وفرقوا بينهم وبين أخيهم يوسف، وفرقوا بين الوالد وولده، فبعد أن قطعوا الأرحام وتسببوا في ذهاب بصر أبيهم، قالوا كلمة: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ، فبماذا يجيب يوسف هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؟! قال يوسف معلماً لنا ومبيناً كيف تكون الأخلاق قال يوسف محسناً عافياً عن إخوته قال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] ، أي: لا تعيير ولا توبيخ مني أبداً عليكم! قضي الأمر، لا تتوقعوا بعد ذلك مني توبيخاً ولا تأنيباً ولا تجريجاً بكم، ولا تشهيراً أبداً، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] .
وهذا شأن المحسنين، يقابلون السيئة بالحسنة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، بهذا تنال الدرجات العلى من الجنان، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] ، يغفر الله لكم ما قدمتموه، وهو أرحم الراحمين.(29/19)
تواضع يوسف مع إخوته
ولكن كرم يوسف عليه السلام لا يسمح له بالاسترسال فيما هو فيه أمام هذا الضعف وهذه المسكنة التي صدرت من إخوته، قال يوسف عليه السلام: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] ، وصدق الله إذ قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ، أي مفاجأة أكبر من هذه المفاجأة؟! {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:90] ، فقال بتواضع الأنبياء كلمات في كل فقرة منها أدب نتأدب به: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} [يوسف:90] ، أي تواضع أشد من هذا التواضع؟! لم يقل: أنا العزيز يوسف، ولم يقل: أنا الملك يوسف، ولم يقل: أنا الوزير يوسف، ولم يقل: أنا الدكتور يوسف، فإن هذه اللهجة من الكبرياء والتعالي التي يستعملها بنو زماننا وأولاد جلدتنا لم تكن من شأن الأنبياء، بل كان من شأنهم التواضع: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ، نبي ملك تسخر له الجن والريح والطير معه، وكذلك الشياطين كل بناء وغواص، يرسل رسالة إلى امرأةٍ يقول فيها: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ، لم يقل: من الملك الذي سخرت له الرياح أبداً، إنما بتواضع نتعلمه من أنبياء الله، إذ هم المعلمون، وهم القدوة صلوات الله وسلامه عليهم.
ونظيره في قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في رسالته لـ هرقل: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) ، وفي مصالحته يوم الحديبية: (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو) ، إنه أدب يبعدنا عن الكبر والفخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم بالله عليهن: ما تواضع عبد لله إلا رفعه الله، وما زاد الله بعبد عفواً إلا عزاً، وما نقصت صدقة من مال) .(29/20)
سلسلة تفسير سورة يوسف [7]
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصف يوسف عليه السلام بالكرم يدل على أنه جدير وخليق بهذا الوصف؛ فهو لم يكتفِ بالعفو عن إخوته؛ بل واستقبلهم استقبال المتواضع، وخاطبهم خطاب الإخوة الذين لكل منهم حقه على الآخر، وشكر الله أن جمعهم بعد فرقة، ودعا دعاء الصالحين بحسن الخاتمة له ولهم.
وقد ختم الله هذه القصة بأمور تكون بين الدعاة والمدعوين في كل زمان ومكان؛ ففي وقت دعوتهم للحق ينكرونه ويجحدونه؛ بل ويعرضون عن آيات الله المبثوثة في الكون، حالهم كما قال الله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف:106] .(30/1)
استقبال يوسف لأبيه وعشيرته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للإنس والجن أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] .(30/2)
شكر يوسف لنعم الله عليه
وثم نعمة أخرى أيضاً في قوله: ((إذ أخرجني من السجن)) ، فهي نعمة كبرى، فقد كان ثَم أوباش بالسجن ومجرمون ولصوص، ومجالس المجرمين واللصوص والأوباش تقسي القلب في كثير من الأحيان، فإحسان من الله أن يخرجه من السجن، فلا ينبغي أن نتمنى الفتن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر) ، أي: فهنيئاً لهذا المبتلى الذي يصبر.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ، فإحسان من الله إلى يوسف أن يأتي إليه بآبائه من البدو، فسكنى البادية لا تستحب إلا عند الضرورات والملجئات، وقد حسن بعض العلماء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) ، وأحسن من ذلك الآية الكريمة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] ، فسكنى البادية في الغالب فيها شر أو قسوة للقلوب شيئاً ما، ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يرتد المهاجر أعرابياً.(30/3)
تحقق رؤيا يوسف عليه السلام
قال يوسف مذكراً: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] ، التي هي: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] .
فقد تتحقق الرؤيا بعد سنوات طوال، أربعين أو خمسين، أو ستين أو سبعين، أو أقل أو أكثر، ولا يلزم أن ترى رؤيا فتتحقق في الحال، وقد يتأخر تحققها، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الرؤيا، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية هو وأصحابه، وكان فيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من الصحابة، فصُد النبي عند الحديبية عن المسجد الحرام، ومُنع من دخول مكة، وصالح المشركين صلحاً على أن يرجع من العام القادم، فقام عمر فقال: يا رسول الله! ألم تكن تخبرنا أنا سنعتمر؟! ألم تكن تخبرنا أنّا نأتي البيت ونطوف به؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (بلى أخبرتك، ولكن هل أخبرتك يا عمر أنك ستدخل الحرم هذا العام؟ قال: لا.
قال: فإنك ستدخله إن شاء الله) ، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر أيضاً وقال له: يا أبا بكر! ألم يخبرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: يا ابن الخطاب! ولكن هل أخبرك النبي صلى الله عليه وسلم أنك ستدخل الحرم هذا العام؟ قال: لا.
قال: فإنك ستدخله إن شاء الله.
ودخلوه في العام المقبل.
فقد يتأخر تحقق الرؤيا سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع، أو أكثر أو أقل.(30/4)
وفاء يوسف في عفوه عن إخوته
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ، يعدد يوسف عليه السلام نعم الله عليه، فيقول: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ، ولم يقل يوسف: وقد أحسن بي إذ أخرجني من غيابة الجب؟! يقول العلماء: إن يوسف عليه السلام وعد إخوته عن قريب بقوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92] ، أي: لا تجريح ولا توبيخ ولا تأنيب عليكم بعد اليوم، فلو قال: وقد أحسن بي إذ أخرجني من غيابة الجب، لكان في ذلك تخجيل وتجريح وتثريب لإخوته وقد وعدهم بغير ذلك، فلم يكن له أن يخلف وعده، ولم يكن له أن ينقض غزله صلى الله عليه وسلم، فهو نبي كريم محسن، وليس من شيم الأنبياء العود في الهبات، والعود في المغفرات، عليهم الصلاة والسلام جميعاً.(30/5)
خروج يوسف لاستقبال أهله أحسن استقبال
أخذ بعض العلماء من قوله: (ادْخُلُوا مِصْرَ) أن يوسف عليه السلام لم يجلس في مكانه حتى دخل عليه أبواه، إنما خرج مستقبلاً لهم خارج المدينة لإكرام العشيرة والآباء والإخوة والأهل، فلم يجلس على كرسي العرش حتى يأتي أبوه ويدخل عليه وهو على الكرسي، إنما خرج إلى مصر مستقبلاً أبويه وإخوته وأهل بيته أجمعين.
فإن قال قائل: قوله: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ)) قد يفيد غير ذلك.
ف
الجواب
أنه قد ينصب ليوسف عليه السلام سرادق ونحوه خارج مصر، ثم يأتي آباؤه وإخوته فيدخل معهم جميعاً إلى مصر، وهذا وجه حسن من أوجه الجمع.
والشاهد من ذلك: أنه يؤخذ منه إكرام العشيرة، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .
استقبلهم أحسن استقبال، ولم يتنكر لهم كما يتنكر كثير من المخذولين في أزماننا، فثم مخذولون إذا أولاهم الله مناصباً، أو أولاهم الله جاهاً، أو أعطاهم الله مالاً يستنكرون لقبائلهم وعشائرهم؛ بل قد ينكر بعضهم أباه وأمه، فثم طبيب أفنت أمه حياتها في خدمته وفي الإنفاق عليه، وباعت متاعها وذهبها وأثاث بيتها إنفاقاً عليه في دراسته، ثم بعد أن تخرج طبيباً إذا به يستنكر أمه، تأتيه إلى المستشفى التي هو بها كي تتعالج عنده فيقول لها: ما اسمك أيتها السيدة؟! وكأنها امرأة غريبة لا يعرفها؛ لكونها أتت إليه محجبة مرتدية ثياباً طيبة سابغة؛ ساترة لجسمها وبدنها، ولكن كان يريد منها أن تأتيه متبرجة حتى يفتخر بها أمام زملائه!! فأي تنكر للعشائر أشد من هذا التنكر؟! وأي خذلان أشد من هذا الخذلان؟! ففرق بين رجل صالح قلده الله منصباً فأتى إليه رجل من بلدته إلى مكتبه فقام بإكرامه وإنزاله منزلته اللائقة به، وبين شخص منكر لأبويه وعشيرته.
فيوسف عليه السلام كان من الصالحين، وهو يعلمنا كيف يكون الأدب مع العشائر والإخوان.
{ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف:99] ، وهي مصرنا هذه، {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، هكذا يقول يوسف عليه السلام لأبويه ولإخوته، ولم يكتف بإدخالهم وتكريمهم واستقبالهم الحسن؛ بل قال كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] ، أي: أجلسهم معه على سرير الملك، وهو أعلى مكان في القصر، فهكذا ننزل الآباء منازلهم اللائقة بهم، لا نتنكرلهم ولا نهضمهم حقوقهم؛ فللآباء حق ذكره الله تعالى بعد حقه في الكتاب العزيز: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] .
(أي الذنب أعظم يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، ثم أي يا رسول الله؟! قال: عقوق الوالدين) ، هكذا يظهر حق الآباء، ويوسف النبي الكريم يعرف هذا تمام المعرفة.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100] ، بإذن الله، فقد كان سجوداً مشروعاً في شريعتهم، وهو سجود تحية، وقد نسخ في شرعنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ، فمنع سجود التحية في شرعنا، ولكن قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} .(30/6)
خطاب يوسف الأخير مع أهله
قال يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ، رد الفضل إلى الله، فلم يقل: من بعد أن ظلمني إخوتي، بل جعل نفسه مع إخوته في مرتبة واحدة، حتى لا يجرحهم، وحمل الجريمة كلها للشيطان، فهو لها أهل وبها جدير ولها حقيق أن يتحملها، فهو الذي ينزغ بين العباد، ومن ثم قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53] .
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] ، فهو رحيم بعباده، رءوف بهم، لطيف بهم، يعلم ما دق وما عظم عنهم، هكذا ربنا سبحانه حكيم في قضائه، حكيم في قدره، حكيم في شرعه، حكيم في تدبيره، يبتلي العباد حتى يرفعهم درجات، ويظهر المحسن من المسيء، يبتلى العباد لإكرامهم وتنقيتهم ورفعتهم، والحياة الدنيا كلها بما فيها من ابتلاءات في الآخرة قليلة، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يجاوز ذلك) .(30/7)
وحي الله لأنبيائه بأمور من الغيب
{ذَلِكَ} [يوسف:102] ، أي: هذه الأخبار يا محمد التي قصصناها عليك، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [يوسف:102] ، أمور غابت عنك لا تعلمها أنت ولا قومك، {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] ، أي: لم تكن حاضراً معهم يا محمد وهم يتفقون على إلقاء يوسف في غيابة الجب، وما كنت حاضراً معهم يا محمد إذ يخططون لقتل يوسف أو طرحه أرضاً، ولكنها أمور أوحيناها إليك.
وهكذا يوحي الله إلى أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم بأمور من أمور الغيب لم يشاهدوها ولم يحضروها، وقد قال الله لنبيه في موطن آخر: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] ، وقال في موطن ثالث: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46] ، فهي أمور يوحيها الله إلى أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم؛ لتأييدهم في دعوتهم وتقويتهم فيما يدعون إليه.
قال تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) أي: حاضراً متواجداً إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون، ولكن هل بعد هذا القصص الكريم آمن القوم؟ كلا! فما آمن إلا القليل.(30/8)
حكم تمني الموت
{وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .
هل تمنى يوسف عليه السلام الموت أم أنه سأل الوفاة على الإسلام؟ قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسناً فلعله أن يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله أن يستعتب) ، وكوي خباب بن الأرت سبع كيات في بطنه فقال: (لولا أن الرسول نهانا أن ندعو بالموت على أنفسنا لدعوت به) ، ولكن إذا خشي الشخص على نفسه الفتنة في الدين فله أن يتمنى الموت حينئذٍ، فقد قالت مريم عليها السلام: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) ، وقال سحرة فرعون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر) .
قال يوسف عليه السلام: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} ، أي: تأويل الرؤى، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .(30/9)
دعاء يوسف والأنبياء بحسن الخاتمة
ثم إن نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى الشمل قد اجتمع، ورأى الملك قد اجتمع له، وأقر الله عينه بأبويه وبإخوته وبأهل بيته جميعاً؛ استشعر الآخرة والموت، ففي الغالب أن النعم إذا اكتملت يوشك الشخص أن يفارقها، فلما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، ما لبث النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بعدها بثلاثة وستين يوماً، ولما نزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ، استشعر الموت، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه السورة الكريمة نعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أجله.
أي: أخبرته أنك يا محمد قد اقترب أجلك فاستغفر الله فالأجل قد اقترب، ونوح لما أغرق الله قومه وأقر الله عينه بالانتصار من الظالم قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] .
فلما اجتمع ليوسف عليه السلام الأمر وأقر الله عينه بوالديه وبإخوته وبأهل بيته أجمعين، وبالملك وبالعلم وبالنبوة، سأل الله سؤالاً دائماً يسأله أهل الصلاح من ربنا سأل الله حسن الختام، والوفاة على الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام مقولة الصالحين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101] ، اعتراف من يوسف لربه بفضل الله عليه، ليس تكبراً ولا تجبراً؛ بل يرد الأمر إلى نصابه والحق إلى الله سبحانه، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف:101] أي: يا فاطر السماوات والأرض، يا خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف:101] ، تولني يا رب بحفظك وبكرمك وبرعياتك وبفضلك، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف:101] ، كما أنعمت عليَّ في الدنيا أنعم علي في الآخرة كما توليتني في الدنيا فتولني في الآخرة كما رحمتني في الدنيا ارحمني في الآخرة، {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف:101] ، أي: توفني على الإسلام إذا توفيتني يا رب، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] ، أي: لا تدخلني في عداد المجرمين يا رب، بل أدخلني في عداد الصالحين.
وقد قالها سليمان عليه الصلاة والسلام لما تكلمت النملة له ففهم كلامها بإذن الله: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ، وكما قالها المذكور الصالح في سورة الأحقاف، الذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] ، هكذا فليختم أهل الصلاح حياتهم بالاستغفار كما ختمها رسولنا وهو في مرض موته إذ كان يقول: (اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى) ، فليتبرأ الشخص من أصدقاء السوء، وليطلب من الله أن يحشر في عداد الصالحين والطيبين، ليطلب من الله أن يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً هكذا طلب يوسف حسن الختام من ربه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101] ، ليس مني يا رب بل منك الفضل كله.(30/10)
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وإن قصصت عليهم ما قصصت يا محمد، وإن أتيتهم بكل آية، فأكثرهم لا يؤمنون، وهذه سنة الله في الخلق، فالقلوب لا يملكها إلا الله، فهو الذي يهدي وهو الذي يصرف عن الهداية سبحانه وتعالى.
وقد قال الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] ، وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14-15] ، فهكذا الآيات والقصص والمعجزات والدلائل والبراهين كل ذلك لا يجدي مع من ختم الله على قلبه، فالمختوم على قلبه إذا جئته بكل آية لم تجدِ هذه الآيات معه.
وإننا لنتعجب حقاً كيف يقص هذا القصص الكريم على قوم ولا يؤمنون بعد هذا القصص، لا يؤمنون بعد هذه المواعظ التي ترق منها القلوب وتذرف منها العيون! لكنه أمر قد قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره: فريق في الجنة وفريق في السعير، فالآيات لا تجدي ولا تنفع مع من ختم الله على قلبه.(30/11)
حرص الأنبياء على هداية الكفار
قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، أي: ولو حرصت على إيمانهم، ولو حرصت على هدايتهم، فما أكثرهم بمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] ، فرسولنا حقاً لا يهدي من أحب، وليس لبشر أن يهدي من أحب، إنما الهادي هو الله سبحانه، ومن ثم ندرك لِم لَم تجد دعوة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وهو يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43-45] ، فلم تجدِ هذه النداءات، ولم تجدِ هذه الاستجداءات، فيقول أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] .
وكذلك لم يجد دعاء نوح عليه السلام لولده إذ يقول: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] ، ويقول الغشوم: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ، انظر إلى هذا الجهل والغباء، يقول: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] ، فيقول أبوه: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] .
فليس لأحد سلطان على قلب أحد، إنما الهادي هو الله، فنوح عليه الصلاة والسلام لم يملك أمراً على قلب امرأته؛ بل خانته امرأته كما قال تعالى ضارباً مثلاً للذين كفروا بها: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، فليس لأحد سلطان على قلب أحد؛ بل الله يحول بين المرء وقلبه.
فإذا علمت هذا فليطمئن قلبك إذا ابتليت بولد غير مؤمن أوبفتاة ليست بمؤمنة، فإن أمر القلوب مرده إلى الله، قال الله سبحانه وتعالى في ذرية إبراهيم وإسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113] ، أي: بعض ذريتهما، فصنف محسن وصنف ظالم لنفسه مبين؛ فالهادي هو الله.
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، فالأكثرية كافرة، والأكثرية بعيدة عن طريق الله، أكثرية الخلق على هذا النحو، وعلى هذه الشاكلة، وكما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، فلا يستوحشن مستقيم طريق الاستقامة، ولا يستقل السالكين فيه، فهم قلة على مدار العصور والدهور، وقد تقدم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم؛ فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر وليس معه أحد) .(30/12)
عفة الأنبياء والدعاة عما بأيدي الناس
قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف:104] ، أي: إنك يا محمد لا تطلب أجراً من قومك على هذا الكتاب الذي تتلوه عليهم لا تطلب أجراً من قومك على هذا القصص الذي تقصه عليهم لا تطلب أجراً من قومك يا محمد على بيان طريق الاستقامة.
وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله لا يسألون الناس أجراً على دعوتهم إلى الله، بل ينبغي عليهم أن يتعففوا عما في أيدي الناس حتى يقبل الناس دعوتهم، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] ، وقال نوح عليه الصلاة والسلام: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] ، فهكذا ينبغي أن يتعفف الدعاة إلى الله عما بأيدي الناس من أموال ومتاع زائل وفان.
قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، أي: وعظ وتذكير للعالمين.(30/13)
تفسير قوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين)
أما قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، فليس هذا الذكر خاصاً بصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ بل للناس كافة، وليس للإنس فحسب؛ بل للإنس والجن كذلك، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، فالقرآن نذير لصحابة رسول الله ولمن بلغه بعد ذلك فمن أتى بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالقرآن تذكرة وموعظة للإنس والجن، سواء الذين كانوا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن عام، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف:158] .
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، و (العالمين) تأتي على معانٍ شأنها شأن كثير من اصطلاحات الكتاب العزيز حين تتعدد معانيها، فأحياناً تطلق (العالمين) على الرجال، أو تطلق على البشر: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ، وأحياناً تطلق (العالمين) على الإنس والجن: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، وأحياناً تطلق (العالمين) على كل ما بين السماء والأرض، بل والسماء والأرض كذلك، قال فرعون لموسى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23-24] .(30/14)
حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن
وقبل البدء في تفسير قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، نتجه إلى بيان حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وعلى التفرغ لذلك: فيرى جمهور العلماء: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن جائز ولا بأس به، ومن أدلتهم على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وقد جاء ذلك في سياق قصة وهي: أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بقرية من القرى فسألوا أهلها القِرى، وهو الإكرام الذي ينبغي للضيف، فأبوا أن يقدموه لهم، فما لبث سيد هذه القرية وكبيرها أن لدغته حية أو عقرب، فجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وقال أصحابه لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن سيد هذا الحي لديغ، وفي رواية: سليم، - والعرب تقول: سليم على المريض واللديغ تفاؤلاً بالشفاء- فهل منكم من راق؟ قالوا: نعم، ولكنا سألناكم القرى فلم تقدموه لنا، فلن نرقيكم إلا أن تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم إن هم قاموا برقية هذا الشخص وشفي بإذن الله، فرقاه بعض الصحابة، وكانت لا تُعرف عنه رقية، ولا يعهد عنه أنه يرقي، فقام وقرأ عليه فاتحة الكتاب، وجمع بصاقه ورقاه، فبرأ بإذن الله، فأخذوا قطيع الغنم؛ فخرج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قطيع الغنم هذا، وقالوا: كيف نأخذ أجراً على كتاب الله؟! فتصبروا حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن حكم ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، فهذا عمدة الجمهور القائلين بجواز أخذ الأجر على تعليم القرآن.
وهذا -كما سمعتم- رأي جمهور العلماء.
وقد منع من ذلك فريق من العلماء، واحتجوا بعمومات كقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] ، ولكن أجيب على هذا: بأن باب الدعوة إلى الله ليس كباب تعليم القرآن، فالذي يدعو إلى الله ويشترط على الناس إذا اهتدوا أن يعطوه مالاً فهذا مرتكب لجرم، ومرتكب لمحرم، أما الذي يتفرغ لتعليم المسلمين الذين هداهم الله بتعليمهم كتاب الله ويأخذ أجراً مقابل تفرغه فهذا جائز.
واستدل بعض أهل العلم الذين منعوا من ذلك بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وغيره من الصحابة أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فقلت: أجاهد بها في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحببت أن تتقلد قوساً من نار فاقبلها) ، لكن في هذا الحديث ضعف.
وكذلك استدل بعض من منع من أخذ الأجر على تعليم القرآن بحديث: (اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه) ، لكنه وإن حسن إسناده عند فريق من العلماء إلا أنه قد حمل بعض العلماء قوله: (ولا تأكلوا به) على أنه تبديل الحلال بالحرام والحرام بالحلال من أجل متاع زائل وعرض فانٍ، كما كان يفعل اليهود، فقد كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ونحو ذلك: (اقرءوا القرآن فإنه سيأتي قوم يتعجلونه ولا يتأجلونه) .
فالحاصل من هذا البحث السريع الموجز: أن أخذ الأجر على تعليم القرآن هو رأي جمهور العلماء، وعمدة الجمهور في ذلك ما قد سمعتموه: (إن حق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وهو ثابت عند البخاري، والله تعالى أعلم.(30/15)
إعراض الكفار عن آيات الله في الكون
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، فليست فقط القصص هي التي أعرضوا عنها، وإنما عموم الآيات في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، لا يتفكرون فيها ولا يتدبرون.
وقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ) معناها: وكم، فالمعنى: كم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون! فكم من آية في السماوات تدل على قدرة الله وعلى وحدانية الله سبحانه وتعالى، فثم رعد وبرق ونجوم وشمس وقمر ورياح كل ذلك في السماوات، ثم شمس وقمر دائبان، هذا يتبع هذا، ثم ليل ونهار هذا يطول وهذا يقصر، هذا يتداخل مع هذا، وهذا يتداخل مع هذا، ثَم شمس لها منظر عند غروبها، ومنظر عند شروقها، وهناك الأفق المبين كذلك آيات تدعوا إلى التدبر، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، ثَم نجوم زينت بها السماء الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] .
ثَم سماء رغم اتساعها ليس فيها ثقب واحد، ليس فيها فرجة واحدة، وليس فيها تفطّر، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] ، سماء مرفوعة بغير عمد ترونها، يمسكها الله سبحانه وتعالى آيات تدعو إلى تدبر وتفكر ليلة باردة، وليلة حارة، وليلة ذات ريح شديد، وليلة أخرى ذات برد شديد، وريح باردة طيبة أمور يدبرها الله ويصرفها عز وجل.
سحب يتراكم بعضها فوق بعض غيث ينزل منهمراً أحياناً، وطل ينزل كذلك -وهو الندى- وطوفان يأتي من السماء جارفاً بإذن الله، وسحاب مسخر يسوقه الله إلى حيث يشاء ويريد فسحاب مسخر، شمس مسخرة، قمر مسخر، نجوم كذلك مسخرات، رياح مسخرات، قر وحر، للآيات تصريف يصرفه الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في الأرض آيات تدعو إلى التفكر جبال رواسٍ، معادن كامنة في بطن الأرض، ذهب يستخرج، حديد فيه بأس شديد، فضة يتزين بها، بحار وأشجار كذلك أرض فيها من كل زوج بهيج، يخرج منها الحلو والحامض، الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا لذيذ الطعم وهذا دون ذلك، وهذا فوق ذلك، وكل ذلك بقدرة الله، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا له طلع نضيد، وهذا نجم وهذا شجر، هذه نباتات لها ساق، ونباتات ليس لها ساق، هذه نباتات زواحف، وهذه نخل باسقات شاهقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج.
كذلك الحيوانات أسود ضارية مفترسة شرسة، ونسور ذات بأس شديد وبطش حديد، وعصافير تطير ضعيفة مستضعفة، وذباب أقل من ذلك وأحقر نمل ونحل، دواب هي فاسقات كحية وعقرب وفأرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكغارب وكحدية، فهذه فواسق خمس تقتل في الحل والحرم.
وكذلك حيوانات مكرمة نهى نبينا محمد عن قتلها: النمل، والنحل، والهدهد، والصرد، فهذا طاووس شكله جميل، وذاك حمار صوته أنكر الأصوات هذا فيل ضخم الجسم إلا أنه بليد في الذهن هذا ثعلب ماكر، وهذا ديك يؤذن بالسحر، وينادي بالأسحار، وثَم قوم نيام وهذا ثعبان يزحف ويزعج، وهذه حية تفتك وتقتل، وفي باب مقابل حيوان أليف مألوف: شاة تحلب، وبقرة تسخر، وناقة تركب، كل ذلك يدبره الله سبحانه وتعالى، وكل هذا فيه دلالات وعبر وعظات.
هذا سمك في البحار، وهذه حيتان، وهذه تماسيح، وكذلك سمك آخر ضعيف يُفترس، أسماك بأنواعها وزواحف بأنواعها وضروبها وأشكالها وألوانها، والكل سيموت والكل سيفنى، والكل بينه قصاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) ، فالشاة ذات القرن التي نطحت الشاة التي ليس لها قرن يقتص منها يوم القيامة.
إنها أمور تدعو إلى التفكر والتدبر، انظر ذباب كثير، وبيضه وفير بالملايين، ثم إن عمره قصير، فيموت حيناً بعد حين بالملايين، لكن ثَم نسور بأسها شديد وعمرها مديد، ولكن بيضها يسير، فتخيل لو أن بيض هذه النسور كان كثيراً كالذباب ماذا كان يحدث للأرض ومن على وجه الأرض؟ لافترست النسور من على وجه الأرض، ولحل في الأرض الفساد، وكذلك الأسود والنمور، هذا حيوان مفترس لكنه قد يؤلف، وهذا حيوان مفترس آخر لكنه لا يؤلف، كل ذلك بتدبير وتقدير الله سبحانه.
عيون تتفجر من أحجار فيخرج منها الماء، أحجار تشقق فيخرج منها الماء، وورق التوت يخرج منه الدود فيخرج حريراً، وتقف عليه النحلة فتخرج عسلاً، وتأكل منه البقرة فتخرج لبناً وبعراً، يدبر ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] .
هذه قبور قد حوت أجداثاً لقوم ظالمين كانوا يساكنوننا ويجالسوننا ويعاشروننا، قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76] ، أي: بطريق واضح يراه الناس المسافر والسائر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، ولكن كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ، فيجمعون مع الإيمان بالله شركاً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(30/16)
سلسلة تفسير سورة يوسف [8]
ختم الله عز وجل هذه السورة الكريمة بقواعد وأصول عامة في الشرع يستفيد منها كل داعية إلى الله ورسوله، وهي: جمع كثير من الناس بين الإيمان والشرك بعدة صور، ثم حذر هؤلاء النفر بغاشية من عذاب الله تأخذهم؛ ثم عقب ذلك بذكر مميزات وصفات للدعاة وأمور تلزمهم قبل الدعوة إلى الله وبعدها، وجعل ختام هذه السورة كأنه عطف على أولها بذكر النصرة لرسله الملازمة لهم، خصوصاً بعد تكذيب الأمم لهم.(31/1)
تفسير قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله.)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فلما ذكر الله سبحانه وتعالى الإعراض عن الآيات التي في السماوات والأرض، ذكر ذلك في معرض ذم لقوم من المشركين، فكان من اللائق بنا أن نتدبر الآيات التي في السماوات والأرض، وكما قال قائل من أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يستدل على وحدانيته بأمور منها: النظر في السماوات والأرض، وبصفة عامة: النظر في مخلوقاته سبحانه وتعالى والتأمل فيها.
كما يستدل كذلك على وحدانيته بأسمائه وصفاته، فعلى سبيل المثال: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى سريع الحساب، وأمعنت النظر في سرعة الحساب، وكيف يتم حساب الخلق جميعاً يوم القيامة، حتى إنه -كما سمعت- يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فاستدلل بذلك على وحدانية الله سبحانه، كيف ذلك؟ إنك إذا كنت محاسباً في شركة من الشركات قد تعجز؛ بل قد تعجز إذا عهد إليك وحدك بعمل هذه الشركة الكبيرة، فما ظنك برب العالمين، الذي يحاسب الخلق كلهم إنسهم وجنهم، وطيرهم ودوابهم، يحاسب الخلق جميعاً، وكذلك يعلم المستكن في الصدور، فإذا عرفت ذلك ظهر لك شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
فيستدل على قدرته ووحدانيته سبحانه بأسمائه وصفاته، وكذلك بشرعه الذي شرع، وحدوده التي حد، فحينئذ يجدر بالمسلم أن يتأمل ويتدبر في نفسه وفيما حوله من الآيات، قال الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] .(31/2)
تفسير الإيمان مع الشرك بالحلف بغير الله
ووجه آخر في هذا الباب: أن قوماً ما يقرون بالله بأنه إله واحد وخالق ورازق ورب، ثم هم يحلفون بغيره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بالأمانة فليس منا) ، وحسن بعض العلماء حديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) ، وجاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا محمد! إنكم تشركون وتنددون! قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أصحابك يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ويقولون: والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، ولا تقولوا: والكعبة، ولكن قولوا: ورب الكعبة) .
فهذه صور من صور الشرك قد تتأتى إلى بعض المسلمين كذلك، ولكنها ليست بشرك مخرج عن الملة إلا إذا اعتقد صاحبها تعظيم المحلوف به كربه سبحانه وتعالى، فهذه صورة أخرى من صور الشرك، فربنا يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] ، فهذه صور كلها تدخل تحت قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، ومن ذلك: (لولا البط لسرقنا اللصوص) ، (لولا الديك لاعتدى علينا الجيران) ، هذه أيضاً صور من صور الشرك في الألفاظ ينبغي أن تتقى.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] ، أي: فكأنه يمد يديه إلى الماء ويقول: يا ماء تعال اصعد إلي يا ماء، والماء لن يصعد أبداً بحال، وهكذا الذي يدعو من دون الله أمواتاً وأنداداً.(31/3)
تفسير الإيمان مع الشرك بالنفاق
ووجه آخر للمفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} : أن هذا في أهل النفاق، الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، سواء كان نفاق العمل أو نفاق الاعتقاد، وقد قال الله في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
ويقول الله سبحانه وتعالى للمرائين إذا جاء الناس بأعمالهم: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء) ، صلوات الله وسلامه على نبينا محمد؛ فشخص يعرف أن الله خالق رازق إله، ثم بعد ذلك يعمل أعمالاً يبتغي بها وجهاً غير وجه الله سبحانه! فهذا يدخل أيضاً في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
كما يدخل في ذلك ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الحديبية مع أصحابه رضي الله عنهم، فقال لأصحابه على إثر سماء أصابتهم من الليل -أي: مطر نزل عليهم من الليل-: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: قال ربكم: أصبح من عبادي الليلة مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ، فهذه أيضاً صورة داخلة تحت قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] .
ومن العلماء من يقول قولاً آخر في ذلك فيقول: هذا في اليهود والنصارى، فإنهم يقرون بالله ولكنهم يقولون: عزير ابن الله، ويقولون: المسيح ابن الله، فهذا وجه أيضاً.(31/4)
كيفية اجتماع الإيمان مع الشرك
يقول الله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ، كيف ذلك؟ جمهور المفسرين يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى؛ فعلى هذا فقول جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
أن هذا في مشركي الجاهلية، فالله يقول في شأنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] ، وكما قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88-89] .
فهم يقرون بالله ويصدقون، ومع ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، يدعون مع الله آلهة أخرى لتقربهم بزعمهم إلى الله زلفى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .
فكان أهل الشرك يقرون بوجود الله، وأن الله سبحانه وتعالى خالق رازق، وأن الله هو الذي يحيي ويميت، كانوا يقرون بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، فكانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ، فهذا وجه شركهم.
قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، فهذه صورة من صور الشرك مع الإيمان بالله: أنهم يدعون مع الله آلهة أخرى، كالذين يدعون في زماننا الأموات من دون الله، ويطلبون منهم الغوث والمدد وهم قد ماتوا، ولا نعلم إلى أين صاروا، هل إلى جنة أم إلى نار؟ فالله أعلم بذلك، لكن لا يسوغ لنا بحال أن ندعو أحداً سوى الله سبحانه وتعالى، فجمهور المفسرين ينزلونها على أهل الشرك الذين يقرون بأن الله سبحانه خالق رازق، ومع ذلك يدعون معه غيره.(31/5)
تفسير قوله تعالى: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية.)
قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف:107] ، أفأمن هؤلاء المشركون، أفأمن هؤلاء الغافلون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله؟! غاشية تغشاهم وعذاب يعمهم، فالغاشية المصيبة والداهية التي تغشى الوجود والخلق، {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف:107] ، كما قال تعالى محذراً ومنذراً: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] ، أفأمن هؤلاء المشركون الظالمون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45-47] .
ألا فلينتبه الغافلون، وليقبل الشاردون، ليقبلوا على طريق الله، فإن المصائب تأتي فجأة، والبلايا تحل سريعاً، والله ذو بأس شديد، وذو عقاب أليم، فهلموا أيها العصاة إلى طريق الله سبحانه وتعالى، وارجعوا عن عصيانكم، وارجعوا عن تمردكم إلى الله سبحانه وتعالى.
{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، أي: فجأة وهم لا يشعرون، كما قال الله سبحانه وتعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، فلو تمتعت أيها العبد العاصي، أيها العبد المشرك! إذا تمتعت كل حياتك فلتعلم أن كل ذلك سيذهب ويبقى العمل الصالح الذي قدمه الصالحون، قال الله في آيات تقشعر منها الأبدان وتذرف منها العيون: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] ، كل هذه المتعة ذهبت وزالت، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (يؤتى بأنعم رجل في الدنيا يوم القيامة -أي: ممن كُتب له الشقاء والعذاب في الآخرة- فيصبغ صبغة في النار ويقال له: هل وجدت نعيماً في حياتك قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما وجدت نعيماً في حياتي قط!! ويؤتى بأبأس رجل في الدنيا -أي: ممن كتب الله له الجنة- فيصبغ صبغة في الجنة ويقال له: هل وجدت بؤساً في حياتك قط؟ فيقول: لا يا رب! ما وجدت بؤساً في حياتي قط) ، فنعيم الآخرة باق لمن وجب له النعيم، وعذاب الآخرة باق كذلك لمن وجب عليه العذاب.
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:107] ، بغتة أي: فجأة، سواء كانت ساعتهم هم أو الساعة التي هي الآخرة التي قد أزفت كما قال تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57-58] ، وكما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] .(31/6)
تفسير قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله)
قال تعالى: {قُلْ} [يوسف:108] ، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، ولهؤلاء الغافلين، قل يا محمد للناس كافة: {هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] ، توحيد الله طريقي، والاستقامة على أمر الله منهجي، واتباع السابقين من رسل الله منهجي، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، قل يا محمد لهؤلاء ولمن حولك وللناس كافة، ولا تخفي ذلك، ولا تستحي من ذلك، قل لهم: {هَذِهِ سَبِيلِي} .
ولنقل نحن للناس كافة: هذه طريقنا، نحن مسلمون، كتابنا هو كتاب الله، سنتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بالبعث وبكتاب الله وبالكتب التي نزلت من عند الله، ولا نفرق بين أحد من الرسل، ونؤمن بملائكة الله كما علمنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ونؤمن ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .
وعجيب أمر المسلم ضعيف الإيمان، كيف يشعر اليهودي بيهوديته، والنصراني بنصرانيته، ويعلق هذا صلباناً، ويعلق ذاك نجوماً، والمسلم يستحي من اتباع سنة النبي محمد!! عجيب ضعف الإيمان هذا، وهنا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ونحن له تبع: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} ، ومن سبيلي أيضاً الدعوة إلى الله؛ فهي من أشرف الأعمال على الإطلاق، فجدير بنا أن نغبِّر أقدامنا في الدعوة إلى الله، وأن نرطب ألسنتنا بعد ذكر الله بالدعوة إلى الله، جدير بنا ذلك.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} ، إلى طريقه وإلى شرعه وسنن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} ، لكن دعوتي إلى الله ليست دعوة همجية، وإنما هي على بصيرة، على علم ويقين وحجة، فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله مستبصرين بما يدعون إليه، مستيقنين بما يريدونه من الناس ويدعون الناس إليه، فلا تدع بجهل فتضل وتضل غيرك، ولكن ادع إلى الله على بصيرة، وأتقن المسائل، وتعلم دينك: كتاب ربك، وسنة نبيك محمد، وأقوال صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال أهل العلم والفقه في الدين، ثم ادع على بصيرة بعد ذلك.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] ، ربانيين بماذا؟ قال الله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] ، فدراسة وتعلم ثم بث ونشر للعلم، هكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، يتزودون بالعلم الشرعي ويتبصرون به، ثم يدعون الناس إلى طريق ربهم على بصيرة ليس بجهل وليس خبطاً عشوائياً.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ، والبصيرة منها كتاب الله وسنة رسول الله؛ لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام:104] ، فالآيات بصائر، وسنن النبيين بصائر كذلك يهتدى بها، قال تعالى في شأن كتابه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16] .
فينبغي أن يكون الداعية على علم، وأن يتقن ما يبلغه للناس تمام الإتقان، كما أن على الطبيب أن يتقن طبه، وعلى المهندس أن يتقن هندسته وتصميمه، وعلى المدرس أن يتقن الدرس الذي سيلقيه، وكذلك على الداعي إلى الله أن يتقن المسائل التي سيدعو إليها، وأن يعرف إلى ماذا يريد أن يدعو، فعليه أن يتقن ذلك إتقاناً زائداً فإنه تقلد أفضل الأعمال، فعليه أن يوليها أحسن إتقان، وأن يبذل لها أطيب الجهد وأفضله.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، فالذين اتبعوا رسول الله يسيرون على درب رسول الله، وعلى سيرة رسول الله في الدعوة إلى الله على بصيرة، فلنكن معشر الإخوة دعاة إلى الله، فهي أفضل الأعمال، حتى إن بعض أهل العلم يفضلها على الجهاد، مستأنساً بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب وقد أرسله لفتح خيبر: (انفذ على رسلك وادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، فهداية رجل واحد إلى طريق الله سبحانه خير من الغنائم، ومن أفضل أنواع الإبل.
قال الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، أي: ولست أنا وحدي بل أنا ومن اتبعني، فمن اتبعوا رسول الله عليهم أن يحملوا دعوة رسول الله، ويوجهوها إلى الخلق، ويأخذوا بأيدي الضال والتائه، قال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] ، أي: وأنزه الله سبحانه عن كل شريك وند ومثيل، أي: في دعوتك إلى الله نزه الله أيضاً عن الشركاء، وعن الأمثال والأنداد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} ، أنزه الله، فالتسبيح هو التنزيه تنزيه الله عن الشبيه والشريك والمثيل والند تنزيه الله عما يصفه به الواصفون القائلون بأن له ولداً وبأن له زوجة، القائلون بأن له شريكاً، القائلون بأن الملائكة بنات الله، الذين عبدوا معه غيره.
فينبغي أيضاً أن ننزه الله عن كل نقص وعيب، وكذلك لنا في كل تسبيحة نسبحها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة) ؛ فلنسبح الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ، فجدير بنا أن نسبح الله باللسان وبالجنان.
قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ، بل أنا بريء من المشرك، بُرآء فنحن والحمد لله من الشرك ومن كل صنوفه، بُرآء من الشرك ومن المشركين كذلك.(31/7)
إرسال الله الرسل إلى الأمم السابقة
ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] ، وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً.(31/8)
نزول النصر على الرسل عند تكذيب الأمم
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] ، هنا قراءتان: وهل هي: (كُذِبُوا) مخففة، أم (كُذِّبُوا) مشددة؟ فـ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تستنكر القراءة (كُذِبُوا) بالتخفيف، وتقول: بل (كُذِّبُوا) ، وتقول: معاذ الله أن تظن الرسل بربها ذلك! أما ابن عباس رضي الله عنهما فكان يقرأ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة، يقول ابن عباس: كانوا بشراً، ويتلو قول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .
ومن العلماء من التمس تأويلات فقال: ظنت الرسل أن قومها قد كذبوها، فكل رسول ظن أن قومه قد كذبوه لما استبطأوا وعد الله بالنصر.
فثَم وجوه في هذا التأويل، وحاصل ذلك كله: أن الأمر اشتد على المرسلين شدة شديدة، وتأخر النصر عليهم تأخراً شديداً شق على بعضهم مشقة بالغة، حتى إن نوحاً عليه السلام يقول الله في شأنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، فإلى أي حد وصل الأمر بنوح عليه الصلاة والسلام حتى ينادي ربه عز وجل قائلاً: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ؟! إلى أي حد يصل الأمر بنوح إلى أن يقول هذا القول صلوات الله وسلامه عليه؟! فالشاهد: أن الرسل عليهم السلام بذلوا جميع ما في وسعهم، ولم يقصروا صلوات الله وسلامه عليهم؛ بل بذلوا الجهد كل الجهد، وتأخر النصر عليهم لحكمة يعلمها الله، وإلا فالله قادر على الانتصار لهم قادر على إهلاك عدوهم لأول وهلة، ولكن كما قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4] ، أي: من الكفار، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] ، فمن ثَم لا يستبطئ الدعاة إلى الله نصر الله تبارك وتعالى، فإن الله وعد به: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] .
فوصل الأمر بالرسل عليهم الصلاة والسلام إلى أن ظنوا بأقوامهم أنهم قد كذبوهم، ومن العلماء من يقول: إن الرسل بشر حدثتها أنفسها بما شاء الله أن تحدث، لكنهم لم يظنوا أن الله يخلف الوعد، فالرسل أبعد الناس عن ذلك الظن بالله سبحانه وتعالى.(31/9)
إرسال الرسل من أهل القرى
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فإن قال قائل: لم ذاك؟ ف
الجواب
أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا) .
فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له.
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، كما قال تعالى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109] ، أي: أفلا تفهمون!(31/10)
إرسال الرسل من أهل القرى
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فإن قال قائل: لم ذاك؟ ف
الجواب
أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا) .
فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له.
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، كما قال تعالى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109] ، أي: أفلا تفهمون!(31/11)
اختصاص الله الرجال من البشر بالوحي
أفادت الآية الكريمة أن الله سبحانه لم يرسل نبياً من النساء، ولا نبياً من الملائكة، ولا نبياً من الجن كذلك، وامتناع نبي من الجن في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8] ، فلم يأت رسول من الجن، ولم يأت رسول كذلك يدعو الناس مباشرة من الملائكة، إلا في بعض الحالات المستثناة كحديث الأقرع والأعمى، وأحاديث قليلة على هذا النمط، لكن كرسول ملك إلى الناس يدعوهم إلى طريق الله لم يكن هذا موجوداً من قبل، ولم يكن ثَم رسول من النساء ولا نبية من النساء.
وهذا رأي جمهور المفسرين.
أما الذي ورد بشأن الإيحاء إلى أم موسى في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] ، والوارد كذلك في شأن مريم عليها السلام: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] ، وكذلك الوارد في شأن سارة عليها السلام: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ، فذلك كله باب فضل ليس بباب إثبات نبوة، والله تعالى أعلم، وقد ذكر الله سبحانه مريم في أعلى مقاماتها فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] ، فلم يقل الله عن مريم إلا أنها صديقة {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75] .(31/12)
العبرة المأخوذة من قصص الأنبياء
قال الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} [يوسف:110-111] ، أي: في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] ، عبرة يعتبر بها أولو الألباب حتى يصبروا كصبرهم، ويؤمنوا كإيمانهم، ويصدقوا كتصديقهم، ويسيروا كسيرهم، ويكظموا الغيظ ويعفوا عن الناس ككظمهم وعفوهم، ويتخلقوا بأخلاقهم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] ، حتى يوحدوا الله كتوحيدهم.
(لأولي الألباب) : لأصحاب العقول النيرة الناضجة.
{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] ، ما كان ليفترى هذا القرآن أبداً، وليس بحديث مفترى كما زعم الزاعمون من الكفار، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، وكما قالوا: {إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] ، ليس كهذا أبداً؛ فالرسول لم يفتر أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] ، فنبينا محمد لم يفتر أبداً، ولكنه تنزيل من حكيم حميد، فنقر ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، وأنا متمسكون به إن شاء الله دائماً وأبداً، ونسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات.
قال الله سبحانه: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111] ، أي: تصديق التوراة والإنجيل، فالقرآن مصدق للتوراة وللإنجيل ولسائر الكتب، وهي كذلك تصدقه فيما أتى به ذكره، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] ، وقد قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ، فهدايته ينتفع بها أهل الإيمان، أما أهل الغباء والجهل فإن الله يقول في شأنهم: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] ، فهكذا هداية القرآن لأهل الإيمان: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] .
فنسأل الله أن ينفعنا بهذا الكتاب الكريم، وأن ينفعنا بهذا الذكر الحكيم، وأن ينفعنا بتنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين.
نسأل الله سبحانه أن يلهمنا التأسي برسل الله عليهم الصلاة والسلام، والسير على نهجهم حتى الممات، فالموفق من وفقه الله.
وبهذا الختام الطيب الجميل تختم سورة يوسف خير ختام؛ فلنلتمس الهداية والتوفيق من الله سبحانه، ولنلتمس سير العلماء بعد الأنبياء، فلنسر على سير الأنبياء، ولنقتبس منها كل هدى وخير وأدب وكل معتقد صحيح.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(31/13)
تفسير سورة النور [1-4]
من المعلوم لدى كل من له أدنى معرفة بأحكام الدين أن الإسلام ما جاء إلا ليحفظ الكليات الخمس التي منها العرض، ولذا شرع حد الزنا صيانة من الوقوع في هذه الجريمة، وسورة النور من تلك السور التي تعالج مثل هذه القضايا، حيث جاء في أولها بيان حد جريمة الزنا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغيرها من الأحكام.(32/1)
سورة النور سورة مدنية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: سورة النور: سورة النور سورة مدنية، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على كونها مدنية، وقد تقدم ضبط المدني والمكي بما حاصله: أن الأرجح من أقوال العلماء في تحديد المدني هو: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، سواءً نزل عليه بالمدنية أو نزل عليه بتبوك أو نزل عليه بالحديبية، أو غير ذلك.
وأن ضابط المكي هو ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، سواءً نزل عليه بمكة أو بالطائف، أو بغير ذلك.
ومن العلماء من أطلق القول فقال: المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة.
على كل فسورة النور سورة مدنية بالإجماع، وقد نقل الإجماع في ذلك غير واحد من العلماء.(32/2)
تفسير قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا)
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] من العلماء من قدر محذوفاً وقال: المعنى: هذه سورة أنزلناها.
ومن العلماء من جعل السورة مبتدأ.(32/3)
معنى السورة
أصل السورة مأخوذ من أحد أمرين: الأمر الأول: أن السورة مأخوذة من السور، لعلوها وارتفاع مكانتها، ومنه قول الشاعر: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فقوله: (ألم تر أن الله أعطاك سورة) أي: أنزلك منزلة، وأعطاك وجاهة ومنزلة.
ومن أهل العلم من قال: إن السورة مأخوذة من السور لعلوها وارتفاع مكانتها.
الأمر الثاني: أن السورة مأخوذة من السؤر لانفصالها وبينونتها عن الذي قبلها.
فقولك مثلاً: سؤر المؤمن، أي: اللعاب الذي انفصل من فم المؤمن وخرج عنه.
وقولك: سؤر الهرة: أي: اللعاب الذي خرج من فم الهرة وانفصل عنها، فيقال: سميت سورة: من السؤر؛ لأنها انفصلت عن السورة التي قبلها وتميزت عنها.
لكن أكثر العلماء على أن السورة مشتقة من السور؛ لعلوها وارتفاع مكانتها.(32/4)
وجه تخصيص ذكر الله عز وجل لإنزال هذه السورة
قال الله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] .
إن قال قائل: كل السور أنزلها الله فلماذا خصت هذه السورة بالإنزال؟ ف
الجواب
لبعض مخلوقات الله سبحانه وتعالى، ولبعض سور كتاب الله مناقب تستأثر بأن توصف بها مع اشتراك غيرها معها في ذلك الوصف، فمثلاً: من مخلوقات الله: ناقة الله التي أخرجها الله سبحانه وتعالى لقوم صالح، قال صالح لقومه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] مع أن كل النوق نوق لله سبحانه وتعالى، ولكن لماذا قال عن هذه الناقة خاصة إنها ناقة الله؟ قال فريق من العلماء: إن الإضافة إضافة تشريف، فمثلاً: المساجد كلها لله، لكن لماذا أطلق على البيت الحرام خاصة إنه بيت الله؟ لمزيد التشريف، وإلا فالأرض كلها لله، مساجدها، وأسواقها، وبيوتها، وكل ما فيها لله، لكن لماذا قيل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] ؟ الإضافة هنا للتشريف، مع أن كل شيء لله.
كذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم روح الله، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] مع أن كل البشر روح من الله، لكن إضافة روح الله إلى عيسى للتشريف.
فمن العلماء من قال: إن اختصاص هذه السورة بالإنزال لبيان تشريفها ومكانتها بين السور، ولعدد من سور القرآن فضل تستأثر به على سائر السور، فقد تجد سورة لها فضل لا تجده في غيرها من السور، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لما سمع نقيضاً من السماء وكان جالساً هو وأصحابه قال: (هذا باب من السماء فتح لم يفتح قبل اليوم، نزل منه ملك فقال: يا محمد! أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: سورة الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ عليهم: قل هو الله أحد) ، فلبعض سور القرآن مناقب وفضائل لا تشاركها فيها سور أخرى.
قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] .
في قوله تعالى: (وفرضناها) قراءتان: القراءة الأولى: (وفرّضناها) بالتشديد.
وقراءة: (وفرضناها) بالتخفيف.
(وفرّضناها) : أي: قطعناها وبيناها ما فيها حكماً حكماً.
(وفرضناها) (بالتخفيف) بمعنى: فرضنا ما فيها من أحكام، فكثير من أحكامها فرض، ففيها حدود: كحد الزنا، وحد القذف، وفيها أيضاً آداب: كأحكام النظر، وأحكام الاستئذان، وفيها جملة مسائل تأتي في ثناياها إن شاء الله تعالى، ومما ورد فيها: وجوب رد أي أمر مختلف فيه إلى حكم الله سبحانه وتعالى، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر باتباعها التحذير من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك مما سيأتي.
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ} [النور:1] آيات: أي: دلالات.
{آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] أي: واضحات ظاهرات، فالبينات: الواضحات، والمبين: هو الواضح الظاهر.
{وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] .
أي: لعلكم بهذه الآيات تعتبرون وتتعظون وتنزجرون وتكفون عن المعاصي.
وابتداءً فسورة النور لم يثبت في فضلها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما الوارد من قولهم: (لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن الغزل وسورة النور) فحديث ضعيف جداً لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن متنه أيضاً في كثير من فقراته غير مقبول، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (كما علمتيها الكتابة) دليل على أن النساء كان منهن من يتعلم الكتابة، وتعلم النساء الكتابة علم من العلوم، والذي عَلم علماً واستغله في طاعة الله يُحمد على ذلك، أما ما جاء من الشعر الماجن: ما للنساء وللخطابة والكتابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة فهذا بيت شعر ساقط لا وجه ولا مستند له لا من كتاب ولا من سنة، والأمر فيه كما قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:224-227] الآيات.(32/5)
تفسير قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي.)
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] .(32/6)
حكم اللوطية
يلتحق بذلك أيضاً: من عمل عمل قوم لوط، ما حكمه؟ ورد في الباب حديث من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول) ، وهذا الحديث إسناده ظاهره الحسن، لكن انتقده عدد من أهل العلم وعدوه من مناكير عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، ومن ثم اختلف العلماء في مسألة من عمل عمل قوم لوط ما هي عقوبته؟ فمن قائل من العلماء: إنه يرجم إذا كان محصناً، ويجلد إذا كان بكراً إلحاقاً بالزنا.
ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق بالمدينة، ويتبع بالأحجار كما فعل بقوم لوط، إذ قال الله سبحانه: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] .
والرأي الثالث: هو القتل بكراً كان أم ثيباً عملاً بحديث ابن عباس عند من صححه من العلماء.
والله تعالى أعلم.(32/7)
من زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها
من المسائل التي تلتحق أيضاً بالمسائل التي نحن بصددها: رجل زنا بامرأة هل يتزوجها؟ القول الأول: قال كثير من أهل العلم لا بأس بذلك ويصدق عليهما قول من قال: أوله نفاح حرام وآخره نكاح حلال.
هذا رأي فريق من العلماء، والله أعلم.
وقد جاء في سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] ما أخرجه أبو داود بإسناد حسن: أن رجلاً من المسلمين كان يقال له مرثد بن أبي مرثد كان يحمل أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة يهربهم، وكانت له صديقة في الجاهلية قبل أن يسلم يقال له عناق فذهب يوماً لنقل بعض أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة فقابلته عناق في الليل فعرفته فقالت له: مرثد! قال: مرثد، قالت: هلم فبت عندنا الليلة يا مرثد، قال لها: يا عناق إن الله قد حرم الزنا، فهيجت عليه الناس، فقالت: يا معشر قريش! هذا رجل يحمل أسراكم إلى المدنية، فجرى فاختبأ في كهف فجاءوه فوقفوا عليه ولم يرونه، فانطلق بعد أن انصرفوا وحل أسيرية وحملهما وانصرف، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله! أأنكح عناقاً -يعني: أتزوج عناقاً - فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) ونزلت الآية الكريمة، فعلى هذا اختلف العلماء في تفسير النكاح في الآية على قولين: قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وعلى ذلك فلا يجوز لرجل عفيف أن يتزوج بامرأة قد زنت، ولا يجوز لامرأة عفيفة أن تتزوج برجل قد زنى، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، واستدل له البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) .
القول الثاني: وهو قول أكثر: ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالنكاح في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح) .
الجماع، ويكون المعنى: على أن الزاني لا يطاوعه على زناه إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا يطاوعها على زناها إلا زان أو مشرك، فحملوا الزنا ضمناً على الجماع، فالزاني لا تطاوعه على الزنا إلا زانية مثله أو مشركة لا تعتقد حرمة الزنا، ويؤيد هذا القول: النظر في الآية الكريمة، فلو فسرنا النكاح بالزواج في هذا الموطن لكان المعنى: الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولكان في الآية الكريمة إباحة تزوج الزاني بالمشركة وهذا حرام؛ لأن الله يقول: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] ، ويقول: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وأيضاً لو قلنا بذلك: لأبحنا للزانية أن يتزوجها المشرك لقوله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] وهذا حرام، فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] ، وقال: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] .
فهذا الذي حذى بنا إلى ترجيح رأي العلماء القائلين: إن المراد بالنكاح هنا الجماع، وليس المراد بالنكاح العقد، وكان من حجج القائلين بأن المراد من النكاح العقد هو: أن أغلب آيات الكتاب العزيز التي ذكر فيها النكاح محمولة على عقد التزويج، وهذا وإن كان يصح لهم في كثير من المواطن، لكن ثم مواطن لا يصح لهم ذلك، كقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] ليس معنى قوله (بلغوا النكاح) إلا بلغوا الحلم، والله أعلم.
وكذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] المراد: العقد والجماع نفسه، بدليل حديث النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) والله أعلم.
قال سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] والزاني لا يساوي المشرك أبداً، فالزاني مسلم ولا يكفر بهذا الزنا إنما يكون قد ارتكب كبيرة من الكبائر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، وفي الثالثة قال: وإن رغم أنف أبي ذر) -أي: وإن ألصق أنف أبي ذر - في التراب، أما المشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وتقدم شرح فقه هذا الحديث.
قال تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] وقد تقدم أن الرجل إذا زنا بامرأة، فالتحرير في هذه المسألة يقتضي: أن له أن يتزوجها.(32/8)
أقوال العلماء في التغريب
أما قوله: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) أي: نفي سنة، فعليه بعض الملاحظات: أحدها: هل تغرب المرأة، أو لا تغرب المرأة؟ يعني: هل تنفى المرأة إذا زنت مع جلدها إذا لم تكن قد تزوجت، أو لا تنفى؟ أما الرجل فينفى لقوله عليه الصلاة والسلام: (جلد مائة وتغريب عام) أما المرأة: هل تنفى مع الجلد، أو لا تنفى؟ فجمهور أهل العلم: يرون أن المرأة تنفى أيضاً؛ لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (جلد مائة وتغريب عام) .
ومن أهل العلم من قال: لا تنفى المرأة؛ لأن نفيها يحتاج إلى محرم، والمحرم ليس له ذنب في التغريب.
فأجيب على ذلك: بأن لإمام المسلمين أن يعد لها من الاحتياطات ما تُحفظ به بإذن الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(32/9)
مشروعية البعد عن أصحاب السوء
وقوله عليه الصلاة والسلام: (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) يفيد: مشروعية نفي أصحاب المعاصي، ومشروعية الابتعاد عن مجالسة أصحاب المعاصي، وعلى ذلك جملة أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام منها: أن البكر ينفى حتى لا يتذكر موقع المعصية؛ لأنه كلما مر بموقع المعصية تذكرها، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم مزهداً في جلساء السوء: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة -أو- نتنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث قاتل التسعة والتسعين نفساً: إن هذا القاتل لما أتم المائة قال له العالم: (اترك أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم) .
الشاهد: أنه حثه على ترك أرض السوء والذهاب إلى أرض أهلها أهل صلاح.
وأيضاً قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] ، والآيات في هذا الباب منها أيضاً: قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] ففي الآية حث على عدم مجالسة أصحاب المعاصي؛ لأنه مشركة أو إذا تزوج زانية تأثر بأخلاقها، ففي قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] دليل وإن لم يكن صريح فإنه ضمني في البعد عن أصحاب المعاصي وترك مجالستهم.
والخلاصة: أن كل ما سبق: فيه دليل على مشروعية البعد عن أصحاب المعاصي وترك مجالستهم إلا على وجه التذكير والنصح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود فجلس يذكرهم ويعظهم عليه الصلاة والسلام، والأدلة في هذا الباب متواترة وكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويلتحق بما تقدم من الآية: إيراد اعتراض بعض الملاحدة على آية الرجم، فيقول قائل الملاحدة: إن الإسلام فيه شدة وغلظة لما يأمر برجم الزناة.
فالإجابة على ذلك من واقعهم هم أنفسهم، فهم أنفسهم أطباء وهؤلاء الملاحدة أحياناً يستأصلون لمريض من مرضاهم كليته، وأحياناً يبترون لمريض من مرضاهم رجله أو يده، ولماذا يبترون الرجل أو اليد؟ ولماذا يستأصلون الكلية؟ يفعلون ذلك عندهم إبقاء على حياة المريض، فإذا كان هذا هو فعلهم ببعضهم، فبرجم الزاني يحصل إبقاء لعموم البشر، لأنه استئصال لعضو فاسد.
وما دام أن الآمر بالرجم هو الله -وهو الحكيم الحميد هو الخالق للعباد، وهو الذي يعلم ما يضرهم وما ينفعهم- فلا يسعنا إلا الامتثال لأمره.(32/10)
هل يكفي في ثبوت حد الزنا وجود رجل مع امرأة في فراش؟
تلتحق بالآية المتقدمة مسائل: منها أيضاً إذا وجد رجل مع امرأة في فراش تحت لحاف وهو أجنبي عنها، هل يُشهد بمجرد رؤيته على هذا الوضع أنه زنى بها؟ الصحيح: أنه لا يشهد بمجرد هذه الرؤية على الزنا، ولكن إن أقرت المرأة أو اعترفت أنها زنت فيقام الحد على من اعترف، أما مجرد النوم في فراش مع امرأة، أو خلوة مع امرأة، فهذا وذاك لا يثبت حد الزنا، والحدود تدرء بالشبهات، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للإمام أن يعزر التعزير الذي يراه مناسباً لزجرهما وأمثالهما عن الوقوع في هذه المعصية -الخلوة بالأجنبية-، وللإمام أن يتخذ من التعزير ما يراه موائماً لردع أمثال هؤلاء من أهل الفسق، والله تعالى أعلم.(32/11)
أقوال العلماء في الجمع بين الجلد والرجم لمن زنى وكان ثيباً
وهنا مسألة: إذا زنى الثيب فهل يرجم فقط أم بجمع له بين الجلد والرجم؟ قد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ، فالثيب بالثيب: جلد مائة والرجم، لكن حديث: أن الثيب إذا زنا -والثيب هو من سبق له الزواج- يجلد على ما في الحديث مائة جلدة ويرجم، وهذا الحكم على غير المعهود من أن الثيب يرجم فقط، وللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: أن الثيب إذا زنا يرجم فقط ولا يجلد، وهذا قول جمهور العلماء، ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها.
ودليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية لما زنت، ولم يرد أنه جلدها.
ورجم ماعزاً لما زنى ولم يرد أنه جلده، فهذه أدلة الجمهور القائلين بأن الثيب إذا زنى يرجم فقط.
القول الثاني: وذهب آخرون منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أن الثيب إذا زنى يجلد مائة جلدة ثم يرجم -أي: توقع عليه العقوبتان- واستدل بقوله: جلدتها بكتاب الله -أي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويستدل له أيضاً بالحديث الذي هو: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، ولكن رأي الجمهور أقوى.
والله أعلم.(32/12)
الحث على الستر لمن ابتلي بارتكاب الحدود
من ابتلي بشيء من هذه القاذورات: فهل يبحث عن شخص يقيم عليه الحد، أو يذهب للإمام يقيم عليه الحد، أم الأولى له أن يستتر؟ الظاهر والعلم عند الله: أن الأولى له أن يستتر ولا يحدث أحداً من الناس؛ وذلك لأن ماعزاً لما أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إنه قد زنى، أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فاتجه إلى الشق الآخر من وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناحية الأخرى مراراً، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك قبّلت، لعلك لمست أو لعلك كذا.
ولعلك، ومع ذلك يصر ماعز على أن يقام عليه الحد.
وفي بعض الروايات -التي ينظر في إسنادها- أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لبعض من أبلغه خبر ماعز: (هلا سترته بثوبك) ، ويدل على الستر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الرجل يذنب الذنب في الليل فيصبح وقد ستره الله عليه يتحدث في الناس عملت كذا وكذا البارحة) فهذا غير معافى، ويدل على الستر أيضاً: (إن الله حيي ستير -أو- إن الله يحب الستر) .
ويدل على أفضلية الستر أيضاً: عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فعلى من ابتلي بشيء من ذلك أن يستتر ويستغفر الله عز وجل، خاصة في زماننا الذي عطلت فيه الحدود فإلى من ستذهب، ولن ينالك من الناس إلا الفضحية، والستر مأمور به، فعلى ذلك: إن ابتليت امرأة -والعياذ بالله- بالزنا، وكانت بكراً، وتقدم شخص للزواج بها فاختار بعض العلماء -وهم الأقل- أنها تستر على نفسها فالله حيي ويحب الستر سبحانه وتعالى، ولا يأتيها مفسد، ولا يأتيها رجل قليل الفقه بزعمه ويقول له: اذهبي فقولي للزوج إنك زنيت! فهل رب العزة يحب منك هذه الفضائح؟! كلا فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، وقد سمعتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ماعز: (هلا سترته بثوبك) .(32/13)
قرائن يعرف بها زنا المرأة
والزنا يعرف في المرأة بقرائن ثلاث: إما الحبل، وإما الاعتراف، وإما الشهود.
وهذا قول أمير المؤمنين عمر، بيد أن كثيراً من العلماء قالوا: إن الحبل ليس قرينة لإقامة الحد على المرأة، فقد تكون المرأة أكرهت على الزنا، أو يكون فعل بها وهي نائمة، أو أعطيت مخدراً من المخدرات فأسكرها ففعل بها المحرم، فرأى فريق كبير من العلماء أن الحبل لا بد أن يصحبه الاعتراف، بينما اعتبر أمير المؤمنين أن الحبل قرينة.
والله أعلم.
وعلى كلٍ فهذا هو الرأي الآخر في الباب.
(الزانية والزانية فاجلدوا) قلنا: للجلد صفات مبسوطة في كتب الفقه.
(كل واحد منهما مائة جلدة) ولم يُقل: فاجلدوهما مائة جلدة؛ لأن قوله: فاجلدوهما قد يحتمل أنهما معاً يجلدان مائة جلدة فكل واحد منهما يتحمل خمسين، ففي مسائل الحدود يزال الغبش عن الأحكام وتتضح الأمور جلية.
قال تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: لا تأخذكم بهما رقة وشفقة فتتركون الحد، وليس المعنى أنكم تضربوهم ضرب الموت، فكما تقدم أن للضرب صفة، ولكن المعنى: ألا تأخذكم الشفقة بهما فتتركون الحد.
(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) : أي: في حكم الله، فالمراد بالدين هنا: الحكم، وتقدم معنا أن من معاني: الجزاء ما ورد في قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي: لمجزيون.
لكن (الدين) هنا: الحكم، كما قال تعالى {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76] أي: في حكم الملك، أي: لا تأخذكم بهما رأفة في حكم الله وتسقطوا حكم الله عنهما لهذه الرأفة.
{إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] .
في قوله (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) تهييج وإثارة للمؤمنين على إقامة الحدود.
كما يقول لك قائل: إن كنت مسلماً فتصدق، فتثبت أنك مسلم فتقوم إلى الصدقة، فكأن الذي لا يقوم بتنفيذ هذه الحدود مطعون في إيمانه بالله واليوم الآخر.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] قال بعض العلماء: الطائفة: ثلاثة فما فوقها، وقال فريق آخر الطائفة: المجموعة.
والله أعلم.
لكن لا بد من الشهود، (وليشهد) معناها هنا: وليحضر، فالشهادة لها معان: (شاهد ومشهود) مثلاً، الشاهد بمعنى: الحاضر المشاهد، والشاهد بمعنى: الشاهد الذي تثبت به الدعوى كالشاهد على المال، والشاهد على الدين، والشاهد على الحكم، فالشهادة لها معان، ومن معانيها: الحضور، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73] أي: عالم الذي غاب والذي حضر، ومن معاني الشهادة: الشهادة على البيوع والشراء ونحو ذلك.
فقوله (وَلْيَشْهَدْ) أي: يحضر، (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: إقامة الحد لا تكون سراً إنما تكون على رؤية وعلى عين طائفة من المؤمنين.(32/14)
الزنا كبيرة من الكبائر
قال الله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] الزنا: كبيرة بالإجماع، وتقدم ضبط وتحديد العلماء للكبيرة: فمن العلماء من قال: إن الكبيرة هي التي نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها كبيرة، كما قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله، وقتل النفس ... ) الحديث، وكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم نص بأنه كبيرة فيعتبر كبيرة، وهذا القول ظاهره السلامة، ولكن إذا أمعنت النظر تجد أن هناك أموراً متعددة لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يصفها بكونها كبيرة أو صغيرة.
مثاله: رجل تزوج بأمه فليس هناك نص صريح يفيد أن من تزوج بأمه ارتكب كبيرة، ولكن الإجماع على أنها كبيرة، ولا شك في ذلك عند العامي قبل العالم، وكذلك الزنا لم يأت فيه نص بعينه أنه من الكبائر، اللهم إلا الزنا بحليلة الجار وهو قسم خاص من أقسام الزنا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) ، لكن عموم الزنا لم يرد نص خاص على أنه كبيرة، لكن الإجماع منعقد على أنه كبيرة، فلذلك حدد بعض أهل العلم الكبيرة بقولهم: هي ما ورد فيها نص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو ما ترتب على فاعلها حد في الدنيا، أو ما توعد على فعلها بلعن أو طرد من رحمة الله سبحانه، أو بعذاب النار أو بغضب الله ونحو ذلك.
ولذلك ورد عن ابن عباس أنه قال: (إنها -أي الكبائر- إلى السبعين أقرب منها إلى السبع) هذا وقد جاءت في الزنا جملة نصوص تحذر منه وتبين العقوبة الشديدة لمن فعله، قال سبحانه: {وَلا يَزْنُونَ} والذي يفعل ما ذكر في الآية ومنه الزنا: {يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68-69] وعلى ذلك يحمل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) على أنه يدخل الجنة آخراً وإن زنى وإن سرق إذا أخذ قسطه من العذاب في النار إذا لم يغفر الله له.
وقال الله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكني رأيت البارحة رؤيا: أتاني رجلان فأخذاني.
- الحديث وفيه- فمرا بي على مثل التنور -التنور الذي يخبز فيه وفيه نار- وإذا في أعلى التنور رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم فيسمع له صياح وضوضاء، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء: الزناة والزواني يا محمد ... ) والحديث في صحيح البخاري وحاصله: أن من عقوبات الزناة أنهم كما استمتعوا بالفروج تأتي النار تحرق هذه الفروج التي استمتعوا بها في الحرام والعياذ بالله.
وجاء في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:.
وأن تزاني بحليلة جارك) .(32/15)
المقاصد الشرعية من تحريم الزنا
للزنا مضار اجتماعية منها: اختلاط الأنساب، والحاق الولد بغير أبيه فيطلع على المحارم التي لا يحل له أن يطلع عليها، ويرث المال الذي ليس له ولا يحق له تملكه، وتنشأ من جراء الزنا مشاحنات وقتال بين الرجال الذين يغارون على أعراضهم، ولذلك سدت الشريعة جميع الطرق الموصلة إلى الزنا، وكما لا يخفى عليكم أن كل كبيرة من الكبائر لها حمى يحيط بها، فهذا الحمى يحذر من الاقتراب منه حتى لا تقع في المحرم الفعلي.(32/16)
الأساليب الوقائية التي اتخذتها الشريعة لمنع جريمة الزنا
لقد جعلت الشريعة الإسلامية بين العباد والذنوب حمى ومنعت من الاقتراب من هذا الحمى، ففالزنا له حمى والاقتراب من حماه حرام، فمثلاً: حرم السفر بدون محرم للنساء؛ لأن السفر بدون محرم يطمع الرجال في المرأة ويشجع المرأة ويوسوس لها بفعل المحرم، وحُرمت الخلوة بالأجنبية بدون محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: أرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت) ، وحرم النظر إلى الأجنبية فقال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] ، وحرم التبرج فقال صلى الله علهي وسلم: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) .
فكل المقدمات المؤدية إلى الزنا حرمت، حتى الوصف فقد يصف رجل امرأته لغيره، أو تصف امرأة رجلاً وتتغزل في صورته، ويتغزل في صورتها، فيؤدي ذلك بهما إلى الوقوع في المحرم والفاحشة، والخضوع بالقول من المرأة، الذي يطمع الذي في قلبه مرض حُرم، قال تعالى: {َلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] .
والمواجهة المباشرة والحديث المباشر بين الرجال والنساء وجهاً لوجه منعه أولى، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] .
والغناء الذي يثير الفواحش ويهيج الرجال والنساء، ويصف الخدود والخمور حرام، فكل السبل التي تؤدي إلى الزنا سُدت، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يقتحم هذه الأشياء كلها إلا رجل هالك، فلذلك قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وهو أبلغ من قوله: ولا تزنوا، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة) أي: يضمن لي لسانه وفرجه، أضمن له الجنة.
ومن الدواعي إلى الزنا في هذه الأزمان: النظر إلى التلفزيون، والفيديو والأفلام، والمجلات التي عليها صور النساء العاريات، فهذه يجب أن تحرق؛ لأنها تهيج الكامن، وتساعد على نشر الرذيلة، والاتجار في مثل هذه المجلات التي عليها صور العرايا حرام؛ لأنه نشر للفساد والرذيلة في الأرض.
قال الله سبحانه وتعالى: (الزانية والزاني) أي: بهذه الصفة المخصوصة: الزاني الحر البكر العاقل.(32/17)
من المقصود بالخطاب في قوله: (فاجلدوا)
قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) صفة الجلد تداولتها كتب الفقه وتناولتها، والخطاب في قوله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) لمن؟ كثير من أهل العلم يقولون: إن الخطاب لإمام المسلمين، وقد ورد في الباب حديث: (تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني منها فقد وجب) فاستدل بهذا على أن الذي يقيم الحد هو الإمام.(32/18)
الأمة وحكمها الجلد بكراً أو ثيباً
ويستثنى أيضاً: الأمة بالنص، والعبد بالإلحاق، فقد جاء في كتاب الله عن الإماء قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ، فالأمة إذا زنت تجلد خمسين جلدة؛ لأن الرجم لا يتجزأ، ورأي الجمهور أن الأمة ثيباً كانت أو بكراً إن زنت تجلد خمسين جلدة، وخالف في ذلك فريق مخالفة مضحكة، كـ: ابن حزم الظاهري رحمه الله وعفى عنه فإنه قال: إن الأمة إذا لم تكن متزوجة وزنت تجلد مائة جلدة على ظاهر الآية {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وإن تزوجت وزنت جلدت خمسين جلدة لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] وهذا من عجيب القول وعجيب البرود الظاهري.(32/19)
الطفل والمكره
ويستثنى أيضاً: الأطفال؛ لأن الحد مرفوع عن الطفل حتى يبلغ.
ويستثنى أيضاً: المكره، وقد ورد أن أمير المؤمنين عمر بلغه أن امرأة من العابدات زنت فقال: (أراها قامت تصلي من الليل، فسجدت فهجم عليها فاسق من الفساق فزنا بها لما تنومت، فأتي بهذه المرأة فقالت كالذي قاله أمير المؤمنين عمر، فخلى عمر رضي الله عنه سبيلها) .
فهذه الصور ممن يستثنى من حد الزنا الذي هو مائة جلدة، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية (الزانية والزاني) ناسخة لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:15-16] فكان في أول الأمر حد الزنا بالنسبة للمرأة أن تحبس في البيت، ولا تخرج حتى تموت (أو يجعل الله لهن سبيلاً) فهذا هو السبيل كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ... ) الحديث.
فالسبيل هو نزول وتشريع حد الزنا.
ومن العلماء من قال: إن آية النساء كانت مؤقتة بمعنى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} والسبيل فسر في الحديث، فعمل بها لوقت وأمد محدد، وجاء نهاية الوقت بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.(32/20)
المجنون ويسقط عنه الحكم
واستثني من الآية أيضاً: المجانين، فإن عمر رضي الله عنه أتي إليه بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر بها كي ترجم, ورآها علي فقال: من هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان أمر بها عمر أن ترجم، فقال علي: على رسلكم، ثم ذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أما بلغك: (أن الحد رفع عن ثلاثة: منهم المجنون حتى يفيق) الحديث، فأقر له عمر بذلك، ولم ترجم المرأة المجنونة.(32/21)
المحصن وحكمه الرجم
ويستثنى من هذا النص: الرجال المحصنون والنساء المحصنات -أي: الذين سبق لهم الزواج- وأدلة ذلك كثيرة: الدليل الأول: آية الزنا التي نسخت لفظاً وبقيت حكماً وهي: (والشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة جزاءً بما كسبا نكالاً من الله) كانت هذه آية تتلى فنسخت تلاوتها وبقي حكمها.
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) .
الدليل الثالث: قول أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، وكان فيما أنزل: آية الرجم، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه، وإني خشيت أن يطول بالناس الأمد فيتركوا الرجم فيضلوا بترك سنة لنبيهم -أو بترك فرض من فروض الله سبحانه وتعالى- ولقد هممت أن أثبت آية الرجم في المصحف) ، لكنه رضي الله عنه لم يكن ليفعل شيئاً تركه النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع الناس على تركه، فحذر أمير المؤمنين عمر من التفريط في الرجم، وبين أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم.
الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً.
الدليل الخامس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم الغامدية التي جاءت وأصرت على أن ترجم، فقالت: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنها: قالت: يا رسول الله! لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله يا رسول الله! إني زنيت، وإن هذا الحبل الذي في بطني من الزنا، فشهدت على نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعني، فذهبت حتى وضعت، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: ها أنا قد وضعت يا رسول الله.
قال: اذهبي حتى تفطميه، فذهبت، وبعد أن فطمته جاءت به ومعه كسرة من الخبز، قالت: ها هو يا رسول الله قد فطم، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت، فطعن فيها بعض الصحابة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تابت توبة لو تابها أهل السماوات لوسعتهم) وفي رواية: (لو تابها صاحب مكس لوسعته) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فكل هذه أدلة على أن المحصن لا تعلق له بهذه الآية، إنما له حكم خاص.(32/22)
الحكمة من تصدير الآية بالزانية قبل الزاني
بُدئ بالزانية؛ لأنها هي التي تدعو إلى هذه الفاحشة بالدرجة الأولى بما تظهره من تبرج وخضوع بالقول وتمايل وتغنج، فتطمع الرجال فيها، كما قاله جمهور المفسرين، وفي المقابل صدرت آية السرقة بالسارق؛ لأن السرقة تحتاج إلى جسارة وقوة وشجاعة، وهذه الأمور في الرجل أكثر منها في المرأة، فالمرأة تخاف في مثل مسائل السرقة، لكنها في الزنا هي الداعية إليه بالدرجة الأولى في الغالب.(32/23)
تعريف الزنا
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الزنا: هو ولوج فرج في فرج لا يحل له، ونعني بالولوج: غياب ما يسمى بالمدورة من الرجل في فرج المرأة، سواء حدث إنزال أو لم يحدث، فبمجرد الولوج يجب الحد، وتترتب عليه سائر الأحكام المتعلقة به، أما المماسة الخارجية فلا توجب حداً، وللإمام أن يعزر فيها إذا بلغه الأمر.
وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) نص عام.(32/24)
ما يستثنى من قوله تعالى: (الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما)
{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] نص عام، ومن المعلوم أن لكل عموم استثناء، فما الذي استثني من نص {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ؟(32/25)
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ.)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] .(32/26)
حكم التعريض بالقذف
من عرض بالقذف كما تقدم بيانه مراراً الصحيح: أنه لا يحد؛ لأن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود -كأنه يعرض بنفي الولد عن نفسه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: وما الذي حذى به أن يكون أورقاً -أو كما قال- قال: لعله نزعه عرق، قال: ولعل ابنك هذا نزعه عرق) .
فأخذ بعض العلماء من هذا الحديث: أن التعريض بالقذف لا يعد قذفاً، ومنهم من قال: يعد قذفاً؛ لأن قوم مريم قالوا لمريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: أبوك ما كان رجل سوء وما كان أمك زانية، فعرضوا بأنها زنت، ولذلك حكى الله ذلك الافتراء في قوله: حكاية عنهم وقال في الآية الأخرى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] قالوا: بالنظر في الآيتين معاً الآية الأولى: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) ، والآية الثانية: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) نجد: أن قولهم (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) وصف بأنه بهتان عظيم، كذا قالوا وفي قولهم نظر، فإن الذين قالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) لا يستلزم أن يكونوا هم الذين قالوا على مريم بهتاناً عظيماً وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(32/27)
شروط المقذوف
أما شروط المقذوف أو المقذوفة: أولاً الإسلام، أن تكون المقذوفة أو المقذوف مسلماً، فمن رمى كافرة لا يقام عليه الحد.
وإذا رمى نصرانية هل يقام عليه الحد، أو لا يقام؟ هذا راجع إلى تفسير المحصنات، فمن فسر المحصنات هنا بالمسلمات قال: لا حد على من رمى النصرانية، ومن فسر المحصنات بالعفائف.
قال: يحد من رمى النصرانية، وإذا قيل له: هل من دليل في كتاب الله يدل على أن النصرانيات منهن محصنات؟ قال: نعم؛ ثم دليل ألا وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فهنا قال: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) فدل على أن من الذين أوتوا الكتاب محصنات، فمن شروط المقذوف: أن يكون مسلماً عند فريق من العلماء عفيفاً، فإذا قذفت امرأة زانية ثبت عليها الزنا وحدت، وقال لها شخص: يا زانية فما كذب، فلا يحد، لكن هل يعاقب عقوبة أخرى دون الحد؟ للإمام أن يتخذ معه ما يردعه إذا كانت قد تابت وأعلنت توبتها.
ومن شروط المقذوف عند بعض العلماء: أن يكون بالغاً، فلو رمى رجل طفلة صغيرة لا توطأ بالزنا: فهل يحد، أو لا يحد؟ من أهل العلم من قال: لا يحد؛ لأنها طفلة، ومنهم من قال: إذا كانت هذه الطفلة تشتهى أو يشتهى مثلها حُد من رماها.
ومنها: ألا تكون قد جلدت من قبل.(32/28)
شروط صيغة القذف
وأما شروط صيغة القذف: فهو أن يقال لها: إن فلانة زنت، أو إن فلانة فُعل بها كذا وكذا مما ذكر من فعل قوم لوط، فهذه شروط القاذف والمقذوف والمقذوف به.(32/29)
ما المراد بالمحصنات؟
هل المراد بالمحصنات: النساء المحصنات، أو المراد بالمحصنات: الأنفس المحصنات؟ على التأويل الثاني: يدخل في الأنفس المحصنات: الرجال الذين أحصنوا، فإذا رمى رجل رجلاً قد أحصن يقام عليه الحد كذلك، وهذا رأي الجماهير من العلماء.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} المراد بالرمي هنا: الرمي بالزنا، فيقال: فلانة قد زنت، أو فلان قد زنى، ويراد بالرمي أيضاً: ما هو في معنى الزنا، كأن يقال: فلانة قد ليط بها، أو فلان قد ليط به، فالحكم واحد عند كثير من أهل العلم.
وهذه الآية -آية القذف- ترك العمل بها في بلاد المسلمين، وضيع العمل بها كما ضيع العمل بغيرها من آيات الحدود -عياذاً بالله- واستبدل العمل بها بقوانين وضعية أتت من دول الكفر ما نزلت على نبي من النبيين، ولا نزلت في دين من الأديان، أحكام يُعمل بها في المحاكم لم تأت بها ديانة من عند الله، لا مسلمة ولا ديانة يهودية ولا ديانة نصرانية ولا أي دين نزل من عند الله، إنما هي بقايا مخلفات العقل اليوناني والعقل الروماني يُعمل بها في المحاكم المصرية، قوانين قذرة قبيحة من أوساخ الرومانيين وزبالات الرومانيين يعمل بها في المحاكم ويقضى بها على عباد الله.
فآية القذف تُرك العمل بها مع أنها آية محكمة، وأصبحت ترى في الطريق شخصاً يقول للآخر يابن فلانة، ويصف أمه بالزنا، والثاني يضحك ولا تهتز له شعرة، مع أن عقوبة من يقول هذه الكلمة الجلد كما سيأتي.
قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: الأنفس المحصنات، ويدخل فيها النساء المحصنات.(32/30)
معاني الإحصان
الإحصان يطلق على معان: فالمحصنة هي: العفيفة قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] أي: عفت فرجها عن الحرام.
والمحصنة هي: الحرة، فالإحصان يطلق على الحرية، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ، والإحصان يطلق على الإسلام، والإحصان يطلق على التبيين، وأصل الإحصان: من المنع، وهو مأخوذ من الحصن، فالزواج فيحصن المرأة عن الزنا، أي: كأنها دخلت في حصن إذا تزوجت، وهذا الحصن يفترض أنه يمنعها من الزنا ويمنع الزاني من الوصول إليها كالتي تحصنت بحصن، والتي أسلمت تحصنت بحصن أيضاً فيفترض أن الإسلام يمنعها من الزنا وتتحصن به، فخوفها من الله ومن لقائه ومن البعث يمنعها من الزنا، وكذلك الحرية تمنع النساء من الزنا، وكذلك العفة: فالمرأة العفيفة عفافها كالحصن لها يمنعها من الزنا كذلك.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد بهن هنا: المسلمات العفائف.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، (الْمُحْصَنَاتِ) أي: المسلمات العفائف الحرائر وإن كان في الحرائر بعض النزاع.
ما حكم الذين يرمون المحصنات؟ وهل كل من رمى امرأة يقام عليه حد القذف؟
الجواب
ليس كل من رمى امرأة يقام عليه حد القذف، فهناك شروط في القاذف وشروط في المقذوف، وشروط في صيغة القذف.(32/31)
شروط القاذف
فمن شروط القاذف: أن يكون بالغاً، فإذا جاء طفل ورمى امرأة بالزنا فلا نقول: إن الطفل يجلد؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم رفع عن ثلاث.
-وذكر منهم- وعن الطفل حتى يحتلم) .
الشرط الثاني: أن يكون الرامي عاقلاً، فلو أتى رجل مجنون ويقول لفلان: يا زاني، أو لفلانة: يا زانية، فلا يقام عليه حد القذف.(32/32)
تفسير سورة النور [5-11]
إن رمي المحصنات جرم عظيم رتب الشرع عليه ثلاث عقوبات، وهي: الجلد، ورد الشهادة، والوصف بالفسق.
وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتهمت عائشة رضي الله عنها، فأنزل الله آيات في براءتها تتلى إلى قيام الساعة.(33/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات.)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، والذين قالوا هذا لا يستلزم أن يكونوا هم الذين قالوا على مريم بهتاناً عظيماً، فإن الذين قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} هم قومها، لقول الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا} [مريم:27] أي: قال قومها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] ، أي: يا من تتشبهين بهارون في العبادة! ويا أخت هارون الصالح! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، فالقائلون قومها.
أما الذين حكى الله مقالتهم بقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] فهم اليهود؛ لأن سياق الآيات فيه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء:156-157] ، والقائلون أنهم قتلوه هم اليهود، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] .
الآيات.
فهذه أوجه الاعتراضات على من قال: إن التعريض بالقذف يعد قذفاً، فاستدل هؤلاء القائلون بأنه يعد قذفاً لقول قوم شعيب لشعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون: إنك لأنت السفيه الضال، ويقال لـ أبي جهل يوم القيامة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] ، وهو ليس بعزيز ولا كريم، إنما قيل له تبكيتاً له، أو الذي كان يدعي أنه العزيز الكريم.
واستُدِلَ لذلك أيضاً: بأن عمر أقام الحد -وهذا ينظر في إسناده- على الحطيئة الذي قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فظاهره المدح لكنه ذم أي: اقعد فإنك أنت المطعم المكسو كالنساء.
أي: فإنك امرأة تجلس في البيت تطعم وتكسى.
فالتعريض بالقذف الظاهر أنه لا يعد قذفاً.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] .
ورد في رمي المحصنات حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منهن: وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) .
ورد في قذف المحصنات أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23-25] .
فهذه جملة من النصوص في التحذير من رمي المرأة بالزنا فهو كبيرة من الكبائر، وهذا من محاسن ديننا الذي يحفظ أعراض النساء، بخلاف ما يتهم به الإسلام من قبل أعداء الله من الكفار والمنافقين بأنه ضيّع حق المرأة.
كلا.
ما ضيع الإسلام حق المرأة أبداً، فهذه الآية من أكبر الردود عليهم، فقد حذر الله الذين يرمون المحصنات أشد التحذير.
ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال مكرّماً المرأة حين قال له قائل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) فعقب بالأب في الرابعة.
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وفرق عليه الصلاة والسلام بين أصابعه، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بامرأة أتت عائشة تسألها صدقة، فتصدقت عليها عائشة بتمرة فقسمتها بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة) .
فديننا ليس فيه هضم للمرأة أبداً، بل نقم الله على الكفار الذين حكى الله مقالتهم بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59] .(33/2)
حكم من قذف المحصنات المؤمنات
قال رب العزة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، فما حكمهم؟ قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] أي رجل يتهم امرأة بالزنا اجلدوه ثمانين جلدة، {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، ثلاث عقوبات خطيرة: أولها: أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أن تسقط شهادته في الناس.
الثالث: أنه فاسق: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
فالذي يقول عن امرأة أنها زنت هذه عاقبته، فالكلمة التي يستسهلها الناس على ألسنتهم قد يجلد أحدهم بسببها ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويوصف بأنه فاسق إلا إذا جاء بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوها تزني، ورأوا ذلك كالميل في المكحلة، فإذا شهدوا بذلك الأربعة رفع عنه الحد وأقيم عليها وعلى الزاني بها الحد.
فإذا جاء رجل باثنين يشهدون معه أقيم على الثلاثة الحد، وإذا جاءنا شخص وقال: رأيت في الطريق فلاناً يزني بفلانة، فإنه يجلد ثمانين جلدة حتى وإن أقسم مليون يمين، وإضافة إلى ذلك تسقط شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وهذه الحادثة قد حصلت لبعض الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم: أبو بكرة الصحابي المشهور شهد هو وثلاثة من الصحابة على المغيرة بن شعبة أنه زنا وأن ستراً كان يستره مع المرأة فجاءت رياح وأزالت الستر، فجاء الشهود الثلاثة وتلكأ واحدٌ منهم ولم يدلِ بالشهادة الصريحة، فجلدوا الأربعة أو الثلاثة.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] .
تقدم الكلام على صدر هذه الآية الكريمة بما حاصله: أن الذي يرمي امرأة بجريمة الزنا يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويعد من الفاسقين، فهي ثلاث عقوبات متوالية، الواحدة منها تكفي للحكم بأن هذا الفعل كبيرة من الكبائر.
فمثلاً: الجلد بمقدار ثمانين جلدة إذا أقيم على شخص فمعناه أنه ارتكب كبيرة، ورد شهادة الشخص في الناس تفيد أنه ارتكب كبيرة، وإطلاق الفسق عليه يفيد أنه مرتكبٌ لكبيرة، فاجتمعت ثلاث عقوبات، فدل ذلك على قبح هذا الذنب وكبر هذا الجرم.
وقوله: (المحصنات) من أهل العلم من قال: إن المراد بها: الأنفس المحصنة، فيدخل في ذلك الرجال والنساء، فلو قال رجل عن رجل: إنه زنى، فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وختام الآية الكريمة فيه إشارة إلى أن هناك فسق دون فسق.
فالآية وسبب نزولها -كما سيأتي إن شاء الله- في المؤمنين، فعلى ذلك: قد يكون هناك مسلم فاسق.
فقوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) منصب على المسلمين أو على الكفار، ويفيد أن هناك فسقاً غير كفر، وكما تقدم فإن قاعدة أهل السنة والجماعة: أن الفسق فسقان: فسق بمعنى الكفر، وفسق دون ذلك، قال سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ، فالفسق هنا كفر، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، فدل على أنه كفر؛ لأن الخلود في النار لا يكون إلا للكفار.
أما الدليل على أن هناك فسقاً ليس بكفر فمنه: هذه الآية، ومنه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] .
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) ، فدل ذلك على أن هناك فسقاً دون فسق.(33/3)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك.)
قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور:5] .(33/4)
الإصلاح بعد التوبة
قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] ، فضم إلى التوبة الإصلاح، وهذا إذا كان الذنب يتعلق بالعباد فينبغي أن ترد المظلمة إلى العباد، ولا يكفي فيه أن تقول: (أستغفر الله) ، في نفسك، فإذا قال شخص: إن فلانة من الناس قد زنت -عياذاً بالله من ذلك- وهو يكذب عليها بقولته هذه، فإنه لا يكفيه أن يقول: أستغفر الله، بل عليه أن يظهر براءتها من التهمة التي نسبت إليها.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] ، ونحو ذلك: قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة:39] ، أي: تاب من ظلمه للعباد وأصلح {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] ، ونحوه: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160] .
ما هي صورة الإصلاح في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} ؟ من العلماء من قال: إن الإصلاح يستلزم أن يكذب الرجل الرامي نفسه.
ويقول: هي ما زنت، وأنا كذبت عليها، وقد اشترط ذلك بعض العلماء، وقال آخرون: يكفي أن يسير بسيرة حسنة في الناس.
ولقد ورد في عدة تراجم لـ أبي بكرة رضي الله عنه أنه رمى مع ثلاثة من الشهود -كما أسلفنا- المغيرة بن شعبة بالزنا، فتعثرت إقامة الشهادة فجلدوا ثمانين جلدة وردت شهادتهم، أما ثلاثة منهم فكذبوا أنفسهم بعد ذلك، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه إلا أن يصر على موقفه الذي رآه، وورد بأسانيد ينظر فيها أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يطلب منه أن يكذب نفسه حتى تقبل شهادته ولكنه كان يصر على ما رأى وقال والله تعالى أعلم.(33/5)
باب التوبة مفتوح لكل أحد
تقدم أن أكثر الكبائر إذا ذكرت في كتاب الله وذكرت العقوبات الخاصة بها فإنه بعد ذلك يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] فيفتح الباب لمن أراد أن يتوب حتى لا يقنط أحدٌ أبداً من رحمة الله.
قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59-60] ، ففتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب.
وقال الله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33-34] ، ففتح لقطاع الطريق باب التوبة ولم يغلق عليهم.
وقال الله سبحانه في أكبر قوم وأعظم قوم أجرموا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] أحرقوهم بالنار، وخدوا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وجلسوا ينظرون ويتفرجون عليهم وهم يعذبون في النار، كما قال تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:5-7] ، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] .
فكما قال العلماء: إنهم لو تابوا مع أنهم حرقوا عباد الله بدون ذنب لقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم، وقال سبحانه أيضاً في هذا الباب: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4-5] ، ثم فتح لهم باب التوبة بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ} [الحجرات:5] ، أي: غفور لمن استغفر، إذا تقرر هذا فلا ينبغي أن يقنِّط أحد أحداً من رحمة الله أبداً، ولا يغلق أحد باب التوبة في وجه أحد أبداً، فباب التوبة باب مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها.
(وقال الشيطان: وعزتك يا رب! لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال سبحانه: وعزتي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني) ، فلينتبه لذلك.(33/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.)
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] هذه الآية أو ما بعدها من العلماء من اعتبرها من الآيات التي بها يرتفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ووجه ذلك: أن الرجل يرى من امرأته ما لا يرى منها غيره، ويدخل عليها بدون إذن لا كغيره الذي يحتاج إلى إذن، فقد يدخل فيرى امرأته على حال تكره -أي: يرى معها رجلاً- فإذا ذهب يأتي بالشهود قضى الرجل حاجته وانصرف، وإن سكت سكت على غيظه، وإن قتله قتل به، فجاءت آيات ترفع الحرج عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام في شأن الزوج مع زوجته، وهذه أيضاً إحدى الاستثناءات من الآية العامة التي تقدمت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، فقد استثني منها: الزوج مع زوجته.
ولكن إذا رمت المرأة زوجها بالزنا، فالراجح أنها لا تلاعنه، إذ من أسباب الملاعنة: نفي الولد، وهذا شيء لا يتعلق بالمرأة بل تأتي بالشهود أو يقام عليها الحد.
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] أي: يقذفون نساءهم بالزنا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] .(33/7)
حكم شهادة النساء في الحدود
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] .
هل يجزئ في شهادات الحدود ثمانية نساء مكان الأربعة رجال؟ الجمهور من العلماء قالوا: إن ثمانية نساء لا يقمن مقام أربعة رجال في الحدود، وإن قامت المرأتان مقام الرجل في شهادات الأموال، فقيل لهم: لماذا هذا التقرير والتقعيد؟ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تدرأ الحدود بالشبهات، وقد قال سبحانه في شأن النساء: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] ، فلما كان هناك وجه ضلال من المرأة -أي: ذهاب عن الصواب- كان هذا شبهة لدفع الحد، فمن ثمّ قرر الجمهور من العلماء أن شهادات النساء في الحدود غير مقبولة على الإطلاق، ومن أهل العلم -كـ عطاء بن أبي رباح تلميذ عبد الله بن عباس - يرى إمضاء شهادات النساء في كل شيء: في الأنكحة، والطلاق، والحدود، والأموال.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] تقدم أن الرمي بأحد شيئين: إما أن يرميها بالزنا، أو يرميها باللواط، أو يصرح صراحة بنفي الولد، فهذا يقوم مقام الرمي، أما إذا عرض بنفي الولد فالتعريض على ما تقدم لا يقوم به حد القذف؛ لحديث الأعرابي الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (إن امرأتي وضعت غلاماً أسوداً يا رسول الله) الحديث.
قال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] ، وقد تقدم التفصيل في تفسير اللعن بما حاصله: أن اللعن هو: الطرد من رحمة الله، وليس معنى ذلك أن المقسم كذباً والملاعن كاذباً يخلد في النار، فمن أصول أهل السنة والجماعة أنه مرتكب لكبيرة، والكبيرة قد يغفرها الله له، فقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين بعد أن ذكر البيعة على عدم الشرك والزنا.
إلى آخر الأمور التي ذكرها: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت:21] ، فكل هذه الأصول تفيد أنه قد يغفر الله سبحانه وتعالى لهذا الشخص، وإن لم يغفر له فيجري عليه ما يجري على أهل التوحيد، من أنه يعذب إذا لم يغفر له لذنبه الذي ارتكب وبعد ذلك يكون مآله إلى الجنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله.
الحديث) .(33/8)
الفرق بين الشهادة واليمين
من العلماء من قال: الملاعنة شهادة؛ لأن الله سماها شهادة، فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] ، ومن العلماء من قال: إنها يمين وهم الأكثر.
وهناك فرق بين الشهادة واليمين، فالشهادة تتطلب العدالة، أما اليمين فلا تتطلب العدالة، فإن اليمين قد تطلب من يهودي كافر.
قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري في حديث القسامة المشهور: (أترضون بأيمان خمسين من يهود؟ قالوا: إنهم يهود يا رسول الله.
فقال: مالكم إلا ذلك) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام، أما الشهادة فتستلزم العدالة؛ لأن الله يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فإن قال قائل: قد سماها الله شهادة لقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] ، فالإجابة: أن الشهادة تطلق على اليمين في بعض الأحيان.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] والآية مصدرة (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106-108] .
فأطلق على الشهادة يميناً، ثم إن قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] ، يفيد أن اليمين يكون بالله.
أما أقوى وجه لترجيح أن المراد بالشهادة اليمين فهو سبب النزول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقسم أربعة أيمان بالله، فدل ذلك على أن المراد بالشهادة اليمين وليس المراد بها الشهادة التي هي كالشهادات على الطلاق ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] ، الآية استلزمت خمسة شهود هنا، فالشهادات تختلف من شيء إلى شيء آخر والشهود كذلك، فمثلاً: الشهود على الأموال يتطلب شاهدين أو شاهداً ويمينه، أو رجلاً وامرأتين.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ، إلى أن قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، في شهادات الأموال إما رجلان أو رجل وامرأتان، والجمهور إذا لم يكن هناك إلا رجلاً واحد فتكفي معه يمينه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين.
شهادات الإرضاع: من العلماء من قال: يكفي فيها واحد لما أخرجه البخاري وفيه: (أن امرأة سوداء جاءت إلى رجل وقالت: إني أرضعتكما -أي: هو وزوجته- فقال النبي: كيف وقد قيل!) وفي الحدود لا بد أن يكون فيها أربعة شهود.(33/9)
سبب نزول قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم.)
للآية سببان للنزول والمعنى المستخلص منهما واحد.
السبب الأول: ما ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! -وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تلا هذه الآية في مجلس فيه مهاجرون وأنصار- لو وجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله -يا رسول الله- لا آتي بأربعة شهداء إلا ويكون قد قضى حاجته منها ثم انصرف) .
وفي الرواية الأخرى: (قال سعد: يا رسول الله! لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح -يعني: ليس بعرض السيف إنما بحد السيف- فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: انظروا ماذا يقول سيدكم! -أي: سعد بن عبادة فهو سيد الخزرج- فقالوا: لا تؤاخذه يا رسول الله، إنه رجل شديد الغيرة على النساء، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً -أي: لا يرضى أن يتزوج امرأة قد تزوجها رجل قبله- وما طلق امرأة قط وتزوجها أحد منا من شدة غيرته) ، فحاصل كلام سعد رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما رددت أمر الله قط، ولكني نظرت إذا رجعت إلى بيتي فوجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه وأذهب ألتمس الشهود؟ فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، فبينما هم على هذه الحال إذ جاء رجل من الأنصار مشهود له بالصدق والخير، شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وتخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل الناس عليه يلتمسون المعاذير لتخلفهم دخل هو وقال: (تخلفت بلا عذر يا رسول الله) فمنع الناس من الكلام معه ومع صاحبيه مرارة بن الربيع وكعب بن مالك إلى أن نزل فيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] .
الشاهد: أن هذا الرجل كان من المشهود لهم بالصدق والخير، وهو هلال بن أمية حيث دخل المجلس، فقال: (يا رسول الله! إني كنت في عملي فرجعت من عملي فرأيت رجلاً مع امرأتي، فرأيت بعيني -يا رسول الله- وسمعت بأذني -أي: رأى الفاحشة الكبرى- فلم أهيجه ولم أحركه فجئت إليك تقضي بما أراك الله.
فقال الأنصار: ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، ابتلينا بما قال سعد بن عبادة.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هات البينة -أي: الشهود-، قال: ليس عندي بينة يا رسول الله.
قال: البينة أو حد في ظهرك) .
فحاصل كلامه: أنني لو كنت في الجاهلية ورأيت هذا المنظر لقتلتهما معاً ولكني صبرت ونقلت إليك الخبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيب إذ هو مطبق لأمر الله لا يزيد على قول: البينة أو حد في ظهرك.
هلال من ثقته بالله ومعرفته بالله يقسم بالله أن الله سيبرئ ظهره، والأنصار رأوا هلال بن أمية وقد أخذ كي يجلد، فبكوا من أجله، فقالوا: الآن يجلد هلال بن أمية ثمانين جلدة وتسقط شهادته في الناس ويعد من الفاسقين.
وهلال ثابت واثق بربه يقسم أن الله سيبرئه، فأخذ هلال كي يجلد فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] وهذه القصة وقعت لـ عويمر العجلاني، فقد جاء وقال: (يا عاصم! سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً، إن سكت سكت على غيظ! وإن تكلم حددتموه -أي: أقمتم عليه الحد- وإن قتله قتلتموه! سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك، فذهب عاصم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فذهب عويمر إلى عاصم: فقال ماذا صنعت يا عاصم؟ قال: ما جئتني بخير، لقد كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فقال: والله يا عاصم لا أبرح حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب وسأله فنزلت الآيات) .
ونرجع إلى قصة هلال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات قال: (أبشر يا هلال! فقد أنزل الله ما يبرئ به ظهرك، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالمرأة.
فجيء بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟ فكلاهما أنكر، فبدأ بالرجل فقال له: أقسم أربعة أيمان بالله إنك من الصادقين، فأقسم أربعة أيمان بالله أنه من الصادقين، واستوقفوه عند الخامسة وقالوا له: يا هلال! ويحك عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فأقسم هلال أربعة أيمان بالله أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فاتجهوا إلى المرأة بعد ذلك وقالوا: أقسمي أربعة أيمان أنه لمن الكاذبين، فأقسمت أربعة أيمان بالله إنه من الكاذبين، فقبل الخامسة استوقفوها وقالوا لها: اتقي الله، هذه هي الموجبة التي توجب عليك غضب الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فوضع يده على فيها حتى لا تسرع باليمين، فتلكأت ساعة وترددت هل تفضح قومها أم أن تقبل العذاب؟ ثم أقسمت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) فيعلم من القرائن أنها فعلت لكن ليس لرسول الله عليه الصلاة والسلام -مع أنه يعلم صدق صاحبه هلال، ومع أن قرينة الحال يدل على أنها زنت- أن يتقدم بين يدي ربه، بل يمضي أحكام الله كما أمره، فبعد الخامسة فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وهذا التفريق -تفريق الملاعنة- تفريق أبدي لا رجعة بعده أبداً عند جماهير المسلمين؛ لأنه لا يجتمع ملعون مع بريئة، ولا تجتمع مغضوب عليها مع بريء، فالتفريق بينهما أبدي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرقوا بينهما، وإن جاءت به خدلج الساقين نحيفاً سميناً -وكان هلال قد رماها برجل يقال له: شريك بن سحماء - فلا أراه إلا قد صدق عليها وقد كذبت، وإن جاءت به نحيفاً أو رفيع الساقين فلا أرى إلا أن هلالاً قد كذب وقد صدقت) وهذا مجرد رؤيا فقط، فجاءت به على نعت شريك بن سحماء، كما أن الغراب يشبه الغراب بالضبط، فقال عليه الصلاة والسلام -في بعض الروايات: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) فألحق الولد بالمرأة.
وآيات الملاعنة لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وفي هذا الموطن الكريم، إلا أن هناك آية المباهلة ولكنها ليست بين الزوجين فقط، بل على العموم، وهي في سورة آل عمران.(33/10)
تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب.)
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:8] أي: يدفع عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات {إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:8-9] .
فإن قال قائل: لماذا خص الرجل باللعنة في قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] ؟ وخصت المرأة بالغضب في قوله تعالى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ؟ من العلماء من قال: لأن المرأة متأكدة من نفسها أكثر من تأكد الرجل منها، فإنها إن أقسمت ستقسم على علم أدق، فإذا أقسمت على يمين كاذبة تكون قد حادت عن الحق على علم، كاليهود الذين حادوا عن الحق على علم.
فغضب الله عليهم، وهي كذلك تكون قد حادت عن الحق على علم فيغضب الله عليها كما غضب على اليهود، والله تعالى أعلم.(33/11)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته.)
يقول الله سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10] .
هنا مقدر محذوف، فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم ولحل بكم العنت، ولكن من فضل الله عليكم ومن رحمته عليكم ومن رحمته بكم أن أنزل آيات الملاعنة التي ذكرت حتى ترفع هذه الآيات الحرج عن الأزواج الذين يجدون رجالاً مع نسائهم ولا يمكنهم الإتيان بالشهود، فيقع في صدورهم الضيق، فلرفع الضيق والحرج نزلت آيات الملاعنة، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} [النور:10] على من تاب، فالله حكيم في تشريعه سبحانه وتعالى.(33/12)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك.)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] .
آيات الملاعنة كانت توطئة لحادث اشتهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهز المسلمين كافة، وهز بيت النبوة الطاهرة، بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع الوحي في أثناء الخوض فيه شهراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينزل عليه هذه الآيات أو هذا الحادث هو حادث الإفك.(33/13)
حادثة الإفك
نسوق حديث الإفك بنوع تصرف واختصار.
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، والمسانيد ما حاصله: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه -أي: أسهم بين نسائه- فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأسهم بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوته وقفل راجعاً فقدت عقداً لي من جزع ظفار قد انقطع.
قالت: فحبسني ابتغاؤه) .
الحديث باختصار: أن أم المؤمنين عائشة رجعت مع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فنزلوا مكاناً ونزلت معهم أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحملوا الهودج الذي كانت فيه أم المؤمنين عائشة وظنوا أن عائشة فيه؛ لأن النساء كن خفافاً لم يثقلهن اللحم، فظن الصحابة أن عائشة رضي الله تعالى عنها في الهودج، فحملوا الهودج على الجمال وانطلقوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل رجلاً من أصحابه يقال له: صفوان بن المعطل السلمي خلف الجيش لالتقاط الساقطة ولرد الضالة والشاردة، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يظنون أن عائشة معهم، فجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت تلتمس العقد الذي ضاع منها فلم تجد بالأرض داع ولا مجيب، فجلست في مكانها، فغلبتها عيناها فنامت وليس بالمكان أحد لعلهم يفتقدونها فيرجعون إلى هذا المكان فيأخذونها منه.
فجاء صفوان بن المعطل السلمي رضي الله تعالى عنه، فوجد إنساناً نائماً فرأى عائشة فعرفها، وكان يعرفها قبل نزول الحجاب، قالت: (فلما رآني صفوان خمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني صفوان بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه) ، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فوطأ لها الراحلة -أي: برك لها الناقة- فركبت رضي الله عنها، وطفق صفوان يسحب الناقة إلى المدينة، فلما رآها بعض أهل السوء طعنوا فيها هذا الطعن، حيث بلغوا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة بذلك فقال مقالته الخبيثة التي لا تصدر إلا من خبيث: والله ما نجت منه ولا نجا منها.
وطفق أهل النفاق يتحدثون في هذا الحدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله سبحانه وتعالى أن تأتي عائشة إلى المدينة فتمرض، فمكثت في بيتها مريضة لا تعلم شيئاً عن الحادث وعن الكلام الذي يتحدث به، فنامت مريضة والنبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الأخبار أن عائشة فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل السلمي، واستمرت الوشايات شهراً كاملاً، ومما زاد الموقف تأزماً أن الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشهر، فاتخذ أهل النفاق من ذلك ذريعة لتعزيز مقالتهم، فقالوا: ولأن البيت شابته الشوائب فقد امتنع الوحي عنه، ولما كثر كلام أهل النفاق انضم إليهم أيضاً بعض المسلمين وطفقوا يطعنون في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فانضم إليهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة ويتهمها هذا الاتهام، ودخلت في باب الطعن في أم المؤمنين حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وطفق بعض الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنون في عائشة، فقام منهم مسطح بن أثاثة وكان رجلاً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة، فآذى هذا الوضع النبي صلى الله عليه وسلم غاية الأذى وآلمه غاية الألم، حتى استشار أقاربه ومن يحبهم في شأن عائشة، فاستشار علياً رضي الله عنه، فقال علي: (يا رسول الله! إن الله عز وجل لم يضيق عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية التي تلازمها في البيت -وهي بريرة - تصدقك) .
ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أسامة: (أهلك -يا رسول الله- وما علمت عليهم إلا خيراً) فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم: بريرة، فقال: (يا بريرة! هل رأيت من عائشة شيئاً يريبك؟ قالت: ما رأيت منها إلا خيراً يا رسول الله، إلا أنها جارية حديثة تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) أي: أن عائشة تغفل عن العجين فتأتي الشاة فتأكل هذا العجين.
فاشتد الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخطب على المنبر ويقول: (من يعذرني من رجل بلغني آذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه-سيد الأوس-: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان منا قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة -وكان رجلاً صالحاً كما وصفته أم المؤمنين عائشة، ولكن احتملته حمية الجاهلية- وقال: والله لا تقتله ولا تقدر على قتله.
فقام أسيد بن حضير وقال لـ سعد بن عبادة: والله لنقتلنه، إنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان واشتدت الأزمة حتى كادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، فاشتد حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبدأ يخفضهم ويسكنهم، ثم رجع إلى أم المؤمنين عائشة، وعائشة تقول: ولا أشعر بالشر ولا أدري ماذا يحدث في الناس إلا أنه يريبني من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لا أجد منه اللطف الذي كنت أجده حين أمرض، إنما يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ فيسلم ويقول: كيف تيكم؟ فذاك الذي يريبني، وتقول: مر عليّ شهر كامل وأنا مريضة، ثم خرجت يوماً مع أم مسطح قبل المناصع نتبرز فعثرت أم مسطح في مرطها، فلما كان ذلك قالت أم مسطح: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: فقلت لها: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فقلت لها: والنبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك القول؟ قالت: نعم، قلت لها: وأبو بكر علم هذا القول؟ قالت: نعم.
قلت: وأمي علمت هذا القول؟ قالت: نعم.
قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وبقيت ثلاثة أيام لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! ائذن لي أن آتي أبواي.
فأذن لي، فذهبت إليهما، فأخبراني بالذي قال أهل الإفك، أما أمي فقالت: يا بنيه! هوني عليك إنه لم تكن امرأة قط وضيئة عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها -أمها تعزيها بهذا العزاء- فبينما هم على ذلك وهي مع أبيها وأمها ومع امرأة من الأنصار تزورهم، إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس وتشهد ثم قال: يا عائشة! إني مخبرك بأمر إن كنت منه بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إن تاب تاب الله عليه، ثم أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، قالت: فانقطع دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت: يا أبي! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أمي: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت: والله لقد رميتموني بأمر والله يعلم أني منه بريئة، وإن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت لكم: إني فعلت هذا الأمر صدقتموني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، ثم انخرطت في البكاء وأبوها يبكي معها وأمها تبكي معها والأنصارية تبكي معهم، فكما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] .
فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ثم سري عنه فقال: أبشري -يا عائشة - فقد أنزل الله براءتك! ثم تلا هذه الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُم ... ) .
الآيات.
فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقلت لها: والله لا أقوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمده، إنما أحمد الله الذي أنزل براءتي، ونزلت آيات الإفك عشر آيات) والغرض منها ليس فقط إظهار براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإن كان هذا وارد فالله يدافع عن الذين آمنوا، فكما قالت أم المؤمنين عائشة: (والله ما كنت أظن يوماً أن الله سينزل في شأني وحياً يتلى، وغاية ما كنت أريد أن يري الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام رؤيا في نومه يبرئ الله بها ساحتي) ، ولكن الله كريم يبرئ المظلومين في الدنيا والآخرة.
فقد برأ الله سبحانه وتعالى مريم مما وصفت به بأن أنطق عيسى عليه الصلاة والسلام في المهد، وبرأ الله عز وجل موسى مما وصف به فطار الحجر بثوبه، وبرأ يوسف صلى الله عليه وسلم مما رمي به، فشهد الشاهد من أهلها ليوسف صلى الله عليه وسلم، وبرأ الله تلك الجارية التي كانت تخدم عند قوم، وكانت قد انتقلت إلى الإسلام وجالست عائشة فكانت تكثر من قولها: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني قالت عائشة: (ما هذا البيت الذي(33/14)
ما يستفاد من حادثة الإفك
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11] (والإفك) : معناه: الكذب، ويطلق الإفك على الصرف، قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] ، أي: يصرف عنه من صرف، وقال تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس:34] أي: تصرفون وتبعدون.
و (الإفك) يطلق على الكذب، والأفّاك: الكذاب.
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11] أي: بهذا الكذب والافتراء على أم المؤمنين عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] (عصبة) : أي: مجموعة.
{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] في قوله تعالى: (منكم) دليل على أن الافتراء قد يصدر من شخص يقول: "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فها هي أم المؤمنين عائشة قد افتري عليها من قوم يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" من قوم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، بل من قوم منهم من شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى ذلك: لا ينبغي أن نزكي أنفسنا هذه التزكية، فإذا حصل خلاف بين أحد الإخوة وأحد العامة فإننا نخطئ العامي مباشرة، وهذا لا يصح بل يجب أن تقف مع الحق وتتحراه.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] ممن يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" بألسنتهم.
{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} فإن تكلم ثلاثة أو مجموعة بكلام يطعنون بهذا الكلام في عرض شخص، وإن كانوا جماعة فلا يقبل قولهم إلا بالقرائن والبينات الواضحات.
{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] لا تظنون أن هذا الذي حدث من التهم الباطلة والافتراءات الكاذبة، {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] ووجه الخيرية في هذه الحادثة: تعليم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تعمل إذا اتهم شخص منها ويكمن في تأدب أمة محمد بهذه الآداب عند اتهام شخص منها، ويكمن في الدفاع عن أعراض المؤمنين، فأعراض المؤمنين لها حرمة لا تنتهك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فللمسلم حرمة، واللسان يجب أن يضبط، وليس كل ما يقال ينقل.
قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فكم من أمر ظاهره الشر وهو يحمل لك -يا عبد الله- كل الخير، والله يعلم وأنت لا تعلم.
قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] ، وقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] ، فلقصر نظرك تقيس الأمور بمقياسك الخاطئ أو القاصر، أما رب العزة سبحانه وتعالى فيعلم وأنت لا تعلم، ألم تعلم أن موسى استنكر على الخضر قتل الغلام وكان في ذلك الخير؟!! واستنكر عليه خرق السفينة وكان في خرقها خير؟! واستنكر عليه بناء الجدار وكان في بنائه خير؟ وقد قال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور الذي نقر بمنقاره من البحر، فالله يعلم وأنت لا تعلم.
وقوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] أي: جزاء ما اكتسب من الإثم وعقوبة ما اكتسب من الإثم، فقد أقيم على البعض حد في الدنيا، فذكر عدد من العلماء أن حسان رضي الله عنه وحمنة ومسطح أقيم عليهم الحد، وبرأ حسان ساحة عائشة رضي الله عنها بقوله: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل تصبح غرثى.
أي: جائعة؛ لأنها لم تغتب الناس ولم تأكل لحوم الناس الميتة.
ومن العلماء من قال -وقد وردت بذلك رواية وينظر فيها- أن صفوان بن المعطل لما بلغه ذلك وأنه اتهم هذه التهمة قال: (والله ما كشفت كنف أنثى قط) ، وذهب إلى حسان فعلاه بالسيف على رأسه فشجه وقال: تلقَّ ذباب السيف عني فإنني غلام إذا ما هجيت لست بشاعر وكبر حسان وعمي فكانت عائشة رضي الله عنها تثني عليه، فقال لها عروة: يا أم المؤمنين! أليس قد قال ما قال وخاض مع من خاض في حديث الإفك؟ قالت: (يا ابن أختي! إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فلم يمنعها قول حسان من أن تثني على حسان بالذي تعلم فيه من الخير.
وهكذا ينبغي أن يكون المسلم والمسلمة أهل إنصاف، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] وقال لها عروة: أليس قد قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] ، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] .
قالت: يا ابن أختي! أليس قد عمي، تعني: أن من العذاب العمى الذي أصيب به رضي الله عنها، قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] أي: جزاء وعقوبة ما اكتسب من الإثم {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] ، أي: الزعيم الأكبر الذي تولى نشر هذا الإفك والكذب واستوشاه وكان يجمعه ويبثه في الناس يسمع من هذا ويسمع من هذا، ويلفق الأكاذيب وينشرها، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] وهو عبد الله بن أبي بن سلول له عذاب عظيم فكل بحسبه.
ثم قال تعالى معلماً إيانا ماذا نصنع إذا اتهم أحد إخواننا في عرضه، فكلنا عرضة لمثل هذا من السفهاء، فقد لا يتورع سفيه أن يأتي ويقذفك بامرأة من النساء، وقد لا يتورع سفيه أن يأتي إلى امرأة من النساء ويقذفها برجل، فماذا يجب علينا في مثل هذه الأحوال؟ هل تكون أعراضنا ملعوبة في أيدي الفسقة؟ لا.
فلنا دين ولنا آداب نتأدب بها في مثل هذه الأحوال: أولها: قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور:12] أي: هلا إذ سمعتموه {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] ، ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم، أي: بإخوانهم.
كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: ولا تلمزوا إخوانكم.
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] ، أي: ليقتل بعضهم بعضاً.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: فليسلم بعضكم على بعض.
إذاً: أول أمر يطلب إذا اتهم مسلم بشيء {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم {خَيْرًا} [النور:12] فالمؤمنون كالجسد الواحد {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] يعني: إذا خبر في أخيك الذي يصلي بجوارك في المسجد بأنه قد زنى أو فلانة من اللواتي يحضرن الدروس معكم قد فعلت الفاحشة، فلأول وهلة عليك أن تظن بأخيك الخير، وتقول: هذا كذب عليه وافتراء، فهو رجل مصلٍّ، وتلك أخت تخاف الله فلا يصدر منها ذلك، هذا الظن الحسن لا بد أن يتوفر.
ولذلك فإن عمر رضي الله عنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلانة العابدة بالمدينة قد زنت.
فقال عمر: (أظنها قامت تصلي من الليل فسجدت فتجشمها رجل، أو فنامت في صلاتها في الليل من طول القيام فوسد عليها فاسق من الفساق فزنى بها) .
فدافع عنها في أول وهلة، فأرسل عمر إليها فجاءت فسألها عن الذي حدث فحكت نفس مقالة عمر بالضبط، فلأول وهلة ينبغي أن تظن بإخوانك الخير، وورد في إسناد ينظر فيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: (أنتِ خير أم عائشة؟ فتقول له: عائشة خير مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان؟ فيقول: صفوان خير مني، فتقول لزوجها ويقول لزوجته، إذا كان صفوان خير مني وعائشة خير منك وأنا وأنتي لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى: أن الأفضل منا لا يقبلان على أنفسهما الزنا) .
وفقنا الله لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(33/15)