وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} أي من بعد يأسهم وقنوطهم من نزوله. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الفقر والجوع. ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} يبسط رزقه بالإنبات؛ الذي هو نتيجة للمطر {وَهُوَ الْوَلِيُّ}
الذي ينصر أولياءه، ويواليهم {الْحَمِيدُ} المحمود على أي حال: في السراء والضراء، والنعماء والبأساء(1/594)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{وَمَا بَثَّ} فرق، ونشر {فِيهِمَا} أي في السموات والأرض {مِن دَآبَّةٍ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض: من إنسان، وحيوان، وطائر، ونحو ذلك. وقد يقال: هذا بالنسبة لما يدب على وجه الأرض؛ فما الذي يدب في السموات؟ والجواب على ذلك: إن كل ما علاك؛ فهو سماء: فالكواكب، والأنجم، والأفلاك: سموات؛ والذي يدب فيها: هو ما يدب على أرض تلك السموات من سكان وأملاك، لا يعلمها سوى بارئها سبحانه وتعالى(1/595)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ} بلية، وشدة؛ في المال، أو في الأهل، أو في الجسم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} من المعاصي {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ولولا عفوه تعالى؛ لأحاط بكم البلاء من كل جانب، ولحلت بكم الأرزاء من كل صوب(1/595)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين، أو بغالبين {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره(1/595)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على قدرته {الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} السفن التي تجري في البحر كالجبال(1/595)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
{إِن يَشَأْ} تعالى {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تدفع السفن، أو يمنع خاصية الماء في حملها؛ فيتخلى عما على ظهره {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} ثوابت لا تجري {عَلَى ظَهْرِهِ} أو غرقى في قعره وهو أمر مشاهد محسوس؛ فقد تكون سفينة من أضخم البواخر؛ وأقوى المواخر: فيدركها أمر الجبار القهار؛ فتنهار في قعر البحار: بغير سبب ظاهر سوى إرادته، ولا علة غير مشيئته وكيف تقوى على السير؛ وقد تخلى عن حفظها القدير الحكيم؟ وقد تكون سفينة أخرى من أخس المراكب، وأحقر القوارب: تسير في خضم الأمواج، وسط العجاج؛ كالسهم المارق، وكالسيل الدافق؛ وما ذاك إلا بحفظ الحفيظ العليم، الرحمن الرحيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على قدرته تعالى {لِّكُلِّ صَبَّارٍ}
كثير الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى البلاء الذي يقدره الله تعالى {شَكُورٍ} كثير الشكر على ما يوليه المولى من فضله وأنعمه(1/595)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يهلكهن بالإغراق {بِمَا كَسَبُوا} بما عملوا من الذنوب(1/595)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} من مهرب(1/595)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
{فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ} نعمة في هذه الحياة {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزائل الفاني {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من نعيم الآخرة {خَيْرٌ} من متاع الحياة الدنيا {وَأَبْقَى} لأنه دائم؛ لا انقطاع له أبداً(1/595)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} كبائر الذنوب {وَالْفَوَاحِشَ} الذنوب الفاحشة: كالزنا، والقتل. أو هي كل موجبات الحدود {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إذا أغضبهم أحد: عفوا عنه، وتجاوزوا عن ذنبه(1/595)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وصف تعالى المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم؛ ليدل على أن أرقى النظم وأسماها: هي النظم الديمقراطية، وأن الاستبداد، في الحكومات ليس من نظام الدين، ولا من شأن المؤمنين وأن الدول التي تسير بالنظم البرلمانية: هي أولى الحكومات بالتقدير والإكبار؛ ولله در القائل:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالحق لا يخفى على إثنينللمرء مرآة تريه وجهه
ويرى قفاه بجمع مرآتين
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} يتصدقون، وينفقون ابتغاء وجهه تعالى(1/596)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} وقع عليهم الظلم {هُمْ يَنتَصِرُونَ} ينتقمون ممن ظلمهم: غير متجاوزين الحد، ولا مسرفين في الانتقام {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} لما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} وكانت الآية مطلقة: آمرة بالغفران من غير قيد ولا شرط؛ وربما تغالى الآخذ بها؛ فصار ذليلاً، مهاناً، جباناً: ينال منه عدوه؛ فلا يحرك ساكناً؛ فتهون نفسه عليه. وقديماً قال الشاعر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هواناً بها؛ كانت على الناس أهونا
لذا ألحقها تعالى بهذه الآية:(1/596)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} من غير بغي، ولا إسراف {فَمَنْ عَفَا} عمن ظلمه: خشية استفحال الضرر، وكبحاً لجماح الشر، ورجاء أن يعود الباغي عن بغيه، والظالم عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} قلبه ومعاملته؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {فَأَجْرُهُ} فجزاء عفوه وحلمه {عَلَى اللَّهِ} يكافئه عليه في الدنيا والآخرة(1/596)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أي إن من أخذ حقه ممن ظلمه، وعاقب بمثل ما عوقب به: ليس لأحد عليه من سبيل لمعاقبته، أو معاتبته وبعد ذلك غلب الحليم الغفار: العفو، والحلم، والصبر، والمغفرة؛ قال تعالى:(1/596)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{وَلَمَن صَبَرَ} على أذى الغير؛ فلم ينتصر لنفسه، ولم يوسع دائرة الشر، ويذكي نيران العداوة والبغضاء {وَغَفَرَ} تجاوز عن ذنب من أذنب في حقه؛ واستبدل عداوته حباً، وبعده قرباً {إِنَّ ذَلِكَ} الصبر، والحلم، والغفران {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي من الأمور المستحبة، المؤدية إلى الخير دائماً(1/596)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{وَتَرَى الظَّالِمِينَ} يوم القيامة {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} المعد لهم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ} رجوع إلى الدنيا {مِّن سَبِيلٍ} يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(1/596)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي على النار {خَاشِعِينَ} خاضعين ذليلين؛ من شدة الهول والرعب {يَنظُرُونَ} إلى النار {مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذليل؛ كما ينظر المحكوم عليه إلى سيف
[ص:597] الجلاد {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} حقاً هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بوقوعها في الجحيم، والعذاب الأليم خسروا
{أَهْلِيهِمْ} وذلك لأن أهلهم إذا كانوا صلحاء: فهم في الجنة، وإذا كانوا غير صلحاء: فهم في النار؛ فلا انتفاع بهم في كلا الحالتين. أو خسروا أهليهم من الحور العين(1/596)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ} أجيبوه لما دعاكم إليه {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} من إنكار؛ أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه؛ إذ أن سمعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم وجلودكم؛ ستشهد عليكم بما كسبتم(1/597)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
{فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تحفظ أعمالهم، وتلزمهم بما لا يريدون {رَحْمَةً} نعمة، وغنى وصحة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء، وفقر، ومرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب معاصيهم {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يئوس قنوط: يعدد مصائبه، وينسى أنعم الله تعالى عليه {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(1/597)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما؛ خلقاً، وملكاً، وعبيداً {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} هو؛ لا ما يشاؤه الناس {يَهَبُ} بفضله {لِمَن يَشَآءُ} أن يهب له {إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} حسب حاجة الكون والبشرية؛ لا وفق هوى الوالدين؛ وذلك بالقدر الذي يكفل عمار الدنيا، وحفظ النوع الإنساني(1/597)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أو يهب لمن يشاء الصنفين: ذكراناً وإناثاً {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا نسل له {إِنَّهُ عَلِيمٌ} بما يجب أن يكون {قَدِيرٌ} على كل شيء يريده(1/597)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي وما صح لأحد من البشر {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} إلهاماً، أو رؤيا في المنام؛ لأنها وحي. قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ... {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} كتكليم موسى عليه السلام: سماع بدون رؤية. والمقصود بالحجاب: حجب السامع، لا المتكلم. تعالى الله عن أن يحجبه حاجب، أو يستره ساتر {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} الرسول: هو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رسول الله تعالى إلى أنبيائه (انظر آية 22 من سورة الروم)
[ص:598] {إِنَّهُ عَلِيٌّ} عظيم، متعالٍ عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} في صنعه: لا يعمل إلا ما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحاجة(1/597)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً} هو القرآن الكريم؛ إذ فيه حياة القلوب من موت الجهل؛ بل هو روح الأرواح أو المراد بالروح: جبريل عليه الصلاة والسلام {مِّنْ أَمْرِنَا} أي بأمرنا الذي نوحيه إليك؛ و {مَا كُنتَ تَدْرِي} من قبل أن نوحي إليك {مَا} هو {الْكِتَابُ وَلاَ} ما هو {الإِيمَانُ} والمقصود بالإيمان الذي لم يكن يدريه محمدبن عبد الله؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وقد اختاره الله تعالى لهداية العالمين؛ وهو في أصلاب آبائه وأجداده - إنما أريد به شرائع الإيمان، وأحكامه، ومعالمه. وقد تعاضدت الأخبار والآثار على تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن النقائص منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد منذ درجوا، وإحاطتهم بأنواع المنن واللطائف، وإشراق أنوار المعارف وليس محمد بأقل شأناً من يحيى - وقد أوتي الحكم صبياً - ومن عيسى - وقد أوتي الكتاب وجعل نبياً في مهده - ولا من إبراهيم - وقد أوتي رشده من قبل - صلوات الله تعالى وسلامه على سائر أنبيائه ورسله أو المعنى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} لولا الرسالة {وَلاَ الإِيمَانُ} لولا الهداية {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} أي القرآن {نُوراً} ينير القلوب والنفوس، ويجلو الأبصار والبصائر، ويشرح الصدور؛ فهو نور النور {نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} الذين انقادوا لأمرنا، واستمعوا لكلامنا:
رب إن الهدى هداك وآيا
تك نور تهدي بها من تشاء
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} بما به هديت، وترشد إلى ما به رشدت {إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} واضح، بين الاستقامة(1/598)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{صِرَاطِ اللَّهِ} دينه القويم {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} ترجع: فيقضي فيها بما يشاء، ويحكم فيها بما يريد {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.(1/598)
سورة الزخرف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/598)
حم (1)
{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/598)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الواضح(1/598)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
{فِي أُمِّ الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ {لَدَيْنَا} عندنا {لَعَلِيٌّ} عال على سائر الكتب {حَكِيمٌ} محكم؛ ذو حكمة بالغة(1/598)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي أفنمسك عنكم نزول القرآن إمساكاً؛ لأنكم قوم مسرفون في الكفر وارتكاب المعاصي(1/598)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أي سلف في القرآن ذكر الأمم السابقة، وما حل بها من التعذيب والتنكيل؛ جزاء كفرهم وتكذيبهم(1/599)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} فراشاً؛ كالمهد الذي هو فراش الصبي {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} طرقاً فيها تمشون، وطرقاً منها تتعيشون(1/599)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ} بتقدير: بقدر حاجتكم إليه؛ ولم ينزله كثيراً فيغرق، ولا قليلاً فيقحط {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} {فَأَنشَرْنَا بِهِ} أحيينا به. ومنه قوله تعالى {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي الإحياء {بَلْدَةً مَّيْتاً} جدبة؛ لا نبات فيها {كَذَلِكَ} أي مثل إخراج النبات من الأرض الجدبة {تُخْرَجُونَ} من قبوركم يوم القيامة(1/599)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
{وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} الأصناف كلها {مِّنَ الْفُلْكِ} السفن {وَالأَنْعَامِ} الإبل(1/599)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
{لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} أي ظهور السفن والأنعام {ثُمَّ تَذْكُرُواْ} تتذكروا {نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم؛ بتسخير الفلك والأنعام؛ لمزيد نفعكم وراحتكم {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين(1/599)
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}
لراجعون إليه؛ فمجازينا على شكرنا، أو كفرنا(1/599)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} بقولهم: عيسى ابن الله، والملائكة بنات الله. لأن الولد جزء من الوالد؛ وهم من عبيده، لا من أبنائه {إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} بين الكفر(1/599)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
{وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} أي اختصكم بهم(1/600)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي إذا بشر بالأنثى؛ لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله {ظَلَّ} دام {وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} من الحزن والحسرة {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىء غيظاً وغماً(1/600)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي أو ينسب للرحمن من الولد من هذه صفته؟ وهو أنه «ينشأ» أي يتربى «في الحلية» أي في الترف والزينة؛ وإذا احتاج إلى تقرير دعوى، أو إقامة حجة: كان {فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي غير قادر؛ لضعف حجته، وخطل رأيه. وذلك أنهم نسبوا إليه سبحانه الولد؛ مع نسبة أخس النوعين - في نظرهم - وهو البنات؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(1/600)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
{أَشَهِدُواْ} أحضروا {خَلْقَهُمْ} أي خلق الملائكة؛ فعلموا أنهم إناثاً كما يزعمون. أو هو من الشهادة، لا المشاهدة {سَتُكْتَبُ} في صحائف أعمالهم {شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عنها يوم القيامة، ويحاسبون عليها(1/600)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{وَقَالُواْ} كفراً، وعناداً، ولجاجاً {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي لو أراد الله أن يمنعنا عبادة الملائكة لمنعنا. وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ إذ أن الله تعالى لو شاء أن يؤمن الناس جميعاً لآمنوا، و {لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} وإنما يكون ذلك الإيمان، وتلك الهداية على سبيل القسر والإلجاء. وقد هدى الله تعالى الناس جميعاً بخلق العقول والأفئدة، وبعث الرسل، وإنزال الكتب؛ فمنهم من استجاب لداعي مولاه: فحباه واجتباه، ومنهم من استحب الغواية على الهداية، واختار الكفر على الإيمان؛ فاستوجب الحرمان والنيران قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم من علم بمشيئة الله تعالى وإرادته؛ حتى يتبعوها، ويحتجوا بوقوعها {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون(1/600)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} أي قبل القرآن؛ قلنا فيه بعبادة الملائكة، أو بيّنا فيه مشيئتنا لذلك {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي بهذا الكتاب(1/600)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين.
والأمة: الطريقة التي تقصد، ومنه الأمام(1/600)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
{وَكَذَلِكَ} مثل الذي حدث من قومك؛ من احتجاجهم بهذه الحجج الواهية الواهنة: احتج الأمم السابقة على رسلهم؛ و {مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} ينذرها غضب الله تعالى، ويخوفها عقابه {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} متنعموها، مثل قول هؤلاء {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} ملة وطريقة(1/600)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
{قُلْ} لهم يا محمد مقنعاً ومتلطفاً {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى} بدين أهدى {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} وهنا يظهر عنادهم، وتتضح نواياهم وخفاياهم؛ ويقولون: {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أنت ومن سبقك من الأنبياء {كَافِرُونَ} لا نؤمن به؛ ولو ظهرت صحته، وبانت هدايته؛ وأصروا على عبادة الأصنام،
[ص:601] دون الملك العلام؛ فهل بعد هذا يجوز لمثلهم أن يقول: {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} لقد بطلت حجتهم، وسقطت معذرتهم؛ واستوجبوا الجحيم؛ والعذاب الأليم(1/600)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالقحط، والمرض، والفقر، والذل، والاستئصال(1/601)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
{إِنَّنِي بَرَآءٌ} أي بريء(1/601)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} إلى معرفته ودينه(1/601)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} أي كلمة التوحيد؛ يدل عليها قوله عليه الصلاة والسلام {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي في ذريته؛ فلا يزال فيهم من يعبد الله تعالى، ويدعو إلى توحيده {لَعَلَّهُمْ} أي لعل أهل مكة حين يسمعون توحيد إبراهيم {يَرْجِعُونَ} إلى الدين الحق الذي استمسك به جدهم إبراهيم(1/601)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ} الكفار متعت {آبَآءَهُمُ} من قبلهم؛ ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ}
من عندنا؛ وهو القرآن {وَرَسُولٌ} هو سيد الرسل محمد عليه الصلاة والسلام {مُّبِينٌ} مظهر لديننا، وشريعتنا، وأحكامنا. وقرأ قتادة والأعمش، وغيرهما: «بل متعت» بتاء الخطاب على معنى أن القائل لذلك: إبراهيم عليه السلام؛ أو هو من مناجاة الرسول. وقرأ الأعمش: «بل متعنا» بنون العظمة. والأول: هو أولى الأقوال(1/601)
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} القرآن، وما صاحبه من معجزات، وإرهاصات {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} يكفرون بمن خلق، ويعبدون من خلق، ويكفرون بالآيات البينات، ويؤمنون بالأباطيل والترهات(1/601)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعنون بالقريتين: مكة والطائف. وبالعظيم: الذي يكون له مال، ومنصب، وجاه، وقد فاتهم أن العظيم: هو الذي يكون عند الله تعالى عظيماً؛ أما المال، والجاه، والمنصب؛ فهي عظمة يبتغيها الجاهلون، ويقدرها الفاسقون ومقياس العظمة الحقيقية عند الله تعالى، وعند العقلاء: عظمة النفس، وسمو الروح، وعلو الهمة ومن أعظم نفساً، وأسمى روحاً، وأعلى همة؛ من محمدبن عبد الله: خاتم رسل الله؟ عليه الصلاة والسلام وقد قال تعالى؛ رداً على من اقترح نزول القرآن على رجل من القريتين عظيم:(1/601)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} فيعطون النبوة والرسالة لمن يشاءون دون من أشاء، وينزلون القرآن على من يحبون؛ دون من أحب؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فجعلنا بعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} لا كما تنادي بعض المبادىء الهدامة؛ بما يبثونه من سموم فكرية، وما يدعون إليه من نظم؛ في ظاهرها البر والخير، وفي باطنها الإثم والشر كالنظام الشيوعي، والنظم الأخرى التي تستوردها بعض الأمم من البلاد التي لا تدين بالإسلام، بل ولا تدين بأي دين سماوي؛ بل تقول(1/601)
بالتعطيل، وألا إله في الكون أصلاً والدين الإسلامي - في مظهره وجوهره - ليس في حاجة إلى نظام أو منظمين؛ فقد نظمه خالق الكون ومدبره، وهو وحده العالم بما يصلح عباده ويكفل إسعادهم. وهو جل شأنه بامتحانه لهم بضروب من الغنى والفقر، والسعة والضيق: إنما يؤهلهم بهذا الاختبار إلى حياة أخرى دائمة السعادة والخير لمن أحسن، والشقاء والبؤس لمن أساء {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ} فالابتلاء والاختبار: أساس عظيم في تقدير استحقاق من يدخل الجنة؛ ممن يدخل النار. فإذا ما تعادلت الاحتياجات، وتساوت الأقدار - كما يزعم الشيوعيون ومن يدور في فلكهم - فقد سقط الامتحان الذي أراده الله تعالى لعباده، وأعدهم لاجتيازه وتنطوي هذه النظم التي يزعمونها على ظلم فادح لكلا النوعين؛ فقد أصبح الغني فقيراً؛ وهو قبل ذاك مكلف بالشكر على ما آتاهالله، والإنفاق منه وأضحى الفقير مرذولاً؛ وقد كان قبل ذاك مكلفاً بالصبر على فقره، مشكوراً مأجوراً عليه
وما حاجة الفقراء إلى النظم البشرية؛ وقد صيرهم الله تعالى جميعاً أغنياء بنظمه المحكمة الربانية فإذا ما فسد نظام المسلمين؛ بالبخل، والشح، والانصراف عن الله تعالى وأوامره: فليس ذلك عيباً في الدين، وإنما هو عيب القائمين بالأمر فيهم
لقد رتب الدين الحنيف حقوقاً للفقراء؛ حتى صيرهم أغنى من الأغنياء: لقد جعل إطعامهم قربى تقرب إلى مغفرته، والإحسان إليهم حسنى تدني من رحمته
ولو أنّ إنساناً تخير ملة
ما اختار إلا دينك الفقراء
أما هذه النظم التي يدعون إليها، ويحاربون من أجلها: فظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب يقولون بالمساواة؛ وأين المساواة؟ وبشيوع المال بين السادة والعبيد؛ وأين ما يزعمون؟ لقد جعلت بعض الدول نظاماً خاصاً: يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان - بسبب اللون - وقد خلقهم الله تعالى من أب واحد، وأم واحدة. وقد يكون المفضول أفضل من الفاضل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لقد ظلموا الناس وقالوا: إنه العدل. وأجاعوهم وقالوا: إنه الشبع. وأفقروهم وقالوا: إنه الغنى
لقد أفقروا الأغنياء، ولم يستطيعوا أن يطعموا الفقراء وجميع ذلك بأنظمة نظموها، وشرائع شرعوها. ولكن هلم معي - يرحمك الله - إلى شرعةالله، ودينالله، وهدىالله؛ يقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ(1/602)
أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ} فجعل تعالى إيتاء المال للفقراء من أفضل العبادات والقربات.
ووقف تعالى خيره وبره على المنفقين؛ فقال جل شأنه، وعلت حكمته: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. كما وقف رحمته على من يسارع في العطاء؛ فقال سبحانه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا}.
وقد أباح الدين مقاتلة مانعي الزكاة، وأخذها منهم قسراً وجبراً بأمر الله وقد كانوا في صدر الإسلام يبحثون عن الفقير والمحتاج؛ ويشكرونه حينما يقبل صدقتهم، ويعتبرونه صاحب الفضل عليهم؛ لا هم أصحاب الفضل عليه؛ كيف لا وهو المتسبب في رضا الرب سبحانه وتعالى عنهم وفي دخولهم الجنة
هذا ولم يحل فقر الفقراء دون توليهم أرقى المناصب في الدولة؛ بل كان الفقر مؤهلاً ضمن المؤهلات لولاية الحكم، والقضاء، وما شاكلهما من كبرى المناصب؛ وذلك لأن الفصل في جميع ذلك: التقى لا الغنى، والورع لا الطمع هذا في حين أن المناصب في الدول ذوات المبادىء الجوفاء الطنانة؛ لا يليها إلا الذين أتخمهم الغنى، وأصمهم الترف، وأعماهم الجشع والطمع؛ فلم يتركوا لقمة لجائع، ولا مزقة لعار؛ وبعد كل هذا ينادون بالعدل، والمساواة، ورحم الله تعالى العدل والمساواة
هذا وقد اختلف كثير من الناس في الغني الشاكر، والفقير الصابر: أيهما أفضل من الآخر؟ وقد فضل بعضهم الغني الشاكر عن الفقير الصابر: وذلك لأنه ابتلي بالغنى فشكر نعمة ربه، وقام بما يجب عليه حيالها ومن أول الواجبات عليه: رعاية الفقير، والمحتاج. وبذلك يكون أنفق ما وهبه الله في حدود ما أمر بهالله، وآتى المال على حبه، وأطعم الطعام في سبيله.
فإذا قلنا بما قال به بعض الفرنج - من شيوع المال واشتراكيته - فقد حاولنا القضاء على النظام الكوني الذي رسمه الله تعالى لعباده، وامتحنهم به
وقد اقتبسوا معنى الاشتراكية: من اشتراك الجميع في المال. ولكنهم لم يحققوا ما ذهبوا إليه، ولا ما أحاطوا به مذاهبهم الباطلة من سياج التمويه والتضليل وها هي ذي البلاد التي اعتنقت مثل هذه المبادىء وقد قضى عليها الفقر، وأطاح بها الجوع والحرمان. بعكس بلادنا التي تطورت إلى الاشتراكية الإسلامية.(1/603)
أما الإسلام: فهو مؤسس الاشتراكية الصحيحة، والشيوعية السليمة. فمعنى الاشتراكية: شركة الفقير مع الغني فيما آتاه الله من مال، أو عقار، أو زرع، أو ضرع. وقد عقد الله تعالى بينهما عقداً لا تنفصم عراه: فضمن لمن وفى به الجنة والثواب الجزيل، وأوعد من نقض العقد، ونكث العهد بالعذاب الأليم، والشقاء المقيم هذا وقد حدد في هذا العقد ما لكل طرف منهما من حقوق، وما عليه من واجبات. ومعنى الشيوعية: شيوع المال بين بني الإنسان؛ فلا يوجد أحد يشتكي الفقر والحرمان ولئلا يكون المال دولة بين الأغنياء وقد كفل الله تعالى للفقير حقوقاً يحارب الغني من أجلها، ويقاتل عليها. ولكن هذه الحقوق محدودة بحدود رسمها خالق الدنيا، ورازق الخلق؛ بحيث لا يفتقر الغني، ولا يجوع الفقير. وبحيث يصح امتحان الله تعالى لعباده - الذي ما خلقهم إلا من أجله - فيجزي غنياً شكر، وفقيراً صبر
وها هي ذي الدول الأجنبية - وقد تباينت أهواؤها، وعظمت أدواؤها - قد انقسمت إلى قسمين، أو قل معسكرين: شيوعي، ورأسمالي؛ وكلاهما ضل السبيل، وحاد عن جادة الطريق: فأولاهما قتله الجوع، وثانيهما قتله الشبع، وكلاهما يسير في حياته على غير هدى وذلك لأن {هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فاتبع - هديت وكفيت - هدى الله، واجتنب هدى الشيطان {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}.
هذا وقد قيض الله تعالى لهذه الأمة من أقامها من كبوتها، وأقالها من عثرتها، ونظم لها النظم والقوانين؛ التي لا تخرج عما أراده رب العالمين: فأخذ من الأغنياء حق الفقراء؛ فجزى الله تعالى كل من نافح عن الدين، ولم يخرج عن تعاليم القرآن، التي جعلها الله تعالى صالحة لكل زمان ومكان
وأساس النظام الإلهي في تفاوت الدرجات {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} من التسخير؛ لا من السخرية؛ أي يسخر الغني الفقير في مصالحه التي تعود على المجتمع كله - غنيه وفقيره - بالخير العميم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ} مغفرته وجنته لمن يتصدق {خَيْرٌ} من الأموال؛ ويبخلون بها(1/604)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على الكفر {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} وذلك لحقارة الدنيا عند الله تعالى وأن بسط الرزق لبعض من فيها: لا يدل على هدايته. وتضييقه على بعضهم لا يدل على غوايته
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن ... إذاً لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم
[ص:605] {وَمَعَارِجَ} ومصاعد {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يصعدون {وَزُخْرُفاً} الزخرف: الذهب، أو هو الزينة(1/604)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ} النعيم الزائل، والمتاع الفاني {لَمَّا} إلا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قليل ثم يزول؛ مشوب بالتنغيص؛ محاط بالأكدار {وَالآخِرَةُ} وما فيها من نعيم مقيم، و {جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} {عِندَ رَبِّكَ} في رحابه؛ أعدها {لِلْمُتَّقِينَ} من أحبابه(1/605)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
{وَمَن يَعْشُ} يغفل {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ويعرض متعامياً عن داعي الإيمان {نُقَيِّضْ} نسخر، ونسلط {لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} مقارن، وملازم له؛ لا يفتأ يزين له القبيح، ويقبح له المليح؛ حتى يورده موارد الهلاك والتلف وذلك بسبب غفلته، وتعاميه عن ذكر ربه(1/605)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
{وَإِنَّهُمْ} أي الشياطين القرناء {لَيَصُدُّونَهُمْ} ليمنعون الغافلين المتعامين {عَنِ السَّبِيلِ} عن طريق الهدى(1/605)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا} ذلك الغافل المتعامي، يوم القيامة {قَالَ} لقرينه الذي صده عن السبيل {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أنت؛ إذ أوردتني موارد الحتوف(1/605)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
{أَفَأَنتَ} يا محمد {تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي كما أنك لا تستطيع إسماع الأصم، أو هداية الأعمى؛ فكذلك لا تستطيع إسماع الكافر، أو هدايته وكيف تهدي من أصم أذنيه عن استماع النصح، وأعمى قلبه عن رؤية الحق لا تستطيع أن تهدي {وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} بين ظاهر(1/605)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
{فَإِمَّا} فإن {نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي نتوفينك قبل تعذيبهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} في الدنيا(1/605)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ}
به من العذاب(1/605)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} من القرآن {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم(1/605)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
{وَإِنَّهُ} أي القرآن {لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف عظيم لك ولهم {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن مدى تمسككم به، ونشركم له(1/605)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} أي اسأل أمم الأنبياء الذين أرسلناهم من قبلك. يؤيده قراءة ابن مسعود {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} وقيل: واسأل رسلنا - حين تلقاهم - ليلة المعراج؛ وقد التقى عليه الصلاة والسلام بكثير منهم؛ كما ورد في كثير من الأحاديث {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ} غيره(1/605)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
{فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} يسخرون منها، ويستهزئون بها(1/605)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
{وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ} معجزة {إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} في الدلالة على صدق موسى، ووحدانية مرسله. أو المراد بالآية: آية العذاب؛ فقد ابتلوا بالطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم (انظر آية 133 من سورة الأعراف) {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم وتكذيبهم. ومن عجب أنهم - رغم نزول العذاب بهم، وتنوعه وتكرره عليهم - لم يؤمنوا، ولم يرتدعوا، ولم يقولوا في محنتهم وشدتهم: يا أيها النبي، أو يا أيها الرسول، أو يا أيها الصادق؛ بل قالوا(1/605)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
{يأَيُّهَا السَّاحِرُ} وقيل: معنى الساحر عندهم: العالم؛ يؤيده قول فرعون {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} من كشف العذاب عنا؛ إن آمنا(1/606)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
{إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم، ويصرون على كفرهم(1/606)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
{أَمْ} بل {أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا} إشارة إلى موسى عليه السلام {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف، حقير {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}
لا يكاد يظهر الكلام: للثغة في لسانه؛ جعلته يستعين - فيما يقول - بأخيه هرون: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}(1/606)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
{فَلَوْلاَ} فهلا {أُلْقِيَ عَلَيْهِ} ألبس كما يلبس السادة والعظماء {أَسْوِرَةٌ} جمع سوار؛ وقد كان العظماء فيهم يلبسونها {مُقْتَرِنِينَ} متتابعين؛ يشهدون بصدقه(1/606)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
{فَاسْتَخَفَّ} استجهل فرعون {قَوْمَهُ} أي استغل فرعون جهل قومه، وضعفهم؛ فقال لهم: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} {فَأَطَاعُوهُ} وعبدوه من دون الله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} عاصين كافرين(1/606)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
{فَلَمَّآ آسَفُونَا} أغضبونا(1/606)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي أهلكناهم؛ فجعلناهم سابقين؛ بعد أن كانوا حاضرين جعلناهم {مَثَلاً} عظة {لِّلآخِرِينَ} لمن يأتي بعدهم(1/606)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
{وَلَمَّا ضُرِبَ} عيسى {ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} في قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ} أي من هذا المثل {يَصِدُّونَ} يضجون. وقد قال المشركون وقتذاك: إنما يريد محمد أن نعبده؛ كما عبد النصارى عيسى(1/606)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
{وَقَالُواْ} أيضاً أأصنامنا التي نعبدها {خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون عيسى عليه السلام. قال تعالى رداً عليهم {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ} أي ما ضربوا لك هذا المثل {إِلاَّ جَدَلاَ} مجادلة؛ لا أثر للمنطق والتعقل فيها {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} شديدو الخصومة(1/606)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{إِنْ هُوَ} أي ما عيسى {إِلاَّ عَبْدٌ} من عبادنا {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالاصطفاء والنبوة {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً}
آية {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يستدل بها على وجود الخالق تعالى وقدرته: لخلقه من غير أب، واستطاعته - بأمر ربه - أن يبرىء الأكمه والأبرص، وأن يحيي الموتى بإذنه تعالى(1/606)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
{وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} أي لجعلنا بعضكم {مَّلاَئِكَةً} لأني خالق النوعين، ومبدع الصنفين {يَخْلُفُونَ} أي يخلف بعضهم بعضاً فيما بينكم، أو يخلفونكم أنتم(1/606)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَإِنَّهُ} أي عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي دليل عليها؛ حين ينزل قبيل القيامة؛ كما ورد في الأحاديث. أو الإشارة إلى القرآن الكريم؛ وما فيه من صفات القيامة وأهوالها، وما يعقب ذلك من نعيم مقيم، وعذاب أليم {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية؛ أي لا تشكون في وقوعها {هَذَا} الذي أدعوكم إليه {صِرَاطٍ} طريق(1/606)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزات الظاهرات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} بالنبوة، والمعرفة، والشرائع(1/606)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} في شأنه. فمن قائل: إنهالله.
[ص:607] ومن قائل: إنه ابنه. ومن قائل: ثالث ثلاثة. ومنهم من قال: هو ابن زنا {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا(1/606)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {بَغْتَةً} فجأة(1/607)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
{الأَخِلاَّءُ} أي الأصدقاء في الدنيا؛ المجتمعون فيها على الكفر والمعاصي، المكبون على الآثام {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة يكون {بَعْضَهُمْ} رغم المحبة والصداقة في الدنيا {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} الذين تحابوا فيالله، واجتمعوا على عبادته ومرضاته؛ فإنهم سعداء بحبهم وصداقتهم؛ يقال لهم(1/607)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
{يعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فقد انقطع الخوف، وزال الحزن؛ ولم يبق لكم سوى الأمن والسرور(1/607)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
{ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}
تسرون؛ وهو من الحبور(1/607)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} بأطباق {وَفِيهَا} أي في الجنة أو في الصحاف والأكواب(1/607)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين(1/607)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لا يخفف العذاب عنهم {مُبْلِسُونَ} آيسون من النجاة، والعفو، والرحمة(1/607)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتعذيبهم، وتخليدهم في النار {وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم؛ بتعريضها للعقاب، وتمسكهم بالكفر والعناد(1/607)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
{وَنَادَوْاْ} الكفار {يَمْلِكُ} وهو خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ليمتنا لنسترح. وهو من قضى عليه: إذا أماته {قَالَ} الخازن لهم: لا تفكروا في الخلاص، فلات حين مناص {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} باقون في العذاب أبد الدهر(1/607)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
{أَمْ أَبْرَمُواْ} أحكموا {أَمْراً} في كيد محمد {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} محكمون أمراً في كيدهم وإهلاكهم(1/607)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{وَنَجْوَاهُم} ما يتحدثون به فيما بينهم، ويخفونه عن غيرهم {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} هم الحفظة: يكتبون ما يفعلونه، وما ينطقون به(1/607)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
{قُلْ} لهم يا محمد {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} كما يزعمون {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لهذا الولد(1/607)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تنزيهاً، وتقديساً له {رَبِّ الْعَرْشِ} مالك الملك {عَمَّا يَصِفُونَ} يقولون من الكذب؛ بنسبة الولد، والشريك إليه(1/607)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
{فَذَرْهُمْ} دعهم {يَخُوضُواْ} في باطلهم {وَيَلْعَبُواْ} في دنياهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي يوم عذابهم، والانتقام منهم؛ وهو يوم القيامة(1/607)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ} يعبد، ويطاع، ويتقى {وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} واجب العبودية، واجب الطاعة {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في صنعه {الْعَلِيمُ} بخلقه، البصير بمصالحهم(1/607)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
{وَتَبَارَكَ} تقدس وتعالى الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من مخلوقات {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وقت قيامها، وكيفيته، وحالته(1/607)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
{وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {الشَّفَاعَةَ} لعابديهم؛ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} آمن بالله، وشهد ألا إله إلا الله؛ فهؤلاء يشفعون لغيرهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بقلوبهم صدق ما قالوه بألسنتهم.
والمراد بهم: عيسى،
[ص:608] وعزير، والملائكة(1/607)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي لئن سألت هؤلاء المعبودين {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هو خالقهم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره؛ بعد اعتراف المعبودين؛ بخلق رب العالمين لهم؟ أو ولئن سألت العابدين لغيرالله: {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فكيف يصرفون عن عبادته، مع اعترافهم بخلقته؟(1/608)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وَقِيلِهِ} أي قول النبي(1/608)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} فأعرض عن دعوتهم {وَقُلْ سَلاَمٌ} وذلك قبل الأمر بقتالهم {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد شديد، ووعيد للمشركين.(1/608)
سورة الدخان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/608)
حم (1)
{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/608)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} هي ليلة القدر؛ نزل فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسولالله بحسب الحاجة؛ وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لأن ليلة القدر تكون في هذا الشهر {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} بالقرآن، ومخوفين به(1/608)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يفصل كل أمر عظيم؛ من أرزاق العباد، وآجالهم(1/608)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
{أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} أي هذا الإنزال، وهذا الإنذار وهذا الفصل في الأرزاق والأعمار؛ بأمرنا وإرادتنا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} الرسل(1/608)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} بعباده {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم(1/608)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من البعث والحساب، والجزاء(1/608)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
{فَارْتَقِبْ} انتظر هو قبيل القيامة. وقيل: إن قريشاً لما بالغت في عصيان الرسول وإذايته؛ دعا عليهم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف؛ وكان الرجل يحدث أخاه فيسمع صوته ولا يراه؛ لشدة الدخان المنتشر بين السماء والأرض(1/608)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
{يَغْشَى النَّاسَ} يشملهم ويغطيهم(1/608)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أي كيف ينفعهم التذكر والإيمان عند نزول العذاب(1/608)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
{ثُمَّ تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ} أي يعلمه القرآن بشر مثله وليس من عندالله. قال تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}(1/608)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} عنكم {قَلِيلاً} لعلكم ترجعون عن غيكم وبغيكم {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} إلى ما كنتم عليه من الكفر(1/608)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم القيامة، أو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} منكم(1/608)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا} بلونا واختبرنا(1/608)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
{أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أي أرسلوا عباد الله - الذين خلقهم أحراراً - وأطلقوهم من الأسر والعذاب أو {أَدُّواْ إِلَيَّ} يا عباد الله أسماعكم وأذهانكم {أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
[ص:609] لا تستكبروا عليه(1/608)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
{إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة(1/609)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} التجأت إليه، واحترزت به من {أَن تَرْجُمُونِ} بالحجارة(1/609)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
{فَاعْتَزِلُونِ} فاجتنبوني، ولا تؤذوني(1/609)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي} الإسراء: السير ليلاً {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه(1/609)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} ساكناً، أو طريقاً سهلاً، أو يبساً(1/609)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
{وَنَعْمَةٍ} متعة {فَاكِهِينَ} متنعمين(1/609)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
{كَذَلِكَ} شأني مع من عصاني، ومن أريد إهلاكه {وَأَوْرَثْنَاهَا} أي أورثنا تلكم الجنات والعيون، وهاتيك الزروع والمقام الكريم، وهذه النعمة التي كانوا فيها فاكهين «أورثناها» غيرهم؛ لعلهم بنعمة ربهم لا يكفرون(1/609)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ} كناية إلى أنهم هلكوا فلم يجزع عليهم أحد، ولم يحس بنقصانهم. أو هو على الحقيقة؛ فقد ورد أن المؤمن إذا مات: بكى عليه مصلاه، وحزنت عليه ملائكة السماء {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} مؤجلين للتوبة(1/609)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
{إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} متكبراً، مسرفاً في الكفر(1/609)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} أي اخترنا بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} منا بحالهم، وجدارتهم لهذا الاختيار؛ فقد بعث من بينهم كثير من الأنبياء {عَلَى الْعَالَمِينَ}
أي على عالمي زمانهم؛ فلا ينصب الاختيار على الأمة المحمدية؛ لقوله جل شأنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وذهب بعضهم إلى أن الاختيار على كل العالمين ويكون قوله جل شأنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. وهو قول لا يعتد به؛ فقد تضافرت الآيات، ودل سياق القرآن على أن محمداً خير الأنبياء، وأمته خير الأمم(1/609)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ} المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام {مَا فِيهِ بَلاَءٌ} اختبار وامتحان(1/609)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
{أَنَّ هَؤُلاَءِ} يعني كفار قريش {لَيَقُولُونَ} لجهلهم، ومزيد كفرهم(1/609)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
{إِنْ هِيَ} ما هي {إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى} التي نموتها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين(1/609)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
{فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا} أحيوهم لنا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولونه عن البعث. قال تعالى، رداً عليهم(1/609)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} وهو أحد ملوك اليمن، كان يملك اليمن، والشحر، وحضرموت. ويقال لكل من ملك اليمن «تبع» وسموا التبابعة؛ وقد كان «قوم تبع» في غاية من الرخاء والنعمة، والقوة والمنعة؛ فأهلكهم الله تعالى بفسقهم وكفرهم {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الجاحدة الكافرة(1/609)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
{مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي لإقامة الحق وإظهاره فيهما؛ من توحيد الله تعالى، والتزام طاعته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(1/609)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن يوم القيامة - الذي يفصل فيه بين الخلائق - موعدهم جميعاً(1/609)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
{يَوْمَ لاَ يُغْنِي} لا ينفع، ولا يدفع {مَوْلًى عَن مَّوْلًى} المولى: الصاحب، والصديق، والقريب؛ أي
[ص:610] يوم لا يدفع القريب عن قريبه، والصديق عن صديقه، والصاحب عن صاحبه {شَيْئاً} من العذاب {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
من الله تعالى(1/609)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ} من المؤمنين؛ فيشفعون لغيرهم، ويشفع غيرهم لهم {إِنَّهُ} تعالى {هُوَ الْعَزِيزُ} بانتقامه من أعدائه {الرَّحِيمُ} بعباده وأوليائه(1/610)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)
{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} هي شجرة قيل: إنها تنبت في قعر جهنم(1/610)
طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
{طَعَامُ الأَثِيمِ} الكثير الآثام {كَالْمُهْلِ} وهو عكر الزيت، أو النحاس المذاب(1/610)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} كغلي الماء الحار(1/610)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
{فَاعْتِلُوهُ} فقودوه بغلظة وعنف {إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} وسطها؛ وقولوا له(1/610)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} يقال له ذلك: استهزاء به، وتشفياً فيه أو المراد: ذق هذا العذاب المهلك المذل؛ إنك كنت في الدنيا العزيز الكريم(1/610)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إِنَّ هَذَا} العذاب الذي تصلونه؛ هو {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي ما كنتم فيه تشكون(1/610)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} يؤمن فيه الخوف، والعذاب، والخزي، والهوان(1/610)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
{فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ ترى رأي العين(1/610)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} وهو ما رق من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه {مُّتَقَابِلِينَ} يدور بهم مجلسهم؛ يتحدثون متسامرين، ويتضاحكون مستبشرين(1/610)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} الحور: جمع حوراء؛ وهي شديدة سواد العين، مع شدة بياضها. والعين: جمع عيناء؛ وهي الواسعة العينين.
هذا وقد أورد بعض المفسرين في أوصاف الحور العين ما تعافه العقول، وتمجه الأذواق والأسماع؛ فقد رووا أنهن مخلوقات من ياقوت ومرجان، وأنه يرى مخ سوقهن؛ إلى غير ذلك من الأوصاف السمجة؛ التي هي في الواقع حط من قدرهن، وتنقيص من شأنهن والحقيقة أنهن كأحسن ما تكون النساء: جمالاً، وصفاء، وطهارة؛ وليس فوق هذا مطمع لطامع، ولا زيادة لمستزيد وليس معنى ذلك أنهن كسائر نساء الدنيا - فهذا ما لا يجوز أن يقال - بل المراد أنهن من نوعهن؛ مع الفارق العظيم؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وهذا الذي حدا بطائفة من ضعاف العقول والأحلام إلى وصف ما في الجنة بما لا يصح أن يوصف به(1/610)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
{يَدْعُونَ فِيهَا} يطلبون في الجنة {بِكلِّ فَاكِهَةٍ} يريدونها {آمِنِينَ} من الموت، والمرض، ومن نفاذ النعيم الذي هم فيه، و(1/610)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} التي أدركتهم في الدنيا(1/610)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي يسرنا القرآن، وسهلنا تناوله {بِلِسَانِكَ} العربي؛ الذي هو لسانهم ولغتهم {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون فيؤمنون(1/610)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} فانتظر ما يحل بهم من العذاب؛ إنهم منتظرون ما يحل بك من الدوائر.(1/610)
سورة الجاثية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/611)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} القرآن {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} في ملكه {الْحَكِيمِ} في صنعه(1/611)
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{إِنَّ فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما {لآيَاتٍ} علامات دالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته(1/611)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
{وَفِي خَلْقِكُمْ} أيضاً: آية وأي آية (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} البث: النشر، والتفريق في الأرض؛ أي إن جميع ذلك {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالبعث؛ لأن من قدر على خلق السموات والأرض، وما فيهما، ومن فيهما، وصوركم، فأحسن صوركم، وفرق في الأرض - بقدرته - من أنواع الدواب، وأصناف البهائم؛ ما فيه خيركم ومصلحتكم: قادر على أن يعيد خلقكم كما بدأكم، ويبعثكم للحساب والجزاء يوم القيامة في(1/611)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
{اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان، والذهاب والمجيء {وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ} مطر. وسمي رزقاً؛ لأنه سبب له {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} جدبها {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تقليبها: مرة جنوباً، ومرة شمالاً، وباردة تارة، وحارة أخرى؛ كل ذلك حسب حاجات الإنسان، وغذائه وكسائه. وفي جميع ذلك {آيَاتِ} بينات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الدليل والبرهان، ويتدبرون الحقائق مجردة عن العناد والهوى(1/611)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
{تَلْكَ} الآيات المذكورة {آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وجوده، المثبتة لقدرته، المؤيدة لوحدانيته {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} يا محمد {بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا يلابسه شك، أو بطلان؛ فإذا لم يؤمنوا به {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ} حديث {اللَّهْوِ} بعد {آيَاتُهُ} البينات {يُؤْمِنُونَ}
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}(1/611)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
{وَيْلٌ} عذاب شديد {لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} كذاب، كثير الآثام(1/611)
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
{ثُمَّ يُصِرُّ} على كفره(1/611)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} كقول بعضهم في الزقوم: إنه الزبد والتمر. وفي خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر - كما يقول محمد في قرآنه - فأنا ألقاهم وحدي(1/612)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{مِّن وَرَآئِهِمْ} أي من وراء حياتهم في الدنيا، ووراء ما هم فيه من التعزز والتكبر؛ وراء جميع ذلك {جَهَنَّمُ} يصلونها وبئس المصير {وَلاَ يُغْنِي} لا ينفع، ولا يدفع {عَنْهُم} العذاب {مَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من المال والفعال {وَلاَ} يغني عنهم {مَا اتَّخَذُواْ} عبدوا {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَوْلِيَآءُ} من الأصنام {هَذَا} القرآن(1/612)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{هُدًى} من الضلال {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الدالة على ربوبيته ووحدانيته {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ} الرجز: أشد العذاب(1/612)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} السفن {فِيهِ بِأَمْرِهِ} بإرادته، وحفظه، وكلاءته {وَلِتَبْتَغُواْ} تطلبوا {مِن فَضْلِهِ} رزقه؛ بحمل التجارات، والتقلب في البلاد(1/612)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} من شموس وأقمار وأنجم، وهواء وماء وغير ذلك {وَمَا فِي الأَرْضِ} من دواب وأشجار، ونبات وأنهار، وغير ذلك. سخر ذلك {جَمِيعاً مِّنْهُ} بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتكم أنتم وقدرتكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على قدرته ووحدانيته(1/612)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} يعفوا ويتجاوزوا {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي لا يخافون بأسه ونقمته، أو لا يرجون ثوابه، ولا يخشون عقابه {لِيَجْزِيَ} الله {قَوْماً} بالنعيم {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الإحسان والغفران. قيل: نزلت قبل نزول الأمر بالقتال. وقيل: بل هي عامة؛ فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى دين يأمر بالعفو عن أعدائه والصبر على أذاهم، والغفران لذنوبهم، ويحث على الإحسان إليهم(1/612)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة {وَالْحُكْمَ} الشرائع المنزلة عليهم، والتي يحكمون بها بين الناس {وَالنُّبُوَّةَ} أكثر ما بعث الله تعالى من الأنبياء في بني إسرائيل: من وقت يوسف، إلى زمن عيسى عليهما السلام
[ص:613] {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الحلال من الأقوات، أو هو المن والسلوى(1/612)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ} الشرائع التي تحل الحلال، وتحرم الحرام. أو هو أمر الرسول - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وعلائم بعثته، ودلائل نبوته {فَمَا اخْتَلَفُواْ} في أمر دينهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسداً منهم، وطلباً للرئاسة؛ فقتلوا أنبياءهم، وأنكروا شرائعهم، وحاربوا ربهم {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ} يحكم ويفصل؛ فيعاقب العاصي، ويثيب الطائع(1/613)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ} يا محمد {عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ} الشريعة: المذهب والملة؛ وهي ما شرعه الله تعالى لعباده. أي جعلناك على منهاج واضح من الدين(1/613)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ} لن يدفعوا {عَنكَ مِنَ اللَّهِ} من عذابه؛ إن أراد أن ينزله بخير خلقه وأقربهم منه(1/613)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{هَذَا} القرآن {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} البصائر: جمع بصيرة؛ وهو ما يبصر بالقلب. ولما كان القرآن وسيلة لإبصار الهدى والرشاد، وكان القلب محلاً للإبصار الحقيقي: سماه تعالى بصائر. كما سماه روحاً، وحياة، وشفاء(1/613)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{اجْتَرَحُواْ} اكتسبوا {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} لا؛ فإنهما يختلفان تمام الاختلاف: فالمؤمن يحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، والكافر يحيا كافراً ويموت كافراً؛ فشتان بين الاثنين، وشتان بين المآلين(1/613)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
{بِمَا كَسَبَتْ} عملت من خير أو شر(1/613)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي أطاع هواه في كل ما أمره به؛ فكان في طاعته العمياء كالعابد له (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} منه تعالى؛ بأنه من أهل الضلال قبل أن يخلق. أو أضله على علم من الضال بفساد ما يعبده من أصنام، وما يحيط به من أوهام {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أصمه عن سماع الوعظ، وجعل قلبه لا يقبل الحق
[ص:614] {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} غطاء؛ فلا يرى الحق {فَمَن يَهْدِيهِ} إذن {مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ذلك وتفقهونه(1/613)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} أنكروا البعث: وهو أشد أنواع الكفر وقد وجد في هذا العصر من يدين بهذا الدين، ويدعو لهذا المذهب؛ فلهم الخزي والويل يوم يقال لهم {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} (انظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) {إِنْ هُمْ} ما هم {إِلاَّ يَظُنُّونَ} ظناً فاسداً، لا على وجه العلم والتأكد(1/614)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} من القرآن؛ الدالة على قدرتنا على بعثهم وإعادتهم {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} حيال ذلك {إِلاَّ أَن قَالُواْ} معارضين مناوئين {ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ} السابقين أحياء {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمونه من بعثنا بعد موتنا(1/614)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} ابتداء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أحياء كما كنتم في الدنيا {لاَ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ} في يوم القيامة(1/614)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
{يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} الكافرون(1/614)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} مجتمعة، باركة على الركب؛ من فرط الذل والهوان {كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} إلى صحائف أعمالها(1/614)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{هَذَا كِتَابُنَا} الذي كتبته الحفظة {يَنطِقُ} يشهد بما فيه {عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} الذي كان منكم {إِنَّ كُنَّا} في الدنيا {نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم(1/614)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
{فِي رَحْمَتِهِ} في جنته ومغفرته(1/614)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
{أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم ذلك {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن سماعها، وعن تفهمها(1/615)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
{وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا} أي والقيامة لا شك في وقوعها(1/615)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي ظهر لهم جزاء السيئات التي عملوها؛ وهو العذاب المعد لهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي نزل بهم إثم استهزائهم بكتبهم، ورسلهم(1/615)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
{وَقِيلَ} لهم {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} من رحمتنا ومغفرتنا {كَمَا نَسِيتُمْ} وأغفلتم {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فلم تصدقوا به، ولم تعملوا له(1/615)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
{وَغَرَّتْكُمُ} خدعتكم {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بلهوها وزخرفها؛ فتمسكتم بها، وحرصتم عليها أي لا يخرجون من الجحيم؛ بل يخلدون فيه {وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي لا يسترضون؛ لأن الاستعتاب: الاسترضاء، والإعتاب: إزالة الشكوى. أو هو من العتاب أي ولا هم يعاتبون: لأن العتاب من علامات الرضا؛ وهو مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الوجدان؛ وليس ثمة إدلال، بل إذلال. ولا وجدان بل خذلان وكيف يكون إدلال ووجدان، وقد فعلوا كل موجبات الغضب والحرمان على عدله، والشكر على فضله(1/615)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ} العظمة والجلال، والبقاء والسلطان {وَهُوَ الْعِزِيزُ} في ملكه في صنعه(1/615)
سورة الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/616)
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي إلا لإقامة الحق، وبسط العدل {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة: تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما(1/616)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} مشاركة {ائْتُونِي بِكِتَابٍ} منزل {مِّن قَبْلِ هَذَآ} القرآن {أَوْ أَثَارَةٍ} بقية {مِنْ عِلْمٍ} يدل على صحة ما تعبدون، وما تزعمون(1/616)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو} يعبد {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} لا يجيبه إلى شيء يسأله؛ وهم الأصنام {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} عن عبادتهم {غَافِلُونَ} لأنهم جماد لا يعقل، ولا يحس إن عبدته وعظمته، أو أهنته وحطمته(1/616)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي جمعوا للحساب والجزاء يوم القيامة {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي كانت الأصنام أعداء لعابديها(1/616)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق القرآن {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي بما تقولونه من الطعن في القرآن(1/617)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} أي لم أكن أولهم؛ فقد سبقني الكثير منهم: كموسى، وعيسى، وإبراهيم(1/617)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} كما أقول {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} فماذا يكون حالكم يوم القيامة؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} هو عبد اللهبن سلام {عَلَى مِثْلِهِ} على التوراة - التي هي مثل القرآن في نسبتها إلى الله تعالى - بأن فيها ذكر الرسول، وصفته، وأنباء بعثته {فَآمَنَ} هو بالقرآن {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به(1/617)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} اليهود {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} منهم؛ كعبد اللهبن سلام وأضرابه {لَّوْ كَانَ} هذا الدين {خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أي ما سبقنا إليه الفقراء والرعاع؛ كبلال، وصهيب، وعمار {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} أي بالقرآن {فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب. وذلك كقولهم {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} والإفك: أسوأ الكذب وأفحشه(1/617)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{وَمِن قَبْلِهِ} أي قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إِمَاماً} أي قدوة يؤتم به في دين الله تعالى وشرائعه {وَرَحْمَةً} للمؤمنين؛ لأنه ينقلهم من الظلمات إلى النور {وَهَذَا} القرآن {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} لما سبقه من الكتب {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا؛ بالعذاب الأليم
[ص:618] {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} المؤمنين بالنعيم المقيم(1/617)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} أقاموا على الطاعة، وجانبوا المعصية(1/618)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أي أمرناه أمراً جازماً بالإحسان إليهما {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} أي ذات كره. والمراد به: المشقة أثناء الحمل {وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بتعب ومشقة أثناء الوضع {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي مدة حمله وإرضاعه حتى ينفطم {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} استكمل قوته وعقله. وبلوغ الأشد: بين ثماني عشرة إلى ثلاثين؛ وهو أيضاً بلوغ الحلم. وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن المصدق {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني {وَأَنْ أَعْمَلَ} عملاً {صَالِحاً تَرْضَاهُ} وهو اتباع أوامره تعالى، واجتناب نواهيه {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي هبني ذرية مؤمنة؛ وهو كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي} {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} مما جنيت في سابق أيامي(1/618)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} أفٍ: كلمة تضجر؛ وقد نزلت هذه الآية في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أخرج من الأرض بعد الموت، وأبعث {وَقَدْ خَلَتِ} مضت {الْقُرُونِ} الأمم {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ} أي يطلبان من الله تعالى الغوث؛ ليرجع ابنهما عن غيه وبغيه، ويرده عن كفره؛ ويقولان له {وَيْلَكَ آمِنْ} أي الويل لك؛ آمن ب الله وبالبعث {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالقيامة والبعث، والحساب والجزاء {حَقٍّ} واقع؛ لا مراء فيه
[ص:619] {فَيَقُولُ} لهما {مَا هَذَآ} الذي تقولانه {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أكاذيبهم(1/618)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب
{فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} قد مضت {مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} الكافرين(1/619)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
{وَلِكُلِّ} من جنس المؤمن والكافر {دَرَجَاتٌ} فدرجات المؤمنين في الجنة، ودرجات الكافرين في النار. والجنة درجات والجحيم دركات {مِّمَّا عَمِلُواْ} أي إن أعمالهم هي التي أوصلت كلا منهم إلى درجته التي يستحقها {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} الله تعالى {أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها(1/619)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} ليدخلوها؛ يقال لهم حينئذ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الباقية، بانصرافكم عن الإيمان، واشتغالكم بالملذات والشهوات. أو «أذهبتم طيباتكم» أذهبتم أعمالكم الطيبة؛ التي عملتموها في الدنيا: كالصدقة، وصلة الرحم، وأمثالهما {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} تمتعتم بما يقابلها؛ من صحة وسعة؛ وأصبح لا مقابل لها في الآخرة؛ وقد أوفاكم الله تعالى - لسعة فضله وكرمه - أجوركم عليها في دنياكم؛ فلم يبق لكم سوى الجحيم، والعذاب الأليم {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} على ما كسبتم من الكفر {عَذَابَ الْهُونِ} الهوان. وقرىء به {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تتكبرون(1/619)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} هو هود عليه السلام {بِالأَحْقَافِ} هو واد باليمن؛ وبه منازلهم {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} من بعده. وقرىء شاذاً: «من قبله ومن بعده» ولولا ذلك؛ لجاز العكس.(1/619)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
{لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب(1/619)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقت نزول العذاب {عَندَ اللَّهِ} فهو وحده ينزله متى شاء(1/619)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للعذاب {عَارِضاً} العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي متجهاً إليها {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ} سحاب {مُّمْطِرُنَا} بعد محل، ومخصبنا بعد جدب. فقيل لهم: لا. ليس الأمر كما توهمتم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} من العذاب؛ وما هو إلا {رِيحٌ} عاتية {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: القائل لذلك هود عليه السلام؛ يؤيده قراءة من قرأ: قال هود {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}(1/620)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{تُدَمِّرُ} تهلك {كُلِّ شَيْءٍ} مرت عليه {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بقدرته وإرادته {فَأَصْبَحُواْ} بعد نزول العذاب بهم هلكى {لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} لتدل على ما حل بساحتهم. وذهب بعض الصوفية إلى أن المراد بمساكنهم: أجسادهم؛ بعد أن خلت من أرواحهم(1/620)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
{وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} المكانة: المنزلة والتمكن. أي ولقد مكناهم فيما لم نمكنكم فيه أو {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} لفجرتم أكثر من فجوركم، ولطغيتم أكثر من طغيانكم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً}
كسمعكم {وَأَبْصَاراً} كأبصاركم {وَأَفْئِدَةً} قلوباً كقلوبكم، وعقولاً كعقولكم {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ} أنهم قد أصموا أسماعهم عن الاستماع إلى الهدى، وأعموا أبصارهم عن رؤية الحق، وأقفلوا قلوبهم عن تفهم الإيمان؛ و {كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ينكرون حججه البينات، ودلائل قدرته الظاهرات {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} وهو العذاب الذي كانوا ينكرون حدوثه(1/620)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} أي أهلكنا أهلها: كعاد وثمود، وقوم لوط، ونحوهم؛ مما كان يجاور بلاد الحجاز، وأخبارهم متواترة ذائعة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ} بينا الحجج والعظات والدلالات، وكررناها عليهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم(1/620)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
{فَلَوْلا} فهلا {نَصَرَهُمُ} أي دفع العذاب عن أهل هذه القرى المهلكة {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {قُرْبَاناً آلِهَةَ} معه؛ وهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} غابوا عنهم، وعن نصرتهم؛ عند نزول العذاب {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} كذبهم. والإفك: أسوأ الكذب(1/620)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} أملناهم إليك. والنفر: ما دون العشرة. وكانوا من جن نصيبين باليمن - وهي قاعدة ديار ربيعة - أو جن نينوى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا مجلس الرسول وقت تلاوة القرآن {قَالُواْ} لبعضهم {أَنصِتُواْ} اسكتوا؛ لنستمع لما يتلى ونتفهمه {فَلَمَّا قَضَى} أي فرغ الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القراءة {وَلَّوْاْ} انصرفوا مسرعين
[ص:621] {إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مخوفين لهم بالعذاب الذي سمعوه، والذي أعده الله تعالى لمن يكفر به، ولا يصدق بكتابه. قالوا لقومهم(1/620)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً} يعنون القرآن الكريم {أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الواضح {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه. وهل أقوم من الإسلام، وأهدى من الإيمان؟(1/621)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
{يقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} رسوله الذي يدعو إليه، وإلى دينه القويم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} التي اقترفتموها قبل إيمانكم؛ لأن الإيمان يجبّ ما قبله {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذهب كثيرون إلى أن الجن ثوابهم: أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً؛ فيكونوه؛ كالبهائم تماماً. وذهب آخرون إلى أنهم كما يعاقبون على سيئاتهم: يثابون على حسناتهم. وهذا القول أولى بالصواب وأجدر بالعدالة الإلهية، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} بعد مخاطبته للجن والإنس بقوله {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}(1/621)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضَ} أي لن يعجز الله بالهرب من بطشه وعقوبته {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَاءَ} أنصار يمنعونه عذاب الله تعالى، أو يدفعون عنه عقابه
{أُوْلَئِكَ} الذين لم يجيبوا داعي الله {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} الضلال: ضد الهدى. ويطلق أيضاً على الحيرة، والموت(1/621)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
{وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي لم يتعب، ولم يعجز {بَلَى} أي نعم هو قادر على بعث الموتى وإحيائهم(1/621)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أي يقال لهم: أليس هذا العذاب هو الحق الذي تستحقونه، وقد استوجبتموه بكفركم، وقد جئناكم في الدنيا بأنبائه؛ فلم تؤمنوا بوقوعه(1/621)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ} ذووا الجد والثبات والصبر {مَّنَ الرُّسُلِ} الذين تقدموك {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي لا تستعجل العذاب لقومك {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب يوم القيامة {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وذلك لشدة ما يلقون من هول القيامة {بَلاَغٌ} أي هذا القرآن «بلاغ» من الله تعالى إليكم.(1/621)
سورة محمد عليه الصلاة والسلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/622)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
{وَصَدُّواْ} منعوا وصرفوا {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحبطها وأبطلها؛ وذلك كإطعام الطعام؛ ولين الكلام، وصلة الأرحام، وبر الأيتام؛ فلا يجدون ثواباً لذلك في الآخرة؛ لأن الله تعالى عجل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا(1/622)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
{كَفَّرَ عَنْهُمْ} غفر لهم ذنوبهم، ومحا {سَيِّئَاتِهِمْ} في الآخرة {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} في الدنيا؛ فتجد المؤمن - وقد تلفع بالفقر، وتسربل بالمصائب - هادىء البال، قرير العين، مطمئن القلب، ساكن النفس(1/622)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
{ذَلِكَ} الإضلال والإحباط، والتكفير والإصلاح {بِأَنَّ} بسبب أن {الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ} ولم يجيبوا داعيالله؛ فاستحقوا الإضلال {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} فاستوجبوا تكفير ذنوبهم، وإصلاح بالهم {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} فالكافر يحبط عمله، والمؤمن يغفر زلله(1/622)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في ساحة القتال {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي فاضربوا رقابهم واقتلوهم {حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل. والإثخان: المبالغة في الجراحة والتوهين {فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} أي فأسروهم. قال تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي حتى يبالغ في النيل من أعداء الله والبطش بهم؛ ليشرد بهم من خلفهم، وليكونوا عبرة لغيرهم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي فإما أن تمنوا على الأسرى بالإطلاق؛ فتكون لكم يد عليهم، وجميل في أعناقهم {وَإِمَّا فِدَآءً} وإما أن تأخذوا منهم الفدية {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي تضع أثقالها؛ من السلاح وغيره؛ بأن يسلم الكفار، أو يدخلوا في العهد
{وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لأهلكهم بغير قتال {وَلَكِن} جعل عقوبتهم في القتال {لِّيَبْلُوَ} ليختبر {بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليعلم المجاهدين والصابرين(1/622)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي التي عرفها لهم، وبشرهم بها في الدنيا على لسان رسله(1/623)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ} أي تنصروا دينه ورسله وتعاليمه. ومن نصرة الله تعالى: إقامة الحق، وعدم كتمان الشهادة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {يَنصُرْكُمْ} على أعدائكم، وعلى أنفسكم، وعلى الشيطان الرجيم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} عند مجاهدة العدو، ومجاهدة النفس(1/623)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} أي هلاكاً وخيبة(1/623)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{ذَلِكَ} الهلاك والخيبة {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} كرهوا القرآن، وما اشتمل عليه من شرائع وتكاليف، وأوامر ونواه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكفار(1/623)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم هلاك استئصال {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي أمثال عاقبة من قبلهم من العذاب والتدمير(1/623)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
{ذَلِكَ} الإحباط والتدمير {بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ} وليهم وناصرهم، وحافظهم، وكافلهم؛ لأنهم يتوكلون عليه، وينيبون إليه {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} ينصرهم؛ أو يحفظهم؛ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ووكلهم إليها وإلى شياطينهم(1/623)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} التي تأكل وهي غير عابئة بعاقبتها، ولا حاسبة لمآلها حساباً. ومآلها النحر والذبح والمهانة
{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أي منزل ومقام ومصير(1/623)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم من قرية. والمراد بالقرية أهلها {مِّن قَرْيَتِكَ} مكة(1/623)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة، وبرهان ظاهر. وهو المؤمن {كَمَن زُيِّنَ} زينت {لَهُ} نفسه وشيطانه {سُوءُ عَمَلِهِ} وهو الكافر {وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ} ولم يتبعوا ربهم(1/624)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
{مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} غير متغير الطعم، أو الرائحة، أو اللون؛ كماء الدنيا {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي ليست كخمر الدنيا: رديئة الطعم، شنيعة الرائحة {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا تشوبه شائبة. قد يقول قائل: وما لذة تناول العسل لمن لا يتقبله في الدنيا؛ أو لا يطيق الإكثار منه؟ والجواب على ذلك: أن الله تعالى ساق لعباده في جنته كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؛ وقد تعاف بعض النفوس ما يشتهى، وتتأذى بعض العيون بما يتلذذ به:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
وحينما تشتفي النفوس من أمراضها، والأعين من أرمادها؛ فإنها تعود إلى طبيعتها السليمة: فتشتهي ما يشتهى، وتلذ بما يتلذذ منه. والعسل من أفضل أنواع الحلوى: مذاقاً، ولوناً، وريحاً، ونفعاً {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والمغفرة خير من سائر النعيم وهذا مثل المؤمن وما يلقاه من كرم مولاه أما مثل الكافر {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي أمن هو خالد في النعيم المقيم؛ كمن هو خالد في العذاب الأليم؟ {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} بالغاً نهاية الحرارة(1/624)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
{وَمِنْهُمْ} أي من الكفار والمنافقين {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تقرأ القرآن، أو تخطب للجمعة، أو تعظ المؤمنين {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وممن آمن من أهل الكتاب {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي ماذا قال الآن {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} غطاها عقوبة لهم؛ فلا تسمع ولا تعي(1/624)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ} بهداية الله ورسوله وكتابه {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} أي آتاهم جزاء تقواهم؛ أو ألهمهم من الأعمال ما يتقون به غضبه وناره(1/624)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
{فَهَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ السَّاعَةَ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة {أَشْرَاطُهَا} علاماتها {فَأَنَّى لَهُمْ} فكيف لهم {إِذَا جَآءَتْهُمْ} الساعة {ذِكْرَاهُمْ} تذكرهم. أي لا ينفع تذكرهم وإيمانهم بعد مجيء الساعة، أو مجيء أشراطها؛ حيث لا يقبل اعتذار، ولا استغفار(1/624)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} إشارة إلى أن العمل يكون بعد العلم؛ كما في قوله جل شأنه: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وقال بعد ذلك {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}.
[ص:625] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} سيركم وسعيكم في معايشكم ومتاجركم {وَمَثْوَاكُمْ} مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. أو «متقلبكم» أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» جزاءكم في الآخرة. والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه تعالى شيء منها(1/624)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
{لَوْلاَ} هلا {مُّحْكَمَةٌ} أي غير متشابهة؛ بل واضحة لا تحتمل التأويل. وقيل: كل سورة نزل فيها القتال فهي محكمة لم ينسخ منها شيء. وذلك لأن القتال ناسخ للصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شك؛ وهم المنافقون {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} لشدة جبنهم، ومزيد خوفهم {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وذلك لأن الميت يشخص بصره كالمذعور {فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد ووعيد. أو المعنى: فخير لهم(1/625)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
{طَاعَةٌ} لك {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} للمؤمنين {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي فرض القتال ووجب {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ} وجاهدوا في سبيله. واتبعوا أوامره {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} من القعود عن الجهاد، والنكوص والنفاق؛ لأن نتيجة الجهاد: الاستشهاد - وهو الفوز الأكبر - أو الظفر والغنيمة(1/625)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} الأمر والحكم، أو «إن توليتم» بمعنى أعرضتم عن الإيمان والطاعة {أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بالعصيان، والقتل، والظلم، وأخذ الرشوة {وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تعادوا أهليكم ولا تبروهم(1/625)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
{أُوْلَئِكَ} الذين تعاموا عن الحق، وأفسدوا في الأرض: هم {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الهدى {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} عن الصراط المستقيم(1/625)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فيعرفون ما فيه {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى، ولا يصل إليها الذكر(1/625)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
{سَوَّلَ} زين {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي مد لهم في الآمال والأماني، أو أملى لهم الشيطان الكفر والفسوق والعصيان(1/625)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
{ذَلِكَ} الإضلال الواقع عليهم {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي للمشركين؛ لأنهم كرهوا القرآن الكريم، وكرهوا الاستماع إليه. قالوا لهم {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} أي في عداوة الرسول، وتثبيط الناس عن الجهاد معه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ما أسروه من ذلك فيما بينهم(1/625)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
{فَكَيْفَ} بهم {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} يعني إذا لم يصبهم العذاب في الدنيا؛ فإن الموت لاحق بهم لا محالة. فكيف يكون حالهم عند الموت، والملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ظهورهم. والمراد أن العذاب ينزل حينذاك على سائر أعضائهم(1/625)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} عليهم {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي كرهوا العمل بما يرضيه {فَأَحْبَطَ} أبطل {مَّرَضٌ} شك ونفاق(1/626)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
{يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} يظهر أحقادهم على الرسول وعلى المؤمنين(1/626)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
{وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} على حقيقتهم {فَلَعَرَفْتَهُم} عرفت سرائرهم، كما عرفت ظواهرهم {بِسِيمَاهُمْ} بعلاماتهم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فحواه ومعناه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ما خفي منها وما ظهر، وما أريد به وجهه الكريم، وما أريد به الفخر والمراءاة(1/626)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم بالقتال {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نعلم ونظهر أسراركم، وخفايا قلوبكم(1/626)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
{وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَشَآقُّواْ} خاصموا وخالفوا {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} ظهرت شواهده، وبانت دلائله؛ وهل بعد إرسال الرسل بالمعجزات، والكتب بالبينات، وإنزال الآيات تلو الآيات. هل بعد جميع ذلك تحتاج معرفة الله تعالى إلى تبيان أو برهان؟ {وَسَيُحْبِطُ} يبطل(1/626)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
{وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} بالمعاصي، والنفاق، والرياء(1/626)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
{وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينه، والجهاد في سبيله(1/626)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
{فَلاَ تَهِنُواْ} تذلوا وتجبنوا {وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ} إلى الصلح بعد بدء القتال {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} الغالبون {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم(1/626)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فلا يحرص العاقل عليها، ولا يميل إليها؛ ولا يأسف على فقدها. إنما يكون الحرص على الآخرة وما فيها من أجر كبير غير ممنون {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} جميعها؛ بل زكاتها فقط. «ولا يسألكم أموالكم» أنتم؛ بل ماله هو الذي خلفكم عليه(1/627)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
{إِن يَسْأَلْكُمُوهَا} جميعاً {فَيُحْفِكُمْ} أي يجهدكم ويطلب ما يثقل عليكم {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي ويظهر أحقادكم على الإسلام والمسلمين(1/627)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من جزاء العطاء، ومن الأجر العظيم المعد للمنفقين {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} عنكم {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} إليه {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تعرضوا {يَسْتَبْدِلْ} الله تعالى {قَوْماً غَيْرَكُمْ} يستخلفهم في أرضه {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} في الكفر، والجحود، والبخل؛ بل يكونون مؤمنين، طائعين، منفقين، مسرعين في إجابة داعي الله(1/627)
سورة الفتح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/627)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} هو فتح مكة، وقيل الحديبية.
وقيل: خيبر(1/627)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} بسبب جهادك الكفار {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} خطاب للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته. لأنه معصوم من الذنوب حتماً بعد النبوة، مطهر منها، بعيد عنها قبل النبوة {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بتوالي الفتوح وإخضاع من تجبر، وطاعة من استكبر {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} يثبتك على الهدى؛ إلى أن يقبضك عليه(1/627)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} كبيراً عظيماً؛ لا ذل بعده(1/628)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} من الملائكة {وَالأَرْضِ} من الإنس والجن {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} بخلقه {حَكِيماً} في صنعه(1/628)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
{لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} أي إن إنزال السكينة: سبب في ازدياد الإيمان. وازدياد الإيمان: سبب في دخول الجنان {وَيُكَفِّرَ} يمحو {وَكَانَ ذَلِكَ} الدخول في الجنان. والقرب من الرحمن، وتكفير السيئات، وجزاء الحسنات {فَوْزاً عَظِيماً} ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل مرهوب(1/628)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} أي {أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ليزيدهم ثباتاً وإقداماً، و {لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً} بمصابرتهم على الجهاد، ومزيد يقينهم، وانتصارهملله ورسوله؛ وليعذب المنافقين بالذل، والأسر، والقتل؛ في الدنيا. وبالجحيم، والعذاب الأليم في الآخرة؛ بسبب نفاقهم وكفرهم {الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} وذلك أنهم ظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمداً كما وعده، ولن يدخله مكة ظافراً {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ}
الخزي والعذاب(1/628)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك؛ بل على سائر الأمم {وَمُبَشِّراً} من أطاعك وآمن بالجنة {وَنَذِيراً} لمن عصاك بالنار(1/628)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
{وَتُعَزِّرُوهُ} تنصروه. وقرىء «وتعززوه» {وَتُوَقِّرُوهُ} تحترموه. والتوقير: نهاية الإجلال والاحترام {وَتُسَبِّحُوهُ} الضمير في التعزير، والتوقير؛ للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والتسبيحلله تعالى. وقيل: الضمير في الكللله جل شأنه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} صباحاً ومساء. والبكرة: التبكير. والأصيل: ما بعد العصر إلى المغرب؛ وهو كقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}(1/628)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يريد تعالى أن يد الرسول التي تعلو أيدي المبايعين: هي يدالله؛ لأن الله تعالى منزه عن الجوارح، وعن صفات الأجسام. والمعنى: أن من بايع الرسول فقد بايعالله؛ كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أو يكون المعنى: يد الله في العطاء، فوق أيديهم في الوفاء. ويده في المنة، فوق أيديهم في الطاعة.
وقد ذهب المجسمة - أخزاهم الله تعالى - إلى أنلله جل شأنه من الجوارح ما للإنسان. وأن كل ما في القرآن من صفاته تعالى: على ظاهرها: كاليد، والرجل، والعين، والأذن، والقيام، والجلوس، والمشي، وغير ذلك. وهو قول أجمع السلف الصالح على بطلانه، وفساده. ونرى تكفير قائله: لاستهانته بقدر مولاه سبحانه وتعالى {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {فَمَن نَّكَثَ} نقض البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} لأن إثم نقضه يعود عليه، ويعاقب بسببه(1/629)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} وهم الذين تخلفوا عن الجهاد {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي لم تشغلهم الأموال والأهل؛ بل شغلهم الجبن والخوف، ولم يطلبوا الاستغفار، رغبة في الاعتذار؛ بل أرادوا به النفاق، وهم كاذبون في استغفارهم، كافرون في قرارة نفوسهم {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} فهل يستطيع أحد أن يدفعه؟ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} فهل يستطيع أحد أن يمنعه؟(1/629)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ} لن يرجع {الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ} من القتال {إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} بل إنهم يستأصلون بالقتل والتشريد {ظَنَنْتُمْ} بالله {ظَنَّ السَّوْءِ} وأنه لن ينصر رسله {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى(1/629)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
{فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا(1/629)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما، ومن فيهما {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أي إنه تعالى غني عن عباده؛ يثيب من آمن، ويعذب من كفر {وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ}(1/629)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلفوا عن الجهاد لنفاقهم
{إِذَا انطَلَقْتُمْ} في جهادهم {إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} هي مغانم خيبر {ذَرُونَا} دعونا {نَتَّبِعْكُمْ} في أخذ هذه المغانم {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} وعده لأهل الحديبية؛ وقد وعدهم غنائم خيبر خاصة؛ عوضاً عن فتح مكة؛ إذ رجعوا من الحديبية على صلح، ولم يفوزوا منها بغنيمة. وقيل: {يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} يغيروه؛ وقد قال: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً}
[ص:630] {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي لم يقل الله ذلك؛ بل تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم؛ وقد أراد الله تعالى أن يعطي المنافقين فرصة أخيرة تؤمنهم عذابه، وتجنبهم غضبه، وتدنيهم من رحمته: فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام(1/629)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
{قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ} الذين تخلفوا عن الجهاد {سَتُدْعَوْنَ إِلَى} محاربة {قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أصحاب قوة عظيمة. قيل: هم بنو حنيفة. وقيل: فارس والروم {تُقَاتِلُونَهُمْ} فتقتلونهم وتأسرونهم {أَوْ يُسْلِمُونَ} فتمسكوا عن قتالهم وأسرهم، ويكون لهم ما للمسلمين: من تكريم وإعظام {فَإِن تُطِيعُواْ} الله والرسول في جهادكم حال كفرهم، وتكريمهم حال إسلامهم {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} النصر والغنيمة في الدنيا. والجنة وحسن الثواب في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تعرضوا عن الجهاد {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} وتخلفتم {يُعَذِّبْكُمْ} الله {عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا بالذلة والمهانة، وفي الآخرة بالجحيم، والعذاب الأليم(1/630)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
{لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} في التخلف عن الجهاد؛ لأذن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها
{وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ} الذي لا يستطيع الجهاد لمرضه {حَرَجٌ} أيضاً في التخلف. هذا ولا يسمى الصداع، أو الحكة، أو ما شابههما، مرض يعوق عن الفريضة العظمى: التي ترفع الرؤوس، وتحفظ النفوس، وتصون الديار، وتحمي الذمار وإنما المرض العائق، الداعي للتخلف: هو ما يمكن الخصم من النيل منك، ويمنعك من الدفاع عن نفسك: كالعمى، والعرج، والمرض الذي يزيد الجهاد في وطأته، ويودي إلى التهلكة {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويجاهد في سبيله: يؤته في الدنيا عزة ورفعة، و {يُدْخِلْهُ} في الآخرة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الجهاد؛ فله جهنم وبئس المهاد(1/630)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
{لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} يعاهدونك بالحديبية: على الجهاد، وبذل النفس والنفيس؛ في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبسط دينه، ونصرة نبيه {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هي سمرة كانوا يستظلون بها وقتذاك. وقد قطعها عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى - بعد رفع الرسول عليه الصلاة والسلام - طواف المسلمين بها، وتعظيمهم لها؛ وهم حديثو عهد بالجاهلية وعبادة الأصنام {فَعَلِمَ} الله تعالى {مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الإيمان، والصدق، والوفاء {فَأنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة {وَأَثَابَهُمْ} جازاهم {فَتْحاً قَرِيباً} نصراً عاجلاً؛ اطمأنت به قلوبهم: وهو فتح خيبر؛ عند انصرافهم من الحديبية(1/630)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} بعد ذلك؛ من فارس والروم. أو هي مغانم خيبر: وقد غنموا منها أموالاً وعقاراً، وعتاداً. و(1/630)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ} أيضاً {مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} غير هذه المغانم {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} لتطمئن قلوبكم
[ص:631] {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
بأن قذف في قلوب اليهود الرعب؛ فلم يحاربوكم، ولم يمسوا أموالكم ولا أهليكم بالمدينة عند خروجكم إلى خيبر والحديبية {وَلِتَكُونَ} هذه الغنائم المعجلة {آيَةً} علامة {لِّلْمُؤْمِنِينَ} على صدق وعد الله تعالى؛ وليعلموا أن الله تعالى قد حرسهم في مشهدهم ومغيبهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} هو طريق الطاعة الموصل إلى مرضاته تعالى(1/630)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
{وَأُخْرَى} أي ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} أي ما كان لكم أن تقدروا عليها؛ لولا نصره تعالى ومعونته؛ وهي مغانم هوازن. وقيل: فارس والروم؛ أو هما معاً {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي علم وقدر أنها ستكون لكم، وأقدركم عليها بفضله لا بقوتكم(1/631)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ} بالحديبية؛ ولم يصطلحوا {لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ} لأن الله تعالى قد قضى بنصرتكم عليهم: محاربين أو مسالمين(1/631)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
{سُنَّةَ اللَّهِ} أي سن الله تعالى سنة وطريقة؛ وهي إعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين {الَّتِي قَدْ خَلَتْ} قد مضت(1/631)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} فلم يقاتلوكم {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} فلم تقاتلوهم {بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} قيل: هبط ثمانون رجلاً؛ من أهل مكة: شاكي السلام؛ يريدون غرة المؤمنين والفتك بهم. فرآهم المؤمنون، وأمسكوهم بالأيدي. وبعد ذلك أمر النبي بإخلاء سبيلهم؛ وسموا بذلك العتقاء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أعتقهم من القتل؛ وكان من بينهم معاوية وأبوه(1/631)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني قريشاً {وَصَدُّوكُمْ} منعوكم {عَنِ} بلوغ {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} عام الحديبية؛ وقد أحرم المؤمنون بعمرة {وَالْهَدْيَ} هو ما يهدى إلى الحرم من البُدُن {مَعْكُوفاً} محبوساً بفعل المشركين
{أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مكانه الذي ينحر فيه عادة؛ وهو الحرم {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} موجودون بمكة مع المشركين؛ وهم المستضعفون {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم، أو لم تعلموا إيمانهم {أَن تَطَئُوهُمْ} تقتلوهم خطأ مع الكفار {مَّعَرَّةٌ} إثم وعيب. أي لولا ذلك؛ لأن الله لكم في دخول مكة، والفتك بمن فيها. ولعل المراد {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} في أصلاب هؤلاء الكفار «لم تعلموهم» والله تعالى يعلمهم «أن تطئوهم» بقتل من هم في أصلابهم «بغير علم» منكم بما فعلتم. لولا ذلك لأذن الله تعالى لكم في قتلهم؛ وذلك {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} من هؤلاء الذراري المؤمنين {لَوْ تَزَيَّلُواْ} تفرقوا، وتميزوا عن الكفار، وخرجوا من أصلابهم إلى عالم الظهور {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من أهل مكة، وأبحنا لكم فتحها وقتال من فيها(1/631)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الكبر والأنفة، والغلظة والعصبية
[ص:632] {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وهي أنهم قالوا: لقد قتلوا أبناءنا وإخواننا؛ ثم يدخلون علينا في منازلنا؟ واللات والعزى لا يدخلنها أبداً {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينته {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى: لأنها سببها {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} أحق بكلمة التقوى؛ لأنهم سمعوها واتبعوها؛ فكانوا أحق بها من كفار مكة؛ الذين أصموا آذانهم عن استماعها، وقلوبهم عن قبولها {وَأَهْلَهَا} أي وكانوا أهل هذه الكلمة؛ المستوجبين لفضلها، الحائزين لشرفها(1/631)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} رأى رسولالله في المنام - عام الحديبية - أنه يدخل مكة هو وأصحابه: محلقين ومقصرين؛ فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا. وقد تحققت الرؤيا بفتح مكة (انظر آية 60 من سورة الإسراء)
{لاَ تَخَافُونَ} من أحد {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي فعلم من تأخير دخولكم مكة؛ ما لم تعلموه من الخير لكم، والصلاح لأحوالكم {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي جعل من قبل فتح مكة «فتحاً قريباً» عاجلاً؛ هو فتح خيبر(1/632)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
{لِيُظْهِرَهُ} أي ليعلى الإسلام {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على سائر الأديان(1/632)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} إلينا؛ فضلاً من الله علينا (انظر آية 4 من سورة القلم) {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين {أَشِدَّآءُ} غلاظ أقوياء {عَلَى الْكُفَّارِ} وليست الغلظة والشدة من صفاتهم؛ بل هم {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} يرحم كبيرهم صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم {سِيمَاهُمْ} علامتهم {فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} هو نور الإيمان يلوح في وجه المصلي؛ فتراه كالبدر ليلة التمام - رغم رقة حاله، ورثاثة هيأته - فترى الزنجي الأسود - رغم فقره وقبحه - يتلألأ وجهه ضياء، ويزداد حسناً وبهاء؛ لملازمته الصلاة، وتذلله لمولاه وترى العاصي - رغم وجاهته وغناه - على وجهه غبرة، ترهقها قترة وما ذاك إلا لتركه الجماعة، وانصرافه عن الطاعة. ولا وجه لمن يقول: إن أثر السجود هو النكتة السوداء التي تحدث في وجوه البعض من أثر السجود على الحصير ونحوه؛ فمثل ذلك قد يحدث لكثير ممن يلازمون الصلاة، ويفرطون في جنب الله فكم من مصلٍ لا يأتمر بمعروف، ولا ينتهي عن منكر وكم من مصل يلغ في أعراض المؤمنين، ولا يتقي رب العالمين وكل هؤلاء لهم في جباههم من آثار السجود كركبة البعير أو أشد؛ وهم أبعد الناس عن مغفرةالله، وعن جنة الله {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ} أي ذلك الوصف المذكور صفتهم {فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ} صفتهم {فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فراخه وورقه. يقال: أشطأ الزرع: إذا أفرخ {فَآزَرَهُ} قواه وأعانه {فَاسْتَغْلَظَ} غلظ وقوى {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} استقام على أصوله. وهذا مثل ضربه الله
[ص:633] تعالى للإيمان؛ حيث بدأ ضعيفاً، ثم قوي. عن عكرمة «أخرج شطأه» بأبي بكر «فآزره» بعمر «فاستغلظ» بعثمان «فاستوى على سوقه» بعلي؛ رضوان الله تعالى عليهم {يُعْجِبُ} هذا الزرع {الزُّرَّاعَ} وهم أصحاب محمد؛ الذين نصروا الدين ونشروه، وأيدوا دعوة الله باللسان والسنان {لِيَغِيظَ} الله تعالى {بِهِمُ الْكُفَّارَ} ويكبتهم.(1/632)
سورة الحجرات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/633)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
{يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تقدموا قولاً من الأقوال، أو عملاً من الأعمال؛ بغير موافقة ذلك لما أراده الله تعالى ورسوله أو لا تتقدموا في العبادات عن مواقيتها المحددة لها(1/633)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
{وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا تخاطبوه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} كمخاطبة بعضكم بعضاً {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} أي لئلا تبطل أعمالكم. وفي هذا ما فيه من الحث على توقير العلماء - الذين هم ورثة الأنبياء - وتعظيم الأتقياء والصلحاء؛ أسوة بتوقير سيد الأنبياء {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} يخفضونها تعظيماً لرسولالله. وفي هذه الآيات من علو شأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى وقد أجمع العلماء - قياساً على ذلك - على أنه لا يجوز رفع الصوت عند تلاوة حديثه الشريف، ولا عند قبره المعظم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} اختبرها {لِلتَّقْوَى} وأخلصها: طهرهم من كل قبيح، وهيأهم لكل مليح، وأسكن قلوبهم محبته وخشيته(1/633)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
{إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لا يفهمون عظيم قدرك، وكبير مقامك(1/633)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} بغير مناداة لك {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} من غير إزعاج. وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام ليس كسائر البشر؛ فربما كان ينزل عليه الوحي وقت ندائهم له، أو كان يناجي مولاه ويستغفر لأمته؛ وفي هذا من الخير العام ما لا يخفى؛ فضلاً عما في المناداة من سوء الأدب، وعدم المجاملة (انظر آية 30 من سورة الأحزاب)(1/634)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
{إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} أي فتثبتوا من قوله؛ وتبينوا صوابه من خطئه. والفاسق: العاصي. والعصيان: يشمل الكذب، والغيبة، والنميمة {أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا قوماً وأنتم تجهلون حقيقة أمرهم(1/634)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو يسمع وشاياتكم ويصغي لإرادتكم؛ لوقعتم في الجهد والهلاك. والعنت: الإثم، والمشقة، والهلاك
{وَلَكِنَّ اللَّهَ} لمزيد كرمه، وعميم فضله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} فاعتنقتموه {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} فتمسكتم به {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} فحاربتموه {وَالْفُسُوقَ} فاجتنبتموه {وَالْعِصْيَانَ} فلم تقربوه {أُوْلَئِكَ} الذين حبب إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان {هُمُ الرَّاشِدُونَ} العقلاء، الأذكياء؛ لأنهم قبلوا الإيمان: فحببه الله إليهم، وزينه في قلوبهم. واتبعوا مرضاتالله: فباعد بينهم وبين معاصيه(1/634)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
{فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} اختصهم به {وَنَعْمَةٍ} منه تعالى أسبغها عليهم(1/634)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
{فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} بأن ظلمتها، ونقضت الصلح، أو أبته {حَتَّى تَفِيءَ} ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى الحق الذي أمر به الله، وإلى الصلح الذي دعيت إليه {فَإِن فَآءَتْ} رجعت إلى أمر الله، وقبلت الصلح الذي فرضته عليها جماعة المسلمين وتوقفت عن بغيها واعتدائها {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} الذي يرتضيه الله تعالى {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا في كل أموركم(1/634)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} جميعاً {إِخْوَةً} لا يصح أن تقوم بينهم عداوة، ولا أن ينتصب بينهم قتال، ولا يجوز أن يكون بينهم تباغض؛ فكيف يختصمون؟ بل كيف يقتتلون؟ وإذا اختصموا أو اقتتلوا؛ فكيف تتركونهم على هذه الحال؟
[ص:635] {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} والسعي في الصلح: واجب على كل مسلم يمكنه السعي فيه؛ وهو يبلغ حد الفريضة، وتركه يبلغ حد الكبيرة وتاركه - مع القدرة على القيام به - عاص مولاه، آثم في حق المروءَة والإنسانية، وليس من حقه أن ينتسب للأمة المحمدية؛ بل للأسرة الآدمية(1/634)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» أي لأجاب سؤاله. والسخرية بالغير من أحط الأخلاق، وهي موجبة للمقت وغضب الرب؛ عافانا الله تعالى من غضبه وعذابه {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا تطعنوا في إخوانكم في الدين؛ وعبر بذلك لأن سائر المؤمنين كنفس واحدة. واللمز: العيب. وأصله الإشارة بالعين ونحوها {وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ} النبز: اللقب. أي لا يدع بعضكم بعضاً باللقب الذي يكرهه {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ} كانوا يعيرون من كان فاسقاً في الجاهلية بمناداتهم له: يا فاسق. فنزلت: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عن اللمز والتنابز(1/635)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} السيىء بالناس {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ليس المراد بالنهي عن الظن: الظن العابر؛ الموجب للحيطة والحذر. والذي عناه الشاعر بقوله:
لا يكن ظنك إلا سيئاً
إن سوء الظن من أقوى الفطن
وإنما نهى تعالى عن الظن الذي يمليه الشيطان وينميه حتى يصيره حقيقة واقعة: كمن يظن أن فلاناً يكرهه ويبغي الكيد له؛ فيسرع هو إلى بغضه والكيد له. وقد يكون بريئاً من البغض، بعيداً عن الكيد. وكمن يظن فيمن أتى لزيارته أنه إنما أتى لقتله؛ فيعمل بهذا الظن كأنه حقيقة واقعة. وربما كان هذا الزائر قد جاء للاعتذار عن هفوة ارتكبها، أو للاستغفار من ذنب أتاه. لذلك نهانا الشارع الحكيم عن العمل بالظن؛ لما يترتب عليه من نتائج سيئة، وعواقب وخيمة. وكذلك نهينا في الأحكام عن الأخذ بالظن؛ فإذا ما قضى قاض، أو حكم حاكم بما ينحط إلى مرتبة الظن، ولا يرتقي إلى مرتبة اليقين: فهو ظالم آثم فليحذر الذين ولاهم الله تعالى أمور العباد من الوقوع في هذه المخاطر، والانزلاق في هذه المهالك
قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» ولم يكن النهي عن نفس الظن المعلوم؛ لأنه خواطر لا يملك الإنسان منعها، ولا يستطيع دفعها. والأمر والنهي لا يوردان إلا بتكليف المستطاع من الأمور {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تتتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكره.
وفي الحديث: «إذا ذكرت أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه
[ص:636] فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} شبه تعالى الغيبة بأكل لحم الأخ - حال كونه ميتاً - وإذا كان الإنسان يكره أن يأكل لحم الإنسان؛ فضلاً عن كونه أخاً، وكونه ميتاً: وجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة.
ولا يفوتني - بمناسبة هذه الآية الكريمة - أن أقرر أن الغيبة الآن منتشرة بحيث لا يخلو منها مجلس، وقد أصبح الناس لا يشعرون بقبحها، ولا يحسون بإثمها، وأنها كبيرة - بل ومن أكبر الكبائر - فليتحاش ذلك من يرجو رحمة ربه، وليستغفر لذنبه(1/635)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
{لِتَعَارَفُواْ} لتتعارفوا وتتعاونوا، وتتحابوا (انظر آية 8 من سورة النساء) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لم يقل تعالى: إن أكرمكم عند الله أجملكم، أو أفضلكم نسباً وحسباً، أو أعلمكم؛ بل قال «أتقاكم» قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} (انظر آيتي 88 من سورة الحجر. و22 من سورة الروم)(1/636)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{وَلَمَّا يَدْخُلِ} ولم يدخل {لاَ يَلِتْكُمْ} لا ينقصكم {مَنِ} جزاء {أَعْمَالَكُمْ} التي عملتموها حقاً؛ هم(1/636)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
{الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إيماناً يقينياً {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكوا(1/636)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم(1/636)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} بغير قتال؛ بخلاف غيرهم الذي لم يسلم إلا بعد محاربته {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} لأن فائدته عائدة إليكم وعليكم {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} وأنجاكم من الكفران {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: آمنا(1/636)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ما غاب فيهما عن العيان. والعالم بما يغيب: أعلم وأخبر بما يظهر.(1/636)
سورة ق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/636)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الكريم العظيم؛ ذي المجد والشرف أقسم تعالى بالقرآن المجيد أنه أنزله على رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فأنذرهم به فلم يؤمنوا، وأكد لهم البعث فلم يصدقوا(1/636)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
{بَلْ عَجِبُواْ} حيث لا عجب {أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي من أنفسهم ومن جنسهم
[ص:637] {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا} الذي يقوله محمد من أمر البعث {شَيْءٌ عَجِيبٌ} لا يعقل {أَإِذَا مِتْنَا} ودفنا في قبورنا {وَكُنَّا} صرنا {تُرَاباً} وعظاماً: أنحيا بعد ذلك، ونعود من جديد كما كنا؟ {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي ذلك الرجوع والإحياء أمر مستبعد(1/636)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ} أي ما تأكله من لحومهم، وتبليه من أجسادهم {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} هو اللوح المحفوظ؛ يحفظ ما عملوا وما هم عاملون، وما قالوا وما هم قائلون. ولم يكن الأمر قاصراً على العجب من بعثة محمد فحسب(1/637)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{بَلْ} كان ينصب على ما هو أفحش وأقبح؛ لقد {كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن وما اشتمل عليه من الحق {لَمَّا جَآءَهُمْ} على لسان محمد {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي أمر مضطرب؛ فتارة يقولون عن القرآن: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} وتارة يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وتارة يقولون عن سيد البشر: إنه ساحر، إنه شاعر. وما هو بساحر ولا بشاعر(1/637)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} هؤلاء الجهلاء {إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بغير عمد {وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} شقوق تعيبها(1/637)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بسطناها، ومهدناها للسير عليها، والانتفاع بها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}
جبالاً ثوابت؛ لئلا تميد بهم {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل صنف حسن اللون، والمنظر، والمخبر(1/637)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
{تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة لكم {وَذِكْرَى} تذكيراً بقدرة ربكم {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه في كل أموره(1/637)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي بساتين وفواكه، والحب الذي يحصد: كالحنطة، والشعير، وما شاكلهما(1/637)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي طوالاً. وبسق النخل: طال {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} متراكم؛ بعضه فوق بعض(1/637)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بالماء {بَلْدَةً مَّيْتاً} مجدبة؛ لا نبات فيها ولا زرع {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي مثل إحيائنا الأرض بالنبات: نحيي الموتى، ونخرجهم بعد فناء رسومهم، وبلاء أجسادهم(1/637)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
{وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} الرس: البئر المطوية بالحجارة. وهو اسم بئر؛ كانوا حولها وقت نزول العذاب بهم. وقيل: هم أصحاب الأخدود {وَثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام(1/637)
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
{وَعَادٌ} قوم هود عليه السلام(1/637)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
{وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} وهي الغيضة: مجتمع الشجر؛ وهم قوم شعيب عليه السلام {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} هو ملك باليمن: أسلم ودعا قومه للإسلام فكذبوه. و «تبع» اسم لكل من ملك اليمن؛ وسموا التبابعة {كُلِّ} من هؤلاء الأمم المذكورة {كَذَّبَ الرُّسُلَ} التي أرسلناها {فَحَقَّ} وجب
[ص:638] {وَعِيدِ} عذابي الذي أوعدتهم به(1/637)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{أَفَعَيِينَا} أفعجزنا. يقال: عيي بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله {بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} خلقتهم أول مرة {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث(1/638)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي نعلم خواطره وهواجسه. لأنه تعالى {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هو مثل لشدة القرب. والوريدان: عرقان في باطن العنق: يموت الإنسان والحيوان بقطع أحدهما(1/638)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} هما الملكان الملازمان لكل إنسان؛ لكتابة ما يصدر عنه من خير أو شر {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي قاعدان؛ أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله(1/638)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
{مَّا يَلْفِظُ} ما ينطق {رَقِيبٌ} مراقب لأقواله وأفعاله {عَتِيدٌ} حاضر(1/638)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي شدته وغمرته؛ وهي الغرغرة {بِالْحَقِّ} أي جاءت بسعادة الميت أو شقاوته. فقد ورد أنه في هذه الحال يرى مقعده من الجنة، أو من النار. أو {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي جاءت بأمر الله تعالى، وسلطانه، وقهره، وجبروته {ذَلِكَ} الموت {مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تهرب من ملاقاته؛ لشعور عقلك الباطن بما أعد لك من عقاب(1/638)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} القرن؛ وهي نفخة البعث {ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ} للكفار بالعذاب(1/638)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
{وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنة أو كافرة {مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} هما ملكان: أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بما فعل. ويقال للكافر وقتذاك(1/638)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ} في الدنيا {مِّنْ هَذَا} العذاب النازل بك اليوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} أزلنا غفلتك، وأريناك عياناً ما كنت تنكره وتكذب به {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} من الحدة؛ أي قوي: تشاهد به اليوم ما خفي عليك بالأمس؛ من البعث والحساب(1/638)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
{وَقَالَ قَرِينُهُ} أي شيطانه المقارن له في الدنيا. أو المراد بقرينه: الملك الذي يسوقه إلى المحشر {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي هذا الذي عندي حاضر ومهيأ للنار(1/638)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ}
يقول ذلك رب العزة؛ مخاطباً السائق والشهيد(1/638)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
{مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} ظالم، شاك في الله وفي دينه(1/638)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
{قَالَ قرِينُهُ} الشيطان المقارن له في الدنيا؛ يقول متبرئاً من إضلاله وإغوائه {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} بنفسي {وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} وذلك كقوله تعالى: «إن كيد الشيطان كان ضعيفاً»(1/638)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
{وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم} في الدنيا؛ في كتبي، وعلى لسان رسلي {بِالْوَعِيدِ} بالعذاب الذي ترونه الآن؛ وقد أنكرتموه وكذبتم به في الدنيا(1/639)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي لا يبدل قولي الذي قلته على لسان رسلي؛ من إدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} حين أحاسبهم على ما جنوه، وأعاقبهم على ما ارتكبوه؛ بل هم الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها لغضبي وعذابي(1/639)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} هو على طريق المجاز: كناية عن سعتها، وأنها تسع سائر الكفار رغم كثرتهم(1/639)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
{وَأُزْلِفَتِ} قربت، وأعدت، وهيئت(1/639)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
{أَوَّابٍ} رجاع؛ كثير الذكرلله تعالى {حَفِيظٌ} حافظ لحدود الله تعالى(1/639)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
{ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ} الدائم؛ الذي لا موت بعده(1/639)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أي في الجنة {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} من الخير؛ فوق ما يشاءون، وما يطلبون(1/639)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} أي قبل قريش {مِّن قَرْنٍ} أمة {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} فتشوا فيها عن سبب يمنعهم من الموت {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} هل من مهرب من الموت؟ ومثل هؤلاء كمثل من يبحثون - في زمننا هذا - عن إطالة أعمارهم، وبقاء شبابهم. ولا ندري ماذا يكون بعد بقاء الشباب، وإطالة العمر؟ أيكون البقاء حيث لا بقاء، والخلود حيث لا خلود؟ وماذا ينفع الخلود في الدنيا؛ إذا لم تكن طريقاً للآخرة، وسبيلاً موصلاً إلى مرضاة الله تعالى(1/639)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} واع للإيمان؛ لأن من لا يعي الإيمان؛ كمن لا قلب له {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي أصغى إلى المواعظ واستمع لها، وعمل بها {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضر بقلبه(1/639)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} إعياء(1/639)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} أي عقب الصلوات يصيحها فيهم إسرافيل عليه السلام (انظر آية 53 من سورة يس)(1/640)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
{ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يوم البعث(1/640)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} يوم تتصدع الأرض؛ فتخرج الموتى مسرعين(1/640)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} تجبرهم على الإيمان قسراً {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} من يخشى عذابي.(1/640)
سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/640)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} الرياح تذرو كل شيء تمر به؛ كرمل وتراب ونحوهما؛ أي تفرقه وتبدده. وقيل: «الذاريات» النساء الولود؛ لأنهن يذرين الأولاد السحب تحمل الماء. وقيل: هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم وتجاراتهم، أو هي الحوامل من سائر النساء والحيوانات(1/640)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} السفن تجري ميسرة بإذن الله؛ تحمل المتاجر ليسر الخلق ورخائهم. أو هي السحب؛ تجري وتسير؛ إلى حيث أراد الله تعالى. أو هي الكواكب التي تجري في منازلها(1/640)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الملائكة التي تقسم الأرزاق بأمر الله تعالى. وقيل: الرياح؛ لأنها تقسم الماء بتصريف السحاب(1/640)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} به من البعث والحساب والجزاء {لَصَادِقٌ} واقع لا محالة(1/640)
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} الدين: الجزاء على الأعمال(1/640)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
{الْحُبُكِ} طرائق النجوم(1/641)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} هو قولهم في الرسول عليه الصلاة والسلام: ساحر، وشاعر، ومجنون(1/641)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يصرف عنه من صرف(1/641)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} الكذابون المفترون؛ ويصح أن يطلق على المنجمين(1/641)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} في جهل يغمرهم(1/641)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
{أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} متى يوم الجزاء(1/641)
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
{يُفْتَنُونَ} يحرقون ويعذبون(1/641)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} عذابكم الذي تستحقونه(1/641)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
{مَا يَهْجَعُونَ} ما ينامون(1/641)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} نصيب وافر؛ يرون إعطاءه حقاً من الحقوق في أعناقهم {لَّلسَّآئِلِ} الذي يطلب من الناس {وَالْمَحْرُومِ} الذي لا يسأل الناس تعففاً(1/641)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} آيات دالة على قدرته تعالى، ووحدانيته(1/641)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
{وَفِي أَنفُسِكُمْ} آيات أيضاً {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} هذه الآيات؛ فتعتبرون بها، وتدينون بخالقها وموجدها فإنكم لو تأملتم ما تنبته الأرض من النبات، وفكرتم فيما تخرجه من الأقوات: تضعون الحبة فيخرج لكم منها المئات، وتضعون البذرة فينشىء لكم منها البساتين والجنات؛ إلى غير ذلك من اختلاف الطعوم والألون، والهيئات؛ لو تأملتم ذلك بعين الفكرة والتبصرة؛ لما وسعكم إلا أن تقولوا: وفي الأرض آيات وأي آيات
ولو تأملتم في أنفسكم لوجدتم العجب العجاب؛ انظروا مثلاً كيف أنشأكم الله تعالى ابتداء من طين، ثم كيف خلقكم من نطفة في قرار مكين بل انظروا إلى النطفة نفسها، وكيف يتكون منها الجنين؛ الذي لا يتكون إلا من الاتحاد الذي يتم بين جرثومة الذكر وبويضة الأنثى، وبذلك تتكون خلية؛ يحدث انقسام بينها إلى خليتين، ثم انقسام آخر لكل من الخليتين، ثم آخر للمنقسمين، وآخر وآخر؛ وهكذا دواليك؛ إلى أن يصل العدد إلى أربعين جيلاً من الخلايا؛ حتى يزيد مجموع الخلايا - التي يتكون منها الإنسان الواحد - عن سكان الكرة الأرضية بأكثر من ألف مرة. وكل خلية من هذه الخلايا تعيش بمعزل عن الأخريات؛ وكل منها بمثابة مصنع للإنتاج؛ فمنها ما ينتج الشعر، ومنها ما ينتج الأظافر، ومنها ما ينتج العظام، ومنها ما ينتج الدم، وهكذا. ومتى نضجت هذه الخلايا، واكتمل نموها: تخصص كل منها في تكوين نوع واحد من الأنسجة والأعضاء. هذا وقد أصبح من السهل جداً - تحت المجهر - التفريق بين الخلايا المكونة للكبد، والخلايا المكونة للكلى؛ بالرغم من أن مهمة العضوين تكاد تكون واحدة: هي الاشتراك في عملية التغييرات الكيميائية في الجسم.
ومن هذه الخلايا ما ينتج الجهاز العصبي؛ الذي يتوقف عليه إيصال الرسائل من الحواس والأعضاء المختلفة إلى المخ؛ ومن المخ تنتقل الرسائل - التي هي بمثابة أوامر وأحكام - إلى العضل والأطراف؛ التي تتحرك(1/641)
بموجبها - تبعاً للظروف المحيطة بالإنسان - أو إلى الغدد الجمة؛ فتفرز سائلاً معيناً - وفقاً للحالة التي يجابهها الشخص - كالدموع، واللعاب، والأدرينالين.
مثال ذلك: إذا أبصر إنسان لصاً أمامه بيده خنجر: فإن الجهاز العصبي يوجه إلى المخ إشارة بذلك الخطر المحدق؛ فتتلقى الجوارح من المخ إشارة بما يجب اتباعه. وقد يشير المخ - تبعاً للسلوك الشخصي للإنسان - بالفرار من اللص؛ أو بالهجوم عليه وانتزاع الخنجر من يده، أو بمبادرته بطلقة من مسدس، أو ضربة من عصا ونحوها. على أن الزمن الذي تستغرقه هذه الرسائل - الذاهبة والآيبة - يدق على أي آلة أو أداة لاسلكية أو الكترونية؛ وفي الوقت ذاته لا يتجاوز جزء من مائة من الثانية.
فعلاقة الحواس بالمخ علاقة ثابتة ما ثبت الوعي والإدراك؛ الذي يتفرع منهما التمييز، والتصور، والذاكرة، والتعليل، والطموح، وإدراك الهدف.
ولا يخفى ما في خلقة المخ من أعاجيب وغرائب؛ فمن أعجب الأعاجيب: اختزان العلوم والمعارف، والمدارك، والمحفوظات؛ واستخراج ما يراد من ذلك من سجلاتها المرتبة المبوبة في ظرف قد لا يتجاوز ارتداد الطرف؛ بوساطة ذبذبات يعجز اللسان عن وصفها، ويضيق الجنان عن الإحاطة بها
هذا وقد دل الفحص المجهري على أن عدد الخيوط العصبية في المخ يتجاوز عشرة آلاف مليون. كل واحد منها تدب فيه الحياة، ويحمل وظيفة عضوية يؤديها على أكمل وجه
وعلى هذا المنوال تؤدي أجسامنا - بما احتوته من أعضاء - وظائفها ذات الأهداف المتباينة؛ بغير وعي منها، الأمر الذي يدل دلالة قطعية على أن هناك إرادة عليا تسيرها وتوجهها
ولو لم يكن في بديع صنع الإنسان: سوى أنه يأكل الطعام، ويشرب الشراب؛ في مدخل واحد؛ ثم يخرج كلاهما من مخرج منفصل عن الآخر؛ لكفى ذلك عجباً وناهيك بما يفعله الجسم بالطعام والشراب حين يهضمهما، ويأخذ أطايبهما؛ ثم يلقي بنفايتهما؛ بعد أن يستنفذ وقوده، ويأخذ حاجته، ويستوعب كفايته {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.
ولو تأملتم في حواسكم: لوجدتم أعجب العجب انظروا مثلاً إلى حاسة اللمس؛ وكيف أنكم تستطيعون بها الفرق بين الناعم والخشن، والبارد والحار، واللين والرخو. وانظروا أيضاً إلى حاسة الشم؛ وكيف تستطيعون بواسطتها معرفة ذكي الرائحة من رديئها، وطيب النكهة من فاسدها.(1/642)
وانظروا أيضاً إلى حاسة الذوق، وكيف تستدلون بواسطتها إلى تذوق الأصناف والطعوم، ومعرفة الحلو والحامض، والمر، والمالح.
وكذلك البصر؛ وانطباع المرئيات عليه، وانعكاسها على صفحة المخ لتترك أثرها.
وكذلك السمع؛ وانقلاب المسموعات إلى مفهومات، وانطباع هذه المفهومات في حافظة المخ؛ لتزودكم به، وقت حاجتكم إليه. وهكذا سائر الأعضاء بما وهبها الله تعالى من مزايا يضيق الخاطر عن حصر فوائدها ومنافعها
فإذا ما فكر الإنسان في خلقة نفسه، ودقة حواسه، وتأمل هذه الآلات والأدوات؛ التي صاغها الخلاق العليم، وبرأها المدبر الحكيم وهل يستطيع الإنسان - بما أوتي من علم ومال، وجاه وسلطان - أن يستعيض عن أحدها لو سلبها، أو أن يردها بعد تلفها، أو أن يفهم كنهها، ويعرف سر تركيبها حقاً لو تأمل الإنسان بعض ذلك؛ لما وسعه إلا أن يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}(1/643)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
{وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} في الدنيا. أي إن رزقكم مقدر في السماء، مسجل في اللوح المحفوظ؛ يسعى إليكم؛ قبل أن تسعون إليه، ويجري وراءكم؛ قبل أن تكدون في تحصيله. وربما أريد بالرزق: المطر؛ لأنه سبب له، ويأتي الرخاء والخصب بواسطته {وَمَا تُوعَدُونَ} به في الآخرة؛ من نعيم مقيم للطائع، وعذاب أليم للعاصي. وقيل: أريد بما توعدون: الجنة. وأنها فوق السماء السابعة؛ تحت عرش الرحمن(1/643)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
{فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ} أي رزقكم المقدر لكم، وما توعدون به في كتب الله المنزلة، وعلى ألسنة رسله المرسلة ثابت واقع {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي كما أنكم - أيها المخاطبون المكلفون - قد تميزتم عن سائر الحيوانات بالنطق؛ فكذلك تميز كلامه تعالى، ووعده ووعيده؛ بالصدق والحق(1/643)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
{قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي أنكرهم ولا أعرفهم(1/643)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} ذهب إليهم خفية(1/643)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
{فَأَوْجَسَ} أضمر(1/643)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
{فِي صَرَّةٍ} في صيحة؛ تعجباً لما سمعت {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ضربت وجهها بأصابع يديها: فعل المتعجب {وَقَالَتْ} كيف ألد وأنا {عَجُوزٌ} كبيرة السن؛ لا تحمل عادة؛ فضلاً عن أني {عَقِيمٌ} لم ألد في شبابي؛ فكيف في شيخوختي ويأسي؟(1/643)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
{قَالَ} إبراهيم لضيفه {فَمَا خَطْبُكُمْ} ما شأنكم، وما طلبكم؟(1/643)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
{إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} قوم لوط(1/643)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
{مُّسَوَّمَةً} معلمة؛ على كل واحد منها اسم من يهلك به {لِلْمُسْرِفِينَ} للكافرين(1/643)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} أي من كان في قرى قوم لوط(1/643)
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} هو بيت لوط عليه السلام.
[ص:644] قيل: هو وابنتاه(1/643)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
{وَتَرَكْنَا فِيهَآ} أي في القرى بعد تخريبها {آيَةً} علامة تدل على إهلاكهم، وما فعله الله تعالى بهم؛ ليتعظ المتعظ، ويتذكر المتذكر(1/644)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
{بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة ظاهرة(1/644)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي بما يركن إليه؛ من جند ومال(1/644)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
{فَنَبَذْنَاهُمْ} طرحناهم {فِي الْيَمِّ} في البحر {وَهُوَ مُلِيمٌ} فاعل ما يلام عليه(1/644)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
{وَفِي عَادٍ} قوم هود {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} التي لا فائدة فيها؛ من سحاب ومطر ونحوهما. وهي الدبور؛ وسميت عقيماً: لأنها لا تلقح الأشجار، ولا تنضج الثمار(1/644)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
{مَا تَذَرُ} ما تترك {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} وهو كل ما بلي وتفتت(1/644)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
{وَفِي ثَمُودَ} قوم صالح {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} بما وهبكم الله تعالى من سعة ورزق
{حَتَّى حِينٍ} إلى انقضاء آجالكم(1/644)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
{فَعَتَوْاْ} استكبروا {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وهي نار تنزل من السماء {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليها، وينتظرون خيرها؛ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون(1/644)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
{بِأَيْدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون؛ والوسع: الطاقة(1/644)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ذكراً وأنثى. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة. وقال: كل اثنين منها زوج؛ والله تعالى فرد لا مثل له(1/644)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ} أي الجأوا إليه ليخلصكم من أوضار الذنوب(1/644)
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} أي أأوصى بعضهم بعضاً بهذا القول؛ وهو قولهم: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} يعني أنهم لم يتواصوا بهذا القول؛ بل العلة واحدة: وهي أنهم قوم طاغون(1/644)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
{فَتَوَلَّ} أعرض {عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} حيث بلغتهم الرسالة التي كلفت بها(1/644)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
{وَذَكِّرْ} عظ بالقرآن تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} لأن من يوصف بالإيمان: أولى به أن يتصف بالإصغاء للذكرى، وتفهم العظة؛ شأن سائر العقلاء.
أما غير المؤمن: فقد غطى قلبه عن فهم الحقيقة، وأعمى عينه عن رؤية الهدى، وأصم سمعه عن داعيالله؛ فلا تنفعه الذكرى. فتعال معي يا أخي المؤمن نتعاهد على ألا نسرق، ولا نقتل، ولا نزني، ولا نغتب، ولا نكذب، ولا نرتكب إثماً يلحق بنا أو بغيرنا الضرر؛ وأنا الكفيل لك بثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1/644)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي إلا ليكونوا عباداً لي(1/644)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} بل أنا المتكفل بأرزاقهم {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} بل أنا الكفيل بإطعامهم(1/644)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر {ذَنُوباً} نصيباً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم في الكفر؛ من القرون الماضية؛ وقد أهلكهم الله تعالى وأبادهم.(1/644)
سورة الطور
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/645)
وَالطُّورِ (1)
{وَالطُّورِ} هو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام(1/645)
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
{وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} هو التوراة، أو القرآن؛ وقيل: إنه اللوح المحفوظ(1/645)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
{فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ} هو الصحيفة المفتوحة، التي لا ختم عليها(1/645)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} هو بيت في السماء السابعة؛ حيال الكعبة. وقيل: هي الكعبة نفسها؛ لكونها معمورة دائماً بالحجاج. ومن المشاهد أن الطواف بها لا ينقطع ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءاً، صبحاً ومساءاً؛ زادها الله تعالى تشريفاً وتعظيماً(1/645)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} السماء(1/645)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} المملوء. وجميع ما تقدم: قسم، وجوابه:(1/645)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} أي لنازل بمستحقيه من المكذبين(1/645)
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
{مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} يدفعه عنهم(1/645)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً} تتحرك وتدور وتضطرب؛ يوم القيامة(1/645)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} في الهواء؛ كسير السحاب؛ لأنها تصير هباء منثوراً(1/645)
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
{الَّذِينَ هُمْ} في الدنيا {فِي خَوْضٍ} باطل {يَلْعَبُونَ} غير عابئين بما ينتظرهم(1/645)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
{يَوْمَ يُدَعُّونَ} يدفعون بعنف(1/645)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
{أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني: كنتم تقولون عن معجزات الأنبياء: إنها سحر «أفسحر هذا» أيضاً كما كنتم تدعون؟ {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} النار، وتحسون بلهبها؛ الذي يجعلها حقيقة واقعة(1/645)
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
{اصْلَوْهَا} ادخلوها {فَاصْبِرُواْ} على حرها وألمها {أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي إن صبركم وجزعكم {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} لأنكم لم تؤمنوا حين دعوناكم للإيمان {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ} عقوبة {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا(1/645)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
{فَاكِهِينَ} متلذذين. وسميت الفاكهة فاكهة: للتلذذ بتناولها(1/645)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} حسان الأعين (انظر آية 54 من سورة الدخان)(1/645)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم} أي وما نقصناهم من ثواب عملهم {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ} بما عمل من خير أو شر {رَهَينٌ} مرهون: يثاب على الخير، ويعاقب على الشر(1/645)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون خمراً لذة للشاربين: يتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا. أو يتخاطفون من بعضهم كما يتخاطف الأصدقاء والأحباء في الدنيا لذيذ المطعم والمشرب
[ص:646] {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا تحمل شاربها على اللغو والسباب، ولا على ارتكاب الجرائم والآثام؛ كشأن خمر الدنيا(1/645)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} للخدمة {غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ} لفرط جمالهم {لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} عزيز مصون(1/646)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
{مُشْفِقِينَ} خائفين من عذاب الله تعالى(1/646)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
{وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} عذاب النار؛ لأنها تتخلل المسام(1/646)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
{إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} نعبده {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} المحسن للمحسن والمسيء، المعطى للمؤمن والكافر، الحافظ للطائع والعاصي(1/646)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
{فَذَكِّرْ} يا محمد بالقرآن {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} أي أنت بفضل الله تعالى عليك لست بكاهن، ولا بمجنون؛ كما يدعون {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ننتظر له نوائب الزمن(1/646)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
{قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي انتظروا هلاكي؛ فإني منتظر هلاككم. ومآلي إلى الجنة، ومآلكم إلى النار(1/646)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ} عقولهم {بِهَذَآ} القول، وهذا الفعل {أَمْ} بل {هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} كافرون(1/646)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} اختلقه(1/646)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
{فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي بقرآن مختلق مثل هذا القرآن(1/646)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي من غير خالق خلقهم؛ كما يقول الطبعيون {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} للأشياء ولأنفسهم(1/646)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} من الرحمة، والنبوة، والرزق؛ فيخصون من شاءوا بما شاءوا
[ص:647] {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ} {أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} المتسلطون على الكون، الموجهون للأمور؛ وفق رغبتهم ومشيئتهم(1/646)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} يصعدون عليه، و {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} كلام الملائكة، وتدبير الأرض من السماء؛ وإن زعموا هذا {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم} الذي سمع من السماء {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تدل على صعوده إلى السماء واستماعه(1/647)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
{أَمْ لَهُ} تعالى {الْبَنَاتُ} ذلك بأنهم قالوا: الملائكة بنات الله(1/647)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
{أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} ما غاب علمه عن الأنظار والأفهام {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه، ويخبرون الناس به(1/647)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} بك؛ كما اتفقوا في دار الندوة على إهلاكك {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي الواقع بهم الكيد والهلاك(1/647)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يعينهم ويرزقهم، ويمنعهم منه {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه، وتعالى، وتقدس {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الآلهة(1/647)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} يريد أنهم قالوا لك تعجيزاً: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} ولو أسقطتها كسفاً - كما طلبوا - لقالوا: ليس هذا من السماء؛ بل هو سحاب متراكم(1/647)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
{فَذَرْهُمْ} اتركهم ودعهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} يموتون؛ ثم يعذبون(1/647)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قبل يوم القيامة؛ وهو عذاب القبر(1/647)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم؛ ولا يضيق صدرك بمكرهم {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتنا، وتحت رعايتنا. وكذا {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} من النوم، أو «حين تقوم» إلى الصلاة(1/647)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} حين تغرب: وقت صلاة الفجر.(1/647)
سورة النجم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/648)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إذا انتثر وسقط يوم القيامة، وهوى من مقره. قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أو «هوى» بمعنى غاب وهو قسم؛ جوابه(1/648)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} أي ما ضل محمد، وما غوى كما تدعون. والغي: الجهل مع اعتقاد فاسد؛ وهو ضد الرشد(1/648)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
{وَمَا يَنطِقُ} بما ينطق به {عَنِ الْهَوَى} أي عن هوى في نفسه(1/648)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
{إِنْ هُوَ} أي إن الذي ينطق به من القرآن؛ ما هو {إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} إليه من ربه(1/648)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
{عَلَّمَهُ} إياه، ولقنه له {شَدِيدُ الْقُوَى} جبريل عليه الصلاة والسلام(1/648)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
{ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة، وبأس، وشدة {فَاسْتَوَى} أي استقر واستقام على صورته الحقيقية؛ لا كما كان ينزل بالوحي(1/648)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
{وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} الأفق: الناحية، أو هو ما يظهر من نواحي الفلك. وقد ورد أن جبريل عليه الصلاة والسلام ظهر للرسول ناحية الشمس - عند مطلعها - على صورته الحقيقية التي أوجده الله تعالى عليها؛ ساداً الأفق ما بين المشرق والمغرب. وكان النبي عليه الصلاة والسلام بغار حراء؛ فخرَّ مغشياً عليه من عظم ما رأى من بديع صنع ربه(1/648)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
{ثُمَّ دَنَا} قرب جبريل عليه السلام من الرسول {فَتَدَلَّى} جبريل في الهواء. ومنه تدلت الثمرة(1/648)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
{فَكَانَ} جبريل من النبي {قَابَ} قدر {قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أو أقل من مقدار قوسين. وقد جرت عادة العرب في التقدير بالقوس، والرمح، والسوط. أو أريد بالقاب: قاب القوس. وهو ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقيل: أريد بقاب قوسين: قابى قوس؛ فسيق في القرآن على طريقة القلب(1/648)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} أي «فأوحى» الله تعالى «إلى عبده» محمد عليه السلام؛ بواسطة جبريل «ما أوحى» وقيل: «فأوحى» الله تعالى «إلى عبده» جبريل «ما أوحى» به جبريل إلى محمد(1/648)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ}
أي فؤاد محمد {مَا رَأَى} أي لم يكن متوهماً لما رآه، أو مخدوعاً فيه؛ بل كانت رؤيته لجبريل عليه السلام حقيقة واقعة. وقد ظهر جبريل بصورته لمحمد عليه الصلاة والسلام؛ ليتأكد لديه أنه هو بنفسه الذي يأتيه بالوحي من ربه على صورة دحية الكلبي؛ تأليفاً لقلبه: فقد رآه وعرفه، وأوحى إليه بما كلف به من مولاه(1/648)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
{أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجادلون محمداً وتكذبونه {عَلَى مَا يَرَى} معاينة بنفسه(1/648)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}
[ص:649] أي رأى محمد جبريل مرة أخرى. وأخطأ من قال: إن محمداً رأى ربه. قال تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ومحمد عليه الصلاة والسلام: من البشر، ولو أنه سيدهم وإمامهم؛ وليس كسائرهم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «من قال: إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية»(1/648)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة، عن يمين العرش؛ يسير في ظلها الراكب كذا من الأعوام. والذي أراه أن السدرة ليست كما يقولون، أو يروون {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وقد يكون المراد بسدرة المنتهى: الظل الذي تفيء إليه الأرواح؛ لترتاح من حر الحياة اللافح، والواحة التي يستريح إليها المتعب المكدود؛ بعد أن لاقى في حياته الدنيا ما لاقى، وكابد في بيدائها المحرقة ما كابد ولذا أعقب الله تعالى ذكر السدرة بقوله جل شأنه(1/649)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
{عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} والجنة: البستان، والشجر الكثير؛ الذي يأوي إليه الناس للراحة. وأريد بالجنة: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ}(1/649)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} هو تعظيم لما يغشاها من الخلائق؛ الدالة على عظمة الخالق أو هو لما يغشاها من البهاء والجمال، والنور والجلال(1/649)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} أي لم يتجاوز الحد؛ ويطمح إلى رؤية مالا تجوز رؤيته، ولا يمكن الإحاطة به {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(1/649)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى *(1/649)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
هي أسماء آلهة كانوا يعبدونها (انظر آية 52 من سورة الحج)(1/649)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الذي تطلبونه وتتمنونه من البنين {وَلَهُ الأُنْثَى} التي تعافونها وتكرهونها. وذلك لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله(1/649)
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
{تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي قسمة جائرة(1/649)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
{وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} الرسول العظيم، والقرآن الكريم(1/649)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
{فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} الدنيا والآخرة؛ يفعل فيهما وبأهلهما ما شاء(1/649)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
{وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} مقرب إلى الله، طائع لمولاه {لاَ تُغْنِي} لا تنفع {شَفَاعَتُهُمْ} في أحد العصاة {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ} تشفيعه، أو «لمن يشاء» إنجاءه {وَيَرْضَى} عنه(1/649)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} حيث قالوا: الملائكة بنات الله(1/649)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ} أي نهاية علمهم: أن أعرضوا عن الإيمان، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة(1/649)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} الكبائر: كل ما أوعد الله تعالى عليه بالنار. والفواحش: ما شرع فيه الحد {إِلاَّ اللَّمَمَ} وهو صغار الذنوب؛ كالنظر إلى الأجنبية، واللغو من القول، أو «اللمم»: ما يلم بالإنسان من الذنوب فجأة؛ من غير روية أو قصد {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جنين وهو الولد في بطن أمه {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لا تمدحوها معجبين بها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} فيزكيه بفضله، ويعليه بكرمه(1/650)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} كفر بعد إيمانه. قيل: هو الوليدبن المغيرة؛ وكان قد اتبع الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فعيره بعض الكفار، فقال له الوليد: إني اتبعت محمداً خشية عذابالله؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى كفره؛ تحمل عنه عذابالله. فارتد الوليد، وأعطاه بعض الذي وعده وشح بالباقي؛ وذلك معنى قوله تعالى:(1/650)
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
{وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي ومنع باقي عطائه(1/650)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} التوراة صحف(1/650)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي وفى بكل ما يوجبه الإسلام: من إيمان يقيني بالله، ومعرفة حقيقية له تعالى؛ من غير تقليد. قيل: كان يقول كلما أصبح وأمسى «سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون»(1/650)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
{أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس إثم نفس أخرى. وقد ورد هذا المعنى في سائر الكتب السماوية؛ ومنها صحف موسى وإبراهيم(1/650)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} أي إلا ثواب سعيه هو بنفسه لنفسه؛ أما عمل غيره له فلا. ولا ينافي ذلك الحديث الصحيح؛ عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» وذلك لأن الصدقة الجارية: من عمله، والعلم المنتفع به: من سعيه، والولد الصالح: ثمرة تنشئته وتأديبه وتهذيبه(1/650)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
{وَأَنَّ سَعْيَهُ} عمله في الدنيا {سَوْفَ يُرَى} يتكشف، ويجزى عليه في الآخرة(1/650)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
{وَأَنَّهُ هُوَ} جل شأنه {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} خلق الضحك والبكاء، والسرور والحزن؛ بخلق أسبابهما: فقد يضحك الضاحك؛ وأسباب البؤس والشقاء تكتنفه من كل صوب وحدب. ويبكي الباكي وأسباب النعمى والسرور تحيط به من كل جانب. فهو جل شأنه باعث نعمة السرور لأناس ليعوض عليهم بعض ما فاتهم من أنعم، وهو عز سلطانه منزل نقمة الحزن على أناس جزاء ما فرطوا في جنبه، وأفرطوا في ارتكاب محارمه(1/650)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} الصنفين {الذَّكَرَ وَالأُنثَى} من الإنسان والحيوان(1/651)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)
{مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي من مني حين يمنى - أي يصب - في الرحم (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/651)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} الإحياء، وبعث الخلائق يوم القيامة(1/651)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى وأفقر. وهذا المعنى متفق مع قوله تعالى: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى}
و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} ويقال أيضاً: أقناه الله تعالى؛ إذا أرضاه. وقد تجد مع الفقر الرضا، ومع الغنى الطمع. أو المعنى: أنه تعالى أغنى بالمال، وأقنى بالأشياء التي تتخذ للاقتناء والزينة؛ لنفاستها(1/651)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} الشعرى: كوكب كانت تعبده العرب في الجاهلية(1/651)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} وهي قوم عادبن إرم، وهي غير عاد الأخرى: قوم هود(1/651)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
{وَثَمُودَ} قوم صالح(1/651)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} المؤتفكة: قرى قوم لوط؛ رفعها جبريل عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وألقاها؛ فهوت إلى الأرض. وسميت مؤتفكة: لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي انقلبت بهم، وصار عاليها سافلها(1/651)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} غطاها من العذاب والإهلاك ما غطى، وشملها من التدمير ما شملها(1/651)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ} أي فبأي نعمة من نعم ربك أيها الإنسان {تَتَمَارَى} تتشكك وتتجادل وقد أنجاك مما أصاب به من كان قبلك من الأمم(1/651)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
{هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُوْلَى} أي محمد عليه الصلاة والسلام: نذير من جنس النذر الأولى؛ التي أنذر بها من كان قبلكم فكذبوهم؛ فأخذهم العذاب. فلا تكذبوه لئلا يحل بكم ما حل بالمكذبين من قبلكم(1/651)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} دنت القيامة، وقرب حينها(1/651)
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {كَاشِفَةٌ} تكشف ما فيها من العذاب والأهوال(1/651)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} القرآن {تَعْجَبُونَ} وتسخرون على ما فيه من الوعيد لأمثالكم(1/651)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
{وَلاَ تَبْكُونَ} وهو الأجدر بحالكم(1/651)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
{وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} غافلون لاهون(1/651)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ} وحده {وَاعْبُدُواْ} إياه؛ ولا تسجدوا للأصنام، ولا تعبدوها.(1/651)
سورة القمر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/652)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} القيامة {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} نصفين. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وقيل: معناه سينشق القمر يوم القيامة، وأخذ بهذا المعنى بعض المتأخرين؛ الذين لا يعبأ بقولهم، ولا يعتد برأيهم. والجمهور على القول الأول، ويؤيده ما جاء في الصحيحين، وقراءة من قرأ «وقد انشق القمر» ويؤيده أيضاً ما بعده:(1/652)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
{وَإِن يَرَوْاْ آيَةً} معجزة للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {يُعْرِضُواْ} عنها، ولا يلتفتوا إليها {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي سحر قوي محكم(1/652)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
{وَكُلُّ أَمْرٍ} من الخير، أو الشر {مُّسْتَقِرٌّ} أي كائن في وقته بإرادته تعالى، ومعلوم في اللوح المحفوظ(1/652)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
{مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يصح أن يزجر به قارئه، ويتعظ به سامعه. وهذه الأنباء التي جاءتهم(1/652)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يجب أن يتعظ بها سامعها، وأن يفهمها قارئها {فَمَا تُغْنِي} فما تنفع فيهم {النُّذُرُ} الرسل؛ الذين ينذرونهم عاقبة كفرهم، ومغبة طغيانهم(1/652)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
{فَتَوَلَّ} أعرض {عَنْهُمْ} ولا تجادلهم {يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي إلى شيء تنكره نفوسهم؛ لأنهم لم يعهدوه، ولم يألفوه. وذلك يوم القيامة: حينما يدعون إلى الحساب فالعذاب(1/652)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} خشوع الأبصار: كناية عن الذلة {يَخْرُجُونَ} القبور(1/652)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{مُّهْطِعِينَ} مسرعين، مادي أعناقهم(1/652)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
{وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي مجنون عولج بالسب والضرب؛ حتى رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده.(1/652)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
{بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} منصب انصباباً شديداً(1/653)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
{فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي التقى الماءان: ماء السماء الذي نزل من السحاب، وماء الأرض الذي نبع من التنور؛ على أمر قد قدره الله تعالى: وهو إغراق قوم نوح عن آخرهم. وقرىء «فالتقى الماءان»(1/653)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
{وَحَمَلْنَاهُ} أي حملنا نوحاً ومن آمن معه {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} يعني السفينة. والدسر: جمع دسار؛ وهو المسمار(1/653)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتنا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام؛ لأنه مكفور به(1/653)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا} أي السفينة؛ والمراد به جنسها. قال تعالى: «ولتجري الفلك بأمره» {آيَةً} علامة على قدرتنا. وقيل: المراد به سفينة نوح نفسها؛ فقد تركت على الجودي، ورآها بعض أوائل هذه الأمة. هذا ولا يزال حتى الآن بعض الباحثين والمنقبين يبحثون عنها في مظان وجودها. وزعم بعضهم أنه رآها فعلاً مغطاة بالثلوج؛ والله أعلم بخلقه وأحكم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متذكر، متعظ(1/653)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} الذي أنزلته بقوم نوح جزاء كفرهم بي، وتكذيبهم لرسولي كيف كان {نَّذْرٍ} أي إنذاري لهم قبل نزول العذاب بهم(1/653)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سهلنا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} للاتعاظ به، والتذكر بما فيه(1/653)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
{كَذَّبَتْ عَادٌ} قوم هود(1/653)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} شديدة البرودة، شديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} شؤم {مُّسْتَمِرٌّ} دائم الشر(1/653)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
{تَنزِعُ النَّاسَ} من أماكنهم؛ فتدقهم على الأرض؛ فتبين رقابهم من جسومهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} منقلع، ساقط على الأرض؛ وذلك لطولهم، وأنهم لا حراك بهم(1/653)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح {بِالنُّذُرِ} بالرسل؛ لأن من كذب رسولاً واحداً: فكأنما كذب رسل الله جميعاً. أو المراد بالنذر: الأمور التي أنذرهم بوقوعها نبيهم صالح عليه السلام(1/653)
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
{إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي نحن إذا اتبعناه كنا في ضلال وفي سعر؛ كما يقول على مخالفيه. والسعر: الجنون(1/653)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ} الوحي {عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} ونحن لا نشعر بذلك، وليس بأفضلنا {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بطر متكبر؛ حمله تكبره على أن يتعاظم علينا بادعائه النبوة. قال تعالى رداً عليهم، وتهديداً لهم:(1/653)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
{سَيَعْلَمُونَ غَداً} يوم القيامة؛ حين يرون العذاب {مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} نبيهم صالح - حين يأتي تحف به المهابة وتحيط به الأنوار - أم هم حين يأتون يجرون أذيال الخزي والخيبة؛ تسوقهم ملائكة العذاب نحو الحساب؟(1/653)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً} ابتلاء {لَّهُمْ} وامتحاناً {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} انتظرهم يا صالح، واصبر على أذاهم(1/654)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} لهم يوم يستقون فيه، وللناقة يوم تشرب فيه(1/654)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ} واحداً منهم ليقتل الناقة.
قيل: اسمه قدار {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} فتناول السيف؛ فقتل به الناقة؛ فاستوجبوا على أنفسهم العذاب الموعود(1/654)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها بهم جبريل عليه السلام والصيحة: العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشيم: الشجر اليابس المتهشم، المتكسر. والمحتظر: الذي يجعل لغنمه حظيرة من الهشيم(1/654)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
{حَاصِباً} ريحاً تحصبهم - أي ترميهم - بالحجارة {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} ابنتاه، ومن آمن معه {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} وقت الصبح؛ حين أنزل الله تعالى العذاب بقوم لوط(1/654)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
{بَطْشَتَنَا} أخذنا لهم بالعذاب {فَتَمَارَوْاْ} فكذبوا(1/654)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} بأن طلبوا منه تسليم الملائكة - حينما نزلوا عليه في صورة الأضياف - ليأتوا بهم الفاحشة أعميناها(1/654)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
{بُكْرَةً} أي باكراً من التبكير {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} دائم، متصل بعذاب القيامة: يصاحبهم حتى يسلمهم للموت، والموت يسلمهم لعذاب القبر، وعذاب القبر يصحبهم إلى يوم القيامة؛ حتى يروا العذاب الأكبر؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه(1/654)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
{وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ} هو وقومه معه {النُّذُرُ} جمع نذير. أي جاءهم الإنذار معاداً متكرراً بالعذاب المتوقع(1/654)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
{كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا} وهي الآيات التسع؛ التي أوتيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب الموعود
[ص:655] {أَخْذَ عِزِيزٍ} قوي {مُّقْتَدِرٍ} تام القدرة؛ لا يعجزه شيء، ولا يفر من عذابه مذنب(1/654)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
{أَكُفَّارُكُمْ} يا أهل مكة {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} المذكورين؛ فندعهم في طغيانهم وكفرهم، ولا نعذبهم {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ} في الكتب. أي نزل لكم الأمان في الكتب المتقدمة(1/655)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي نحن جمع كبير؛ سننتصر لكثرتنا وقوتنا(1/655)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الكبير {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فهزموا - على جمعهم وكثرتهم - شر هزيمة يوم بدر، ونصر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين - رغم قلتهم - وتحقق وعيده تعالى في أعدائه، ووعده لأوليائه وليست هذه الهزيمة هي كل ما ينتظرهم من العذاب والخزي(1/655)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{بَلِ السَّاعَةُ} القيامة {مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي والقيامة وما فيها من الشدة والعذاب: «أدهى وأمر» مما نالهم في الدنيا من خزي الانهزام، وذل القتل والانكسار(1/655)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {لَّفِي ضَلاَلٍ} هلاك؛ في الدنيا بالقتل والهزيمة {وَسُعُرٍ} نار مستعرة في الآخرة(1/655)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
{ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} إصابة جهنم(1/655)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير: محكم، مستوف فيه مقتضى الحكمة والمنفعة. وقيل: المعنى: مقدر. وذهب كثيرون إلى أن هذه الآية دليل على أن السيئة مقدرة: فالقتل بقدر، والزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر. وأن جميع ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، قبل خلق النفوس. وهو كلام يؤدي إلى نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ وهو أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين أما كتابة الأعمال، وما كان وما يكون في اللوح المحفوظ: فأمر مسلم به، وأما التقدير الذي يشبه الإلزام فكلا وألف مرة كلا ولكن الله تعالى جلت قدرته؛ لسعة علمه ومعرفته: علم بعمل خلقه؛ فكتبه قبل أن يعملوه، ولم يلزمهم به. وهو جل شأنه، وتعالى سلطانه لا يهدي الفاسقين، ولا يهدي الظالمين، ولا يهدي الكافرين، ولا يهدي من هو مسرف كذاب، ولا من هو كاذب مرتاب وإنما يهدي تعالى من أناب: يهديه إلى الرشد، وإلى الحق، وإلى سواء السبيل
وإلا إذا قلنا بما يقولون؛ فعلام شرعت الشرائع. وقننت القوانين، وأرسلت الرسل، ونزلت الكتب؟ ولما نقتص من المذنب؛ ولا ذنب له؟ ومن المجرم؛ ولا جرم عليه؟
ولماذا يرجم الزاني؛ وقد أكره على الزنا؟ ويقطع السارق؛ وقد ألزم بالسرقة؟ ويقتل القاتل؛ وقد فرض عليه القتل؟
ولماذا تقوم المحاكم لفض المظالم؟ وأي مظالم يدفعونها؛ ودفعها هو عين الظلم؟ إذ كيف يقتل
[ص:656] القاتل؛ وقد قتل بقدر؟ أو كيف يرجم الزاني؛ وقد زنا بقدر؟ أو كيف يقطع السارق؛ وقد سرق بقدر؟ أو كيف يحد شارب الخمر؛ وقد شربها بقدر؟
ألم يقدر الله تعالى - كما يقولون - ذلك القتل، وذلك الزنا، وذلك السكر، وتلكم السرقة؟
وأين من يزعم أنه يستطيع أن يخرج عما قدره الله تعالى ورسمه لعباده؟
وأخيراً يحق لنا أن نسائل هؤلاء القائلين بهذا الرأي الفاسد: لم خلق الله تعالى جنته وناره؛ وقد أطاعه من أطاعه بقدر، وعصاه من عصاه بقدر؟ أكره هذا على الطاعة، وأكره ذاك على المعصية(1/655)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
{وَمَآ أَمْرُنَآ} لشيء إذا أردناه {إِلاَّ} مرة {وَاحِدَةً} فيكون في سرعة حدوثه {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وهو قول «كن» {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1/656)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية(1/656)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} من خير، أو شر {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} في الكتب التي تكتبها الحفظة(1/656)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من ذنوبهم وأعمالهم {مُّسْتَطَرٌ} مسطور: مكتوب(1/656)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَنَهَرٍ} «أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى»(1/656)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} مكان صدق قد وعدوه في الدنيا، وحققه الله تعالى لهم في الآخرة {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} قادر على إفاضة هذا النعيم الكامل على أوليائه(1/656)
سورة الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/656)
الرَّحْمَنُ (1)
{الرَّحْمَنُ *(1/656)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لما كانت هذه السورة الكريمة حاوية لمزيد أنعمه تعالى على عباده: بدأ بذكر النعمة الكبرى، والمنة العظمى: وهي تعلم القرآن. وأي نعمة تداني علمه وتعلمه، وفهمه وتفهمه؟ فاحرص أيها المؤمن اللبيب على حفظ كتاب الله تعالى وتلاوته، والتحرز بما فيه من أوامر ونواه؛ تسعدك في دنياك، وتقربك من مولاك، وتسرك في مثواك، وتنجيك في أخراك(1/656)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)
{خَلَقَ الإِنسَانَ} فسواه فعدله (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/656)
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
{عَلَّمَهُ البَيَانَ} ألهمه النطق؛ الذي به يستطيع أن يبين عن رغائبه ومقاصده(1/656)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم: يجريان في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما. والحسبان: قطب الرحى. أي يدوران في مثل القطب(1/656)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} أي ينقادان للرحمن فيما يريده منهما: هذا بالتنقل في البروج، وذاك بإيتاء الثمر، نعمة للبشر. وقيل «النجم»: كل ما لا ساق له من الشجر(1/656)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} الذي توزن به
[ص:657] الأشياء(1/656)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
{أَلاَّ تَطْغَوْاْ} لئلا تطغوا(1/657)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
{بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} لا تنقصوا الموزون؛ عندما تبيعون، ولا تزيدوه عندما تشترون. قال تعالى: «ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون»(1/657)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
{وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} الأكمام: أوعية التمر. والمراد به هنا: الليف والسعف(1/657)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} العصف: التبن؛ لأن الريح تعصف به. والريحان: الرزق، وهو يطلق على الثمر، وكل ما يتلذذ به من الفاكهة. أو هو كل أصناف المشمومات: كالورد، والفل، والنرجس، والياسمين؛ وما شاكلها(1/657)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الآلاء: النعم. أي فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان؟(1/657)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
{صَلْصَالٍ} طين يابس(1/657)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
{وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ} المارج: اللهب الصافي(1/657)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، ومغربيهما. أو «المشرقين» مشرق الشمس والقمر. و «المغربين» مغربيهما(1/657)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما في مرأى العين؛ لا يحول بينهما سوى قدرته تعالى(1/657)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من القدرة الإلهية {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يبغي أحدهما على الآخر؛ فيمتزج به، ويختلط العذب الفرات، بالملح الأجاج(1/657)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي من أحدهما، لأنهما لا يخرجان إلا من البحار خاصة؛ لا من الأنهار(1/657)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
{وَلَهُ الْجَوَارِ} السفن الجارية في البحر {كَالأَعْلاَمِ} كالجبال في العظم(1/657)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ذاته العلية {ذُو الْجَلاَلِ} القدرة والعظمة {وَالإِكْرَامِ} يكرم عباده المؤمنين بما أعده لهم من نعيم مقيم(1/657)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفتقر إليه كل من فيهن، ويطلب منه الحفظ، والعون، والرزق {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين(1/657)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} أي ستنتهي الدنيا، ولا يبقى إلا حسابكم ومجازاتكم؛ وهو وعيد وتهديد، و «الثقلان» الإنس والجن(1/657)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
{يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ} الأقطار: جمع قطر؛ وهو الناحية. أي إن استطعتم أن تنفذوا من نواحي السموات {وَالأَرْضِ} وتخرجوا مما رسمه الله تعالى لكم، وحدده لوجودكم ومعيشتكم {فَانفُذُواْ} من أقطارهما
[ص:658] {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وغلبة، وقهر؛ وأنى لكم ذلك؟ وهذا على سبيل التعجيز والتحدي؛ يدل عليه ما بعده(1/657)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} إذا حاولتما ذلك {شُوَاظٌ} لهب، لا دخان له {مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} ملتهب {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تبلغان مأربكما؛ من ورود هذا المورد، وركوب هذا المركب (انظر آية 61 من سورة الفرقان)(1/658)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
{فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي صارت كالوردة؛ في تشعب أوراقها وسهولة انتثارها، أو صارت كلون الوردة في الاحمرار {كَالدِّهَانِ} أي كالأديم الأحمر(1/658)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
{فَيَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه: كاسوداد الوجوه وزرقتها؛ يؤيده قوله تعالى:(1/658)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي بهيئاتهم وعلاماتهم. ويصح أن يكون ما جاء في مواضع أخر من التنزيل؛ من أنهم يسألون عن أعمالهم: معناه أنهم يحاسبون عليها، ويجزون بها {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي} جمع ناصية؛ وهي شعر مقدم الرأس {وَالأَقْدَامِ} يجر الكافرون من نواصيهم: إذلالاً لهم، ومن أقدامهم: ليسحبوا على وجوههم إلى النار(1/658)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ماء بالغ غاية الحرارة(1/658)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي القيام بين يديه يوم القيامة. قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومن خاف مقام ربه: لم يقتل، ولم يزن، ولم يسرق، ولم يسكر، ولم يغتب، ولم يقل زوراً فهذا له {جَنَّتَانِ} بستانان. قيل: هما للسابقين. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}(1/658)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)
{ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} جمع فنن؛ أي أغصان. وخص الأفنان بالذكر؛ لأنها هي التي تورق وتثمر. أو «أفنان» جمع فن. أي ذواتا ألوان وأجناس وأصناف من الفاكهة؛ المختلفة الألوان والطعوم(1/658)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأحمر وأصفر(1/658)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
{إِسْتَبْرَقٍ} هو ما غلظ من الحرير {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} ثمرهما {دَانٍ} قريب: يناله القائم، والقاعد، والمضطجع. سهل التناول: لا يحول دونه بعد، ولا شوك، ولا يحتاج إلى صعود نخلها لاجتناء تمرها، ولا معالجة شجرها لاجتناء ثمرها(1/659)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي اللاتي يقصرن بصرهن على أزواجهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر(1/659)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} لما كان الياقوت والمرجان: من أنفس حلى العرب في ذلك العهد: شبههن بهما. ولا صحة لما ذهب إليه بعض المفسرين من وصف الحور العين: بأن أعينها من ياقوت، وأرجلها من زبرجد، وجسمها من عنبر وأنها من الصفاء بحيث يرى مخ سوقها؛ إلى غير ذلك مما لا يتفق والحقيقة؛ وهو من المغالاة المذمومة. فلو تصور إنسان امرأة على هذه الصورة، وتلك الصفة: لكانت محل اقتنائه، لا موضع متعته ولذته(1/659)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
{هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ} في الدنيا بطاعة الله {إِلاَّ الإِحْسَانُ} في الآخرة بالنعيم المقيم؟ وأين إحسان المخلوق؛ من إحسان الخالق المنعم المتفضل؟(1/659)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
{وَمِن دُونِهِمَا} أي من دون هاتين الجنتين اللتين وصفهما الله تعالى بأنهما لمن خاف مقامه: دونهما في العظم، والمقام، والدرجة؛ وهما لأصحاب اليمين من المتقين. قال تعالى: «وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين: في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة؛ لا مقطوعة ولا ممنوعة»(1/659)
مُدْهَامَّتَانِ (64)
{مُدْهَآمَّتَانِ} خضراوان؛ من وفرة الري والعناية الربانية(1/659)
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
{نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا تنقطعان(1/659)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} مخففة من خيرات؛ بتشديد الياء. وبها قرىء أيضاً وهن الحور {حِسَانٌ} أي حسان الخلق والخلق(1/659)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
{حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} حور: جمع حوراء؛ وهي شديدة بياض العين وسوادها (انظر آية 54 من سورة الدخان) و «مقصورات» أي مخدرات؛ قصرن في خدورهن(1/659)
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر(1/660)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} الرفرف: الوسائد والفرش؛ وما إليها {وَعَبْقَرِيٍّ} هو نسبة إلى «عبقر» تزعم العرب أنه اسم بلد الجن؛ وينسبون إليه كل ما كان بديع الصنع. والمقصود به هنا: الديباج، والطنافس(1/660)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} تعالى ذكره، وتقدس اسمه {ذِي الْجَلاَلِ} ذي العظمة {وَالإِكْرَامِ} أي إنه تعالى واجب التكريم من سائر مخلوقاته، أو هو جل شأنه المختص بإكرام أوليائه وأحبائه(1/660)
سورة الواقعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/660)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قامت القيامة. وسميت واقعة: لتأكد وقوعها(1/660)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
كَاذِبَةٌ} أي لا شك ولا ريب في وقوعها؛ أو لا يكون حين وقوعها نفس تكذب بها. وكيف يحصل لها تكذيب وقد صارت حقيقة واقعة محسوسة ملموسة؟(1/660)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض الكافرين، وترفع المؤمنين: خفضت أقواماً - كانوا في الدنيا أعزاء - إلى عذاب الله ونقمته، ورفعت أقواماً - كانوا في الدنيا أذلاء - إلى جنة الله ورحمته(1/660)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
{إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} زلزلت زلزالاً شديداً، واضطربت واهتزت(1/660)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} أي فتتت(1/660)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} غباراً منتشراً(1/660)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً} أصنافاً(1/660)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم {مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} تعجيب لحالهم؛ وتعظيم لشأنهم؛ في دخولهم الجنة، ومزيد تنعمهم فيها(1/660)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم {مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تعجيب لحالهم أيضاً؛ من دخولهم النار وما يلقون فيها من البؤس والشقاء والبلاء(1/660)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
{وَالسَّابِقُونَ} إلى الخيرات والحسنات: هم {السَّابِقُونَ} إلى النعيم والجنات. أو هو تأكيد لتعظيم شأنهم (انظر آيتي 32 من سورة فاطر، و46 من سورة الرحمن)(1/660)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
{ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ} أي جماعة كثيرة من متقدمي هذه الأمة؛ لملازمتهم الصلاح، واستمساكهم بالتقوى(1/661)
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} من متأخري هذه الأمة. وقيل: «من الأولين» من الأمم الماضية، و «من الآخرين» من هذه الأمة(1/661)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
{عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} مرصعة باللؤلؤ والجواهر(1/661)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
{مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} ينظر بعضهم إلى بعض، ويدورون في مقاعدهم بحيث لا تبدو أقفيتهم. وهذا مظهر من مظاهر العظمة التي نجدها في عظماء الدنيا: حيث يجلسون على مكاتبهم في مقاعدهم التي تدور بهم حيث شاءوا؛ فيواجه بوجهه من يريد محادثته من جلسائه(1/661)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ}
للخدمة {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} لا يهرمون أبداً. وقد ذهب بعض الفساق إلى أن هؤلاء الولدان للخدمة واللواط أيضاً. وهو قول يضم إلى فساده؛ سوء خلق قائله، وانعدام ذوقه فليحذر المؤمن من مكائد شياطين الإنس والجن؛ وقد أسهبنا في الرد على هذه المزاعم وأمثالها في تفسيرنا الكبير(1/661)
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
{وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} خمر من عيون تجري على وجه الأرض؛ ترى بالعين. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}(1/661)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
{لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا يحصل لهم صداع بسببها؛ كخمر الدنيا {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي لا يذهب عقلهم؛ من نزف الرجل: إذا ذهب عقله من السكر. وقيل: من أنزف القوم: إذا نفد شرابهم(1/661)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
{وَحُورٌ عِينٌ} الحور: جمع حوراء؛ وهي شديدة بياض العين وسوادها. والعين: جمع عيناء؛ وهي الواسعة العين (انظر آية 54 من سورة الدخان)(1/661)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من صالح الأعمال(1/661)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} أي لا يسمعون قولاً باطلاً، ولا هذياناً، ولا سباباً؛ مما يستوجب الإثم} قولاً(1/661)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{سَلاَماً سَلاَماً} تسليماً عليهم من الملائكة، ومن إخوانهم المؤمنين(1/661)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} وهم الذين أوتوا كتبهم بأيمانهم (انظر آية 62 من سورة الرحمن)(1/661)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك فيه(1/661)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} هو شجر الموز. و «منضود» أي مرصوص(1/661)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} دائم. قال تعالى في وصف الجنة: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} وجاء في الحديث الشريف: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها»(1/661)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية. أو أريد بالفرش: النساء؛ وقد جرت عادة العرب بتسمية المرأة بالفراش؛ ويؤيده ما بعده. و «مرفوعة» أي مرفوعة فوق الأرائك. قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ}.(1/661)
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً}
دائمي البكارة؛ كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً(1/662)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
{عُرُباً} جمع عروب؛ وهي المتحببة إلى زوجها {أَتْرَاباً} أي مستويات في السن(1/662)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم(1/662)
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
{فِي سَمُومٍ} حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} ماء بالغ نهاية الحرارة(1/662)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} دخان أسود(1/662)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
{لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} المراد: نفي صفات الظل المعتاد؛ وهي البرودة والكرم؛ بأن يخلص كل من يأوي إليه من أذى الحر(1/662)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعمين(1/662)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
{الْحِنثِ الْعَظِيمِ} الذنب العظيم؛ وهو الشرك: وأي حنث أعظم من قولهم(1/662)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا} في قبورنا {تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل نحيا بعد ذلك، ونبعث كما يزعم محمد(1/662)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
{أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ} أي أو يبعث آباؤنا الأولون أيضاً، بعد أن بليت أجسامهم، وتفتتت عظامهم(1/662)
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
{إِلَى مِيقَاتِ} إلى وقت {يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو يوم القيامة(1/662)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)
{مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} هو شجر ينبت في أصل الجحيم(1/662)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي أنهم إذا عطشوا - بعد أكل الزقوم - فلا يشربون إلا {مِنَ الْحَمِيمِ} وهو الماء البالغ نهاية الحرارة(1/662)
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} الإبل العطاش(1/662)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النزل: ما يعد لإكرام الضيف أي هذا هو الشيء المعد لإكرامهم يوم القيامة(1/662)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
{فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} فهلا تصدقون(1/662)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
{أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} تريقون في أرحام نسائكم. يعني إذا كنتم لا تؤمنون بأن الله تعالى هو خالقكم من ماء مهين، وتعتقدون أن خلقتكم تأتي على مقتضى الطبيعة البشرية: تمنون فتنجبون. إذا اعتقدتم هذا؛ فما قولكم في المني المتسبب في خلقكم(1/662)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
{أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} بأنفسكم، وتصنعون ما فيه من الحيوانات والجراثيم التي يتكون منها الجنين {أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} له، المدبرون لآثاره؟ ألا ترون أن كثيراً منكم يمنون فلا ينتجون، ويحاولون إيجاد الولد من مظانه الطبيعية فلا يستطيعون؛ إلا إذا أراد خالق الخلق أجمعين {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يقول تعالى {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} فتبارك الله رب العالمين(1/663)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} بميقات معلوم، فعجلناه لبعضكم وأخرناه عن البعض الآخر إلى أجل مسمى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي بعاجزين(1/663)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
{عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} نخلق غيركم - من جنسكم - بعد مهلككم {وَنُنشِئَكُمْ} نشأة أخرى {فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي خلق شئنا، وأي نشأة أردنا.
يؤخذ من هذه الآية أن الإنسان قد يخلق بعد موته في خلق أدنأ من خلقته، وأحط من طبيعته؛ تأديباً له وتعذيباً كما أنه يجوز أن يخلق في خلق أعلا من خلقه، وأشرف من جنسه؛ تعظيماً له وتكريماً وهذا القول يعارضه الأكثرون؛ تحرزاً من القول بتناسخ الأرواح(1/663)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} وهي خلق آدم من طين؛ لا يمت إلى الحياة بأي سبب {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون ذلك؛ فتعرفون قدرة الخالق؟(1/663)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
{لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} هشيماً متكسراً {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون، أو تتندمون على تعبكم فيه؛ وتقولون(1/663)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو لمهلكون لهلاك رزقنا، وتلف قوتنا. من الغرام؛ وهو الهلاك(1/663)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} من ثمرة كدنا وعملنا {مِنَ الْمُزْنِ} السحاب {أُجَاجاً} ملحاً؛ فلم تنتفعوا منه بشرب، ولا غرس، ولا زرع {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} توقدون من الشجر الأخضر(1/663)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} تذكيراً لنار جهنم، أو تذكرة لقدرتنا وعظمتنا {وَمَتَاعاً} منفعة {لِّلْمُقْوِينَ} للمسافرين. أو «للمقوين» أي الخالية بطونهم. يقال: أقوى - من الأضداد - إذا افتقر، أو استغنى. لقد عدد سبحانه وتعالى النعم على عباده: فبدأ بذكر خلق الإنسان؛ فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ثم ثنى بما به قوامه ومعيشته؛ وهو الزرع: فقال «أفرأيتم ما تحرثون» ثم بما به حياته؛ وهو الماء: فقالـ(1/663)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ثم بما به يصطلي، ويصنع طعامه، وبما به يصنع سلاحه؛ الذي به يدفع الغوائل عن نفسه، ويحفظ حياته ووطنه؛ وهي النار: فقال:(1/663)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فيا له من منعم، ويا له من متفضل؛ وله الحمد حتى يرضى(1/663)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} نزهه عما يقولون(1/663)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
قالوا: إن «لا» زائدة. أي {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وهي مطالع النجوم
[ص:664] ومساقطها، أو منازلها، أو وقوعها وانتثارها عند قيام الساعة. قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أو أريد {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: منازل القرآن الكريم؛ لأنه نزل منجماً: أي مفرقاً. وقيل: المراد به محكم القرآن(1/663)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عزيز جليل(1/664)
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون؛ وهو اللوح المحفوظ. وقد ذهب بعضهم إلى أنه المصحف(1/664)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} الملائكة عليهم السلام بأمر ربهم. ولا حجة لمن يقول: بتحريم مس المصحف لغير المسلم، ولغير المتوضىء؛ اللهم إلا إذا كان بقصد امتهانه؛ وحينئذٍ لا يكون حراماً بل كفر يقتل فاعله وقد نزل القرآن - حينما نزل - للناس أجمعين - كافرهم ومؤمنهم، طائعهم وعاصيهم - فكيف نحرم مسه على أناس أنزل إليهم، وأريد به هدايتهم؟(1/664)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} نزل به الروح الأمين، على قلب محمد لينذر به الخلق أجمعين
والقرآن الكريم - ولو أنه نزل بلسان العرب ولغتهم - غير أنه لا يساويه قول مهما علا، ولا كلام مهما سما؛ لأنه قول المنزه عن المثال والشبيه، المتعالي عن الصفات والأنداد
وحسب القرآن جلالة ومجداً: أن الأربعة عشر قرناً التي مرت عليه لم تستطع أن تذهب ببهاء أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالسماع أمس وإن الإنسان ليقرأ كلام أحب الناس إليه؛ فيمجه بالتكرار، ويعافه على مر الأيام. أما القرآن الكريم فكلما زدته تلاوة: ازداد حلاوة وكلما زدته عناية: ازداد لك رعاية وإذا استمسكت به: استمسك بك؛ حتى يسلمك إلى منزله تعالى فيعطيك من نعمته حتى يكفيك، ويفيض عليك من كرمه حتى يرضيك
ومن أعجب العجب: أن يحن الإنسان إلى استماع القرآن، ويطرب لتلاوته؛ ولو لم يفهم معناه، أو تبلغ ألفاظه أذنيه أدام الله تعالى علينا نعمة القرآن، وزادنا له حباً، وبه تمسكاً(1/664)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} أي أبهذا القرآن أنتم متهاونون مكذبون؟ يقال: دهن الرجل؛ إذا نافق. والمداهن: المظهر خلاف ما يبطن(1/664)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلون شكر رزقكم: أنكم تكذبون برازقكم وخالقكم(1/664)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
{فَلَوْلاَ} فهلا {إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} عند الموت. والحلقوم: ممر الطعام والشراب(1/664)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} فهلا إن كنتم غير مربوبين؛ تدينون لإله، أو غير محاسبين، ولا مجزيين؛ ولكم قدرة على البقاء والإبقاء؛ بغير استعانة بخالق الأرض والسماء: المحيي المميت، المبدىء المعيد(1/664)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
{تَرْجِعُونَهَآ} أي ترجعون تلك الروح التي بلغت الحلقوم إلى البدن {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمونه(1/664)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)
{فَأَمَّآ إِن كَانَ} الميت {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الذين قربهم الله تعالى منه؛ لإيمانهم وطاعتهم(1/665)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
{فَرَوْحٌ} أي فله استراحة، أو فله رحمة ومغفرة {وَرَيْحَانٌ} رزق حسن، طيب هنيء. أو المراد به: كل ما له رائحة من الزهور والمشمومات: تتلقاه به الملائكة عند موته؛ كما يتلقى العروس في الدنيا يوم عرسه(1/665)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، أو الذين يؤخذ بأيمانهم إلى الجنة؛ كما يأخذ الصديق بيمين صديقه، والحبيب بيمين حبيبه(1/665)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
{فَسَلاَمٌ لَّكَ} أي سلامة من العذاب، أو سلام لك من مولاك جل شأنه {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي سلام لك لأنك «من أصحاب اليمين»(1/665)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} الذين كذبوا الرسول والقرآن {الضَّآلِّينَ} الذين ضلوا سواء السبيل؛ وعصوا الرب الجليل(1/665)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
{فَنُزُلٌ} موضع نزولهم. والنزل: ما يعد لتكرمة الضيف {مِّنْ حَمِيمٍ} ماء بالغ غاية الحرارة. فإذا كان إكرامهم بالحميم؛ فكيف يكون تعذيبهم وامتهانهم؟(1/665)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال في جهنم(1/665)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
{إِنَّ هَذَا} التنعيم والتعذيب {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي الحق الواجب الحدوث، المتيقن الوقوع.(1/665)
سورة الحديد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/665)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي إن كل من عداه من مخلوقاته: يجله ويعظمه، ويسبح بحمده، حتى الجماد والوحش والطير؛ فإنها جميعاً تسبح بحمده {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(1/665)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
{هُوَ الأَوَّلُ} قبل كل شيء؛ بلا بداية {وَالآخِرُ} بعد كل شيء؛ بلا نهاية {وَالظَّاهِرُ} بالأدلة والبراهين الدالة عليه:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
لكونه تعالى غير مدرك بالحواس؛ ولو أنه ظاهر في مخلوقاته وآثاره {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} ما يدخل فيها: من البذر، والقطر، والموتى {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات، والمعادن، وغيرهما {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من الملائكة، والغيث، والشهب، وغيرها {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الأعمال والدعوات «إليه يصعد الكلم الطيب» {وَهُوَ مَعَكُمْ} بحفظه وكلاءته(1/665)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
{لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يتصرف فيهما كيف شاء {وَإِلَى اللَّهِ} وحده {تُرْجَعُ الأُمُورُ} فيقضي فيها بما أراد؛ لا راد لقضائه(1/665)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
{يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان هذا وزيادة ذاك
[ص:666] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخوافيها وما فيها(1/665)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني إن الأموال التي في أيديكم: إنما هي أموال الله تعالى؛ استخلفكم عليها؛ فإن أحسنتم التصرف فيها، وأديتم زكاتها، وأنفقتم في سبيله: نمت أموالكم، وزادت حسناتكم. وإن أسأتم التصرف، وأدرككم الشح المردي، ومنعتم ذوي الحاجات حاجاتهم، وأرباب الحقوق حقوقهم: استوجبتم النيران، وحل بواديكم الخسران(1/666)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لا تقرون بوحدانيته وربوبيته {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ} ويرشدكم إلى معرفته بالحجج القاطعة، والبراهين الدامغة؛ فليس لكم عذر بعد ذلك {وَقَدْ أَخَذَ} الله {مِيثَاقَكُمْ} في صلب آدم؛ حين قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وقلتم «بلى» (انظر آية 172 من سورة الأعراف)(1/666)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} محكمات، واضحات {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة)(1/666)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
{لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} أي فتح مكة، ورفعة الإسلام، وانتصار المسلمين. أو هو فتح الحديبية(1/666)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} في الدنيا. (انظر آية 245 من سورة البقرة)(1/666)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} في الجنة {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم. والمراد بذلك: أن وجوه المؤمنين تصير مضيئة كضوء القمر في سواد الليل؛ تكريماً لهم وتشريفاً؛ ويؤيده ما بعده {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وحقاً إن للمؤمن لنوراً يراه كل من أنار الله تعالى بصيرته في هذه الحياة الدنيا؛ فكيف بيوم القيامة: يوم الجزاء والوفاء
[ص:667] {وَبِأَيْمَانِهِم} أي يصير النور أمامهم وحواليهم؛ ويقال لهم {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} تدخلونها(1/666)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} وهم في العذاب والظلمات {لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا} أي انظروا إلينا {نَقْتَبِسْ} نأخذ ونستمد {مِن نُّورِكُمْ} فقد أعمانا ما نحن فيه من الظلمات {قِيلَ} أي قالت لهم الملائكة {ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} أي ارجعوا إلى أعمالكم التي عملتموها في الدنيا: هل تجدون فيها ما يؤهلكم للاستمتاع بهذا النور الذي يشع من المؤمنين وعليهم؟ {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} أي بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} هو سور الأعراف {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي باطن السور فيه المؤمنون والجنة {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ} من جهته {الْعَذَابُ} الكفار والنار أي ينادي المنافقون المؤمنين؛ قائلين لهم(1/667)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
{أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا: نصلي مثلما تصلون، ونصوم مثلما تصومون، ونحج مثلما تحجون؟ {قَالُواْ} أي قال المؤمنون للمنافقين {بَلَى} كنتم تعبدون معنا كما كنا نعبد، وتشهدون كما كنا نشهد {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أهلكتموها بالنفاق، وأوقعتموها في العذاب {وَتَرَبَّصْتُمْ} انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ}
شككتم في أمر التوحيد {وَغرَّتْكُمُ} خدعتكم {الأَمَانِيُّ} الأطماع الكاذبة؛ فلم تجاهدوا مع المجاهدين، ولم تنفقوا مع المنفقين {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} الموت {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان(1/667)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي أولى بكم(1/667)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} أي ألم يجىء الأوان الذي فيه تخشع قلوب المؤمنين {لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} القرآن {وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} الأجل أو طال الزمن بين نزول الكتب إليهم، ونزول الرسل بعد ذلك {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وكفروا بما آمنوا به، وتنكروا لكتبهم وشوهوها وحرفوها(1/667)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي كما أنه تعالى يحيي الأرض بعد موتها؛ كذلك ذكره تعالى يحيي القلوب بعد قساوتها {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ} أي والذين أقرضوا الله. والمقرض: هو الذي يبذل المال في الحياة الدنيا؛ رجاء ثواب الآخرة {يُضَاعَفُ لَهُمْ} الثواب والأجر {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الذين سبقوا إلى التصديق. لأن التصديق لا يكون باللسان؛ بل بالجنان وهم آمنوا، وصدقوا، وأنفقوا يقول أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين:(1/668)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} الذين آمنوا بي وبرسلي {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أنفقوا في سبيله تعالى؛ من غير رياء، ولا منَ، ولا أذى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أولئك هم {الشُّهَدَآءِ} أي في درجة الشهداء: في التنعم والقرب {عِندَ رَبِّهِمْ} في روضات الجنات {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي أعده الله تعالى لهم {وَنُورُهُمْ}
الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. أو المعنى: «أولئك» الذين مر ذكرهم(1/668)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{هُمُ الصِّدِّيقُونَ} وانتهى القول عند ذلك {وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} خبر جديد عن نوع آخر من خواص المؤمنين: وهم الشهداء(1/668)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
{اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي متاعها المعجل لكم: ما هو إلا {لَعِبٌ} تلعبونه {وَلَهْوٌ} تتلهون به {وَزِينَةٌ} تتزينون بها {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} يفخر بعضكم على بعض، ويسابق بعضكم بعضاً؛ بالأموال، والجاه، والأولاد. وذلك التفاخر والتكاثر، واللهو واللعب والزينة: مثله {كَمَثَلِ غَيْثٍ} مطر نزل على الأرض فازدهرت وأنبتت؛ وقد {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} الزراع {نَبَاتُهُ} أي نبات ذلك الغيث. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفاقة؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد خضرته {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} يابساً متكسراً. شبه تعالى حال الدنيا، وسرعة انقضائها؛ مع قلة جدواها: بالنبات الذي يعجب الزراع لاستوائه وقوته ونمائه؛ وبعد ذلك يكون حطاماً، ويدركه الفناء. وكذلك حال الدنيا: «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس» {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار؛ الذين ركنوا إلى لهو الدنيا ولعبها، وزينتها والتفاخر فيها {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لمن آمن بالله، وصدق برسله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ} وما فيها من تمتع وزخرف {إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي إلا متاع مزيف؛ لا أثر له. ورجل مغرور: مخدوع(1/668)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{سَابِقُواْ} بالأعمال الصالحة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} إشارة إلى أنه لا حد لها في العظم، وأنها من السعة بالقدر الذي لا يعرف مداه، ولا يوصل إلى منتهاه(1/668)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} من الجدب، وآفات الزرع والثمار {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} من الأمراض والأوصاب والموت {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ. ما أصابنا: لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا: لم يكن ليصيبنا (انظر آية 156 من سورة البقرة) {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أي من قبل أن نخلق الأنفس {إِنَّ} معرفة {ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين؛ لا يصعب ولا يشق عليه أن يعلم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن(1/669)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} من الأسى: وهو الحزن. أي أعلمكم الله تعالى بذلك لئلا تحزنوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} في الدنيا من ربح {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} الله تعالى منها.
هذا ومن المعلوم أنه ما من أحد يعقل: إلا ويحزن على ما يفوته، ويفرح بما يأتيه. ولكن المراد من الآية الكريمة: ألا يحزن حزناً مذهباً للثواب، ولا يفرح فرحاً موجباً للعقاب ولكن من أصابته مصيبة فجعل منها صبراً، ومن أصابه خير فجعل منه شكراً: كان جزاؤه الجنة {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} متكبر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ} به على الناس(1/669)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بما آتاهم الله من فضله لا يكتفون ببخلهم الذي أهلكهم وأرداهم؛ بل {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وهذا مشاهد فيمن أعمى الله تعالى بصائرهم، وقضى عليهم بالحرمان من لذة السخاء، وفرحة الإعطاء، وكتب لهم الشقاء. فهم في شقاء دائم في دنياهم، وعذاب واصب في أخراهم {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق(1/669)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحات {وَالْمِيزَانَ} الذي يوزن به. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام؛ وقال له: مر قومك يزنوا به. ويجوز أن يراد بالميزان: القانون الذي يحكم به بين الناس {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} أظهرناه؛ وذلك لأن من معاني الإنزال: الإظهار؛ يدل على ذلك إنزال القرآن {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وهو بمعنى إظهاره: إذ أن القرآن الكريم قديم - صفة الموصوف بالقدم - ونزوله: إظهاره للناس {فِيهِ بَأْسٌ} قوة {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وأي منافع فقد صار الحديد من ألزم لوازم الحياة، وإحدى الضرورات التي لا تستطيع أمة من الأمم أن تبني نهضتها ومجدها بما عداه: إذ منه تصنع القاطرات والطائرات، والسفن العظيمة التي تجوب المحيطات؛ وبغيره لا تكون الأسلحة على اختلاف درجاتها وأنواعها: من مدافع ودبابات وصواريخ وناسفات ذلك {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور للمخلوقات {مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} ينصر {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} حال كونه تعالى غائباً عن بصره، حاضراً في بصيرته: ينصره ولا يبصره
وهذا الوصف ينطبق تمام الانطباق على أمة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام؛ فقد آمنا بالله
[ص:670] ورسله بالغيب، ونصرنا الله تعالى - بإعلاء دينه، والدعوة إلى توحيده - ونصرنا رسله بالإيمان بهم جميعاً. وكل ذلك من غير أن نرى ربنا، أو نطلب رؤيته بأعيننا؛ ومن غير أن نرى رسله تعالى، أو نسمع دعوتهم، ونشهد معجزاتهم؛ فاستحققنا بذلك أن نكون خير أمة أخرجت للناس؛ فللَّه الحمد على ما أنعم، والشكر على ما به تفضل(1/669)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} إلى الناس {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} اسم جنس؛ أريد به التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ وهي في ذرية إبراهيم وحده {فَمِنْهُمْ} أي من المرسل إليهم {مُّهْتَدٍ} إلى طريق الحق، مؤمن ب الله ورسله {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون(1/670)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{ثُمَّ قَفَّيْنَا} أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم} أي على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا عيسى وآمنوا به، وكانوا على شرعته ومنهاجه {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} وهما صفتان يمن الله تعالى بهما على من ارتضى من عباده، وجعله أهلاً لكرامته وجنته {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} أي اخترعوها؛ وهي أنهم كانوا يهجرون النساء، وكثيراً من المطاعم والملابس؛ بقصد التجرد من الملذات والشهوات، والتفرغ للعبادة {مَا كَتَبْنَاهَا} ما فرضناها {عَلَيْهِمْ} ولم يفعلوها {إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} قاصدين بها وجهه الكريم؛ لكن من أتى بعدهم، وأراد السير على نهجهم: انتظم في سلك الرهبانية؛ قاصداً بذلك الصوالح الدنيوية؛ لذلك وصفهم الله تعالى بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كالذين سبقوهم إليها، وفرضوها على أنفسهم؛ ابتغاء ثواب الله تعالى(1/670)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه واخشوا غضبه وعقابه {وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ}
أي اثبتوا على إيمانكم به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} والمراد بالكفلين: كثرة الثواب، وعظم الأجر {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} المراد بالنور هنا: العقل؛ لأنه كالنور الذي يهتدى به: يرى الإنسان به الصواب فيتبعه، والخطأ فيجتنبه؛ كما أن النور يتجنب به الإنسان المهاوي والمزالق والمهالك {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} كثير المغفرة لمن تاب {رَّحِيمٌ} بعباده؛ أرحم بهم من أمهاتهم(1/670)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أي خشية أن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على نيل شيء من فضل الله - لو أسلموا - مثل ما نلتموه أنتم بإسلامكم، واستوجبتموه، بتقواكم وإيمانكم {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} كلام مستأنف؛ أي اعلموا أيها المخاطبون أن الفضل بيد الله، لا بيد غيره؛ ولا طريق لنيله إلا بالتزام الطاعة، واجتناب المعصية، وتحري مرضاته تعالى {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقيل: الضمير في {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} للذين آمنوا: الذين منحهم الله تعالى رفده
[ص:671] وفضله؛ وآتاهم كفلين من رحمته، وجعل لهم نوراً يمشون به في الدنيا والآخرة، وغفر لهم ذنوبهم، وآتاهم تقواهم و «لئلا يعلم» أي ليعلم، و «لا» زائدة، ويؤيد ذلك: قراءة من قرأ «ليعلم» و «لكي يعلم» وما قلناه أولاً هو أقرب إلى الصواب، وأجدر بالتفهم؛ ولم يسبقنا أحد إليه.(1/670)
سورة المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/671)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي} شأن {زَوْجِهَا} هي خولة بنت ثعلبة، امرأة أوسبن الصامت؛ وقد كان راودها فأبت، فغضب منها وظاهرها؛ فأتت رسولالله، وقالت له: إن لي منه صبية صغاراً، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. فقال لها: حرمت عليه. فقالت: يا رسول الله إنه ما ذكر طلاقاً، وهو أبو ولدي، وأحب الناس إليَّ. فقال عليه الصلاة والسلام: حرمت عليه. فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت هذه الآيات(1/671)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ} المظاهرة: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. فتبين منه {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ} تنكره العقول؛ إذ ليست الأزواج بأمهات {وَزُوراً} باطلاً وكذباً(1/671)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون لما حرموه على أنفسهم؛ مما أحله الله تعالى لهم. أو «يعودون» عما قالوه من الظهار، ويرغبون في إعادة أزواجهم إليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أن يعتق عبداً مملوكاً؛ عقوبة له على تحريم ما أحله الله تعالى (انظر آية 177 من سورة البقرة) {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي يعتق قبل أن يمس زوجته؛ بل تظل كالمطلقة {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تتعظون به، وتتأدبون؛ فلا تعودون إلى الظهار(1/671)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يكن في ملكه عبيد أرقاء، ولم يكن عنده مال يشتري به ويعتق {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} بحيث إنه إذا أفطر أثناءهما - ولو في اليوم الأخير - وجب عليه إعادة صوم الشهرين ابتداء {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} الصيام؛ لمرض، أو كبر، أو مشقة {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} من أوسط ما يطعم أهله؛ بشرط إشباعهم طول يومهم؛ وذلك الإعتاق، والصيام، والإطعام {لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فلا أدل على الإيمان من الطاعة والنزول على أمره تعالى(1/671)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ}
يعادون {كُبِتُواْ} أذلوا وأخزوا، وردوا بغيظهم من كفار الأمم السابقة: الذين عصوا رسلهم، وعادوهم وآذوهم(1/671)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من سوء {أَحْصَاهُ اللَّهُ} عليهم، وكتبه في صحائف أعمالهم
[ص:672] {وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} يحدث {شَهِيدٌ} مشاهد له، وعالم به(1/671)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} النجوى: المسارة. والمعنى أنه تعالى حاضر معهم، مطلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم {وَلاَ أَدْنَى} أقل من الثلاثة {وَلاَ أَكْثَرَ} من الخمسة؛ ولو بلغوا آلاف الآلاف {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ} في أقطار السموات، أو في أعماق المحيطات(1/672)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
{عَنِ النَّجْوَى} عن المسارة {وَإِذَا جَآءُوكَ} ودخلوا عليك {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} كانوا يقولون للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: السام عليك؛ مكان السلام عليك. والسام: الموت {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} أي هلا يعذبنا {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيتهم {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها(1/672)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} تساررتم {وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ} يعني لا تكون مسارتكم إلا بقصد البر بالناس {وَالتَّقْوَى} خشية الله تعالى؛ وهي تشمل كل خير وبر قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عذابه، واعملوا ما يرضيه {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
تجمعون يوم القيامة؛ فيحاسبكم على ما فعلتم من سوء، ويجزيكم على ما قدمتم من خير(1/672)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{إِنَّمَا النَّجْوَى} المسارة بالإثم والمعصية؛ كأن يناجي إنسان إنساناً على إذاية آخر، أو يناجيه على ارتكاب محرم؛ فكل هذا {مِنَ الشَّيْطَانِ} يوعز به لبني الإنسان {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهم الذين لم يستمعوا للنجوى؛ بل رأوا المتناجين فظنوا أنها ضدهم. وقيل: كان الرجل يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فيسأله حاجته؛ فكان إبليس اللعين يوسوس إليهم: إنه ناجى الرسول بشأن شدة الأعداء، وكثرة جموعهم؛ فيحزن المؤمنون لذلك
[ص:673] {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} أي ليس الشيطان بضار أحد من المؤمنين، أو من المتناجي ضدهم {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم وأحوالهم؛ فهو جل شأنه لا شك ناصرهم ومعينهم (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/672)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} والتفسح في المجالس من أكرم الخلال الإسلامية والخلق الإنسانية فيجب على كل مؤمن أن يفسح لأخيه الذي يريد الجلوس، أو الصلاة؛ ولو لم يقل بلسانه {وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ} أي إذا قيل: انهضوا وانصرفوا، فانصرفوا: ولا ينتظرن أحدكم أن يقال له ذلك في مجلس من المجالس؛ بل عليه أن يراعي حالة الجالسين إليه، وأنسهم به؛ فإذا ما افتقد رعايتهم له، واهتمامهم بأمره: انصرف مشكوراً مأجوراً؛ قبل أن تمجه الأسماع، وتعافه الأبصار وهذا هو الأدب الرباني، والخلق القرآني؛ فاستمسك به أيها المؤمن: تعش سالماً من البغض، آمناً من الحقد وقيل: كان ذلك في مجالس الرسول خاصة والأولى أنها عامة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} وعملوا بطاعة الله تعالى، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام {وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} كل بقدر عمله بعلمه. فمنهم من يعلم ولا يعمل، ومنهم من يعلم ويعمل؛ ولكنه فاسد الذوق، بليد الإحساس؛ يأتي سائر المكروهات، ويرتكب سائر المحرمات: فتراه يناجي من بجانبه بلا سبب، ويجلس مكان أربعة رجال بسبب عنجهيته، ولا يفسح المكان إذا ضاق بمن فيه، ولا يقوم من مجلسه - رغم بغض الجالسين له - حتى يكون عليهم كالطاعون؛ بل وشر من الطاعون فماذا أفاد علمه بجانب هذا الإحساس البارد، والذوق السمج؟ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر(1/673)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أردتم محادثته سراً؛ لأمر يهمكم {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هو حث على التصدق؛ عند طلب الحاجة من الله تعالى، أو من رسوله عليه الصلاة والسلام. وذلك كقوله: «داووا مرضاكم بالصدقة» وهي نعم الدواء عن تجربة {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} ما تتصدقون به عند مناجاة الرسول، أو عند الدعاء {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم {رَّحِيمٌ} بكم(1/673)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً} صادقوهم، واتخذوهم أولياء. والمراد بالقوم: بعض اليهود لعنهم الله تعالى {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} أي ليسوا من المؤمنين، ولا من اليهود؛ بل هم منافقون(1/673)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
{اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ستراً ووقاية لنفاقهم؛ يحلفون لك لتصدقهم، وما هم بصادقين {فَصَدُّواْ} بتوليهم اليهود {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينه؛ فهؤلاء(1/674)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
{لَّن تُغْنِيَ} لن تدفع {عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} التي يجمعونها {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الذين يعتزون بهم {مِّنَ اللَّهِ} من عقوبته وعذابه(1/674)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
{فَيَحْلِفُونَ لَهُ} في الآخرة كذباً. قال تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين» {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآن في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ} بحلفهم هذا {عَلَى شَيْءٍ} بأن ينفعهم حلفهم في الآخرة؛ ويتخذونه «جنة» كما اتخذوه في الدنيا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} في الدنيا والآخرة(1/674)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
{اسْتَحْوَذَ} استولى {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} تذكره، والعمل بأوامره(1/674)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
{يُحَآدُّونَ} يعادون {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} المغلوبين، المعذبين يوم القيامة(1/674)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
{كَتَبَ اللَّهُ} قضى، وخط في أم الكتاب، وقال؛ وقوله الحق {لأَغْلِبَنَّ} الكافرين {أَنَاْ وَرُسُلِي} بالحجة، والسيف؛ وذلك لأن الذلة للكافرين والمنافقين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(1/674)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ} يتحببون إلى {مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} عاداهما، وخالف أمر الله ونهيه {وَلَوْ كَانُواْ} هؤلاء المحادون المعاندون {آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} بل يضعون مكان الود البغض، ومكان الحب الحرب.
نفى تعالى الإيمان عمن يواد الكفار {وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ويقاس على ذلك العصاة والفسقة. وهل بعد مخالفة الله تعالى ورسوله، ومجاهرتهما بالعصيان من محادة؟ فليتدبر هذا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {أُوْلَئِكَ} إشارة إلى من استمع لكلام ربه، واتبع توجيهه ونصحه؛ فلم يتخذ من الكافرين والفاجرين أولياء، أو أحباء؛ فهؤلاء {كَتَبَ} الله تعالى {فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} جزاء بغضهم لمن يكره، وحبهم لمن يحب فواجب المؤمن أن يحب في الله، ويبغض في الله {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} بقوة منه. وقيل: الضمير في «منه» راجع للإيمان؛ أي وأيدهم بروح من الإيمان؛ فازدادوا إيماناً ويقيناً، والإيمان في ذاته: روح القلوب وحياتها
[ص:675] {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويجدّ في نيلها المتقون أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم عنه اللهم ارض عنا وأرضنا؛ بقدرتك علينا، وحاجتنا إليك؛ يا رب العالمين، يا مالك يوم الدين، يا ألله، ياألله، ياألله {أُوْلَئِكَ} الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وأدخلهم جنته، ورضي عنهم وأرضاهم «أولئك» {حِزْبُ اللَّهِ} أحبابه وأنصاره: اتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه؛ فكانوا موطناً لحبه، وأهلاً لحزبه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون في الدنيا والآخرة. (انظر آية 54 من سورة المائدة).(1/674)
سورة الحشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/675)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{سَبَّحَ لِلَّهِ} نزهه وقدسه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من أملاك ومخلوقات {وَمَا فِي الأَرْضِ} من إنس وجن، ووحش وطير «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم»(1/675)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود {مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} هم بنو النضير: أخرجهم المسلمون من ديارهم؛ حينما نقضوا عهدهم؛ وكان ذلك أول حشرهم إلى الشام. وقيل: إن آخر حشرهم: إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه لهم. أو هو حشر يوم القيامة.
هذا وقد يكون الحشر الثاني: هو خروجهم من فلسطين - بعون الله تعالى وقدرته - بعد أن تملكوها، وشتتوا أهلها في البراري والقفار، وسفكوا دماءهم، وقتلوا أطفالهم، وفضحوا نساءهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} كانت النضير - قبل إجلائهم عن ديارهم - يخربونها؛ لئلا ينتفع المسلمون بها، وقد خرب المسلمون باقيها بالسلب والمغانم(1/675)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
{الْجَلاَءَ} الخروج من الوطن {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ولكنه تعالى اكتفى بما حل بهم من خزي خروجهم من وطنهم، وذلة مفارقتهم لبيوتهم(1/676)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
{ذَلِكَ} الخزي في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة} خالفوا وعادوا(1/676)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ} نخلة {} بأمره وقضائه؛ نقمة منه تعالى(1/676)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{وَمَآ أَفَآءَ} الفيء: الغنيمة {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أي لم تسيروا إليه خيلكم، ولا ركابكم(1/676)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ} أي حتى لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء منكم خاصة. والمراد: حتى لا تتداوله الأغنياء منكم، وتتكثر به؛ مع حاجة الفقراء إليه، واضطرارهم له(1/676)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} أي توطنوا المدينة {وَالإِيمَانَ} أي تمسكوا به وألفوه كما يألف الإنسان داره ووطنه؛ وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم {مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وقد بلغ بهم الحب أن تآخوا معهم، وقاسموهم أموالهم. وقد بلغ من شدة حبهم، ومزيد تفانيهم: أن كان الأنصاري ينزل لأخيه المهاجر عن إحدى زوجتيه - أيتهما شاء - ويزوجها له {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} كمداً، أو حقداً على المهاجرين {مِّمَّآ أُوتُواْ} أي بسبب ما أوتوه من الفيء والغنائم. وقد كان يعطي المهاجرين ويمنع الأنصار؛ وهم أحب إليه منهم الخصاصة: الفقر والحاجة؛ وقد نزلت هذه الآية في الأنصار لأنهم آثروا المهاجرين بكل ما في أيديهم؛ رغم افتقارهم وحاجتهم إليه. وقيل: ذهب أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم - بعد انتهاء إحدى المواقع - يبحث عن أخيه القتيل؛ وفي يده كوز فيه ماء ليسقيه إن كان به رمق؛ فوجده يحتضر، فناوله الكوز، وبعد أن رفعه إلى فيه سمع بجواره أنين جريح آخر؛ فأشار إلى أخيه أن يسقيه قبله؛ فذهب إليه فوجده قد أسلم الروح؛ فعاد إلى أخيه فوجده قد لفظ النفس الأخير: فنزلت هذه الآية. وسأل شاب من أهل بلخ أبا زيد: ما الزهد عندكم؟ قال: إذا وجدنا شكرنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال البلخي: هكذا عندنا كلاب بلخ؛ بل نحن إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة، حريصة على المنع. وأما البخل: فهو المنع نفسه(1/677)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد الذين تبوأوا الدار والإيمان من الأنصار. والمقصود بهم المهاجرون {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} من الأنصار {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} فقد آمنوا بالرسول، وابتنوا المساجد، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ قبل أن يحضروا إليهم(1/677)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ} هم عبد اللهبن أبي ابن سلول وأصحابه {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم بنو النضير؛ يقولون لهم تقوية لقلوبهم، وإثارة لهم ضد المؤمنين {لَئِنْ} غلبكم المؤمنون، و {أُخْرِجْتُمْ} من دياركم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} بالامتناع عن معونتكم {وَإِن قُوتِلْتُمْ} أي قاتلكم المؤمنون {لَنَنصُرَنَّكُمْ} عليهم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ} يعلم {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وإنما أرادوا بذلك إثارتهم وتحمسهم ضد المؤمنين(1/677)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
{لَئِنْ أُخْرِجُواْ} أي لئن أخرج المؤمنون بني النضير {وَلَئِن قُوتِلُواْ} أي قاتلهم المؤمنون {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لأن من صفات المنافق: الجبن؛ فهم جبناء. والكذب؛ فهم كاذبون {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} ساعدوهم فرضاً، وصدقوا في وعودهم {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} معهم: المنافقون وبنو النضير جميعاً؛ فقد كتب الله النصر لعباده، والخذلان لأعدائهم؛ فلا تجدي القوة، ولا يجدي الإقدام؛ فما بالك وهم ضعفاء أذلاء جبناء(1/678)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
{لأَنتُمْ} أيها المؤمنون {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ} وذلك لأنهم يؤمنون بقوتكم وبطشكم، ولا يؤمنون ببطش الله تعالى وقوته. فإيمانهم في هذه الحال كإيمان البهائم: لا تؤمن إلا بحامل سوط أو عصا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ولو فقهوا لآمنوا بالله، وأطاعوا رسوله، وأنجوا أنفسهم من غضبه وعقابه
بعد أن وصف الله تعالى حال اليهود والمنافقين، ومبلغ إيمانهم به: أراد جل شأنه أن يصف مبلغ شجاعتهم وإقدامهم؛ فقال عز من قائل: إنهم لو أرادوا قتالكم؛ فإنهم(1/678)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} مجتمعين {إِلاَّ} إن كانوا {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} يأمنون فيها بطشكم {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} حوائط تقيهم بأسكم وسهامكم {بَأْسُهُمْ} بطشهم وشدتهم {بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي هم شديدو العداوة لبعضهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} متحدين، ذوي ألفة {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة؛ لا ألفة بينهم ولا مودة(1/678)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كفار بدر {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا الهلاك، الذي هو عاقبة كفرهم. فمثل المنافقين واليهود(1/678)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ} موسوساً إليه {اكْفُرْ فَلَمَّا} أطاعه و {كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} فكذلك المنافقون. قالوا لليهود: «لئن أخرجتم لنخرجن معكم ... وإن قوتلتم لننصرنكم» فلما جد الجد: تخلوا عنهم وأسلموهم للتهلكة، وصدق فيهم قول الحكيم العليم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1/678)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ} أي عاقبة الشيطان. ومن أطاعه، والآمر بالكفر والفاعل له، والمنافقين واليهود(1/678)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي ما قدمت من الأعمال الصالحة - في دنياها - ليوم القيامة(1/678)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ} تركوا ذكره وتذكره، وخشيته ومراقبته {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أنساهم الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعهم في معادهم، أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم(1/678)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أن لو جعلنا للجبل تمييزاً كما جعلنا لكم، وأنزلنا عليه هذا القرآن؛ بوعده ووعيده: لخشع وخضع، واستكان وتشقق؛ خوفاً من الله تعالى ومهابة له، واعترافاً بوجوده وقدرته أو أريد بالجبل كما هو، وأنه - كسائر الجمادات - كائن يسبح دائباً بحمد الله تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وأنه لو ألقي عليه القرآن: لما وسعه إلا الخشوع، ولما كان من شأنه إلا التصدع من خشية الله تعالى.
أو هو كقول القائل للسامع المعاند: لقد قلت لك قولاً يفهمه الحمار. ومن المعلوم أن الحمار لن يفهم؛ ولكنه دليل على قوة الحجة، وأنها مفهمة مفحمة ولكن السامعين لها كانوا أحط من البهائم، وأخس من السوائم، وأصم من الجمادات(1/679)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
{عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن الأنظار، ودق على الأسماع {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} {وَالشَّهَادَةِ} ما شوهد وبان للعيان. لأن من يعلم ما غاب؛ فإنه لما ظهر أعلم(1/679)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
{الْمَلِكُ} الذي لا يزول ملكه {الْقُدُّوسُ} المنزه عن كل قبيح. ومن تسبيح الملائكة له سبحانه: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) جل شأنه، وعز سلطانه {السَّلاَمُ} الذي سلم الخلق من ظلمه، وعم الكون عدله، وسلم كل من لجأ إليه واحتمى به. وهو الاسم الكريم الذي تدعو به الأنبياء يوم القيامة: يا سلام، يا سلام، يا سلام سلمنا الله تعالى من غضبه. ووقانا عقوبته، وأدخلنا جنته؛ بحرمة أسمائه {الْمُؤْمِنُ} واهب الأمن؛ الذي يأمن عذابه من أطاعه {الْمُهَيْمِنُ} الرقيب، الحافظ لكل شيء {الْعَزِيزُ} الغالب؛ الذي لا يغلب، ولا يناله ذل {الْجَبَّارُ} العالي العظيم؛ الذي يذل له من دونه: والكل دونه {الْمُتَكَبِّرُ} ذو العظمة والكبرياء {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتعالى وتقدس؛ من هذه أسماؤه وتلك صفاته(1/679)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{الْبَارِىءُ} الموجد للأشياء؛ بريئة من النقص والتفاوت {لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} (انظر آيتي 180 من سورة الأعراف و110 من سورة الإسراء) {يُسَبِّحُ لَهُ} ينزهه ويقدسه.
هذا وقد ختمت هذه السورة المباركة بمثل ما بدئت به: فقد كان بدؤها «سبح لله» بصيغة الماضي، وختامها «يسبح له» تعالى؛ بصيغة المضارع. فتعالى من سبح له كل مخلوق، وسبحت له سائر الأشياء(1/679)
سورة الممتحنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/680)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} أي لا تتخذوا الكفار - الذين هم أعدائي: فلا يؤمنون بي، وأعداؤكم: فيسعون في إيصال الأذى بكم - أولياء توالونهم؛ وتتخذون منهم أصدقاء وأحباء {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بالحب، ومظاهر الاحترام. وكيف يكون هذا حالكم معهم {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} الإسلام والقرآن. ولم يكتفوا بكفرهم وتكذيبهم؛ بل بلغ من إيذائهم أنهم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي لأنكم تؤمنون ب الله ربكم {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي} فاحذروا ذلك؛ إذ أن خطر المنافق في الحرب أبلغ من خطره في السلم {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وهذا غير لائق بالمؤمنين {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} لا تخفى منكم خافية {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي يوالي العصاة، والكافرين، والمنافقين، ويوادهم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الحق والصواب؛ لأنهم(1/680)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي إن يجدوكم ويظفروا بكم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتال {وَأَلْسِنَتَهُمْ} بالإيذاء(1/680)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} قراباتكم لهم {وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} المشركون؛ و(1/680)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} قدوة {حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إذ تبرأ من أبيه حين أبى الإيمان
[ص:681] {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} فاكفناهم الدنيا (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}
رجعنا وأقبلنا(1/680)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لا تسلطهم علينا؛ فيفتنوننا بعذاب لا نطيقه {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن العالمين {الْحَمِيدُ} المحمود في كل حال(1/681)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} بانضمامهم إلى زمرتكم، واعتناقهم دينكم؛ فلا تحتاجون بعدها للوقوع في إثم موالاة الكافرين، وإلقاء المودة لهم {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على ذلك؛ وقد أسلم خلق كثير من المشركين؛ فصاروا لهم أولياء ونصراء {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لما سبق منكم قبل النهي {رَّحِيمٌ} بكم؛ لا يعاقبكم(1/681)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} يرينا الله تعالى أنه يجب علينا: حسن المعاملة، وطيب المعاشرة؛ مع سائر الأجانب الذين لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، أو يحتلوا أوطاننا.
أما الذين يعتدون على ديننا أو بلادنا: فلزاماً علينا معاداتهم ومقاتلتهم {أَن تَبَرُّوهُمْ} أن تكرموا الذين لم يقاتلوكم، ولم يعتدوا عليكم؛ وأن تحسنوا إليهم قولاً وفعلاً {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} تعدلوا بينهم ولا تظلموهم(1/681)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} عن موالاة ومصاحبة {الَّذِينَ} أضمروا لكم العداوة، و {قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي بسبب الدين ومن أجله {وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} من مكة {وَظَاهَرُواْ} عاونوا أعداءكم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} فهؤلاء هم الذين ينهاكم ربكم {أَن تَوَلَّوْهُمْ} أي تتخذوهم أولياء وأصدقاء {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} ينصرهم، أو ينتصر بهم؛ بعد ظهور نياتهم، وإبداء سيئاتهم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الكافرون(1/681)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} أي نساء الكفار؛ مهاجرات إليكم، راغبات في دينكم {فَامْتَحِنُوهُنَّ} اختبروهن في إيمانهن. روي أن رسولالله كان يقول للتي يريد أن يمتحنها: «ب الله الذي لا إله إلا هو: ما خرجت من بغض زوج؟ ب الله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض؟ ب الله ما خرجت التماس دنيا؟ ب الله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله؟» وهذا هو الامتحان الذي أمر به الله تعالى، ونفذه رسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولكم ظاهر قولهن، و {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فإن كن صادقات: فهن ناجيات، وإن كن كاذبات: فهن معذبات
[ص:682] {فَإِنَّ} أدين امتحانهن، و {عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى} أزواجهن {الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} لأنهن حرمن عليهم بالإيمان {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأنهم كافرون {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا من المهور. وذلك لأن المهر: مقابل الاستمتاع، وقد زال الاستمتاع ببينونتها منه بسبب إسلامها؛ وليس بسبب طلاقه لها
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا إثم ولا حرج {أَن تَنكِحُوهُنَّ} تتزوجوهن بعد ذلك {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن. وقد شرط تعالى إيتاء المهر في نكاحهن: إيذاناً بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي اللاتي ارتددن ولحقن بالكفار اطلبوا {مَآ أَنفَقْتُمْ} من المهر(1/681)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} اللائي لحقن بأهلهن من {الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أي فأردتم القصاص {فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} أي أعطوهم {مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} من المهور على أزواجهم. وذلك من مهور من لحق بكم من المؤمنات اللاتي كن متزوجات من الكفار؛ وبذلك تحصل المقاصة التي أمر بها الله تعالى، وتقرها القوانين الوضعية {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فلا تجوروا في ذلك؛ بل مثل بمثل(1/682)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} يعاهدنك: فعاهدهن {عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} قد يكون المراد بالإشراك هنا: الإفراط في الحرص على المال، والإفراط في حب النفس والأولاد، والجبن؛ لأن الله تعالى وصفهن أولاً بالمؤمنات {إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فوجب أن ينصرف الشرك عن عبادة ما عدا الله تعالى؛ إلى ما يبلغ حبه والحرص عليه حد العبادة {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} لم يرد أن أما قتلت وليدها في الجاهلية؛ وإنما كان يقوم بذلك الرجال دونهن؛ بطريق الوأد خشية العار، والقتل خشية الإملاق. وقد كان ذلك يتم برضاهن؛ فكن شريكات في الإثم. قال: «إذا قتل إنسان في المشرق، ورضي عن ذلك إنسان في المغرب: كان شريكاً في دمه» {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ} بكذب وزور {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} وهو ما أخذته المرأة لقيطاً؛ وزعمت لزوجها أنه ولدها منه بين وهو ما ولدته المرأة من زنى(1/682)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً} لا تصادقوهم، ولا تتخذوا منهم خلصاء وأحباباً.
[ص:683] {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ} أي أنكروا البعث ويئسوا من الإعادة يوم القيامة، أو يئسوا من الأجر والثواب؛ لأنهم لا إيمان لهم يجزون عليه، ولا عمل صالح يثابون بسببه {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} الأحياء {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أن يعودوا إليهم مرة ثانية. أو «كما يئس الكفار» الذين هم في القبور؛ أن يرجعوا إلى الدنيا، أو يأسهم من ثواب الآخرة؛ لانقطاع عملهم بموتهم.(1/682)
سورة الصف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/683)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{سَبَّحَ لِلَّهِ} نزهه وقدسه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أي من فيها من الملائكة، والكواكب والأفلاك؛ مما أحاط به علمنا، وما لم يحط به {وَمَا فِي الأَرْضِ} من إنس وجن، ووحش وطير، وهواء وماء، ونبات وجماد {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في صنعه(1/683)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وهو أن يأمر الإنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه؛ وقد عناه الشاعر بقوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
تصف الدواء لذي السقام، وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم(1/683)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
{كَبُرَ مَقْتاً} كبر: عظم. والمقت: أشد البغض(1/683)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} مصطفين، متساندين، متعاونين، مقدمين على لقاء العدو {كَأَنَّهُم} لإقدامهم وتمسكهم {بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} لا ينهار؛ لشدته واستوائه(1/683)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالتكذيب والمعاندة {وَقَد تَّعْلَمُونَ} بما قدمت لكم من البراهين(1/683)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
{أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} لا شك في رسالتي؛ بعد وضوح صدقي، وقيام معجزاتي {فَلَمَّا زَاغُواْ} مالوا عن الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} صرفها عن الحق، وأمالها عن الهداية؛ عقوبة لهم على زيغهم، وعدم إيمانهم
[ص:684] {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مصدقاً لما تقدمني من الأنبياء، والكتب التي جاءوا بها {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} هو إمام الرسل: نبينا محمد؛ وهو محمد، وأحمد، ومحمود، وحامد؛ وله عليه الصلاة والسلام من الأسماء مائتا اسم وواحد؛ منها: الطاهر، المطهر، الطيب، رسول الرحمة، المدثر، المزمل، حبيب الله، صفيالله، نجيالله، كليم الله، المحيي، المنجي، البشير، النذير، النور، السراج المنير، البشرى، الغوث، الغيث، نعمة الله، صراط الله، سيف الله، المختار، الشفيع، المشفع. وهي مدونة بكتب الحديث والسير؛ مزينة بها حوائط مسجده الشريف بالمدينة المنورة. (انظر آية 157 من سورة الأعراف) {فَلَمَّا جَاءَهُم} أحمد عليه الصلاة والسلام؛ الذي بشروا به. وقيل: الضمير في «جاءهم» عائد إلى عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه المحدث عنه {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الظاهرات، والآيات الواضحات: كفروا به و {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح بيَّن(1/683)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بأن كذب بآياته وبرسله {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ} الذي ينجيه من الضلالة والجهالة، ويخلصه من ظلمات الكفر {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي} إلى دينه {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين يدفعون المعجزات بالتكذيب، والآيات بالإنكار(1/684)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} أي ليبطلوا نور الحق الذي جاء به محمد؛ بما يقولونه {بِأَفْوَاهِهِمْ} من أنه ساحر، وأن ما جاء به سحر(1/684)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام؛ الذي هو حق كله {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اسم جنس؛ أي ليظهره على سائر الأديان(1/684)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لما كان الله تعالى بمنه وكرمه يثيب على الإيمان والعمل الصالح؛ شبه هذا الثواب، والنجاة من العذاب بالتجارة؛ فمن قدم عملاً صالحاً: لقي جزاء رابحاً، ومن قدم إحساناً: لقي جناناً، ومن أرضى مولاه: أرضاه ربه وكرمه ونعمه فلا تجارة أنجح من هذه التجارة، ولا فوز أربح من هذا الفوز(1/684)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما يصلحكم، وما ينجيكم(1/684)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه(1/685)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي ويمن عليكم بخصلة أخرى تحبونها؛ وهي النصر، والفتح القريب {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يا محمد - في الدنيا - بالنصر والفتح القريب، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1/685)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم أنصار عيسى عليه السلام، وحواري الرجل: خاصته وأنصاره {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} غالبين.(1/685)
سورة الجمعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/685)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي يقدسه، وينزهه كل شيء فيهما: من ملك، وإنس، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد. (انظر آية 44 من سورة الإسراء) {الْمَلِكِ} المالك؛ الذي لا ملك سواه، ولا سلطان لمن عداه، ولا سعادة لمن عاداه {الْقُدُّوسِ} المنزه عن النقائص {الْعَزِيزِ} الغالب الذي لا يغلب {الْحَكِيمِ} في صنعه(1/685)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} الذين لا يقرأون؛ لأن أمة العرب كانوا لا يقرأون ولا يكتبون من بين سائر الأمم. وقيل: «الأميين» نسبة إلى أم القرى مكة زادها الله تعالى شرفاً {رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي من بني جلدتهم، ومن جنسهم، أمياً مثلهم: وهو محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام
[ص:686] {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} المنزلة من لدنه؛ بواسطة ملائكته عليهم السلام {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من دنس الشرك، وخبائث الجاهلية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} الأحكام، وما يليق بذوي الأفهام {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} إرساله إليهم {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فقد كانوا يئدون بناتهم خشية الإملاق؛ فعرفهم أن خالقهم قد تكفل بأرزاقهم {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وكانوا يرثون النساء ويعضلوهن؛ فنهاهم عن ذلك، وأمرهم بإكرامهن {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وكانوا يصنعون أصنامهم بأيديهم، ثم يعبدونها. فقبح عملهم، وسفه أحلامهم {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}(1/685)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} أي ويعلم آخرين منهم؛ وهم سائر الأمة من بعده؛ فهو عليه الصلاة والسلام المعلم الأول لأمته إلى يوم القيامة، ولله در القائل:
لم يوفق موفق قط إلا
جاءه عن طريقه التوفيق
{لَمَّا} لم {يَلْحَقُواْ بِهِمْ} في السابقة والفضل وهل يستوي من تمتع بصحبة الرسول، وفاز بطلعته؛ بمن لم يره؟ والمعنى: لم يلحقوا بهم، وسيلحقون بهم في الجنة، أو سيلحقون بهم إذا اهتدوا بهديهم، وساروا على طريقتهم {ذَلِكَ} الفضل الذي أسبغه الله تعالى على من فاز بصحبة النبي ورؤيته؛ فذلك(1/686)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
{فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يخص به من شاء من عباده(1/686)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ} أي كلفوا علمها والعمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لم يعملوا بما كلفوا به {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} الذي لا يفهم شيئاً {يَحْمِلُ أَسْفَاراً} إذا حمل كتباً عظاماً؛ فلا ينتفع بما في هذه الكتب؛ فكذلك هؤلاء اليهود «حملوا التوراة» فكانوا «كمثل الحمار» إذا حمل أسفاراً {قُلْ} يا محمد لليهود(1/686)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ} أحباء له تعالى {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه - كما تزعمون - فتمنوا على الله أن يميتكم، وينقلكم إلى جواره في دار كرامته(1/686)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} لأن الكافر والعاصي لا يتمنيان الموت {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} من الكفر والمعاصي؛ لما ينتظرهم من العقاب على ما قدمت أيديهم (انظر آية 42 من سورة الزمر) في الدنيا؛ فيجازيكم عليه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} إذا أذن لها(1/686)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
{مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} في المساجد (انظر آية 27 من سورة الحج).
[ص:687] {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} اتركوا التجارة الخاسرة، واسعوا إلى التجارة الرابحة(1/686)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ} امشوا فيها؛ وهو أمر إباحة، لا أمر إلزام {وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}
رزقه؛ بالسعي في مصالحكم، أو أريد بفضل الله: العلم(1/687)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{انفَضُّواْ} تفرقوا من عندك، وعن الاستماع إلى نصحك {انفَضُّواْ} أي إلى التجارة أو اللهو {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة؛ فقدم دحية بن خليفة بتجارة من الشام؛ فقاموا إليه وتركوا النبي قائماً وحده؛ ولم يبق معه غير اثني عشر رجلاً من صحابته عليه الصلاة والسلام {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} من الأجر والثواب {خَيْرٌ} مما انصرفتم إليه {مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} لأن الصلاة: مرضات لله، والله جل شأنه يملك الدنيا والآخرة، ويملك خزائن الأرض والسموات. فإن شاء أبكاكم، وإن شاء أضحككم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} وإن شاء أعطاكم، وإن شاء منعكم {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ولا رازق سواه أصلاً وإن قيل: فلان يرزق عياله؛ فقد أريد أنه يسعى عليهم من فضل الله(1/687)
سورة المنافقون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/687)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يا محمد {قَالُواْ} نفاقاً ورياء {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} شهد المنافقون بذلك أو لم يشهدوا {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فيما يقولون(1/687)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
{اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي اتخذوا شهادتهم للرسول بالرسالة: وقاية لهم من القتل والأسر (انظر آية 16 من سورة المجادلة) {فَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه القويم {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من نفاقهم وكذبهم. وقد لحقهم السوء - في حياتهم - بانكشاف سترهم، وانفضاح أمرهم، وسيلحقهم - بعد موتهم - فيما يلقونه من العذاب في قبورهم، وفي الجحيم بعد بعثهم(1/687)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
{ذَلِكَ} السوء الذي وقع منهم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {آمَنُواّ} أي نطقوا بكلمة الشهادة؛ كسائر من يدخل في الإيمان
[ص:688] {ثُمَّ كَفَرُوا} ظهر كفرهم بما أبدوه من نفاقهم. أو قالوا كلمة الإيمان للمؤمنين {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} غطى عليها؛ فلا تقبل الإيمان؛ بسبب نفاقهم، وكفرهم بعد إيمانهم. فالطبع على قلوبهم: كان عقوبة لهم؛ لأن كفرهم سابق على طبع الله تعالى وتغطيته على قلوبهم؛ و {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}(1/687)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} أي إذا رأيت هؤلاء المنافقين {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} لأنهم أصحاء أقوياء {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لأنهم بلغاء فصحاء {كَأَنَّهُمْ} لخلوهم من الفائدة، وحرمانهم من النفع
{خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} لأنهم أجرام خالية من الإيمان {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لأنهم جبناء {هُمُ الْعَدُوُّ} حقيقة {فَاحْذَرْهُمْ} لأنهم يشيعون الذعر في صفوف الجنود، أكثر مما يشيعه الأعداء المحاربون {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم وطردهم من رحمته {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه؟(1/688)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
{لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} تكبراً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان(1/688)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} للأغنياء {لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} من فقراء المؤمنين؛ الذين يمتون إليهم بالرحم والقرابات {حَتَّى يَنفَضُّواْ} يتفرقوا عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَلِلَّهِ} وحده {خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعطي منها من شاء، ويمنع من شاء {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لعمى قلوبهم {لاَ يَفْقَهُونَ} هذه الحقيقة البديهية؛ ومن غفلتهم أيضاً أنهم(1/688)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
{يَقُولُونَ لَئِن} من غزوة بني المصطلق {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ} الأعظم، والأقوى؛ يعنون بذلك أنفسهم؛ لغناهم وتكبرهم {مِنْهَا} أي من المدينة {الأَذَلَّ} الأضعف. عنوا بذلك المؤمنين؛ لفقرهم وتواضعهم {وَلِلَّهِ} وحده {الْعِزَّةُ} الغلبة والقوة؛ يهبهما لمن شاء من عباده {وَلِرَسُولِهِ} أيضاً العزة؛ يضفيها على أتباعه {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وليست لكم؛ لأن العزة لا تكون إلالله وبالله؛ وأنتم عنه بعداء(1/688)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم {أَمْوَالُكُمْ} وجمعها والحرص عليها {وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ}
وفرط الرغبة في إسعادهم؛ مضحين في سبيل ذلك بأوامر ربكم، وبما فرضه عليكم من الإنفاق والبذل؛ ناسين وعده بالإخلاف والأجر؛ فلا يلهكم الإنشغال بذلك {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} تذكره، وخشيته؛ وإطعام الفقير في سبيله، وإنفاق المال على حبه {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} فيتلهى بجمع المال، وحفظه للعيال {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأموالهم ولآخرتهم؛ بل ولأولادهم أيضاً فكم قد رأينا من أبناء الأغنياء، من أضاع ما جمعه الآباء؛ فيما يغضب الله تعالى من الملذات والشهوات. وبعد ذلك صاروا عالة على المجتمع: يتكففون الناس، ولا يجدون قوت يومهم وما ذاك إلا من سوء نيات آبائهم، وبعدهم عن مرضات ربهم وكم قد رأينا من أبناء الفقراء: من أضحوا - بين عشية وضحاها - سادة؛ بل قادة وما ذاك إلا من اتباع آبائهم لدينهم، واستماعهم لنصح ربهم وتذكر هداك الله قول الحكيم العليم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فاحرص - كفيت ووقيت - على إرضاء مولاك؛ فيقيك الضر والفقر، ويحفظ عليك دينك وبدنك وعيالك؛ ويقيهم المذلة من بعدك، ويحسن دنياك وآخرتك فيا سعادة من جعل ماله ذخراً له عند ربه، وجعل الله تعالى ذخراً لولده من بعده(1/689)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} كما أمركم {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسبابه ومقدماته {فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا} هلا {أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} كما أمرت {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما قصر أحد في الزكاة والحج، إلا سأل الرجعة عند الموت. نعوذ ب الله تعالى من ذلك(1/689)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر؛ فيجزيكم عليه.(1/689)
سورة التغابن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/689)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي كل شيء فيهما: من ملك، وإنسان، وحيوان، وجماد (انظر آية 44 من سورة الإسراء) {لَهُ} وحده {الْمُلْكُ} والملكوت، وهو وحده المتصرف فيه؛ لا شريك له {وَلَهُ الْحَمْدُ} على كل حال(1/689)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} من نفس واحدة
[ص:690] {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} بخالقه، منكر لرازقه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، موحد له {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فمعاقبكم على الكفران، ومثيبكم على الإيمان.
وقد ذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن الله تعالى خلق هذا كافراً، وخلق هذا مؤمناً؛ وبذلك يكون - أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين - قد ألزم الكافر بالكفر، وألزم المؤمن بالإيمان؛ وهذا المعنى - رغم فساده وإفساده - فإنه يتنافى مع قول العزيز الجليل {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فأذع - أيها المؤمن اللبيب - فساد هذا المعنى، وقبحه، وتمسك بما نقول: تحظ بالقبول وتذكر قول الحميد المجيد {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
قال عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ إنما دهاك أسفلك وأعلاك؛ وربك بريء من ذاك وإذا كانت المعصية حتماً؛ فالعقوبة عليها ظلماً»(1/689)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من الكفر والعناد - أن يرى في تصوير الآدمي نقصاً أو اعوجاجاً؛ وإن الإنسان لو تأمل في يده - مثلاً - ورأى أنها كيف تنقسم إلى خمسة أصابع، وكيف أن كل أصبع من هذه الأصابع ينقسم إلى عدة مفاصل: لما وسعه إلا أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين وأين اليد وحسنها؛ من الوجه ودقة تصويره، وبديع تنسيقه؟ حقاً إن دقة هذا الصنع، وإحكام هذا الوضع؛ ليشهدان لمبدعهما بالقدرة والوحدانية والربوبية.
فنعم الخالق، ونعم المصور {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المرجع؛ فيثيب الطائع، ويعذب العاصي(1/690)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب(1/690)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
{فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} الوبال: الهلاك. أي ذاقوا الهلاك؛ الذي هو عاقبة بغيهم، وعقوبة كفرهم(1/690)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الواضحات، والآيات الظاهرات {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يا للعجب؛ ينكرون رسالة البشر، ويؤمنون بربوبية الحجر {فَكَفَرُواْ} بالمعجزات والآيات {وَتَوَلَّواْ} انصرفوا عن الإيمان {وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} عنهم وعن إيمانهم {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن سائر المخلوقات {حَمِيدٌ} محمود في كل أفعاله(1/690)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} يعادوا للحساب والجزاء يوم القيامة أي تجزون عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر(1/690)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
{وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} هو القرآن الكريم؛ وهذا الاسم من أجلِّ أسمائه؛ إذ أن النور: يستضاء به في الظلمات، والقرآن الكريم: ينير القلوب، ويمحو الشبهات، ويهدي إلى الجنات(1/690)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم غبن الكافر، وضعفه، وخسارته، وحسرته. أو هو يوم التناسي: أي نسيان الكافر من الرحمة والنعمة. والتغابن
[ص:691] يطلق على التناسي، والخسران، والضعف. وأصل الغبن: النقص في الثمن، أو رداءة المبيع في البيع. ولما كان الكافر لا يجزى عن أعماله الصالحة التي عملها في الدنيا {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} كان مثله كمثل المغبون {يُكَفِّرْ} يمح(1/690)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{مَآ أَصَابَ} الإنسان {مِن مُّصِيبَةٍ} في المال أو النفس {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته وتقديره (انظر آية 156 من سورة البقرة) {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} جزاء على إيمانه.
وهكذا ربك يجزي دائماً الإحسان بالإحسان: يزيد من آمن إيماناً، ومن اهتدى هداية {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} أما من ضل وغوى؛ فإنه تعالى يزيده، ضلالاً على ضلاله، وخبالاً على خباله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}(1/691)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
{فَإِن تَولَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان والطاعة(1/691)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا إله يعبد سواه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قرن تعالى التوكل عليه بكلمة التوحيد: لأن الإيمان بغير توكل لا أثر له؛ إذ أن كلمة التوحيد: إيمان باللسان، والتوكل: إيمان بالقلب، ووثوق بوجوده تعالى وقدرته (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/691)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} وهو ما يبدو كثيراً من نشوز بعض الأزواج وجهلهن، وعقوق بعض الأولاد وطيشهم {فَاحْذَرُوهُمْ} أي فاحذروا عداوتهم. والحذر: الاحتراز، والاستعداد، والتأهب. والاحتراز من الأعداء: دفعهم، والتأهب للقائهم وقتالهم. أما الحذر والاحتراز من الأحباء: فهو إزالة أسباب العداء. كيف لا؛ والزوج: قد أوصى بها الرب، وهي الصاحب بالجنب. وقد أمرنا ببسط المودة لها، والرحمة بها أما الأولاد: فهم فلذات الأكباد؛ وزينة الحياة الدنيا وقد أمرنا إلهنا، وهدانا إلى دفع أعدائنا بالإحسان: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فمن باب أولى يكون دفع الأزواج والأبناء؛ وهم من خير الأحباء فوجب ألا يكون دفع عداوتهم، والحذر منهم: إلا بالإحسان إليهم، ومزيد برهم والعطف عليهم؛ فينقلب بغضهم محبة، وعداوتهم مودة يدل على ذلك قول الحكيم العليم {وَإِن تَعْفُواْ} عنهم {وَتَصْفَحُواْ} عن عداوتهم {وَتَغْفِرُواْ} ذنوبهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم ولهم {رَّحِيمٌ} بكم وبهم
هذا وقد سار جل الناس، وأغلب المفسرين على وتيرة واحدة في فهم هذه الآية بأوسع معاني العداء: حتى لقد زعم بعض المفسرين أن «من» بيانية، لا تبعيضية؛ فتبلبلت الخواطر، وحل الإزعاج مكان الطمأنينة؛ ونظر كل والد إلى أولاده بعين الارتياب، وكل زوج إلى زوجته بعين التوجس والاحتياط ألم يقل الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ألم نر بعض شرار الأبناء يقتلون(1/691)
آباءهم، وبعض الفاجرات يكدن لأزواجهن؛ بما يصل إلى حد الإيقاع بهم ظلماً، أو دس السم في طعامهم؟ ألم يناد نوح ابنه للنجاة؛ فأبى إلا اتباع الطغاة؟ وامرأة نوح، وامرأة لوط؛ ألم تكونا من أعداء زوجيهما وأعداء الله؟
كل هذا ساعد على فهم هذه الآية ذلك الفهم الخاطىء؛ الذي لا يحتمله كتاب الله تعالى ولا يرتضيه سبحانه لمعاني كلامه المجيد فقد أنزل تعالى كتابه لتهدأ النفوس لا لتنزعج، ولتطمئن القلوب لا لترتاع والشر كما يأتي من شرار الأبناء: فقد يأتي من شرار الآباء وكما يأتي من شرار الزوجات: فإنه قد يأتي من شرار الأمهات
ولكنا لو تفهمنا هذه الآية بالعقل السليم، وعلى ضوء المنطق المستقيم، وعلى هدى الكتاب الكريم: لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن هذا الفهم، وهذا الزعم. وكيف يثير الحكيم العليم العداوة بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات؛ ويفرض وجود العداوة بينهم فرضاً لا مرية فيه، ووجوب الحيطة والحذر منهم؛ وهو جل شأنه القائل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فالأساس السكن والتراحم، لا العداء والبغضاء وقد بان لنا من ذلك أن العداء المشار إليه في الآية ليس بالعداء الحقيقي الذي يكون بين الألداء يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فالذي يلهي عن ذكر الله تعالى هو العدو المبين؛ الواجب الحيطة، المستوجب الحذر فهل معنى ذلك أن الأبناء من الأعداء المستوجبين للحيطة والحذر؟ ويقول جل شأنه أيضاً: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} والمزين هو الشيطان الواجب مخالفته، المفروض محاربته؛ فهل معنى ذلك أن قربان الزوجة إثم؛ لأنه من الشهوات؟ وحب البنين جرم؛ لأنه مما زينه الشيطان؟
وإنما أراد الله تعالى بهذه الآية الشريفة: أن من الأولاد والأزواج من يفعل بكم ما يفعله الأعداء: من تعويقكم عن الذكر والطاعات أليس الولد مجبنة مبخلة كما يقولون؟ وأي جرم أشد من الجبن، وأي إثم أحط من البخل؟
وقد أريد بهذه الآية الكريمة: الاحتياط من الانشغال عن الطاعات بالملذات، والحذر من الاشتغال بحب الأولاد عن حب الله تعالى والحرص على العبادات وأي عدو أعدى من المخلوق الذي يشغل عن الخالق، والمرزوق الذي يصرف عن الرازق؟(1/692)
وكن وسطاً في حبك، وسطاً في ميلك هداك الله تعالى إلى صراطه المستقيم
ومن قبل زعم المفسرون أن سليمان - وهو من خيرة الأنبياء - قتل بضعة آلاف من الخيل لأنها عطلته عن صلاة العصر؛ عند قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} وهي فرية على سليمان عليه السلام افتراها اليهود الأفاكون الملاعين
وهذا لا يمنع من وقوع بعض الهنات، من الأبناء والزوجات؛ وهو الذي أشار إليه المولى جل وعلا بقوله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقد أشار المولى الكريم إلى المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً وعضدناه بشتى الحجج والآيات بقوله عز وجل:(1/693)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي بلاء ومحنة؛ يوقعونكم في الإثم من حيث لا تشعرون(1/693)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واعملوا بأوامره {وَاسْمَعُواْ} نصح القرآن {وَأَطِيعُواْ} داعي الرحمن {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} وأي خير ينال الإنسان: أسمى من الإحسان؟ وأي خير يحتسبه المؤمن عند ربه: أفضل من الإنفاق؟ فأنفق أيها المؤمن - جهد طاقتك، ووسع مالك - فذلك خير لك في دنياك، وسعادة دائمة لك في أخراك {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة حريصة على المنع. أما البخل: فهو المنع نفسه. والمراد هنا: بخل النفس بالزكاة والصدقة، بدليل قوله تعالى:(1/693)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
{إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} عبر تعالى عن المتصدق بالمقرض؛ وذلك إثباتاً لحقه في الوفاء له بالأجر. وجعل تعالى نفسه مقترضاً: ليطمئن المقرض إلى رد ما بذله إليه. لأنه كلما كان الملتزم مليئاً: كان الوفاء محققاً؛ فما بالك والمقترض ملك الملوك، وأغنى الأغنياء؛ وقد وعد بالوفاء وفوق الوفاء؛ فقال تعالى: {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} وينميه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم؛ زيادة على مضاعفة أجوركم ومن ذلك نعلم أن الصدقة: ترضي الرب، وتمحو الذنب {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {وَاللَّهُ شَكُورٌ} كثير المجازاة على الطاعات {حَلِيمٌ} يعفو عن السيئات(1/693)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما خفي، وما ظهر؛ وهو {الْعَزِيزُ} في ملكه: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء {الْحَكِيمُ} في صنعه(1/693)
سورة الطلاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/693)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلات لها. والمراد ألا تطلق المرأة إلا في طهر لم تجامع فيه، ثم تخلى
[ص:694] حتى تنقضي عدتها {وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ} اضبطوها؛ فلا تزيدوا عليها، ولا تنقصوا منها {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} حتى تنقضي عدتهن {وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} هي الزنا: تخرج من بيتها لحتفها تخرج لترجم؛ إذ ما فائدة إحصاء العدة مع زناها؟ فربما علقت من الزاني بها {بِفَاحِشَةٍ} الأوامر هي {حُدُودُ اللَّهِ} التي لا يجوز تجاوزها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بتعريضها للعقاب {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أيها المطلق {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ} الطلاق {أَمْراً} أي لعل الله - وهو مقلب القلوب - يقلب قلبك من بغضها إلى محبتها، ومن طلاقها إلى رجعتها؛ فتراجعها وهي في بيتك، وتحت كنفك(1/693)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء عدتهن {فَأَمْسِكُوهُنَّ} راجعوهن؛ إن أردتم {بِمَعْرُوفٍ} بغير قصد إلحاق الضرر بهن بتلك المراجعة {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} على المراجعة، أو الطلاق. هذا وقد أجمع الفقهاء على وقوع الطلاق بمجرد إرادته والنطق به. وقد جرى العمل على ذلك في صدر الإسلام؛ وبذلك يكون المراد بالإشهاد: الإشهاد على المراجعة دون الطلاق. وقد خالف الشيعة الإجماع، وزعموا أن الطلاق بدون إشهاد: لغو، لا يقع، ولا يعتد به. وقد رأى بعض مفكري هذا العصر: منع وقوع الطلاق إلا أمام القاضي؛ وهو رأي فاسد يأباه صريح القرآن، وما سار عليه السلف الصالح من الأمة؛ فالطلاق يقع - بلا قيد ولا شرط - متى رغب الزوج في إيقاعه؛ ولا تستطيع قوة على ظهر الأرض منعه من هذا الحق الذي جعله الله تعالى متنفساً للزوجين (انظر مبحث الطلاق بآخر الكتاب) {وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}
أي أدوا الشهادة لوجهه تعالى؛ لا من أجل المطلق أو المطلقة {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} أي تلك الأحكام يتعظ بها وينتفع {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} القيامة، وما فيها من حساب وجزاء {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في أموره {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من كرب الدنيا والآخرة(1/694)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أي من حيث لا يخطر بباله. أو المراد {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في معاملة أزواجه، ويتبع ما أمره الله تعالى به؛ في طلاقهن. أو إمساكهن {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} بأن يقيم له اعواجاجها إذا أمسكها، أو يبدله خيراً منها إذا طلقها «ويرزقه» مهراً ونفقة {مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} عن الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إني لأعرف آية لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم؛ وهي: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب» {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه. قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (انظر آية 81 من سورة النساء)
[ص:695] {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} منفذ أمره ومراده {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} شرعه؛ كالطلاق، والعدة ونحوهما {قَدْراً} زمناً لازماً؛ لا يجوز نقصانه(1/694)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} لكبر سنهن {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي إن شككتم في عدتهن، أو إن شككتم فيما ينزل منهن: أهو حيض، أم استحاضة؟ {وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ} لصغرهن؛ فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ} النساء الحوامل {أَجَلُهُنَّ} انتهاء عدتهن {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أن يلدن؛ ولو بعد الطلاق بدقائق معدودات {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في أموره كلها {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}
فيهون عليه كل شيء أراده: زواجاً، أو طلاقاً، أو غير ذلك(1/695)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ} يمح {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} في الآخرة(1/695)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} أي مثل سكناكم، أو مكاناً من نفس مسكنكم {مِّن وُجْدِكُمْ} أي وسعكم، وقدر طاقتكم {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ} في المسكن {لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} وليفتدين أنفسهن منكم {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أنفقوا عليهن مدة الرضاع {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي ليكن أمركم بينكم بالمعروف: في شأن النساء، وإرضاع الأولاد؛ فلا يأمر أحدكم بظلم المرضع المطلقة، وهضم حقوقها، والنيل منها؛ ومن كان متكلماً فليقل خيراً أو ليصمت. أو هو أمر للآباء والأمهات بأن يفعلوا ما يجب عليهم بما يليق بالسنة، وتقتضيه المروءَة؛ فيبذل الأب أعلى ما يستطيع، وتقبل الأم أدنى ما تستطيع؛ وذلك لأنهما شريكان في الرضيع {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تشددتم؛ كأن تتغالى الأم في زيادة النفقة، أو يتغالى الأب في الشح بها {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} هذا منتهى العتاب للأم على المعاسرة؛ أي فستقبل امرأة أخرى أن ترضع الصغير؛ وهي ليست له بأم(1/695)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} أي لينفق ذو غني من غناه، الذي وسع به عليه الله {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق عليه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} أي ما أعطاها من الرزق {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} هو وعد من الله تعالى بالتيسير على من أنفق قدر طاقته ووسعه. كأن سائلاً سأل: ذاك الموسع عليه قد أنفق من سعته؛ فما بال من ضيق عليه يؤمر بالإنفاق؟ فجاءت الإجابة على هذا السؤال، من لدن ذي الجلال: إن الإنفاق ما هو إلا علاج للإملاق {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (انظر الآيات 267 - 274 من سورة البقرة)(1/695)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
{وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم من قرية {عَتَتْ} تمردت {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} منكراً عظيماً(1/695)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي ذاقت الهلاك؛ الذي هو عاقبة أمرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أي خسراناً وهلاكاً(1/695)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
{يأُوْلِي الأَلْبَابِ} يا ذوي العقول {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} هو القرآن الكريم {رَّسُولاً} أي
[ص:696] وأرسل إليكم رسولاً. ويجوز أن يكون المعنى {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي شرفاً عظيماً:(1/695)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
«رسولاً» من لدنه {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {قَدْ أَحْسَنَ} في الجنة {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1/696)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ} بالوحي والأرزاق، والإحياء والإفناء {بَيْنَهُنَّ} أي بين السموات والأرض(1/696)
سورة التحريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/696)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قيل: إنه شرب عسلاً عند زينب بنت جحش؛ فأدرك أمهات المؤمنين - من الغيرة - ما يدرك سائر النساء من البشر: فتواطأت عائشة وحفصة على أن يقولا له: إنا نشم منك ريح المغافير - وهو صمغ كريه الرائحة يغش به العسل - فلما سمع منهما ذلك: حرم العسل على نفسه؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: حرم على نفسه مارية أم ولده إبراهيم مرضاة لحفصة(1/696)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي شرع لكم ما تتحللون به من أيمانكم؛ وهو الكفارة {وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ} يتولاكم برعايته وتدبيره وإرشاده(1/696)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} حفصة {حَدِيثاً} هو تحريم العسل؛ أو مارية القبطية {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرت بهذا الحديث عائشة رضي الله تعالى عنها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي أطلعه على هذا الإنباء {عَرَّفَ} النبي حفصة {بَعْضَهُ} عرف بعض الذي أفشته من سره عليه الصلاة والسلام {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} فلم يعرفها أنه قد اطلع عليه. وقيل «عرف» بمعنى عاتب، وآخذ(1/696)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ} قيل: المعنى: هلا تتوبا إلى الله {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي مالت إلى ما كرهه النبي؛ من اجتناب العسل، أو تحريم مارية {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي تتعاونا على إيذائه، وحب ما يكره {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} أي وليه وناصره {وَجِبْرِيلُ} أيضاً {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي والصالحون من المؤمنين {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة - على كثرتهم وقوتهم - بعد نصر الله تعالى له أعواناً(1/696)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} بسبب ما بدا منكن {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ}
لا يتظاهرن عليه، ولا يتآمرن، ولا يفشين سره لغيره {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} مطيعات {سَائِحَاتٍ} صائمات والسائح: الصائم الملازم للمساجد {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} حسبما يريد، وكيفما شاء (انظر آية 125 من سورة البقرة)(1/696)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ
[ص:697] آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي اعملوا الأعمال الصالحة، وائتمروا بالأوامر، واجتنبوا النواهي، وأمروا أهليكم بها، وألزموهم الطاعة والعبادة؛ لتتقوا بذلك النار؛ التي {وَقُودُهَا النَّاسُ} الكافرون والمخالفون {وَالْحِجَارَةُ} وذلك لأن جهنم من قوتها وشدتها: تذيب الحجارة {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ} هم خزنتها عليهم السلام؛ وعدتهم تسعة عشر {غِلاَظٌ} على أهل النار {شِدَادٌ} أقوياء؛ لا يمنعهم مانع، ولا يدفعهم دافع {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} به من البطش والتنكيل بالكافرين(1/696)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي توبة صادقة خالصة. والتوبة النصوح: أن يتوب عن الذنب؛ فلا يعود إليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان {عَسَى رَبُّكُمْ} إن تبتم {أَن يُكَفِّرَ} يمحو {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم {وَبِأَيْمَانِهِمْ} حواليهم (انظر آية 12 من سورة الحديد) {يَقُولُونَ رَبَّنَآ} بإدخالنا الجنة(1/697)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والسنان {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجة والبيان {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} شدد عليهم بالحدود(1/697)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} في الدين والمعاشرة؛ فقد كانت امرأة نوح تقول لقومه: إنه مجنون؛ وكانت امرأة لوط تدعو قومه إلى إذاية أضيافه (انظر آية 46 من سورة هود)
{فَلَمْ يُغْنِينَا} أي لم يدفع نوح ولوط {عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ} من عذابه {شَيْئاً} ولم ينفعهما أن كان زوجاهما من الأنبياء، ومن خيرة خلق الله تعالى، وأقربهم لديه(1/697)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظته {فَنَفَخْنَا فِيهِ} أي نفخ جبريل في فرجها بأمرنا {مِن رُّوحِنَا} المخلوقة لنا؛ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يهبها لمن يشاء إحياءه، أو المراد: نفخنا في فرجها بواسطة روحنا؛ الذي هو جبريل. وقد تأول قوم الفرج هنا: بالخرق، أو الفتق في درع مريم؛ وهو ليس بشيء. وإنما ألجأهم إلى هذا التأويل: خشية أن يقول قائل: إنما كانت ولادتها لعيسى عن الطريق المعهود لسائر من يولد من البشر {وَصَدَّقَتْ} آمنت {بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} شرائعه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه. أو المراد «بكلمات ربها» عيسى عليه السلام؛ لأنه كلمة الله؛ يؤيده قراءة من قرأ «بكلمة ربها» {وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بكتبه. يعني التوراة والإنجيل، وما أنزل من قبل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} المطيعين العابدين.(1/697)
سورة الملك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/698)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{تَبَارَكَ} تعالى وتقدس عن صفات المخلوقين {الَّذِي بِيَدِهِ} أي تحت تصرفه، وطوع إرادته، ورهن مشيئته {الْمُلْكُ} السلطان والقدرة(1/698)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} في الدنيا {وَالْحَيَاةَ} في الآخرة؛ أو خلقهما في الدنيا؛ لأن إيجاد الحياة في النطفة: إحياء لما يتخلق منها {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم ويمتحنكم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجزيه في الدنيا، ويحييه فيها حياة طيبة، ويكرمه في الأخرى وينعمه {وَهُوَ الْعَزِيزُ} القادر على الإكرام، وعلى الانتقام {الْغَفُورُ} لمن تاب وأناب(1/698)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} مطابقة؛ بعضها فوق بعض {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ} أي في مخلوقاته: صغيرها وكبيرها، حقيرها وجليلها، نفيسها وخسيسها {مِن تَفَاوُتِ} التفاوت: عدم التناسب والتناسق {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي رده إلى مصنوعات الله تعالى {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي هل ترى من عيب أو خلل. والفطر: الشق(1/698)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ثُمَّ ارجِعِ} عادوه {كَرَّتَيْنِ} مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي يرجع إليك بصرك ذليلاً حسيراً. والمعنى: أن بصرك لن يرى عيباً ولا خللاً؛ مهما بحث ونقب عن عيب أو خلل(1/698)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} السماء الأولى، القريبة من الأرض {بِمَصَابِيحَ} بكواكب؛ هي منها بمثابة المصابيح المضيئة؛ وهي النجوم {وَجَعَلْنَاهَا} أي جعلنا هذه النجوم - فضلاً عن كونها مصابيح تضيء لكم - {رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} بأن ينفصل شهاب من النجم - كالقبس من النار - فيمحق الشيطان الصاعد لاستراق السمع {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي أعددنا للشياطين(1/698)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
{سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} أي سمعوا لها صوتاً منكراً، وهي تغلي بهم(1/699)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} جعلت كالمغتاظة؛ استعارة لشدة غليانها بهم، وإيلامها لهم {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} جماعة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} الملائكة الموكلون بها {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رسول ينذركم ما أنتم عليه الآن من العذاب(1/699)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} فبعداً لهم عن رحمة الله(1/699)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} يخافونه قبل معاينة العذاب، ويؤمنون به من غير أن يرونه(1/699)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخفايا القلوب؛ لأنها من خلقته تعالى، ويعلم ما تهجس به(1/699)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الْخَبِيرُ} بخلقه(1/699)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} لينة، سهلة، مذللة {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا} في جوانبها ونواحيها؛ طلباً للرزق {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} الذي يرزقكم به {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} مرجعكم بعد بعثكم إن عصيتم(1/699)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
{مَّن فِي السَّمَآءِ} {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} بعد أن جعلها لكم ذلولاً، تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه: يخسفها بكم - لكفرانكم بتلك النعم - كما خسفها بقارون {فَإِذَا هِيَ} بعد استقرارها {تَمُورُ} تضطرب وتتحرك، ثم تنقلب بكم؛ فتدفنكم في جوفها(1/699)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
{حَاصِباً} حجارة من السماء، أو ريحاً ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى {فَسَتَعْلَمُونَ} وقتذاك {كَيْفَ نَذِيرِ} أي كيف كان إنذاري لهم بالعذاب، وكيف تحقق ذلك الآن(1/699)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي كيف إنكاري لهم على هذا التكذيب؛ بإنزال العذاب بهم، وإهلاكهم(1/700)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{أَوَلَمْ يَرَوْا} من دلائل قدرتي ووحدانيتي {إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} في جو السماء {صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن {وَيَقْبِضْنَ} يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن {مَا يُمْسِكُهُنَّ} حال طيرانهن في الهواء {إِلاَّ الرَّحْمَنُ} لأنه تعالى مسخر الهواء؛ ولو شاء لأمسكه؛ فلا يجدي الطائر طيرانه، ولم تفده أجنحته؛ مهما قبضها أو بسطها؛ وكيف لا يمسك الطير حال طيرانه؛ من يمسك الفلك حال دورانه، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه(1/700)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} يعني إذا علمتم أنه تعالى قادر على أن يخسف بكم الأرض فيهلككم، وأن يرسل عليكم حاصباً فيفنيكم؛ فمن هذا الذي هو جند لكم: تلجأون إليه، وتحتمون به؟(1/700)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ} الله تعالى عنكم {رِزْقَهُ} الجواب: لا أحد. ولكن الكافرين لا يسمعون، ولا يعقلون {بَل لَّجُّواْ} تمادوا {فِي عُتُوٍّ} عناد واستكبار {وَنُفُورٍ} من الإيمان، واتباع الطريق السوي(1/700)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} ساقطاً على وجهه؛ يتعثر في كل خطوة؛ لما هو فيه من الظلام. وهو مثل ضربه الله تعالى للكافر. أي أهذا الذي يمشي مكباً على وجهه؛ يتعثر في ظلمات الكفر والجهل {أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} مستوياً معتدلاً؛ يرى بنور الله، ونور الإيمان {عَلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن. فالكافر «يمشي مكباً على وجهه» والمؤمن «يمشي سوياً على صراط مستقيم»(1/700)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} من لا شيء، ومن غير مثال سبق {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ}
خص الله تعالى بالذكر هذه الحواس: لأنها مناط العلم، وأداة الفهم(1/700)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{ذَرَأَكُمْ} خلقكم {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة؛ للحساب والجزاء(1/700)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدنا به؟(1/700)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ} أي منذر بوقوعها، وما يحدث فيها {مُّبِينٌ} بيّن الإنذار، واضحه {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}(1/700)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي الحساب والعقاب يوم القيامة {زُلْفَةً} قريباً. والزلفة والزلفى: القربى والمنزلة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ساءها رؤية العذاب؛ فاسودت وعلتها الكآبة، وغشيتها القترة {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} أي تذكرون ربكم وتطلبون منه أن يعجله لكم. وقريء «تدعون» من الدعاء؛ أي تطلبون. قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1/700)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} قرن تعالى التوكل عليه؛ بالإيمان به. والتوكل على الله تعالى: من موجبات رحمته، وعزائم مغفرته (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/701)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي غائراً، ذاهباً في الأرض {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} جار، تراه العين؛ يصل إليه من أراده.(1/701)
سورة القلم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/701)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
{ن} قيل: إنه إشارة إلى الدواة، وما بعدها القلم {وَالْقَلَمِ} وما بعده الكتابة {وَمَا يَسْطُرُونَ} أما ما قيل من إن «ن» اسم للحوت، الذي يحمل الثور، الذي يحمل الأرض فهو قول بادي التحريف، واضح التصحيف. ولعل المراد بالقلم: القلم الذي تكتب به الملائكة وما يسطرونه - بأمر الله تعالى - من أرزاق العباد وآجالهم. وفي القسم بالقلم والكتابة: إعلاء لشأن الكاتبين، ودعوة إلى تعلم الكتابة ومحاربة الأمية. وحسبك دليلاً على شرف القلم: أنه يقيم الدول ويقعدها، ويزلزل الممالك ويوطدها. وما تقدم قسم: جوابه(1/701)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي ما أنت يا محمد - وقد أنعم ربك عليك بالنبوة والرياسة العامة - بمجنون كما يدعون(1/701)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} لثواباً غير مقطوع(1/701)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} يا له من شرف رفيع، وقدر منيع؛ لم يخطر على قلب بشر، ولم يطمح لإدراكه إنسان، ولم يدرك شأوه مخلوق: رب العزة يصف محمدبن عبد الله بأنه على خلق عظيم فأي فضل شمل الله تعالى به نبيه وأي مقام رفع إليه عبده، ورسوله، وصفيه وخليله؟
وقد كان من خلقه: العلم، والحلم، والعدل، والصبر، والشكر، والزهد، والعفو، والتواضع، والعفة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والرحمة، والوقار، وحسن الأدب والمعاشرة؛ إلى ما لا حد له من الأخلاق المرضية، والخلال العلية؛ التي اختصه بها خالقه جل شأنه
وحقاً إن المادحين مهما وصفوا وبالغوا في مدح الرسول؛ صلوات الله تعالى وسلامه عيه؛ فلن يصلوا إلى بعض ما بلغه من شرف مدح الله تعالى له؛ ولله در القائل:
يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق
أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ... أثنى على أخلاقك الخلاق؟(1/701)
وهو عليه الصلاة والسلام: خاتم المرسلين وإمامهم، وشفيع المؤمنين ورائدهم؛ سيد ولد آدم ولا فخر
وقد وقف غلاة الكافرين؛ حيال عظمته مشدوهين، ووصفه ألد أعدائه ومقاتلوه بالصادق الأمين؛ صلاة تبلغنا رضاه، وتجعلنا أهلاً لشفاعته ومحبته
هذا وقد مدحه كثير من كتاب الغرب والفرنجة بمدائح لم يصل إليها مادحوه من المسلمين، وإليك شذرات مما قاله فيه أساطين كتاب الغرب:
قال «برناردشو» الفيلسوف الانكليزي الكبير: إنني أعتقد أن رجلاً كمحمد؛ لو تسلم اليوم زمام الحكم المطلق في العالم بأسره: لتم النجاح في حكمه، ولقاده إلى الخير، ولحل مشاكله على وجه يحقق للعالم السلام والسعادة المنشودة
وقال «لامرتين» شاعر فرنسا الكبير: إن حياة محمد، وقوة تأمله وتفكيره، وجهاده، ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه، وشهامته، وجرأته، وبسالته، وثباته ثلاثة عشر عاماً؛ يدعو دعوته في وسط أعدائه؛ وتقابله سخرية الساخرين، وهزء الهازئين، وحروبه - التي كان جيشه فيها أقل من عدوه عدة وعدداً - ووثوقه بالنجاح. وإيمانه بالظفر؛ وإعلاء كلمته، ونجواه التي لا تنقطع مع الله، وقبض الله إياه إلى جواره؛ مع نجاح دينه بعد موته: كل ذلك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً؛ أو يعيش على باطل ومين
وقال «ميور» الكاتب الانكليزي الكبير: لقد امتاز محمد بوضوح كلامه، ويسر دينه؛ وقد أتم - في حياته - من الأعمال ما يدهش العقول؛ ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة، في زمن قصير؛ كما فعل محمد
وقال «إدوار جيبسون» الكاتب الروسي الكبير: إن دين محمد خال من الظنون والشكوك؛ لأنه ينهى عن عبادة الكواكب والأصنام؛ وهو دين أكبر من أن تدرك أسراره عقولنا الحالية
وقال «توماس كارليل» الفيلسوف الانكليزي الشهير: ليس من المعقول أن تكون رسالة محمد - التي عاش فيها ومات عليها هؤلاء الملايين من المسلمين خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن - أكذوبة كاذب، أو خدعة مخادع؛ أرأيت رجلاً مدعياً؛ يستطيع أن يبني بيتاً من الطوب؛ مع جهله بخصائص البناء؟ أما محمد فقد بنى بيتاً بقيت دعائمه اثني عشر قرناً، وسكنه الملايين من الأنفس لقد كان متقشفاً في مسكنه،(1/702)
ومأكله، وملبسه؛ وربما تتابعت الأيام - بل الشهور - ولم توقد بداره نار وكان دائب السعي لنشر دين الله ليلاً ونهاراً؛ غير طامع في مرتبة، ولا طامح إلى سلطان، أو متطلع إلى صيت أو شهرة ولم يكن ذليلاً، ولا متكبراً؛ فهو قائم في ثوبه المرقع: يخاطب قياصرة الروم، وأكاسرة العجم؛ بقوله المبين ويرشدهم إلى ما يجب عليهم وقد كان محمد صادقاً؛ ما في ذلك ريب هذا الذي خلق من الصحراء القاحلة: دولة وشعباً، وأمة إنه لم يمارس معجزة، ولم يدع أنه قادر على إتيانها؛ ولكن حياته ذاتها: كانت معجزة تفوق كل المعجزات
وكيف يستطيع الواصف أن يصف أخلاق من آذاه قومه بأقسى ضروب الإيذاء، وابتلوه بأشنع أنواع الابتلاء؛ فلم يقابل أذاهم بالدعاء عليهم؛ بل بالدعاء لهم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» وقديماً أصيب نوح عليه السلام ببعض ما أصيب به محمد، فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} فتبارك من خصنا ببعثته، وشرفنا برسالته (انظر آية 199 من سورة الأعراف)(1/703)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسترى ما وعدناك به من النعيم المقيم، ويرون ما أوعدناهم به من العذاب الأليم(1/703)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي وسيتضح يومذاك أيكم الذي فتن بالجنون: أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم عن الهدى؟(1/703)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
{وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي ودوا لو تلين لهم؛ فيلينون لك. وهو من المداهنة؛ التي هي المصانعة. وأدهن: غش. أو المراد: ودوا لو تتهاون فيتهاونون(1/703)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثير الحلف {مَّهِينٍ} حقير. ومن العجب أن كل من يكثر الحلف: يستهان ويستحقر(1/703)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
{هَمَّازٍ} عياب للناس، طعان فيهم {مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ} يسعى بين الناس بالفساد والنميمة(1/703)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} بخيل، أو مناع للناس من الإيمان؛ الذي هو الخير كل الخير {مُعْتَدٍ} عليهم بهذا المنع، والإيذاء {أَثِيمٍ} ظالم، كثير الآثام(1/703)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
{عُتُلٍّ} جاف {زَنِيمٍ} أي ابن زنى. قيل: نزلت هذه الآيات في الوليد ابن المغيرة؛ وقد كان دعياً في قريش. قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه(1/703)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لا تطع من هذا شأنه؛ لكونه ذا مال وبنين. ومن هنا يعلم أنه لا عبرة، ولا اعتداد بالمال والغنى؛ بل الإعتداد بالإيمان، وحسن الخلق(1/703)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} القرآن {قَالَ أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الأَوَّلِينَ} السابقين(1/703)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنكويه بالنار يوم القيامة، على أنفه؛ زيادة في مهانته. وقيل: خطم بالسيف يوم بدر فصارت سمة على أنفه إلى أن مات(1/703)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي أهل مكة:
[ص:704] امتحناهم بالقحط، والجوع؛ استجابة لدعوة الرسول بقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف» {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الجنة: البستان. وهم قوم كان لهم بستان بقرية يقال لها ضروان؛ بالقرب من صنعاء. وقيل: كانت بالحبشة. وقيل: هي الطائف؛ التي هي بلاد ثقيف بالحجاز {إِذْ أَقْسَمُواْ} حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ليقطعن ثمرها وقت الصبح(1/703)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
{وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا: إن شاءالله، قال تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}(1/704)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} أنزل عليها المنتقم الجبار آفة سماوية فأحرقت أشجارها، وأتلفت ثمارها وكان ذلك ليلاً؛ لأن الطائف: لا يكون إلا ليلاً. قيل: نزلت عليها شهب من السماء فأحرقتها(1/704)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل المظلم، أو كالشيء المصروم؛ وهو المقطوع. قيل: كانت جنتهم هذه بمدينة الطائف؛ ولذا سميت الطائف(1/704)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
{فَتَنَادَوْاْ} نادى بعضهم على بعض(1/704)
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
{أَنِ اغْدُواْ} بكروا {صَارِمِينَ} قاطعين للثمر. وصرم الشيء: قطعه(1/704)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
{فَانطَلَقُواْ} إلى جنتهم {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتهامسون سراً؛ خشية أن يسمعهم فقير؛ فيطلب منهم شيئاً(1/704)
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
{أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ}
محذرين بعضهم بأن لا يدخل عليهم في بستانهم مسكين؛ لئلا يطالبهم بصدقة من ثمارهم(1/704)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
{وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي بكروا؛ قاصدين بستانهم بسرعة - قبل أن يفجأهم النهار بضوئه فتراهم الناس - ظانين أنهم قادرون على جني ثماره(1/704)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
{فَلَمَّا رَأَوْهَا} رأوا جنتهم، وما حل بها {قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ} أي ضللنا جنتنا، وقصدنا غيرها؛ فليس هذا شأنها. ولما تأملوها جيداً، وتحققوا من أنها جنتهم؛ قالوا:(1/704)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا ثمرة كدنا وجهدنا طوال عامنا، وخسرنا ثمارنا(1/704)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وأخيرهم - وكان معارضاً لهم - ولم يكن مرتضياً حرمان المساكين {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ} أي هلا {تُسَبِّحُونَ} ربكم، وتشكرونه على أنعمه التي اختصكم بها؛ ولكنكم عصيتموه؛ فاستوجبتم ما حل بكم(1/704)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
{قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ} تقدس، وتعالى، وتنزه {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بمنع الفقراء، وعدم التوكل على الله وتقديم مشيئته
وهذه القصة أوردها الحكيم المتعال: ليعلمنا أن مصير الشحيح، ومانع الزكاة إلى التلف حتماً: إن لم يكن بتلف ماله، فبتلف أجره وفساد حاله وأنه إن ضن بما يستوجب رضاءالله: هلك ماله مصحوباً بغضب الله(1/704)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي مثل إهلاكنا لجنة هؤلاء؛ نستطيع أن نهلك المكذبين أنفسهم، أو كذلك نعذب من نريد تعذيبه: بابتلائه في أمواله مثل هذا الابتلاء وكم قد رأينا من يشح بالإنفاق:
[ص:705] فيبتلى في ماله بما يذهبه، أو في عياله بما يرهقه فليتق الله من يؤمن ب الله(1/704)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجب منهم؛ حيث إنهم يسوون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر(1/705)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} منزل من السماء {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرأون(1/705)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي لكم في هذا الكتاب ما تختارون(1/705)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي أم أخذتم علينا العهود والمواثيق؛ أن لكم الذي تريدونه وتحكمون به(1/705)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كفيل(1/705)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} فيما يزعمونه {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} ليذوقوا معهم ما أعد لهم من العذاب. وقد يراد بالشركاء: شركاء الله تعالى في الملك(1/705)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} هو كناية عن صعوبة الأمر وشدته، وذلك كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} كناية عن البخل؛ وليس ثمت يد ولا غل. والعرب تقول: كشفت الحرب عن ساقها: إذا حمي وطيسها، واشتد لهيبها. ومن أفحش ما قاله بعض المفسرين في تأويل ذلك: أن الرحمن يكشف يومئذٍ عن ساقه. تعالى الله عما يقولون، وجل عن صفات المخلوقين(1/705)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{تَرْهَقُهُمْ} تغشاهم(1/705)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
{فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} هو منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} بأن نمد في أعمارهم، ونوسع في أرزاقهم: حتى يزدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم(1/705)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
{وَأُمْلِي لَهُمْ}
أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قوي شديد(1/705)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
{وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وهو يونسبن متى عليه السلام {إِذْ نَادَى} ربه؛ وهو في بطن الحوت: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً على أمته وغماً مما نزل به(1/705)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ} رحمة {مِّن رَّبِّهِ} فعفى عن ذنبه وقد كان غضب على قومه وتعجل تعذيبهم وفارقهم؛ من قبل أن يؤمر بذلك {لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ} لطرح بالخلاء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مذنب وملوم(1/705)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
{فَاجْتَبَاهُ} اختاره {رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} المرسلين، العاملين بما أمرهم ربهم؛ المنتهين عما نهاهم عنه(1/705)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
{لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} ليزيلونك عن مكانك؛ لشدة نظرهم إليك شزراً.(1/705)
سورة الحاقة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/705)
الْحَاقَّةُ (1)
{الْحَاقَّةُ} القيامة؛ سميت بذلك: لأن الأمور تحق فيها وتستقر، ولأنها يوم الحق(1/705)
مَا الْحَاقَّةُ (2)
{مَا الْحَآقَّةُ *(1/705)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} تعظيم لأمرها، وتهويل لشأنها(1/705)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام {وَعَادٌ} قوم هود
[ص:706] عليه السلام {بِالْقَارِعَةِ} القيامة؛ لأنها تقرع الناس بهولها وفزعها(1/705)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
{بِالطَّاغِيَةِ} قيل: هي الرجفة. أو الصيحة؛ التي طغت عليهم فأهلكتهم جميعاً(1/706)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} هي الدبور. وصرصر: أي شديدة الصوت(1/706)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} متتابعة؛ حتى أتت عن آخرهم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {حُسُوماً} حسمت آجالهم؛ أي قطعتها. وقيل: متتابعة {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي أصول نخل ساقطة(1/706)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
{وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} من الأمم الكافرة التي تقدمته، أو جاء فرعون وأتباعه؛ يؤيده قراءة من قرأ «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرى قوم لوط؛ وسميت بذلك: لأنها ائتفكت بهم؛ أي انقلبت {بِالْخَاطِئَةِ} أي الخطأ الشائن؛ وهو الكفر {فَأَخَذَهُمْ} ربهم: عذبهم وأهلكهم {أَخْذَةً رَّابِيَةً} شديدة(1/706)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} فاض وزاد؛ وانقلب نفعه الكثير، إلى ضرر كبير، وشر مستطير: يوم الطوفان {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} السفينة التي تجري على وجه الماء(1/706)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{لِنَجْعَلَهَا} أي لنجعل هذه الفعلة؛ التي هي إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين.
أو لنجعل هذه السفينة {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة وموعظة {وَتَعِيَهَآ} تحفظها وتفهمها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي مصغية: تسمع ما يقال، فتنقله إلى الذهن. فيفهمه(1/706)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام النفخة الثانية؛ للفصل بين الخلائق(1/706)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
{فَدُكَّتَا} أي دقتا وكسرتا(1/706)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة(1/706)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
{وَاهِيَةٌ} ساقطة واهنة(1/706)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
{وَالْمَلَكُ} يعني الملائكة عليهم السلام {عَلَى أَرْجَآئِهَآ} أي على جوانب السماء {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} هو تمثيل لعظمته تعالى؛ مثلما هو مشاهد من أحوال الملوك والسلاطين يوم خروجهم على الناس؛ لكون ذلك أقصى ما يتصور من الجلال والعظمة؛ وإلا فشؤونه سبحانه وتعالى أجل من أن تدركها إشارة، أو تحيط بها عبارة، أو يتسع لها فهم(1/706)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} أي كتاب أعماله {بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن الصالح، الذي رجحت حسناته على سيئاته {فَيَقُولُ} لذويه وأهله - مفتخراً - أو يقول للملائكة {هَآؤُمُ} أي خذوا وتعالوا(1/706)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
{إِنِّي ظَنَنتُ} علمت وتأكدت أن وعد الله حق، وأن القيامة قائمة، و {أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} جزاء ما عملت في الدنيا(1/706)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثمارها قريبة لمريدها(1/706)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} بما قدمتم {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الماضية في الدنيا(1/706)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} وهو الكافر {فَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} لما يرى فيه من القبائح والفضائح(1/706)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
{يلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} أي يا ليت الموتة الأولى كانت القاضية؛ فلم أبعث، ولم أحاسب(1/706)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
{مَآ أَغْنَى} ما نفع، وما دفع
{عَنِّي مَالِيَهْ}
[ص:707] الذي جمعته في الدنيا، ولم أتصدق منه، وكنت أفخر وأتعالى به(1/706)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
{هَّلَكَ} ذهب ومضى وامحى {عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} قوتي وحجتي، وعزي وهيبتي؛ فيقال لملائكة العذاب(1/707)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} وهو قول الله تعالى لخزنة جهنم، أو قول بعضهم لبعض بأمر ربهم(1/707)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أدخلوه(1/707)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{ذِرَاعاً} طولها {فَاسْلُكُوهُ} فأدخلوه(1/707)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} صديق يدفع عنه العذاب(1/707)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} غسالة أهل النار، وما يسيل منهم من الصديد(1/707)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *(1/707)
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} أقسم تعالى بالمشاهدات والمغيبات، أو بالدنيا والآخرة، أو بالأجسام والأرواح، أو بالإنس والجن، أو بالنعم الظاهرة والباطنة، أو بالخلق والخالق(1/707)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
{إِنَّهُ} أي القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو محمد عليه الصلاة والسلام؛ عن رب العزة جل شأنه وعز سلطانه(1/707)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تفترون(1/707)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
{وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تزعمون. والكاهن: العراف الذي يتكهن بالغيب {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتعتبرون(1/707)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} أي لو افترى علينا محمد كما تتهمونه(1/707)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي لأخذناه بالقوة والشدة(1/707)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} الوتين: نياط القلب؛ وهو عرق فيه؛ إذا انقطع: مات صاحبه. وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك: يؤخذ بالشدة والقسوة؛ ثم تقطع رأسه(1/707)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي في هذه الحال لا يستطيع أحد أن يمنع عنه عذابنا وتنكيلنا(1/707)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَإِنَّهُ} أي القرآن {لَتَذْكِرَةٌ} لعظة(1/707)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{وَإِنَّهُ} أي التكذيب بالقرآن، أو الإشارة إلى القرآن نفسه {لَحَسْرَةٌ} وندامة يوم القيامة {عَلَى الْكَافِرِينَ} حين يرون ما أعده الله تعالى لمن صدق به من النعيم المقيم، ولمن كذب به من العذاب الأليم(1/707)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
{وَإِنَّهُ} أي القرآن، أو العذاب {لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي للحق من ربك يقيناً(1/707)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{فَسَبِّحْ} نزه وقدس {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الذي يصغر كل عظيم أمامه(1/707)
سورة المعارج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/708)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} هو النضربن الحارث؛ حيث قال مستهزئاً «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم»(1/708)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
{مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} السماوات التي تعرج منها وإليها الملائكة، أو هي المصاعد التي تصعد بها الملائكة لتلقي أوامر ربها(1/708)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
{تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ} أي تصعد الملائكة وأرواح الخلائق، أو «الروح» جبريل عليه السلام {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج؛ على منهاج التمثيل والتخييل؛ أي إنهم يصعدون في اليوم الواحد: ما لا يستطاع بلوغه في خمسين ألف سنة. أو هو يوم القيامة يراه الكافر - لكثرة عذابه وشدة بلائه - كخمسين ألف سنة(1/708)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {صَبْراً جَمِيلاً} لا جزع فيه، ولا تضجر منه(1/708)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي يوم القيامة {بَعِيداً} أي مستحيلاً(1/708)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
{وَنَرَاهُ قَرِيباً} واقعاً لا محالة(1/708)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} كالمعدن المذاب أو كدردي الزيت، أو كالقطران(1/708)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي كالصوف المنفوش(1/708)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
{وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يطلب صاحب من صاحبه شيئاً؛ وإن طلب فلا يجاب؛ لانشغال كل واحد بما هو فيه. والحميم: القريب والصديق(1/708)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
{يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يبصر القريب قريبه، والصديق صديقه، لكنه لا يستطيع أن يسأله شفاعة أو أمراً من الأمور {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(1/708)
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
{وَصَاحِبَتِهِ} زوجته(1/708)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
{وَفَصِيلَتِهِ} عشيرته {الَّتِي تُؤْوِيهِ} تضمه وتكلؤه(1/708)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
{ثُمَّ يُنجِيهِ} ذلك الافتداء(1/708)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
{كَلاَّ} لن يكون شيء مما أراده
[ص:709] {إِنَّهَا لَظَى} لظى: علم للنار؛ من اللظى: وهو اللهب(1/708)
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
{نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى} والشوى: جلدة الرأس؛ تحترق وتعود ثانية. وخصها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسية وتأثراً بالنار(1/709)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
{تَدْعُو} أي تنادى النار وتأخذ {مَنْ أَدْبَرَ} عن سماع القرآن {وَتَوَلَّى} عن الإيمان(1/709)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{وَجَمَعَ} المال {فَأَوْعَى} أمسكه فلم ينفق منه حيث أمره الله تعالى. أو «فأوعى» أي جعله محفوظاً في وعائه؛ فلم يخرج منه شيئاً. أو هو من الوعي؛ أي جمعه وحفظه. ومن عجب أن يجمع الإنسان خشية العدم؛ وهو في نفس الوقت يسلم نفسه للعدم. قال الشاعر:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر(1/709)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} الهلع: سرعة الجزع ويفسره ما بعده(1/709)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الفقر(1/709)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} الغنى(1/709)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
{إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} المؤمنين؛ فإنهم بخلاف ذلك: لا يجزعون بل يصبرون، ولا يمنعون بل ينفقون(1/709)
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} المقصود بالدوام هنا: الذي لا يتخلله انقطاع. جعلنا الله تعالى ممن يداوم على طاعته، ويحافظ على مرضاته(1/709)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة(1/709)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
{وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} أي خائفون(1/709)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} لا يأمنه العاصي، ولا الطائع. جاء في الحديث الشريف، عن الصادق المصدوق؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل النار: فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل الجنة: فيدخلها».
فلا بد للمؤمن أن يكون في خشية دائمة من ربه، وهذه الخشية يجب أن تكون مصحوبة بالحب والأمل، فإنه جل شأنه عند ظن عبده به:
إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر(1/709)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فلا يزنون(1/709)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ} طلب غير الذي أحله الله تعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المعتدون على حرماته. (انظر آية 7 من سورة المؤمنون)(1/709)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} قال تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال جل شأنه: {وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وقال عز من قائل: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}(1/709)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ} نحوك
[ص:710] {مُهْطِعِينَ} مسرعين؛ أو دائمي النظر إليك(1/709)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} جماعات، أو فرقاً شتى. أصلها عزة؛ وهي الفرقة. قائلين استهزاء بالمؤمنين: لئن دخل هؤلاء الجنة؛ لندخلنها قبلهم، فنحن أحق بها منهم؛ لنسبنا وغنانا. قال تعالى رداً عليهم(1/710)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ} لن يدخلها أحد منهم، ولن يشم ريحها(1/710)
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة؛ فليس لهم فضل على غيرهم يستوجبون به الجنة؛ إنما الفضل بالأعمال والتقوى. فمن اتقى دخل الجنة، ومن عصى دخل النار(1/710)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} مشارق الشمس والقمر وسائر الكواكب، ومغاربها. وسر القسم بها: لفت النظر لعظمها وعظمة خالقها وموجدها، وتمهيد لذكر قدرته تعالى على كل شيء {إِنَّا لَقَادِرُونَ *(1/710)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
عَلَى أَن} نهلكهم، و {نُّبَدِّلَ} خلقاً آخر {خَيْراً مِّنْهُمْ} إيماناً وتصديقاً وطاعة {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بعاجزين عن أن نفعل ذلك، أو «بمسبوقين» إلى هذا الخلق والتبديل؛ بأن سبقنا أحد إليه(1/710)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
{فَذَرْهُمْ} دعهم في كفرهم وباطلهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} يوم القيامة {الَّذِي يُوعَدُونَ} فيه بالعذاب {الَّذِي يُوعَدُونَ} للبعث(1/710)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
{مِنَ الأَجْدَاثِ} القبور {سِرَاعاً} مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} النصب: هو كل ما نصب، وعبد من دون الله تعالى {يُوفِضُونَ} يسرعون(1/710)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{تَرْهَقُهُمْ} تغشاهم.(1/710)
سورة نوح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/710)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} بالعذاب الموعود على التكذيب. ونوح: هو أبو البشر الثاني، ومن أولي العزم. وأبناؤه: سام، وحام، ويافث.(1/710)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة، أو هو الموت(1/711)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي} لهم بالإيمان {إِلاَّ فِرَاراً} من الحق، ومن الإيمان(1/711)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} إلى معرفتك {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} ذنوبهم السابقة {جَعَلُواْ} وضعوا {أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} ليحولوا بين استماعها لعظاتي وكلامي {وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} تغطوا بها، ليحجبوا بصرهم عن رؤيتي {وَأَصَرُّواْ} على كفرهم {وَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان(1/711)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} ظاهراً في غير خفاء(1/711)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} بأعلى صوتي، وصحت فيهم مجتمعين بالذي أمرتني به {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} حاولت نصحهم في السر فرادى؛ فقد يكون ذلك أدعى لاقتناعهم(1/711)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
{يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} بالمطر (انظر آية 52 من سورة هود)(1/711)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
{وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} بساتين في الدنيا {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} جارية: تسقون منها وتستقون. أو أريد بذلك جنات القيامة، وما فيها من أنهار ونعيم مقيم(1/711)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي ما لكم لا تسعون في توقيره وتعظيمه(1/711)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} خلقكم أولاً نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً كاملاً، ناطقاً، سميعاً بصيراً(1/711)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} بعضها فوق بعض(1/711)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
{وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} بخلق أبيكم آدم منها(1/712)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بعد موتكم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها {إِخْرَاجاً} عند بعثكم(1/712)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً} منبسطة كالبساط(1/712)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{سُبُلاً فِجَاجاً} طرقاً واسعة، أو طرقاً مختلفة(1/712)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
{قَالَ نُوحٌ} عندما رأى إصرار قومه على الكفر، وعزوفهم عن الإيمان، وتمسكهم بعبادة الأصنام {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} واستهانوا برسالتي وشريعتك {وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} إلا طغياناً وكفراً؛ وهم الأغنياء(1/712)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
{وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} مكراً عظيماً كبيراً(1/712)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
{وَقَالُواْ} أي قال السادة والأغنياء؛ للضعفاء والفقراء {لاَ تَذَرُنَّ} لا تتركن {آلِهَتَكُمْ} التي تعبدونها {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} هي أسماء أصنام كانوا يعبدونها؛ وكان «وداً» على صورة رجل، و «سواعاً» على صورة امرأة «ويغوث» على صورة أسد و «يعوق» على صورة فرس و «نسراً» على صورة نسر. لعنهم الله تعالى أنى يؤفكون {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ}
الكافرين {إِلاَّ ضَلاَلاً} على ضلالهم. وقد طلب لهم العقوبة من جنس أعمالهم؛ لأنهم(1/712)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً}(1/712)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
{مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أي بسبب خطاياهم أغرقوا بالطوفان، وأدخلوا النيران(1/712)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
{رَّبِّ لاَ تَذَرْ} لا تترك {عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} الديار: كل من يسكن الديار، أو هو كل من يدور: أي يمشي على وجه الأرض(1/712)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} إن تتركهم بلا تعذيب، ولا إهلاك {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} بصرفهم عن الإيمان، وبتعذيبهم. يقال: أضله: إذا أضاعه وأهلكه {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} رب قائل يقول: ومن أين لنوح أن يقطع بأن قومه لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً؟ والجواب على ذلك: أنه علم ذلك من قوله تعالى: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ}(1/712)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ} الكافرين {إِلاَّ تَبَاراً} هلاكاً.(1/713)
سورة الجن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/713)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} استمعوا لرسولالله، وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر(1/713)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} الجد: العظمة والغنى {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} زوجة {وَلاَ وَلَداً} كما يزعمون(1/713)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي جاهلنا. أو هو إبليس؛ إذ لا سفيه فوقه {شَطَطاً} كذباً. والشطط: الغلو في الكفر. وشطت الدار: بعدت. وصف به قولهم؛ لبعده عن الصواب. وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى(1/713)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} كان الرجل إذا أمسى في واد قفر، وأدركه الخوف؛ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. يريد بذلك الجن وكبيرهم؛ فإذا سمع الجن ذلك استكبروا {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} أي زاد الإنس الجن إثماً - باستعاذتهم بهم - لأنهم تكبروا وعتوا؛ وقالوا: سدنا الإنس والجن. ويجوز أن يكون المعنى: فزاد الجن الإنس رهقاً؛ بأن أغووهم وأضلوهم. هذا ولا يجوز الاستعاذة بغير الله تعالى؛ فهو وحده القادر على الحفظ، القاهر فوق عباده، السميع، البصير، العليم وعن الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «إذا أصاب أحداً منكم وحشة، أو نزل بأرض مجنة؛ فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات؛ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ من شر ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل؛ إلا طارقاً يطرق بخير»(1/713)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} أي إن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم؛ فلما سمعوا القرآن اهتدوا؛ فهلا اهتديتم؟(1/713)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} تحسسنا الطريق إليها كعادتنا. والمراد: طلبناها {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} من الملائكة؛ يمنع كل من يقترب منها {وَشُهُباً} أي وملئت نجوماً محرقة؛ تحرق كل من اقترب من السماء. وهذا على خلاف العادة: قبل بعثته(1/714)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{وَأَنَّا كُنَّا} قبل ذلك {نَقْعُدُ مِنْهَا} أي نقعد بقرب السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} فنسمع بعض ما يدور فيها، وما يصدر من الأوامر؛ أما الآن {فَمَن يَسْتَمِعِ} أي من يحاول الاستماع من السماء {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} شهاباً ينتظره بالمرصاد(1/714)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} المؤمنون الطائعون {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} الكافرون العاصون {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} مذاهب متفرقة، وأدياناً مختلفة، وأهواء متباينة(1/714)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
{وَأَنَّا ظَنَنَّآ} تأكدنا {أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} أي لن نفوته، ولن ننجو من عقوبته إذا أراد(1/714)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} القرآن {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} نقصاناً من ثوابه {وَلاَ رَهَقاً} أي ولا يخاف إثماً، ولا ترهقه ذلة(1/714)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
{وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} الكافرون، الجائرون. قسط: جار. وأقسط: عدل(1/714)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ} المثلى؛ وهي الإيمان ب الله تعالى {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أي كثيراً من الإغداق. والمراد بذلك سعة الرزق؛ حيث إن الماء سبب للخصب والرخاء(1/714)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم: أيشكرون أم يكفرون؟ {يَسْلُكْهُ} يدخله {عَذَاباً صَعَداً} شاقاً(1/714)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} المساجد: موضع السجود {فَلاَ تَدْعُواْ} لا تعبدوا(1/714)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد عليه الصلاة والسلام {يَدْعُوهُ} أي يدعو ربه {كَادُواْ} أي كاد الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} جماعات؛ لاستماع القرآن، والاتعاظ به. أو كاد المشركون يجتمعون على تسفيهه والاستهزاء به و «لبداً» جمع لبدة؛ وهو ما تلبد بعضه فوق بعض من الله(1/715)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
{ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} أي ولا نفعاً(1/715)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
{وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ} غيره {مُلْتَحَداً} ملجأ؛ لأن الملتحد: اسم الموضع(1/715)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
{إِلاَّ بَلاَغاً} أي لا أملك إلا إبلاغكم ما أوحي إلي(1/715)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب يوم القيامة {فَسَيَعْلَمُونَ} يومئذٍ {مَنِ} منا {أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أقل أعواناً من الآخر: نحن أم هم؟(1/715)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
{قُلْ إِنْ أَدْرِي} ما أدري {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} به من العذاب {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أجلاً. والأمد لا يطلق إلا على المدة الطويلة(1/715)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً *(1/715)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما شاء من ذلك. والغيب هنا: الوحي؛ فيظهره عليه: بما يوحيه إليه من غيبه. أي لا يطلع على غيبه أحداً؛ إلا بعض الرسل الذين يرتضيهم؛ فإنه يطلعهم على بعض غيبه الذي يكون متعلقاً برسالاتهم؛ ليكون معجزة لهم لدى أقوامهم (انظر آية 44 من سورة آل عمران)
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي يرسل أمام الرسول الذي يطلعه على الغيب وخلفه حرساً من الملائكة: يحوطونه من كل جانب؛ يحرسونه من تعرض الشياطين؛ لئلا يتشبهوا له في صورة الملك الموحى، ويحفظونه؛ حتى يبلغ إليه، ما أمر بتبليغه إلى الناس، و {لِّيَعْلَمَ} الله تعالى علم ظهور - لأنه تعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما هو كائن - ويصير هذا العلم حجة على الخلق الذين ينكرون مجيء الرسل إليهم، ومجيء الملائكة إلى الرسل؛ وهو كقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} وهوأعلم بهم قبل خلقهم(1/715)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
«ليعلم» {أَن قَدْ أَبْلَغُواْ} أي أبلغ ملائكته إلى رسله {رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} أو ليعلم الرسول أنه قد أبلغ الملائكة رسالات ربهم بلا تحريف، ولا تغيير. أو ليعلم محمد أن الملائكة «قد أبلغوا رسالات ربهم» لمن تقدمه من الأنبياء، مثل تبليغهم له {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي أحاط الله تعالى بما لدى الرسل، والمرسل إليهم، والملائكة، والرصد؛ وعلم ما يخفون وما يكتمون(1/715)
سورة المزمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/716)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
{يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} المتلفف بثيابه؛ وهو كقوله تعالى: {يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وإنما ناداه تعالى بذلك - تدليلاً له - قبل أن يلقي إليه بالأمر الذي يشتم منه رائحة التقصير؛ وذلك كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهو لوم شديد؛ لو لم يسبق بالتدليل: «عفا الله عنك» لانخلع قلب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه(1/716)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
{قُمِ الْلَّيْلَ} عابداً ربك، مصلياً له، متبتلاً إليه {إِلاَّ قَلِيلاً} من الليل؛ فاجعله لحاجتك وراحتك؛ وليكن هذا القليل(1/716)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
{نِّصْفَهُ} أي نصف الليل {أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} أي من ذلك النصف المجعول لراحتك(1/716)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} قليلاً أيضاً؛ وبذلك يكون المطلوب من سيد الخلق: ألا يزيد القيام عن الثلثين، ولا ينقص عن الثلث {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} أي اقرأه بتؤدة وتمهل، وتبيين، وتفهم.
وقد زعم بعض القراء - أثابهم الله تعالى - أن معنى ذلك ما يتبعونه من غنَ بلغ مبلغ طنين الذباب، ومد تجاوز حد الصواب، وتسهيل بلغ حد التثقيل، وسكتات فيها كثير من الهنات؛ إلى غير ذلك من إدغام وإشمام، وإخفاء واستعلاء، وإمالة وإشالة. وقد رددناه على هذه المزاعم في كتابنا «الفرقان»(1/716)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
{إِنَّا سَنُلْقِي} سننزل {عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} هو القرآن الكريم؛ لما فيه من الأوامر والنواهي؛ التي هي - في نفسها - تكاليف شاقة؛ ثقيلة على المكلفين. أو «قولاً ثقيلاً» على الكافرين. أو المراد: إنه كلام موزون راجح؛ ليس بالسفساف، ولا بالهذر، ولا باللغو {عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} قيامه للعبادة، وقراءة القرآن فيه(1/716)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
{هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} أي أعظم أثراً، وأجزل نفعاً: لحضور الذهن، وموافقة السمع للقلب. أو إنها أثقل على المصلي من صلاة النهار. وما بعده يؤيد المعنى الأول {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أسدّ مقالاً، وأثبت قراءة؛ لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات(1/716)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً} تصرفاً لمعاشك، وتقلباً في مهماتك؛ فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة تفرغاً تاماً كاملاً؛ فعليك بها بالليل(1/716)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي انقطع إلى عبادته، ولا يشغل قلبك سواه: فإذا ما عملت عملاً ظاهره طلب الدنيا؛ فليكن باطنه مرضاة الرب سبحانه، والتقرب إليه والتبتل: رفض الدنيا، والتماس الآخرة. وقد كان الحبيب المحبوب صلوات الله تعالى وسلامه عليه لا يعمل عملاً دنيوياً إلا كان مقصده منه إرضاء مولاه، والتبتل إليه، وطلب الزلفى منه. وقد كان
[ص:717] يدخل ضمن العبادات ما يتخذه الناس للملذات والشهوات (انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب)(1/716)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} في إذايتهم وسبهم لك، وطعنهم في دينك {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} الهجر الجميل: هو المفارقة إرضاءلله تعالى، واجتناباً لما يغضبه. وذلك كقوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}(1/717)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ}
أي دعني وإياهم؛ فإني أكفيكهم. والمراد بالمكذبين: رؤساء قريش وصناديدهم {أُوْلِي النَّعْمَةِ} أصحاب الغنى والترفه والتنعم {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} في هذه الدنيا؛ وسيلقون جزاءهم كاملاً من العذاب في الآخرة(1/717)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
{إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} قيوداً؛ واحدها: نكل؛ وهو القيد الثقيل(1/717)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
{وَطَعَاماً} في الجحيم؛ من الزقوم {ذَا غُصَّةٍ} ينشب في الحلق؛ فلا يكاد يساغ(1/717)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
{يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ} أي تتحرك حركة شديدة، وتتزلزل {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} أي صارت {كَثِيباً مَّهِيلاً} رملاً منتثراً(1/717)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} عذبناه عذاباً شديداً وخيماً(1/717)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} من هوله وشدته؛ وهو يوم القيامة(1/717)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي إن السماء - على عظمها - تتشقق وتتصدع بيوم القيامة؛ فما ظنك بغيرها من الخلائق الذين هم دونها في الخلق {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا}(1/717)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{إِنَّ هَذِهِ} الآيات المخوفة {تَذْكِرَةٌ} عبرة وعظة {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طريقاً يوصله إليه تعالى؛ وهو الإيمان(1/717)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقل {مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ} تقوم {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ} أي جماعة يقومون أيضاً {مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} من خيرة المؤمنين {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالأوقات والساعات؛ وقد جعل تعالى بعضها للعمل، وبعضها للعبادة، وبعضها للنوم والراحة {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بالتخفيف عنكم، وإسقاط فرض قيام الليل. وترى الكثير ممن أحبهم الله تعالى وأحبوه، وعرفهم بنفسه فعرفوه، وهداهم إلى بابه فولجوه: يرون قيام الليل فرضاً واجباً، والتبتل إليه تعالى ضرباً لازباً؛ فإذا جن عليهم الليل: بان وجدهم، واشتد شغفهم، وسالت أدمعهم، ونشطت للعبادة أعضاؤهم؛ فتراهم في الله خاشعين باكين، وله راكعين ساجدين وما ذاك إلا لعناية الله تعالى بهم، وحبه لهم ولله در الإمام البوصيري حيث يقول:
وإذا حلت العناية قلباً
نشطت للعبادة الأعضاء
أحلنا الله تعالى دار عنايته، وألبسنا ثوب هدايته، وأفاض علينا من رعايته {فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ما سهلت عليكم معرفته، وهان عليكم حفظه؛ في صلاتكم بالليل {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى}
[ص:718] لا يطيقون قيام الليل {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يسافرون {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} يطلبون رزقه؛ فلا يستطيعون حال سفرهم، قيام ليلهم {وَآخَرُونَ} منكم {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فهل يقومون ليلهم؛ ويتركون أعداءهم؟ والقتال في سبيله تعالى خير من قيام الليل وصيام النهار؛ لأنه من أفضل العبادات، وأجل القربات {وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ} أنفقوا مما رزقكم (انظر آية 245 من سورة البقرة) {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} عجباً لمن يقرأ هذه الآية ويبخل على الله، مما آتاه الله فاحذر - هديت وكفيت - عاقبة البخل المقيت؛ فعاقبته في الدنيا الفقر وقد أغناك الله وكفاك، وعاقبته في الآخرة الذل والحرمان
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر؛ فالذي فعل الفقر(1/717)
سورة المدثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/718)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
{يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} المتلفف في ثيابه. قيل: إنها أول سورة أنزلت على الرسول: رأى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه - في أول الأمر - جبريل عليه الصلاة والسلام على هيئته وصورته التي خلقه الله تعالى عليها: فرعب رعباً شديداً، وذهب إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. وقال: دثروني، دثروني؛ فدثرته خديجة. فنزلت: «يا أيها المدثر»(1/718)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
{قُمْ فَأَنذِرْ} قم من نومك فحذر قومك من عذاب الله تعالى (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المزمل)(1/718)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي فعظم؛ وقد يحمل الأمر على تكبير الصلاة(1/718)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي طهر ذاتك ونفسك مما يستقذر من الأفعال. يقال: فلان طاهر الثياب؛ إذا كان نقياً من المعايب، سالماً من النقائص. أو ثيابك فقصر: لتطهر من عادة الكبر؛ كشأن سادات العرب وكبرائها - في الجاهلية من جر الثياب كبراً وبطراً. أو المراد ظاهر اللفظ: فطهرها بالماء من النجاساة(1/718)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{وَالرُّجْزَ} القذر، أو أريد به الأصنام «والرجز» والرجس: كل مستقذر يجر إلى العذاب والعقاب(1/718)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي لا تعط رغبة في رد ما تعطيه مضاعفاً. وهو أمر مشاهد في زمننا الحاضر؛ فكم قد رأينا من يهدي البيضة منتظراً للدجاجة، ومن يهدي الدجاجة منتظراً للشاة، ومن يعطي رغبة في الذكر والثناء العريض. وقد يكون المعنى: لا تعط العطاء وتستكثره (انظر آية 39 من سورة الروم)(1/718)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي لوجه الله تعالى اصبر على أداء الفرائض، وعلى أذى المشركين وكيدهم لك(1/718)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} نفخ في الصور(1/718)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} شديد(1/718)
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
{عَلَى الْكَافِرِينَ} بك، المعاندين لك
[ص:719] {غَيْرُ يَسِيرٍ} لما ينتابهم فيه من الرعب القائم، يتلوه العذاب الدائم(1/718)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي دعه لي وحدي فإني أكفيكه، وأنتقم لك منه؛ وهو الوليدبن المغيرة. أو ذرني ومن خلقته وحدي بلا معين؛ فلا أحتاج إلى معين في إهلاكه، أو ذرني ومن خلقته وحيداً؛ بلا مال، ولا ولد(1/719)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً}
كثيراً وفيراً(1/719)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
{وَبَنِينَ شُهُوداً} حضوراً معه - يتمتع بقربهم ومشاهدتهم، ويتمتعون بقربه ومشاهدته - وذلك لاستغنائه واستغنائهم عن التجارة ومشاق السفر(1/719)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي بسطت له الجاه والرياسة(1/719)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
{ثُمَّ يَطْمَعُ} بعد كفره ومزيد إنعامنا عليه {أَنْ أَزِيدَ} أي يرجو أن أزيد في ماله وولده؛ من غير شكر لما تقدم من إنعامنا(1/719)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
{كَلاَّ} لن أزيده، ولن أجمع له بين الكفر والمزيد من النعم {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي كان للقرآن جاحداً معانداً(1/719)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} الإرهاق: حمل ما لا يطاق. أي سأجعل له مكان ما يطمع فيه من الزيادة عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الصعب الأليم(1/719)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي فكر في تكذيب القرآن ومنزله وقدر ما يقوله من الإفك، ونسبة الرسول عليه الصلاة والسلام للسحر والجنون(1/719)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
{فَقُتِلَ} لعن وطرد من رحمة الله تعالى {كَيْفَ قَدَّرَ} تعجيب من تدبيره وتقديره؛ حيث بلغ غاية الكفر؛ وهو تكذيب الرسول، والطعن فيما جاء به(1/719)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكراراً لتأكيد لعنه(1/719)
ثُمَّ نَظَرَ (21)
{ثُمَّ نَظَرَ} تفكر في أمر القرآن(1/719)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قطب وجهه، وزاد في التقبض والكلوح(1/719)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
{أَدْبَرَ} عن الحق والإيمان {وَاسْتَكْبَرَ} عن اتباع النبي(1/719)
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
{فَقَالَ} عن القرآن {إِنْ هَذَآ} ما هذا {إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يروى عن السحرة(1/719)
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
{إِنْ هَذَآ} ما هذا القرآن {إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} قاله محمد، أو تعلمه ممن قاله. قال تعالى رداً على قوله وكفره(1/719)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
{سَأُصْلِيهِ} سأدخله {سَقَرَ} هو علم لجهنم(1/719)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} تهويل لشأنها(1/719)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
{لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} لا تدع شيئاً ألقي فيها إلا أحرقته(1/719)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
{لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} البشر: جمع بشرة؛ وهي ظاهر جلد الإنسان. أي محرقة للجلود، مسودة لها. والمراد بذلك تبيين أنها لا تهلكهم فيستريحوا(1/719)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ملكاً؛ يلون أمرها(1/719)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
{وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ} خزنتها {إِلاَّ مَلاَئِكَةً} لأنهم في قواهم واستعدادهم خلاف البشر و {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقد أمرهم المنتقم الجبار بألا تأخذهم رأفة، ولا رحمة بمن عصى الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} بتسعة عشر {إِلاَّ فِتْنَةً} أي ابتلاء واختباراً (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الفاتحة) {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى؛ لأن هذا العدد موجود في كتبهم {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ
[ص:720] إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} {وَلاَ يَرْتَابَ} لا يشك {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك؛ وهم المنافقون {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي أي شيء أراده الله بهذا العدد؟ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} وعددهم، ومبلغ قوتهم {وَمَا هِيَ} أي وما جهنم وذكرها ووصفها {إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} عبرة وعظة(1/719)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
{كَلاَّ وَالْقَمَرِ} أقسم تعالى بالقمر؛ لما فيه من النفع العميم. فبه تنضج المزروعات، وبه يحدث المد والجزء في البحار؛ وبهذا المد والجزر - الذي يحدث كل يوم وليلة - تتنفس الأرض؛ لأن المياه للأرض كالرئة، والهواء كالنفس؛ فإذا ما حدث الجزر - وهو انحسار الماء عن شواطىء البحار، وارتفاعه في وسطها - كان ذلك بمثابة الزفير. وإذا حصل المد - وهو رجعة المياه إلى الشواطىء، وعودتها إلى مستواها السابق - كان ذلك بمثابة الشهيق؛ وبذلك يتم في الكون والكائنات ما أراده لهما مبدعهما؛ من نمو، ونضج، ومعيشة؛ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}(1/720)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ *(1/720)
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} أي أضاء. أقسم تعالى أيضاً بإدبار الليل، وإسفار الصبح؛ لأن فيهما وقت صلاة الفجر؛ وفي هذا الوقت ما فيه من التجليات؛ قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}(1/720)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
{إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أي إن سقر لإحدى البلايا والدواهي الكبير(1/720)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ} لفعل الخير {} عنه(1/720)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} من شر {رَهِينَةٌ} أي كل نفس مذنبة مرهونة بذنبها؛ فلا يفك رهنها حتى تؤدي ما عليها من العقوبات. ومنها ما يحبس في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين(1/720)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
{إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} إلا المسلمين؛ الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون؛ فإنهم(1/720)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ} فيما بينهم(1/720)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
{عَنِ الْمُجْرِمِينَ} قائلين لهم ما الذي أدخلكم فيها، وجعلكم من سكانها؟(1/720)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)
{قَالُواْ} لأنا {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي لم نك في زمرة المؤمنين بربهم، المصلين له(1/720)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} كما كانوا يطعمون(1/720)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
{وَكُنَّا نَخُوضُ} في الباطل(1/720)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة(1/720)
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} الموت، أو القيامة التي كنا نكذب بها(1/720)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ} عن تذكرة الله تعالى لهم بهذا القرآن لا يستمعون لها؛ فيتعظون بها. وهم في إعراضهم وتوليهم وانصرافهم عن الحق(1/720)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} وهي الحمر الوحشية، الغير المستأنسة: التي تجمح وتنفر(1/720)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
{فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي فرت من الأسد، أو فرت من الرامي للسهام. وقد كانوا يسمونه «قسورة» أو هو القانص. شبه تعالى انصرافهم عن الإيمان، وإدبارهم عن الهدى: بالحمر المستنفرة؛ إذا رأت أسداً مفترساً، أو صائداً مقتنصاً(1/720)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أي يريد كل واحد منهم أن يكون
[ص:721] نبياً، ويؤتى صحفاً تنشر وتقرأ على الناس؛ كصحف الأنبياء. أو يريد كل واحد منهم أن ينزل له كتاباً خاصاً؛ يراه نازلاً من السماء باسمه(1/720)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
{كَلاَّ} لن يكون ما يريدون {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إن القرآن تذكرة بليغة كافية للجميع(1/721)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
{فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي من شاء: ذكر القرآن واتعظ به(1/721)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{وَمَا يَذْكُرُونَ} هذا القرآن، ويتعظون بما فيه {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} ذلك التذكر، وهذا الاتعاظ. ولن يشاء الله ذلك: إلا إذا التزم الإنسان طاعته، واجتنب عصيانه، واتقاه حق تقاته {هُوَ} جل شأنه {أَهْلُ التَّقْوَى} أهل لأن يتقى؛ لأنه القوي الجليل {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أهل لأن يغفر لمن أطاعه واتقاه؛ لأنه الغفور البر الرحيم(1/721)
سورة القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم(1/721)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
(لا أقسم بيوم القيامة) أي أقسم به. والقسم به: تعظيم لشأنه، وتأكيد لمجيئه(1/721)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
(ولا أقسم بالنفس اللوامة) أي وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على عصيانه، وعلى تقصيره في جنب الله تعالى، وتستغفره بعد ذلك، وتتوب إليه، وتنيب له(1/721)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
(أيحسب الإنسان) أيظن الكافر (ألن نجمع عظامه) بعد تفتتها وتفرقها(1/721)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
(بلى قادرين) على جمعها، و (على أن نسوي بنانه) أي نعيد أصابعه كما كانت في الدنيا. والبنان: أطراف الأصابع أو هي الأصابع نفسها. وقد ذكرها الله تعالى، لما فيها من دقة الصنع، وغرابة الوضع. وذلك لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في باطن أطراف أصابع إنسان: لا تماثلها خطوط أخرى في أصابع إنسان آخر على وجه الأرض، وهي دقة لا يتصورها العقل، ولا يحيط بكنهها اللب، ولذلك يعتمدون على طابع الأصابع في تحقيق الشخصية في سائر أنحاء العالم(1/721)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أي ليداوم على فجوره فيما بقى أمامه من الزمن؛ لأن الفجر: الانبعاث في المعاصي. أو المعنى (ليفجر أمامه) من التفجير، أي ليبحث وينقب فيما أمامه من المغيبات التي لم يحط علمه بها، ولا ضرورة تلجئه إلى بحثها، ويؤيده ما بعده(1/721)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
(يسأل أيان يوم القيامة) أي يسأل منكرا متعنتا: متى يوم القيامة(1/721)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
(فإذا برق البصر) تحير فزعا ورعبا، وذلك يكون يوم القيامة(1/721)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
(وخسف القمر) ذهب ضوؤه(1/721)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
(وجمع الشمس والقمر) أي طلعا في مكان واحد - وشأنهما ألا يجتمعا - أو جمع بينهما في الخسف وذهاب الضوء(1/721)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
(يقول الإنسان) الكافر (يومئذ أين المفر) من هذا العذاب(1/721)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
(كلا) ردع عن طلب الفرار. أي لا فرار من عذاب الله تعالى، ولا ملجأ منه إلا إليه (لا وزر) لا ملجأ، ولا منجا، ولا حصن(1/721)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
(إلى ربك يومئذ المستقر)
مستقر سائر الخلائق؛ فيحاسبون ويجازون(1/721)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
{يُنَبَّأُ الإِنسَانُ} أي يجازى {يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ} في الدنيا من عمل: خير أو شر ما {آخَرَ} من هذه الأعمال بعد موته. ذلك لأنه يستن بمن مات - في الحسنات والسيئات - فيثاب بأجر من عمل بحسناته، ويجازى بعقوبة من تبعه في سيئاته. قال: «من سن سنة حسنة: فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة: فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» فذلك معنى قوله تعالى: «وأخر» أو «بما قدم» من المعصية «وأخر» من الطاعة. أو يحاسب «بما قدم» من خير أو شر «وما أخر» منهما؛ فيعاقب على ما قدم من شر، وأخر من خير، ويثاب على ما قدم من خير، وأخر من شر(1/722)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
{بَلِ الإِنسَانُ} أي أعضاؤه وجوارحه التي تتكون منها نفسه {عَلَى نَفْسِهِ} على ذاته {بَصِيرَةٌ} مبصرة لما يعمل ويرتكب في الدنيا؛ فتكون شاهدة عليه يوم القيامة. أو «بصيرة» بمعنى حجة. أي هو بنفسه على نفسه حجة. وقد جاء في القرآن الكريم الحجة بمعنى البصيرة؛ في غير موضع: قال تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}(1/722)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو بسط يوم القيامة أعذاره، وحاول التخلص من ذنوبه، والتبرؤ منها(1/722)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ} أي بالقرآن {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي لتعجل بقراءته. وقد كان الرسول يأخذ في قراءة القرآن قبل فراغ جبريل منه؛ خشية أن يغيب عن ذهنه منه شيء(1/722)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك {وَقُرْآنَهُ} وإثبات قراءته على لسانك(1/722)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه عليك جبريل بأمرنا(1/722)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي بيان ما أشكل عليك فهمه(1/722)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الدنيا؛ لمتاعها الزائل؛ وزخرفها الباطل(1/722)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
{وَتَذَرُونَ} تتركون وراء ظهوركم {الآخِرَةَ} فلا تعملون لها(1/722)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} هي وجوه المؤمنين؛ تكون يومئذٍ حسنة مضيئة؛ لأنهم كرهوا الدنيا وباعوها، وأنفقوا ما اتفق الأكثرون على حفظه والحرص عليه، وأحبوا الآخرة، وعملوا لها(1/722)
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بلا كيفية، ولا جهة. وقال جار الله الزمخشري: {نَاظِرَةٌ} أي منتظرة ثواب ربها. وهو قول وجيه من حيث تنزيهه تعالى عن رؤية المخلوقين {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(1/722)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} كالحة، شديدة العبوس {فَاقِرَةٌ} داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر(1/722)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
{كَلاَّ} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي إذا بلغت الروح التراقي؛ وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر؛ وهو كقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}(1/722)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي تقول الملائكة: أيكم يرقى بروحه؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ أو قال أهله: من يرقيه ليشفيه؟
[ص:723] أو هل من طبيب ينجيه؟(1/722)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي أيقن المحتضر أن هذا هو فراق الدنيا(1/723)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هو مثل لبلوغ الشدة أقصاها، والكربة مداها أي والتقى آخر يوم من الدنيا - وفيه ما فيه من آلام المرض، وسكرات الموت - بأول يوم من الآخرة - وفيه ما فيه من عذاب القبر وأهواله - وهذا مثل للكافر فحسب؛ بدليل قوله تعالى:(1/723)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
{فَلاَ صَدَّقَ} بالقرآن {وَلاَ صَلَّى} للرحمن(1/723)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} رغم كفره وتكذيبه {يَتَمَطَّى} يتبختر كبراً وعجباً(1/723)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} أي ويل لك، فويل لك أو هو خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بمعنى: أنت أولى بالتيه والتبختر - إذا جاز ذلك - حيث إنك رأس النبيين، وإمام المتقين(1/723)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي لا يبعث، ولا يحاسب(1/723)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى} أي ألم نخلقه ابتداء: من مني خلقناه في صلب أبيه وترائب أمه(1/723)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} هي واحدة الحيوانات المنوية؛ التي يتخلق منها الإنسان، بصنع الرحمن {فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي فخلقه الله تعالى فسواه (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/723)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
{فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان، أو من العلق، أو من المني {الزَّوْجَيْنِ} الصنفين(1/723)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي أليس الفعال لهذه الأشياء، الخالق لها؛ بقادر على إعادتها بعد فنائها، وإحيائها بعد موتها؟(1/723)
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/723)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} أي قد مضى على الإنسان حين من الدهر. و «هل» تجيء بمعنى: قد، وبل، وأم. والمراد من الحين: هو مدة لبثه في بطن أمه أو في صلب أبيه. أو أريد بالإنسان: آدم عليه السلام. وبالحين الزمن السابق على خلقته وإيجاده(1/723)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
{مِن نُّطْفَةٍ} مني {أَمْشَاجٍ} أخلاط. أي من نطفة الرجل مخلوطة بنطفة المرأة. ومشج بينهما: أي خلط {نَّبْتَلِيهِ} نختبره بالتكاليف {فَجَعَلْنَاهُ} استعداداً لهذه التكاليف؛ وتهيئة له لفهمها وقبولها {سَمِيعاً} يسمع فيزدجر {بَصِيراً} يبصر فيعتبر وبعد استماعه واعتباره: ابتليناه بالتكاليف؛ بعد أن أبنا له الطريقين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وأوضحنا له السبل(1/723)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيّنا له طريق الهدى؛ بأدلة العقل، والسمع، والبصر {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} يختار بنفسه طريقه؛ الذي يحدد به مستقبله ومصيره؛ فهو {إِمَّا شَاكِراً} لربه، مؤمناً به؛ فيكون من أهل الجنة {وَإِمَّا كَفُوراً} بنعمةالله، منكراً لوجوده؛ فيكون من أهل النار وقد اختار بعقله؛ وما ارتضاه لنفسه(1/723)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
{إِنَّآ أَعْتَدْنَا}
[ص:724] أعددنا وهيأنا(1/723)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
{إِنَّ الأَبْرَارَ} جمع بر، أو بار؛ وهم الصادقون في الإيمان {يَشْرَبُونَ} في الجنة {مِن كَأْسٍ} لا تسمى الكأس كأساً؛ إلا وفيها الشراب، وإلا فهي كوب {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كَفُوراً} ليس المراد بالكافور: الكافور المعلوم. بل أريد المبالغة في طيب ما يمزج به الخمر؛ ولأن الكافور: كان عند العرب من أطيب الطيب(1/724)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي عيناً في الجنة، طيبة الرائحة «يشرب بها عباد الله» الخمر. أو المراد بالعين نفس الخمر. ويكون معنى: {يَشْرَبُ بِهَا} أي منها. وقد جاء في اللغة: يشرب بها، أي يشرب منها. قال جميل:
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي من برد ماء الحشرج. والنزيف: الذي عطش حتى جف لسانه، ويبست عروقه {يُفَجِّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا؛ وذلك النعيم لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا(1/724)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} طويلاً، فاشياً، ممتداً. كأن سائلاً سأل: بم استوجبوا هذا النعيم؟ فأجيب: جزاء وفائهم بالنذر، وخوفهم يوم الحساب، وإطعامهم الطعام(1/724)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي رغم حبهم للطعام، وميلهم إليه، وحاجتهم له. أو «على حبه»: في سبيل حبه تعالى، والتقرب إليه (انظر آية 32 من سورة الزخرف) قائلين لمن يطعمونهم(1/724)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي ابتغاء مرضاته، وطلب ثوابه لم يقولوا ذلك وإنما علمه الله تعالى من ضمائرهم وسرائرهم؛ فأثنى عليهم به(1/724)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
{يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} القمطرير: الشديد العبوس. وصف تعالى اليوم بصفة أهله من الأشقياء(1/724)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} بسبب ما قدموه {شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ} العبوس القمطرير {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} حسناً، وجمالاً، وبهجة، وإضاءة {وَسُرُوراً} يملأ وجوههم وقلوبهم(1/724)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
{عَلَى الأَرَائِكِ} الأسرة {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي لا حراً ولا برداً(1/724)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} أدنيت، وسهل تناولها؛ لأنها ليست كقطوف الدنيا: بعيدة المنال، لا تنال إلا بالاحتيال(1/724)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وبياض الفضة وحسنها {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} هو مبالغة في وصف الآنية ونفاستها. أي إنها مقدرة ذات قدر كبير، وقيمة عظيمة(1/724)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
{كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي ما تمزج به كالزنجبيل؛ في جليل فوائده، وطيب نكهته. وقد كانت العرب تستلذه، ولا ترى أطيب منه(1/724)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
{عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أي هذا الزنجبيل عيناً في الجنة «تسمى سلسبيلاً» لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها؛ وهذا عكس زنجبيل الدنيا؛ فإنه حريف لاذع(1/724)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} غلمان للخدمة {مُّخَلَّدُونَ} لا يموتون {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} لصفاء ألوانهم، وفرط جمالهم(1/724)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ}
[ص:725] «ثم» وثمة: بمعنى هنالك. أي إذا رأيت هناك في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً} عظيماً؛ لا يحاكيه نعيم {وَمُلْكاً كَبِيراً} لا يدانيه ملك(1/724)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} وهو ما رق من الديباج؛ أي يعلو أهل الجنة «ثياب سندس» بمعنى أنهم يلبسونه {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ من الديباج {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي مكان آخر من القرآن الكريم «من ذهب» فعلم أنه سيجمع بين الاثنين في التحلية. أو أريد أن يجمع بين نفاسة الذهب، وصفاء الفضة وبياضها. ألا ترون إلى الذهب الأبيض؛ وقد علا وغلا عن الذهب الأحمر والأصفر؟ وإلى معدن البلاتين؛ وقد امتاز عن الذهب بالصفاء، والغلاء؛ فقد يبلغ ثلاثة أضعاف الذهب في الثمن والقدر؛ مع امتيازه ببياض الفضة(1/725)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
{وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} مقبولاً، مرضياً، محموداً(1/725)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} البكرة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والأصيل ما بين الظهر والعصر. والمراد بذلك: المداومة على ذكره تعالى وتذكره في كل الأوقات وأريد بالذكر: الصلاة. فالبكرة: صلاة الصبح، والأصيل: الظهر والعصر(1/725)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} المغرب والعشاء {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي وسبح في الليل تسبيحاً كثيراً(1/725)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
{إِنَّ هَؤُلآءِ} المشركين {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الدنيا {وَيَذَرُونَ} يتركون {وَرَآءَهُم} خلف ظهورهم العمل للآخرة {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً؛ وهو يوم القيامة(1/725)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
{وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} قويناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. أو الأسرة بمعنى الكل. ومنه قولهم: خذه بأسره؛ أي خذه كله. فيكون معنى «وشددنا أسرهم» قوينا سائر أعضائهم وأجزائهم: كل عضو بما يحتاج إليه؛ من لحم، ودم، وعظم، وعصب، وغضروف(1/725)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
{إِنَّ هَذِهِ} السورة، وما فيها من بدء خلقة الإنسان وتدرجها، وهدايته السبيل؛ بواسطة الحواس التي خلقها الله تعالى، والأعضاء التي ركبها فيه، وما أعد للكافرين من عذاب أليم، وللمؤمنين من نعيم مقيم، وأمره لرسوله وخيرته من خليقته؛ بالصبر على أذى الكافرين، ومواصلة ذكر رب العالمين، والصلاة له بكرة وأصيلاً، وتسبيحه ليلاً طويلاً إن جميع ذلك عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ {فَمَن شَآءَ} الجنة ونعيمها {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طريقاً يرضيه عنه ويوصله إليه؛ وليس هناك من طريق يوصل إلى الله تعالى: سوى اتباع أوامره، والتزام طاعاته(1/725)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
{وَمَا تَشَآءُونَ} شيئاً {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن تفعلوه، ولن يشاء سبحانه وتعالى لكم فعل الخير؛ إلا إذا أخذتم في أسبابه؛ لأنه تعالى لا يشاء لإنسان الإيمان، وقد أصم سمعه عن استماع الهدى، وغطى قلبه عن تفهم الحجج والآيات والمعجزات؛ ولن يشاء جل شأنه لإنسان دخول الجنان،
[ص:726] وقد أعلن الكفران، وجاهره بالعصيان، وعاث بالفساد، وظلم العباد؛ وأكل أموالهم، وحرم فقيرهم وكيف يشاء الله تعالى لإنسان الخير وقد انصرف عنه؟ أو كيف يريد له الإيمان، وقد صد عنه؟ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بخلقه {حَكِيماً} في صنعه فحذار أيها المؤمن أن تقول ما قاله الجاهلون: من أنه تعالى يسلك الكفر في قلوب الكافرين فحاشاه تعالى أن يكون من الظالمين واذكر قوله جل شأنه: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} واعلم أن ما استوجب الحمد: فمنالله، وما استوجب الاستغفار: فهو منك (انظر آية 200 من سورة الشعراء)(1/725)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{وَالظَّالِمِينَ} الكافرين. سماهم تعالى ظالمين: لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر، وعرضوها للعذاب.(1/726)
سورة المرسلات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/726)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
{وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * والنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} أقسم سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة؛ اللاتي أرسلهن بأوامره، واللاتي عصفن الرياح لتعذيب بعض الكفرة، واللاتي نشرن الشرائع في الأرض، وفرقن بين الحق والباطل، وألقين الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام. والعرف: ضد النكر. أو هو إقسام من الله تعالى برياح عذاب أرسلهن فعصفهن. وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو، ففرقن بينه، فألقين ذكراً(1/726)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
{عُذْراً أَوْ نُذْراً} وهذا الذكر: إما عذراً للمعتذرين إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم عند مشاهدتهم لآثار نعمة الله تعالى ورحمته في الغيث فيشكرونهما؛ فتخصب أراضيهم، ويحل الخير بواديهم. وإما إنذاراً للذين يكفرون بها، وينسبونها إلى الأنواء ويقولون: مطرنا بنوء كذا. فتنقلب عليهم عذاباً، وتدع ديارهم يباباً. وجواب القسم(1/726)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} به: من القيامة، والحساب، والثواب، والعقاب {لَوَاقِعٌ} لا محالة ومن دلائل القيامة(1/726)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} محيت، أو ذهب ضوؤها(1/726)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
{وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} فتحت وشققت(1/726)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي جعل لها وقت معلوم؛ يحضرون فيه للشهادة على أممهم(1/726)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
{لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} سؤال للتهويل والإشادة بشأن ذلك اليوم، وما يتم فيه من أمور جسام فما أعظمه، وما أهوله(1/726)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} الذي يفصل فيه الله تعالى بين الخلائق؛ فيأخذ للمظلوم من ظالمه؛ وللمحكوم من حاكمه؛ ويجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته(1/726)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} الأمم الماضية؛ حين كذبوا الرسل، وجحدوا بالآيات والمعجزات(1/726)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} ممن سلك سبيلهم في التكذيب والكفر(1/727)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} الذين يسيرون على سنتهم، ويتبعون طريقتهم(1/727)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} حقير؛ وهوالنطفة(1/727)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}
هو الرحم(1/727)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
{إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} توقيت يعلمه الله تعالى؛ هو مدة الحمل؛ فإنها تختلف بين الستة أشهر والتسع؛ عدا بعض الحالات الشاذة(1/727)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
{فَقَدَرْنَا} جميع ذلك لحكمة عظيمة؛ لا يعلمها الأكثرون: فقد يتلف الجنين لو بقي في بطن أمه أكثر من ستة أشهر، وقد يتلف غيره من الأجنة لو لم يمكث تمام شهوره التسعة، وقد تتلف الأم لو بقي الجنين أكثر، أو أقل فتعالى المقدر الحكيم العليم(1/727)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} أي تكفت الناس أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. والكفت: الجمع والضم(1/727)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
{رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} جبالاً ثوابت، طوالاً شواهق {مَّآءً فُرَاتاً} عذباً. يقال: فرت الماء؛ إذا عذب(1/727)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
{انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي انطلقوا إلى الذي كذبتم به(1/727)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
{انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} وهو دخان جهنم: يتشعب ثلاث شعب؛ لعظمه(1/727)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
{لاَّ ظَلِيلٍ} أي لا يظل من حر ذلك اليوم(1/727)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
{إِنَّهَا} أي جهنم {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وهو البناء الشامخ العظيم، أو الحصن، أو هو الغليظ من الشجر(1/727)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
{كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ} جمع جمل؛ كحجر وحجارة {صُفْرٌ} أي سود. جاء في لغة العرب: الأصفر: الأسود(1/727)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
{هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} فيه بشيء(1/727)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} بين الخلائق(1/727)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} حيلة تدفعون بها عذابي عنكم وتحولون بين بطشي بكم {فَكِيدُونِ} فافعلوا هذه الحيلة. وهو سؤال تحد: لإظهار ضعفهم، وتبكيتهم على ما فعلوه في الدنيا(1/727)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ} جمع ظل؛ والمراد به تكاثف أشجار الجنة، لأن الجنة ليست فيها شمس فيستظل من حرها {وَعُيُونٍ} جارية(1/727)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
{كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً} في الدنيا، وهو خطاب للكافرين(1/728)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي بعد القرآن؛ وما فيه من عبر؛ تدعو إلى الاعتبار، وآيات؛ تدعو إلى الاستبصار(1/728)
سورة النبإ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/728)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} أي عن أي شيء يتساءلون؟(1/728)
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون عن النبإ العظيم؛ وهو البعث(1/728)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
{كَلاَّ} ردع عن التساؤل، وعن التكذيب {سَيَعْلَمُونَ} عاقبة اختلافهم وتكذيبهم؛ ويقال لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}(1/728)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} أي فراشاً. والمهاد: جمع مهد، وهو فراش الطفل(1/728)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} لتثبت بها الأرض؛ كما تثبت الخيمة بالأوتاد(1/728)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أصنافاً(1/728)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة، أو موتاً؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ}(1/729)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} ستراً يستركم؛ كما يستر اللباس الجسم عن الأبصار(1/729)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} تقومون فيه لمعاشكم، أو هو وقت حياة: تبعثون فيه من نومكم؛ الذي هو الموتة الصغرى كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}(1/729)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} السموات(1/729)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
{وَجَعَلْنَا} لكم {سِرَاجاً وَهَّاجاً} الشمس(1/729)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} السحب، وسميت بالمعصرات: لأنها تتحلب بالمطر، وأعصروا: أمطروا. وقيل: «المعصرات» الريح تعتصر السحاب فيمطر؛ ومنه الإعصار: وهو الريح تثير السحاب {مَآءً ثَجَّاجاً} سيالاً، منصباً بكثرة(1/729)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي بساتين ملتفة الأشجار(1/729)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} وقتاً؛ يثاب فيه المؤمن، ويعاقب فيه الكافر(1/729)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر ربه {فَتَأْتُونَ} من قبوركم إلى الموقف
{أَفْوَاجاً} جماعات جماعات، وزمراً زمراً(1/729)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
{فَكَانَتْ سَرَاباً} أي لا شيء، وكان مكانها منبسطاً كالذي يرى عليه السراب(1/729)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} تترصد الكافرين؛ كمن يترصد لعدوه ليفتك به(1/729)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
{لِلطَّاغِينَ} الكافرين {مَآباً} مرجعاً؛ ليس لهم مدخل غيرها فيدخلونها(1/729)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
{لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} ماكثين في جهنم دهوراً(1/729)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} هو ما يتبرد به، أو هو بمعنى النوم، أو الموت {وَلاَ} يذوقون فيها {شَرَاباً} يطفيء ظمأهم، ويروي غلتهم(1/729)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
{إِلاَّ حَمِيماً} ماء بالغاً نهاية الحرارة {وَغَسَّاقاً} هو ما يسيل من صديد أهل النار(1/729)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
{جَزَآءً وِفَاقاً} أي موافقاً لأعمالهم السيئة(1/729)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أي لا يخافون محاسبة الله تعالى لهم؛ على كفرهم وبغيهم(1/729)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
{وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} بحججنا وأدلتنا {كِذَّاباً} تكذيباً(1/729)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
{وَكُلَّ شيْءٍ} فعلوه {أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي كتابة(1/729)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
{فَذُوقُواْ} جزاء أعمالكم {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} فوق عذابكم(1/729)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فوزاً بمطلوبهم، وظفراً بمرغوبهم؛ وهو الجنة(1/729)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
{حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً} (انظر آية 266 من سورة البقرة)(1/729)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} نواهد مستويات في السن(1/729)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
{وَكَأْساً دِهَاقاً} مترعة ملأى(1/730)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} باطلاً وهجراً من القول {وَلاَ كِذَّاباً} ولا تكذيباً من أحد لأحد، أو لا يسمعون فيها كذباً(1/730)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{عَطَآءً حِسَاباً} أي تفضلاً على حسب أعمالهم(1/730)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
{لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي لا يستطيع أن يكلمه أحد من خشيته، وهو بمعنى أنهم لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه(1/730)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} جبريل عليه السلام. وقيل: «الروح» خلق كالناس وليسوا بالناس {صَفَّا} مصطفين(1/730)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
{ذَلِكَ الْيَوْمُ} هو اليوم {الْحَقِّ} الذي يكذب به الكافرون {فَمَن شَآءَ} منكم أيها الناس {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعاً؛ بأن يؤمن ويعمل الصالحات(1/730)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} في يوم القيامة. وقربه: أن الميت حين يقوم من قبره يظن أنه ما لبث فيه سوى يوم أو بعض يوم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ينظر ثوابه، أو عقابه؛ على ما قدم من خير أو شر {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} وذلك لأن الله تعالى يحشر الحيوانات يوم القيامة؛ فيقتص للجماء من القرناء، وبعد ذلك يصيرها تراباً؛ فيتمنى الكافر أن لو كان كذلك (انظر آية 38 من سورة الأنعام).(1/730)
سورة النازعات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/730)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} الملائكة تنزع أرواح الكفار. وقيل: إن الكافر عند طلوع روحه: يشعر كأنه غريق(1/730)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} التي تنشط الروح؛ أي تخرجها برفق؛ وهي نفس المؤمن(1/730)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} التي تسبح في مضيها؛ أي تسرع(1/731)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} التي تسبق إلى أداء ما أمرت به(1/731)
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} التي تدبر أمر العباد بما يصلحهم في دينهم ودنياهم؛ بأمر ربهم(1/731)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} تتحرك الأرض بشدة؛ فيموت كل من عليها. وهو عند النفخة الأولى(1/731)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} النفخة الثانية؛ وعندها تبعث الخلائق. وقيل: «الرادفة» السماء؛ لأنها تتبع الأرض في التخريب؛ فتنشق؛ وتنتثر كواكبها(1/731)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} مضطربة(1/731)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ذليلة لهول ما ترى(1/731)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي كانوا يقولون ذلك في الدنيا، أو ذلك قولهم في الآخرة. يقال: رد إلى حافرته: أي إلى أول أمره. وقيل: يتمنون أن لو يردوا إلى قبورهم ميتين، أو يردوا إلى الدنيا؛ كقوله تعالى حكاية عنهم {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} {نَّخِرَةً} بالية(1/731)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
{كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} رجعة ذات خسران(1/731)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي صيحة واحدة؛ وهي النفخة الثانية(1/731)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
{فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} فإذا هم أحياء على وجه الأرض(1/731)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
{بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} المطهر المبارك {طُوًى} اسم للوادي، أو هو بمعنى مرتين. أي الوادي الذي قدس مرة بعد أخرى. وقيل: «طوى» بمعنى طإ الأرض حافياً(1/731)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
{إِنَّهُ طَغَى} تجاوز الحد(1/731)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان(1/731)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
{فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} ألقى موسى عصاه «فإذا هي حية تسعى»(1/731)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى}
تولى عن موسى، وسعى في مكايدته. أو أدبر مرعوباً، يسرع في مشيته(1/731)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23)
{فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أي فجمع الجنود والسحرة(1/731)
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
ونادى فيهم قائلاً: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}(1/731)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى} أي فعاقبه الله تعالى على كلمتيه «الآخرة» وهي «أنا ربكم الأعلى» «والأولى» وهي {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أو عاقبه الله عقاب الدنيا والآخرة(1/731)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} التنكيل بفرعون، وبسائر الكافرين {لَعِبْرَةً} لعظة {لِّمَن يَخْشَى} الله تعالى، ويخاف عقابه(1/731)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا} أي أخلقكم بعد موتكم أصعب أم بناء السماء؟(1/732)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
{رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى ارتفاعها(1/732)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
{وَأَغْطَشَ} أظلم {لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أبرز ضوء نهارها(1/732)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} بسطها، أو جعلها كالدحية؛ وهي البيضة. ويؤيده ما ذهب إليه الفلكيون، والجغرافيون؛ من كروية الأرض، وانبعاجها كالبيضة(1/732)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} فجر منها العيون، وأخرج منها الكلأ الذي يرعى(1/732)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي كل ما ذكر: خلقناه متاعاً لكم ولأنعامكم(1/732)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى} الداهية العظمى؛ وهي القيامة(1/732)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} ما عمل في الدنيا؛ من خير أو شر(1/732)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)
{فَأَمَّا مَن طَغَى} كفر وفجر(1/732)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي فضل الدنيا الفانية الزائلة؛ على الآخرة الدائمة الباقية(1/732)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي قيامه بين يديه للحساب {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي نهاها عما تهواه؛ مما يوقع في الردى، ويستوجب العذاب (انظر آية 176 من سورة الأعراف)(1/732)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} عن القيامة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى وقتها؟(1/732)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
{فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي أين أنت من ذكر الساعة ووقتها؟ فقد تفرد بعلمها علام الغيوب(1/732)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
{إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} أي منتهى علمها، وما يكون فيها(1/732)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أي إنما أرسلناك لتنذر - من أهوالها - من يخشاها؛ لا أن تعلمهم بوقتها(1/732)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أي يوم يرون الساعة {لَمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وهما طرفا النهار؛ فكأنه تعالى يقول: لم يلبثوا إلا جزءاً من يوم.
وهو تعالى القادر على تقصير الأوقات وإطالتها؛ فقد يرى النائم أنه قد تزوج وأنجب، وأنه قد مرت عليه من الأحداث ما يستغرق السنين ذوات العدد؛ وهو لم يزاول مضجعه بعد، وقد لا يتجاوز وقته بضع ثوان؛ فكذلك الميت حين يبعث يظن أنه لم يلبث في دنياه وقبره إلا جزءاً من يوم.(1/732)
سورة عبس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/733)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} أي قطب وجهه وأعرض. وهو حكاية عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه(1/733)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
{أَن جَآءَهُ} أي لأن جاءه {الأَعْمَى} وهو عبد الله ابن أم مكتوم: أتى النبي - وعنده صناديد قريش يدعوهم للإسلام - فقال له: يا رسول الله علمني مما علمك الله. وصار يكرر ذلك؛ فكره رسولالله قطعه لكلامه مع صناديد قريش؛ فعبس لذلك، وأعرض عنه؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هداية أشراف قريش؛ ليهتدي بإسلامهم قومهم(1/733)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
{لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يتطهر من دنس الجهل بما يسمعه منك من الآيات والعظات(1/733)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
{أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ {فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} ويؤمن(1/733)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} كان غنياً بالمال؛ كأشراف قريش(1/733)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
{فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} تتصدى، وتتعرض؛ بالإقبال عليه؛ حرصاً على إيمانه(1/733)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أي وليس عليك بأس في ألا يتطهر بالإسلام؛ إن عليك إلا البلاغ(1/733)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
{وَهُوَ يَخْشَى} الله(1/733)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
{فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تتلهى، وتعبس، وتتولى(1/733)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
{كَلاَّ} أي لا تعد إلى مثلها من الإعراض عن الفقير، والإقبال على الغني {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي إن هذه الآيات موعظة(1/733)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
{فَمَن شَآءَ} من المؤمنين {ذَكَرَهُ} تذكر تنزيل الله تعالى ووحيه، واستمع إلى أوامره ونهيه؛ وعلم أن بذل النصح والإرشاد واجب لمن يطلبه ويسعى إليه؛ لا لمن يأباه وينصرف عنه(1/733)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
{فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي إن هذه الآيات منتسخة من اللوح المحفوظ {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} عند الله، لا يمسها إلا ملائكته المطهرون(1/733)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
{مَّرْفُوعَةٍ} في السماء، أو مرفوعة القدر والمنزلة {مُّطَهَّرَةٍ} عما ليس من كلام الله تعالى(1/733)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} كتبة؛ وهم ملائكة الرحمن، الذين انتسخوها - بأمر ربهم - من اللوح المحفوظ(1/733)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ}
كرام عند ربهم، أتقياء(1/733)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
{قُتِلَ الإِنسَانُ} لعن الكافر {مَآ أَكْفَرَهُ} أي ما أشد كفره وعلام يكفر، ولماذا يتكبر؟ أفلا ينظر(1/733)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
{مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} الله؟ أليس(1/733)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
{مِن نُّطْفَةٍ} قذرة {خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} فسواه فعدله؛ وهيأه لما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/733)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي بين له طريق الخير والشر، أو سهل له الخروج من بطن أمه(1/733)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أحياه بعد موته، وقت مشيئته(1/734)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي لم يفعل الكافر ما أمره الله تعالى به من الإيمان؛ حتى الآن، و «لما» تفيد النفي إلى الحال؛ لأن منفيها متوقع الثبوت؛ بخلاف منفى «لم» فإنه يحتمل الاتصال والانقطاع؛ كلم يكن، ثم كان(1/734)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ} نظر تدبر {إِلَى طَعَامِهِ} أي فليتأمل كيف دبرنا طعامه الذي يأكله ويحيا به، وكيف صنعناه؟ ولينظر إلى الحبوب وأنواعها؛ والثمار وطعومها، والأزهار وألوانها؛ ليعلم أن هذا بتقدير منا، وتفضل من لدنا، ولينظر كيف(1/734)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً} من السماء أو الأنهار المتكونة من الأمطار(1/734)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} بالنبات(1/734)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} كالحنطة، والشعير، وغيرهما(1/734)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
{وَعِنَباً وَقَضْباً} القضبة: الرطبة؛ وهو كل نوع اقتضب - أي اقتطع - فأكل طرياً، وهو أيضاً ما يسقط من أعالي العيدان لمزيد نضجه(1/734)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} (انظر آية 266 من سورة البقرة)(1/734)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
{وَحَدَآئِقَ غُلْباً} بساتين كثيرة الأشجار(1/734)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
{وَأَبّاً} مرعى لدوابكم؛ من أبه: إذا أمه؛ أي قصده(1/734)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ} صيحة القيامة؛ لأنها تصخ الآذان؛ أي تصمها(1/734)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ} مساعدة {أَخِيهِ} ومعاونته والأخ واجب المعاونة والمساعدة في كل وقت، وفي كل حين من(1/734)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)
{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} وبرهما فرض عليه(1/734)
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
{وَصَاحِبَتِهُ} زوجته؛ وقد كلف بحفظها ورعايتها، والذب عنها {وَبَنِيهِ} وهم صنو روحه، وقطعة من كبده(1/734)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
{لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ} أخاً، أو أماً، أو أباً، أو زوجاً، أو ابناً؛ لكل واحد منهم في ذلك اليوم {شَأْنٌ يُغْنِيهِ} شغل شاغل، وخطب هائل؛ يصرفه عن الاهتمام بغيره، إلى الاهتمام بنفسه. وفي هذا ما فيه من الدلالة على ما يكتنف هذا اليوم العصيب من أحداث تخرج المرء عن صوابه، وتشغله بما حل به(1/734)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مضيئة؛ وهي وجوه المؤمنين(1/734)
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} بما أعده الله تعالى لها من الثواب والجزاء(1/734)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} كدورة؛ وهي وجوه الكافرين(1/734)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تعلوها ظلمة وسواد(1/734)
سورة التكوير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/735)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} نكست، وذهب بضوئها(1/735)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} انطمس نورها(1/735)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} انتثرت، وسيرت في الجو تسيير السحاب(1/735)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
{وَإِذَا الْعِشَارُ} وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وشارفت الوضع {عُطِّلَتْ} تركت مهملة؛ لاشتغال أصحابها بأنفسهم، أو «عطلت» من الولادة. وقيل: إن العشار السحاب؛ وتعطيلها: عدم إمطارها(1/735)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} جمعت، وبعثت للقصاص (انظر آية 40 من سورة النبإ)(1/735)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} غلت مياهها، أو امتلأت وتفجرت(1/735)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي الأرواح قرنت بأجسادها، أو إذا النفوس صنفت: كل نفس مع من يشاكلها من أجناسها(1/735)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وهي التي دفنت حية. وقد كانت العرب تئد البنات خشية العار والإملاق. روي أن عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه بينما كان يجلس مع بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ إذ ضحك قليلاً، ثم بكى؛ فسأله من حضر عن سبب ضحكه، وسر بكائه؟ فقال: لقد كنا في الجاهلية نصنم الصنم من العجوة؛ فنعبده أياماً ثم نأكله؛ وهذا ما أضحكني، أما بكائي فلأنه كانت لي ابنة؛ فأردت وأدها - كشأننا في تلكم الأيام - فأخذتها معي وحفرت لها حفرة؛ فصارت تنفض لحيتي كلما تراكم عليها التراب؛ فلم يشفع لها ذلك دون وأدها؛ وقد دفنتها حية؛ وهذا ما أبكاني
هذا هو عمر - قبل الإسلام - فانظر إلى عمر بعد الإسلام، وكيف خطت الدموع في وجنتيه خطين؛ لمزيد رقته، وشدة بكائه، وكيف أنه حمل إلى أم الصبية - التي كانت تعلل أبناءها الجياع بالماء والحصى في القدر ليناموا - الدقيق والسمن وجعل ينفخ في النار؛ ولحيته على الأرض في التراب حتى طاب الطعام، وأقبل على الصبية يطعمهم، وهو يبكي ويقول: ويل عمر ليت أم عمر لم تلد عمر هذا ولم ينقل عمر من درك الوحشية، إلى سماء الإنسانية: سوى دين الإسلام - الذي سرى في روحه، وأشرب به قلبه - دين النور، والرأفة، والرحمة، دين السماحة والحضارة(1/735)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} هي صحف الأعمال: تتكشف وتفتح للقراءة(1/735)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
{وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ} قطعت وأزيلت(1/735)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أوقدت إيقاداً شديداً(1/735)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} هيئت، وأدنيت من المتقين(1/735)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
{عَلِمَتْ نَفْسٌ} وقتذاك {مَّآ أَحْضَرَتْ}
[ص:736] ما عملت من خير أو شر(1/735)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِالْخُنَّسِ} الكواكب الرواجع لأنها تذهب وتجيء، أو هي الكواكب كلها؛ لأنها تختفي نهاراً، وتظهر ليلاً(1/736)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
{الْجَوَارِ} السيارة، التي تجي مع الشمس {الْكُنَّسِ} التي تختفي تحت ضوء الشمس. وكناس الظبي: بيته(1/736)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أدبر بظلامه(1/736)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أقبل. ولا يخفى ما في مجيء الصبح من النسيم، والروح؛ الذي يشبه التنفس. وجميع ما تقدم: قسم؛ وجوابه:(1/736)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
{إِنَّهُ} أي القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو جبريل عليه السلام؛ وقد أسند إليه: لأنه هو الذي نزل به(1/736)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
{مَكِينٍ} ذي جاه ومكانة(1/736)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
{مُّطَاعٍ ثَمَّ} أي مطاع هناك في السموات؛ يطيعه أهلها {أَمِينٍ} على الوحي المكلف بإنزاله(1/736)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
{وَمَا صَاحِبُكُمْ} محمد {بِمَجْنُونٍ} وقد استدل الزمخشري بهذه الآيات على تفضيل الملك على الرسول؛ وهو استدلال باطل؛ لأنها لم ترد على سبيل التفضيل؛ بل جاءت تكذيباً لقولهم:
{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقولهم: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} وهذا وإن كان فيه غلو من جانب الزمخشري في تفضيل الملك على الرسول؛ فقد تغالى أقوام بقولهم: إن عوام البشر: أفضل من عوام الملائكة. والذي أراه - ويراه كل منصف - أننا لو استثنينا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: كانت الملائكة أفضل من البشر؛ لما ميزهم الله تعالى به من الطاعة المطلقة {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وما اختصهم به من القرب {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (انظر آية 29 من سورة الحجر)(1/736)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام على صورته الملائكية بمطلع الشمس(1/736)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد على تبليغ ما أوحي إليه، وتعليمه للبشر بمقصر بخيل. وقرىء «بظنين» أي بمتهم(1/736)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} هو نفي لقولهم: إن القرآن كهانة وسحر(1/736)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أي فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريق؟(1/736)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
{إِنْ هُوَ} أي القرآن: ما هو {إِلاَّ ذِكْرٌ} تذكرة وتبصرة(1/736)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء الاستقامة؛ بالدخول في الإسلام. ومن هنا علم أن الإيمان والاستقامة في وسع كل إنسان، ووفق مشيئته؛ ولا يمنع ذلك قول الحكيم العليم(1/736)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} إذ أنه جل شأنه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ولا يفعل عز سلطانه ما لا يرضاه فمتى فتح الإنسان مغاليق فهمه، وأبدى استعداده لتلقي كلام ربه: أعانه الله تعالى على نفسه، ودفع عنه بأس شيطانه أما إذا ركب رأسه، ووضع أقفال الجهل على قلبه، وأصم سمعه عن الهداية، واتبع غير سبيل المؤمنين؛ فإن الله تعالى يمد له في ضلاله، ويزيد في خباله {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وليس معنى ذلك أن الحكيم العليم فرض
[ص:737] عليهم الكفر فرضاً، وألزمهم به إلزاماً، وقسرهم عليه قسراً(1/736)
سورة الانفطار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/737)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} انشقت(1/737)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} تساقطت(1/737)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فتح بعضها على بعض؛ فاختلط عذبها بأجاجها، أو طغت البحار على اليابسة فأغرقتها ومحتها. والمراد أن كل شيء يضطرب ولا يستقر على حاله(1/737)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أخرج ما فيها من الموتى(1/737)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
{عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي كل نفس؛ وعلمها: رؤيتها الجزاء المعد لها {مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} ما قدمت من معصية، وأخرت من طاعة، أو «ما قدمت» في حياتها من عمل - صالح أو طالح - وما «أخرت» بعد موتها من عمل يقتدي به غيرها(1/737)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
{يأَيُّهَا الإِنسَانُ} خطاب للكافر {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي ما الذي جرأك على عصيان مولاك؛ الذي أكرمك بما أكرمك، وخلقك فسواك فعدلك(1/737)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
{فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في صورة أي صورة والمراد أنه تعالى ركبك في أحسن الصور. لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقد ذهب بعض ضعاف الرأي إلى أن الله جلت قدرته أراد بهذه الآيات: إلهام المخاطب المعاتب بالجواب؛ فللعبد أن يجيب مولاه بقوله: غرني كرمك. ألم يقل جل شأنه: {يأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} وهذا - كما لا يخفى - تلاعب بالتأويل؛ يأباه صريح التنزيل إذ أن هذا الكلام صادر في مقام التهويل والإرهاب، والتخويف من شدة الحساب يدل عليه ما بعده(1/737)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
{كَلاَّ} ردع عن الاغترار، بكرم الجبار {بَلْ} الحال أنكم {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} يوم الجزاء وهو يوم القيامة(1/737)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ} في كل وقت وآن من الملائكة: يحفظون أعمالكم وأقوالكم(1/737)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
{كِرَاماً} أمناء على ما أسند إليهم من ربهم {كَاتِبِينَ *(1/737)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} فيكتبونه(1/737)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
{إِنَّ الأَبْرَارَ} جمع بر، أو بار؛ وهم الذين يعملون البر، ويتصفون به {لَفِي نَعِيمٍ} جنة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ}(1/737)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
{وَإِنَّ الْفُجَّارَ} الكفار {لَفِي جَحِيمٍ} الجحيم: اسم من أسماء النار. وكل نار عظيمة في مهواة: فهي جحيم. قال تعالى: {قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}(1/737)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
{يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {} يوم الجزاء(1/737)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أي لا يخرجون عنها طرفة عين؛ كقوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} وهذا ينقض قول
[ص:738] القائلين بعدم الخلود في النار، وأن المراد بالخلود: المبالغة في طول المكث(1/737)
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
{ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تكرار لذكر هذا اليوم للتهويل(1/738)
سورة المطففين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/738)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
{وَيْلٌ} شدة عذاب. وقيل: هو واد في جهنم {لِّلْمُطَفِّفِينَ} الذين يبخسون الناس في الكيل والوزن؛ يفسره ما بعده(1/738)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ} أي كالوا منهم لأنفسهم {يَسْتَوْفُونَ} ما يكيلونه(1/738)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
{وَإِذَا كَالُوهُمْ} أي كالوا لهم {يُخْسِرُونَ} ينقصون. والتطفيف في الكيل والوزن: من أسوإ الأخلاق المسقطة للمروءة، الماحية للحسنات، المفسدة للإيمان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقد صار للمشتري منك أمانة عندك؛ وهي أن تؤدي له ما اشتراه كاملاً غير منقوص. وصار للبائع لك أيضاً أمانة لديك؛ وهي أن تؤدي له ثمنه كاملاً، وتستوفي حقك منه بغير زيادة. فارع الله أيها المؤمن في دينك، واخش مولاك من فوقك هذا وقد كان قدماء المصريين يقطعون يمين مطفف الكيل والميزان(1/738)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ} المطففون {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ *(1/738)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة(1/738)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} انتظاراً لثوابه، أو عقابة(1/738)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
{كَلاَّ} أي ليس الأمر كما يظنون؛ من أنهم غير مبعوثين، ولا معذبين؛ بل {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} صحف أعمال الكفار والمطففين {لَفِي سِجِّينٍ} واد في جهنم. وقيل: إنه ديوان الشر؛ أمر الله تعالى أن تدون فيه أعمال الكفرة الفجرة(1/738)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} تهويل لشأنه(1/738)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} مسطور؛ بين الكتابة(1/738)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الكافرين(1/738)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء(1/738)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} متجاوز للحد {أَثِيمٍ} مرتكب للإثم(1/738)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
{أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
أكاذيبهم(1/738)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{كَلاَّ} ردع وزجر عن قولهم ذلك {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي غطت على قلوبهم ذنوبهم؛ حتى حجبتها عن الفهم؛ فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا(1/738)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
{كَلاَّ} أي حقاً {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي إن الكفار لمحجوبون من رحمة الله تعالى ومغفرته يوم القيامة(1/739)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} أي لداخلو النار(1/739)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} صحف أعمالهم. والأبرار: هم الذين يعملون البر، ويتصفون به {لَفِي عِلِّيِّينَ} أعالي الجنات. أو هو ديوان الخير؛ كما أن سجين ديوان الشر(1/739)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} مختوم(1/739)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي يرونه رأي العين؛ أو أريد بالمقربين: الملائكة(1/739)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
{عَلَى الأَرَآئِكِ} على الأسرة {يَنظُرُونَ} ينظر بعضهم إلى بعض سروراً، أو ينظرون مغتبطين إلى ما اختصهم به ربهم من نعيم مقيم(1/739)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} بهجة التنعم(1/739)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} الرحيق: اسم من أسماء الخمر، وهو صفوتها. والرحيق أيضاً: الشراب الخالص؛ الذي لا غش فيه(1/739)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
{خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي مختومة أوانيه بالمسك؛ مكان الطين الذي كانوا يختمون به أوعية الخمر {رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} أي فيما تقدم من النعيم والتكريم {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون؛ بالمسارعة إلى الخيرات، والانتهاء عن السيئات(1/739)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
{وَمِزَاجُهُ} أي ما يمزج به ذلك الشراب {مِن تَسْنِيمٍ} التسنيم: مصدر سنمه، إذا رفعه. والمعنى: أن الخمر تمزج بأرفع شراب في الجنة(1/739)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} من الكفار {كَانُواْ} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} استهزاء(1/739)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}
عليهم؛ سخرية منهم(1/739)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
{وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} رجعوا إلى أهلهم في الدنيا {انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} ضاحكين، ساخرين من المؤمنين(1/739)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي إذا رأى المجرمون المؤمنين {قَالُواْ} عنهم {إِنَّ هَؤُلاَءِ} الناس {لَضَالُّونَ} نسبوا إليهم الضلال وهو لاصق بهم. قال تعالى:(1/739)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
{وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} أي ما أرسل الكفار على المؤمنين {حَافِظِينَ} لأعمالهم؛ فيردونهم إلى صلاحهم، ويمنعونهم عن ضلالهم الذي يزعمونه(1/739)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
{فَالْيَوْمَ} يوم القيامة {الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} كما ضحك الكفار منهم في الدنيا(1/740)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
{عَلَى الأَرَآئِكِ} السرر(1/740)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي هل جوزوا في الآخرة بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا؟(1/740)
سورة الانشقاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/740)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} تصدعت وتقطعت يوم القيامة(1/740)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} سمعت له وأطاعت؛ حين أراد انشقاقها {وَحُقَّتْ} أي وحق لها أن تمتثل لأمر خالقها؛ إذ هو مدبرها ومالكها(1/740)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} بسطت وسويت باندكاك جبالها {لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}(1/740)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي ورمت ما في جوفها من الأموات، والأموال، والكنوز {وَتَخَلَّتْ} عن حفظه في بطنها(1/740)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} سمعت له وأطاعت(1/740)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
{يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} أي إنك جاهد ومجد بأعمالك التي عاقبتها الموت حتماً؛ فتساق بعملك هذا إلى ربك فتلاقيه؛ فيكافئك عليه: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}(1/740)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن(1/740)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} سهلاً ليناً: يجازى على حسناته، ويتجاوز عن سيئاته(1/740)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
{وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} إلى عشيرته المؤمنين، أو إلى أهله من الحور العين {مَسْرُوراً} بما لاقاه من الإكرام والتكريم، وعفو البر التواب الرحيم(1/740)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} وهو الكافر. وقيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره؛ فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره(1/741)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} الثبور: الهلاك. أي يتمنى الهلاك(1/741)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
{وَيَصْلَى سَعِيراً} يدخل جهنم(1/741)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي كان في الدنيا لاهياً لاعباً. قال تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ}(1/741)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
{إِنَّهُ ظَنَّ} تيقن. والظن - في القرآن الكريم - يأتي دائماً بمعنى اليقين؛ إلا في بضع مواضع - يقتضيها مقام الكلام - فإنها جاءت بمعنى الشك كقوله تعالى:
{إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} {أَن لَّن يَحُورَ} لن يرجع {بَلَى} سيرجع(1/741)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
{إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ} وبأعماله {بَصِيراً} فيأخذه بها(1/741)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِالشَّفَقِ} وهو الحمرة التي تشاهد في الأفق بعد الغروب. وعند الزجاج: إنه النهار(1/741)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وما جمع وضم؛ لأن ما انتشر بالنهار: يجتمع بالليل؛ حتى أن جناحيك اللذين تمدهما إلى العمل بالنهار: تضمهما إلى جنبيك للراحة بالليل. والليل يضم الأفراخ إلى أمهاتها، والسائمات إلى مناخها، والإنسان إلى فراشه. وبالجملة فإن كل ما نشره النهار بالحركة؛ يجمعه الليل ويضمه بالسكون(1/741)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} إذا اجتمع وتم(1/741)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} أي لتركبن حالة بعد حالة؛ على أن الحالة الثانية تطابق الحالة الأولى. أي ستعودون بعد الموت إلى حياة أخرى شبيهة بحياتكم هذه، مطابقة لها: من حيث الحس والإدراك، واللذة والألم. أي إنها حياة حقيقية، وإن خالفت في بعض شؤونها هذه الحياة(1/741)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{فَمَا لَهُمْ} رغم هذه الدلالات {لاَ يُؤْمِنُونَ} بربهم(1/741)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
{وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} أي لا يخضعون لأوامره تعالى ونواهيه؛ لأن السجود أصلاً معناه الخضوع.
وبه سمي السجود في الصلاة؛ لما فيه من الذلة والخضوع: بوضع الرأس - وهي أشرف الأعضاء - في موضع القدم؛ وهي أخسها(1/741)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} دائماً بآيات الله تعالى ورسله(1/741)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرون من الكفر والحقد على المسلمين(1/741)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله وكتبه ورسله {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي أمرهم الله تعالى بها، وحثهم عليها {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع، أو «غير ممنون» عليهم به.(1/741)
سورة البروج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/741)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ذات الكواكب والنجوم(1/741)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة؛ الذي وعد الله به المؤمنين، وأوعد الكافرين(1/741)
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قيل: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة. أو الشاهد: أمة محمد، والمشهود: سائر الأمم. أو الحفظة وبنو آدم(1/742)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
{قُتِلَ} لعن {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} وهم قوم كانوا يشقون في الأرض شقاً؛ فيوقدون فيه ناراً يطرحون فيها كل من آمن بنبيهم(1/742)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} بيان للأخدود(1/742)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي جلوس حول النار؛ يتشفون في المؤمنين بإحراقهم فيها(1/742)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حضور: ناظرون لهم، فرحون بتعذيبهم وإيلامهم(1/742)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان سبب انتقامهم هذا؛ سوى أنهم آمنوا ب الله العزيز الحميد(1/742)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ} أي ابتلوهم بالأذى {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} عن إيذاء المؤمنين(1/742)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} البطش: الأخذ بعنف وقسوة؛ فإذا ما وصف بالشدة؛ فقد تضاعف وتزايد(1/742)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} أي يخلق الخلق ابتداء، ويعيدهم بعد الموت عند بعثهم. وقيل: «يبدىء» العذاب على الكفار، ويعيده عليهم(1/742)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
{وَهُوَ الْغَفُورُ} لمن تاب {الْوَدُودُ} الذي يبذل وده لأوليائه. وناهيك بود الغفور الودود(1/742)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
{ذُو الْعَرْشِ} صاحب العظمة والسلطان {الْمَجِيدُ} ذو المجد؛ المستحق لسائر صفات العلو(1/742)
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} لا يعجزه شيء(1/742)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
{هَلُ أَتَاكَ} يا محمد {حَدِيثُ الْجُنُودِ} نبؤهم وما تم في أمرهم. وهم(1/742)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً؛ من بأس قومك وشدتهم؛ وقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم(1/742)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في سائر الحالات، وكل الأوقات {فِي تَكْذِيبٍ} لما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب(1/742)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
{وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} قادر عليهم، وعالم بأحوالهم(1/743)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
{بَلْ هُوَ} أي بل المكذب به {قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} عزيز، شريف(1/743)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} اللوح المحفوظ: شيء أخبرنا الله تعالى به، ولم يعرفنا حقيقته وكنهه. وأما دعوى أنه جرم مخصوص، بذات مخصوصة - كما أورده بعضهم - فهذا ما لم يثبت بالتواتر عن المعصوم صلوات الله تعالى وسلامه عليه. واللوح المحفوظ: مدون فيه ما كان، وما يكون؛ في كوننا هذا؛ بل في سائر الأكوان التي خلقها الله تعالى؛ من بدء الخليقة حتى قيام الساعة. وهو قابل للمحو والإثبات؛ عدا أم الكتاب فإن ما فيه لا يقبل محواً ولا إثباتاً. ومثل اللوح المحفوظ؛ كمثل القانون العام الذي يصدره الملك؛ ويذكر فيه كل ما يريده من الأنظمة المنظمة لملكه، الصالحة لرعيته: لذا كان القرآن الكريم بعض ما تدون في اللوح {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} والقرآن الكريم بعض ما تناوله المحو والإثبات في اللوح المحفوظ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فالنسخ والإنساء: محو، والإيتاء بخير - مما نسخ أو أنسي - أو مثله: إثبات؛ وكل ذلك بأمر العزيز الجليل وكل إنسان يولد: يكتب في اللوح المحفوظ رزقه، وأجله، وسعادته أو شقاوته؛ في هذه الحياة. وجميع ذلك خاضع للمحو والإثبات. فمن وصل رحمه: اتسع رزقه، وطال أجله؛ كنص الحديث الشريف. ومن تصدق: رفع من ديوان الأشقياء وكتب في ديوان السعداء. وقد ورد في الحديث عن سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل النار: فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل الجنة: فيدخلها» وظاهر الحديث: أن الإنسان ليعمل السيئة؛ فيقذف به في النار - وقد قضى حياته في موجبات النعيم - وأنه ليعمل الحسنة؛ فيزف إلى الجنة - وقد قضى حياته في موجبات الجحيم أما أم الكتاب: فهو علم الله الأزلي الأقدس؛ الذي لا يعتريه تبديل ولا تغيير، ولا يلحقه محو ولا إثبات؛ ولا يطلع عليه ملك ولا رسول فسبحان من أحاط علمه بالكائنات، وتنزه عن صفات المخلوقات، وتفرد بالملك والملكوت وقيل: إن اللوح المحفوظ: هو أم الكتاب (انظر آية 39 من سورة الرعد).(1/743)
سورة الطارق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/743)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ} وهو النجم. وأصل «الطارق» كل آت ليلاً(1/743)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}
[ص:744] تهويل لذكره، وتعظيم لشأنه(1/743)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} الذي يثقب الظلام بضوئه(1/744)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي ما كل نفس إلا عليها حافظ - من قبل الله تعالى - يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر؛ كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أو أريد بالحافظ: الله تعالى {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(1/744)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ} نظر تدبر واستبصار {مِمَّ خُلِقَ} من أي شيء خلق؟ فعلام التكبر، وحتام التجبر؟(1/744)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
{خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} وهو المني؛ لأن الله تعالى جلت قدرته جعله يتدفق من الرجل بقوة؛ ليصل إلى بوق الرحم(1/744)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
{يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} الصلب: فقار الظهر؛ وهو ما تعبر عنه العامة بسلسلة الظهر. والترائب: عظام الصدر. والجنين يتخلق من صلب الرجل، وترائب المرأة. وهناك رأي يقول بأنه يتخلق من صلب الرجل وترائبه أيضاً(1/744)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
{إِنَّهُ} تعالى؛ وقد خلق المني، والصلب، والترائب، والرجل والمرأة {عَلَى رَجْعِهِ} على إعادة الإنسان، وبعثه، وجعله كما كان {لَقَادِرٌ} يوم القيامة(1/744)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ} تكشف سرائر بني آدم، ويعرف ما بها من العقائد والنيات. أما الأعمال: فهي مدونة مكتوبة(1/744)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ} تدفع عنه العذاب {وَلاَ نَاصِرٍ} ينصره من الله، ويجيره من عذابه(1/744)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الرجع: الماء. أي والسماء ذات المطر(1/744)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي ذات النبات؛ لأنه يصدع الأرض، أي يشقها. أقسم تعالى بالسماء التي تفيض عليكم بمائها، وبالأرض التي تقيم معاشكم بنباتها. وجواب القسم(1/744)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إن هذا القرآن لقول فاصل بين الحق والباطل(1/744)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
{وَمَآ} ما هو باللعب والباطل؛ بل هو جد كله؛ فجدير بقارئه وسامعه أن يتعظ به، ويفكر فيه، ويتدبر في معانيه(1/744)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} يعملون المكائد؛ لإبطال أمر الله تعالى، وتعطيل دينه(1/744)
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
{وَأَكِيدُ كَيْداً} أي وأجازيهم على كيدهم هذا بكيد مثله. وأين كيدهم من كيدي؟(1/744)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي لا تستعجل هلاكهم ومؤاخذتهم؛ وأمهلهم قليلاً. وهذا منتهى الوعيد(1/744)
سورة الأعلى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/744)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي نزهه عما لا يليق به(1/744)
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
{الَّذِي خَلَقَ} سائر المخلوقات {فَسَوَّى} ما خلقه،
[ص:745] وأخرجه على أحسن نظام يصلح له، وفي خير حالة أعد لها(1/744)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي الذي «قدر» في كل شيء من المزايا والخواص: ما تعجز عن إدراكه الأفهام، وهدى الإنسان لوجه الانتفاع بما فيه
فلو تأملت ما في النبات من الخواص، وما في المعادن من المزايا؛ وكيف اهتدى الإنسان للانتفاع بها، وكيف استطاع أن يستنبط من الحيوان والنبات: مادة لغذائه؛ ومما تخرجه الأرض: مادة لدوائه، ومما في باطنها من المعادن والفلزات: مادة لحياته؛ فلولا ما وفق إليه من تحويل الحديد إلى أسلحة وأدوات؛ لما استطاع أن يبني الدور، أو يشيد القصور، أو ينشىء المصانع، ويصنع المدافع، ويبني الأساطيل الجوية والبحرية؛ التي يحمي بها الذمار، ويذود بها عن الديار إنك لو تأملت جميع ذلك بعين التفكر والاستبصار؛ لعلمت أنه لولا تقديره تعالى لخليقته، وهدايته لبريته: لكنا نهيم في دياجير الظلام، كسائر الأنعام(1/745)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أنبت ما ترعاه الدواب من الكلإ(1/745)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
{فَجَعَلَهُ غُثَآءً} أي هشيماً يابساً {أَحْوَى} أسود. ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة؛ بعد صيرورته هشيماً يابساً؛ فإنه يكون طعاماً هشاً، نافعاً لكثير من الحيوانات؛ مسمن لها، مدر لألبانها. فسبحان من أحكم كل شيء، و {قَدَّرَ فَهَدَى}(1/745)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
{سَنُقْرِئُكَ} يا محمد {فَلاَ تَنسَى} أي سننزل عليك كتاباً تقرؤه على أمتك، ولا تنسى منه شيئاً {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}(1/745)
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
{إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} نسخه من القرآن؛ فإنه ينسيك إياه؛ كقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}(1/745)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي نهديك ونوفقك للشريعة السمحة؛ التي يسهل على النفوس قبولها، وعلى العقول فهمها(1/745)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي عظ الناس؛ حيث تنفع العظة. وقيل: العظة واجبة؛ نفعت أو لم تنفع. وهو قول باطل؛ لأنه من الحمق والخرق أن تعظ أقواماً وأنت على تمام اليقين من أنهم لن يقبلونها. وإنما يجب التذكير: إذا كان فيهم من يقبلها، ومنهم من يرفضها؛ ويؤيده ما بعده(1/745)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} الله تعالى، ويخاف عقابه(1/745)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
{وَيَتَجَنَّبُهَا} يرفضها ولا يسمعها، وإن سمعها لا يعمل بها {الأَشْقَى} الكافر؛ الذي هو أشقى المخلوقات؛ بما سينزل عليه من العذاب والبلاء(1/745)
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
{الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي جهنم. أما النار الصغرى: فهي نار الدنيا(1/745)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
{ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} كما مات في الدنيا واستراح {وَلاَ يَحْيَا} أي ولا تتوفر لها أسباب الحياة؛ لأن من دأب النار الإماتة والإفناء؛ بمعنى أنه لا يحيا حياة طيبة من غير الإحتراق، الذي هو من أسباب الموت(1/745)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} تطهر من الكفر بالإيمان، ومن المعاصي بالطاعة. أو هو بمعنى تصدق(1/745)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بقلبه ولسانه
[ص:746] {فَصَلَّى} الصلاة المكتوبة؛ أو بمعنى: فرحم الفقير؛ لأن من معاني الصلاة: الرحمة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي يرحمكم(1/745)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} تفضلونها. ومعنى ما تقدم: قد أفلح من تصدق، وتذكر ربه فرحم الفقير؛ بل أنتم تفضلون الحياة الدنيا فتبخلون وما فيها من النعيم(1/746)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
{خَيْرٌ} من الدنيا وما فيها {وَأَبْقَى} لدوام نعيمها. أما ما ترونه من نعيم الدنيا؛ فإنه صائر إلى الزوال والفناء(1/746)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
{إِنَّ هَذَآ} أي ما تقدم من النصح الرباني، والإرشاد، والتذكير، والتحذير {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} التي نزلت قبل القرآن(1/746)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وذلك لأن التحذير من النار، والتبشير بالجنة، والتعريف ب الله تعالى، والدعوة إلى الإيمان به، والحث على طاعته؛ كل ذلك وارد في كتب الله، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.(1/746)
سورة الغاشية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/746)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الداهية التي تغشى الناس بأهوالها وشدائدها؛ يعني يوم القيامة. أو هي النار؛ كقوله تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} والمعنى: هل علمت يا محمد حديث الغاشية؟ فإن لم تكن تعلم؛ فهاك حديثها، وحدثها(1/746)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ذليلة(1/746)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أي وقع منها في الدنيا عمل، وأصابها فيه نصب؛ أي تعب. وقيل: إنها تعمل ما تتعب فيه يوم القيامة: كخوض النار، وجر السلاسل والأصفاد، ونحو ذلك. والأول أولى؛ لمقابلته مع قوله تعالى في وصف أهل الجنة {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لأعمالها في الدنيا(1/746)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي شديدة الحرارة؛ من أنى الحميم: إذا انتهى حره؛ فهو آن الضريع: شوك رديء ترعاه الإبل؛ فتسوء حالها. ويسمى الشبرق. و(1/746)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} حسنة منعمة؛ ذات بهجة(1/746)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} لعملها في الدنيا فرحة، مطمئنة لما رأته من ثوابه(1/746)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} بستان مرتفع. والعلو هنا: حساً ومعنى(1/746)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أي لا تسمع فيها فحشاً، ولا شتماً، ولا سباً(1/746)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} ليرى الجالس عليها ما خوله ربه من النعيم، والملك العظيم وهي مرفوعة قدراً ومحلاً(1/746)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
{وَنَمَارِقُ} وسائد. وهو ما يسمى بالمسند والمخدة(1/746)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
{وَزَرَابِيُّ} بسط فاخرة منقوشة {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة(1/746)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ} نظر تأمل واعتبار {إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} على هذا النحو العجيب، والوضع الغريب فانظر - يا رعاك الله - كيف أنها تبرك؛ ليستطيع الإنسان أن يضع عليها حمولتها عن قرب، ثم تقوم بما تحمل، بما ينوء بالعصبة أولي القوة. ثم تميزها بالصبر على الجوع
[ص:747] والعطش الأيام المعدودات. ثم بلوغها المسافات الطويلة. ثم اكتفاؤها من المرعى بما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. إلى غير ذلك من استعدادها الخلقي الذي يساعدها: فشفتها مشقوقة لسهولة تناول الكلإ أثناء المشي، ورجلها مفرطحة لئلا تغوص في الرمال فيعوقها ذلك على السير. فتبارك الذي أحسن كل شيء خلقه
وقد خص الله تعالى «الإبل» بالذكر: لأنها أفضل دواب العرب، وأكثرها نفعاً(1/746)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
{وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} من غير عمد(1/747)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} فبعضها قائم، وبعضها منحدر، وبعضها كبير، وبعضها صغير؛ وما خفي منها في باطن الأرض أكبر مما ظهر. قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} وكل ذلك لحفظ توازن الأرض - أثناء دورانها - لئلا تميد بكم(1/747)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} بسطت رأي العين؛ ولو أنها في واقع الأمر كروية الشكل. وها قد وضحت الأدلة، وقامت البراهين - حتى بلغت حد اليقين - على وجود رب العالمين(1/747)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
{فَذَكِّرْ} هؤلاء الكفار؛ بصنع العزيز الجبار، وبأنعمه تعالى عليهم، ووضوح أدلة وجوده وجوده {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} فلا عليك أن يهتدوا(1/747)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} بمتسلط(1/747)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
{إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} فلا داعي لتذكيره. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أما {مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} وطغى واستكبر؛ فيقابل بالسنان لا باللسان وبعد ذلك يرد إلى يوم القيامة(1/747)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
{فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} في النار وبئس القرار؛ بعد أن يلقى العذاب الأصغر في الدنيا؛ بالقتل، والأسر، والذل، وعذاب القبر(1/747)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
{إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} مرجعهم جميعاً(1/747)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} جزاءهم على ما فعلوه في دنياهم.(1/747)
سورة الفجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/747)
وَالْفَجْرِ (1)
{وَالْفَجْرِ} أقسم سبحانه وتعالى بالفجر؛ لما فيه من خشوع القلب، لحضرة الرب. وقيل: أريد بالفجر: النهار كله(1/747)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
{وَلَيالٍ عَشْرٍ} هي عشر ذي الحجة؛ أقسم بها تعالى: لما يكتنفها من عبادات، ومناسك، وقربات وقيل: هي العشر الأواخر من رمضان(1/747)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} أي والزوج والفرد؛ كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ لأن سائر الأشياء: إما زوجاً، وإما فرداً. أو هو قسم بالخلق والخالق(1/747)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي. قيل: هي ليلة المزدلفة؛ لاجتماع الحجيج بها، وصلاتهم فيها، وقيامهم بمناسك حجهم(1/747)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} الحجر: العقل؛ لأنه يحجر صاحبه عما لا ينبغي. أي هل في ذلك القسم الذي أقسمت به مقنع لذي عقل؟(1/747)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} هم قوم هود عليه السلام. وهي عاد الأول
[ص:748] ى(1/747)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
{إِرَمَ} هو اسم لجد القبيلة، أو هو اسم قبيلة عاد نفسها {ذَاتِ الْعِمَادِ} وصف لإرم: التي هي قبيلة عاد ومعنى «ذات العماد» سكان الخيام؛ لأنها تنصب بالعمد. أو هو كناية عن القوة والشرف وقال قوم: إن «إرم» هي دمشق. وقال آخرون: إنها الاسكندرية. أما ما رواه المفسرون؛ من أن «إرم ذات العماد» مدينة عظيمة: قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الياقوت والزبرجد؛ فهو من أقاصيص اليهود وأساطيرهم(1/748)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ} أي لم يخلق مثل أهلها؛ في القوة والبطش، والخلقة(1/748)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
{وَثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام {الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوا الحجارة ونحتوها، واتخذوها بيوتاً؛ لقوله تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً}(1/748)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
{وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ} قيل: كانت له أوتاد يربط بها من يريد تعذيبه. وقيل: هو كناية عن كثرة الجنود، وخيامهم التي يأوون إليها. وقيل: «الأوتاد» المباني العظيمة؛ كالأهرام ونحوها وقيل: غير ذلك(1/748)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
{الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ} تجبروا فيها، وتكبروا على أهليها(1/748)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
{فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ}
أي أكثروا المعاصي وسفك الدماء(1/748)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} هو كناية عن شدة التعذيب(1/748)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي لا يفوته شيء؛ وسيجازي على سائر الأعمال: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر(1/748)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} اختبره وامتحنه بالغنى ومزيد النعم {فَأَكْرَمَهُ} بالمال والآل، والعيال {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} بما أعطاني من النعم التي أستحقها. ولم يعلم أنه ابتلاء له: أيشكر أم يكفر؟ {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} اختبره أيضاً وامتحنه بالفقر والفاقة(1/748)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ضيق عليه عيشه {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بتضييقه علي، ولم يخطر بباله أنه ابتلاء له: أيصبر أم يجزع؟ ولم يعلم كلاهما أن التقدير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، وأن التوسعة قد تفضي إلى خسرانهما والمعنى: أن الإنسان على كلا الحالين لا تهمه الآخرة؛ بل جل همه العاجلة؛ ويرى أن الهوان في قلة الحظ منها(1/748)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
{كَلاَّ} ليس الإكرام والإهانة: في كثرة المال وقلته، وسعة العيش وتضييقه {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} انتقل القرآن الكريم من بيان سوء أقوال الإنسان؛ إلى بيان سوء أفعاله، وإلى أن التوسعة - كما قدمنا - قد تؤدي إلى الخسران؛ إذا لم يقم الموسع عليه بما يجب عليه: من إكرام اليتيم، والحض على إطعام المسكين، والقيام بكل الواجبات التي هو مسؤول عنها، مطالب بها، محاسب عليها(1/748)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
{وَلاَ تَحَاضُّونَ} أي لا يحض بعضكم بعضاً {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي على إطعامه كما طعمتم، وإشباعه كما شبعتم(1/748)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} الميراث {أَكْلاً لَّمّاً} أكلاً ذا لمّ؛ وهو الجمع بين الحلال والحرام
[ص:749] كناية عن أنهم كانوا يأكلون أنصباءهم، وأنصباء باقي الورثة. وهو أمر مشاهد في كل حين؛ وعاقبته من أوخم العواقب. فكم رأينا مستكثراً: داهمه الفقر، وظالماً: ظلمه الدهر، وناهباً: صير الله ماله من بعده نهباً لأعدائه(1/748)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}
حباً كثيراً؛ مع حرص، وطمع، وشره(1/749)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
{كَلاَّ} ردع عن أكل التراث، وعن حب المال؛ فماذا يفيد أكل حقوق الغير؛ عند دخول القبر؟ وماذا يجدي حب المال؛ عند المآل؟ وماذا يفيد النعيم الزائل؛ عند العذاب الدائم؟ ماذا يفيد كل هذا {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} أي تزلزلت زلزالاً شديداً متتابعاً، وتهدمت؛ عند قيام الساعة(1/749)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
{وَجَآءَ رَبُّكَ} أي جاء أمره وقضاؤه، وظهرت آيات عظمته وقدرته جاء {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أي وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً؛ متتابعة: كما يصطف جنود الملك وحراسه: انتظاراً لأمره(1/749)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ} ما قدم وأخر؛ ويعلم أنه مؤاخذ على ما أكل من حق، وما حفظ من مال، وما بخل به من طعام {} أي ومن أين يكون له الذكرى؟ وماذا يجدي التذكر؟ وماذا تفيد التوبة؛ وقد فات أوانهما؟ و(1/749)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
{يَقُولُ} حينئذٍ {يلَيْتَنِي قَدَّمْتُ} في الدنيا عملاً صالحاً ينفعني {لِحَيَاتِي} الباقية الدائمة: حياة الخلود(1/749)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} هو كناية عن هول عذاب الله تعالى، وشدة وثاقه(1/749)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
{يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الآمنة.
يقال ذلك للمؤمنين: عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنة(1/749)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} إلى رحمته، ورضوانه، ونعيمه الوافر {رَاضِيَةً} عن الله تعالى بما آتاك من نعيم مقيم {مَّرْضِيَّةً} عنده؛ بما عملت من صالح الأعمال(1/749)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي في زمرة عبادي الصالحين. وقيل: الخطاب لروح المؤمن؛ يؤيده قراءة من قرأ «فادخلي في عبدي» أي في جسد عبدي(1/749)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} مع الداخلين، من عبادي المؤمنين(1/749)
سورة البلد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/749)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
{لاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِهَذَا الْبَلَدِ} أقسم تعالى بالبلد الحرام؛ وهو مكة شرفها الله تعالى(1/749)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
{وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} ساكن بها. أو «حل» بمعنى حلال لك ما فيها: لك أن تقتل من ترى قتله، وتأسر من ترى أسره، وتعذب من ترى تعذيبه، وتعفو عمن ترى العفو عنه؛ ليس عليك من شيء في هذا.
[ص:750] وكان ذلك يوم دخوله مكة - وقد أمر يومئذٍ بقتل ابن خطل؛ وهو آخذ بأستار الكعبة؛ وكان من ألد الأعداء للإسلام والمسلمين - ولم تحل مكة لأحد بعد رسولالله.
أو المراد بقوله جل شأنه: {لاَ أُقْسِمُ} نفي القسم؛ أي {لاَ أُقْسِمُ} بها «وأنت حل» بها؛ أي حلال. وذلك أن أهل مكة استحلوا إذاية الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخراجه منها(1/749)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} هو كل والد وولده؛ من إنسان وحيوان وغيرهما(1/750)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} في مشقة ومكابدة: فالفقير - في هذه الحياة الدنيا - يكابد من آلامها وهمومها ما يكابد في سبيل نيل قوته، وإدراك عيشه. والغني يكابد فيها أيضاً في سبيل المحافظة على ماله، والخوف على حياته. هذا غير ابتلاء الأغنياء بالمرض، والأصحاء بالفقر؛ وبذلك لا يكون على ظهر الأرض إنسان لم ينل حظه من الامتحان والابتلاء، والمكابدة(1/750)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} لقوته، وكثرة ماله(1/750)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} كثيراً مجتمعاً. يقول ذلك على سبيل الفخر والرياء، وهو على عادة الجاهلية؛ من ادعاء الكرم والتظاهر به. وقيل: يفتخر بإهلاك ماله في سبيل عداوة محمد والمؤمنين(1/750)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
{أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان ينفق هذا المال في غير مواضعه، وأن الله تعالى لا يحاسبه عليه، ولا يجازيه عنه(1/750)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} يرى بهما(1/750)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
{وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ينطق بهما(1/750)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} أوضحنا له طريق الخير، وطريق الشر (انظر آية 176 من سورة الأعراف)(1/750)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا شكر تلك النعم الجليلة؛ بأن عمل الأعمال الصالحة: مثل الإعتاق، والإطعام، وغير ذلك(1/750)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} تعظيم لشأنها(1/750)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
{فَكُّ رَقَبَةٍ} إعتاق رقبة (انظر آيتي 177 من سورة البقرة و92 من سورة النساء)(1/750)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
{مَسْغَبَةٍ} مجاعة(1/750)
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} هو الفقير الشديد الفقر، اللاصق بالتراب(1/750)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
{وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على المصائب، والشدائد، ونوائب الدهر، ويتواصوا أيضاً بالصبر على طاعة الله تعالى، وعن محارمه {وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} بالتراحم فيما بينهم(1/750)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أولئك هم السعداء يوم القيامة وهي من اليمين، أو من اليمين: بمعنى البركة(1/750)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
{أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وهم الأشقياء يوم القيامة. وهي من الشمال، أو من الشؤم(1/750)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ} أي مطبقة عليهم ومغلقة؛ من آصد الباب: إذا أغلقه.(1/750)
سورة الشمس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/751)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي وضوئها(1/751)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} إذا تبعها في الطلوع والإنارة عند غروبها(1/751)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} أظهر الشمس تمام الظهور(1/751)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي يستر الشمس؛ فتظلم الآفاق(1/751)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
{وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا} أي والقادر العظيم المبدع؛ الذي بناها(1/751)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
{وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي والمدبر الحكيم العليم؛ الذي بسطها(1/751)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي والخالق الرازق المصور؛ الذي سوى الإنسان، وأخرجه في أحسن تقويم. ومن تمام التسوية: أن ركب تعالى في النفس قواها الظاهرة والباطنة، وشد أسرها، وأمرها بما يصلحها، ونهاها عما يضرها، ووهبها العقل الذي تميز به بين الخير والشر، والتقوى والفجور(1/751)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي عرفها طاعتها ومعصيتها، وما ينجيها وما يرديها، وخلق فيها العقل والإدراك؛ اللذين تميز بهما بين الغث والثمين، والحسن والقبيح. (انظر آية 176 من سورة الأعراف) أقسم تعالى في هذه السورة الكريمة: بالشمس، والقمر، والنهار، والليل، والسماء، والأرض والنفس: ليلفت النظر إلى هذه الآيات الكونية الدالة على وجود بارئها، ومدبر حركاتها وسكناتها؛ بهذا الوضع العجيب، والنظام الباهر(1/751)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} من طهر هذه النفس، وأصلحها، وارتفع بها من مرتبة الحيوانية(1/751)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
{وَقَدْ خَابَ} خسر {مَن دَسَّاهَا} التدسية: النقص والإخفاء؛ كأنه تعالى يقول لقد خلقت النفس، وأعددتها بمعدات العلم والفهم؛ اللذين ينجيانها من مهاوي الجهالة؛ ولم يبق لها بعد ذلك عذر: فمن طاوع هواه، وجاهر بمعصيته مولاه؛ فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالأغبياء الجهلاء وأراد ربك أن يضرب مثلاً ملموساً لمن دساها، وما كان من عاقبة أمره في دنياه؛ فضلاً عما أعده له ربه في أخراه؛ فقال:(1/751)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام {بِطَغْوَاهَآ} أي «كذبت ثمود» نبيها بسبب طغيانها وبغيها(1/751)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
{إِذِ انبَعَثَ} قام وانطلق {أَشْقَاهَا} أشقى القبيلة؛ حين قام لعقر الناقة(1/751)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} صالح عليه السلام {نَاقَةَ اللَّهِ} أي دعوا ناقة الله تعالى؛ التي أرسلها لكم آية، ولا تمسوها بسوء {وَسُقْيَاهَا} أي لا تمنعوها الشرب في يوم شربها المعد لها {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}(1/751)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
{فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} طحنهم، وأهلكهم عن آخرهم {فَسَوَّاهَا} أي فسوى ثمود في
[ص:752] العقوبة؛ فلم يفلت أحد. أو سواها بالأرض: بأن دمر مساكنها على ساكنيها(1/751)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي ولا يخاف الله تعالى عاقبة إهلاكهم؛ لأنه ليس كسائر الملوك؛ فلا هو بالظالم: فيخيفه الحق، ولا بالضعيف؛ فيلحقه المكروه. ولا ينقص ملكه هلاك طائفة منه، بل لا ينقص ملكه هلاك سائر مخلوقاته(1/752)
سورة الليل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/752)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
{وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إذا غطى النهار بظلمته(1/752)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إذا ظهر بزوال ظلمة الليل(1/752)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} أي والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى.
أقسم تعالى بذاته - على هذه الصفة - إشعاراً بأنه جل شأنه الخالق المصور المبدع؛ لأنه لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى؛ يحصل بالاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، ولا علم عندها بما يلزم؛ إذ أن الأجزاء الأصلية في المني متساوية التكوين: فالولد ينتج من عناصر واحدة؛ لكنه يخرج تارة ذكراً، وتارة أنثى؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. ومن أعجب العجب أن تكثر ولادة الذكران عقيب الحروب والطواعين، واجتياح الرجال وجميع ذلك يدل دلالة قاطعة على أن واضع هذا النظام: عالم بما يفعل، محكم لما يصنع ولا عبرة بما يقوله الآن بعض المشتغلين بالطب: من أنهم سيستطيعون قريباً التحكم في الجنين، وجعله كما يريدون؛ فإن هذا من صنع مدبر الكون؛ الذي {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ}(1/752)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أي إن عملكم لمختلف: فمنه النافع، ومنه الضار، ومنه المنجي، ومنه المردي؛ ويفسره ما بعده(1/752)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الفقراء مما وهبه الله {وَاتَّقَى} ربه، وخاف سوء الحساب(1/752)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} آمن بالمثوبة الحسنى؛ وهي الجنة. أو صدق بالكلمة الحسنى؛ وهي لا إله إلا الله(1/752)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} نهيئه للخصلة المؤدية لليسر؛ وهي الأعمال الصالحة؛ المؤدية للجنة؛ فتكون الطاعة أيسر شيء لديه(1/752)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ} على عباد الله، ولم يؤتهم ما أمر به الله {وَاسْتَغْنَى} عن ثوابه(1/752)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي كذب بالجزاء الحسن، مقابل الإحسان، أو كذب بكلمة التوحيد(1/752)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} نهيئه للخصلة المؤدية للعسر والشدة؛ وهي الأعمال السيئة؛ المفضية إلى النار؛ فتكون الطاعة أعسر شيء عليه. وسمى تعالى طريقة الخير يسرى: لأن عاقبتها اليسر. وطريقة الشر عسرى: لأن عاقبتها العسر(1/752)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
{وَمَا يُغْنِي} ما يدفع {عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي إذا هلك، وتردى في القبر، أو إذا تردى
[ص:753] في جهنم. و «تردى» سقط(1/752)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي علينا أن نوضح طريق الهدى، ونحث عليه؛ ونبين طريق الضلال، وننفر منه(1/753)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} نوفق في الأولى، ونجزي في الآخرة؛ ومن أراد الدنيا أو الآخرة من غيرنا؛ فقد أخطأ الطريق(1/753)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} تتلهب. أي لرحمتنا بكم، وعلمنا بمصالحكم: أسدينا لكم النصح؛ فأوضحنا لكم الهدى وما يؤدي إليه، والضلال وما يؤدي إليه؛ فأنذرناكم ناراً تتلظى(1/753)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
{لاَ يَصْلاَهَآ} لا يدخلها للخلود فيها {إِلاَّ الأَشْقَى} الكافر؛ الذي هو أشقى العصاة(1/753)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
{الَّذِي كَذَّبَ} النبي والقرآن أعرض عن الإيمان(1/753)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
{وَسَيُجَنَّبُهَا} لا يدخلها، ولا يقربها {الأَتْقَى} المؤمن الصالح، التقي النقي(1/753)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
{الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ} الفقراء {يَتَزَكَّى} يتطهر بذلك من دنس البخل، أو متزكياً به عن الرياء والسمعة؛ بل يبذله بأمر الله في سبيل مرضاته(1/753)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
{وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} أي يجزيه عليها بإعطاء المال، أو لا ينتظر جزاء من أحد(1/753)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
{إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} المعنى: أنه لا يعطي ما يعطي جزاء نعمة سابقة أسبغها عليه المعطى له، أو منتظراً جزاءاً لما يعطيه: كعوض، أو ثناء؛ بل يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى فحسب(1/753)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{وَلَسَوْفَ يَرْضَى} هو وعد من الله تعالى بإرضاء من أرضى عبيده فمن أراد رضا الله تعالى؛ فليرض مخلوقاته(1/753)
سورة الضحى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/753)
وَالضُّحَى (1)
{وَالضُّحَى} صدر النهار؛ حين ترتفع الشمس(1/753)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
{وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} إذا سكن(1/753)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} من الوداع؛ أي ما تركك {وَمَا قَلَى} وما أبغضك(1/753)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} من الدنيا(1/753)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أي يعطيك في الآخرة من النعيم والثواب حتى ترضى. قيل: لما نزلت؛ قال: «لا أرضى وواحد من أمتي في النار» وقد يكون المعنى: لنهاية أمرك؛ خير من بدايته. يدل عليه ما بعده(1/753)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} أي فآواك إلى عمك أبي طالب، وضمك إليه، وجعلك أحب الناس لديه. فالإيواء خير من اليتم(1/753)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى} أي وجدك بين أهل الضلال، معرضاً له فعصمك منه، وهداك للإيمان، وإلى إرشادهم إليه. فالهدى خير من الضلال وقد نشأ في عصر تفشت فيه عبادة الأوثان، وانتشرت فيه اليهودية والنصرانية؛ ورأى بعينه ما في هذه الأديان من أباطيل، وما يستمسكون به من أضاليل؛ فحماه الله تعالى من الوقوع في براثن الوثنية، وعصمه من السقوط في وهاد
[ص:754] اليهودية والنصرانية. ورغماً عن ذلك فقد كان أهله وعشيرته - عن آخرهم - يعبدون الأصنام؛ وجدير بمن نشأ في عصر كله ضلال أن يكون ضالاً؛ لولا أن أغاثه مولاه بعنايته، وأدركه بلطفه وهدايته(1/753)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
{وَوَجَدَكَ عَآئِلاً} فقيراً {فَأَغْنَى} فأغناك بما أفاء عليك من الغنائم، أو بمال خديجة رضي الله تعالى عنها. فالغنى خير من الفقر(1/754)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} أي فلا تغلبه على ماله لضعفه. وقرىء «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه وهذا لا ينافي القيام على إصلاحه وتأديبه وتهذيبه؛ إذ أن تركه وإهماله: قهر له(1/754)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
{وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} أريد بالسائل هنا: من يسأل علماً وفهماً؛ فلا ينهر، بل يجاب على سؤاله برفق ولين. أو سائل المال؛ فلا يحبس عنه. وتركه بغير إعطاء - مع حاجته - نهر له. ولا يحل بحال أن يمنع عن سائل المال المال، أو يحبس عن سائل العلم العلم؛ وكل من سأل شيئاً: وجبت إجابته في حدود الإمكان. وإنه لمن دواعي سقوط المروءة: رد السائل. وقد كان من قبلنا يقف ببابه السائل: فيشاطره قوته وماله؛ غير منتظر منه جزاءًا ولا شكوراً؛ بل يسرع ببذل الشكر له على قبوله العطاء؛ وتسببه في رضاء مولاه عليه(1/754)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} التحدث بنعمة الله تعالى: شكر هذه النعم، والشكر على النعم: صرف كل نعمة فيما خلقت له؛ فيصرف المال في الخيرات، وبر المخلوقات، ويبذل العلم لطالبيه، لينتفعوا به، وينفعوا الغير بنشره وإذاعته(1/754)
سورة الشرح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/754)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بالإسلام وقيل: أريد به: شق صدره الشريف. وغسل قلبه بماء زمزم؛ كما ورد في الحديث الشريف(1/754)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} الوزر: الحمل الثقيل. أي وحططنا عنك عبأك الثقيل(1/754)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
{الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله؛ وهو مثل لشدة تألمه عليه الصلاة والسلام، وتلهفه على إسلام قومه(1/754)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بالنبوة وبذكره في التشهد، والأذان، والإقامة(1/754)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي إذا فرغت من دعوة الخلق؛ فاجتهد في عبادة الخالق والنصب: التعب(1/754)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي فارغب إليه بالسؤال، ولا تسأل غيره. وقرىء «فرغب» أي رغب الناس في طلب ما عند الله لأنه متحقق الوجود، متحقق الإجابة(1/754)
سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/755)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} الطور: الجبل. وقصد به هنا: الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى و «سينين» و «سيناء» شجر. و «سينا» جبل بالشام. وقيل: «طور سينا» جبل بين مصر والعقبة(1/755)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} مكة زادها الله تعالى علواً وشرفاً وسميت بالبلد الأمين: لأمان من يدخلها.
قيل: إن في هذا تقسيم لتاريخ هذا العالم منذ نشأته؛ إلى أربعة أقسام؛ وأقسم بكل قسم منها: لأهميته في تاريخ البشر عامة؛ فالتين: إشارة إلى القسم الذي بدأ من خروج آدم من الجنة إلى وقت الطوفان؛ وذلك لأن آدم وحواء استترا - حين بدت لهما سوءاتهما - بورق التين. والزيتون: إشارة إلى القسم الذي بدأ من الطوفان إلى ظهور الأديان الحديثة؛ ببعثة موسى عليه السلام؛ وذلك لأن نوحاً عليه السلام - حينما استوت سفينته على الجودي - زرع شجرة الزيتون؛ لغذائه منه، وغذاء ماشيته من ورقه، والاستضاءة بزيته. وطور سينين: إشارة إلى القسم الذي بدأ ببعثة موسى عليه السلام إلى ظهور الإسلام، ومجيء سيد الرسل عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن موسى ناجى ربه وكلمه عليه. والبلد الأمين: إشارة إلى القسم الذي بدأ برسالة خاتم النبيين محمد إلى يوم تقوم الساعة؛ وذلك لأن مكة عظمها الله تعالى: هي مولد الرسول عليه الصلاة والسلام ومبعثه، ومصدر الإسلام ومنبعه، وفيها بيت الله الحرام وقبلة سائر المسلمين
وفي الإقسام بالتين والزيتون: إعلاء لشأنهما، ولفت لما فيهما من منافع تجل عن البيان والحصر. فالتين: مقو للقلب والدم، مسمن، ملين، وهو يقطع البواسير، ويعالج الأمراض الروماتيزمية، ويدفع النقرس. والزيتون: مفتت للحصى؛ مقو للصدر، طارد للبلغم؛ وهذا بعض مزاياهما، وقل من كثر من منافعهما. وقال بعضهم: المراد بالتين والزيتون: منابتهما. فالتين: دمشق. والزيتون: بيت المقدس. وقيل: «التين والزيتون»: إشارة إلى نبوة عيسى «وطور سينين» إشارة إلى نبوة موسى عليهما السلام. و «البلد الأمين» إشارة إلى نبوة محمد(1/755)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في أحسن تصوير؛ حيث خلقه تعالى مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بالعلم والفهم(1/755)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}
[ص:756] أي حيث إنه لم يشكر نعمة خلقنا له في أحسن تقويم، ولم يستعمل ما خصصناه به من المزايا في طاعتنا ومرضاتنا: سنرده في أسفل سافلين؛ وهي جهنم. نعوذ ب الله تعالى منها. ويحتمل أن يكون المعنى: رددناه إلى الكبر والهرم؛ اللذين هما مظهر الضعف والخرف. والمعنى الأول أدق؛ لقوله تعالى:(1/755)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع؛ وهو الجنة وليس بمعقول أن يكون المعنى: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» فلن يكبروا، ولن يهرموا(1/756)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} الخطاب للإنسان - على طريقة الالتفات - أي فما سبب تكذيبك بالبعث والجزاء؛ بعد هذا التبيين، وبعد وضوح الأدلة والبراهين؟(1/756)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي ليس الذي خلق التين والزيتون، وكلم موسى على طور سينين، وأنشأ البلد الأمين، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعل النعيم والجحيم؛ فأدخل المؤمن في نعيمه، وأصلى الكافر في جحيمه؛ أليس ذلك بأحكم الحاكمين: صنعاً، وتدبيراً، وعدلاً؟(1/756)
سورة العلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/756)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ مبتدئاً باسم ربك. صح في الأخبار أن النبي نزل عليه الملك جبريل - أول نزوله عليه - وقال له: «اقرأ» فقال: ما أنا بقارىء فأخذه فغطه - حتى بلغ منه الجهد - ثم أرسله فقال له: «اقرأ» قال: ما أنا بقارىء. فغطه الثانية - حتى بلغ منه الجهد - ثم أرسله فقال له «اقرأ» قال: ما أنا بقارىء، فغطه الثالثة - حتى بلغ منه الجهد - فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ «علم الإنسان ما لم يعلم» وهذا أول خطاب إلهي وجه إلى النبي صلوات الله وتعالى وسلامه عليه؛ أما بقية السورة فمتأخر النزول(1/756)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلق: ديدان صغيرة؛ يؤيده ما أثبته العلم الحديث من احتواء المني على حييوانات صغيرة لا ترى إلا بالميكروسكوب(1/756)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} الذي لا يداني كرمه كرم(1/756)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
{الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أرشد، ووفق إلى الكتابة به؛ وفي هذا تنبيه على فضل علم الكتابة؛ فما دونت العلوم، ولا ضبطت كتب الله تعالى المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولاها لما استقامت أمور الدين والدنيا(1/756)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي علمه ما لم يكن يعلم، أو علمه ما لا يستطيع علمه بقواه البشرية؛ وإن من ينظر إلى الكهرباء، واللاسلكي، والرادار، والصواريخ الموجهة، والطائرات، والغواصات، وغير ذلك من خوارق الصناعات والمعلومات: يعلم حق العلم أن العقل البشري - مهما سما وعلا - ما كان ليستطيع أن يبلغ ما بلغ؛ بغير إلهام
[ص:757] وتعليم من الله تعالى (انظر آية 22 من سورة الروم)(1/756)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} أي ليتجاوز الحد؛ فتطمح نفسه إلى نيل ما لم ينل، ويتطلع ببصره إلى السماء؛ متخطياً ما رسمه الله تعالى له في الكون، خارجاً على سنن الطبيعة التي أوجدها الله؛ راغباً بلوغ الكواكب؛ وما هو ببالغها(1/757)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
{أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} أي أن رأى نفسه غنياً بالمال، الذي رزقه الله ليتصدق به، متسلحاً بالعلم؛ الذي وهبه الله ليفيد به، ويستفيد منه(1/757)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} المرجع؛ فيجازي الكافر على كفرانه، والطاغي على طغيانه(1/757)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)
{أَرَأَيْتَ}
أيها السامع؛ وهي للتعجب في مواضعها الثلاثة من هذه السورة {الَّذِي يَنْهَى *(1/757)
عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
عَبْداً إِذَا صَلَّى} كأنه تعالى يقول: ما أسخف عقل من يطغى به الكبر والكفر؛ فينهى عبداً من عبيد الله تعالى عن صلاته قيل: إن أبا جهل قال في ملإ من قريش: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه. وكان يصلي مرة فألقوا عليه - حين سجد - سلا جزور، وكثيراً ما كانوا يتحينون صلاته؛ فيخصونه بصنوف من الإيذاء، وضروب من الاستهزاء(1/757)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)
{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ} هذا المصلي {عَلَى الْهُدَى *(1/757)
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
أَوْ أَمَرَ} الذي ينهاه {بِالتَّقْوَى} أي أمره باتقاء الله تعالى وخشيته فيما يفعل. وقيل: «أرأيت» ذلك الناهي «إن كان على الهدى» فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى؛ فيما يأمر به من عبادة الأوثان؛ كما يعتقد(1/757)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي إن كان على التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح(1/757)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} كل هذا فيجازيه عليه(1/757)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
{كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عما يفعل {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار.
والناصية: شعر مقدم الرأس(1/757)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} وصف الناصية بذلك مجازاً، وأراد به صاحبها(1/757)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي ليدع أهل ناديه؛ وهم خلانه وأصدقاءه؛ الذين يجلسون معه في ناديه؛ وكان - في دنياه - يعتز بقوتهم، ويتطاول بشوكتهم. والنادي والندى: المجلس الذي يجلس فيه القوم؛ ويسمع بعضهم فيه نداء بعض. والمعنى: ليدع اليوم من كان يستنصر بهم في الدنيا؛ فإنهم لن يستجيبوا لدعائه، ولا لندائه، ولن يسمعوه، وإن سمعوه فلن يستطيعوا نصرته(1/757)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
{سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ} ملائكة العذاب؛ فنقول لهم: «خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه» و «الزبانية» الشرطة؛ أطلقت على ملائكة العذاب؛ لأن الشرطة يدفعون بالمجرمين إلى السجون، وملائكة العذاب يدفعون بالكافرين إلى النار(1/757)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{كَلاَّ} ردع وزجر لذلك العاتي الطاغي: الناهي عن الصلاة، وعن عبادة الله وردع عن طاعته واتباعه
[ص:758] {لاَ تُطِعْهُ} في ترك الصلاة {وَاسْجُدْ} لله؛ وداوم عليها {وَاقْتَرِب} وتقرب إلى ربك بالسجود؛ فإن «أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد»(1/757)
سورة القدر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/758)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن: نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا؛ وكان ذلك {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي في ليلة تقدير الأمور وقضائها؛ كقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وقيل: سميت بذلك؛ لشرفها وفضلها على سائر الليالي؛ وهي في العشر الأواخر من رمضان، ويرجح أن تكون في ليلة السابع والعشرين منه(1/758)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} تفخيم لها، وتعظيم لشأنها(1/758)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} في العظمة والشرف {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فالعبادة فيها: تفضل العبادة في غيرها بأكثر من ثلاثين ألف ضعف(1/758)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
{تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ} تنزل إلى السماء الدنيا، أو إلى الأرض {وَالرُّوحُ} جبريل عليه السلام. وخص بالذكر: لأنه النازل بالذكر. وقيل: «الروح» طائفة من الملائكة؛ حفظة عليهم، كما أن الملائكة حفظة علينا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} {بِإِذْنِ رَبِّهِم} بأمره وإرادته {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي تنزل الملائكة لأجل كل أمر قضاه الله تعالى على مخلوقاته لتلك السنة(1/758)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{سَلاَمٌ هِيَ} أي لا يقدر الله تعالى فيها للمؤمنين المتقين إلا الأمن والسلامة {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وبه يكون انتهاء الليلة. أو المراد بالسلام: ما يحدث في هذه الليلة المباركة من كثرة تسليم الملائكة على المؤمنين.(1/758)
سورة البينة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/758)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى؛ وكفرهم: تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَالْمُشْرِكِينَ} عبدة الأصنام والأوثان {مُنفَكِّينَ} منفصلين عن الكفر، تاركين له {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة؛ وهي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ الذي ذكر في كتبهم(1/758)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
{رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} هي القرآن(1/758)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي في هذه الصحف مكتوبات مستقيمة، ناطقة بالحق والعدل(1/758)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
{حُنَفَآءَ} مؤمنين {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} الملة المستقيمة(1/758)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
{الْبَرِيَّةِ} الخليقة(1/758)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة
[ص:759] من عدن في المكان: إذا أقام فيه {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} خلوداً دائماً؛ لا يخرجون منها {رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بقبول أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بثوابها (انظر آية 22 من سورة المجادلة).(1/758)
سورة الزلزلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/759)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي حركت واضطربت اضطراباً شديداً؛ لقيام الساعة(1/759)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ما في جوفها من الموتى، والكنوز(1/759)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
{وَقَالَ الإِنسَانُ} الكافر {مَا لَهَا} يقول ذلك مستغرباً؛ لأنه لا يؤمن بالبعث. أما المؤمن فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}(1/759)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ينطقها الله تعالى - الذي أنطق كل شيء - فتشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها؛ وذلك(1/759)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إن نطقها هذا بوحي منه تعالى(1/759)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي ليروا جزاء أعمالهم(1/759)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ} وزن {ذَرَّةٍ} الذرة: النملة الصغيرة التي تذروها الرياح. وهومثل للصغر والقلة {خَيْراً يَرَهُ} أي يرى ثوابه(1/759)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} أي يرى عقابه.(1/759)
سورة العاديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/759)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} الخيل التي تجري، فتضبح. والضبح: صوت أنفاسها عند عدوها(1/759)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
{فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً} التي تورى النار، وتقدحها بحوافرها. وهذا مشاهد عند جري الخيل؛ حين تصطدم حوافرها بقطع الصخر؛ فتقدح شرراً(1/759)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} التي تغير على العدو صباحاً(1/759)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي فهيجن بوقت الصبح غباراً(1/759)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي توسطن بهذا الوقت جموع الأعداء. أقسم تعالى بالخيل الجياد، التي تغدو للجهاد؛ فتعدو فتورى النار، وتقدحها بحوافرها؛ لقوتها وشدة بأسها، فتغير على الأعداء، وتنزل بهم صنوف البلاء، وتثير الغبار، وتتوسط الجموع. وذلك للإشعار بعلو مرتبة الخيل، والحض على اقتنائها والاعتناء بشأنها ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تعلم الفروسية، وإعداد العدة، وأخذ الأهبة للحرب والجهاد في سبيل الله تعالى(1/759)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي الكفور بأنعمه(1/759)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ} أي وإن الإنسان على كفره هذا وكنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه بكفر النعمة؛
[ص:760] حيث يظهر أثر ذلك عليه؛ فهو دائماً يشكو من الله ولا يشكره على أنعمه(1/759)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} المال {لَشَدِيدٌ} أي لأجل حبه للمال لبخيل ممسك(1/760)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
{أَفَلاَ يَعْلَمُ} ذلك الكنود الكفور ما يحل به {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} بعث ما فيها من الموتى(1/760)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي أخرج، وعلم ما فيها: من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، وشح وكرم(1/760)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ} وبما في قلوبهم {لَّخَبِيرٌ} فيجازيهم على ما قدموا: من خير أو شر.(1/760)
سورة القارعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/760)
الْقَارِعَةُ (1)
{الْقَارِعَةُ} القيامة؛ وسميت قارعة: لأنها تقرع القلوب بأهوالها(1/760)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} تهويل لشأنها(1/760)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الفراش: هو الطائر الصغير الدقيق؛ الذي يتطاير حول النار. أو هو الجراد الصغير. وقد شبههم تعالى بالفراش؛ لكثرتهم وانتشارهم وضعفهم وذلهم، و «المبثوث» المتفرق المنتشر(1/760)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} كالصوف المنتثر المتطاير؛ كقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً}(1/760)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت حسناته على سيئاته(1/760)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته عن سيئاته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها؛ كمن يتصنع الكرم مباهاة، أو العبادة رياء(1/760)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي فمأواه النار. ويقال للمأوى: أم؛ لأن الأم: مأوى الولد ومفزعه.(1/760)
سورة التكاثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/760)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
{أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ} شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد؛ عن طاعة الله(1/760)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي شغلكم جمع المال، عن المآل؛ حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر. وقيل: «حتى زرتم المقابر» معددين سجايا آباءكم وأجدادكم(1/760)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
{كَلاَّ} ردع عن التكاثر والتفاخر {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تكاثركم وتفاخركم(1/760)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكرير للتأكيد مما سوف يعلمونه، وأنه حاصل لا محالة(1/760)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أي لو علمتم العلم الحقيقي، وتدبرتم وتفكرتم؛(1/760)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
لعرفتم الجحيم، ولخفتموها كأنكم ترونها. وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله كأنك تراه»(1/760)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي ثم ترونها يقيناً يوم القيامة(1/760)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أي تحاسبون وتؤاخذون على التنعم الذي شغلكم عن الطاعة ولم تقوموا بشكره(1/760)
سورة العصر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/761)
وَالْعَصْرِ (1)
{وَالْعَصْرِ} أي والدهر. أقسم الله تعالى بالدهر لنتخذ من التاريخ عظة وعبرة؛ فنعلم أن الرومان أهلكهم الترف، وأطاح بملكهم الفجور والخمور. وأن الفراعنة: أهلكهم الكفر والكبر. وأن كثيراً ممن سبقنا من الأمم {نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وأن البقاء دائماً للأصلح، و {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
هذا وقد يكون المراد بالعصر: صلاة العصر؛ لفضلها، أو لكونها الصلاة الوسطى(1/761)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} أي لفي خسران؛ لأنه يفضل العاجلة على الآجلة؛ في حين أنه - فيما يتعلق بالدنيا - بفضل الآجلة على العاجلة: فكم أقرض محتاجاً رغبة في الربا لأنه مطمئن لصدق مقرضه وملاءته. أما وعد الإله - الغني القدير - بالجزاء؛ فليس في حسبانه، ولا يدخل في مجال اليقين لديه؛ فبئست التجارة تجارته؛ وهو في خسران أبد الدهر(1/761)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله تعالى، وصدقوا برسله وكتبه، وبوعده ووعيده {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به. والحق: الخير كله؛ من توحيد الله تعالى، وطاعته، واتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} على الشدائد والمصائب، والصبر على الطاعات، وعن المعاصي.(1/761)
سورة الهمزة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/761)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} وهو الذي يغتاب الناس، ويطعن في أعراضهم. والهمز: الغمز والضغط، والنخس. واللمز: العيب، والإشارة بالعين(1/761)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
{الَّذِى جَمَعَ مَالاً} كثيراً؛ لأن القليل: لا يسمى جمعاً {وَعَدَّدَهُ} أحصاه، أو جعله عدة لنوائب الدهر(1/761)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يظن أن سعة ماله تخلده في الدنيا؛ فلا يموت. أو تخلده في الغنى والنعيم؛ فلا يساق إلى الجحيم(1/761)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
{كَلاَّ} ردع عن ذلك {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أي ليطرحن في النار. وسميت حطمة: لأنها تحطم كل شيء(1/761)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} تهويل لشأنها، وتعظيم لأمرها(1/761)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)
{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} جهنم أعاذنا الله تعالى منها(1/761)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} أي تحرق قلوب الكافرين. وخص الأفئدة بالذكر: لأنها مكان الكفر، وموطن النفاق. ولأنها أيضاً لا شيء في البدن أشرف منها، ولا أشد تألماً(1/761)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}
[ص:762] مطبقة مغلقة. من آصد الباب: إذا أغلقه(1/761)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} أي إنهم بعد إطباق أبواب جهنم عليهم: تمدد عليها العمد. وذلك لتأكيد يأسهم من الخروج. أو المراد أنهم مربوطون في العمد بالسلاسل والأغلال(1/762)
سورة الفيل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/762)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
وهم قوم أبرهة.
روي أن أبرهةبن الصباح، ملك اليمن: بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج عن مكة؛ فجاء رجل من كنانة فلطخ قبلتها بالعذرة - احتقاراً لها - فحلف أبرهة ليهدمن الكعبة. وجاء مكة بجيش له جرار تحمله الفيلة. ولذلك سماهم الله تعالى أصحاب الفيل. قيل: إن عبد المطلب - سيد قريش، وجد الرسول عليه الصلاة والسلام - أصاب جيش أبرهة من ماله مائتي بعير؛ فاستأذن على أبرهة فأذن له، وقال أبرهة لترجمانه: سله عن حاجته، فقال: أن ترد إبلي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصابها جيشي، وتترك بيتاً هو دينك، ودين آبائك؛ فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب: إني رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. قال عبد المطلب: أنت وذاك. فرد عليه الإبل. وبعد ذلك تحرزوا في شعف الجبال خوفاً من فتك أبرهة. وقام عبد المطلب آخذاً بحلقة باب الكعبة مبتهلاً إلى الله تعالى بقوله:
لاهم إن المرء يمـ
ـنع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليـ
ـب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدواً محالك
جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعـ
ـبتنا فأمر ما بدا لك(1/762)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال. أي أبطل كيدهم الذي جاءوا من أجله(1/762)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
{وَأَرْسَلَ
[ص:763] عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أي جماعات من الطيور(1/762)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} أي من طين متحجر. أو المراد إنها حجارة من جهنم؛ لقوة بأسها، وشدة عذابها. ولعله من السجل: وهو النصيب. أي إن كل حجر منها من نصيب رجل منهم(1/763)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} العصف: ورق الشجر الذي يجف، وتعصف به الريح. والمأكول: الذي أكله السوس، أو أكل الدواب بعضه، وتناثر بعضه. وقيل: إن الطير الأبابيل: هي ميكروبات الأمراض، وإنه قد تفشى فيهم مرض الجدري؛ بدرجة يندر وقوع مثلها؛ فكان لحمهم يتساقط؛ حتى هلكوا عن آخرهم. ولا حرج من تمثيل الميكروب بالطير؛ لحمل الهواء له، وكثرة تنقله.(1/763)
سورة قريش
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/763)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أي لأجل تأليف قريش، وإذهاب عداواتهم وأضغانهم(1/763)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)
{إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي «فليعبدوا رب هذا البيت» الذي ألف بين قلوبهم في رحلة الشتاء والصيف. وكانت لهم رحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارة. وكانوا في رحلتيهم آمنين لا يتعرض لهم أحد. وقيل: المعنى متصل بما قبله في الصورة السابقة. أي «فجعلهم كعصف مأكول، فليعبدوا رب هذا البيت» الذي حماه من المغيرين، وأهلك المعتدين، ولا يتشاغلوا عنه تعالى بأنعمه، ولا يجعلوا كفره مكان شكره. وهو جل شأنه(1/763)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} أي بعد جوع {وَآمَنَهُم} أمنهم {مِّنْ خَوْفٍ} بعد خوف. قال تعالى: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات».(1/763)
سورة الماعون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/763)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي هل عرفت الذي يكذب بالبعث والجزاء(1/763)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي يدفعه بعنف، ويرده بزجر وخشونة(1/763)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
{وَلاَ يَحُضُّ} لا يحث نفسه، ولا غيره {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} المحتاج للطعام؛ وذلك لأن من شأنه التكذيب بالبعث والجزاء: لا يبالي بما يفعل؛ أحراماً كان أم حلالاً؟ ما دام في ذلك تحقيق لرغبته، وإرضاء لنزوته؛ وما دام يعتقد ألا معقب على فعله، ولا محاسب على جرمه(1/763)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
{فَوَيْلٌ} شدة عذاب؛ أو هو واد في جهنم(1/763)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
{الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي يؤخرونها
[ص:764] عن وقتها؛ فما بالك بمن لا يأتيها أصلاً(1/763)
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
{الَّذِينَ هُمْ} إذا صلوا {يُرَآءُونَ} أي يصلون أمام الناس رياء؛ ليقال: إنهم صلحاء، ويتخشعون ليقال: إنهم أتقياء، ويتصدقون ليقال: إنهم كرماء(1/764)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وهو كل ما يستعان به؛ كالإبرة، والفأس، والقدر، والماء، والملح، ونحو ذلك.(1/764)
سورة الكوثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/764)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الخير الكثير و «الكوثر» من الرجال: السيد الكثير الخير. وقيل: «الكوثر» نهر في الجنة(1/764)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة عيد الأضحى {وَانْحَرْ} أضحيتك. وقيل: كل صلاة، وكل نحر(1/764)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{إِنَّ شَانِئَكَ} أي مبغضك {هُوَ الأَبْتَرُ} المنقطع عن كل خير. قيل: نزلت في العاص بن وائل؛ حيث سمى الرسول عليه الصلاة والسلام: أبتر عند موت ابنه القاسم. وكيف يكون أبتر من التحق بنسبه سائر المؤمنين؟(1/764)
سورة الكافرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/764)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لأن إلهكم الذي تدعونه يلد، وإلهي لا يلد(1/764)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} لأن إلهي يأمركم باتباعي فلم تتبعوني؛ فإذاً أنتم لا تعبدونه(1/764)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
{وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي ولا أنا بعابد عبادتكم(1/764)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي ولا أنتم عابدون عبادتي. ومعنى الجملتين الأوليين: الاختلاف التام في المعبود، والجملتين الآخرتين: الاختلاف التام في العبادة. أي لا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة(1/764)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{لَكُمْ دِينُكُمْ} لكم شرككم {وَلِيَ دِينِ} ولي توحيدي.(1/764)
سورة النصر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/764)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
هو فتح مكة، أو هو الفرج، وتنفيس الكرب(1/764)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أي جماعات وذلك بعد فتح مكة: صارت العرب تأتي من أقطار الأرض؛ طائعة للرسول، مختارة لدينه(1/764)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} وقد كان - بعد نزولها - يكثر من قول «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه».(1/764)
سورة المسد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/765)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
{تَبَّتْ} أي هلكت {يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} وهو عم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ وسبب ذلك أن الرسول عليه السلام لما دعا قومه للإسلام، وقال لهم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت هذه السورة؛ دعاءًا عليه بمثل ما دعا به على الرسول {وَتَبَّ} أي وقد كان ذلك وحصل، يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «وقد تب»(1/765)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
{مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لم يفده ماله الذي جمعه، ولا عمله الذي اكتسبه(1/765)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
{سَيَصْلَى} سيدخل {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} هي جهنم أعاذنا الله تعالى منها وقد كانت تمشي في القوم بالنميمة، ويعبر عن الواشي بحمال الحطب في لغة العرب؛ قال الشاعر:
إن بني الأدرم حمالوا الحطب
هم الوشاة في الرضاء والغضب
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنها كانت تحمل الحطب حقيقة، لتضعه في طريق رسولالله؛ وهو بعيد؛ لأنها كانت موسرة ذات خدم وحشم، فلا تعدم خادماً يقوم لها بما تريد: من إذاية الرسول، ووضع الحطب في طريقه(1/765)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
{فِي جِيدِهَا} في عنقها يوم القيامة {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} المسد: الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً، من ليف وجلد وغيرهما. وليس كحبال الدنيا، كما أن النار ليست كنار الدنيا، وإنما هو على سبيل التمثيل.(1/765)
سورة الإخلاص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/765)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا رب غيره، ولا معبود سواه(1/765)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
{اللَّهُ الصَّمَدُ} الذي يحتاج إليه كل مخلوق، ولا يحتاج إلى أحد(1/765)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
{لَمْ يَلِدْ} لأنه لا يجانسه أحد؛ فيتخذ من جنسه صاحبة فيتوالدا {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} {وَلَمْ يُولَدْ} لأن كل مولود: حادث. وهو جل شأنه قديم؛ لا أول لوجوده. ولو كان حادثاً لافتقر إلى محدث؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(1/765)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لا يماثله أحد.(1/765)
سورة الفلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/765)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: الصبح(1/765)
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} من شر كل شيء خلقه؛ كنار،
[ص:766] وشيطان، وحية، وعقرب، وغير ذلك(1/765)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قيل: إنه الليل إذا دخل؛ لما يتبع ذلك من الشرور، والإجرام، والفتك. وقيل: إنه الثريا إذا سقطت؛ لما يتبع سقوطها من الأسقام والطواعين. أو هو القمر إذا انخسف؛ لأنه من علائم الجدب والقحط، أو انخسافه يوم القيامة؛ حيث لا يوجد على ظهرها مؤمن. وقيل: الغاسق إذا وقب: الأير إذا قام؛ وكم في ذلك من بلاء كبير، وشر مستطير وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما(1/766)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} المراد هنا: النمامون، الذين يقطعون روابط الألفة، وحبال المحبة؛ بما ينفثونه من سموم نمائمهم. شبههم تعالى بالسحرة المشعوذين؛ الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين الرجل وزوجه: عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها؛ ليكون ذلك حلاً للعقدة التي بين الزوجين، أو بين المتحابين.
والنميمة تشبه أن تكون ضرباً من ضروب السحر؛ لأنها تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة ولما كانت النميمة على هذا الجانب العظيم من الخطورة: علمنا الله تعالى أن نلجأ إليه، ونعوذ به منها. أما ما رواه بعض المحرفين المخرفين - في تأويل هذه الآية - من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سحره لبيد بن الأعصم، وقد أثر سحره فيه؛ حتى أنه كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء وهو لا يأتيه؛ فهو باطل مردود ممجوج؛ إذ ما أشبه هذا بقول المشركين فيه: «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً» ولا يبعد أن من خولط في عقله بدرجة أنه كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء وهو لا يأتيه: أن يخيل إليه أيضاً أنه يوحى إليه، ولم يوح إليه، أو أنه قد بلغ ما أوحي إليه ولم يبلغ وفضلاً عن هذا فإن هذه السورة مقطوع بمكيتها، وما يزعمونه من السحر يقولون: إنه وقع بالمدينة. وبالجملة فإن هذا واضح البطلان، بادي الخسران لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه(1/766)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحاسد: الذي يتمنى زوال نعمة الغير؛ ومن طبيعة الذي يتمنى زوال النعمة: أن يجتهد في إيصال الأذى، وتدبير المكائد؛ بكافة الوسائل، وسائر السبل. وجدير بمن هذا شأنه أن يلجأ الإنسان منه إلى قوة عظيمة يستعين بها على دفع أذاه؛ ومن أعظم من الله في دفع الأذى، وحماية من يحتمي به؟
أما ما يروونه في الحسد من أنه هو التأثير بنفس العين المجردة، فهذا ما لا أظنه ولا أعتقده - رغم تواتره، وكثرة وقوعه - وقد يكون من بعض الخرافات السائدة. وقد يؤثر السحر على بعض النفوس الضعيفة القلقة.(1/766)
سورة الناس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/766)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
ألجأ إليه وأستعين به. ورب الناس: مربيهم(1/766)
مَلِكِ النَّاسِ (2)
{مَلِكِ النَّاسِ} الذي يحكمهم، ويرعى مصالحهم، ويضبط أعمالهم، ويدبر شؤونهم(1/766)
إِلَهِ النَّاسِ (3)
{إِلَهِ النَّاسِ} معبودهم، الذي لا إله غيره(1/766)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الذي يلقي حديث السوء في النفس؛ وهو الشيطان {الْخَنَّاسِ} الذي يوسوس إلى الإنسان؛ فإن لم يجد عنده استعداداً لوسوسته: رجع عنها وأعاد الكرة ثانية بعد برهة. وهو من خنس: إذا رجع(1/766)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أي إن الشياطين قسمان: من الجن، ومن الإنس، ولا شك أن شياطين الإنس أشد فتكاً وخطراً من شياطين الجن. (أنظر آيتي 112 من سورة الأنعام، و29 من فصلت).(1/766)