لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{لَقَدْ كَانَ فِي
[ص:296] قَصَصِهِمْ} أي قصص الرسل، الذين قصصناهم عليك {عِبْرَةٌ} عظة؛ وهكذا سائر قصص القرآن {مَا كَانَ} القرآن {حَدِيثاً يُفْتَرَى} يختلق؛ كما زعموا أنك اختلقته {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لما تقدمه من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} تحتاجون إليه في معاشكم ومعادكم.(1/295)
سورة الرعد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/296)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{المر} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/296)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود على الحدود {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} يوم القيامة {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ويا له من مدبر حكيم، وخالق عليم ترى الشيء فيهولك مظهره، ويسوؤك مخبره، ولو نظرت إليه نظر العاقل البصير، والناقد الخبير؛ لوجدت الخير كل الخير فيما وقع؛ فنعم المدبر العظيم، والخالق الكريم {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يبين لكم دلائل قدرته، ومظاهر ربوبيته(1/296)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} بسطها رأي العين، وجعلها سهلة ذلولاً {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي صنفين: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وكبير وصغير، وغير ذلك {يُغْشِي} يغطي {الْلَّيْلَ النَّهَارَ} بظلمته {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على وحدانيته تعالى(1/296)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} يريد سبحانه وتعالى أن في الأرض قطعاً متجاورة ومتماثلة: تسقى بماء واحد؛ فتنتج هذه الحامض، وهذه الحلو، وتلك الرطب، والأخرى اليابس؛ إلى غير ذلك مما لا يحصره بيان، ولا يعوزه برهان {وَجَنَّاتٌ} بساتين
[ص:297] {مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {صِنْوَانٌ} جمع صنو؛ وهو المثل: وهي النخلات، والنخلتان؛ يجمعهن أصل واحد، وقد يراد به: الشجر المتماثل، وغير المتماثل {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} ولكنه ينتج ثمراً مختلفاً، وطعوماً متباينة {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} في الثمر؛ إذ ليس التمر كالعنب أو الخوخ كالتفاح، أو التوت كالرمان أو الكمثرى كالمشمش(1/296)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من شيء
{فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} في قبورنا {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أنبعث بعد ذلك في خلق جديد كما كنا قبل موتنا؟(1/297)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ذلك بأنهم سألوا رسول الله أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين؛ أفلا يتعظون بها؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ} متى تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى ربهم {عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب: قيل: إنها أرجى آية في كتاب الله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن ظلم نفسه بالذنب، ولم يقلع عنه، أو يتب منه. أو شديد العقاب للكافرين(1/297)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} ذكراً كان أو أنثى، شقياً أو سعيداً، بليداً أو رشيداً، مليحاً أو قبيحاً، طويلاً أو قصيراً {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} أي وما تنقص؛ وذلك بإلقاء الجنين قبل تمامه {وَمَا تَزْدَادُ} بزيادة عدد الولد؛ فقد تلد الأنثى واحداً، أو اثنين، أو ثلاثاً، أو أربعاً {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بقدر وحكمة؛ حيث تتوفر المصلحة، وتعم المنفعة؛ فترى الكون لا يضيق بساكنيه، لا ينقطع رزقه تعالى عمن خلقه {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وتتجلى حكمة الحكيم العليم في حفظ التوازن بين تعداد السكان وحاجاتهم؛ فترى دائماً عقب الحروب، والجوائح، والكوارث والطواعين: تزداد نسبة المواليد عنها أيام السلام، والأمن، والدعة. وترى أيضاً نسبة الذكورة والأنوثة لا تكاد تتفاوت إلا بالقدر الذي أبيح من أجله تعدد الزوجات.
وترى الطفل حين يولد: يدر له الثدي لبناً خاثراً؛ يسمى اللبأ. وهو خلو من المواد الغذائية؛ مع احتوائه على مواد ملينة؛ تساعد على تنظيف أمعاء الطفل، وإعداده للتغذي؛ وبعد ذلك يتطور اللبن: كماً وكيفاً؛ وتزداد قيمته الغذائية بازدياد الطفل ونموه؛ فكلما كبر سنه ازدادت المواد الغذائية تبعاً لحاجته إليها، فتطغى المواد الدهنية والسكرية على المواد الزلالية والملحية؛ كل هذا والمرضع هي هي لم تتغير، وغذاءها هو هو لم يتطور؛ ولكنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.
[ص:298] وترى شجر البوادي في فصل الشتاء، وتوفر الرطوبة والأمطار: مجدباً قاحلاً؛ وفي فصل الصيف مع وجود الحرارة المحرقة، وقلة المياه، وانعدام الأمطار؛ تراه مزدهراً يانعاً مكسواً بالورق؛ فائضاً بالخضرة وما ذاك إلا ليستظل به من حرارة الشمس من ألهبته أشعتها وأحرقته نيرانها؛ مع أن الطبيعة تقتضي وجود الخضرة حيث يتوفر الماء والرطوبة، ووجود القحل حيث توجد الحرارة وتقل الأمطار؛ فسبحان من {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}. وترى فاكهة الشتاء لا تصلح للصيف، وفاكهة الصيف لا تصلح للشتاء(1/297)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما غاب، وما شوهد(1/298)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} أخفاه عن الأسماع {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} لأنه تعالى عالم السر والنجوى، و «يعلم السر وأخفى» {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ} متوار عن الأنظار في ظلمة الليل؛ بمعصية الله تعالى من هو {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ذاهب في سربه؛ أي في طريقه؛ يعصي ربه جهراً في ضوء النهار. لا يخفى على الله تعالى منهم شيء(1/298)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} ملائكة تعتقب في المحافظة عليه؛ وكتابة سيئاته وحسناته {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} أمامه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظ حسناته وسيئاته {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعات {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم، ويدفع عنهم عذاب الله تعالى الذي أراده بهم(1/298)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته: خوفاً من نزول الصواعق، وطمعاً في نزول المطر {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} في وجوده وقدرته؛ وينكرون إرساله محمداً، وينكرون قدرته على بعث الخلائق وإعادتهم {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الكيد والقوة(1/298)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}
أي إن دعوته تعالى إلى معرفته، وإلى اتباع دينه؛ ملابسة للحق، محانبة للباطل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدونهم {مِّن دُونِهِ} غيره {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} لا يجيبونهم إلى شيء يطلبونه منهم {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ} أي إلا كاستجابة الماء لمن يبسط كفيه له {لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} لأن الماء لا يعقل ولا يسمع، ولا يحس. أو كمن يبسط كفيه ليحمل بهما الماء ليشرب؛ فلا يستجيب له الماء، ولا تحمله كفاه إليه بسبب بسطهما {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ} عبادتهم {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ضياع لا منفعة فيه(1/298)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً} بالدليل والحجة والبرهان {وَكَرْهاً} بالسيف والقتال {وَظِلالُهُم} أي ويسجد له تعالى ظلال كل من في السموات والأرض {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} قيل: يسجد له تعالى ظل كل شيء قبل طلوع الشمس، وفي العشي كذلك(1/298)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَآءَ} أصناماً تعبدونها وتخلصون لها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الكافر والمؤمن، أو الصنم الذي لا يرى ولا يسمع، والله السميع البصير {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} الكفر والجهل {وَالنُّورُ} الإيمان والعلم. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} خلق الله تعالى، وخلق شركائه الذين أشركوهم معه تعالى في العبادة(1/299)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} بمقدارها؛ الذي علم الله تعالى أنه صالح لها، وغير ضار بها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً} وهو ما علا على وجه الماء من الرغوة والأقذار {رَّابِياً} منتفخاً مرتفعاً على وجه السيل {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ}
كالذهب والفضة {ابْتِغَآءَ} مبتغين صنع {حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} من الحديد والنحاس والرصاص وأمثالها؛ مما يتخذ منه الأواني، ويتمتع به في السفر والحضر {زَبَدٌ مِّثْلُهُ} أي خبث لا ينتفع به؛ كالزبد الذي فوق الماء {كَذَلِكَ} أي مثل هذه الأمثال {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي يضرب أمثالاً لهما {فَأَمَّا الزَّبَدُ} الذي هو مثل للباطل {فَيَذْهَبُ جُفَآءً} باطلاً، ملقى به {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ} من الماء النقي، والجواهر، والمعادن الخالصة الصافية؛ وهي مثل للحق {فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} يمكث الماء الصافي فتسقى منه الأناس والأنعام، وتسقى منه الأرض؛ فتجود بالبركات والخيرات. ويمكث المعدن النقي فتصنع منه الحلي، والأوعية، والآنية، والآلات النافعة(1/299)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ} وآمنوا به، وصدقوا رسله، وعملوا بما في كتبه؛ فأولئك لهم {الْحُسْنَى} الجنة {وَالَّذِينَ} كفروا به تعالى، و {لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} وعصوا رسله؛ فأولئك {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} من مال وعقار {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أضعافاً مضاعفة {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أنفسهم يوم القيامة من عذاب الجحيم ويومئذ لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} يأخذهم تعالى بذنوبهم جميعها فلا يغفر منها شيئاً {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} بئس الفراش.(1/299)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} القرآن ويعتقد أنه {الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} عن الحق؛ وهو الكافر {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أصحاب العقول(1/300)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} الذي واثقوا به الناس (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة و72 من سورة الأنفال)(1/300)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأرحام، والقرابات، وغيرها {وَيَخْشَوْنَ} يخافون غضبه وعقابه؛ فلا تصدر أعمالهم إلا بما رضيه وأمر به، ولا تنعقد نياتهم إلا بما يجب(1/300)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} طلباً لمرضاته تعالى {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} أدوها في أوقاتها {وَأَنْفَقُواْ} في وجوه الخير والبر {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} هذا وفضل الصدقة دائماً يكون في السر؛ حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه؛ بعداً عن التظاهر، وبراءة من الرياء، ويستحب فيها العلن إذا قصد به اقتداء الغير؛ وترويضه على الإنفاق. وقيل: يستحب السر في الصدقة؛ والجهر في الفريضة {وَيَدْرَءُونَ} يدفعون {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} بأن يقابلوا الجهل بالعلم، والحمق بالحلم، والأذى بالصبر، والظلم بالعفو، والقطع بالوصل {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} العاقبة المحمودة للدنيا في الدار الآخرة؛ وهي(1/300)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه(1/300)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} يتركون أوامره ويغفلون فرائضه، وينتهكون محارمه {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الذي واثقهم به؛ وهو العقل الذي وهبه لهم. والوفاء به: عدم الخروج عن جادة الحكمة والصواب أو هو قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} (
انظر آية 172 من سورة الأعراف) {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من صلة الرحم، والإحسان للفقراء، وما شاكل ذلك من الأمور التي تميز بها الإنسان عن الحيوان؛ فإذا ما قطعها كان الحيوان أفضل منه وأعز وأكرم {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالكفر والعصيان {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} البعد والطرد من رحمة الله تعالى {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} سوء العاقبة في الآخرة: جهنم يصلونها وبئس المصير(1/300)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه {لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} ويضيق على من يشاء. يعطي بغير حساب، ويمنع بغير أسباب؛ فقد يوسع على من يكره، ويضيق على من يحب، ويبتلي بالشر والخير؛ ليعلم الصابرين منهم والشاكرين.
[ص:301] {وَفَرِحُواْ} أي فرح الذين بسط الله تعالى لهم الرزق: فرح بطر؛ لا فرح غبطة وشكر. أو وفرح الكفار {بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وما نالوه فيها، وما اكتسبوه منها {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} أي بجانب ما في الآخرة من نعيم مقيم، وهناء دائم {إِلاَّ مَتَاعٌ} شيء يتمتع به فترة من الزمن؛ ومآله إلى الفناء(1/300)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {آيَةٌ} معجزة {مِّن رَّبِّهِ} كما أنزل على من سبقه من الأنبياء؛ كعصا موسى، وناقة صالح، وأشباههما؛ وتناسوا آية الرسول العظمى، ومعجزته الكبرى: القرآن الكريم الموحى إليه به بأمر ربه، والمحفوظ أبد الدهر بعنايته وقدرته
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
من النبيين إذ جاءت ولم تدم
{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} إضلاله؛ لتمسكه بالكفر، وإصراره على الظلم {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} من رجع إليه بقلبه. فالإنابة سابقة للهداية؛ فكانت الهداية أجراً لها، كما أن الظلم سابق للإضلال؛ فكان الإضلال عقوبة عليه(1/301)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ} بطاعته ومرضاته {تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} تهدأ وترتاح إلى ثوابه(1/301)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{طُوبَى لَهُمْ} الطوبى: الخير والحسنى وقيل: إنه اسم للجنة بالهندية {وَحُسْنُ مَآبٍ} حسن مرجع(1/301)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{وَقَدْ خَلَتْ} قد مضت {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ} إن ما تكفرون به {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري كلها (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/301)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لو صح أن قرآناً يسير الجبال ويصدع الأرض، وتسمعه الموتى لكان هو هذا القرآن، لكونه غاية في الإنذار، ونهاية في التذكير {بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} يدخل من يشاء في رحمته، وينعم على من يشاء بجنته، ويصطفي من يشاء لرسالته {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} يعلم؛ وهي لغة قوم من النخع {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} بطريق الإلهام أو الإلزام، والقسر والجبر؛ ولكنه تعالى تركهم لاختيارهم واختبارهم {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} أي بسبب كفرهم {قَارِعَةٌ} داهية تفجؤهم، وسميت «قارعة» لأنها تقرع القلب بأهوالها؛ ولذا سميت القيامة بالقارعة {أَوْ تَحُلُّ} الداهية {قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها، ويتطاير عليهم شررها، ويلحقهم شرورها؛ فلا يتعظون بها
[ص:302] {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} موتهم، أو القيامة؛ فتحل حينئذ بالكافرين قارعة القوارع، وداهية الدواهي(1/301)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{فَأَمْلَيْتُ} أمهلت.
والإملاء: طول العمر، مع رغد العيش {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعقوبة(1/302)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} رقيب {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} بما عملت فيجزيها عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} في العبادة {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي عرفوهم لنا {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} أي بباطل منه، أو هو الكلام يلقى على عواهنه {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كيدهم للإسلام {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} فكادوا للمؤمنين {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} منعوا عن دينه تعالى {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (انظر آية 200 من سورة الشعراء)(1/302)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر، وأنواع المحن {وَلَعَذَابُ الآُخِرَةِ أَشَقُّ} وأقسى من عذاب الدنيا {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} يقيهم غضبه ويمنع عنهم عذابه(1/302)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها: أنها {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي ثمرها مستديم؛ ولا ينقطع بإبان، ولا يمتنع بأوان {وِظِلُّهَا} باق؛ لا ينسخ بالشمس كظل الدنيا {تِلْكَ} الجنة؛ وحالها كما وصفنا {عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} والنار عذابها دائم، كدوام نعيم الجنة(1/302)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من مؤمني اليهود والنصارى {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن؛ لأن تصديقه نزل في كتبهم {وَمِنَ الأَحْزَابِ} المشركين؛ الذين تحزبوا على النبي والمؤمنين بالمعاداة والمناهضة {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي بعض القرآن. قال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض» {قُلْ} لهؤلاء المنكرين {إِنَّمَآ أُمِرْتُ} في هذا القرآن الذي أنكرتموه {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} وحده {وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أحداً غيره؛ فإنكاركم للقرآن: إنكار للتوحيد
[ص:303] {إِلَيْهِ أَدْعُو} الناس لمعرفته وعبادته {وَإِلَيْهِ مَآبِ} مرجعي(1/302)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} لتقرأوه وتفهموه {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم} دينهم الذي يدينون به وفق هواهم {بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والبراهين الساطعة، والحجج الدامغة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} ينصرك «من الله» {وَلاَ وَاقٍ} يقيك غضبه وعذابه.
هذا وكل ما جاء خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بلسان التهديد والوعيد: إنما أريد به أمته؛ إذ أنه من المعلوم أن الله تعالى أرسل رسله لهداية الخلق، وإبعادهم عن أهوائهم؛ لا أن يتبعوا ضلال المضلين، وأهواء الكافرين(1/303)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} كما أرسلناك {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} نساءً وأولاداً؛ كما جعلنا لك {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم {أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} معجزة {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته؛ لا بإرادة الرسول، ولا برغبة قومه واقتراحهم {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل شيء موقت بوقت: أجل مكتوب محدد، أو لكل أجل من الآجال: وقت مكتوب لا يتعداه(1/303)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ} ينسخ ما يشاء نسخه} ما يشاء إثباته؛ مكان الذي نسخ، أو «يمحو» ذنب المذنبين إذا تابوا، وكفر الكافرين إذا آمنوا «ويثبت» لهم الحسنات، مكان السيئات.
والمحو والإثبات عام في الرزق، والأجل والسعادة، والشقاوة، فقد أخرج ابن سعد وغيره، عن الكلبي. أنه قال: يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه. ويمحو من الأجل ويزيد فيه. وقد ذهب شيخ الإسلام زكريا الأنصاري إلى صحة ذلك.
وقد ورد: أن الصدقة، وبر الوالدين وصلة الرحم: تنسأ في الأجل.
وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه؛ واجعله سعادة ومغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. حتى القضاء الأزلي: يمكن محوه وتغييره؛ أليس هو الفعال لما يريد؟
وليس أدل على المحو والإثبات: مما جاء عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه في القنوت؛ فإن فيه: «وقني شر ما قضيت» ولا ينقلب الشر خيراً؛ إلا بمحوه وتغييره، وإثبات الخير مكانه.
ولولا جواز المحو والتبديل، وإمكانه: لأصبح الدعاء لغواً، لا طائل وراءه؛ وقد قال تعالى:
[ص:304] {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصله الذي لا يتغير؛ وهو علم الله تعالى الأزلي اللدني؛ الذي لا يدركه محو، ولا تبديل، ولا تغيير (انظر آية 22 من سورة البروج)(1/303)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ} وإن نريك {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} أي ليس عليك إلا إبلاغهم بما أرسلت به {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} مجازاتهم بما فعلوا حينما يصيرون إلينا(1/304)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أرض الكفار؛ ننقصها بامتلاك المسلمين لها وفتحها، أو المراد بالنقص: خرابها، وهلاك علمائها وفقهائها، وخيارها وسادتها. والأطراف لغة: الكرماء والأخيار {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} بما يشاء {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لا راد لحكمه(1/304)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} المكر: الكيد أي مكر الأمم المتقدمة؛ فكفروا برسلهم، وكادوا لهم؛ كما كفر بك قومك، وكادوا لك {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} فيجازي الماكرين على مكرهم، ويرد كيد الكائدين في نحورهم {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير أو شر؛ فيجزيها عليه {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الآخرة(1/304)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بما أظهره من الأدلة والبراهين والآيات، على صدق رسالتي {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي علماء أهل الكتاب الذين أسلموا؛ لأن صفة الرسول عليه الصلاة والسلام ونعته جاء في كتبهم (انظر آية 157 من سورة الأعراف) وقيل: المراد بمن عنده علم الكتاب: الله تعالى. وقيل: هو جبريل عليه السلام.(1/304)
سورة إبراهيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/304)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} هو القرآن الكريم {لِتُخْرِجَ} به {النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بأمره وإرادته وتوفيقه {إِلَى صِرَاطِ} طريق(1/304)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الويل: حلول الشر، وقيل: إنه وادٍ في جهنم(1/304)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يختارونها ويفضلونها {عَلَى الآخِرَةِ} فيتمسكون بزخرف الدنيا ومتاعها الفاني الزائل، ولا يؤمنون بما في الآخرة من ثواب وعقاب {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن الإسلام {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} معوجة(1/304)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي إنه لا يجوز إرسال رسول أعجمي لأمة عربية، كما لا يجوز إرسال رسول عربي لأمة
[ص:305] أعجمية؛ لذا وجبت ترجمة القرآن لسائر اللغات (انظر توفية هذا البحث بكتابنا «الفرقان») {فَيُضِلُّ اللَّهُ} من يشاء إضلاله؛ بعد أن يزجي له الآيات البينات، ويضرب له الأمثال والعظات، ويسوق له المعجزات والدلالات؛ حتى إذا ما استمرأ عصيانه، ولج في طغيانه: وكله إلى شيطانه؛ فأضله وزاد في إضلاله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}(1/304)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي أنذرهم بوقائعه التي وقعت للأمم الكافرة قبلهم، أو ذكرهم بأيام نعمه عليهم؛ من تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من النعم التي لا تحصى {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التذكير {لآيَاتٍ} دلالات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية {شَكُورٍ} كثير الشكر لربه على ما أولاه(1/305)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{يَسُومُونَكُمْ} من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً وذلاً {سُوءُ الْعَذَابِ} أسوأه وأقبحه وأشده {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يستبقونهن وقيل: يفعلون بهن ما يخل بالحياء {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ} محنة(1/305)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ} أعلم. وهي أيضاً بمعنى: «قال» وبها قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} براً وخيراً {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} عبر تعالى عن عدم الشكر بالكفر؛ لما فيهما من أوجه الشبه: فالكافر منكر للإله، وهذا منكر لنعم الإله؛ فكلاهما في الكفر سواء وحقاً إن من يعرف الإله وينكر نعمه؛ لأشد كفراً ممن لا يعرفه أصلاً جعلنا الله تعالى من عباده الشاكرين(1/305)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} عن سائر خلقه {حَمِيدٌ} محمود في صنعه بهم(1/305)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{وَعَادٌ} قوم هود {وَثَمُودُ} قوم صالح {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الظاهرات، والحجج الواضحات {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي عضوا أناملهم من شدة الغيظ. وقيل: ردوا أيديهم في أفواه الرسل؛ ليمنعوهم من الكلام.(1/305)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقهما ومبدعهما {وَيُؤَخِّرْكُمْ} بلا حساب ولا عقاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو انتهاء آجالكم، أو إلى قيام الساعة {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا} تمنعونا {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} من الأصنام {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة؛ تتسلط على عقولنا؛ فتلزمنا بتصديقكم(1/306)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالإيمان والنبوة {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/306)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه؟ ومن التوكل: الشكر عند العطاء، والصبر عند البلاء {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} هدى كلامنا طريقه المستقيم؛ الذي ارتضاه لنفسه، واختاره الله تعالى له(1/306)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي أوحى إلى الرسل {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين الطاغين(1/306)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} أي أرض الظالمين وديارهم. وقد ورد «من آذى جاره ورثه الله داره» {ذلِكَ} النصر على الأعداء، وإيراث الأرض {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي خاف قيامه بين يدي للحساب يوم القيامة أو خاف قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} {وَخَافَ وَعِيدِ} أي خاف عذابي الذي أوعدت به في القرآن(1/306)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{وَاسْتَفْتَحُواْ} أي طلب المؤمنون النصر من الله تعالى {وَخَابَ} ذل وخسر
[ص:307] {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متكبر، مجانب للحق(1/306)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{مِّن وَرَآئِهِ} أي بعد انقضاء حياته {جَهَنَّمَ} يصلاها {وَيُسْقَى} فيها {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} هو ما يسيل من جوف أهل النار من القيح والدم(1/307)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{يَتَجَرَّعُهُ} يبتلعه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} يزدرده لرداءته وقبحه {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي يأتيه أنواع العذاب المقتضية للهلاك، المفضية للموت؛ ولكن الله تعالى يمد في حياته؛ ليزيد في تألمه وتحسره(1/307)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} أي صفة الأعمال الصالحة؛ التي يعملها الذين كفروا بربهم؛ كالصدقة، وحسن الجوار، وصلة الرحم؛ فهذه الأعمال صفتها {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي يوم شديد هبوب الريح، وكل مائل عن غرضه؛ فهو «عاصف» قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} وذلك بالنسبة لأجر الآخرة، أما في الدنيا فيجزون على أعمالهم هذه فيها {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ} عملوا في الدنيا {عَلَى شَيْءٍ} أي لا يقدرون على نيل ثوابه في الآخرة {ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} العذاب والهلاك الكبير(1/307)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{وَبَرَزُواْ للَّهِ} أي ظهرت الخلائق {جَمِيعاً} وبرزتلله تعالى من قبورها {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} السادة والرؤساء {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا} دافعون عنا {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ} أي الرؤساء المتبوعون {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى الإيمان {لَهَدَيْنَاكُمْ} إليه، أو «لو هدانا» لما ندفع به عذابه «لهديناكم» إليه. وفاتهم أنه تعالى هداهم للإيمان فأبوا، وأرشدهم سواء السبيل فعصوا قال تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وقال جل شأنه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} الآن {أَجَزِعْنَآ} الجزع: ضد الصبر {أَمْ صَبَرْنَا} على ما نحن فيه من العذاب {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} منجى ومهرب(1/307)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} أي فرغ من الحساب، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} بأن قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار؛ فوفى بما وعد؛ وها قد دخلتم النار بعصيانكم، ودخل أهل الجنة الجنة بطاعتهم {وَوَعَدتُّكُمْ} بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء {فَأَخْلَفْتُكُمْ} كذبتكم {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} تسلط وقوة؛ حتى ألزمكم بالعصيان، وأكرهكم على الكفر
[ص:308] {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} للكفر والعصيان {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أجبتم ندائي؛ بغير تعقل أو روية {فَلاَ تَلُومُونِي} الآن {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} على تغفلكم وعدم حرصكم {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}
بمغيثكم. أي بمجيب صراخكم {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي بإشراككم إياي مع الله في الطاعة والعبادة(1/307)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} هي كلمة التوحيد، أو هي كل كلمة طيبة يقولها الإنسان لأخيه الإنسان؛ فتهدىء من روعه، وتزيد في حبه قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فهذه الكلمة الطيبة ينميها الله تعالى ويعلي أجرها وجزاءها {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} أي طيبة الظل والثمر. قيل: هي النخلة. والمقصود بها: كل شجرة وارفة الظلال، مفعمة الثمار(1/308)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} أي تجود بثمرها لآكله في كل وقت. وهو مثل للكلمة الطيبة وما تنتجه من طيب الأثر، ويانع الثمر(1/308)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمة الكفر، أو كل كلمة رديئة بذيئة؛ تترك أثراً سيئاً في النفوس، وضغناً كامناً في القلوب {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} منظرها كريه، وطعمها رديء. قيل: هي الحنظل. وقصد بها كل شجرة سيئة المنظر والمخبر {اجْتُثَّتْ} استؤصلت {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} ثبات(1/308)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بأن ينطقه الله تعالى بها عند موته، وعند سؤاله في القبر {وَفِي الآخِرَةِ} بأن يشهد بها وقت الحساب، فينجو من العقاب {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ فالكفر سابق على الإضلال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما يضلهم بعد إصرارهم على الكفران وتمرغهم في أوحال العصيان، ورفضهم الحجج والدلالات، والآيات البينات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}(1/308)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} أي كفروا بالنعمة ولم يشكروا عليها، فقد خلقهم تعالى ليؤمنوا به، فأنكروا وجوده، وأصحهم ليطيعوه: فعبدوا غيره، وأفاض عليهم من نعمائه ليشكروه فكفروا به وبذلك بدلوا أنعمه تعالى عليهم كفراً به وقيل: المراد بالنعمة في هذه الآية: الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأكرم به من نعمة ما أعظمها وأجلها يؤيد ذلك قوله تعالى:
{وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ
[ص:309] دَارَ الْبَوَارِ} لأن قومهم لما رأوا كفرهم بالنبي وتكذيبهم له اتبعوهم على ذلك. و «دار البوار» دار الهلاك(1/308)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
{جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المقر(1/309)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أمثالاً {لِيُضِلُّواْ} الناس {عَن سَبِيلِهِ} دينه {قُلْ تَمَتَّعُواْ} في الدنيا مدة حياتكم {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} يوم القيامة {قُلْ} أمر صادر ممن بيده مقاليد السموات والأرض، ومن بيده الموت والحياة والنشور؛ لرسوله وصفيه، وخيرته من خليقته؛ يقول له:(1/309)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
«قل» يا محمد {لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بوحدانيتي ورسالتك {يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} يؤدوها في أوقاتها {وَيُنْفِقُواْ} على الفقراء {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} بفضلنا؛ لا بكدهم وجهدهم؛ فكم من ساع - يتصبب عرقه، وينهال دمعه ودمه - في سبيل العيش؛ فلا يحصل على قوت يومه. وكم من قاعد أثقلته النعمة؛ والأرزاق عليه تترى من حيث لا يحتسب. وكم من مناد على سلعته؛ حتى جف لسانه، ونضب ريقه؛ فما تزداد سلعته بندائه إلا بواراً، ولا يزداد بتعبه إلا خساراً وكم من جالس على أريكته، لا يعلن عن بضاعته، ولا يدعو إليها، ولا يطنب في مدحها والمشترون من حوله كالذباب يحومون حول بضاعته المزجاة، ويتسابقون في شرائها، ويتزاحمون على اقتنائها. ومن هنا يصدق قول الحكيم العليم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} فكيف لا تنفق مما رزقك مولاك أيها المسكين؟ {سِرّاً} إذا كان في ذلك كبحاً لجماح غرورك وطرداً لشيطان ريائك، وستراً للفقير، وحفظاً لماء وجهه {وَعَلاَنِيَةً} إذا كان في ذلك تعليماً للمنفقين، وحثاً للممسكين وحذار - رحمك الله - من الرياء والإيذاء؛ فـ «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ}
كحال الدنيا: بيع وشراء، وأخذ وعطاء. فليراع الله تعالى في بيعه وشرائه لينفعه ذلك في يوم جزائه {وَلاَ خِلاَلٌ} ولا صداقة. فليراع في الدنيا من يصادق؛ فلا يخالل فيها إلا في الله ولله أو المراد «لا بيع فيه» لا عدل ولا فدية؛ فلا يستطيع المذنب أن يستبدل ذنبه، أو يفتدي نفسه بملء الأرض ذهباً «ولا خلال» أي ولا صديق ينفع في ذلك اليوم، أو يدفع عذاب الله تعالى(1/309)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} دائمين لا يفتران، ولا يقف أحدهما عن الدوران(1/309)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي وأعطاكم من كل ما رغبتم فيه. وقد جرت عادته تعالى أن يعطي عباده ما يسألون، وفوق ما يسألون {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} وكيف نحصي أنعمه التي لا تتناهى؟ أنحصي نعمة السمع والإبصار؟ أم نعمة الشم والذوق؟ أم نعمة الرزق والطعام؟ أم نعمة الماء والهواء؟ أم نعمة الإيمان والإسلام؛ التي لا تعادلها نعمة؟
[ص:310] حقاً إن الإنسان لو حاول الإحصاء والحصر: لضاق ذرعاً؛ ولما وسعه إلا أن يقول: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ} كثير الظلم لنفسه؛ لعدم شكر ربه على أنعمه {كَفَّارٌ} كثير الكفر، قليل الشكر جاء في الحديث القدسي «أخلق فيعبد غيري، وأرزق فيشكر غيري»(1/309)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} البلد: مكة؛ زادها الله تعالى شرفاً وأمناً {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعوته فلم يعبد أحد من ولده صنماً قط(1/310)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{رَبِّ إِنَّهُنَّ} أي الأصنام {أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي} منهم {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي شأنه كشأني. وذلك كقوله: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية». {وَمَنْ عَصَانِي} فلم يؤمن بك، ولم يستجب لدعوتك {فَإِنَّكَ غَفُورٌ} لذنوب المذنبين؛ بفضلك {رَّحِيمٌ} بعبادك تغفر لمن تشاء منهم، وتعفو عمن تشاء قال نبي الله عيسى ابن مريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما:
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1/310)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} زوجه هاجر وولدها إسماعيل {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} مكة شرفها الله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} لو قال عليه الصَّلاة والسَّلام: فاجعل أفئدة الناس تهوى إليهم؛ بغير «من» لما بقي على ظهر الأرض إنسان إلا وذهب إليهم بقلبه ولبه (انظر آية 60 من سورة غافر) {وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعاءه؛ فجلبت لهم الثمار من سائر الأقطار؛ وقد لا يتذوقها جانيها قبل أن يتذوقوها؛ فانظر يا أخي حكمة الحكيم العليم وبعد أن دعا إبراهيم ربه بما شاء: ختم دعاءه بحمده على نعمائه(1/310)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} بعد أن يئست من القوة والولد «وهب لي» {إِسْمَاعِيلَ} جد نبينا عليهم الصَّلاة والسَّلام {وَإِسْحَاقَ} بعد إسماعيل {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} لمن دعاه مؤمناً به، موقناً بإجابته(1/310)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي} أيضاً اجعلهم مقيمي الصلاة.
وهي خير دعوة يدعوها المؤمن؛ فلا أحب له، ولا أنفع، ولا أصلح من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} من آداب الدعاء: أن يدعو الإنسان ربه بقبول دعائه، وأن يكون متيقناً بالإجابة؛ وإلا فهو شاك في قدرة ربه القادر على كل شيء(1/310)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} يا محمد أن {اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} لسكوته عليهم، وإغفاله لهم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} في التعذيب والانتقام {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} شخص بصره: إذا فتح عينيه من غير أن يطرف؛ وهذا لشدة ذهولهم ورعبهم {مُهْطِعِينَ} مادي أعناقهم، أو مسرعين {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رافعيها(1/310)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا يغمضون أعينهم: لشدة ما يرون من الهول {وَأَفْئِدَتُهُمْ} قلوبهم {هَوَآءٌ} خالية من التفكير لكثرة فزعهم(1/311)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ} أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} التي دعوتنا إليها، فلم نستجب لها {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} الذين أرسلتهم لنا فكذبناهم؛ فتقول لهم ملائكة الرحمن {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي حلفتم أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة، ولا تنتقلون إلى دار أخرى، وحياة أخرى. وذلك كقوله تعالى {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)(1/311)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي هو عالم بما يخفونه من الشر، وما يضمرونه من السوء والأذى للمؤمنين؛ فيجازيهم عليه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} أي وإن كان مكرهم شديداً عظيماً؛ تبلغ قوته أن تزول منه الجبال؛ فإن الله تعالى قادر على إبطاله ومحوه، مقابلته بمكر هو أشد وأقوى منه
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقيل: «وإن» بمعنى ما؛ أي وما كان مكرهم لضعفه وهوانه {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وقرأ أبي وابن مسعود وغيرهما «وإن كاد» ومعنى هذه القراءة: لقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال أن تزول منه(1/311)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} ما وعدهم به من النصر، ونزول العذاب بالمكذبين {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} قوي، غالب {ذُو انْتِقَامٍ} ممن عاداه(1/311)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي مسلسلين في الأغلال؛ وقد قرنت أيديهم إلى أرجلهم، أو قرن كل مجرم مع نظيره وشبيهه في الكفر والإجرام؛ كما يفعل بمجرمي أهل الدنيا(1/311)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{سَرَابِيلُهُم} ملابسهم {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} تعلوها وتغطيها(1/311)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} ما عملت في الدنيا {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسب الخلائق جميعاً في أسرع من لمح البصر(1/311)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{هَذَا} القرآن {بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي أنزل لتبليغهم أوامر ربهم وموجدهم، وإنذارهم بغضبه على من يخالفه، وعقابه لمن يكفر به {وَلِيَذَّكَّرَ} ليتذكر به {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول.(1/311)
سورة الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الرَ}(1/312)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
(انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/312)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{رُّبَمَا} بتخفيف الباء وتشديدها؛ وقرىء بهما {يَوَدُّ} يتمنى {الَّذِينَ كَفَرُواْ} حين يروا العذاب يوم القيامة {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي لو كانوا أسلموا في الدنيا، ونجوا من هول هذا العذاب(1/312)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{ذَرْهُمْ} دعهم واتركهم {يَأْكُلُواْ} كما تأكل الأنعام {وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم الفانية {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم عن الإيمان بربهم، وعن الاهتمام بآخرتهم {الأَمَلُ} في طول الحياة، وجمع المال {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد؛ أي سوف يعلمون ما يحل بهم في الآخرة؛ من عذاب أليم مقيم(1/312)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القرى الظالمة {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أجل محدود لإهلاكها(1/312)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} الذي حدد لهلالكها {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عنه؛ بل ينزل بها الدمار في الوقت الذي حدده الله لها(1/312)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يعنون بذلك سيد العقلاء محمداً(1/312)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{لَّوْ مَا} هلا {تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} فنراهم عياناً؛ يشهدون بصدقك، وأن القرآن قد نزل عليك من عندالله. أو هلا تأتينا بالملائكة بالعذاب على تكذيبنا لك؟ قال تعالى رداً عليهم(1/312)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} أي إلا بالعذاب الحق؛ الذي يستحقونه {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} أي وما كانوا عند نزول الملائكة - إذا أنزلناهم بالعذاب - مؤخرين؛ بل يحل بهم بغتة(1/312)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} طول العمر، وأبد الدهر؛ لا يعتريه تغيير أو تبديل، ولا يشوبه تصحيف أو تحريف، ولا تدركه زيادة أو نقصان(1/312)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي في فرق المتقدمين(1/312)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ندخله؛ أي القرآن، لا الكفران كما ذهب إليه أكثر المفسرين (انظر آية 200 من سورة الشعراء) الكافرين(1/313)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ} مضت {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي سنة الله تعالى فيهم، وعادته معهم؛ من تعذيبهم بتكذيبهم، واستئصالهم بطغيانهم(1/313)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ} يرونه بأعينهم {فَظَلُّواْ فِيهِ} أي في هذا الباب {يَعْرُجُونَ} يصعدون(1/313)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ} حيرت، أو حبست {أَبْصَارُنَا} عن الإبصار(1/313)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} هي منازل الكواكب السيارة؛ وهي اثنا عشر: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والكواكب السيارة سبعة: المريخ: وله من البروج الحمل والعقرب. والزهرة: ولها الثور والميزان. وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة. والقمر: وله السرطان. والشمس: ولها الأسد. والمشتري: وله القوس والحوت. وزحل: وله الجدي والدلو(1/313)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{وَحَفِظْنَاهَا} أي حفظنا السموات {مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مرجوم، أو ملعون(1/313)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} من هؤلاء الشياطين {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} شعلة من نار؛ تحرق كل ما تمسه كالصاعقة(1/313)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} بميزان الحكمة: كتناسب العناصر في الخضر والفاكهة وغيرهما؛ مما يحير العقول، ويدهش الأفكار أو «موزون» بميزان التقدير؛ فلا يزيد على حاجة الخلق ولا ينقص {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أو {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي في الجبال {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}
مما يوزن من المعادن: كالذهب والفضة، والنحاس، والرصاص، وما شاكل ذلك(1/313)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي أسباب العيش: من المطعومات والمشروبات {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي وجعلنا لكم من العيال، والمماليك، والأنعام؛ من لستم له برازقين؛ لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم(1/313)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{وَإِن مِّن شَيْءٍ} وما من شيء قلَّ أو جلَّ، دق أو رق {إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} التي ننفق منها {وَمَا نُنَزِّلُهُ} للخلق {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} حسب حاجتهم إليه، وحسب مشيئتنا وإرادتنا بالتوسعة على البعض، والتضييق على الآخرين. وقد يوسع الله تعالى على العاصين، ويضيق على المتقين؛ لحكمة يعلمها، وغرض يريد إمضاءه: ابتلاء لبعض خلقه، وإملاء لآخرين «وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال»(1/313)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي حوامل بالسحاب؛ لأنها تحمله في جوفها، ولأن الرياح تلقح النبات والأشجار؛ فتنقل من ذكرها لأنثاها «فتبارك الله أحسن الخالقين»(1/313)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أي قد أحطنا بالخلق علماً من لدن آدم إلى قيام الساعة(1/314)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ} طين يابس؛ تسمع له صلصلة إذا ضرب عليه {مِّنْ حَمَإٍ} طين أسود {مَّسْنُونٍ} متغير منتن(1/314)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} هي نار لا دخان لها؛ تنفذ من المسام، وتسري مع الريح {} أتممت خلقته(1/314)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ذهب الأكثرون إلى أنه سجود تحية بالانحناء فحسب؛ ويأبى ذلك قوله تعالى: «فقعوا» لأنه أمر بالوقوع متلبسين بالسجود، وذهب بعضهم إلى أنه امتحان للملائكة، واختبار لطاعتهم؛ لأنهم - بلا شك - نوع أرقى من النوع الإنساني؛ وليثبت تعالى للملإ حسن طاعتهم، ومزيد انقيادهم؛ وأنهم {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (انظر آية 22 من سورة التكوير)
{قَالَ} الله تعالى مخاطباً إبليس اللعين؛ ليقطع الشك باليقين أمام سائر المخلوقين؛(1/314)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قال {يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الذين سجدوا إطاعة لأمري، وتنفيذاً لقضائي فابتدأ اللعين، في مجادلة رب العالمين، وأحكم الحاكمين(1/314)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} أقل مرتبة مني؛ إذ {خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ} طين يابس؛ تسمع له صلصة إذا ضرب عليه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} طين أسود متغير؛ وقد خلقتني من نار؛ والنار أفضل من الطين(1/314)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
{قَالَ} تعالى {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة؛ فلست أهلاً للبقاء في النعيم {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود(1/314)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء: يوم القيامة(1/314)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} أخرني وأمهلني(1/314)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} المؤخرين(1/314)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} يوم القيامة. من هنا نعلم أن الله تعالى قد يستجيب للظالم - لحكمة قدرها وعلمها - امتحاناً به لغيره، وابتلاءاً لبعض مخلوقاته(1/315)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} لقن اللعين حجة لأوليائه الملاعين؛ وهي أن الإغواء جاءه من أحكم الحاكمين؛ فقال لربه: بحق إغوائك لي؛ في حين أن ربه لم يغوه؛ وإنما غوى هو بنفسه، وأغوى غيره وقد جرت سنة الله تعالى في خليقته أن يضل الضالين، ويهدي المهتدين {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} {قَالَ} الله تعالى:(1/315)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *(1/315)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي هذا طريق مستقيم، على أن أراعيه: وهو ألا يكون لك قوة ولا تسلط على عبادي المخلصين {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الكافرين {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(1/315)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن جهنم لموعد لمن اتبعك(1/315)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ} من الأبواب السبعة {مِنْهُمُ} أي من الكافرين الغاوين {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} نصيب مقسم على هذه الأبواب. قيل: إن هذه الأبواب لدركات جهنم، وهي مرتبة فوق بعضها؛ وفي أعلاها عصاة هذه الأمة، وفي أسفلها المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(1/315)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} ماء جار يرى بالعين؛ ويقال لهم(1/315)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} من كل سوء وعناء(1/315)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أبد الآبدين، ودهر الداهرين(1/315)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} للتائبين المستغفرين {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين الطائعين(1/315)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
{وَأَنَّ عَذَابِي} للكافرين والعاصين {هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} المؤلم(1/315)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
{وَنَبِّئْهُمْ} أخبر قومك يا محمد {عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} من الملائكة(1/315)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ} بعد أن رد عليهم السلام {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون وذلك لأنه رآهم لا يأكلون من طعامه الذي قدمه إليهم(1/315)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف
[ص:316] {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} ذي علم كثير؛ وهو إسحاق عليه السلام(1/315)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي} بالغلام {عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي بعد أن كبرت، ولم أعد صالحاً لإنجاب الولد {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بعد ذلك(1/316)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بما سيقع حتماً، ويكون حقاً {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} الآيسين(1/316)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{قَالَ} معاذ الله أن أقنط من وعده ورحمته {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} ولست منهم(1/316)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} ما شأنكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} ولأي شيء جئتم(1/316)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} قوم لوط؛ لننزل عليهم العذاب بأمر رب العالمين(1/316)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ} أهله من المؤمنين، ومن آمن به من قومه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} من العذاب(1/316)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب(1/316)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
{فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} من الملائكة الذين بشروا إبراهيم بغلام عليم(1/316)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
{قَالَ} لوط أي لا أعرفكم؛ وقد أنكرهم لوط لأنه رآهم في زي نظيف لا يتفق وحال المسافر؛ وليسوا ممن يعرف من أهل قريته(1/316)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
{قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي بالعذاب الذي كان قومك يشكون في مجيئه(1/316)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{فَأَسْرِ} أي سر ليلاً {بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} بطائفة من الليل، أو ببقية منه، أو بجنح الليل {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}
أي امش خلف المؤمنين من أهلك وقومك {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} خلفه؛ لئلا يرى ما ينزل بقومك من العذاب؛ الذي يخلع القلب، ويطيح باللب(1/316)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} أوحينا إليه {ذَلِكَ الأَمْرَ} الذي ذكرناه؛ وهو {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أي مستأصلون عن آخرهم صباحاً؛ لأن الدابر: آخر كل شيء وأصله(1/316)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} بمجيء الملائكة عند لوط، طمعاً في ارتكاب الفاحشة معهم؛ ظناً منهم أنهم من عامة الناس أمثالهم؛ وقد دخلوا على لوط بأكمل شكل، وأجمل صورة(1/316)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
{قَالَ} لوط لقومه - لما رأى إقبالهم إليه - وعلم نواياهم السيئة {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي} ضيوفي
[ص:317] {فَلاَ تَفْضَحُونِ} معهم(1/316)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَلاَ تُخْزُونِ} الخزي: الذل والهوان(1/317)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي عن الاختلاط بالناس، وتسميم أفكارهم بما تزعمه من الرسالة، وما تدعو إليه من الإيمان بإلهك؟(1/317)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
{قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي} أي بنات أمته؛ لأن كل نبي يعتبر أباً لقومه؛ وإلا فليس بجائز أن تزوج بنات أصلح الصالحين، لأفسق الفاسقين {لَعَمْرُكَ} أي وحقك {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في ضلالهم يتخبطون. لقد تجلى الإله على مصطفاه، وأقسم الجليل بالخليل، وشرف الكريم عبده العظيم، وأفاض المنعم على نبيه الأكرم؛ فأظهر للملإ قدره، وأعلا في الآفاق شأنه؛ وحلف بحياته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما خلق الله، وما ذرأ، وما برأ، نفساً أكرم عليه تعالى من محمدصلى الله عليه وسلّم، وما سمعت أن الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره:(1/317)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}(1/317)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} الصيحة: العذاب. وقيل: صاح بهم جبريل عليه السلام حين بدأ بتعذيبهم. والصيحة: مقدمة لكل عذاب {مُشْرِقِينَ}
وقت شروق الشمس(1/317)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} قيل: حمل جبريل عليه السلام قريتهم إلى أن قاربوا الأفلاك، وسمعوا تسبيح الأملاك؛ وجعل عاليها سافلها؛ بأمر ربه المنتقم الجبار أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه، وعافانا من عذابه بكرمه {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} السجيل، والسجين: المكتوب في السجل، أي وأمطرنا عليهم حجارة مكتوب عليهم أن يعذبوا بها؛ قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي مكتوب. وقيل: سجيل وسجين: اسم وادٍ في جهنم؛ أي وأمطرنا عليهم حجارة من جهنم: إذا لم يصبهم جرمها؛ أحرقتهم حرارتها(1/317)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} العذاب الذي أنزلناه بقوم لوط، وبغيرهم من المكذبين {لآيَاتٍ} لعبر وعظات {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتأملين، والمتفكرين(1/317)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{وَإِنَّهَا} أي قرى قوم لوط، وما فيها من آثار تعذيبهم واستئصالهم {لَبِسَبِيلٍ} طريق {مُّقِيمٍ} باق لم يندرس؛ وهي مدينة سدوم، أو سذوم. وقيل: عاموراء؛ وهما قريتان من قرى قوم لوط(1/317)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإبقاء على هذه القرى إلى الآن، على حالها البادي للعيان {لآيَةً} عبرة وعظة {لِلْمُؤْمِنِينَ} الصادقين في الإيمان(1/317)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} الأيكة: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر. قيل: إنهم قوم شعيب عليه السلام {لَظَالِمِينَ} لكافرين(1/317)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أهلكناهم؛ لما كذبوا شعيباً {وَإِنَّهُمَا} أي قرى قوم لوط، والأيكة {لَبِإِمَامٍ} طريق واضح؛ لمن يريد أن يراهما ويتعظ بما حل بأهلهما(1/317)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ} ثمود: قوم صالح عليه السلام؛ و «الحجر» واد بين المدينة والشام؛ عند وادي القرى،
[ص:318] أو بين مكة وتبوك {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} الصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب. وقيل: صرخ فيهم الملك المأمور بإهلاكهم صباحاً(1/317)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ} فما دفع عنهم العذاب {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ما كانوا يعملونه: من جمع للأموال، وبناء للقصور والحصون(1/318)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{فَاصْفَحِ} يا محمد عن قومك {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي الصفح الذي لا يبقي أثراً في القلوب لقد أقام الله تعالى عليهم الحجة التي لا تدحض، والبرهان الذي لا يدفع: فأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بملاينتهم وملاطفتهم، والصفح عنهم صفحاً جميلاً؛ يلين من شكيمتهم، ويسلس من قيادهم. وبعد ذلك أمره بهجرهم هجراً رفيقاً رقيقاً «واهجرهم هجراً جميلاً» فأفاد ذلك بعض من هدى الله تعالى، وكتب له السعادة والسيادة، ولم يفد مع الآخرين؛ فكانوا كالعضو الفاسد المريض؛ الذي لا يسلم الجسم إلا ببتره، ولا يبرأ إلا بقطعه فأنزل تعالى على رسوله «فخذوهم واقتلوهم حين ثقفتموهم»(1/318)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي} وهي - على القول الراجح - الفاتحة؛ لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة. وقيل: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معاً؛ وذلك لأنه قد ثنى فيها الأمثال، والخبر، والعبر، والفرائض، والحدود، والقضاء، والقصص(1/318)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أي لا تطمح بعينيك إلى ما آتينا أصنافاً من الكفار؛ من متاع الدنيا ونعيمها الزائل، وتراثها الفاني {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن لعدم إيمانهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} تواضع، وألن جانبك {لِلْمُؤْمِنِينَ} أمر الله تعالى رسوله الكريم - وهو سيد الخلق وخيرهم - بأن يتواضع ويلين جانبه للمؤمنين؛ وأي مؤمن - وإن سما وعلا - فهو دون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه رتبة؛ فكيف بنا معشر المؤمنين ونحن نتعالى على من هم أعلا منا ديناً، وأرقى منا مرتبة، وأسمى منا تقى وورعاً وقد فسدت المقاييس، وانخرمت المعايير وأصحبت الأقدار، تقاس بالدرهم والدينار فأي درك هذا الذي هوينا إليه؟ وأي إثم هذا الذي وقعنا فيه؟ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل تعالى: إن أكرمكم عندي أغناكم، أو أجملكم، أو أقواكم فاعلم - هداك الله - أن أقدار الناس لا تقاس إلا بمقياس الدين والورع، لا الحرص والطمع (انظر آية 22 من سورة الروم)(1/318)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} أي كما أنزلنا من البلاء والعذاب على المقتسمين. قيل: هم جماعة من المشركين. وقيل: هم أهل الكتاب؛ لأنهم قسموا القرآن، وقالوا بصحة ما يوافق كتبهم، وكذبوا باقيه(1/318)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ}
[ص:319] أي أعضاء وأجزاء، وأقوال متفرقة: شعر، سحر، كهانة، اختلاق(1/318)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي فامض في تنفيذ ما أمرتك به؛ واجهر بما أنزلته عليك من القرآن، وأعلن كلمة التوحيد، وشق باطلهم بحقك(1/319)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي منعنا عنك شرهم وأذاهم؛ بأن أهلكناهم، وقطعنا دابرهم(1/319)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} فيك، وفي الله(1/319)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قدسه واحمده على ما أفاء عليك من نعم(1/319)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ} داوم على عبادته {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الموت: المتيقن وقوعه.(1/319)
سورة النحل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/319)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} بمعنى سيأتي؛ وعبر تعالى بالماضي: لتيقن وقوعه؛ وهو البعث والنشور والحساب {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وتقولوا: متى؟ وأين؟ وأيان؟ {سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)(1/319)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ} بالوحي {مِنْ أَمْرِهِ} بإرادته {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين اصطفاهم لنبوته، واختارهم لرسالته(1/319)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} مني (انظر آية 21 من الذاريات) {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} خصم شديد الخصومة لمن خلقه ورزقه(1/319)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{وَالأَنْعَامَ} الإبل والبقر والغنم {خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} من أصوافها وأوبارها وأشعارها؛ تصنعون كساء، ورداء، وغطاء لكم فيها {مَنَافِعُ} تنتفعون بركوبها، وتشربون من ألبانها(1/319)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} زينة {حِينَ تُرِيحُونَ} من الإراحة؛ أي حين تردونها في العشي من مسارحها ومراعيها؛ إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} بها، وتخرجونها من مراحها إلى مرعاها في الصباح(1/319)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ} بعيد {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} بجهدها ومشقتها(1/319)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من وسائل النقل والركوب: كالقاطرات، والسيارات، والطائرات، وغيرها(1/320)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي وعليه تعالى هداية الطريق المستقيم {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي ومن هذه السبل ما هو مائل عن الاستقامة {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قسراً وجبراً؛ ولكنه تعالى أراد أن تهتدوا بالحجة والبرهان(1/320)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{فِيهِ تُسِيمُونَ} أي من الشجر تأكلون؛ وهو من سامت الماشية: إذا رعت(1/320)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ} أي بالماء النازل من السماء {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنزال، والإنبات {لآيَةً} دالة على قدرة الخالق ووحدانيته وعظمته {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي لهم عقول يفكرون بها في الأسباب ومسبباتها، والخالق تعالى ومخلوقاته(1/320)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} ما خلق لكم {فِي الأَرْضِ} من الحيوان، والنبات، وغيره {مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} كالأحمر، والأصفر، والأخضر، والأسود، والأبيض. ويجوز أن يكون معنى «مختلفاً ألوانه» أي متعدداً أصنافه وأشكاله(1/320)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ} أي من البحر {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} كاللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ} أي جواري في البحر؛ تمخر الماء: أي تشقه {وَلِتَبْتَغُواْ} لتطلبوا بواسطة هذه الفلك {مِن فَضْلِهِ} من رزقه تعالى؛ بالانتقال للاتجار من بلد إلى بلد(1/320)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد الأرض بكم وتضطرب {وَسُبُلاً} طرقاً تسيرون فيها.(1/320)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{وَعَلامَاتٍ} تستدلون بها - في سيركم - على الطرقات؛ كالجبال، والوديان، والأنهار {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} إلى الطرق، وإلى الجهات، وإلى القبلة(1/321)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{أَفَمَن يَخْلُقُ} جميع ذلك، ويديره، ويدبره، ويحفظه، ويكلؤه؛ وهو الله الكبير المتعال {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً؛ بل يفتقر إلى خالق يخلقه، وموجد يوجده؛ وهو الصنم الذي تعبدونه {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون ذلك؛ فتؤمنوا ب الله الخالق البارىء المصور(1/321)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ} عليكم {لاَ تُحْصُوهَآ} وكيف تحصى أنعمه تعالى؛ وهي لا يحدها حد، ولا يحصيها عد؛ ويكفينا من أنعمه تعالى: واسع رحمته؛ ومزيد مغفرته {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} لكم {رَّحِيمٌ} بكم قال الحسن رضي الله تعالى عنه: إن لله في كل عضو نعمة؛ فيستعين بها الإنسان على المعصية. اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك؛ وهب لنا لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وجوارح لا تعمل إلا في طاعتك؛ وجنبنا معصيتك، وأدخلنا جنتك؛ بمنك ورحمتك (انظر آية 34 من سورة إبراهيم)(1/321)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أرأيت إلى الصنم: هل يستطيع أن يوجد بنفسه؛ من غير موجد له؟(1/321)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا يعلمون في أي وقت يبعث عبدتهم(1/321)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
{فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} جاحدة: لا تقبل الوعظ، ولا ينفع معها النصح؛ لأنهم أصروا على عدم الاستماع، ولأن الذي لا يؤمن بالآخرة: لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الاستماع والانتفاع(1/321)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{لاَ جَرَمَ} أي لا بد ولا محالة أن يؤول حالهم إلى ما آل إليه، وأن تنكر قلوبهم الوعظ، وتأبى الرشاد، وأن يستكبروا عن الإيمان؛ ووٌوٍوَوُوِ} في قلوبهم
{وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم وجوارحهم(1/321)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} على محمد {قَالُواْ أَسَاطِيرُ} أباطيل وأكاذيب {الأَوَّلِينَ} الأمم الماضية(1/321)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} أي وليحملوا أوزاراً أخرى مع أوزارهم؛ وهي أوزار الناس الذين تسببوا في إضلالهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ممن ضلوا بسببهم بأنهم ضلال {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس ما يحملونه من ذنوبهم وآثامهم، وذنوب وآثام غيرهم(1/321)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كفروا مثل كفرهم، وأضلوا مثل إضلالهم {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} قوضه وخربه {مِّنَ الْقَوَاعِدِ} من الأساس؛ حتى لا تقوم له قائمة بعد {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} أي وهم تحته فهلكوا. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الكلام على حقيقته؛ وأن المراد به نمرود بن كنعان - الذي حاج إبراهيم في ربه - أو جباراً آخر من جبابرة
[ص:322] النبط أو بختنصر، أو هامان. والذي أراه أن الله تعالى شبه هلاك الأمم المتقدمة واستئصالهم: بمن أقاموا في بيت انهارت أسسه؛ فخر عليهم سقفه {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} ولا يتوقعون
ويصح أن يكون الكلام على حقيقته؛ إذا أطلق على الأمم المتقدمة: كقرى قوم لوط، قال تعالى في وصف تعذيبهم {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك بأن أتى قواعدها؛ بأن زلزل أرضها زلزالاً عنيفاً، ورفعها بما فيها ومن فيها؛ وجعل عاليها سافلها: فصارت سماؤها أرضاً، وأرضها سقفاً {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ}(1/321)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يذلهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة، و {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي تعادون وتخاصمون المؤمنين {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} هم الملائكة، أو الأنبياء، أو المؤمنون {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ *(1/322)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الموكلون بقبض الأرواح؛ حال كونهم {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفر والعصيان، وتعريضها للعقاب {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} استسلموا على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة؛ وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} أنكروا السوء يوم القيامة؛ وقد انغمسوا فيه طوال حياتهم؛ فتقول لهم الملائكة {بَلَى} قد كنتم تعملون السوء وتنشرونه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فمجازيكم عليه(1/322)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
{فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} بئس المقام مقامهم(1/322)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ} أنزل {خَيْراً} وصدقاً وسموا ما أنزله الله تعالى {خَيْراً} لأنه قد تسبب لهم في خيري الدنيا والآخرة فبعث فيهم الطمأنينة في الدنيا، وهدوء النفس، وسعادة الروح وذلك بما أمدهم به من إخوة إنسانية، ومن مكارم أخلاق ومن تضحية بمصالح الفرد في سبيل المجتمع، ومن حب للخير، وحث على الإحسان والبذل كما أن القرآن الكريم قد تسبب أيضاً في دخول الجنان، ورضا الرحمن وهما الأجر الذي أعده الله تعالى لمن اتبع قرآنه، وأطاع نبيه
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} مما يناله الإنسان في الدنيا {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب(1/322)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه(1/322)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} بقبض أرواحهم {طَيِّبِينَ} مؤمنين، طاهرين من الكفر {يَقُولُونَ} أي يقول الملائكة لهم عند الموت {سَلامٌ عَلَيْكُمُ} وقد ورد أنهم يقولون للمؤمن قبل قبض روحه: ربك يقرئك السلام؛ فتنفرج
[ص:323] أساريره، ويضيء وجهه بالابتسام؛ ويقال لهم في الآخرة {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} أي تقول لهم الملائكة ذلك عند الموت؛ لأن المؤمن وقتذاك يرى مقعده من الجنة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *(1/322)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظر الكفار {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} لقبض أرواحهم بالعنف والشدة {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} بالعذاب {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتعذيبهم {وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بكفرهم وتعريضها للعقاب(1/323)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{فَأَصَابَهُمْ} أي فالذي أصابهم هو {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي جزاؤها {وَحَاقَ بِهِم} نزل وأحاط(1/323)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} عبث يقولونه، وباطل يزعمونه: فقد أرسل الله تعالى رسله، وأمرهم بتبليغ دينه الذي ارتضاه لعباده، وخلق لهم العقل الذي به يفهمون ما ينفعهم فيتبعونه، ويدركون ما يضرهم فيجتنبونه {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وبعد ذلك قال تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} فهل بعد ذلك عذر لمعتذر؟ وهل بعد هذا قول لقائل {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} {وَلاَ حَرَّمْنَا} البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي. وقولهم هذا يحمل بين طياته الاستهزاء، والتحدي، والسخرية؛ وإلا فهو إيمان مشوب بعصيان؛ لأنه اعتراف ب الله تعالى وقد عبدوا غيره، وإقرار بمشيئته وقد أنكروا وجوده {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} مثل فعلهم، واحتجوا بمثل احتجاجهم، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن جميع ذلك قد كان بمحض اختيارهم؛ بعد أن أنذرتهم رسلهم مغبة أعمالهم، وحذرتهم غضب ربهم وعقابه(1/323)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} لإقامة الحجة عليهم {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} الشيطان؛ أو هو كل رأس في الكفر والضلال، أو هو كل ما يؤدي إلى الطغيان إلى الإيمان {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ} وجبت بإصراره على الكفر، واستكباره عن الإيمان(1/323)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي نهاية طاقتهم في الأيمان {لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} أي لا يحييه ثانية للحساب والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب).(1/323)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو تقريب للأذهان؛ والحقيقة أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان؛ بغير حاجة للفظ «كن»(1/324)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لنسكننهم {فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} أي لنبوئنهم تبوئة حسنة؛ وهي سكنى المدينة المنورة؛ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وأي تبوئة حسنة أفضل من أن ينزل الإنسان بين من يحب، وأن يعيش بين الأطهار الأخيار(1/324)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن} العلماء بالتوراة والإنجيل؛ عمن أرسلنا من قبل محمد {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} بمن أرسلنا من قبل: من رسل؛ ليسوا بالملائكة، بل رجالاً من البشر نوحي إليهم؛ كما أوحينا إلى رسولكم محمد(1/324)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحات {وَالزُّبُرِ} الكتب {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الذِّكْرِ} القرآن؛ كما أنزلنا على من قبلك من الرسل {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فيه: من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وغير ذلك(1/324)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ} أي مكروا بالسيئات. والمكر: الاحتيال والخديعة؛ وقد يقصد بهم الذين يعلنون بالإيمان؛ وليسوا بمؤمنين، ويتباهون بالطاعة؛ وليسوا بطائعين، ويتظاهرون بالعبادة؛ وليسوا بعابدين أفأمن هؤلاء {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} كما خسفها بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من حيث لا يتوقعون؛ كما فعل بأصحاب الظلة. وقد أمطرتهم السحابة ناراً؛ عند توقعهم الماء والرخاء(1/324)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} في ذهابهم ومجيئهم، وسفرهم للتجارة {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} الله، أو فائتين العذاب الذي يريد إنزاله بهم(1/324)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي حال كونهم خائفين مترقبين متوقعين العذاب
[ص:325] {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ} بالناس {رَّحِيمٌ} بهم؛ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة؛ بل ويعفو عن كثير من ذنوبهم، ويملي لهم علهم يرجعوا عن غيهم وبغيهم(1/324)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} قائم: كجبل وشجرة، ونحوهما؛ مما له ظل متحرك {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} يرجع من موضع إلى موضع؛ تبعاً لسير الشمس؛ فهو في أول النهار - عند طلوع الشمس - على حال، وفي وسطه - عند الزوال - على حال، وفي آخر النهار - عند الغروب - على حال أخرى مغايرة
{عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} أي عن جانبيهما؛ بالغدو والآصال {سُجَّداً لِلَّهِ} تسجد له صباحاً ومساءًا: عند شروق الشمس وعند غروبها. وقيل: ظل كل شيء: سجوده؛ يسجد ظل المؤمن طوعاً، ويسجد ظل الكافر كرهاً {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون، مطيعون(1/325)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب دبيباً {وَالْمَلائِكَةُ} وهم أهل الملإ الأعلى، وأعيان المخلوقات؛ يسجدون أيضاً {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة ربهم؛ كما يستكبر بعض حثالة البشر عن عبادته تعالى(1/325)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} أي واجباً ثابتاً دائماً(1/325)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ} أيّ نعمة: صغرت أو كبرت، قلّت أو جلّت {فَمِنَ اللَّهِ} هو وحده مصدرها وهو وحده - جل شأنه - مبدعها ومنشئها، والمتفضل بها أليس هو المتفضل بحسن الخلق وسعة الرزق؟ وصحة الجسم، وبرء السقم؟(1/325)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} المرض، أو الفقر {فَإِلَيْهِ} وحده لا إلى غيره {تَجْأَرُونَ} تتضرعون. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة(1/325)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} من الأصنام؛ أي لا يعلمون أنها آلهة {نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأنعام والحرث {فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَتُسْأَلُنَّ} يوم القيامة {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} على الله؛ بنسبة الشريك إليه(1/325)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أي {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}
ويتمنون لأنفسهم الذكران الذين يشتهونهم؛ ذلك لأنهم(1/326)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} ولدت له {ظَلَّ} صار وبقي {وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} من الحزن والغم الذي اعتراه {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء حنقاً وغيظاً(1/326)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} خجلاً {مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} مما لا يريده ولا يرغب فيه. ومن عجب أن هذا شأن بعض الجهال والسفهاء في هذه الأيام؛ وقد تكون الأنثى خيراً من الذكر عاقبة؛ وأتقى وأنجب؛ وما يرسل ربك الإناث إلا بقدر، ولا يرسل الذكران إلا بسبب {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الذي {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي أيمسك ذلك المولود الأنثى على ذل وهوان {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} وهوالوأد. وقد كانوا يدفنونهن أحياء؛ خشية ما يتوهمونه من عار وفقر غير محققين (انظر آية 8 من سورة التكوير) {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء هذا الحكم الذي يحكمونه، على شيء لا يعلمونه وهم بفعلهم هذا لا يؤمنون بالآخرة؛ ولو آمنوا بها ما فعلوا فعلتهم هذه(1/326)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أي صفة السوء: وهو الجهل، والكفر (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب) {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} الصفة العليا، والمثل الكاملة؛ التي لا يتصف بها المخلوقون: فاتصافه تعالى بالعلم والكرم؛ ليس كاتصاف سائر البشر بهما؛ إذ أن علم البشر وكرمهم محدودان. وعلمه تعالى وكرمه لا يحد. واتصافه جل شأنه بالكبرياء والجبروت؛ ليس ككبرياء البشر وجبروتهم؛ إذ أن تكبرهم وتجبرهم مذموم مؤاخذ عليه، وكبرياؤه تعالى وجبروته لازمة من لوازم ربوبيته ووحدانيته، فإذا ما استطاع إنسان أن يفهم الكمال الإلهي حق الفهم: ازداد ب الله معرفة، ومنه قرباً والتعرف إليه تعالى يحتاج إلى استعداد مخصوص فكلما ازداد تمسك العارف ب الله بأهداب الفضائل الإنسانية؛ التي أمر بها الشرع، وحث عليها الدين نما حبه لله، وأحبه الله
وإنه مما لا شك فيه أن الإنسان الكريم: أحسن فهماً، وأصدق عبادة، وأرق قلباً من البخيل. وكذلك الإنسان الرحيم: أشد خوفاً لله من القاسي. والصبور: أكثر إيماناً من الأحمق النافد الصبر. والعالم: أشد معرفة من الجاهل.
وهكذا كلما ازداد الإنسان تعلقاً بالفضائل والمثل العليا: كان أكثر محبة لله، وأكبر معرفة به،
[ص:327] وأشد قرباً منه وأمكنه بواسطة هذه الطاقات والإمكانيات أن يتذوق الحب الإلهي ويستشعر ما أعده الله تعالى له من نعيم مقيم؛ فيظل طوال حياته سعيداً بإيمانه، سعيداً بقربه، سعيداً بحبه لأنه علم علم اليقين: أن {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وأنه جل شأنه: الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر المقتدر، الجبار المتكبر، الخالق الرازق، المعطي المانع، الخافض الرافع؛ الذي لا إله إلا هو {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في ملكه، الغالب الذي لا يغلب {الْحَكِيمُ} في خلقه؛ المدبر لأمورهم(1/326)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم، وفسقهم، وعدوانهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على الأرض: من إنسان، وحيوان، وغيرهما {وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو انتهاء آجالهم {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} المراد بالساعة هنا: أي زمن؛ طال أو قصر {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} ساعة(1/327)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} بزعمهم أن الملائكة بنات الله {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} تقوله وتشيعه؛ يزعمون {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} الجنة. ومن ذلك قولهم: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} {لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة {أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} لا الجنة كما يزعمون {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} مهملون يوم القيامة؛ لا يعبأ بهم، متروكون من رحمة الله تعالى ومغفرته قال تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب(1/327)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَآ} رسلنا {إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}
كفرهم؛ فلم يؤمنوا برسلهم، كما لم يؤمن قومك بك {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي متولي أمورهم في الدنيا: يسوق لهم فيها ما يشتهونه. أو المراد باليوم: يوم القيامة؛ أي هو متولي أمورهم فيه؛ ولما كان الشيطان عاجزاً عن إنجاء نفسه فيه؛ فهو عن إنجاء غيره أعجز(1/327)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ} بالإنبات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} بالجدب(1/327)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} لعظة واعتبار {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ} وهو ما يحتويه الكرش {وَدَمٍ} وهو ما يجري في العروق {لَّبَناً خَالِصاً} من الشوائب؛ لم يختلط بالفرث، ولم يؤثر فيه الدم {سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في حلوقهم؛ لا يغص به شاربه أبداً(1/327)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} (انظر آية 166 من سورة البقرة) {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} خمراً؛ نزلت قبل تحريمها. وقيل: السكر: الخل. {وَرِزْقاً حَسَناً} كالبلح المجفف، والزبيب، وما شاكلهما.
والمعنى: لقد أنعم الله تعالى عليكم بثمرات النخيل والأعناب؛ فاتخذتم منه ما حرم الله عليكم - اعتداء منكم - وطعمتم منه حلالاً طيباً؛ فكيف تقلبون أنعم الله تعالى عليكم نقماً، وتستبدلون شكره كفراً؟(1/327)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وحي إلهام؛ أي ألهمه {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}
[ص:328] أي ومما تبنيه الناس من الخلايا؛ لأن العرش: يطلق على عش الطائر(1/327)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{فَاسْلُكِي سُبُلَ} طرق {رَبُّكَ} التي رسمها لك، وألهمك باتباعها {ذُلُلاً} سهلة مذللة {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} هو العسل {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} اختلافاً كثيراً؛ يرجع إلى عوامل عدة؛ منها: نوع النحل، وما يطعمه من رحيق الأزهار والفاكهة، وزمن الانتاج، وغير ذلك {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} فقد ثبت بالتجربة أنه دواء نافع، وعلاج ناجع لكثير من الأدواء الفتاكة؛ ويفسده شرب الماء عقبه. وقد أثبت الطب الحديث: أن العسل يحوي مقداراً كبيراً من الجلوكوز. والجلوكوز هذا قد أصبح سلاحاً للطبيب في كثير من الحالات؛ والعسل: شفاء فعال للضعف العام، والتسمم، وأمراض الكبد، والاضطرابات المعوية، والالتهاب الرئوي، والذبحة الصدرية، وسائر أنواع الحميات، واحتقان المخ، وضعف القلب، والحصبة؛ وغير ذلك من الأمراض المستعصية؛ فسبحان من أودع فيه كل هذه الخواص، ونبهنا للانتفاع بها (انظر آية 38 من سورة الأنعام)(1/328)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردئه؛ وهو الكبر، والمؤدي إلى الهرم والخرف {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لينسى ما علمه، أو لعدم استطاعته الفهم: لذهوله. قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر بهذه الحالة(1/328)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} فجعل منكم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ} وهم السادة {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي ليسوا برازقي عبيدهم ومواليهم {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ}
أي فالسادة ومواليهم في الرزق سواء؛ لأن الله تعالى هو الرزاق للجميع: يرزق السيد برزق عبيده وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطعم خادمه مما يطعم، ويلبسه مما يلبس، ويقول: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} وفضله عليهم {يَجْحَدُونَ} ينكرونها، فيتوهمون أنهم رازقوا عبيدهم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} الحفدة: أبناء الأبناء. وقيل: هم الأصهار، وقيل: هم بنو الزوجة: من رجل آخر(1/328)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي بالأصنام، وبأنها تشفع لهم {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} الإسلام {هُمْ يَكْفُرُونَ} أو بأنعمه المتوالية عليهم في كل وقت وحين(1/328)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} له وللأصنام، أو للمؤمن والكافر {عَبْداً مَّمْلُوكاً} حقيراً {لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لا يملك شيئاً، ولا يستطيع التصرف في شيء {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} حلالاً طيباً {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} أو هو مثل للبخيل - عبد المال وأسيره ومملوكه - والكريم المنفق(1/328)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} آخر؛ للمؤمن والكافر، أوله تعالى وللأصنام {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} أخرس: لا ينطق
[ص:329] {لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فلا ينطق بكلمة التوحيد، أو لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر {وَهُوَ كَلٌّ} عالة {عَلَى مَوْلاهُ} على سيده {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} سيده لقضاء مصلحة، أو لدفع ضرر عن نفسه {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} يعود عليه {هَلْ يَسْتَوِي} هذا الأبكم العاجز العالة {هُوَ وَمَن} يرى ويسمع وينطق، و {يَأْمُرُ}
الناس وينهاهم عن المنكر {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق سوي(1/328)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} كطرفة العين {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} من ذلك؛ لأن أمر الساعة يكون بلفظ «كن»(1/329)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فعلمكم كل ما تحتاجون إليه {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ} الذي تسمعون به؛ ولا تعلمون كنهه {وَالأَبْصَارَ} التي تبصرون بها؛ ولا تدرون ماهيتها {وَالأَفْئِدَةَ} القلوب التي تفقهون بها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله تعالى على أنعمه التي لا تعد، ولا تحد،(1/329)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الهواء أن يقعن على الأرض {إِلاَّ اللَّهُ} فهو تعالى مسخر الهواء الذي يسبح فيه الطير، وهو الذي ألهمه وعلمه كيف يقبض أجنحته ويبسطها(1/329)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} موضع سكون وراحة {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} هي الخيام والقباب والمظلات {تَسْتَخِفُّونَهَا} تحملونها بسهولة لخفتها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} سفركم {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً} هو متاع البيت {وَمَتَاعاً} كل ما يتمتع به؛ كالبسط، والأكسية، وشبههما {إِلَى حِينٍ} تبلى، أو إلى حين تموتون {مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} من البيوت والشجر {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} الكن: ما يستر؛ من كهف وغار ونحوهما(1/329)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} ثياباً؛ واحدها سربال: كسراويل وسروال {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} نبه تعالى إلى أن اللباس؛ كما أنه يمنع أذى البرد فإنه يمنع أذى الحر أيضاً {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} وهي الدروع والزرد من الحديد؛ ترد عنكم سلاح عدوكم(1/329)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان
[ص:330] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} إبلاغ ما أنزلته عليك إليهم {الْمُبِينُ} الواضح؛ المذهب لكل شك، الدافع لكل ريب(1/329)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وارد في كتبهم، بشرت به أنبياؤهم {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بتكذيبه، وعدم الإيمان به. أو {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} التي عددها وبيّنها في هذه السورة وغيرها من السور {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بترك الشكر عليها، أو يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء، أو يعرفونها بقلوبهم، ويجحدونها بألسنتهم؛ ونظيره قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ}(1/330)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يوم القيامة: وهو نبيها؛ يشهد لها أو عليها
{ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الكلام أو الاعتذار {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا يعاتبون؛ لأن العتاب لا يكون إلا بين الأحباء؛ وهو نعمة حرم الله تعالى على الكافرين نيلها(1/330)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} لا يمهلون(1/330)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} الذين كانوا يعبدونهم: من الشياطين والأصنام وغيرها {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أي قال المعبودون للعابدين {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ينطقهم الله تعالى: {الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} زيادة في خزي المشركين وفضيحتهم وهوانهم(1/330)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي استسلموا لحكمه: العابد والمعبود {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب عنهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأرباب التي كانوا لها عابدين(1/330)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} منعوا الناس عن دينه(1/330)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ} هو نبيهم {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {شَهِيداً عَلَى هَؤُلآءِ} على قومك، أو على جميع المخلوقات {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} بياناً لكل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم. ونظيره قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(1/330)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} والعدل: يتناول القول، والفعل، والإشارة؛ بل يتناول كل المعاملات في شتى صورها. والعدل: جماع الفضائل كلها؛ فمن جعل العدل ديدنه: أحاطه الحب من كل جانب، وصار في عداد الأبرار، الأخيار، الأطهار قال تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ولما كان العدل قرين الإحسان، والإحسان: هو صلب العدل وأساسه؛ أمر الله تعالى به أيضاً فقال {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} والإحسان: يشمل كل خير يصل إلى الإنسان والحيوان، وهو أيضاً يشمل الأقوال والأفعال.
ولما كان العدل والإحسان لا يتمان إلا بصلة ذي القربى قال تعالى: {وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى} وهو صلة الرحم، أو هو كل قريب منك: في النسب، أو الجوار؛ ووصلهم: بأن يبر فقيرهم، ويزور غنيهم، ويعود مريضهم، ويشيع موتاهم، متحبباً إليهم لذاتهم وقربهم؛ لا لمالهم وجاههم
لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وبر الأقرباء؛ نهى عن أضداد هذه الصفات؛ فقال جل شأنه {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} والفحشاء: كل قبيح من قول أو فعل، أو هو الزنا «والمنكر» كل ما ينكره الشرع والعرف والذوق السليم؛ وهو شامل لجميع المعاصي، والرذائل، والدناءات؛ «والبغي» الظلم والكبر، والاعتداء؛ وهو إجمالاً تجاوز الحد(1/331)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} الناس؛ سمى الله تعالى العهود، والعقود، والمواثيق: عهوداً معه جل شأنه. (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و72 من سورة الأنفال) {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ} أي لا تحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} بعد إبرامها مع الغير، وبعد أن ترتبت لذلك الغير حقوق والتزامات في أعناقكم {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شاهداً ورقيباً، أو متكفلاً بالوفاء؛ حيث حلفتم به(1/331)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} أي كالمرأة التي أفسدت غزلها من بعد أن تعبت فيه وأحكمته {أَنكَاثاً} أنقاضاً. وهو ما ينكث فتله: أي يحل نسجه {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي خديعة وفساداً، وتغريراً بالمحلوف له؛ ليطمئن إليكم؛ وأنتم مضمرون له الغدر وترك الوفاء. والدخل: ما يدخل في الشيء فيفسده؛ لأنه ليس منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى} أنمى وأكثر وأقوى {مِنْ أُمَّةٍ} فتنقضون العهود، وتحنثون في الأيمان: مرضاة للأمة الأقوى {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} يختبركم بالوفاء بالعهد والأيمان(1/331)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}
بطريق القسر والجبر {وَلكِن يُضِلُّ} الله تعالى {مَن يَشَآءُ} إضلاله؛ بعد أن يعرض
[ص:332] عليه الإيمان فيأباه، ويسلكه في قلبه فيرفضه، ويسوق له الدليل تلو الدليل على ألوهيته ووحدانيته؛ فيزداد تمسكاً بما كان عليه آباؤه وأجداده(1/331)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} كرره تعالى للتأكيد. أي لا تجعلوها للغش والخداع {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} أي تزل أقدام الحالفين عن محجة الصواب. وعن طريق الإسلام، الذي رسمه الله تعالى للأنام {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استقامتها وهدايتها {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} هو في الدنيا ما يلقاه الكاذب من ازدراء الناس له، وكراهتهم لقياه ومعاملته، وانصرافهم عن صحبته {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي بصدكم عن الوفاء بالعهد والعقد، أو بصدكم الناس عن الوفاء لاقتدائهم بكم، واتباعهم سنتكم {وَلَكُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ} شديد أليم(1/332)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
{وَلاَ تَشْتَرُواْ} لا تستبدلوا {بِعَهْدِ اللَّهِ} أوامره ونواهيه، أو ما عاقدتم الناس عليه {ثَمَناً قَلِيلاً} بأن تنقضوه من أجل قليل المال؛ الذي تأكلونه سحتاً وحراماً وهو قليل - وإن كثر - لانعدام بركته، وكثرة إثمه {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب والأجر {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الدنيا وما فيها(1/332)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{مَا عِندَكُمْ} من مال - حلال أو حرام - كثير أو قليل {يَنفَدُ} يفنى؛ لأن مآله إلى الزوال؛ ولو من أيديكم لأيدي غيركم {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} دائم، لا يزول ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى الوفاء بالعهود والعقود، وصبروا على ما أصابهم من المحن. لنجزينهم {أَجْرَهُمْ} ثوابهم على ذلك في الدنيا بالحب والود والذكر الحسن، وفي الآخرة بالنعيم المقيم {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
أي إن جزاءهم سيكون خيراً من عملهم وأحسن منه؛ ولا بدع فهو جزاء الملك الكريم الرحيم(1/332)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} في الدنيا. والمراد بطيب الحياة: هدوء البال، وانشراح الصدر (انظر آية 124 من سورة طه) {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاء خيراً مما عملوا(1/332)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي أردت قراءته {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وهو دليل على وجوب الاستعاذة قبل القراءة؛ وذهب الأكثرون إلى أنها غير واجبة، بل مندوبة. ودليل الوجوب أقوى: فقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: أن جبريل عليه الصلاة والسلام أقرأها له «أعوذ ب الله من الشيطان الرجيم» وقد ثبت أنه كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة؛ وعلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين(1/332)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} قدرة وتسلط {عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في سائر أمورهم(1/332)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} تسلطه وإغواؤه {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يطيعونه فيما يوسوس إليهم به؛ مما يخالف ما جاء به الرسل. يقال: توليته؛ إذا أطعته، وتوليت عنه؛
[ص:333] إذا أعرضت {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بربهم(1/332)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} أي شريعة مكان أخرى؛ أو حكماً مكان آخر، أو نسخنا آية، وأنزلنا غيرها مكانها؛ لمصلحة العباد {بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ} مختلق؛ بدليل إتيانك بشريعة أو حكم؛ غير ما عرفنا من الشرائع والأحكام، أو آية غير ما جئت به من الآيات(1/333)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{قُلْ نَزَّلَهُ} أي نزل هذا القرآن الذي تنكرونه، وتنسبون إليّ افتراءه {رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بما فيه من الحجج الظاهرات، والآيات البينات(1/333)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ} أي إنما يعلم محمداً القرآن {بُشِّرَ} زعموا - لعنهم الله تعالى - أن غلام الفاكهبن المغيرة - وكان نصرانياً وأسلم - كان يعلم محمداً ما يقوله للناس زاعماً أنه قرآن منزل من عند الله فرد الله تعالى عليهم بقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي يميلون بالقول إليه ويقصدونه بزعمهم {أَعْجَمِيٌّ} لا يكاد يبين {وَهَذَا} القرآن {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} واضح فصيح؛ فكيف يعلمه أعجمي؟(1/333)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} حججه وبراهينه، أو المراد: قرآنه {لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} سبيل الرشاد في الدنيا؛ بل يضلهم ولا يوفقهم لإصابة الحق عقوبة لهم (انظر آية 200 من سورة الشعراء)(1/333)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} أي ليس محمد بمفتر ولا كاذب؛ وإنما المفترون هم {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ويقولون «إنما يعلمه بشر» {وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} بقالتهم هذه، وافترائهم هذا(1/333)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} على الكفر: بالسيف والبغي؛ فله أن يتظاهر به اتقاء الموت والعذاب {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} لا يعتريه أدنى شك أو ارتياب {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} وطابت به نفسه، واتسع له صدره {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} بالغ الإيلام(1/333)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{ذلِكَ} العذاب {بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا} اختاروها وفضلوها {عَلَى الآخِرَةِ} وما فيها من نعيم مقيم(1/333)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} غطى وختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا يفهمون الحق {وَسَمْعِهِمْ} فلا يسمعون النصح {وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يبصرون الهدى(1/333)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} لأنهم لم يعملوا لها(1/333)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} مع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إلى المدينة {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أوذوا وعذبوا {ثُمَّ جَاهَدُواْ} المشركين {وَصَبَرُواْ} على الطاعة، وعن المعصية {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي بعد هذه الأعمال الصالحات، أو بعد الفتنة {لَغَفُورٌ} لهم {رَّحِيمٌ} بهم(1/333)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} يوم القيامة
[ص:334] {تُجَادِلُ} تحاج {عَن نَّفْسِهَا} لا يهمها غيرها؛ {يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي تعطى جزاء أعمالها(1/333)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} هي مكة المكرمة؛ والمراد أهلها {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} من أن يغير عليها أحد، أو يعلن العداء لأهلها {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} واسعاً. قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي لم تشكره على ما آتاها من خير، وما وهبها الله من رزق (انظر آية 7 من سورة إبراهيم) {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} أي أذاق أهلها {لِبَاسَ الْجُوعِ} دعا عليهم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فابتلاهم الله تعالى بالقحط سبع سنين؛ حتى أكلوا العظام والجيف أذاقها الله تعالى أيضاً لباس {الْخَوْفِ} فكانت سرايا رسولالله تطيف بهم ليلاً ونهاراً. ووصف الله تعالى الجوع والخوف باللباس: لأنهما خالطا أجسامهم مخالطة اللباس {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي بسبب ما صنعوا من المعاصي. وقيل: هذا المثل مضروب لكل قرية هذه صفتها، وتلك حالها وذهب بعضهم إلى أن المراد بالقرية: المدينة المنورة؛ وليس بشيء(1/334)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} هو خاتم الرسل عليه الصَّلاة والسَّلام} الله(1/334)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ} المسفوح(1/334)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
{وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما ذبح على النصب، وما ذكر اسم غير الله تعالى عليه {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى تناول شيء من هذه المحرمات؛ خشية هلاك محقق {غَيْرَ بَاغٍ} على المسلمين {وَلاَ عَادٍ} معتد عليهم. أو «غير باغ» في أكلها؛ بأن يأكلها مستطيباً لها، متلذذاً تناولها «ولا عاد» باستيفاء الأكل إلى حد الشبع؛ بل يتناول منها ما يسد رمقه، ويمنع تلفه(1/334)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أي لما تصف من الكذب {هَذَا حَلاَلٌ} وهو ليس بحلال {وَهَذَا حَرَامٌ} لما ليس بحرام(1/334)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في الدنيا لهؤلاء الكاذبين المفترين {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم.(1/334)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (انظر آية 146 من سورة الأنعام)(1/335)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} بجهل {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} السوء الذي عملوه بجهلهم {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم؛ فلم يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد توبتهم {لَغَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم(1/335)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} إماماً؛ والأمة: الرجل الجامع للخير والفضائل {قَانِتاً} مطيعاً عابداً {حَنِيفاً} مائلاً إلى الإسلام(1/335)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أي مقدراً لأنعم الله تعالى عليه. وأولى هذه الأنعم: الإسلام {اجْتَبَاهُ} اختاره مولاه واصطفاه {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم؛ وهو الإسلام(1/335)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} النبوة، والثناء الحسن، والذرية المباركة - وناهيك بمن كان رسولالله من نسله - وآتاه الله تعالى أيضاً تخليد اسمه والصلاة عليه في كل صلاة؛ مقروناً اسمه باسم سيد الخلق عليهما الصلاة والسلام(1/335)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وذلك لأنها أصل الملة الحنيفية(1/335)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} أي فرض تعظيم يوم السبت {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} روي أن موسى عليه السلام طلب من بني إسرائيل أن يفردوا يوماً للعبادة، وأن يكون ذلك اليوم يوم الجمعة؛ فأبى أكثرهم إلا يوم السبت، وارتضى الأقلون بيوم الجمعة(1/335)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} دينه {بِالْحِكْمَةِ} القرآن {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} القول الرفيق الرقيق، الذي ينفذ في القلوب، ويحبب إلى النفوس {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالرفق واللين؛ وإذا كان الكفار يجادلون بالرفق واللين؛ فما بالك بالمؤمنين الموحدين؟(1/335)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ليس معنى ذلك أن من قتل ابني جاز لي أن أقتل ابنه، ومن قتل أبي جاز لي أن أقتل أباه، ومن سمم إبلي جاز لي أن أسمم إبله؛ بل المراد: معاقبة الآثم نفسه بمثل إثمه؛ فإن قتل: قتل.
وإن ألحق بالغير غرماً: غرم بغرم مماثل لما ألحقه بالآخرين {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عن الانتقام والمعاقبة {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} في الدنيا بترك الحزازات، ومنع الثأر والبغضاء الكامنة في النفوس؛ وفي الآخرة بما أعده الله تعالى للصابرين من جزيل لأجر، وواسع المغفرة {وَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك(1/336)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
{وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} بمعونته وتوفيقه.(1/336)
سورة الإسراء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/336)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{سُبْحَانَ} تنزيه له تعالى من كل نقص؛ ولا يجوز أن ينزه به غيره من المخلوقين؛ وهي كلمة تدل على نهاية التنزيه، وغاية التقديس؛ وهي من السبح: بمعنى الذهاب والإبعاد. أي أنزه الله تعالى عن النقائص، وأبعده عن صفات المخلوقين، وأجله عما وصفه به الكافرون، وافتراه عليه المكذبون الضالون {الَّذِي أَسْرَى} الإسراء: السير ليلاً {بِعَبْدِهِ} قال تعالى «بعبده» ولم يقل بنبيه، أو برسوله؛ لأن صفة العبودية: هي غاية الغايات، وأشرف النعوت والصفات؛ يبتغيها العارفون، ويتمناها المخلصون {إِلَى} بيت المقدس؛ وقد كان التوجه إليه في الصلاة قبل تحويل القبلة {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يريد بركات الدين والدنيا؛ لأنه كان مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء عليهم السلام {أَنَّهُ} أي النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه {هُوَ السَّمِيعُ} لأوامري، المبلغ لها، العامل بها {البَصِيرُ} المتبصر في ملوكتي، المعتبر بآياتي، المتدبر في عظمتي وجبروتي أو الضمير عائد لله تعالى؛ فهو جل شأنه سميع لكل المسموعات، بصير بكل المبصرات ويأخذ بالرأي الأول المتصوفة؛ أما أرباب الكلام فلا يرون إلا القول الثاني(1/336)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} إليهم وحياً مقضيًّا أو حياً {فِي الْكِتَابِ} التوراة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي {مَّرَّتَيْنِ} أولاهما: قتل زكريا. وحبس أرمياء عليهما السلام، والأخرى: قتل يحيى، وقصد قتل عيسى عليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} تبغون بغياً عظيماً؛ وأي بغي أشد من قتل خيرة خلق الله تعالى، والداعين إلى دينه الحق؟(1/337)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أولى مرتي الفساد؛ المشار إليهما بقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} هم أهل بابل؛ وكان عليهم بختنصر.
وقيل: جالوت
{أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}
ذوي قوة وبطش. قيل: في المرة الأولى جاءت جند من فارس متنكرون؛ يتجسسون أخبارهم، ويعلمون مواطن ضعفهم؛ لذا قال تعالى: {فَجَاسُواْ} أي تجسسوا، والجوس: طلب الشيء بالاستقصاء، والتردد خلال الدور والبيوت في الغارة(1/337)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أعدنا لكم القوة والغلبة؛ حين تبتم وأنبتم. قيل: كان ذلك بقتل داود جالوت {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} عشيرة وعدداً(1/337)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ} أعمالكم {أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} لأن ثواب إحسانكم عائد إليها {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فلأنفسكم عقوبة إساءتكم {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} وعد المرة الآخرة في الفساد الذي تقومون به في الأرض؛ وكان ذلك بقتل يحيىبن زكرياء عليهما السلام {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم «ليسوءوا وجوهكم» وإساءة الوجه: ظهور الحزن والأسى عليه. والمراد: ليحزنوكم بالقتل والأسر والسبي. وقد يراد بـ «وجوهكم»: أشرافكم وساداتكم؛ وهو أبلغ في الهوان والإذلال {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ} بيت المقدس: دخلوه فاتحين فخربوه {كَمَا دَخَلُوهُ} وخربوه {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} أي يهلكوا كل شيء استولوا عليه(1/337)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{وَإِنْ عُدتُّمْ} إلى الكفران والعصيان {عُدْنَا} إلى العقوبة والإذلال {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} من التضييق والحصر. أي محبساً وسجناً، أو فراشاً يتقلبون عليه(1/337)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي للطريقة التي هي أصوب وأعدل(1/337)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا(1/338)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ} أي يطلب النفع العاجل وإن قل؛ بالضرر الآجل وإن جل أو يدعو على نفسه وأهله إذا حل به ضجر؛ كما يدعو بالخير(1/338)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}
دالتين على قدرتنا ووحدانيتنا {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ} طمسنا نورها بالظلام؛ وفي هذا الطمس آية دالة على وجوده تعالى {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي يبصر بها وفيها {لِّتَبْتَغُواْ} تطلبوا {فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} رزقاً بالسعي فيه والعمل والاتجار {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} لأنه لو لم يكن ليل ونهار لما عرفت الأيام، وأحصيت الأعوام {وَكُلَّ شيْءٍ} تحتاجون إليه في معايشكم {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بيناه تبييناً(1/338)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} طائر الإنسان: عمله الذي عمله في دنياه من خير أو شر؛ أي إن جزاء عمله ملازم له ملازمة القلادة للعنق {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً} قد كتب فيه سائر ما عمل في دنياه {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} {يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} مبسوطاً مقروءاً مذاعاً؛ يقال: نشر الخبر: إذا أذاعه(1/338)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ} لأن ثواب هدايته عائد إليها {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن إثم ضلاله واقع عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس إثم نفس أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أحداً من الناس {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولاً} يبين لهم ما يجب عليهم، وأن يكون الرسول بلسان المرسل إليهم؛ ليستطيع أن يبين لهم {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وعلى هذا فواجب الأمة الإسلامية تبليغ القرآن الكريم لسائر الأمم، وترجمته لمن لا يتكلمون بالعربية. ولهذا البحث مزيد بيان فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان»(1/338)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} أي أهل قرية؛ بسبب انصرافهم عن الطاعات، وانغماسهم في الشهوات
{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} من الأمر؛ الذي هو ضد النهي. أي أمرنا أغنياءها وكبراءها بالطاعة؛ فلم يمتثلوا لأمرنا، ولم يستجيبوا لإرادتنا {فَفَسَقُواْ فِيهَا} فخرجوا عن أمرنا، وعصوا رسلنا، وكذبوا بآياتنا أو المراد بالفسق: الزنا. وقرىء «أمرنا» من التأمير. أي جعلنا مترفيها أمراء فيها {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وجب العذاب على أهل القرية جميعهم. وجب على من عصى وفسق: لعصيانه وفسقه، ووجب على الباقين لعدم منعهم العاصي عن عصيانه، وعدم ضربهم على أيدي الفسقة قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من أولى واجبات المؤمنين {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي دمرنا القرية التي فشا فيها الفساد والسفاد، وعم فيها العصيان والطغيان وتدميرها يكون بتدمير أهلها؛ وذلك بأن يسلط الله تعالى عليهم الأدواء والآفات،
[ص:339] ويفشي فيهم الأمراض والعاهات ولا يخفى أن الزنا مصدر من مصادر الأمراض الفتاكة المتلفة، وقد اقتضت حكمة الحكيم العليم بأن تكون عاقبة الزنا فقراً مدقعاً، وهلاكاً محققاً: فهو السبب الأوحد لمرض الزهري؛ الذي يصيب الأجسام، وينخر في العظام، ويجعل القوي هزيلاً، والعزيز ذليلاً ولا يقتصر هذا المرض اللعين على الفاسق فحسب؛ بل يصاحب بنيه وذراريه، وخلطائه وجلسائه، وخلطاء خلطائه، وجلساء جلسائه؛ إلى ما لا نهاية له؛ فتنحط بذلك قوى الأمة، ويضعف إنتاجها ونتاجها؛ حتى يعصف بزهرة الشباب؛ فيشوه خلقهم، كما شوه خلقهم: فنهلك القرية بسبب انحلال قوي بينها وضعفهم واستكانتهم؛ وعدم استطاعتهم مجاراة الحياة في تجارة، أو صناعة، أو زراعة فيحل بواديهم الدمار والبوار؛ وهذا - ولا شك - إحدى العقوبات التي ينزلها الله تعالى في الدنيا بمن غضب عليه أعاذنا الله تعالى من غضبه وعقابه؛ بمنه وفضله
هذا ولا يجوز بحال فهم الآية بظاهر سياقها: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} فحاشلله أن يريد الهلاك لأناس قبل ارتكابهم الإثم، واستحقاقهم الهلاك وكيف يستطيع عبد أن يمتنع عن إرادة مولاه، وإرادته مشيئة كائنة؟ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وحاش أن يأمر تعالى بالفسق وهو الناهي عنه، المتوعد عليه وإلا لو قلنا: إنه تعالى أراد الفسق، وأمر الفاسق به؛ فلماذا يتوعده؟ وعلام يعاقبه ويؤاخذه؟ وهل من العدل - يا ذوي العقول - أن يأمر عبيده بالعصيان، ويهلكهم على تنفيذ أمره؟ فتعالى الله عن إرادة الفسق، أو الأمر به، وجل عن الظلم؛ وهو القائل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولا يعذب الله تعالى أحداً من خلقه قبل أن ينذره ويحذره {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ينهي عن الفسق، ويتوعد عليه؛ لا أن يأمر به، ويرغب فيه هذا وقد عجز بعضهم عن فهم هذه الآية وأمثالها؛ فأطاح ذلك بألبابهم ومعتقداتهم؛ فساروا على غير هدى، وسقطوا في مهاوي الردى فتفهم ما قلناه وتدبره؛ هديت وكفيت(1/338)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} أي وكثيراً ما أهلكنا من الأمم(1/339)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} الدنيا {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} أي آتينا من نشاء ممن يرغبون في الدنيا ما نشاء إعطاءه له؛ لا ما يريده هو لنفسه؛ فكم قد رأينا منصرفاً عن الآخرة، مقبلاً على الدنيا، وقد خسر كليهما: لا مال في يديه، ولا صحة في جسمه، ولا ولد يسنده في كبره وعوزه؛ ورأينا آخر يماثله في كفره، ويشاكله في عقيدته؛ وقد آتاه الله تعالى من دنياه
[ص:340] ما أراد، بل وزاد؛ وذلك كله بتصريف الحكيم العليم يعطي من يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء عما يشاء؛ وقد يعطي من يبغض، ويمنع من يحب؛ لحكمة علمها، ومشيئة قدرها {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} أي جعلنا في الآخرة لمن أراد العاجلة {جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} يدخلها {مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} مطروداً من رحمة الله تعالى(1/339)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي عمل الأعمال الصالحة الموصلة لها {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} شرط الله تعالى إيمانه؛ فقد يعمل الكافر أعمالاً صالحة؛ لا يبتغي بها دنيا؛ ولكنها مردودة عليه لكفره، معجل له ثوابها في دنياه عدلاً من ربه(1/340)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} أي نعطي كلا من المطيع والعاصي تفضلاً منا وإحساناً {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} ممنوعاً من أحد من خلقه(1/340)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزق والجاه، والصحة والقوة؛ وقد يكون الفاضل أدنى رتبة من المفضول؛ ولكن لا عبرة في التفضيل في الدنيا، وإنما الاعتداد والعبرة بالتفضيل في الآخرة {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} أعظم من درجات الدنيا {وَأَكْبَرُ} وأعظم {تَفْضِيلاً} فينبغي الاعتناء والتمسك بالأعمال الموصلة إليها(1/340)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{وَقَضَى رَبُّكَ} أمر وألزم وأوجب {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أردف تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين لأنه سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان على الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده - بحسب العرف الظاهر - وأيضاً فإن الله تعالى لا يمل من الإنعام على عبده؛ ولو أتى بأعظم الجرائم، وأكبر الآثام، وكذا الوالدان لا يملان الإنعام على ولدهما وإكرامه؛ ولو كان مسيئاً لهما غاية الإساءة فليتأمل ذلك العاق لأبويه، وليبادر بالإحسان إليهما؛ ليحظى بالغفران وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الوالدين لم ينجبا ولدهما رغبة في إيجاده، وإنما هو ثمرة لشهوة اشتهياها وأراداها بمحض اختيارهما؛ فلا فضل لهما عليه، ولا منة أسدياها إليه. وقد فات هؤلاء الفجار أن الله تعالى جعل مصدر الولد الاشتهاء واللذة: لحكمة حفظ الأنواع وبقائها؛ وناهيك بما يتحمله الوالدان بعد ذلك في سبيل تربية بنيهما وتنشئتهم وما يبذلانه من متاعب في سبيل راحتهم: فطالما سهرا ليناموا، وشقيا ليسعدوا وطالما أنفقا من مالهما في سبيل إطعامهم، وطالما بذلا النفس والنفيس في سبيل تمريضهم والمحافظة عليهم أليس كل ذلك موجب لإكرامهما وإعزازهما، وطلب الرحمة لهما فليتأمل ذلك كل عاق لوالديه، وليبادر إلى إدراك ما فاته من الإحسان إليهما؛ قبل أن ينقطع حبل حياتهما فيخسر الدنيا والآخرة
وقد ورد أن الله تعالى لا ينظر يوم القيامة لمن عق والديه {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} خص تعالى
[ص:341] الكبر؛ لأنه مبعث الضعف والحاجة، ومظنة الملل والاستثقال {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} وهي أدنى كلمة تقال في التضجر. وقد ورد عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لو علم ربك دون أف لنهى عنه»(1/340)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألن جانبك، وكن ذليلاً في معاملتهما - مهما كنت عزيزاً - حباً فيهما، ورحمة بهما؛ فقد أذللتهما في صغرك وأتعبتهما وأشقيتهما؛ وقد أحباك كل الحب ورحماك كل الرحمة فكن لهما محباً، وبهما رحيماً، ليحبك الرحمن، ويرحمك الرحيم(1/341)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{لِلأَوَّابِينَ} الراجعين إلى الله تعالى(1/341)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} بعد أن أمر الله تعالى عباده بعبادته، وبالإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما: أردف بذوي القربى، ووجوب إيفائهم حقوقهم التي جعلها في أعناقنا؛ فأمرنا بإيتائها لهم. ومن هذه الآية يعلم أي للأقرباء حقوقاً أقلها: معاونة فقرائهم، وزيارة أغنيائهم، ومواساة ضعفائهم. وبعد أن أمرنا تعالى ببر الوالدين والأقرباء؛ ولبعضهم من الحقوق ما يستأهل البر والعطف والمساعدة؛ بعد ذلك عرفنا تعالى أن لكل محتاج - قريب كان أو بعيد - حقاً واجب الأداء والوفاء؛ قال تعالى: {وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي انقطع به الطريق واعلم - هديت وكفيت - أن هذا الحق الذي أمر به الله تعالى غير فريضة الزكاة؛ فاحرص على ذلك حرصك على دينك {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} بالإنفاق في غير طاعة الله تعالى؛ فلو أنفق سائر ماله في الخير والصدقة: ما كان من المبذرين إذ أنه لا خير في السرف، ولا سرف في الخير ولا يعقل أن يكون البار بالمساكين، من إخوان الشياطين(1/341)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وقد خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه من سائر ماله في سبيل الله تعالى؛ فكان ذلك إحدى محامده(1/341)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي عمن ذكر؛ لضيق ذات يدك، وفقر به الله امتحنك {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} أي طلباً لرزق يأتيك؛ فتوفي به ما عليك مما أمرك الله تعالى به، وألزمك بأدائه.
ومن عجب أن نرى في زماننا بعض من أفاء الله تعالى عليهم بالمال الكثير، والرزق الوفير؛ وقد بدلوا نعمة الله كفراً؛ وجزوا والديهم عقوقاً وخذلاناً، وأقربائهم ذلاً وحرماناً، ومساكينهم قهراً ونهراً؛ في حين أنهم في سعة من العيش؛ يسرفون في ملذاتهم وشهواتهم بغير حساب بينا نجد فقيراً مدقعاً يتعثر في أسماله، ولا يكاد يفي بحاجة عياله؛ إذا به يقتطع من قوته فيعطي الأبوين والأقرباء، ولا ينسى المساكين والفقراء وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله يجزي العاملين، ويتولى الصالحين {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} سمحاً سهلاً: بأن تعدهم بالإعطاء، عند حلول العطاء، وبأن توسع عليهم عندما يغدق المولى
[ص:342] عليك وبذلك يكون رفقك سبباً في رزقك، وسخاؤك سبباً في رخائك(1/341)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي لا تكن بخيلاً {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فتكن من المسرفين {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} مستوجباً للوم: من نفسك، ومن بني جنسك {مَّحْسُوراً} متحسراً(1/342)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه {وَيَقْدِرُ} يضيق(1/342)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فقر {خَطَئاً} إثماً وخطأ(1/342)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} اعلم - هداك الله تعالى - أن قربان الزنا غير إتيانه، وقرع الباب غير ولوجه. وقد أريد بقربانه: غشيان مواضعه، وتعريض النفس له؛ من إطالة النظر، وإشغال الفكر، وإشباع الغرائز: قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فإذا ما صان الإنسان نفسه، وكف بصره: تجنب مواضع الزلل ولا يخفى ما في الزنا من فساد للأنساب، وقطع للأرحام؛ وما يترتب عليه من فتك الأمراض الخبيثة بالنفوس؛ وهو من الذنوب التي جاء ذمها وتقبيحها والزجر عليها في سائر الأديان؛ والدليل على فحش هذا الجرم وشناعته: قسوة عقابه، وشدة جزائه؛ فقد جعل الشارع الحكيم عقوبة الزنا: الرجم بالحجارة للمحصن «المتزوج» وجلد مائة لغير المحصن «الأعزب» (انظر آيتي 16 من هذه السورة، و2 من سورة النور» {وَسَآءَ سَبِيلاً}
أي بئس هذا الطريق طريقاً(1/342)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} بغير ذنب يستحق عليه القتل {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} لوارثه المطالب بدمه {سُلْطَاناً} تسلطاً على القاتل وحده {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} بأن يقتل غير القاتل، أو يقتل بعد أخذه الدية {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} بكلمة الله تعالى وأمره(1/342)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كأن ينميه ويستثمره، ولا يأخذ الوصي منه شيئاً إلا بمقدار ما يأكل - إذا كان فقيراً - بشرط عدم الإخلال برأس المال {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي قوته: وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} الذي تعاهدون الناس عليه، والميثاق الذي تواثقونهم به {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} عنه. وقيل: يسأل العهد نفسه؛ تبكيتاً لناقضه، وتقريعاً له (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و72 من سورة الأنفال)(1/342)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} الميزان {ذلِكَ خَيْرٌ} في الدنيا: بحب الناس لكم، وإقبالهم عليكم. وفي الآخرة: برضا الرب عنكم، وإحسانه إليكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي أحسن مآلا وعاقبة(1/342)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{وَلاَ تَقْفُ} ولا تَتَتَبَّعْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كأن تقول: سمعت؛ وأنت لم تسمع، ورأيت؛ وأنت لم تر؛ وعلمت؛ وأنت لم تعلم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} الفؤاد: القلب؛ وأريد به العقل {كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ} الإنسان {مَسْؤُولاً} فيجب على العاقل الحكيم ألا يسمع إلا خيراً، وألا يرى محرماً، وألا يفكر
[ص:343] شراً، ولا يعتقد نكراً(1/342)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} أي لا تمش متكبراً، مختالاً. وقد أخذ بعضهم من هذه الآية: تحريم الرقص؛ لأنه أشد من المرح، وأشر من الاختيال {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ}
بكبرك وتجبرك {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} بتعاظمك وتفاخرك(1/343)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{كُلُّ ذلِكَ} المذكور؛ من أمر ونهي {كَانَ سَيِّئُهُ} أي سيىء ما عددنا عليك {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} مبغوضاً مذموماً ومن واجب المؤمن الذكي التقي أن يتبع ما أحب الله تعالى؛ لا ما أبغض وكره(1/343)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{مَّدْحُوراً} مطروداً(1/343)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم} اصطفى لكم وخصكم {بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ} لنفسه {مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً} بنات؛ كما تزعمون(1/343)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} فصلنا وبينا {فِي هَذَا الْقُرْآنِ} من القصص، والأمثال، والوعد والوعيد {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ذلك القرآن المبين المفصل {إِلاَّ نُفُوراً} عن الحق، وتمسكاً بالباطل(1/343)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ} أي مع الله تعالى {آلِهَةً} أخرى {كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} أي لطلبت الآلهة مع الله {إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} طريقاً إلى محاربته ومناوأته، ومنازعته في ملكه؛ كما تفعل ملوك الدنيا، ورؤساؤها(1/343)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} ويزعمون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)(1/343)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} التسبيح والثناء: كما يجريان على لسان المقال؛ فإنه ينطق بهما لسان الحال: فتسبيح السموات، والأرض، والجبال، والكواكب، والمياه، والأشجار، والأزهار: دلالتها على أنه تعالى حي قادر، جبار قاهر، له القوة والملكوت، والعزة والجبروت فقد خلقها - جلت قدرته، وتعالت عظمته - في أسرع مدة؛ بلا روية، ولا حركة، ولا تجربة {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} وترى السموات مرفوعة بلا عمد، والكواكب معلقة في الفضاء بلا سبب: تسبح في أفلاكها، وتجري إلى منازلها التي قدرت لها كذلك يسبح بحمده، ويثني عليه كل شيء نستمد منه سروراً وحبوراً، ورزقاً وخيراً كالسموات في زرقتها وصفائها، والأرض في استدارتها وانبساطها، والشمس في إشراقها، والنجوم في بريقها، والسحب في إمطارها، والحقول في خضرتها، والبساتين في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياه في تدفقها وخريرها، والطيور في تغريدها، والوحوش في زئيرها، والبهم في خوارها ورغائها تلك بعض الطرق التي تسلكها مخلوقاته تعالى، في تسبيحها بحمده وإنها لقل من كثر، وغيض من فيض
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لانصرافكم عن النظر إليها، والتأمل في بديع صنعها وقد يخلق الله تعالى لها ألسناً للتسبيح، فتسبح بحمده بالمنطق الفصيح(1/343)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{حِجَاباً مَّسْتُوراً} يسترهم عن الفهم والإيمان؛ عقوبة لهم على كفرهم وإصرارهم، وعدم
[ص:344] إيمانهم بالآخرة(1/343)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية وحجباً {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً(1/344)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي يستمعون لك حالة كونهم متناجين، والمعنى: أنهم يستمعون إليك سراً؛ متجسسين عليك، غير ظاهرين لك.
أو إنهم يتناجون مع بعضهم حينما تتكلم {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} الكافرون للمؤمنين {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي مجنوناً، به مس من السحر ومن أعجب العجب أن بعض المفسرين يقول في تأويل بعض الآيات: أن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه قد سحر، مستندين في هذا التأويل الفاسد إلى إفك روته اليهود؛ فتناقله ضعاف العقول، وصغار الأحلام؛ فليحذر العاقل من الوقوع في مثل ذلك الإفك(1/344)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} حطاماً(1/344)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
{قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} أي لو كنتم حجارة أو حديداً، ولم تكونوا عظاماً ورفاتاً، فسيعيدكم الله تعالى كما كنتم في الدنيا(1/344)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{فَطَرَكُمْ} خلقكم {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركونها مستهزئين(1/344)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} في الدنيا، أو في القبور(1/344)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يفسد ويغري(1/344)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} كتاباً(1/344)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم} أنهم آلهة مع الله تعالى {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} إذا نزل بكم {وَلاَ تَحْوِيلاً} أي ولا يملكون تحويل الضر عنكم إلى غيركم(1/344)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون؛ أي يعبدهم العباد من دونالله: كالملائكة، وعيسى، وعزير. وقرأ ابن مسعود «تدعون» أي هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم؛ هم عباد أمثالكم {يَبْتَغُونَ} بعبادتهم وطاعتهم {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} التي تقربهم إليه؛ ولا يدرون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} يطلبون ويأملون رضاءه عنهم، ومغفرته لهم {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أن ينزل بهم {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي يخاف منه ويحذر. والرجاء والخوف: مرتبتان؛ متلازمتان، والجمع بينهما: هو المثل الأعلى، والتوسط فيهما: هو غاية الكمال؛ فإذا زاد الخوف: ذهب بالحب؛ وهو لب العبادة وجوهرها وإذا زاد الرجاء: ذهب بالأدب والوقار؛ وهما صلب المعرفة
وكما أن الكرم: وسط بين التبذير والبخل. والشجاعة: وسط بين التهور والجبن؛ كذلك يكون كمال الإيمان: في التوسط بين الخوف والرجاء(1/344)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} وما من قرية {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} أي مخربوها، أو مهلكو أهلها بالموت؛ إن كانت مؤمنة، وبالعذاب؛ إن كانت ظالمة، وبالأمراض والأوصاب؛ إن كانت فاسقة {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} بالقتل، والأسر، والذل. أو يكون المعنى: «وإن من قرية» ظالمة «إلا نحن مهلكوها» قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
[ص:345] {كَانَ ذلِك فِي الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ(1/344)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ} الرسل {بِالآيَاتِ} المعجزات التي يقترحونها {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي كذب بها آباؤهم، بعد أن أرسلناها لهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي آية واضحة جلية {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها، وظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب الأليم؛ وأهلكناهم بسبب هذا الكفر وذلك التكذيب {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ} أي القرآن؛ وما فيه من نذر، وقصص وعبر أو أريد «بالآيات» المعجزات {إِلاَّ تَخْوِيفاً} للمكذبين؛ فلا يستمرئون تكذيبهم، وللكافرين، فلا يبقون على كفرهم(1/345)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} يا محمد {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} علماً وقدرة {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} وهو أنه رأى في منامه - عام الحديبية - أنه يدخل مكة. غير أنه رد عنها في هذا العام؛ فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت هذه الآية؛ فلما كان العام القابل دخل الرسول مكة فاتحاً - كما رأى في منامه - وأنزل الله تعالى {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وقيل: رأى في منامه مصارع الكفار في وقعة بدر، وكان يقول حين ورد ماء بدر: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ ويوميء إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان؛ وقد كان ما قال وما رأى؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} أي الملعون آكلها وهي شجرة الزقوم(1/345)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{قَالَ} إبليس اللعين؛ محاجاً ربه {أَرَأَيْتَكَ} أي أرأيت؛ والكاف: توكيد للمخاطبة؛ والمعنى: أخبرني عن {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فضلته، وجعلته فوقي في المرتبة: لم فضلته عليّ؛ وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين؛ والنار خير من الطين؟ {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} لأستأصلنهم جميعاً بالإغواء؛ يقال: احتنك الجراد الزرع: إذا ذهب به كله(1/345)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{قَالَ} تعالى لإبليس {اذْهَبْ} مذموماً مدحوراً {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من أطاعك واستجاب لإغوائك من ذرية آدم {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} كاملاً وافراً(1/345)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{وَاسْتَفْزِزْ} استخف واستنزل {وَأَجْلِبْ} اجمع وصح بهم؛ وهو من الجلبة {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي بركبانك ومشاتك {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} بأن تزين لهم الربا، والسرقة، والغصب؛ أو أن ينفقوها في معصية الله {وَالأَوْلاَدِ} بأن يكونوا أبناء إثم وسفاح؛ لا أبناء طاعة ونكاح {وَعَدَّهُمْ} أي منِّهم بالأماني الكاذبة، والآمال الباطلة؛ بأن لا قيامة، ولا حساب، ولا جزاء؛ وأنه إن كان ثمت قيامة وحساب، وجنة ونار؛ فإنهم أصحاب الجنة، وهم أولى بها ممن سواهم. قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}(1/345)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{إِنَّ عِبَادِي} الذين آمنوا بي، وصدقوا برسلي، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ فهؤلاء {لَيْسَ
[ص:346] لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} تسلط وقوة(1/345)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} يسوق ويسير {لَكُمُ الْفُلْكَ} السفن {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لتطلبوا الرزق بطريق التجارة، والتنقل في البلاد(1/346)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}
أي غاب من تستغيثون به فيغيثكم، إلا الله تعالى فهو وحده حاضر لا يغيب {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} فادعوه مخلصين له الدين ينجيكم مما تخافون، ويخلصكم مما تحذرون {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} من الضر الذي لحقكم، والموت الذي أحاط بكم {أَعْرَضْتُمْ} عن عبادته، ونسيتم ما أسبغ عليكم من نعمته(1/346)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{أَفَأَمِنْتُمْ} وقد نجوتم من البحر إلى اليابسة {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} بأن يزلزل الأرض ويدكها ويخسفها بكم؛ كما فعل بمن سبقكم من المكذبين: كقارون {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} الحاصب: الريح الشديدة التي ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى(1/346)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي في البحر {تَارَةً أُخْرَى} مرة أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} فيه {قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} وهي الريح التي تكسر الفلك والشجر {تَبِيعاً} مطالباً(1/346)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} برئيسهم وهو نبيهم؛ فيقال: يا أمة موسى؛ يا أمة عيسى، يا أمة محمد {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الفتيل: مثل للحقارة والصغر. وهو قشرة النواة، أو كل ما يفتل بالأصابع؛ مما يدق عن الحس(1/346)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ} الدنيا {أَعْمَى} عن الحق: أريد به عمى القلوب لا العيون {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} عن النجاة؛ كالأعمى حينما يتعثر فيما يلقاه(1/346)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{وَإِن كَادُواْ} قاربوا {لَيَفْتِنُونَكَ} يزيلونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من القرآن. قيل عن هذه الفتنة: إن قريشاً منعت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود: حتى يلم بآلهتهم؛ فحدث الرسول نفسه في ذلك: فنزلت عقاباً له على ما هجست به نفسه ونزل قوله تعالى:(1/346)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} على ما أنت عليه من الحق {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} لأنه قال في نفسه: وما عليِّ أن ألم بآلهتهم بعد أن يدعوني أستلم الحجر؛ والله يعلم أني لها كاره مبغض وقيل: إنهم طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام الكف عن ذم آلهتهم(1/346)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{إِذَآ} لو فعلت ما طلبوه {لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي لعذبناك عذاباً مضاعفاً في الحياة، وبعد الممات وحاشاه أن يركن إليهم؛ وإنما ورد هذا على سبيل التهديد للكفار، ولمن تحدثه نفسه بالركون إلى الكافرين - كما يفعل مسلمو اليوم(1/346)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجونك ويفزعونك {وَإِذَآ} إذا أخرجوك من أرضك {لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} خلفك وبعدك {إِلاَّ قَلِيلاً} ثم يهلكهم الله(1/346)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} أي هذه سنتنا وطريقتنا: أن نهلك من
[ص:347] يعادون رسلهم ويخرجونهم(1/346)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لزوالها {إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ} ظلمته؛ وهو وقت صلاة العشاء {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الصبح {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} تشهده الملائكة؛ أي تحضره، وتدعو لمقيميه(1/347)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ} الإسلام {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} انمحى الكفر وبطل {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} مضمحلاً زائلاً(1/347)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} شفاء لقلوبهم، ورحمة لأنفسهم(1/347)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ} بالسعة والرزق والعافية {أَعْرَضَ} عن العبادة {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} تكبر على الناس، وتباعد عنهم {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} أي وإذا أصابته مصيبة، أو حلت به بلية: قنط من النجاة، ويئس من روح الله
يعارض الإنسان ربه في حكمته، ويعترض على قدرته: فيكله إلى نفسه؛ فينتهي به ذلك إلى العجز، وينتهي به العجز إلى السخط، وينتهي به السخط إلى الكفر؛ فمتى كان الإنسان عاجزاً، ساخطاً، موكولاً إلى نفسه، معتمداً على قدرته؛ مستنداً إلى قوته: كان كالأسد الجائع في المهمة القفر؛ إذا توهم أن قوته وبطشه يستطيعان أن يخلقا الفريسة له؛ فيظل هائجاً هادراً مزمجراً؛ يطيح بكل ما حوله؛ فيجلب ذلك إلى نفس الإنسان اليأس، والانزعاج، والكآبة، وغير ذلك من المهلكات التي تبعث في قلبه الشك بربه، وتدفع إلى نفسه القنوط، وتجيل بخاطره حماقات العقل، ونزغات الشيطان وقد ينتهي به ذلك إلى الانتحار. ولو أنه آمن ب الله مكان إيمانه بنفسه لسلطه الله تعالى عليها، ولم يسلطها عليه، ولأرضاه بما عنده وأقنعه بما لديه؛ ولأبعد عنه هواجسه، ومتاعبه، ولأبدل خوفه أمناً قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ولكن الإنسان يؤس كفور؛ يسوق بيأسه لنفسه البلايا، ويحط بكفره على قلبه الرزايا وإن شئت فاقرأ قول الحكيم العليم {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(1/347)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{قُلْ كُلٌّ} منا ومنكم {يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} طريقته، وطبيعته، ومذهبه، واعتقاده(1/347)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} التي يحيا بها البدن: ما صفتها؟ وما هيأتها؟ وما طبيعتها؟ وذهب قوم من المفسرين إلى أن الروح المسئول عنه: هو جبريل، وقيل: ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان في كل لسان سبعون ألف لغة؛ يسبح الله تعالى بكل هاتيك اللغات. وقيل: هو عيسى عليه السلام. وقيل: القرآن. والرأي الأول: أولى بالصواب، وأجدر بالاعتبار {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} توهب بقدرته، وتسلب بأمره؛ ولا يعلم حقيقتها إلا هو، ولا سيطرة لأحد عليها - وجوداً وعدماً - وهي باقية بعد فناء
[ص:348] الأجساد، حتى يوم المعاد؛ فيعيد الله تعالى لكل جسد روحه؛ ليحاسبها على ما اكتسبت في دنياها: فيعذب الكافر العاصي، ويثيب المؤمن الطائع وقيل: إن اليهود أوعزوا لقريش أن تسأل النبي عن ثلاثة أشياء: عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح؛ وقالوا لهم: إن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة: فهو نبي. فلما سألوه أخبرهم عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وقال عن الروح
{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقوله تعالى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} دليل على عجز الإنسان عجزاً تاماً عن معرفة حقيقتها وكنهها؛ فليس لإنسان أن يزعم أن الروح - ولو كانت روح حيوان - هي تحت أمره، وأنه يستطيع - بإذاعة شيء من الموسيقى - أن يحضر من الأرواح ما شاء وأن يستخدمها فيما شاء، ويسألها عما يشاء وقد دأب ناس - عافاهم الله - على اللعب بعقول البسطاء وألبابهم؛ بإشاعة هذه الخرافات، وبث هذه الترهات والخزعبلات؛ وقد حضرت كثيراً من مجالسهم؛ فما ازددت إلا تكذيباً لهم، وتسفيهاً لأعمالهم وأمر هؤلاء لا يعدو أن يكون من عبث الشيطان بهم؛ إذ أنه - لعنه الله تعالى - يستطيع أن يتشكل بمن شاء من مخلوقاته تعالى؛ عدا أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ فيظهر الشيطان أو أحد أعوانه على صورة الإنسان المراد تحضير روحه ويخاطبهم بما يحلو لهم أن يسمعوه. أما الروح - ولو أنها موجودة، وباقية أبد الآبدين - فإنه لا سلطان لأحد عليها من المخلوقين، ولا تدين إلا لرب العالمين(1/347)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآن؛ بأن ننزعه من الصدور، ونمحوه من الصحف؛ وسيكون ذلك قبيل القيامة؛ وهو من أشراط الساعة(1/348)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي إن إبقاءه وعدم إذهابه «رحمة من ربك»(1/348)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} معيناً(1/348)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بيّنا وأوضحنا {مِن كُلِّ مَثَلٍ} يصح به الاعتبار والاستبصار؛ كالأوامر، والنواهي، والترغيب، والترهيب، وذكر الثواب والعقاب، وأقاصيص المتقدمين وأخبارهم(1/348)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{كِسَفاً} قطعاً {قَبِيلاً} جماعة؛ مقابلة وعياناً(1/348)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{مِّن زُخْرُفٍ} ذهب {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} تنزه وتقدس عن أن يأتي بأمري، أو بأمركم (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)(1/348)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} مثلكم {مُطْمَئِنِّينَ}
قارين: يطمئنون لمن في الأرض، ويطمئن من في الأرض إليهم(1/348)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ} نصراء يهدونهم {مِن دُونِهِ} من غيره {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} تجرهم الزبانية من أرجلهم «على وجوههم» {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم {اخْسَؤواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وذهب الزفير والشهيق والصراخ بسمعهم فلم يسمعوا شيئاً {كُلَّمَا خَبَتْ} انطفأ لهيبها {وَرُفَاتاً} حطاماً {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً} لموتهم وبعثهم؛ هم مواقعوه(1/349)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} من الرزق، والمطر، وسائر النعم {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} مخافة الفقر والعدم {وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً} بخيلاً مقتراً(1/349)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات: وهي اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين أو البحر، ونقص الثمرات. وقد ورد في الحديث الشريف أنها «لا تشركوا ب الله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف» {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يمُوسَى مَسْحُوراً} مجنوناً؛ مغلوباً على عقلك(1/349)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{بَصَآئِرَ} أي عبراً بينات واضحات {مَثْبُوراً} مصروفاً عن الخير، أو هالكاً، أو مطروداً(1/350)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{فَأَرَادَ} فرعون {أَن يَسْتَفِزَّهُم} أي أن يخرج موسى وقومه من الأرض. يقال: استفزه؛ إذا أخرجه من داره وأزعجه(1/350)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي جميعاً؛ ملتفين، ومختلطين؛ فنجزي من أحسن بالحسنى، ومن أساء بالسوأى(1/350)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي فصلناه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، أو نزلناه مفرقاً؛ في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين {عَلَى مُكْثٍ} على تؤدة وبيان وتمهل؛ ليتفهموه(1/350)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} تهديد شديد {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ} ساجدين {لِلأَذْقَانِ} أي على وجوههم(1/350)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{وَيِقُولُونَ} حال سجودهم {سُبْحَانَ رَبِّنَآ} تنزه ربنا وتعالى وتقدس وقد كان يكثر أن يقول في سجوده، وركوعه «سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي» (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة) {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} بإرسال محمد، وبإنزال القرآن عليه {لَمَفْعُولاً} لحاصلاً لا محالة(1/350)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{وَيَزِيدُهُمْ} الاستماع إلى القرآن {خُشُوعاً} خضوعاً وتواضعاًلله تعالى(1/350)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{فَلَهُ} جل شأنه {الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} التي تقتضي أفضل الأوصاف، وأشرف المعاني، وأسمى الصفات وأسماؤه تعالى لا يحصيها عد، ولا يحدها حد؛ وقد ورد في الحديث الشريف «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً؛ كلهن في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة» وليس المراد بإحصائها حفظها فحسب؛ بل الإيمان بها كلها، والوثوق بمدلولاتها؛ وهي: «الله لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارىء. المصور. الغفار. القهار. الوهاب، الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدىء. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوال. المتعال. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور (انظر آية 180 من سورة الأعراف)
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ}
[ص:351] أي بقراءتك فيها؛ لئلا يسمعك المشركون فيسبوك، ويسبوا القرآن، ومن أنزله {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تسر بها؛ فلا يسمعك من يقتدي بك. قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يسر قراءته كلها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يجهر بها كلها؛ فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه وقال عمر: أنا أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان فلما نزلت هذه الآية؛ قيل لأبي بكر: ارفع قليلاً. وقيل لعمر: اخفض قليلاً. وقد يقول قائل: ما دامت علة الجهر والإسرار: هو الخوف من أذى الكافرين والمشركين؛ وقد كف الله تعالى أذاهم، وأذهب قوتهم - والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً - فما لنا لا نجهر في صلاتنا كلها؟ والجواب على ذلك: إن الأعمال التعبدية؛ لا يجوز فيها الاجتهاد، بل يتبع فيها آثار الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ القائل «صلوا كما رأيتموني أصلي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن المراد بالصلاة في هذه الآية: الدعاء(1/350)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كما يزعم الكافرون {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما يزعم المشركون {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذُّلِّ} أي لم يذل؛ فيحتاج إلى ناصر بسبب ضعفه؛ بل هو ولي الصالحين، وناصر المؤمنين(1/351)
سورة الكهف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/351)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} مستوجب الحمد {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {الْكِتَابُ} القرآن {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} اختلافاً، أو تناقضاً(1/351)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{قَيِّماً} مستقيماً {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} ليحذر عذاباً أليماً {مِّن لَّدُنْهُ} من عنده تعالى(1/351)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{كَبُرَتْ} عظمت في الافتراء والكفر(1/351)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قاتلها غماً وحزناً {عَلَى آثَارِهِمْ} بعد توليهم عنك، وامتناعهم عن الإيمان بك {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ} القرآن
[ص:352] {أَسَفاً} حزناً وكمداً(1/351)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ} من أشجار وحفيف ورقها، وأزهار وأريج نشرها، وثمار ولذيذ طعمها، وأنهار وسلسبيل مائها، وبحار وعظيم موجها، وجبال وشامخ بنيانها، ورمال وبديع ألوانها؛ وغير ذلك مما يدهش العقول، ويحير الألباب كل ذلك خلقه المبدع الحكيم {زِينَةً لَّهَا} أي للدنيا؛ ليستمتع به أهلها {لِنَبْلُوَهُمْ} نختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} بالزهد في الدنيا، وعدم الإقبال عليها، والرغبة في الآخرة، والحرص على كل ما يوصل إليها(1/352)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} أي ما على الأرض من زينة {صَعِيداً جُرُزاً} يابساً لا ينبت.
والأرض الجرز: التي لا نبات عليها، ولا بنيان؛ كأن ما عليها قد اجتث(1/352)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{أَمْ حَسِبْتَ} يا محمد {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} وهو الغار الواسع في الجبل {وَالرَّقِيمِ} لوح مكتوب عليه أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم، ولعله كتاب مرقوم؛ أنزل لهم لتعليمهم الشرائع. وقيل: إنه اسم كلبهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أدري ما الرقيم؛ أكتاب هو أم بنيان؟ {كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أي لا تحسب أن العجب في قصة أصحاب الكهف؛ وإنما العجب كل العجب فيما خلقناه من سموات وأرضين، وما جعلناه على الأرض زينة لها ولمن فيها(1/352)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} توفيقاً للرشاد والسداد(1/352)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} أي أنمناهم إنامة ثقيلة؛ لا تنبههم الأصوات {سِنِينَ عَدَداً} كناية عن التكثير؛ أي سنين كثيرة معدودة؛ وذلك لأن القليل يعلم من غير عد(1/352)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم من نومهم؛ كما نبعث أهل القبور من موتهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} المختلفين في مدة لبثهم {أَحْصَى} أضبط {لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} مدة وغاية(1/352)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} قويناها على تحمل المكروه في نصرة الدين {إِذْ قَامُواْ} بين قومهم، وأمام ملكهم؛ وقد عكفوا جميعاً على عبادة الأصنام {فَقَالُواْ} مجاهدين {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لن نؤمن بغيره، و {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً} آخر {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً} إذا دعونا من دونه {شَطَطاً} قولاً ذا شطط؛ أي بعيداً عن الحق(1/352)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{لَّوْلاَ} هلا {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بحجة ظاهرة على صحة عبادتهم لها(1/352)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} خطاب لأهل الكهف؛ أي وإذ جانبتم هؤلاء الكفار {وَمَا يَعْبُدُونَ} أي واعتزلتم الذين يعبدونه من الآلهة {إَلاَّ اللَّهَ} سوىالله. وقرأ ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» وعلى ذلك مصحفه؛ وذهب قتادة إلى أنه تفسيرها {فَأْوُوا} الجأوا {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} يبسطها لكم {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} وهو ما ينتفع به؛ من بناء، وغذاء، وكساء(1/353)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{تَّزَاوَرُ} تميل تقطعهم؛ أي تتركهم وتعدل عنهم {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} متسع من الكهف. والفجوة: الفرجة {ذَلِكَ} أي ميل الشمس وتركها لمكانهم؛ مع مخالفة ذلك للنظام الكوني {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وجوده وقدرته {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً} يلي أمره، ويقوم بمعونته {مُّرْشِداً} له إلى الهدى وطريق الصواب(1/353)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{وَتَحْسَبُهُمْ} إذا رأيتهم {أَيْقَاظاً} منتبهين؛ لأن أعينهم منفتحة {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ} أثناء نومهم {ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} لئلا تأكل الأرض لحومهم؛ وقد يكون التقليب بواسطة ملك يأمره الله تعالى به، أو بفعلهم هم - بتوفيق من الله تعالى - كما يفعل النائم حال نومه؛ ولذا يحسبهم الرائي أيقاظاً؛ لتقلبهم وانفتاح أعينهم {بِالوَصِيدِ} عتبة الكهف. والباب الموصد: المغلق {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} لما حفهم الله تعالى به من الهيبة، وأحاطهم به من العظمة؛ وقد منعهم الله تعالى من الناس بالرعب: لئلا يقربوا منهم، ويعبثوا بهم؛ فصاروا بحيث لا يستطيع أحد قربهم أو الدنو منهم. أما من قال: إن الفرار منهم والرعب بسبب طول شعورهم وأظفارهم؛ فليس بشيء: لأنهم حين استيقظوا قال بعضهم لبعض {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}(1/353)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم من نومهم {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضاً {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الورق: الفضة. والمراد بها: النقود التي كانت متداولة بينهم {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى} أحل وأطيب {وَلْيَتَلَطَّفْ} في دخول المدينة، وشراء الطعام(1/353)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يطلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم(1/354)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أطلعنا عليهم {لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ليعلم الناس أن وعد الله تعالى بالبعث حق: لأن القادر على بعث أهل الكهف - بعد نومهم ثلاثمائة عام - قادر على بعث الخلق بعد مماتهم. وبعث الناس يوم القيامة سيكون بأجسادهم؛ وقد أقام الله تعالى الدليل على ذلك بإحياء حمار عزير قال تعالى له {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} (انظر آية 259 من سورة البقرة) {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي يتنازع المؤمنون والكفار في شأنهم؛ فقال الكفار: نبني فوقهم بيعة، وقال المسلمون؛ وكانوا كثرة غالبة {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} واتخذوه فعلاً فوق كهفهم؛ وفي هذا الدليل القاطع على جواز اتخاذ المساجد فوق القبور - خلافاً لما يقول به بعض الغلاة - ولا يدفع ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ قال: «لعن رسولالله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» فهو حديث - إن صح - يجب تأويله بالنهي عن السجود إلى القبور، أو الصلاة عليها؛ يدل على ذلك قوله «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» وذلك لأن الحديث لا يدفع صريح القرآن: «لنتخذن عليهم مسجداً» وعلة النهي في الحديث: أن اتخاذ القبور مساجد قد يؤدي إلى عبادة من فيها؛ كما اتخذت الأصنام من قبل(1/354)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{سَيَقُولُونَ} أي يقول المختلفون في شأن أهل الكهف وعدتهم؛ وذلك في زمن النبي {رَجْماً بِالْغَيْبِ} الرجم بالغيب: القول بالظن؛ وهو دليل على بطلان السابق، وصحة اللاحق؛ وهو قوله تعالى:
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ولم يقدح فيه بشيء {فَلاَ تُمَارِ} فلا تجادل {فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إلا جدالاً في حدود ما ظهر لك مما أنزلناه عليك {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} أي في شأن أهل الكهف {مِّنْهُمْ} أي من اليهود وغيرهم من المشركين(1/354)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ} الشيء {غَداً} أي فيما يستقبل من الزمان(1/354)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن تفعله؛ فوجب إذاً الاستثناء؛ لأنك إن قلت: إني فاعل كذا. ولم تفعل؛ كنت كاذباً. أما إن استثنيت وقلت: لأفعلن كذا إن شاءالله؛ ولم يقدرك الله تعالى على فعله: كنت صادقاً {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي اذكره إذا نسيته فعصيته، واستغفره وتب إليه والعصيان لا يكون إلا عند نسيان الله تعالى {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أي أحسن عملاً، وأقرب منفعة وهداية(1/354)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{وَلَبِثُواْ} مكثوا
[ص:355] {فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً} قال بعضهم: إن مدة لبثهم في الكهف «ثلاثمائة سنين» شمسية «وازدادوا تسعاً» وهي السنين القمرية؛ لأنها تزيد ثلاث سنين في كل مائة عام. وهو قول فيه الكثير من التكلف، ويتنافى مع لغة العرب - التي جاء بها القرآن - قال الشاعر:
كانوا ثمانين وازدادوا ثمانية
يعني أنهم ثمانية وثمانون؛ ولا يعقل أن يكون مقصد الشاعر: أنهم ثمانون بالحساب الشمسي، وثمانية وثمانون بالحساب القمري والذي أراه - من صريح لفظ القرآن الكريم - أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} ثم بعثهم الله تعالى {وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} وكان ما كان من أمرهم - الذي قصه الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام - ثم أنامهم الله تسع سنين؛ يدل عليه قوله تعالى {وَازْدَادُواْ تِسْعاً} ثم أماتهم بعد ذلك، وتم بناء المسجد فوقهم. وقيل: إنهم أحياء في نومهم حتى ينفخ في الصور؛ والله تعالى أعلم.(1/354)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} وهي صيغة تعجب؛ أي ما أبصره تعالى بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع(1/355)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} التي ذكرها في كتابه الكريم: فقد وعد تعالى بحفظه من التبديل والتغيير، وبالتالي فإن ما فيه من قصص، وعبر، وترغيب، وترهيب، كله حق، وكله واقع لا محالة {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ} غيره {مُلْتَحَداً} ملجأ(1/355)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} احبسها {} صباحاً {وَالْعَشِيِّ} مساء {يُرِيدُونَ} بعبادتهم {وَجْهَهُ} أي لا يريدون بطاعتهم الدنيا - مع حاجتهم إليها - بل يريدون عبادته تعالى ورضاءه {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ} لا تجاوز، ولا تنصرف {عَنْهُمْ} عن هؤلاء الطائعين؛ ولو كانوا من المعدمين {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تصرف وجهك عن الفقراء - الذين لا يجدون ما يأكلون، أو يلبسون، أو يركبون - إلى الأغنياء الذين طعموا أحسن الطعام، ولبسوا فاخر الثياب، وركبوا فاره المركب؛ وجميع ذلك من زينة الحياة الدنيا. أما في الآخرة فقد يعري الكاسي، ويكسي العاري، ويركب الماشي، ويحفي الراكب {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} عقوبة له، وانتقاماً منه؛ لاتباعه هواه، وعصيانه مولاه {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}
مجاوزاً عن الحق، ومسرفاً في العصيان والكفر(1/355)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{وَقُلِ الْحَقُّ} الإسلام والقرآن {مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ} منكم {فَلْيُؤْمِن} باختياره {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} بإرادته؛ فقد خير الله تعالى الإنسان، بين الكفر والإيمان؛ بعد أن بين له عاقبة الإيمان، ومغبة الكفران {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا
[ص:356] وأعددنا {لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي تحيط بهم يوم القيامة إحاطة السرادق بمن فيه من الجموع ويقال للدخان، إذا ارتفع وأحاط بالمكان: سرادق {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} وهو المعدن المذاب، أو القطران، أو عكر الزيت {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} المرتفق: المتكأ، وهو ما يستند إليه بمرفق اليد: كالمخدة، ونحوها. والمعنى: انعدام الراحة فيها. أو هو كل ما ينتفع به، وليس في جهنم ما ينتفع به إطلاقاً؛ وإنما سيقت للمقابلة مع قوله تعالى عن الجنة «وحسنت مرتفقاً» كما سيأتي(1/355)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه {سُنْدُسٍ} ما رق من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه {الأَرَآئِكِ} السرر(1/356)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{وَاضْرِبْ لَهُم} يا محمد {مَّثَلاً} للكافر والمؤمن، أو لمن يعتز بالدنيا ويترك الآخرة وراء ظهره، ومن يرغب في الآخرة ولا يحرص على الدنيا؛ فمثلها كمثل {رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا} وهو المقبل على الدنيا، المنصرف عن الآخرة {جَنَّتَيْنِ} بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} والبستان إذا أحيط بالنخيل: ضم إلى حسن المخبر؛ جمال المنظر (انظر آية 266 من سورة البقرة)(1/356)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أعطت ثمرها كاملاً {وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص من ثمارها شيئاً: أينعت كأحسن ما يكون الينع، وأثمرت كأحسن ما يكون الثمار
{وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} إمعاناً في حسنهما وزيادة في خصوبتهما(1/356)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{وَكَانَ لَهُ} أي لصاحب الجنتين {ثَمَرٌ} مال وافر مثمر؛ مما حازه من جنتيه في سابق أيامه {فَقَالَ لَصَاحِبِهِ} المقبل على الآخرة، المنصرف عن الدنيا {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي وأعظم عشيرة. والنفر: الرهط؛ وهو ما دون العشرة. وترك صاحبه(1/356)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} دخل أحد بستانيه {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر، وعدم الشكر وبالغرور والكبر؛ وحين رأى كثرة ثماره، وجريان أنهاره، وأوحى إليه الشيطان أن توافر المال والماء موجب لتوافر المحصول والثراء و {قَالَ} في نفسه {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ} الجنة(1/356)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كما يزعمون {وَلَئِن} كانت قائمة، و {رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ} عنده {خَيْراً مِّنْهَا} أي خيراً من جنتي هذه {مُنْقَلَباً} مرجعاً وعاقبة؛ وذلك كقول نظائره من الكافرين {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً}(1/356)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المؤمن؛ رداً على ما قاله: كيف تقول ما قلت؟ وكيف تنكر البعث والقيامة؟ {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} أي خلق آدم - وهو أصل البشرية - خلقه الله تعالى {مِن تُرَابٍ ثُمَّ} خلق أبناءه جميعاً {مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} سميعاً، بصيراً، عاقلاً (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/356)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{لَّكِنَّ} أصلها
[ص:357] «لكن أنا» {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي أنا شأني أن أقول: «الله ربي» {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ولا أكفر بنعمته تعالى؛ كما كفرت أنت(1/356)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
{وَلَوْلا} وهلا {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} عند إعجابك بها، وسرورك من منظرها {مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} ولم تقل «ما أظن أن تبيد هذه أبداً» إنك {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} في هذه الدنيا الفانية(1/357)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ} في الآخرة الباقية {خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} التي تعجب بها وتفخر {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً} صواعق {مِنَ السَّمَاءِ} والحسبان أيضاً: العذاب؛ وهو يشمل كل آفة تنزل من السماء؛ فتهلك الزرع {فَتُصْبِحَ} جنتك الزاهية الزاهرة، المثمرة الناضرة {صَعِيداً زَلَقاً} أرضاً جرداء ملساء؛ لا تثبت عليها قدم(1/357)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا} الذي يتوقف عليه إثمارها وازدهارها {غَوْراً} غائراً: أي ذاهباً في الأرض {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} وكيف يطلب مالا وجود له أصلاً؟ وقد حقق الله تعالى ما قاله المؤمن في جنة الكافر: فأنزل الله من السماء ما أتلفها أو نحوها(1/357)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} هو كناية عن إهلاك الثمار عن آخرها {فَأَصْبَحَ} الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} يضرب إحداهما على الأخرى؛ ندماً وتحسراً {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} أي في الجنة: من جهد، ووقت، ومال {وَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} بعد أن علم أن كفره كان سبباً لما حل به من المصائب(1/357)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} فيمنعون عنه ما نزل به، ويحولون دون ما أراده الله تعالى به من خزي وخسران {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً *(1/357)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
هُنَالِكَ} عند حلول انتقام العزيز الجبار {الْوَلاَيَةُ} السلطان، والملك، والقدرة والنصرة {لِلَّهِ الْحَقِّ} لا لغيره أو «هنالك» يوم القيامة؛ عند معاقبة العاصين، وإثابة الطائعين
{هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي خير من يثيب على الإيمان والطاعة {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي عاقبة للمؤمنين(1/357)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{وَاضْرِبْ لَهُم} يا محمد {مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وحسنها وبهجتها؛ مع سرعة زوالها وانقضائها {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} بيسر وسهولة {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي شرب منه، ونما وازدهر بسببه؛ غير أنه ذبل بعد ذلك {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} يابساً متكسراً {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} تنسفه وتطيره(1/357)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فبهما الغنى والسعة، واليسر والعون - في هذه الدنيا المحتقرة - فلا تجعلوا المال مأربكم، والبنين مطلبكم: تجمعون المال وتنسون المآل، وتخصون بنيكم بالخير، وتغفلون الغير؛ مع أن الله تعالى قد وعد منفقاً خَلَفاً، وأوعد ممسكاً تلفاً
[ص:358] {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أعمال الخير والبر {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} وأجراً؛ من الدنيا وما فيها، ومن فيها {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أفضل أملاً من ذي المال والبنين، بغير عمل صالح(1/357)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} في الجو، أو نذهب بها؛ بأن نجعلها هباء منثوراً {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} ظاهرة؛ لا يسترها شيء مما كان عليها؛ من الجبال والأشجار {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي جمعنا الخلائق في المحشر للحساب {فَلَمْ نُغَادِرْ} لم نترك(1/358)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً} أي مصطفين؛ بحيث لا يخفى أحد منهم، أو يستتر بغيره؛ ويقال لهم وقت عرضهم {لَقَدْ} بعثناكم بعد موتكم، وأعدناكم بعد بلاء أجسادكم؛ وها أنتم أولاء {جِئْتُمُونَا} بأجسادكم وأرواحكم {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقد ذكرنا لكم ذلك - على لسان رسلنا - فكذبتم وعصيتم و {زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً}
نحاسبكم فيه(1/358)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} الذي فيه أعمال الخلائق؛ منذ ولادتهم حتى موتهم {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} من أعمال سيئة عملوها، وجرائم بغيضة ارتكبوها {لاَ يُغَادِرُ} لا يترك {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} في الدنيا {حَاضِراً} مثبتاً في الصحف، واضحاً. أو وجدوا جزاء ما عملوا معداً لهم(1/358)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} خرج عن طاعته {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ومن ذرية إبليس اللعين: من يوسوس في الصلاة، ومن يحض على الزنا، ومن يأكل مع من لم يسمالله، ومن يزعج عند المصيبة ويحض على عدم الصبر إلى ما لا نهاية من الإضلال والإفساد {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ألا ترون أنهم ينصبون لكم الأحابيل، ويزينون لكم الأباطيل {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {بَدَلاً} أن يستبدلوا طاعة الله تعالى ورسله؛ بطاعة إبليس وذريته(1/358)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} أي ما أشهدت إبليس وذريته {خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما استعنت بهم {وَلاَ} أشهدتهم {خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي ولم أشهد بعضهم خلق بعض؛ بل خلقت الجميع بإرادتي وقدرتي؛ ولم أستعن بأحد منهم فكيف تطيعونهم وتتبعونهم {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} أي أعواناً أعتضد بهم وأستعين(1/358)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{وَيَوْمَ يَقُولُ} الله تعالى
[ص:359] {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ} الذين أشركتموهم معي في العبادة {فَدَعَوْهُمْ} فنادوهم، أو استغاثوا بهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} وكيف يجيب من لا يجد له مستجيب؟ أو كيف يغيث من ليس له مغيث؟ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} أي بين العابدين والمعبودين {مَّوْبِقاً} مهلكاً؛ وهو جهنم: يهلكون فيها جميعاً. وقيل «موبقاً» حاجزاً بينهم وبين من عبدوا؛ من الملائكة، وعزير، وعيسى؛ إذ أنهم في أعالي الجنات، وعابديهم في أحط الدركات(1/358)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ} تيقنوا وتأكدوا؛ والظن يأتي في القرآن الكريم دائماً بمعنى اليقين؛ ما لم تدل قرينة السياق على خلافه؛ كقوله تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} {مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها وواقعون فيها(1/359)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بيّنا {مِن كُلِّ مَثَلٍ} ضربناه للناس: تقريباً لأفهامهم، وكل عظة تسلك في قلوبهم، وكل حجة تدخل في عقولهم: ليتذكروا، ويتعظوا، وينزجروا، وينيبوا {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي أكثر مراء، وخصومة: لا يرجع عن باطله، ولا يثوب إلى رشده ولعل المراد بالإنسان: الكافر فحسب؛ فقد وصفه الله تعالى بالجدال في غير موضع من كتابه الكريم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ} {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}(1/359)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى} أي أيّ مانع يمنع الناس عن الإيمان؛ بعد نزول القرآن؟ ولا حجة لمن ألحد بزعمه أن الله تعالى منعهم عن الإيمان، وصرفهم عن الإيقان؛ بل وسلك في قلوبهم الكفران؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي إن المانع لهم من الإيمان: بالغ جهلهم، ومزيد حمقهم؛ وطلبهم معاينة الهلاك الذي حل بأمثالهم من الأمم السابقة؛ كقولهم «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} مقابلة وعياناً(1/359)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} من آمن بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من كفر بالنار {لِيُدْحِضُواْ} يبطلوا {وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي} القرآن {وَمَا أُنْذِرُواْ} به من الحساب والعذاب {هُزُواً} سخرية(1/359)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} المنذرة له بسوء المنقلب {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من كفر وعصيان؛ فلم يرجع عن كفره، ولم يتب من عصيانه {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}
أغطية {أَن يَفْقَهُوهُ} أن يفهموا هذا القرآن: عقوبة لهم. قال تعالى: «ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون» جعلنا {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً أن يسمعوه ذلك لأنهم {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} كفراً منهم وعناداً(1/359)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{لَوْ يُؤَاخِذُهُم} الله {بِمَا كَسَبُواْ} عملوا من سيئات {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في الدنيا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} يعذبون فيه: وهو يوم القيامة {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} ملجأ(1/360)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{وَتِلْكَ الْقُرَى} أي أهلها: كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} لما كفروا؛ كما كفر هؤلاء {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} لإهلاكهم {مَّوْعِداً} وهو إقامة الحجة عليهم، واليأس من إيمانهم(1/360)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى} ابن عمران {لِفَتَاهُ} يوشعبن نون؛ وكان تابعاً له يخدمه، ويتلقى منه العلم {لا أَبْرَحُ} أي لا أزال سائراً {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} ملتقى بحر فارس والروم؛ مما يلي المشرق {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} زماناً طويلاً(1/360)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي بين البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} يعني دخل في الماء واستتر به؛ والمراد أن الحوت اتخذ سرباً في البحر لطريقه.
والسرب: الشق الطويل(1/360)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{فَلَمَّا جَاوَزَا} أي جاوز موسى وفتاه ذلك المكان - الذي تسرب فيه الحوت من حيث لا يدريان - وسارا في طريقهما المرسوم، وبلغ منهما الجوع مبلغه؛ وحل وقت الغداء من اليوم الثاني لتسرب الحوت {قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} والغداء: ما يؤكل في الغدوة؛ وهي أول النهار؛ وليس كما يتوهمه الأكثرون من أنه وقت الظهيرة {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} تعباً، ومشقة، وجوعاً(1/360)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
{قَالَ} له فتاه {أَرَأَيْتَ} أي أتذكر {إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ} لنستريح عليها؛ عند مجمع البحرين {فَإِنِّي} عند ذاك {نَسِيتُ الْحُوتَ} أي نسيت أن أتفقده {أَنْ أَذْكُرَهُ} أن أتذكره وأحتفظ به(1/360)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{قَالَ} له موسى {ذَلِكَ} الذي حدث {مَا كُنَّا نَبْغِ} هو الذي كنا نطلبه {فَارْتَدَّا} رجعا {عَلَى آثَارِهِمَا} من حيث جاءا {قَصَصاً} يتتبعان طريقهما الذي أتيا منه(1/360)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{فَوَجَدَا} عند الصخرة: التي استراحا عليها، ونسيا الحوت عندها {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} هو الخضر عليه السلام {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} الرحمة: الوحي، والنبوة؛ يدل عليه قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} وقوله تعالى في نهاية هذه القصة؛ على لسان الخضر عليه السلام {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي إنما فعلت ما فعلت بوحي من الله تعالى. وأكثر المفسرين على أنها - في هذه الآية التي نحن بصددها - الولاية، وكشف الحجب؛ والذي أراه ويقتضيه السياق: أنها النبوة قولاً واحداً: إذ لا يعقل أن يوجد في زمن أي نبي من هو أعلم وأحكم منه: لأن النبي - في كل زمان - خيرة الله تعالى من أهل ذلك الزمان(1/360)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{رَشَداً} أي صواباً استرشد به(1/360)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي على ما لم تعلم حقيقة خبره(1/361)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} عظيماً منكراً(1/361)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{وَلاَ تُرْهِقْنِي} تكلفني {مِنْ أَمْرِي عُسْراً} مشقة؛ بل عاملني بالعفو واليسر(1/361)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} طاهرة، بريئة من الذنب {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} عظيماً منكراً.(1/361)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي قد قام عذرك في مطالبتي بعدم مصاحبتك؛ كما قطعت على نفسي(1/361)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} طلبا منهم أن يطعماهما على سبيل الضيافة
[ص:362] {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} لبخل فاش فيهم. والبخل من أحط الصفات المذمومة؛ خاصة إذا كان بالطعام لقوم جياع قد طلبوه بأنفسهم والبخل: يمحو سائر الحسنات، كما أن السخاء يمحو السيئات} أي جداراً آيلاً للسقوط فبناه. من هنا يعلم أن الإحسان يجب على المحسن؛ لمن أحسن أو أساء، وأنه يبذل من غير مقابل ومن عجب أنا نرى النفوس الشريرة تقابل الإحسان بالإساءة، وتجزي الخير بالشر {قَالَ} موسى للخضر عليهما السلام {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} أي على بناء الجدار {أَجْراً} نطعم به؛ لأنهم أبوا مجاملتنا بقليل الطعام؛ فكيف نجاملهم بهذا العمل الكبير الخطير؟(1/361)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} والمسكين: أحسن حالاً من الفقير؛ لأن الفقير: هو الذي لا يجد القوت، والمسكين: الذي يجد الكفاف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فوصفهم تعالى بالمسكنة؛ مع أنهم يملكون سفينة تؤجر للركوب والحمل؟ وقال قوم بأن المسكين أشد بؤساً من الفقير. والقول الذي قلناه أولى؛ يظاهره المعقول والمنقول؛ وقد كان رسولالله يتعوذ من الفقر، وكان يقول: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» ويستحيل عقلاً أن يتعوذ عليه الصَّلاة والسَّلام من الفقر؛ ثم يسأل ما هو أسوأ حالاً منه. وقد قيده تعالى بقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي ذا فقر {وَكَانَ وَرَآءَهُم} أي في طلبهم. وقيل: «وراءهم» أي أمامهم في سيرهم(1/362)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} إذا عاش وبلغ مبلغ الرجال؛ لأن الله تعالى علم عنه ذلك، وأمرني بما هنالك(1/362)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} من الأبناء الصلحاء {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} أي إيماناً وصلاحاً وتقى {وَأَقْرَبَ رُحْماً}
أي رحمة بوالديه، وبراً بهما فانظر يا رعاكالله، إلى حكمةالله: لقد فرح الأبوان بابنهما حين ولد، وحزنا عليه حين قتل؛ ولو بقي لخسرا بسببه الدنيا والآخرة فارض هداكالله، بقضاءالله؛ فإن قضاءه للمؤمن فيما يكره؛ خير له من قضائه فيما يحب(1/362)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} يؤخذ من هذا: أن صلاح الآباء، ينفع الأبناء؛ حتى قيام الساعة {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} أي رشدهما. وبلوغ الأشد: اكتمال القوة؛ وهو ما بين ثماني عشرة، إلى ثلاثين سنة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وإنما فعلته بوحي من ربي؛ وهذا أيضاً دليل على نبوة الخضر عليه السلام؛ كما قدمنا(1/362)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} قيل: إنه الاسكندر الأكبر الرومي المقدوني. وقيل: إنه غيره. وذهب قوم إلى أنه نبي، أو رجل صالح؛ أرسله الله تعالى لإحداث أحداث كونية، روحية؛ وقد مدحه الله تعالى في القرآن. وسبب تسميته بذي القرنين:
[ص:363] أنه بلغ قطري الأرض؛ من مشرقها إلى مغربها. وقيل: سمي بذلك لأن له ضفيرتان كالقرنين. وقيل: لأنه عاش قرنين من الزمان؛ والله تعالى أعلم وأحكم(1/362)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا له مكانة فيها، وملكناها له، وسهلنا سيره فيها {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أراده {سَبَباً} أي وسيلة توصله إلى ذلك الشيء الذي أراده وقدرنا وقوعه(1/363)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{فَأَتْبَعَ سَبَباً} فسلك طريقاً نحو المغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي ذات حمأة. والحمأة: الطين الأسود المنتن. وقرىء «عين حامية» بمعنى حارة؛ والمراد عين سوداء لا ضوء فيها، وذلك رأي العين. أما الشمس فالثابت أنها أعظم وأكبر من الأرض؛ وقد قدروا أنها أكبر من حجم الأرض بأكثر من مليون وأربعمائة وأربعة آلاف مرة {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} كافرين، جبارين، معتدين {قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ} يؤخذ من هذه الآية أنه كان نبياً يوحى إليه؛ وإن لم يكنه فهو عبد صالح أوحى الله تعالى إليه وحي إلهام {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} هؤلاء القوم؛ على كفرهم وبغيهم وطغيانهم
{وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} بإسداء النصح والإرشاد. وقيل: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} بالقتل والفتك {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} بالأسر حتى المتاب {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} يوم القيامة {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} شديداً: تنكره الطاقة، ولا تحتمله القوة(1/363)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} ب الله تعالى {وَعَمِلَ} عملاً {صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أي الجنة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي لا نأمره إلا بما يسهل عليه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أو سنعلمه ما يقربه إلينا، وييسر له كل صعب(1/363)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} سلك طريقاً آخر - غير الطريق الأول - نحو المشرق(1/363)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي أبنية تسترهم؛ لأن أرضهم لا تحتمل البناء، أو أنهم عرايا؛ لا يلبسون ثياباً تسترهم. قيل: إنهم الزنج {كَذَلِكَ} أي الأمر كما ذكرنا(1/363)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
{وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} أي بما عند ذي القرنين من الجند والآلة، والميرة والذخيرة، وغير ذلك(1/363)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} سلك طريقاً آخر غير الذي سلكه نحو المغرب والمشرق(1/363)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} الجبلين؛ من قبل أرمينية وأذربيجان {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} أي أمام السدين. وقيل: من ورائهما {قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي لا يفهمون ما يقال لهم، ولا يستطيعون أن يفهموا غيرهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «يفقهون»(1/363)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{قَالُواْ} أي قال له الناس الصالحون، القاطنون في هذه الجهات {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قبيلتان اشتهرتا بالفساد والإفساد {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}
قيل: إنهم كانوا من أكلة لحوم البشر. وقيل: إنهم كانوا يفسدون بالقتل، والظلم، والبغي، والفساد {فَهَلْ
[ص:364] نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} جعلا. وفي قراءة «خراجاً»(1/363)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي} أي ما جعلني متمكناً فيه: من القوة، والحيلة، والمال والعتاد {خَيْرٌ} مما تعرضونه عليَّ من الخراج {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي بقوتكم البدنية، ومعونتكم الجسمانية {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} جداراً، وحاجزاً حصيناً(1/364)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وهي القطع الكبيرة من الحديد {حَتَّى إِذَا سَاوَى} بذلك الحديد {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} جانبي الجبلين؛ وسد الفرجة التي بين السدين، والتي يتسرب منها يأجوج ومأجوج إلى الذين لجأوا إلى الإسكندر واستصرخوا به؛ وقد سدها بقطع كبيرة متفرقة من الحديد، ووضع حول القطع ناراً؛ ثم {قَالَ انفُخُواْ} على النار {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي صهر الحديد وجعله كالنار {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} نحاساً مذاباً بين ثنايا قطع الحديد(1/364)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{فَمَا اسْطَاعُواْ} أي فما استطاع يأجوج ومأجوج {أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوا السد؛ لمزيد ارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً} لعظمه وصلابته؛ فلما أتم السد(1/364)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{قَالَ هَذَا} أي القدرة على بناء هذا السد وإتمامه {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} بالعباد والبلاد؛ إذ كف بالسد أذى يأجوج ومأجوج عنهم {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} بالقيامة، وخروجهم قبيلها {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي هدمه وحطمه وأزاله وجعله مستوياً بالأرض(1/364)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم خروجهم {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يختلطون ويضطربون لكثرتهم {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} القرن: ينفخ فيه إسرائيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى {فَجَمَعْنَاهُمْ} أي الخلائق أجمعين، في مكان واحد(1/364)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي عن القرآن؛ فهم عمي لا يهتدون به {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(1/364)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي} من الملائكة، وعيسى، وعزير {مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} يوالونهم بالعبادة؛ مع مساواتهم لهم في الحاجة والعجز {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا وأعددنا {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} النزل: المكان المعد لنزول الضيف وإكرامه، أي أن نهاية إكرامهم أن تكون جهنم نزلاً لهم(1/364)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كتبه {وَلِقَائِهِ} أي وكفروا أيضاً بالبعث والحساب، والثواب والعقاب {فَحَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ} الصالحة، التي عملوها في الدنيا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} ولا لأعمالهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} بل نتركهم في نهاية الذلة، وغاية المهانة؛ غير ما أعددناه لهم من عذاب أليم، وشر مقيم(1/365)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{حِوَلاً} تحولاً(1/365)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ} بمائه الكثير الوفير {مِدَاداً} المداد: الذي يكتب به {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الدالة على عظمته وربوبيته، وعلمه وحكمته {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} فرغ ماؤه في الكتابة {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} تنتهي {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} بمثل البحر {مَدَداً} لنفد أيضاً ذلك المدد، قبل أن تنفد كلمات الله تعالى وهو تصوير لقدرته تعالى، ومزيد سلطانه وليس المراد حقيقة الكلام؛ من مداد وأقلام؛ إذ أن كلماته تعالى - في تكوينها - لا هجائية؛ بل إرادية، فالمخلوقات الربانية؛ والمبدعات الإلهية: إن هي إلا كلمات بليغة؛ ينطق بها لسان الحال، بما هو أفصح من لسان المقال. وإنلله تعالى كتابين دالين على وجوده وشهوده؛ يقوم كلاهما بالهداية إليه، والتعريف به: أحدهما: كتاباً مخلوقاً؛ وهو الكون وما فيه من عجائب تجل عن الحصر، وغرائب تعز عن الوصف. وثانيهما: كتاباً قديماً محدثاً منزلاً وهو القرآن؛ وفيه ما فيه من لآلىء المعاني، وينابيع الحكم، وبليغ الكلم (انظر آية 27 من سورة القمان).(1/365)
سورة مريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/366)
كهيعص (1)
{كهيعص} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/366)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} أي إن في هذه السورة ذكر رحمة ربك لعبده زكريا(1/366)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} سراً: لم يسمعه سوى مولاه(1/366)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ضعف لشيخوختي وكبر سني {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي كنت سعيداً بإجابة دعائي فيما مضى؛ فلا تخيب رجائي فيما يأتي(1/366)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} الذين يلوني في النسب {مِن وَرَآئِي} من بعدي. وخوفه منهم: إهمالهم للدين، وعدم تمسكهم به، وتضييعهم له؛ كما ضيعته بنو إسرائيل في غيبة موسى، وبعد وفاته {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} عقيماً لا تلد؛ لكبر سنها {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} من عندك {وَلِيّاً} يلي أمري من بعدي، ويدعو الناس لمعرفتك وعبادتك(1/366)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي يرث ما أوتيناه من علم، ودين، وحكمة {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضياً عندك في دينه، ومرضياً عند الناس في خلقه(1/366)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي لم نجعل له نظيراً. وقيل: لم نجعل مسمى بيحيى قبله(1/366)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{قَالَ رَبِّ إِنَّي} كيف {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} عقيماً لا تلد {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} من عتا: إذا يبس. أي بلغت نهاية السن. قيل: كان عمره وقتذاك مائة وعشرين سنة.(1/366)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً} علامة على ذلك {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي بأيامها. وقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى بالصوم عن الطعام والكلام، والتفرغ للعبادة؛ ولا يزال - ولن يزال - الصيام والتفرغ للعبادة من موجبات إجابة الدعاء، وتحقق الرجاء(1/367)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}
وهو موضع الصلاة {فَأَوْحَى} أشار وأومأ {إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} انقطعوا لعبادة الله تعالى وذكره {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أوائل النهار وأواخره(1/367)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أي آتيناه الرشاد والسداد؛ اللذين يؤهلانه لأن يحكم بين الناس. قيل: كان وهو ابن ثلاث سنين يدعوه الصبيان للعب معهم؛ فيقول: ما للعب خلقت(1/367)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{وَحَنَاناً} أي وآتيناه {مِّن لَّدُنَّا} حناناً؛ وهو الرأفة، والشفقة، والمحبة {وَزَكَاةً} طهارة، وبركة(1/367)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ابنة عمران {إِذِ انتَبَذَتْ} اعتزلت وانفردت {مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قيل: حاضت؛ فاعتزلت المحراب، وذهبت قبل المشرق(1/367)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم} ناحيتهم {حِجَاباً} ستراً يسترها عن الناس. قيل: لتغتسل من حيضتها {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} هو جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} أي كالبشر. والملائكة: أجسام نورانية؛ تتشكل - بأمر الله تعالى - كيف شاءت {سَوِيّاً} أي مستوي الخلقة؛ فلا هو بالكسيح، ولا الأعمى؛ بل حسن الوجه، مستوي الجسم {قَالَتْ} مريم؛ لما رأته معترضاً طريقها {أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي إن كنت ممن يتقي الله ويخافه، ويخشى غضبه وعذابه: فلا تتعرض لي بسوء {قَالَ} جبريل: لا تخافي يا مريم، ولا تخشى سوءاً {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} إليك {لأًّهَبَ لَكِ} بأمره وقدرته {غُلاَماً زَكِيّاً} طاهراً مباركاً وقرىء «ليهب لك» أي ربك(1/367)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{قَالَتْ إِنِّي} كيف {يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي} أنا عذراء {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}
بتزوج(1/367)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
{وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} زانية(1/368)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وقوله قضاء وأمر. قيل: لما رأى يوسف النجار مظاهر الحمل على مريم - وقد كان لا يشك في طهرها وصلاحها - سألها قائلاً: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت مريم: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم؛ ألم تعلم بأن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع - يوم خلقه ابتداء - من غير بذر؟ والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أولم تعلم أن الله تعالى بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر؛ بعد ما خلق كل واحد منهما وحده؟ أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؛ ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وزوجه من غير أنثى ولا ذكر؟ قال يوسف: بلى ووقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} علامة للناس؛ دالة على قدرتنا، وتصديقاً لرسالته {وَرَحْمَةً مِّنَّا} بهم؛ لأنه أرسل لهدايتهم وإرشادهم(1/368)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{فَحَمَلَتْهُ} حملت بعيسى عليه السلام؛ بعد أن نفخ جبريل في جيب درعها {فَانْتَبَذَتْ} اعتزلت {بِهِ} بحملها {مَكَاناً قَصِيّاً} بعيداً. قيل: كانت مدة الحمل ساعة واحدة(1/368)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{فَأَجَآءَهَا} ألجاها {الْمَخَاضُ} وجع الولادة {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أصلها. قيل: كانت يابسة غير مثمرة {قَالَتْ} حين رأت ما يجر عليها ذلك من الفضيحة {يلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} لا يذكرني أحد بخير أو بشر وهنا ظهرت آية الله تعالى، ونزل عيسى عليه الصلاة والسلام للوجود؛ ليكون شاهداً على قدرته تعالى، هادياً إلى دينه، مبشراً بخاتم رسله(1/368)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{فَنَادَاهَا} عيسى {مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} ففزعت مريم وأجابته: وكيف لا أحزن وأنت معي؟ لا ذات زوج فأقول: من زوجي، ولا مملوكة فأقول: من سيدي فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. وقيل المنادي جبريل عليه الصلاة واسلام
{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} سيداً كريماً. وقيل: نهر ماء؛ كان منقطعاً وأجراه الله تعالى إرهاصاً لولادة عيسى عليه السلام(1/368)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ولو شاء ربك لأنزل الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً. والرطب من أَفضل الأغذية والأدوية للوالدات (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/368)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً} أي فإن رأيت آدمياً {فَقُولِي} لمن ترينه، ويسألك عن هذا الغلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} صمتاً {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} بعد ذلك وكان صومهم عن الطعام والكلام(1/368)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} عجيباً عظيماً؛ وقد أرادوا بذلك الزنا؛
[ص:369] لأن الولد من الزنا: كالشيء المفترى؛ قال تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} أريد به الولد؛ يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه(1/368)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
{يأُخْتَ هَارُونَ} في العفة، والصلاح، والتقى. وكان رجلاً مشهوراً بالدين، مشهوداً له بالطهر، منقطعاً إلى عبادة الله تعالى. وقيل: قصد به هرون أخو موسى عليهما السلام {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} أي ما كان زانياً: فتطلعين مثله {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} زانية(1/369)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي إلى عيسى: أن كلموه هو ولا تكلموني {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} المهد: فراش الطفل. وبينما هم في جدالهم مع مريم؛ إذا بعيسى يرد عليهم(1/369)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الإنجيل، وقال: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} وهو لم يؤته بعد؛ بمعنى سيؤتيني: وذلك لتحقق الإيتاء؛ ولأن الله تعالى قضى أزلاً بنزول الكتاب عليه، واختياره للنبوة {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} أي سيجعلني. وقال بعضهم: إن الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبياً في هذه السن؛ كما علم آدم الأسماء كلها وهو لم يعد طور التكوين بعد(1/369)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} أي القول الحق: إنه عيسى ابن مريم؛ لا ابن الله كما زعم الكافرون؛ {الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} يختلفون(1/369)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} كما يزعمون {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عما يقولون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {إِذَا قَضَى أَمْراً} أراده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} من غير تعب، ولا نصب، ولا مثال سبق(1/369)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} طريق قويم؛ مؤد إلى الجنة(1/369)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي ما أسمعهم، وما أبصرهم في الآخرة؛ رغم تصامهم في الدنيا عن سماع آيات الله تعالى، وتعاميهم عن رؤية الحق، والنظر إلى حجج الله تعالى الدالة على وحدانيته وقدرته؛ ويقولون في الآخرة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}(1/369)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} يوم القيامة: يتحسر فيه الكافر على كفره، والظالم على ظلمه، والمسيء على إساءته، {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} بدخولهم النار {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن ذلك في الدنيا(1/369)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} القرآن {إِبْرَاهِيمَ} جد رسولنا عليهما الصلاة والسلام، ورأس الملة الحنيفية
[ص:370] {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مبالغاً في الصدق(1/369)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ} آزر {يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} من الأصنام؛ وتدع الخالق الرازق، السميع البصير(1/370)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} طريقاً مستوياً مستقيماً؛ موصلاً للسعادة الأبدية.(1/370)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يإِبْرَاهِيمُ} أي أتاركها ومنصرف عنها؟ يقال رغب في الشيء: إذا أراده. ورغب عنه: إذا لم يرده {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي دهراً طويلاً(1/370)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} مكرماً(1/370)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} أي وما تعبدون من الأصنام {مِن} غيره {وَأَدْعُو رَبِّي} أعبده {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي عسى ألا أشقى بعبادة ربي، كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام(1/370)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ} فارقهم، وترك معاشرتهم(1/370)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} النبوة، والمال، والولد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وهو الثناء الطيب، والذكر الحسن من جميع أهل الأديان(1/370)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} خلصه الله تعالى من دنس الشرك(1/371)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أي من جانب الجبل الذي يلي يمين موسى؛ قائلين له «يا موسى إني أنا الله رب العالمين» {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} مناجياً لنا؛ أي مكلماً؛ والمناجاة: المسارّة(1/371)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ} يحثهم عليها. أثنى الله تعالى عليه بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة؛ فيجب على كل مؤمن أن يأمر بهما أهله وأقرباءه، وخلانه، وجيرانه، وأصدقاءه وأحباءه؛ ليفوز بالقرب، من حضرة الرب(1/371)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مبالغاً في الصدق(1/371)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} في الدنيا بتشريفه بالنبوة، وإعزازه بالصدق وقيل: رفع بعد موته إلى السماء، أو إلى الجنة(1/371)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{وَإِسْرَائِيلَ} هو يعقوب عليه السلام {وَاجْتَبَيْنَآ} اخترنا(1/371)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ} هذه الآية من المغيبات التي انفرد بها القرآن الكريم: فها هو ذا الخلف الذي أضاع الصلاة، واتبع الشهوات: تقوم إلى الصلاة فلا ترى سوى مستهزىء بك، ضاحك عليك، ساخر من فعلك وهو يرتكب في نفس الوقت من المناكير والشهوات؛ ما يتعفف عن إتيانه أحط المخلوقات، وأحقر الكائنات؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} عذاباً شديداً، أو يلقون شراً وخيبة؛ وعاقبتهم العذاب الشديد(1/371)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
{إِلاَّ مَن تَابَ} عن إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات {وَآمَنَ} إيماناً صحيحاً {وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} من ثواب أعمالهم(1/371)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه(1/372)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} كما يسمعون في الدنيا. واللغو: فحش القول، والباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي صباحاً ومساءً. والمعنى: أن رزقهم في الجنة دائم أبداً لا ينقطع؛ والجنة ليس فيها نهار وليل؛ بل هي ضوء ونور دائمان(1/372)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{وَمَا نَتَنَزَّلُ} أي ما ننزل {إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} لنا بالنزول، وليس النزول وفقاً لإرادتنا ومشيئتنا. أو لا ننزل إلا حاملين أمر ربك لك. وهذا من قول جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي حين استوحش له، وطلب منه الإكثار من زيارته، أو هو من قول المتقين عند دخولهم الجنة. أي ما ننزل الجنة بعملنا؛ بل بأمر ربنا وفضله(1/372)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} داوم عليها {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} شبيهاً في القدرة، والقوة، والرحمة(1/372)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ} الكافر، المنكر للبعث {مَا مِتُّ لَسَوْفَ} وصار جسمي عظاماً نخرة، ورفاتاً مبعثرة {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} من قبري {حَياً} كما كنت في الدنيا(1/372)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أي نجمعهم يوم القيامة مع الشياطين الذين أطاعوهم، واتبعوا إضلالهم {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} جاثين باركين على الركب؛ وهو نهاية الإذلال(1/372)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} لنخرجن {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أمة وجماعة {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} أي أشد جرأة على الله تعالى، وانتهاكاً لحرماته(1/372)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{أَوْلَى بِهَا} أحق بجهنم {صِلِيّاً} دخولاً(1/372)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} المراد بالورود: الدخول؛ فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً؛ كما كانت على إبراهيم(1/372)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} نتركهم في النار باركين على ركبهم. وقيل: المراد بالورود: دخول الكافر فيها، ومرور المؤمن عليها؛ ليؤمن بالعذاب الأليم: من آمن بالنعيم المقيم(1/373)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن أم أنتم {خَيْرٌ مَّقَاماً} إقامة في الدنيا {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} بمعنى النادي؛ وهو مجتمع القوم: يتحدثون فيه ويتسامرون. أي نحن كنا أحسن حالاً منكم قال تعالى رداً عليهم وعلى أمثالهم(1/373)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أمة من الأمم الماضية {هُمْ أَحْسَنُ} من هؤلاء المكذبين المتعالين {أَثَاثاً} مالاً ومتاعاً {وَرِءْياً} منظراً وهيئة(1/373)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{قُلْ} لهم يا محمد {مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ} منغمساً فيها، مستمرئاً لها. و «الضلالة» الكفر {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ} في كفره، وفي عمره، وفي رزقه، وفي ولده، وفي ماله {مَدّاً} طويلاً في الدنيا؛ يستدرجه به (انظر آية 24 من سورة ص) {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} ما أوعدهم به رسولهم {إِمَّا العَذَابَ} في الدنيا: بالقتل، والأسر، والقحط {وَإِمَّا السَّاعَةَ} القيامة؛ المشتملة على جهنم المعدة لهم {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} أهم أم المؤمنون؟ {وَأَضْعَفُ جُنداً} وجندهم الشياطين، وجند المؤمنين الملائكة المكرمون(1/373)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الطاعات؛ يبقى ثوابها لصاحبها {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} خير مرجعاً وعاقبة(1/373)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} معتمداً على فنه وقوته؛ ولم يعتمد على ربه ومشيئته(1/373)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي هل اطلع على الغيب؛ فعلم أنه سيؤتى المال والولد {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} بأن يؤتيه كل ما يريد(1/373)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{كَلاَّ} أي لن يؤتى المال والولد كما زعم: معانداً ربه. و «كلا» لم تجىء في النصف الأول من القرآن الكريم، وجاءت في ثلاثة وثلاثين موضعاً في النصف الأخير منه؛ وهذه أولاها. وهي تجيء بمعنيين: أحدهما: حقاً؛ ويكون متعلقاً بما بعده. وثانيهما: بمعنى: لا؛ ويكون متعلقاً بما قبله. وقد تحتمل المعنيين معاً في بعض المواضع: كهذا الموضع الذي نحن بصدده؛ فيجوز أن يكون المعنى: لا، لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. ويجوز أن يكون المعنى: حقاً {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} لنعاقبه عليه. والمعنى الأول أوضح، وأجدر بالاتباع. وقال الفراء: «كلا» حرف رد؛ فكأنها نعم، ولا؛ في الاكتفاء، وإن جعلتها صلة لما بعدها: لم تقف عليها؛ كقوله تعالى {كَلاَّ وَالْقَمَرِ} وقال الأكثرون: لا يوقف على «كلا» في جميع القرآن؛ لأنها جواب؛ والفائدة تقع فيما بعدها {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} نزيده عذاباً فوق العذاب(1/373)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي نورثه جزاء ما قاله من الكبر والكفر، أو نسلبه يوم القيامة ما آتيناه في الدنيا من مال وولد {وَيَأْتِينَا
[ص:374] فَرْداً} منفرداً، بغير مال، ولا ولد، ولا معين(1/373)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} يعتزون بهم، ويشفعون لهم عند ربهم(1/374)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{كَلاَّ} لن تتحقق أمانيهم؛ بل {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي ستكفر هذه الآلهة بمن عبدها {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} يوم القيامة؛ إذ يتبرأون منهم ومن عبادتهم(1/374)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} تغريهم إغراء، وتهيجهم تهييجاً؛ لأن الأزيز: شدة الغليان(1/374)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً}
أي نعد لهم ذنوبهم، لنعاقبهم عليها {وَفْداً} جماعة: ركباناً(1/374)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
{وِرْداً} جمع وارد؛ وهو الماشي العطشان، الباحث عن الماء(1/374)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} بطاعته وإيمانه؛ فاستوجب رحمته ونعمته(1/374)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} أي عظيماً منكراً(1/374)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{يَتَفَطَّرْنَ} يتشققن {فَرْداً} منفرداً؛ لا أهل معه، ولا مال، ولا ولد {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} مودة في قلوب العباد: يحبهم الله تعالى، ويحببهم إلى الناس(1/374)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي القرآن بلسانك العربي: لتستطيع تبليغه وتفهيمه {وَتُنْذِرَ} تخوف {قَوْماً لُّدّاً} شديدي الخصومة؛ من اللدد: وهو التخاصم، والجدال بالباطل(1/375)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أمة {هَلْ تُحِسُّ} تجد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} صوتاً؛ ولو خفياً.(1/375)
سورة طه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/375)
طه (1)
{طه} هو اسم من أسمائه. وقيل: بمعنى: يا رجل. وقيل: يا حبيبي؛ بلغة عك. وقيل: هو بمعنى: طأها؛ أي طإ الأرض يا محمد. وقد كان - لكثرة قيامه بالليل - يرفع رجلاً ويحط أخرى(1/375)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي لتتعب نفسك في العبادة، ولتذهبها حسرات إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً(1/375)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين: لأن الديان، يتقدس عن المكان؛ وتعالى المعبود، عن الحدود(1/375)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي يعلم السر، وما هو أخفى منه؛ وهو الذي يخطر بالبال(1/375)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} لفظاً ومعنى (انظر آيتي 180 من سورة الأعراف، و110 من سورة الإسراء)(1/375)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{فَقَالَ لأَهْلِهِ} أي لامرأته؛ وهي ابنة شعيب عليهما السلام {إِنِّي آنَسْتُ} أي أبصرت {نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} القبس: قطعة من النار {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي أناساً يهدونني الطريق(1/376)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
{فَلَمَّآ أَتَاهَا} أي أتى موسى النار {نُودِيَ يمُوسَى *(1/376)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر {طُوًى} اسم للوادي؛ وهو بالشام(1/376)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} من بين سائر خلقي؛ لحمل رسالتي {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي لما أوحي به إليك(1/376)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} فاعلم أنه {لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي} وحدي {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} أي لتذكرني فيها، أو لأذكرك في عليين إذا أقمتها، أو إذا نسيتها وتذكرت فصلِّ؛ قال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ}(1/376)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{إِنَّ السَّاعَةَ}
القيامة {آتِيَةٌ} لا ريب فيها {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي؛ وقد أخفاها الله تعالى عن رسله، وأنبيائه؛ بل عن ملائكته المقربين؛ وفيهم من يقوم بالنفخ في الصور، وطي السماء، وتسيير الجبال، وتسجير البحار، وتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة(1/376)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي لا يصرفنك عن الإيمان بها {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} من الكفرة الفجرة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أطاع نفسه وشيطانه (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {فَتَرْدَى} فتهلك(1/376)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} ضع كفك اليمنى تحت إبطك الأيسر؛ مكان الجناح
[ص:377] {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي بياضاً نورانياً، لا بياضاً مرضياً؛ كبرص ونحوه {آيَةً أُخْرَى} أي معجزة أخرى لك، وآية دالة على نبوتك، والآية الأولى: العصا وانقلابها حية(1/376)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا؛ لتجابه بها فرعون إمام أهل البغي والكفر أي وسعه، ونوره بالإيمان والنبوة(1/377)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
{وَيَسِّرْ لِي} سهل لي {أَمْرِي} الذي كلفتني بالقيام به(1/377)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} أي قوِّ حجتي، وأيدني بالأدلة والبراهين. وقيل: كانت به لثغة من جمرة وضعها في فيه وهو صغير(1/377)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
{وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} الوزير: المؤازر. وسمي الوزير وزيراً: لأنه يؤازر السلطان، ويحمل عنه وزره(1/377)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}: القوة والضعف؛ أي قوِّ به ضعفي. والأزر أيضاً: الظهر(1/377)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى} أي أجيب طلبك الذي سألتنا إياه(1/377)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} قبل هذه: بإنجائك من فتك فرعون بك(1/377)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ} مناماً أو إلهاماً(1/377)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} وهو الصندوق {لِلَّهِ} اقذفي الصندوق في نهر النيل {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ}
هو أمر منه تعالى للنيل بأن يلقي التابوت بموسى على الشاطىء {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي} هو مدعي الألوهية فرعون {وَعَدُوٌّ لَّهُ} عدو لموسى أيضاً؛ لأن من عادى الله تعالى؛ فقد عادى أولياءه؛ ولأن موسى أظهر كفره وكذبه على ملإ من قومه: الذين يؤمنون به ويؤلهونه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} وقد أحبه كل من رآه؛ حتى فرعون - الذي أمر بقتله وقتل أمثاله - أحبه أيضاً {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي لتربى على رعايتي وحفظي لك(1/377)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} كما وعدناها {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ}
[ص:378] {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} (انظر آية 15 من سورة القصص) و «الغم»: القصاص. وقيل: «الغم»: القتل {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاء، واختبرناك اختباراً. أو هو بمعنى: محصناك تمحيصاً؛ لتكون أهلاً لمحبتنا ورسالتنا. من فتن الذهب: إذا امتحنه بالنار، وخلصه من الشوائب {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} على تقدير مني، وموعد(1/377)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} اصطفيتك واخترتك لرسالتي(1/378)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{وَلاَ تَنِيَا} لا تقصرا(1/378)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} لطيفاً. انظر - أيها اللبيب الأريب - كيف يعلم الله تعالى عباده حسن الخلق، وكمال الأدب: يرسل موسى وهرون عليهما السلام - وهما أزكى المقربين، في ذلك الحين - إلى فرعون اللعين - وهو شر الأشرار، وأفجر الفجار - ويقول لهما: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} وانظر الآن حينما يلقاك أحد المتنطعين؛ ويحب أن يتظاهر بأنه أول الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر؛ فيبدأ بنسبة الكفر إليك - وهو إلى الكفر أقرب - ويصفك بأحط الصفات، وأرذل السمات - وهو المبغوض عندالله، المرذول عند الناس - فما ضر هؤلاء لو تخلقوا بأخلاقالله، واتبعوا هداه؛ وقالوا للناس حسناً، ونصحوا عباد الله لوجهالله؛ ولكنهم والعياذ ب الله {يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} تلى قوله تعالى:
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} عند يحيىبن معاذ: فبكى، وقال: هذا رفقك بمن يقول: إنا إله؛ فكيف بمن قال: أنت الإله وهذا رفقك بمن قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فكيف بمن قال: سبحان ربي الأعلى أي أطلقهم من الاستعباد والاسترقاق(1/378)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} أي أعطى كل مخلوق ما يحتاج إليه في أحواله المعيشية، وما يناسبه من الهيئة والانسجام. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون له، يفترقون إليه {ثُمَّ هَدَى} أي بعد أن أعطى كل شيء خلقه: هداه لما يصلحه؛ فترى الإنسان يخرج إلى هذه الدنيا لا يدري من أمورها شيئاً؛ فيلهم العلوم، والمعارف، والفنون، ويدرك من خواص الأشياء وطبائعها الشيء الكثير؛ مما لا يستطيع إدراكه ومعرفة كنهه بقوته الفطرية؛ وإن شئت فتأمل الحاكي «الفوتوغراف» والمذياع «الراديو» والتليفزيون، واللاسلكي، والكهرباء، وما شاكل ذلك من القوى التي ساق الله تعالى معرفتها إلى البشر بطريق المصادفة حيناً، والإلهام أحياناً؛ بل منها ما لا يدرك مداه، ولا تعرف حقيقته؛ حتى لصانعيه ومستخدميه وترى الحيوان الأعجم حين يولد: يعرف أن رجليه معدتان لحمله؛ فيقوم عليها واقفاً، وأن فمه معد للأكل؛ فيتناول به طعامه. ومن عجب أنه يعرف الطريق إلى ثدي أمه بغير مرشد ولا هاد وترى كل مولود يولد؛ إذا لم تربط سرته مات(1/378)
لساعته؛ فمن يربط للوحوش في الفلوات؟ إن الهادي يهديها، والرشيد يرشدها: فتقطع سرة مولودها بأسنانها؛ بعد أن تترك جزءاً كافياً لحفظ حياته. وهكذا الكلاب والهررة وأشباهها. وترى النحلة وقد اهتدت إلى طعامها وشرابها فالتهمت من الزهرة رحيقها، دون أن تتلفها، ومن الثمرة صفوتها دون أن تنقصها، وبعد ذلك تتجه إلى خليتها - من غير أن تضل عنها - فتفرغ فيها العسل؛ بعد أن تعد له أوعيته من الشمع بشكل أنيق، ونظام دقيق وكل ذلك بهداية الهادي القدير جل شأنه، وعز سلطانه
وفوق كل هذا فإن النوع الإنساني يعتبر واحداً بين ملايين الأنواع التي تزخر بها هذه الأرض التي تعتبر من أصغر الكواكب المخلوقةلله تعالى. وبعض هذه الأنواع يعيش معنا فنراه ويرانا، وبعضها ينتشر بيننا فلا نراه؛ لتناهيه في الصغر والدقة، وأنواع أخرى لا يحصيها سوى خالقها: بعضها في أعماق الماء، وبعضها في عنان السماء، وبعضها تحت الثرى، وبعضها فوق الذرى؛ وبعضها في بطون الصخور؛ كل أولئك يسيرها الخالق القدير، وينظمها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
ولا شك أن هناك أنواعاً أخرى - تعد بالملايين - لم ندر من أمرها شيئاً، ولم يصل إلى علمنا بصيص من معرفتها، ولا ندري كيف تحيا، وكيف تعيش.
والنوع الإنساني يعيش بين هذه الملايين كفرد في هذه المجموعة الضخمة من الأحياء
وهذه المخلوقات - التي لا عداد لها - يتنازعها حب البقاء، والتشبث بالحياة؛ شأن بني الإنسان تماماً؛ ولو ترك أحدها على سجيته ونما على طبيعته لضاقت به الأرض بما رحبت، ولما وسعه هذا الكوكب الكبير الصغير.
وكل واحد من هذه المخلوقات - صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها - له رسالة قائم بأدائها؛ رسمها له النافع الضار، اللطيف الخبير وقد لا يدرك الإنسان أهمية هذه الرسالة؛ ولكن الخالق الأعظم يراها لازمة لزوم الماء والهواء؛ ليسير بنا وبغيرنا ركب الحياة.
وهناك نظام دقيق للتوازن الحيوي بين سائر المخلوقات؛ وضعه المبدع الحكيم فلو ترك ذكر واحد وأنثى واحدة من الذباب؛ وعاش نسلهما، وتناسل هذا النسل - لمدة ستة شهور فحسب - لغطى الذباب سطح الكرة الأرضية بعمق سبعة وأربعين قدماً.
وما يقال عن الذباب؛ يقال أيضاً عن الجراد والنمل وغيرهما. فلم نر جحافل الجراد الضخمة، وأسراب(1/379)
النمل العظيمة، أو جيوش الذباب الجرارة، غطت مساحة الكرة الأرضية وزاحمت بني الإنسان في مكانه منها
وذلك لأن الله تعالى قد أعد لكل شيء عدته؛ حتى تتوازن سائر الأحياء بعضها مع البعض؛ دون أن يطغى نوع على الآخر؛ فتفسد بذلك أسباب العمران
ويأتي دور الإنسان - الذي يعتبر نفسه بحق سيداً على المخلوقات الأرضية - فيحاول بشتى الوسائل إبادة كل ما يعترضه من هذه الكائنات؛ فلا يكاد يبيد نوعاً من الأنواع؛ إلا ويفاجأ بأنواع أخرى من سلالته؛ يضيفها الإنسان إلى قائمة ما يصارع؛ حتى تكاثرت عليه الأعداء، وعز الداء. فمن بكتريا وفيروسات، إلى طحالب وفطريات، إلى هوام وحشرات، إلى كواسر وحيوانات، إلى ما لا حد له من المخلوقات؛ التي أخرجها مبدع الأرض والسموات
ولكل نوع من هذه الأنواع أعداء - غير بني الإنسان - خاصة به، أوجدها الله تعالى لتحفظ توازنه، وتحد من تكاثره؛ فللجراد أعداء، وللنمل والذباب والبعوض أعداء، وللجرذان والحيات والعقارب أعداء؛ وإذا لم توجد هذه الأعداء، أو قل شرها: لكان النوع نفسه عدواً لنفسه؛ فإذا تكاثر الجراد مثلاً وزاد عن الحد المرسوم: قل الغذاء؛ فيتصارع النوع فيما بينه، ويقتل بعضه بعضاً؛ بل ويأكل بعضه بعضاً.
وما يقال عن الجراد يقال عن الهوام والحشرات، والبكتيريا والفيروسات.
حتى النباتات: يسري عليها قانون التوازن الذي يسري على سائر المخلوقات: فإذا ناءت بعض الأشجار بحملها: تخلصت من بعض أزهارها وثمارها، وتخففت من ثقلها؛ خشية أن يتلف بعضها البعض، أو تهلك الشجرة نفسها.
وهذا القانون السماوي: ملموس مشاهد في كل الأوقات، وسائر الحالات؛ فتجد مثلاً دودة القطن؛ وقد عاثت به فساداً حتى أهلكته وأتلفته؛ فلم نسمع يوماً ما أن هذا العيث، أو ذلك الفساد؛ كان سبباً في عري الإنسان، ونقصان ما اختصه الله به من نعمة الستر واللباس؛ بل هو في ظاهره فساد وإفساد، وفي باطنه وحقيقته: نظام عجيب، وتوازن دقيق
وهكذا الإنسان: تحل به الرزايا، وتحيط به البلايا؛ وتجتاحه الأوبئة والطواعين، وتنيخ عليه الحروب بكلكلها؛ وهو بين كل ذلك متضجر متململ؛ لا يدري أن جميع ذلك يسير بحكمة الحكيم العليم؛ الذي قدر كل شيء، وأعطى كل شيء حقه وخلقه؛ فتعالى المبدع الحكيم (انظر آية 251 من سورة البقرة)(1/380)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{مَهْداً} فراشاً {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} طرقاً {أَزْوَاجاً} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مختلفة ومتنوعة(1/381)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي إن في جعل الأرض مهاداً، وشق الطرق فيها والعلامات، وإنزال الماء من السماء، وإخراج النبات من الأرض؛ لأكلكم ورعي أنعامكم؛ إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} دالات على وجود الخالق الحكيم المبدع {لأُوْلِي النُّهَى} ذوي العقول(1/381)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
{مِّنْهَا} أي من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} خلقنا أصلكم آدم عليه السلام من تراب {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} عند البعث {تَارَةً} مرة(1/381)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} أي أرينا فرعون {آيَاتِنَا كُلَّهَا} الدالة على صدق موسى، وصحة رسالته {فَكَذَّبَ} بها {وَأَبَى} أن يؤمن {قَالَ} فرعون لموسى {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا}
سمى عدو الله المعجزة سحراً؛ وشتان بين المعجزة والسحر(1/381)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
{مَكَاناً سُوًى} مستوياً؛ ليرانا سائر من يحضرنا؛ ويشهدوا دلائل صدقنا وكذبك وقد توهم عدو الله أنه منتصر على حق موسى بباطله، وعلى آياته بسحره(1/381)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{قَالَ} موسى؛ وهو مطمئن إلى حجته، واثق بمعونة ربه {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} هو يوم العيد؛ لأنهم يتزينون فيه {وَأَن يُحْشَرَ} يجتمع {النَّاسُ ضُحًى} أول النهار؛ وقد اختار موسى هذا اليوم: لتكون فضيحة فرعون أكبر، وخزيه أعظم؛ أمام ملإ كبير من شيعته وعبدته(1/381)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} انصرف وأعرض عن موسى: ليعد عدته، ويأخذ أهبته {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي جمع سحرته الذين ظن أنهم يستطيعون كيد موسى(1/381)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ} أي جعل الله تعالى الويل والعذاب لكم {فَيُسْحِتَكُم} يهلككم(1/381)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال بعض السحرة للبعض الآخر: إن كان موسى ساحراً غلبناه. وإن كان أمره من السماء غلبنا {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} أي تشاوروا في السر متناجين. قال بعضهم: ما هذا بقول ساحر(1/381)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{قَالُواْ} أي قال فرعون وشيعته للسحرة الذين جمعهم، أو قال السحرة لبعضهم {إِنْ هَذَانِ} يقصدون موسى وهرون {لَسَاحِرَانِ} أي ما هذان إلا ساحران {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أي بعبادتكم الحسنة(1/381)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} أي أحكموا أمركم واستعدوا لعدوكم {ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً} مجتمعين متساندين ليحصل لموسى وهرون الرعب، ويدب في نفسيهما الخوف {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} غلب وفاز. فجاءوا صفاً كما أمرهم فرعون، و {قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} سحرك، أو عصاك؛ وذلك لأنهم كانوا قد سمعوا بها(1/381)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً. فألقوا ما معهم من الحبال والعصي
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا} حيات {تَسْعَى} تمشي وتتحرك(1/381)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
{فَأَوْجَسَ} أحس {فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} أي لم يبد عليه الخوف؛ بل كان
[ص:382] إحساساً كامناً في نفسه(1/381)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
{قُلْنَا} لموسى عن طريق الوحي {لاَ تَخَفْ} مما تراه {إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} الغالب الفائز(1/382)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} عصاك {تَلْقَفْ} تبتلع {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} بسحره؛ فألقى موسى عصاه فابتلعت حبالهم وعصيهم وحين رأى السحرة ما حل بسحرهم؛ علموا أن ما صنعه موسى ليس من نوع السحر الذي يمارسونه؛ بل هو من المعجزات الظاهرات؛ التي لا يستطيع مخلوق الإتيان بها، بغير معونة من الخالق(1/382)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} بدافع من إيمانهم واقتناعهم؛ وبدافع خفي من مولاهم وهاديهم وخالقهم؛ ليرى فرعون فساد عمله، وضعف عماله؛ ورفع جل شأنه السحرة من مصاف الكفار الفجار، إلى مصاف المؤمنين الأبرار {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وكفرنا بفرعون(1/382)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{قَالَ} فرعون للسحرة؛ حين رأى هزيمته المنكرة، وأحس بتصدع أركانه، وانهيار بنيانه قال لهم {آمَنتُمْ لَهُ} استفهام؛ أي أآمنتم لموسى {قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} أي إن موسى رئيسكم في السحر، وهو {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} من قبل {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} أي اليد اليمنى، والرجل اليسرى، أو العكس {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ} أنا وموسى، أو أنا ورب موسى {أَشَدُّ عَذَاباً} أي أشد تعذيباً لكم
{وَأَبْقَى} وأدوم(1/382)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك، أو نفضلك {عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} بعد الذي شاهدناه من الحجج الظاهرات؛ الدالات على صدق موسى وكذبك، وقدرة إلهه وعجزك {وَالَّذِي فَطَرَنَا} خلقنا. أي و «لن نؤثرك» أيها الفاسق الكافر على «الذي فطرنا» أو هو قسم أي «لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات» وحق الذي فطرنا {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} فافعل ما أنت فاعل {إِنَّمَا تَقْضِي} قضاءك الظالم في {هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ} الفانية؛ أما الآخرة الباقية فلا سبيل لك عليها؛ وسيقضي لنا الله تعالى فيها بنعيمه الأوفر، ورضوانه الأكبر؛ حيث يقضي عليك بالجحيم والعذاب الأليم(1/382)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ليغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها حال جهلنا وكفرنا، والسحر الذي أكرهتنا على إتيانه(1/382)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
{لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيرتاح {وَلاَ يَحْيَى} حياة تنفعه وتفيده(1/382)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة {وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} تطهر من الشرك والذنوب(1/382)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{أَسْرِ بِعِبَادِي} أي سر بهم ليلاً {فَاضْرِبْ لَهُمْ} بعصاك {فِي الْبَحْرِ} يجعل الله تعالى مكان ضربك بالعصا {يَبَساً} يابساً في وسط الماء؛ تستقر عليه الرجل عند المشي {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} لا تخشى إدراكاً من عدوك(1/382)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} سار في إثرهم في هذا الطريق اليابس؛ الذي جعله الله تعالى آية لموسى، وعذاباً لفرعون {فَغَشِيَهُمْ} أصابهم وغطاهم {مِّنَ الْيَمِّ} البحر {مَا غَشِيَهُمْ} أي
[ص:383] غشيهم الأمر العظيم، والخطر الداهم الذي غشيهم(1/382)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}
هما الترنجبين والسماني. أو هو كل ما يمن به من أطايب الرزق، وما يتسلى به من المأكول والفاكهة؛ وقلنا لهم(1/383)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق الحلال الطيب الذي رزقناكموه (انظر آيتي 172 من البقرة، و58 من الأعراف) {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} لا تكفروا بالنعمة، ولا تدخلوا فيما طعمتم الشبهات {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} سقط في العذاب(1/383)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى} أي إن من شرائط الغفران: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، والاهتداء(1/383)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى} أي أي شيء حملك على أن تسبقهم، وتدعهم عرضة للأهواء وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام أقام هرون على بني إسرائيل؛ على أن يسير بهم في إثره(1/383)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} أي ها هم سائرون خلفي، أو هم منتظرون عودتي إليهم بأوامرك {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} طالباً لمرضاتك، مشتاقاً لملاقاتك(1/383)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
{قَالَ} تعالى {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} اختبرناهم وامتحناهم {مِن بَعْدِكَ} بعد فراقك لهم {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} هو موسىبن ظفر: كان منافقاً؛ وقد أضلهم بدعوتهم إلى عبادة العجل(1/383)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي حزيناً؛ والأسف: الحزن، والغضب. قال تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أي أغضبونا(1/383)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} بقدرتنا، أو بأمرنا {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} أي أثقالاً من الذهب والفضة {فَقَذَفْنَاهَا} طرحناها في النار {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} الحلي التي معه؛ كما ألقينا(1/383)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً} أي صنع لهم السامري عجلاً من ذهب {لَّهُ خُوَارٌ}
صوت كصوت البقر. قيل: صنع به ثقوباً وفتحات؛ إذا دخلها الهواء صار له صوت كالخوار. وقيل: دبت في العجل الحياة؛ بسبب قبضة التراب التي أخذها السامري من أثر جبريل عليه الصلاة والسلام وألقاها على العجل الذهبي {فَقَالُواْ} أي السامري وأصحابه لقوم موسى {فَنَسِيَ} أي فنسي السامري ما كان عليه من إظهار الإيمان. أو المراد: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى؛ فنسيه موسى هنا، وذهب يطلبه عند الطور، أو نسي أن يخبركم به(1/383)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{أَفَلاَ يَرَوْنَ} عبدة هذا العجل {أَلاَّ يَرْجِعُ} أنه لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلاً} لا يرد عليهم جواباً(1/383)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي ابتليتم وأضللتم بالعجل(1/383)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ} أي لن نزال {عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فلما رجع موسى، ورأى ما حل بهم: اتجه إلى أخيه هرون؛ الذي استخلفه عليهم حال غيبته؛ و(1/383)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
{قَالَ} له {يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} عن سبيل الله، وعبدوا ما لا يعبد(1/383)
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} أي أن تتبعني، و «لا» زائدة؛ مثل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} والمراد بالاتباع: اتباع سنته وطريقته؛ في محاربتهم والإنكار عليهم، أو المراد: تركه لهم في ضلالهم واتباع موسى(1/384)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{قَالَ يابْنَأُمِّ} لما رأى هرون ثورة موسى، وشدة غضبه، ومزيد تأسفه على ما حدث: ذكره بمركز الحنان، ومنبع الشفقة، وأساس الحب؛ قائلاً «يا ابن أم» لا تغضب عليّ، و {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} فإني لم أخطىء، ولم أقصد بما فعلت سوى الخير والصواب {إِنِّي خَشِيتُ} إن اتبعتك بمن أقام على الإيمان ولم يعبد العجل، أو حاربت المشركين بالمؤمنين {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} وجعلتهم أعداء وشيعاً {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
لم تحفظ وصيتي، ولم تنتظر أمري. وقد قال له عند ذهابه لموعد ربه {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} وعندئذٍ {سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} والتفت إلى موسى السامري(1/384)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَامِرِيُّ} أي ما شأنك؟ وما حقيقة أمرك؟(1/384)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي رأيت ما لم يروه. قيل: رأى جبريل عليه الصلاة والسلام على فرسه؛ فزينت له نفسه أن يأخذ من أثره؛ وهو معنى قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} قيل: أخذ قبضة من التراب الذي تحت حافر فرسه {فَنَبَذْتُهَا} ألقيتها على العجل المصاغ من ذهب {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ} زينت {لِي نَفْسِي} فتحول غضب موسى عن هرون البريء؛ إلى المجرم موسى السامري(1/384)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{قَالَ فَاذْهَبْ} من أمامي، ولا تريني وجهك {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي إنه أصيب - بدعاء موسى عليه: عقوبة له - بأمراض خبيثة فتاكة معدية؛ جعلت الناس تهرب من مسه؛ فإذا مسه إنسان: حم، وأصيب بالأمراض التي ابتلى بها. وقيل: إنه جن وجعل ينادي ويقول: لا مساس، لا مساس. وقيل: أمر موسى بني إسرائيل بمقاطعته: فلا يكلمه منهم إنسان، ولا يعامله، ولا يقربه {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} للعذاب الأليم {لَّن تُخْلَفَهُ} يوم القيامة {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} العجل {الَّذِي ظَلْتَ} ظللت وداومت {عَلَيْهِ عَاكِفاً} على عبادته مقيماً {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} لنذيبنه بالنار {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ} البحر(1/384)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ} الحق: هو {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسع علمه كل شيء {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}(1/384)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
{كَذلِكَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد من نبإ موسى وفرعون {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأمم {وَقَدْ آتَيْنَاكَ} أعطيناك وأنزلنا عليك {مِن لَّدُنَّا} من عندنا {ذِكْراً} قرآناً(1/384)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن هذا القرآن؛ فلم يؤمن به {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} إثماً عظيماً، وحملاً ثقيلاً(1/384)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}
[ص:385] القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر ربه {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} أي سوداً. وقيل: عمياً. وليس بمستبعد أن يكون ذلك كما تفعله العامة والسوقة من تلطيخ وجوههم بالصبغ الأزرق عند حلول المصائب، وتوالي الكوارث، وأي كارثة أعم من ورودهم النار؟ وأي مصيبة أطم من غضب الملك الجبار؟ أما ما ورد من أن الزرقة تكون في عيونهم؛ فيأباه وصف ما هم فيه من خزي وعار وذلة وعذاب وقبح؛ فقد تكون زرقة العيون مدحاً لا قدحاً؛ فكيف يوصف بها أقبح الناس حالاً ومآلاً؟(1/384)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{يَتَخَافَتُونَ} يتهامسون {ق} قائلين لبعضهم {إِن لَّبِثْتُمْ} ما لبثتم في الدنيا، أو ما لبثتم في القبور {إِلاَّ عَشْراً} من الليالي بأيامها. وذلك أنهم لهول ما يرون في القيامة: يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا سوى عشراً وقولهم: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} لم يكن صادراً عن جنون منهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعقلهم وأذكاهم، وأذكرهم وأفهمهم؛ يقول - لشدة ما يرى، وهول ما يكابد ويعاين ـ(1/385)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{إِن لَّبِثْتُمْ} في الدنيا {إِلاَّ يَوْماً} واحداً؛ يستقلون أيام الدنيا - على ما نالوا فيها من شهوات وملذات - وقد فعلوا فيها ما فعلوا، وارتكبوا فيها ما ارتكبوا؛ مما أوردهم هذا المورد، وأوقفهم هذا الموقف(1/385)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{قَاعاً} منبسطاً {صَفْصَفاً} مستوياً(1/385)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{وَلا أَمْتاً} أي ولا ارتفاعاً(1/385)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} الملك الذي يدعوهم إلى المحشر: هلموا إلى عرض الرحمن فهم اليوم يتبعون مكرهين داعي الرحمن للعذاب، وبالأمس لم يستجيبوا لداعي النجاة والثواب {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي لا مناص من إجابة الداعي واتباعه، أو «لا عوج» لدعائه(1/385)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع: من النبيين، والملائكة، والصالحين. وقيل: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع فيه. (انظر آية 255 من سورة البقرة)(1/385)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما يؤول إليه حالهم وأمرهم في الآخرة {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا(1/385)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
{وَعَنَتِ} خضعت وذلت {الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه الاسم الأعظم {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} من ارتكب إثماً(1/385)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{وَلاَ هَضْماً} ولا جوراً(1/385)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} القرآن {ذِكْراً} تذكيراً بما حدث للسابقين من المكذبين(1/385)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} أي بقراءته {مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من إبلاغه إليك(1/385)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ} أوحينا إليه، وأوصيناه ألا يأكل من الشجرة {فَنَسِيَ} وأكل منها {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} صبراً وحزماً، وثباتاً على التزام الأمر(1/385)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا} أي لا تستمعا إليه؛ فيخرجنكما من الجنة بسبب وسوسته(1/385)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
{وَلاَ تَضْحَى} أي ولا تتعرض فيها لحر الشمس {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}(1/386)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
{شَجَرَةِ الْخُلْدِ} التي من أكل منها: يخلد ولا يموت {وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} لا يفنى(1/386)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{فَأَكَلاَ مِنْهَا} أي من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن قربها {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان كشفه {وَطَفِقَا} وجعلا {يَخْصِفَانِ} يلزقان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل: هو ورق التين {وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي ضل عن الرأي وجهل. وقيل: أخطأ. وليس المراد العصيان والغيّ بمعناهما المتعارف؛ بدليل قوله تعالى في آية سابقة {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} وبالجملة فإن الله تعالى يصح أن يوجه لأوليائه، وأنبيائه وأصفيائه؛ ما لا يصح أن نوجهه نحن لهم؛ كما أن الملك يخاطب وزراءه بلهجة الآمر، والزاجر؛ وهو ما لا يجوز أن يخاطبهم به سائر أفراد الرعية؛ وليس لكائن من كان أن يقول: إن آدم عاص، أو غاو؛ فمثل هذا القول كفر، أو هو بالكفر أشبه(1/386)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اختاره {فَتَابَ عَلَيْهِ} غفر له {وَهَدَى} هداه إلى الطريق الموصل إليه (انظر آية 23 من سورة الأعراف)(1/386)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا} أي من الجنة {جَمِيعاً} أنت وحواء، وما اشتملتما عليه من الذرية، أو «اهبطا» أنت وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي بعض ذريتكم، للبعض الآخر عدو، أو «بعضكم» إبليس وذريته «لبعض» أنت وذريتك {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} فإن يأتكم {مِّنِّي هُدًى} كتاب، وشريعة {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ}
في الدنيا {وَلاَ يَشْقَى} في الآخرة؛ وهو جزاء من الله، لمن اتبع هداه(1/386)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} كتبي المنزلة {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} شديدة، ولو كان في يسر، ضيقة ولو كان في وسع وذلك لأن الله تعالى جعل مع الإيمان: القناعة، والتسليم، والاطمئنان، والرضا، والتوكل؛ فالمؤمن مسرور دائماً في سائر حالاته، راض عن مولاه، مطمئن لعاقبته: عيشه رغيد؛ ولو لم ينل سوى الخبز قفاراً، وقلبه سعيد؛ ولو انسابت عليه الهموم أنهاراً ويصدق عليه دائماً قول ربه تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} كما جعل تعالى مع الكفر والإعراض عنالله: الحرص، والشح، وعدم الرضا، وانشغال البال، والطمع، والجشع؛ فالكافر دائماً طالب الزيادة؛ ولو أوتي مال قارون، قابض اليد؛ ولو انصب عليه المال انصباباً، كاره لمن حوله؛ ولو بذلوا النفوس في طاعته؛ فعيشه ضنك شديد، وحياته كرب دائم، وحزن قائم؛ وحق عليه قول ربه جل شأنه: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} وقيل المعيشة الضنك: عذاب القبر. وقيل: هي جهنم؛ ويدفع هذا المعنى قوله تعالى:(1/386)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} مما يدل على أن ما تقدم يكون
[ص:387] في الدنيا أو في القبر؛ أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه ورحمته {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} عن الحجة، أو أعمى البصر: تتقاذفه الأرجل في المحشر {وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أي تنسى من النعيم والرحمة؛ كما نسيت آياتنا، وتركت العمل بها {وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أشرك، أو جاوز الحد في العصيان(1/386)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي أفلم يتبين لهم، أو أفلم يرشدهم ويدلهم إهلاك من مضى قبلهم من القرون؛ وقد رأوا مساكنهم ومشوا فيها: فيهتدوا إلى طريق الحق والصدق؛ بأن يؤمنوا ب الله ورسوله. وقيل: «أفلم يهد لهم» أي الله تعالى؛ يدل عليه قراءة بعضهم «أفلم نهد لهم» {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور، أو ذلك المشي في مساكن الأمم السابقة المكذبة؛ ورؤية ما حل بها من هلاك وتدمير إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} لعبراً وتذكيراً {لأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول(1/387)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب عن المكذبين من أمتك إلى يوم القيامة {لَكَانَ لِزَاماً} أي لكان العذاب لازماً، ولزاماً عليهم؛ وقت ارتكابهم الآثام في الدنيا(1/387)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى الصلوات الخمس: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ} ساعاته {فَسَبِّحْ} فصلّ.
والمراد بها صلاتا المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس والزوال: طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني من النهار. وقيل: المراد بالآية: صلاة التطوع. والذي أراه: أنه ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وتمجيده في كل وقت وحين: قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وآناء الليل، وأطراف النهار؛ فقد اشتملت هذه الأوقات سائر النهار والليل {لَعَلَّكَ} بمواظبتك على العبادة، وتمسكك بمرضاة الله تعالى {تَرْضَى} أي يثيبك الله تعالى حتى ترضى. وقرىء «لعلك ترضى» بضم التاء؛ أو لعلك تعطى ما يرضيك(1/387)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أصنافاً من الكفار {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} زينتها بالنبات والأقوات، والثمار والأشجار {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لا تطل النظر والتفكر إلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار بأنهم لا يستحقونه؛ فإنه فتنة لهم؛ ليحق عليهم العذاب {وَرِزْقُ رَبِّكَ} نعيمه في الآخرة {خَيْرٌ} مما تراه في الدنيا {وَأَبْقَى} لأنه دائم لا يفنى(1/387)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي داوم على أدائها، والأمر بها(1/387)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
{وَقَالُواْ} أي قال المشركون {لَوْلا} هلا {يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} معجزة مما يقترحونه. قال تعالى؛ رداً على قولهم {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ} في هذا القرآن {بَيِّنَةُ} بيان {مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} كالإنجيل، والتوراة، والزبور، وغيرها؛ مما أنزله الله تعالى. وبيان ما في هذه
[ص:388] الصحف: أنباء الرسل وأنباء الأمم المتقدمة، وما حل بالمكذبين منها. أي ألم يكفهم هذا معجزة لمحمد؟ وهو النبي الأمي، الذي لم يخط حرفاً، ولم يقرأ كتاباً(1/387)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ} أي أهلكنا هؤلاء السائلين، المقترحين للآيات {بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل أن نرسل إليهم رسولنا محمداً {لَقَالُواْ} محتجين على هذا الإهلاك {رَبَّنَا لَوْلا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} يهدينا إليك، ويعرفنا بك، ويوصلنا إلى طريقك {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} التي تنزلها علينا {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} في القيامة {وَنَخْزَى} في جهنم(1/388)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{قُلْ كُلٌّ} منا ومنكم {مُّتَرَبِّصٌ} منتظر ما يؤول إليه الأمر {الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} الطريق المستقيم من الضلالة؛ نحن أم أنتم؟(1/388)
سورة الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/388)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي اقتربت القيامة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن هذا: سائرون في غيهم، سادرون في بغيهم {مُّعْرِضُونَ} عن ربهم(1/388)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ} قرآن {مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} جديد في سماعه، وفي نطقه، وفي كتابته، وفي حفظه. أما القرآن - بصفته كلام الرحمن - فهو صفة قائمة بذات منزله وقائله تعالى قال البوصيري رحمه الله تعالى في بردته:
آيات حق من الرحمن محدثة
قديمة صفة الموصوف بالقدم(1/388)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} غافلة عن معناه {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي تكلم الكفار فيما بينهم متناجين سراً؛ قائلين {هَلْ هَذَآ} يعنون محمداً {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي أتتبعون السحر الذي يأتي به؟(1/388)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{بَلْ قَالُواْ} على الوحي الذي أوحينا به لمحمد {أَضْغَاثُ} أخلاط {أَحْلاَمٍ} أي رؤيا مختلطة لا تعبر لكونها نتجت من فساد المعدة، وأبخرة الطعام. وقالوا أيضاً {بَلِ افْتَرَاهُ} أي اختلق القرآن واخترعه. وقالوا أيضاً: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يقول القرآن من بديهته؛ كما تقول الشعراء الشعر من بدائههم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} معجزة {كَمَآ أُرْسِلَ} الرسل {الأَوَّلُونَ} كموسى وعيسى وغيرهما؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله:(1/388)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} كقوم صالح، وقوم موسى؛ فإنهم لم يؤمنوا رغم المعجزات والآيات؛ فعاقبناهم بالإهلاك {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي أفيؤمن قومك؟(1/389)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} مثلك {نُّوحِي إِلَيْهِمْ} مثل ما أوحينا إليك؛ وهذا رد على قولهم «هل هذا إلا بشر مثلكم» {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا(1/389)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} أي وما جعلنا الأنبياء {جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} بل إنهم بشر أمثالكم: يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} في الدنيا؛ بل يموتون كسائر البشر(1/389)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} الذي وعدناهم بإنجائهم، وإهلاك المكذبين {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} من عبادنا المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ} المتجاوزين الحد بالكفر والتكذيب، وارتكاب المعاصي(1/389)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً} هو القرآن الكريم {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي شرفكم وعلوكم؛ وذلك كقوله جل شأنه «وإنه لذكر لك ولقومك»(1/389)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
{وَكَمْ قَصَمْنَا} أهلكنا. والقصم: الكسر(1/389)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} شعروا بنزول عذابنا {إِذَا هُمْ مِّنْهَا} أي من القرية النازل بها العذاب {يَرْكُضُونَ} يهربون مسرعين {وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ} أي(1/389)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
«لا تركضوا» وارجعوا إلى نعيمكم الذي كنتم فيه {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعله أن يطلب منكم الإيمان ثانية. وهو توبيخ وتقريع لهم(1/389)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} أي كالزرع المحصود {خَامِدِينَ} ميتين؛ وهو من خمود النار: أي انطفائها(1/389)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{مِّن لَّدُنَّآ} من عندنا(1/390)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{فَيَدْمَغُهُ} فيذهبه {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} مضمحل ذاهب {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} العذاب {مِمَّا تَصِفُونَ} به الله تعالى؛ من الزوجة، أو الولد، أو الشريك(1/390)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{وَمَنْ عِندَهُ} من الملائكة {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لا يتعبون، ولا يعيون(1/390)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} أي إن تسبيحهم متصل دائم؛ لا تتخلله فترة، ولا يشوبه ملل. والفتور: السكون بعد الجدة، واللين بعد الشدة(1/390)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{يُنشِرُونَ} يحيون الموتى(1/390)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ} تقدس وتنزه من أن يكون له شريك(1/390)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، ومدبره وقد جرت العادة أن يسأل الكبير الصغير؛ ولا أكبر من الله والجليل الذليل؛ ولا أجلَّ منه تعالى {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنهم محط الأخطاء، ومناط التكاليف فلا حجة لأحد على الله، وله تعالى الحجة القائمة على كل أحد {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (انظر آية 149 من سورة الأنعام)(1/390)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{هَذَا} القرآن {ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} أي إن القرآن ذكر أمتي، وسبيلها إلى التوحيد {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الأمم السابقة؛ وفي هذا أن القرآن الكريم فيه ما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة؛ مما يحتاجه المرسل إليهم لهدايتهم، والتعرف إلى ربهم؛ وليس في القرآن، ولا في أحد هذه الكتب تعدد الآلهة؛ بل كلها يجمع على أنه لا إله إلا الله وحده، لا إله غيره، وأنه فرد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد فمن أين جاءهم ما يقولونه، وما يزعمونه(1/390)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ} من الملائكة {وَلَداً} بقولهم: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له، وتقديساً عن اتخاذ الولد {بَلِ} الملائكة {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} مطيعون له عابدون(1/390)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
{لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الذي يريدونه؛ بل هم {بِأَمْرِهِ} الذي يريده {يَعْمَلُونَ} لا يعملون سواه(1/391)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما سيحدث منهم ولهم {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما مضى من أمرهم وأعمالهم {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} خائفون(1/391)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} سداً ملتئمتين {فَفَتَقْنَاهُمَا} شققنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله تعالى: {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أو شق السماء والأرض فجعل كلاً منهما سبعاً، وزعم بعض الفلاسفة: أن قطعة انفصلت من الشمس - بعوامل طبيعية - فكانت أرضنا هذه؛ وهو قول لا دليل عليه غير ما زعموا؛ ومن عجب أن شايعهم بعض المحدثين في هذه القالة؛ التي ما أريد بها غير نفي وجود الله تعالى وقدرته على صنع هذه الأرض؛ وأنها لم تكن إلا بمحض الصدفة؛ كما أن الإنسان أيضاً كان بمحض الصدفة والتطور. وهو قول خبيث، له خبىء؛ ما أريد به وجه العلم؛ بل أريد به نشر الكفر، وفشو الإلحاد؛ فاحذر - هديت وكفيت - دس الملحدين ووسوسة الشياطين {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ} أي بواسطته وسببه {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} جماداً كان أو نباتاً، حيواناً أو إنساناً(1/391)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي خشية أن تميل الأرض وتتحرك بمن عليها {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً} مسالك {سُبُلاً} طرقاً(1/391)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً}
من الوقوع، ومن عبث الشياطين {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} أي آيات السماء وما فيها من شموس ومجرات، وكواكب وأنجم، وبروج ومنازل(1/391)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ} لتسكنوا فيه {وَالنَّهَارَ} لتعملوا فيه، وتبتغوا من فضله خلق {الشَّمْسَ} سراجاً وهاجاً، لمنفعة الإنسان والحيوان، والثمار والنبات خلق {الْقَمَرُ} نوراً وضياء؛ ليهتدي به الناس إلى حساب الأشهر والسنين {كُلٌّ} منها {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرون في الهواء؛ كالسابح في الماء(1/391)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{وَنَبْلُوكُم} نختبركم {بِالشَّرِّ} الفقر، والمرض، والبؤس {وَالْخَيْرِ} الغنى، والصحة، والسعادة. وهذا الابتلاء بالشر والخير {فِتْنَةً} لكم؛ لننظر أتصبرون على الشر، وتشكرون على الخير؛ أم تكفرون في أحدهما أو كليهما
[ص:392] {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فنأجركم على الشكر والصبر، ونؤاخذكم على اليأس والكفر(1/391)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي قالوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} يتعجبون من ذكرك لآلهتهم بالسوء؛ وهي لا تعقل، ولا تنفع، ولا تضر؛ ويكفرون بالرحمن - عند ذكره - وهو الخالق الرازق، النافع الضار، السميع العليم(1/392)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي إن الإنسان لكثرة تعجله؛ كأنه خلق من عجل. وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام؛ وأنه أراد أن يثب قبل أن تبلغ الروح رجليه: تعجلاً إلى ثمار الجنة. وقيل: «خلق الإنسان من عجل» أي من تعجيل في خلق الله تعالى إياه. والمراد بذلك: أن هذا الإنسان العجيب الخلقة، المحكم الصنع: لم يحتج إلى وقت في خلقته وصنعه؛ بل خلقه الله تعالى على عجل: بغير روية، ولا مثال {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} الدالة على قدرتي ووحدانيتي {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بإنزال العذاب الموعود(1/392)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالقيامة والثواب والعقاب(1/392)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
{حِينَ لاَ يَكُفُّونَ} وقت لا يمنعون ويدفعون(1/392)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{بَلْ تَأْتِيهِم} الساعة {بَغْتَةً} فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} تدهشهم وتحيرهم {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون(1/392)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{فَحَاقَ} فنزل {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي جزاءه وعقابه(1/392)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} يحفظكم {مِّنَ الرَّحْمَنِ} من عذابه وبطشه إن أراد تعذيبكم والبطش بكم {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} يجارون؛ كما يجير الصاحب صاحبه(1/392)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ} المكذبين لك متعنا {آبَآءَهُمُ} بما أسبغناه عليهم من سعة ورزق وفير
[ص:393] {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} في النعمة؛ وظنوا أنهم جديرون بها، وأنها لا تزول عنهم؛ فاغتروا بذلك، وانصرفوا عن الإيمان، وأعرضوا عن تدبر الحجج والآيات {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} أي أرض الكفار {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} بتمليك المسلمين لها {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم أنت؛ وقد أظهرك الله تعالى عليهم، وأعزك وأذلهم(1/392)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} الذي هو من قبل الله تعالى؛ لا من قبل نفسي {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} شبههم في عدم استماعهم للنصح: بالصم الذين لا يسمعون أصلاً، ولا يستجيبون للنذر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ}(1/393)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ} النفحة: القدر الضئيل؛ كنفحة العطر، أو كما ينفح إنسان إنساناً بقدر من ماله(1/393)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أي الموازين العدل. وقد ذهب الأكثرون إلى أن لكل عبد ميزاناً توزن به أعماله، أو هو ميزان واحد لسائر الخلائق. والذي يبدو أنه ليس ثمة ميزان؛ وإنما أريد بالميزان: العدل. يؤيده لفظ الآية، وقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي إن كان العمل وزن حبة من خردل أتينا بها وحاسبنا عليها. وحبة الخردل: مثل يضرب للقلة: لصغر هذه الحبة وخفة وزنها(1/393)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} التوراة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام؛ وسمي القرآن فرقاناً لذلك. وقد يكون «الفرقان» بمعنى النصر على الأعداء؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يعني يوم بدر؛ فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى وهرون النصر على الأعداء، وتكون التوراة هي المعنية بقوله تعالى: {وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً} بغير واو؛ وهي قراءة مخالفة للمصحف الإمام(1/393)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} فيما بينهم وبين أنفسهم؛ لأنهم يعلمون تمام العلم بأنه تعالى مطلع على خوافيهم؛ كاطلاعه على ظواهرهم {مُشْفِقُونَ} خائفون(1/393)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} هو القرآن الكريم(1/393)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} هداه وتوفيقه(1/393)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الأصنام {الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} على عبادتها مواظبون
[ص:394] {فطَرَهُنَّ} خلقهن(1/393)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{وَتَاللَّهِ} قسم {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أحطمها؛ قال ذلك في نفسه - بعد مجادلة قومه - وقد حطمها فعلاً(1/394)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} مكسرين فتاتاً {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي صنماً كبيراً(1/394)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي على مرأى منهم(1/394)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وأشار إلى الصنم الكبير الذي تركه من غير تحطيم. وقيل: إنه كنى بأصبعه {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم مبلغ حمقهم وجهلهم، وأنهم يعبدون ما لا ينطقون: يعبدون من هو أقل من عابديه درجات؛ فتبارك القائل {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}(1/394)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
{فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي فكروا تفكير الراجع عن رأيه، المتبصر في حجة خصمه، المؤيد لها {فَقَالُواْ} لأنفسهم {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} بعبادتكم الأصنام؛ لا إبراهيم الذي حطمها(1/394)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي انقلبوا وعادوا إلى كفرهم؛ بعد ومضة الإيمان التي أظهرها الله تعالى لهم، وسلكها في قلوبهم: فبعد أن رجعوا إلى أنفسهم {فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} تغلبت أنفسهم الشريرة عليهم، وسيطر عليهم إبليس بتزيينه؛ وقالوا لإبراهيم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ} الأصنام {يِنْطِقُونَ} ونسوا أنهم بوصفهم هذا لآلهتهم: نزلوا بها إلى مرتبة أدنى من مراتبهم؛ بل أدنى من مرتبة العجماوات؛ وذلك لأن البهائم تنطق؛ وهؤلاء لا ينطقون. والبهائم تنفع وتضر؛ وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون(1/394)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} بل لا يستطيع نفع نفسه، ولا دفع الضر عنها: فقد استطاع إبراهيم بيده أن يوصل الضرر لسائرهم. وجعلهم جذاذاً(1/394)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{أُفٍّ لَّكُمْ} أي قبحاً لكم؛ وهي كلمة تضجر وتكره(1/395)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ} بعد أن أقام عليهم الدليل القاطع، والبرهان الساطع؛ على فساد عباداتهم، وسخف معتقداتهم؛ يقولون هذا القول ولا بدع فالنار مثوى لهم وقد أوقدوا ناراً عظيمة؛ بلغ من عنفها وشدتها أن أحرقت الطير في جو السماء؛ ووضعوا إبراهيم في منجنيق، وقذفوا به وسط هذه النار؛ التي تذيب صلد الأحجار؛ وهنا تتجلى قدرة الجبار، ويثبت أنه وحده النافع الضار هنا يقيم القهار الدليل على وجوده لأعدائه، وعلى حفظه وكلاءته لأوليائه: فيقلب طبائع الأشياء، ويخص ما شاء بما شاء؛ كيف لا وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد(1/395)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{قُلْنَا ينَارُ} يا من طبعتك على الإحراق {كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى} عبدي ورسولي {إِبْرَاهِيمُ} وأبدى القوي المتين: سره المكنون؛ وأن أمره بين الكاف والنون: فصارت النار المحرقة، كالرياض المونقة(1/395)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} إيذاء بإحراقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} في الدنيا والآخرة. قيل: سلط الله تعالى عليهم البعوض فأهلكهم، وشرب دماءهم، ودخلت واحدة منه في منخر رئيسهم النمرود: فصار يضرب رأسه بالحائط، ويأمر رعيته بضرب رأسه؛ حتى ينزف دماً؛ فلا يستريح، ولا يقر له قرار؛ حتى هلك بعد أن أذاقه الله تعالى الهوان والعذاب الأليم(1/395)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وهي الشام؛ وقد باركها الله تعالى بنزول أكثر الأنبياء بها، وبكثرة الأنهار، والأشجار، والثمار(1/395)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة على ما سأل: لأنه سأل ولداً، فأُعطي اثنين(1/395)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} هو إتيان الذكران(1/395)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} دعا بقوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه، وانتصرنا له باستئصال الكافرين من قومه {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} الذين آمنوا معه(1/395)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي} مسألة {الْحَرْثِ} الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي رعت؛ فجاء صاحب الحرث يحتكم إلى داود: فحكم لصاحب الحرث بالغنم، ولصاحب الغنم بالحرث. وذلك لأنه رأى أن قيمة الحرث - قبل رعي الغنم - تساوي سائر الغنم؛ والقاعدة أن الجاني يعوض المضرور بقدر ضرره. فلما سمع سليمان حكم أبيه داود؛ راجعه قائلاً: الرأي أن يخدم صاحب الغنم الحرث حتى ينمو الزرع كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم؛ فيستفيد من أصوافها وألبانها حتى يتسلم حرثه مزروعاً كما كان؛ فيرد لصاحب الغنم غنمه. فوافقه داود على هذا الحكم؛ ودعا له(1/396)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي فهمناه حقيقة القضية، وحسن الحكومة. وذلك لأن حكم سليمان طابت به نفس الخصمين، وعاد لكليهما ماله كاملاً غير منقوص. ومن هنا نعلم أنه لم يوفق موفق إلا بهدي من الله تعالى، ولا يحكم حاكم بعدل إلا بإرشاد منه تعالى ووحي. فكم رأينا ذكياً أخطأ، وغبياً أصاب {وَكُلاًّ} من داود وسليمان {آتَيْنَا حُكْماً} نبوة {وَعِلْماً} تبصرة بأمور الدين والدنيا. وقد أراد الله تعالى أن يرينا قدر داود عليه السلام، وأن حكمه - ولو أنه خالف الأولى - لم يغض من شأنه، أو ينقص من قدره. فقد حكم في حدود العدل الذي ارتآه؛ فلما وجد حكماً أقرب إلى العدل، وأدنى من المصلحة: أقره وأمضاه؛ لذلك كان أهلاً لما اختصه الله تعالى به، واختاره له؛ فقد سبحت الجبال معه والطير؛ بتوفيق من الله تعالى {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} يسبحن معه أيضاً: إكراماً له، وإعزازاً قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(1/396)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} كان يصنع الدروع، وقد ألان الله تعالى له الحديد {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} أي لتمنعكم في الحرب من عدوكم(1/396)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي شديدة الهبوب؛ قال تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تسير الريح معه كما يشاء: عاصفة شديدة، أو هادئة لينة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام؛ وكانت إقامته بها(1/396)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} أي سخرنا له من الشياطين؛ وهي طائفة من الجن.
والشيطان: كل عات متمرد؛ من جن أو إنس، أو دابة؛ وأطلق على إبليس: لأنه رأس العتاة والمتمردين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} في البحر؛ فيستخرجون له من لآلئها، وجواهرها، وغرائبها {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً} أعمالاً {دُونِ ذَلِكَ} أي غير ذلك: من بناء القصور والحصون، والتماثيل والمحاريب، وغير ذلك {وَكُنَّا لَهُمْ} أي للجن {حَافِظِينَ} لأعمالهم؛ من أن يفسدوها بعد إتمامها كشأنهم؛ والمراد أنه تعالى سلطانه قائم عليهم، وإرادته نافذة فيهم(1/396)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الضر الذي مسه: هو ذهاب ماله، وموت أبنائه، ومرض أصابه. أما ما يرويه بعض المفسرين من أن الضر: هو مرض أتلف لحمه، وأذاب جسمه، وجعل الدود يتناثر منه فهو من أقاصيص اليهود، باطل مردود: لأن الأنبياء عليهم السلام لا يصح أن يصابوا بأمراض تشمئز منها النفوس، وتوجب النفرة منهم وقد يكون الضر هو المرض؛ ولكن ليس كما حكموا ووصفوا(1/397)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} أي وهبنا له ضعف ما فقده من الأولاد(1/397)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وَإِدْرِيسَ} وهو من الأنبياء عليهم السلام؛ وهو اسم أعجمي، وليس مشتقاً من الدراسة كما توهم بعضهم. قيل: اسمه أخنوخ {وَذَا الْكِفْلِ} زعم بعضهم أنه بوذا: رئيس الملة البوذية؛ وقد تطرف أتباع بوذا من طاعته إلى عبادته؛ وعملوا له أصناماً لا تعد؛ دانوا بعبادتها، والخضوع لها؛ وما أشبههم بأصحاب عيسى: دعاهم إلىالله؛ فزعموا أنه هو الله ونفى عنه الولد؛ فقالوا: أنت المولود والولد وقيل: سمي بذي الكفل: لأنه كان متكفلاً بطاعة الله تعالى وعبادته، أو لأنه تكفل لملك زمانه بالجنة إن أسلم. وقيل: إنه زكريا؛ لأنه تكفل بمريم عليهما السلام. وهذا الرأي بعيد: لذكر زكريا عليه السلام بعد ذلك. والله تعالى أعلم بخلقه وأحكم {كُلٌّ} ممن ذكرنا من الأنبياء {مِّنَ الصَّابِرِينَ} على طاعة الله تعالى وعن معاصيه، وعلى ما يصيبهم في الحياة الدنيا من أحداث، وآلام، ومتاعب(1/397)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{وَذَا النُّونِ}
النون: الحوت. أي وصاحب الحوت: وهو يونسبن متى عليه السلام {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قومه، منصرفاً عنهم؛ بغير إذن من مرسله تعالى {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي تأكد أنا لن نضيق عليه؛ لقربه منا، واصطفائنا له. ولكنا أمرنا الحوت بالتقامه {فَنَادَى} نادانا {فِي الظُّلُمَاتِ} جمع ظلمة: وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت {أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} يعبد ويقصد {سُبْحَانَكَ} تعاليت وتنزهت {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ما دعا داع بدعاء يونس عليه السلام: إلا فرّج الله همه، ودفع كربه، وأنجاه من كل بلية كيف لا؟ والله تعالى يقول(1/397)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أجبنا دعاءه ونداءه {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} الذي كان فيه؛ ولم يكن غمه قاصراً على التقام الحوت فحسب؛ بل كان جل همه وغمه: مظنة غضب الله تعالى عليه وقد ألهمه الله تعالى هذه الكلمات، لينجيه مما نزل به من الكرب والضيق {وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} نلهمهم ما يوصلهم إلينا، ونوفقهم إلى ما يقربهم منا(1/397)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي لا تتركني وحيداً بغير ولد يرثني(1/397)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} جعلناها صالحة للحمل بعد عقمها، أو صالحة الخلق بعد سوئها
[ص:398] {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} رغبة في رحمتنا {وَرَهَباً} رهبة من عذابنا(1/397)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظته من الزنا: وهي مريم عليها السلام {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أمر تعالى جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها، فحملت بعيسى عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً} دلالة واضحة على قدرتنا(1/398)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي فرقوا أمر دينهم، واختلفوا فيما بينهم(1/398)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن الصالحات بغير إيمان: لا اعتبار لها، ولا اعتداد بها {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي فلا جحود لعمله؛ بل نثيبه عليه(1/398)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} أي ممتنع على أهل قرية أهلكناهم {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي لا يعادون إلينا يوم القيامة؛ للحساب والجزاء؛ لأن عذابهم في الدنيا لا يعفيهم من عذاب الآخرة الموعود
بيّن تعالى أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن: فلا كفران لسعيه؛ وأن له الحظ الأوفر، والنعيم الأكبر وأعقب ذلك بأن الكفار الذين عذبهم في الدنيا، وأهلكهم بذنوبهم: لا بد من إرجاعهم وإعادتهم في الآخرة لمحاسبتهم على ما أتوه، ومعاقبتهم على ما جنوه أو أنهم «لا يرجعون» إلى الدنيا كما طلبوا في قولهم «رب ارجعون» «فارجعنا نعمل صالحاً»(1/398)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} يفتح السد الذي أقامه ذو القرنين بيننا وبينهم؛ وذلك قبيل يوم القيامة {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ} مرتفع من الأرض. وقرىء «جدث» وهو القبر {يَنسِلُونَ} يسرعون(1/398)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يوم القيامة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} مرتفعة الأجفان؛ لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه {إِنَّكُمْ} أيها الكافرون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره من الأصنام {حَصَبُ} حطب {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فيها داخلون. لما نزلت هذه الآية: فرح المشركون، وضجوا بالضحك؛ وقالوا: لقد عبد النصارى عيسى، وعبد اليهود عزيراً، وعبد بعض العرب الملائكة: فعيسى وعزير والملائكة في النار. فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ولو فطن المعاندون إلى دقة التعبير في قوله تعالى:(1/398)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل: ومن تعبدون؛ ومن المعلوم لغة أن «ما» لما لا يعقل، وأن «من» لا تطلق إلا على العقلاء(1/398)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} الأصنام {آلِهَةً} كما زعمتم {مَّا وَرَدُوهَا} ما دخلوا جهنم(1/398)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أنين وبكاء وعويل(1/398)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} وهم الذين وعدوا بالعفو والمغفرة؛ لما قدموه من إيمان صادق، وعمل صالح(1/398)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} صوتها(1/398)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} الذي يعم سائر العصاة والمشركين؛ مما يرونه من مظاهر الشدة والبطش والقسوة {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} مرحبين بهم، قائلين لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ
[ص:399] الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} به في الدنيا(1/398)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} الكاتب. وقيل: «السجل» اسم ملك يطوي كتب الأعمال(1/399)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الكتاب الذي أُنزل على داود عليه السلام {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} التذكير ب الله تعالى {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} المراد بالأرض: الجنة؛ وذلك كقوله تعالى: «وقالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين»(1/399)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً} لتبليغاً كافياً مفهماً(1/399)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي رحمة للجن والإنس، والوحش والطير؛ رحمة للمؤمنين: بإنجائهم يوم الدين، ورحمة للكافرين: بإنجائهم في الدنيا من نزول العذاب؛ الذي كان يلحق بمكذبي الأمم السابقة(1/399)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَقُلْ آذَنتُكُمْ} أي أعلمتكم {عَلَى سَوَآءٍ} أي مستوين كلكم في هذا الإعلام، أو أعلمتكم أني على سواء. أي على عدل واستقامة رأي، أو «آذنتكم» بالحرب؛ لا سلم بيننا: إما الإيمان وإما القتل(1/399)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وَإِنْ أَدْرِي} وما أدري {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} به من العذاب، أو «ما توعدون» به من القيامة {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} أي لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا اختبار لكم {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} انقضاء آجالكم(1/399)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} المطلوب منه المعونة والنصر {عَلَى مَا تَصِفُونَ} به أنفسكم؛ من القوة والشجاعة، والانتصار على المؤمنين؛ أو «المستعان» الذي نستعين به {عَلَى مَا تَصِفُونَ} به الله تعالى؛ من الولد والشريك؛ فنقضي على هذه الفرية؛ بالقضاء على مروجيها ومعتقديها(1/399)
سورة الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/400)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ} خافوه، واحذروا غضبه وبأسه، واخشوا يوماً ترجعون فيه إليه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة: الإزعاج، والإفزاع. أي اتقوا ربكم لأن زلزلة الساعة شيء مهول(1/400)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي تغفل عنه؛ مع أن الطبيعة البشرية: تقتضي تمام الحرص من جانب الأم على وليدها، وتقتضي كامل الشفقة به، والحدب عليه؛ فيذهب جميع ذلك لشدة ما تلقاه في هذا اليوم من الهول، وما تجده من الرعب {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تطرح كل حبلى ما في بطنها؛ لشدة ما ترى من الفزع {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي كالسكارى؛ في عدم الوعي، وفي الخلط، وفي التعثر، وفي الذهول {وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} حقيقة؛ ولكنه هول القيامة(1/400)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} عات متمرد؛ مستمر في الشر؛ مستمرىء له(1/400)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{كُتِبَ عَلَيْهِ} أي قضى على هذا الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أي اتبعه، واتخذه إماماً له ومعيناً {فَأَنَّهُ} أي الشيطان {يُضِلُّهُ} عن طريق الحق، ويرديه في الباطل {وَيَهْدِيهِ} يوجهه {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} إلى ما يوصله إلى جهنم وبئس المصير وهذا كقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}(1/400)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِّنَ الْبَعْثِ} يوم القيامة {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أصلكم آدم {مِّن تُرَابٍ} أي إن كنتم شاكين في البعث، وكيف أننا نعيدكم بعد فنائكم؛ فانظروا في بدء خلقكم: إذ خلقناكم من تراب، ولم تكونوا شيئاً؛ فكيف لا نستطيع إعادتكم كما أنتم الآن؟ {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}
ذهب المفسرون إلى أن المراد بها: قطعة دم جامدة والذي أراه أن المراد بالعلقة: واحد الحيوانات المنوية، التي يتخلق منها الجنين بأمر الله تعالى؛ وتجمع على «علق» قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} قطعة لحم صغيرة؛ قدر ما يمضغ في الفم {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي تامة الخلقة، وغير تامتها {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ} أي نثبت في الأرحام ما نشاء ثبوته؛ وما لم نشأ إبقاءه: أسقطته الأرحام. فليس كل من حملت أنتجت
[ص:401] {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت استيفاء الجنين مدته في الرحم {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} كمال قوتكم؛ وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردئه؛ وهو الكبر المؤدي إلى الهرم والخرف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لينسى ما عرفه، ويجهل ما علمه؛ لذهاب عقله، ومزيد كبره {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر إلى هذه الحالة نفعنا الله تعالى بكتابه، وكتبنا من أحبابه، وشفعه فينا، وجعله حجة لنا لا علينا {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} ساكنة يابسة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ} بالمطر، أو بالسقيا من ماء المطر نفسه - المنساب في الأنهار والآبار - وذلك بعد وضع البذر {اهْتَزَّتْ} تحركت لطلوع النبات {وَرَبَتْ} انتفخت وارتفعت {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل صنف حسن، سار للناظرين(1/400)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{ذلِكَ} المذكور: من قدرة الله تعالى على إنشاء الإنسان أصلاً من تراب، ثم من نطفة؛ ثم تطور النطفة إلى علقة، ثم مضغة؛ ثم إخراجه طفلاً، ثم إنهاء أجله على الصورة التي يريدها الله تعالى له - صغيراً، أو كبيراً، أو بالغاً أرذل العمر - ثم قدرته جل شأنه، وعلا سلطانه؛ على إنزال الماء من السماء على الأرض اليابسة، واهتزازها، وانشقاقها عن أصناف النبات: البهيج المنظر والمخبر؛ كل «ذلك» يدل دلالة قاطعة على أنه تعالى
{هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ} كما أنشأ الخلق ابتداء، وأماتهم {يُحْيِي الْمَوْتَى} ويبعثها يوم القيامة للحساب والجزاء؛ فتعالى الله الخالق ما يريد، الفاعل ما يشاء(1/401)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي لاوياً عنقه: كبراً وخيلاء، أو معرضاً عن ذكر الله تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ} في إحيائه وإماتته، ومحاسبته ومعاقبته {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} ولكن العبيد {كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1/401)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على طرف؛ أي يعبد الله شاكاً في وجوده، أو شاكاً في إحيائه، أو شاكاً في جزائه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} غنى وصحة {اطْمَأَنَّ بِهِ} وسكن إليه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} شر وبلاء وفقر
[ص:402] {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} رجع إلى كفره: يائساً من رحمة الله تعالى؛ وبذلك يكون قد {خَسِرَ الدُّنْيَا} بفوات ما أمله فيها، وأراده منها خسر {الآخِرَةَ} لأن الله تعالى لم يعدها إلا للمتقين؛ و {ذلِكَ} الخسران {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الواضح؛ الذي لا خسران بعده(1/401)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{يَدْعُو} أي يعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} الكبير(1/402)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} أي يدعو من ضره؛ واللام زائدة {أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أي يعبد من دون الله من يحتمل وصول الضرر منه، ولا يستطيع إيصال النفع. أو يطلب رفع ما نزل به؛ ممن لا قدرة له على دفعه عن نفسه {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي بئس الرب، وبئس السيد؛ ذلك الذي لا يضر ولا ينفع {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي بئس القريب والصاحب؛ و «العشير» من المعاشرة(1/402)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله عليه الصلاة والسلام. أو المراد: من كان قد يئس من روحالله، وقنط من رحمته، وظن أنه تعالى لن ينصره: فليختنق وجاء على لسان العرب «ينصره» بمعنى يرزقه
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السَّمَآءِ} أي إلى السقف؛ لأن كل ما علاك فهو سماء {لْيَقْطَعْ} أي ثم ليختنق {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي «هل يذهبن كيده» لنفسه بالاختناق؛ الأمر الذي يغيظه: وهو ظنه بأن الله تعالى لن يرزقه، أو بأن الله تعالى لن ينصر رسوله؛ وقد نصره في الدنيا: بنصره، ورفعة شأنه، وإعلاء دينه؛ وفي الآخرة: بالمقام المشهود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى(1/402)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} هدايته، أو من يريد أن يهتدي(1/402)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {وَالصَّابِئِينَ} قوم زعموا أنهم على دين نوح عليه السلام، أو هم كل من صبأ: أي خرج من دين إلى دين آخر {وَالْمَجُوسَ} عبدة النار(1/402)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} كل {مَن فِي السَّمَاوَاتِ} من أملاك {وَمَن فِي الأَرْضِ} من إنس وجن
[ص:403] {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ} كل هؤلاء يسجدلله تعالى. أي يطيعه، ويخضع لأوامره. أو هو سجود على الحقيقة: يتمثل في ظل هذه الأشياء {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} أي ويسجد له كثير من الناس؛ وهم المؤمنون {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي وجب عليه؛ لكفره، وفسوقه عن أمر ربه {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ} يشقه بالكفر {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} أي ليس له من مسعد يرتفع به إلى مصاف المؤمنين، ويدفع عنه ما كتبه عليه أحكم الحاكمين
وإنما يهن الله تعالى من استوجب الشقاء والمهانة، وارتضى لنفسه خسة الكفر، وذلة الجهل؛ وأبى رفعة الإيمان، وعزة العلم
هذا ولا يعقل أصلاً أن المولى الكريم يهين من لا ذنب له، ولا إثم عليه؛ بعد أن رفعه وكرمه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وقد اعتاد أكثر المفسرين - سامحهم الله تعالى - على أن يذهبوا في مثل هذه المعاني مذاهب شتى؛ يأباها العدل السماوي، وتنبو عنها الحكمة الإلهية؛ ويتسترون وراء معان فخمة ضخمة؛ هي في الواقع عين الحقيقة، ولب الشريعة. وإلا فمن ذا الذي ينكر أنه تعالى يفعل ما يريد؟ {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} أو أن الأمر أمره، والخلق خلقه؟ وأن الجميع ملك له وعبيد؟ إن من ينكر هذا أو بعضه؛ فإنه واقع في الكفر لا محالة: لأنه قد أنكر ما لا يصح الإيمان إلا به إنما الذي ننكره، ونحارب من أجله، ونلقى الله تعالى عليه: أنه تعالى {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} وأنه جل شأنه لا يظلم الناس، ولكن الناس {كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فإذا أهان الله تعالى عبداً؛ فإنما يعاقبه بهذه الإهانة على ظلم نفسه؛ بالرضا بالكفر، والركون إليه قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
لذا أتبع الله تعالى ذلك بذكر خصومة المؤمنين والكافرين، وما يؤول إليه حال كل منهم. قال تعالى:(1/402)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} المؤمنون خصم، والكافرون خصم {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بمحض اختيارهم؛ وليس بدافع خفي من الله تعالى؛ تنهار أمامه قوتهم، وتمحى حياله إرادتهم وهل يستطيع مخلوق أن يدفع إرادة الخالق تعالى؟ أو أن يخرج عما أكرهه عليه، واضطره إليه؟ {قُطِّعَتْ} أي سويت وأعدت {لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} وهو تشبيه لإحاطة النار بهم من كل جانب: إحاطة الثوب بلابسه {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} وهو الماء البالغ نهاية الحرارة. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو سقطت نقطة واحدة منه على جبال الدنيا لأذابتها(1/403)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{يُصْهَرُ بِهِ} أي يذاب بالحميم {مَا فِي بُطُونِهِمْ} من أحشاء، وأمعاء وقلوب، وكلى، وأكباد وخص ما في بطونهم:
[ص:404] ليظهر مبلغ ما يحيق بهم من آلام لا توصف: فإن الإنسان لا يحتمل أدنى ألم - مهما قل - يلم بما في بطنه؛ فما بالك - عافاني الله تعالى وإياك - بالحميم في الجحيم؛ يصب فوق الرؤوس؛ فيصهر ما في البطون(1/403)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} تضرب بها رؤوسهم والمقامع: جمع مقمعة؛ وهي عمود من حديد؛ يضرب به رأس الفيل ليستكين ويحد من هيجانه. وهي مشتقة من القمع(1/404)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي من النار {مِنْ غَمٍّ} حزن شديد، وهم بالغ نالهم {أُعِيدُواْ فِيهَا} بالضرب بالمقامع يقال لهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} بما قدمتم(1/404)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} بفضله {الَّذِينَ آمَنُواْ} به وبكتبه ورسله {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ} بساتين: لا آخر لعظمها، ولا حد لبهجتها(1/404)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي هدوا في الدنيا إلى القول الطيب؛ الذي وصلهم إلى هذه الدرجة من النعيم: وهو لا إله إلا الله {وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى طريقالله، الموصل إليه؛ وهو الإيمان(1/404)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} يمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ} المقيم {وَالْبَادِ} غير المقيم {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يهم فيه بمعصية {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جاء في اللغة: ألحد في الحرم: إذا احتكر الطعام. وقيل: الإلحاد: الحلف الكاذب، أو هو منع الناس عن عمارة المسجد الحرام. وقرىء «ومن يرد» بفتح الياء: من الورود.
هذا ولم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية ما لم يرتكبها، ولا بالشروع فيها ما لم يأتها؛ إلا في المسجد الحرام: فإن من يهم فيه بالذنب: كمن يقترفه وذلك لأن الإنسان يجب عليه أن يكون في الحرم طاهر الجسم، نقي القلب، صافي السريرة، خالصاً بكليتهلله، طامعاً في مغفرته، مشفقاً من غضبه وإن من ينتهك حرمة الملك بمعصيته في حماه، وداخل بيته: أجرأ على المعصية ممن يرتكبها بعيداً عنه وحقاً إن من تهجس نفسه بالسوء؛ وهو في داخل الحرم الآمن: لجدير بالجحيم، والعذاب الأليم(1/404)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا} هيأنا {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} من الأصنام والأوثان والرجس(1/404)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{وَأَذِّن} ناد {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} أي مشاة على أرجلهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي ركباناً. والضامر: البعير، أو الفرس المهزول {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} من كل طريق بعيد(1/404)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{لِّيَشْهَدُواْ} يحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} بالتجارة، والتعرف بالناس من شتى الأقطار. وفي هذا من المنافع الاجتماعية ما فيه؛ وقد اهتم الشارع الحكيم باجتماع الناس وتآلفهم، وتبادلهم الأخوة الدينية، والمحبة الخالصة فشرع صلاة الجماعة: ليختلط أهل الحي الواحد، وشرع الجمعة: ليجتمع أهل البلدة، وشرع الحج: ليجتمع أهل الأقطار والأمصار؛
[ص:405] ليتعارفوا، ويتحابوا، ويتبادلوا الآراء العامة؛ التي تعود بالنفع على الأمة الإسلامية في سائر أقطار المعمورة {وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ} الذي أصابه بؤس وشدة(1/404)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} التفث في المناسك: قص الأظافر والشارب، وحلق الرأس والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك.
والتفث في اللغة: الوسخ. أي وليزيلوا وسخهم {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} من الهدايا والضحايا {وَلْيَطَّوَّفُواْ} يطوفوا طواف الإفاضة؛ الذي هو من واجبات الحج {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} القديم؛ وهو البيت الحرام. وسمي بالعتيق: لأنه أول بيت وضع للناس. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً}(1/405)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} يجتنب ما لا يحل انتهاكه {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ} القذر. وهو كل ما يستوجب العقاب والعذاب {مِنَ الأَوْثَانِ} الأصنام {وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} شهادة الزور. وقول الزور: من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات المهلكات وما فشا الزور في قوم: إلا وحل بهم الخراب والدمار(1/405)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{حُنَفَآءَ للَّهِ} مسلمين {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي فكأنما سقط من السماء فتخطفته الطير، ومزقته كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} تسقطه وتلقيه {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد. أي إنه لا ترجى له نجاة في الحالتين(1/405)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر: جمع شعيرة؛ وهي أعمال الحج، وكل شيء فعل تقرباً إلى الله تعالى وتعظيمها: اختيار البدن حسنة سمينة {فَإِنَّهَا} أي تعظيم الشعائر، والقيام بها على أكمل وجه، وأجمل صفة {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} وهي أرقى مراتب التقوى قال «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره الشريف(1/405)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{ثُمَّ مَحِلُّهَآ}
أي مكان وجوب نحرها. والضمير للأنعام(1/405)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي موضع قربان؛ وهو مكان الذبح المطمئنين بذكر الله تعالى، المطيعين له، المتواضعين(1/405)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} من البأساء والضراء(1/405)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{وَالْبُدْنَ} جمع بدنة؛ وهي من الإبل والبقر: كالأضحية من الغنم {صَوَآفَّ} أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض بعد نحرها {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ} وهو الراضي بما عنده، وبما يعطي؛ من غير مسألة. أو هو السائل {وَالْمُعْتَرَّ} وهو الذي يريك نفسه ولا يسأل(1/405)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{لَن يَنَالَ اللَّهَ} أي لن يصل إليه {لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} فقد استمتعتم بها أكلاً وبذلاً {وَلَكِن يَنَالُهُ} يصل إليه
[ص:406] {التَّقْوَى مِنكُمْ} أي إنه تعالى لن يصل إليه، ولن يقبل من ذلك إلا ما أريد به وجهه جل شأنه؛ فذلك وحده هو المقبول المجزى عليه أما ما أريد به التظاهر والتفاخر والرياء والاستعلاء: فهو مردود على فاعله موزور عليه غير مأجور(1/405)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} شديد الخيانة والكفر(1/406)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلون: أن يقاتلوا من يقاتلونهم؛ وذلك {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} وقوتلوا ابتداء واعتداء؛ وهم(1/406)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} مكة؛ ظلماً وعدواناً {بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} أي أخرجوا بغير ما سبب؛ سوى قولهم {رَبُّنَا اللَّهُ} وحده، لا إله غيره، ولا نعبد سواه
بعد أن بيّن تعالى مساوىء القتال الظالم، الغير المتكافىء، والقائم على الإثم والضلال: عرفنا أن الحروب والقتال: ليست شراً كلها؛ بل منها ما يقوم بسبب مشروع: يؤجر المرء ويثاب عليه. قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى لأنبيائه والمؤمنين من عباده؛ من قتال أعدائه: أعداء الدين؛ لشاعت الفوضى، وعمت الإباحية؛ و {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} جمع صومعة؛ وهي مكان العبادة. وهي للنصارى كالخلوة عند متعبدي المسلمين لهدمت {بَيْعٌ} وهي كنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود {وَمَسَاجِدُ} المسلمين. وكلها معابد: واجب العناية بها، والاحترام لها؛ وذلك لأنها جميعاً {يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً} بالعبادة {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} أي من ينصر دينه، ويدفع عن أوليائه؛ لأنه تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد، والكل مفتقر إلى نصرته وهذه الآية الكريمة خاصة بالحروب، وحاجة الكون إليها، وأنها ضرورة من ضرورات الحياة، ولازمة من لوازم العمران. (انظر آية 251 من سورة البقرة)(1/406)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لهم مكانة فيها وسلطاناً {وَعَادٌ} قوم هود {وَثَمُودُ} قوم صالح(1/406)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} قوم شعيب {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أمهلتهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب والاستئصال {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم ما فعلوه، وتغييري؛ حيث أبدلتهم مكان الأمن خوفاً، ومكان الراحة تعباً، ومكان النعم نقماً(1/406)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} فكم من قرية
[ص:407] {أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي أهلكناها بسبب كفرها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر متروكة لا ينتفع بها؛ بسبب هلاك أهلها وإفنائهم كم من عظيم {مَّشِيدٍ} رفيع طويل متين(1/406)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ}
وكم من قرية {أَمْلَيْتُ لَهَا} أمهلتها {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} كافرة. والمراد بالقرية فيما تقدم: أهلها {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والاستئصال {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} المرجع؛ فأعاقب الكفار أشد العقاب(1/407)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا} في القرآن: بالطعن فيه، وفيمن نزل عليه؛ بقولهم: سحر وساحر، وشعر وشاعر} أي طالبين عجزنا، ومناوئين لنا، أو ينسبون العجز للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين(1/407)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} تمنى: قرأ. أي إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته: ليشوش أذهان السامعين، ويبعث في نفوسهم الشكوك والريب. قيل: كان يقرأ سورة «والنجم» فلما بلغ قوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} تكلم الشيطان بقوله: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فوقع عند بعضهم أن ذلك من قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد كان الشيطان في ذلك الحين يتكلم ويسمع كلامه بالآذان، وقد قال يوم أحد: «لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم».
والذي أراه في معنى هذه الآية: أن يكون التمني على ظاهره. أي {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} لأمته الإيمان {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي} سبيل {أُمْنِيَّتِهِ} العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يمحوه ويذهبه من قلوب أوليائه {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} بأن يجعلها مقبولة لدى من سبقت لهم الحسنى، وحازوا المقام الأسنى أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين فباطل مردود؛ لا يستسيغه عقل مؤمن، ولا يقبله قلب سليم وهو زعمهم بأن الرسول الكريم - الذي لا ينطق عن الهوى - نطق بلسانه؛ حين بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قائلاً: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. هذه القالة التي لا ينطق بها مؤمن فضلاً عن سيد المؤمنين؛ الذي هدانا لتوحيد رب العالمين وقد استدلوا على قولهم الباطل بأحاديث واضحة البطلان، بادية الخسران وقد نبه إلى ذلك بعض فضلاء الأمة: قال ابن إسحق في حديث الغرانيق: هو من وضع الزنادقة. وقال أبو بكربن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون؛ المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم(1/407)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{لِّيَجْعَلَ} الله {مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} في صدور بني الإنسان {فِتْنَةٌ} محنة وابتلاء {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي ويجعله أيضاً فتنة للقاسية قلوبهم؛ التي لا تلين لذكر الله تعالى {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} خلاف كبير ألا ترى إلى الأمم الغربية - وقد يكونوا أبناء دين واحد - وقد ساد بينهم الشقاق، وفشت بينهم الشحناء والبغضاء، وشمر كل ساعده للنزال والقتال، وأعدوا لبعضهم ما أعدوا: من ضروب الأسلحة المهلكة المدمرة؛ فصدق عليهم قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فهم طول العمر، وأبد الدهر؛ في شقاق وأي شقاق(1/408)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} ب الله تعالى، وبدينه وآياته {أَنَّهُ} أي القرآن الكريم {فَتُخْبِتَ} فتطمئن(1/408)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} في شك من القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} وسمي عقيماً: لأنه لا يوم بعده. وقيل: هو يوم بدر؛ وهو عقيم: لأنه لا مثل له في عظمه: لأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام قاتلت فيه، أو لأن الكفار لم ينظروا فيه إلى الليل؛ بل قتلوا قبل المساء؛ فصار يوماً لا ليلة له؛ فكان عقيماً وأول الأقوال أولى لقوله تعالى:(1/408)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيما كانوا فيه يختلفون(1/408)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ} في الجهاد {أَوْ مَاتُواْ} ميتة طبيعية {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} في الجنة(1/408)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي اقتص لنفسه. وليس المراد بذلك المجانسة في العقوبة على إطلاقها؛ فمن قتل ولدي: لم يجز لي أن أقتل ولده؛ لأن ولده لم يرتكب ما يؤثم عليه، ومن سمم ماشيتي: لم يجز لي أن أسمم ماشيته؛ لأنها عجماء لم تذنب. ولا يصح الاقتصاص منها - لو أذنبت - قيل: نزلت في جماعة من المشركين مثلوا بقتلى المسلمين يوم أحد؛ فعاقبهم المسلمون بالتمثيل بقتلاهم. ومعنى الآية: من جازى الظالم بمثل ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي بغى على المعاقب، الآخذ بحقه
[ص:409] {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} على من بغى عليه {ذلِكَ} النصر المستمد من الله تعالى؛ لأنه وحده القادر القاهر، العفو الغفور؛ ومن قدرته تعالى أنه:(1/408)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل كلاهما في الآخر؛ بأن ينقص هذا ويزيد ذاك؛ وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء؛ وهما آيتان دالتان على قدرته تعالى ووحدانيته: {مَا يَدْعُونَ} ما يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره(1/409)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ} من أشجار وأنهار، ودواب وأطيار، وغير ذلك مما ينتفع به {وَالْفُلْكَ} السفن {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} بإذنه ومعونته وقدرته {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأمره ومشيئته؛ يوم القيامة {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً}(1/409)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} بالإنشاء من العدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم التي قدرها لكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة للحساب والجزاء {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} بالله، أو كفور بأنعمه(1/409)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} شريعة وديناً {هُمْ نَاسِكُوهُ} عاملون به(1/409)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
{وَإِن جَادَلُوكَ} فيما أنزل إليك {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من سوء؛ فيجازيكم عليه(1/410)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{إِنَّ ذلِكَ} المذكور؛ من إنزال الماء من السماء، وازدهار الأرض بالنماء، وتسخيره تعالى للفلك تجري بكم على الماء، وإمساكه جل شأنه للسماء، وإنشائه لمن يشاء، وإماتته بعد الإحياء، وإحيائه بعد الفناء، وإحاطة علمه تعالى بما في الأرض وما في السماء. كل ذلك {فِي كِتَابٍ} مكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم له تعالى قبل حدوثه(1/410)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو برهاناً(1/410)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} من القرآن {بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات؛ لا لبس فيها ولا إبهام {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ} الإنكار لها، والكفر بها؛ وذلك بما يبدو عليهم من الإنقباض والعبوس والكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ}
يبطشون {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم} أيها الكافرون المكذبون {بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ} التكذيب، وإيذاء المؤمنين {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} أمثالكم من {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أو يكون المعنى: «قل أفأنبئكم» أيها المؤمنون «بشر من ذلكم» أي هل أخبركم بما هو شر من بطش هؤلاء الكفار، وإنكارهم لما جئتم به من الحق «النار وعدها الله» أمثالهم من «الذين كفروا»(1/410)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره من الآلهة. والمقصود بها الأصنام {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} اختار الله تعالى الذباب في التمثيل - ولو أنه أكبر من البعوض - لأن الذباب أحقر المخلوقات وأخسها، وأبغضها وأقذرها والمعنى: يا أيها الكافرون، يا أحقر المخلوقين: كيف تعبدون من دون الله ما لا يستطيع أن يخلق ذباباً {وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} أي ولو اجتمع هؤلاء الآلهة، وصار بعضهم لبعض ظهيراً ولم يقف عجزهم عند عدم استطاعة خلقة الذباب فحسب؛ بل {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو سلب الذباب آلهتهم - التي يعبدونها - شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخونها به؛ لم تستطع تلك الآلهة استرجاعه منه - رغم ضعفه وحقارته - هذا وقد يتوهم أن الذباب من الأشياء المخلوقة عبثاً - بل التي يفضل عدمها على وجودها - لما تنقله من مكروبات، وما تحمله من جراثيم. لكنك لو علمت أنه يستوي في نظر الحاكم: الجلاد الذي يطيح بالرقاب، والغواص المعد للإنقاذ؛ إذ كل منهما يفعل ما أمر به: لهان الأمر. وأيضاً فإن الذباب - فضلاً عن حمله للمكروبات - فإنه خلق لإذلال المتكبرين والجبابرة: وذلك لأن الذبابة كما تقف على القمامة والقاذورات: فإنها تقف على أنف أعتى الجبابرة، وأعظم الأكاسرة حيث لا يملك دفعها، ولا يستطيع منعها؛ وأن النمروذ - على تكبره
[ص:411] وجبروته - سلط الله تعالى عليه بعوضة أهلكته؛ إذلالاً له، واستخفافاً بأمره، وتحقيراً لشأنه؛ فتعالى الله الملك الحق، الجبار المتكبر
{ضَعُفَ الطَّالِبُ} الذباب {وَالْمَطْلُوبُ} الأصنام التي يعبدونها. أو «الطالب» العابد الكافر: لعجزه عن حماية آلهته من الذباب «والمطلوب» الصنم المعبود: لعجزه عن حماية نفسه(1/410)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته؛ حيث جعلوا الأصنام شركاء له(1/411)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
{اللَّهُ يَصْطَفِي} يختار {مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} لرسله يصطفي {مِّنَ النَّاسِ} لخليقته {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بأعمالهم. كيف لا وهو تعالى(1/411)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما سيعملونه لاحقاً {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما عملوه سابقاً {وَإِلَى اللَّهِ} وحده {تُرْجَعُ الأُمُورُ} فيقضي فيها بما شاء، ويحكم بما أراد {وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في حياتكم الدنيا، وتفوزون بنعيم الآخرة(1/411)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} في سبيل إقامة دينه، ونشر تعاليمه؛ الموصلة لخيري الدارين {حَقَّ جِهَادِهِ} باستفراغ جهدكم وطاقتكم. ويدخل في ذلك: جهاد النفس، ومحاربة الشيطان:
وجاهد النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهم
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} اختاركم {حَرَجٍ} ضيق {وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ} الجأوا إليه واحتموا بفضله وعنايته، وثقوا به(1/411)
سورة المؤمنون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/412)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الفلاح: هو الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب(1/412)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} اللغو: كل كلام ساقط؛ حقه أن يلغى: كالكذب، والسب، والهزل(1/412)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يحفظونها من الزنا، ومن كل ما يشين(1/412)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الإماء؛ اللاتي تخلفن نتيجة جهاد الكافرين؛ في سبيل إعلاء الدين وليس كما يفعل بعض من لا خلاق لهم ولا دين: من الاتجار فيهن؛ تحت ستار إحلال الله تعالى له؛ وليس الأمر كما يقولون ويفعلون؛ بل هو من أكبر الكبائر: فلم يحل الله تعالى استعباد النفوس؛ إلا إذا طغت وتجبرت - بعد كفرها - وجاهرت المؤمنين بالعداء؛ فلا يصلحها حينذاك إلا قطع الرؤوس، وهلاك النفوس، وسلب الأموال، وسبي العيال، واستعباد النساء والرجال وهذا هو ملك اليمين، الذي شرعه رب العالمين؛ وأحله ونظمه؛ وأمر تعالى - فيما أمر - بإعزازه بعد الذل، وإكرامه بعد الهوان، وإطلاقه بعد التملك ونهى جل شأنه - فيما نهى - عن إذلاله وامتهانه، وجعل تخليصه وإعتاقه إحدى القربات إليه
أما الآن - وليس ثمة حرب ولا قتال - فكيف يتملك الناس رقاب الأحرار؛ ويستحلون فروجهن بغير ما أمرالله؛ إنه الزنا ورب الكعبة بل هو الفسق، والفجور، والظلم وإلا فبماذا نسمي استعباد الأحرار المسلمين، واستحلال النساء بغير كلمةالله؟(1/412)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ} أي طلب غير ما أحله الله تعالى من زواج مشروع، وتملك مشروع {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المعتدون؛ المستوجبون للحد(1/412)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} فلا ينقضون عهداً، ولا يغمطون وداً (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة)(1/412)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يؤدونها في أوقاتها(1/412)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وهو أعلى الجنان(1/412)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ} خلاصة. والسلالة: ما انسل من الشيء. والسليل، والسليلة: الولد والبنت
[ص:413] {مِّن طِينٍ} وهو آدم عليه السلام؛ أصل البشر(1/412)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} أي جعلنا سائر الإنسان من ولد آدم {نُطْفَةً} منياً {فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} مستقر حصين في صلب الرجل؛ أو هو الرحم(1/413)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} هي واحدة الحيوانات الصغيرة التي توجد بالمني {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} قطعة لحم صغيرة؛ قدر ما يمضغ {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي إنساناً كاملاً، ناطقاً، سميعاً، بصيراً، عاقلاً {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/413)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ} الخلق والإنشاء {لَمَيِّتُونَ} وعائدون إلى التراب الذي خلقتم منه(1/413)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فنحاسبكم على ما قدمتم لأنفسكم؛ فمن عمل خيراً أثيب عليه، ومن عمل سوءاً عوقب به(1/413)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} سموات؛ جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة. وسميت أيضاً «طرائق» لأن بعضها فوق بعض؛ والعرب تسمي كل شيء فوق شيء: طريقة(1/413)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ} بتقدير حسب طلبكم له، وحاجتكم إليه؛ فلا هو بالمحرق، ولا هو بالمغرق؛ اللهم إلا إذا كان عذاباً وعقاباً {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فيحل الجدب مكان الخصب(1/413)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {لَّكُمْ فِيهَا} أي في هذه الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} متنوعة؛ لا يعلم مداها سوى خالقها(1/413)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{وَشَجَرَةً} هي شجرة الزيتون {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} جبل فلسطين {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} أي بالزيتون المحتوي على الدهن؛ وهو الزيت {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} إدام يأتدمون به(1/413)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} لعظة وتذكيراً بقدر الله تعالى، ومزيد أنعمه {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} من الألبان {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} بأصوافها وأوبارها: للفرش، واللبس، وما شاكل ذلك(1/413)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} السفن
[ص:414] {تُحْمَلُونَ} في حلكم وترحالكم {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يترأس ويتملك {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} برسالته إلينا(1/413)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي يدعونا إليه نوح: من التوحيد، وترك آلهتنا التي نعبدها(1/414)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} جنون {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن يموت(1/414)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
{قَالَ} نوح {رَبِّ انصُرْنِي} عليهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي(1/414)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي اصنع السفينة بمعونتنا وتحت حفظنا ورعايتنا.
و «الفلك» يطلق على الواحد والجمع {وَوَحْيِنَا} أي وبإرشادنا {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} بإهلاك الكافرين {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي وفار الماء في التنور - الذي يخبز فيه - فكان الغرق، من موضع الحرق وقيل: المعنى: أن سفينة نوح عليه السلام سارت بالبخار، كما تسير سفن اليوم في البحار. وهذا معنى قوله تعالى: «وفار التنور» وهو قول غريب مريب: تعلق به وبأمثاله بعض المتأخرين؛ رغم مخالفته للأقوال الصريحة، والأحاديث الصحيحة وما اخترعت مثل هذه المعاني إلا لنفي قدرة الله تعالى على إيجاد الماء من النار، وبالتالي نفي وجوده تعالى وقدرته على خلق الخوارق، وقلب الحقائق {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي فأدخل في السفينة {مِن كُلٍّ} من أنواع المخلوقات وأجناسها {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ذكر وأنثى؛ لحفظ الأنواع وبقائها. قيل: لم يحمل نوح في سفينته إلا كل ما يلد ويبيض؛ أما أمثال البق والذباب والدود؛ فقد أخرجها الله تعالى - بعد ذلك - من الطين {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي ولا تسألني المغفرة للكافرين(1/414)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} أي علوت وتمكنت وجلست {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} من المؤمنين {وَعَلَى الْفُلْكِ} السفينة التي صنعتها بأمري {فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين(1/414)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
{وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أي أنزلني إنزالاً مباركاً أو أنزلني موضعاً مباركاً(1/414)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور من أمر السفينة، وإنجاء نوح والمؤمنين، وإهلاك الكافرين {لآيَاتٍ}
[ص:415] دلالات على كمال قدرته تعالى، ومزيد فضله؛ وأنه جل شأنه ينصر دائماً أنبياءه، ويهلك أعداءهم وأعداءه {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} مصيبين بعض الأنبياء والمؤمنين، أو مصيبين بعض الأقوام المكذبة؛ فقد أصبنا قوم نوح ببلاء عظيم، وعذاب شديد أو «لمبتلين» لمختبرين الأمم السابقة بإرسال الرسل؛ لنعلم - علم ظهور - المطيع من العاصي وقد يكون المعنى «إن في ذلك» القصص؛ الذي قصصناه عليك يا محمد من أمر نوح وغيره من الأنبياء «لآيات» دالة على صدق رسالتك «وإن كنا لمبتلين» أي لمختبرين بذلك أمتك: لنعلم من يصدق بنبوتك، ومن يكفر بما جئت به(1/414)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
{قَرْناً} قوماً(1/415)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} هو هود. وقيل: صالح. وقيل: شعيب، عليهم السلام؛ وذلك لأن أممهم هم ممن أخذوا بالصيحة، وهؤلاء أهلكوا بها؛ قال تعالى في آخر قصتهم «فأخذتهم الصيحة بالحق»(1/415)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{وَأَتْرَفْنَاهُمْ} نعمناهم {(1/415)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
إِنَّكُمْ إِذاً} أي إذا أطعتم هذا النبي، الذي هو بشر مثلكم «إنكم إذاً» {لَّخَاسِرُونَ} أي ليست لكم عقول(1/415)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} ودفنتم، وبليت أجسامكم {وَكُنتُمْ} وصرتم {تُرَاباً وَعِظَاماً} في قبوركم {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} منها، ومبعوثون أحياء للحساب والعقاب(1/415)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد بعداً كبيراً ما يعدكم به؛ من أنكم تحيون بعد ما تموتون، وتبعثون بعد ما تدفنون، وتحاسبون على أعمالكم فتعذبون؛ فهيهات هيهات لما يتوهمون(1/415)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وحدها، ولا حياة بعدها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} قد يتوهم أن إقرارهم بالحياة بعد الموت: إقرار منهم بالبعث بعد أن كذبوا به؛ ولكنهم إنما أرادوا «ونحيا» بحياة أبنائنا؛ أو لعلهم كانوا ممن يقول بتناسخ الأرواح، وبعثها في أجساد أخرى، أو يكون في الكلام تقديم وتأخير - كعادة العرب في كلامهم - أي نحيا ونموت (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)(1/415)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} صاح عليهم جبريل عليه السلام فأهلكهم. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} الغثاء: ما حمله السيل من بقايا العيدان وورق الشجر اليابس
[ص:416] {فَبُعْداً} فهلاكاً(1/415)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
{ثُمَّ أَنشَأْنَا} خلقنا {قُرُوناً} أمماً {آخَرِينَ}(1/416)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لإهلاكها. وهو كقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(1/416)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي تتتابع: واحداً بعد واحد؛ بفترة بينهما {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} في الإهلاك؛ ما داموا تابعين بعضاً في الكفر والتكذيب {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي عبراً يتحدث الناس بها؛ ولا يقال «أحاديث» إلا في الشر؛ قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}(1/416)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
{وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وحجة ظاهرة(1/416)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{فَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} مستكبرين، ظالمين، قاهرين لغيرهم(1/416)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون خاضعون(1/416)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة(1/416)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}
معجزة دالة على قدرتنا: إذ ولدته - عليه السلام - بغير زوج، وولد بغير أب {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ} مكان مرتفع؛ وهو بيت المقدس {ذَاتِ قَرَارٍ} أي أرض مستوية يستقر فيها ساكنها {وَمَعِينٍ} ماء جار؛ وسمي معيناً: لرؤيته بالعين(1/416)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{يأَيُّهَا الرُّسُلُ} هو خطاب وجه لسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وأريد به أممهم {كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلال {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} وهم عليهم الصلاة والسلام لا يأكلون إلا أطيب الطيب، وأحل الحلال؛ ولا يعملون إلا أصلح الأعمال وذلك بفطرتهم واكتسابهم {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فمجازيكم عليه(1/416)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} خطاب لسائر الرسل {أُمَّةً وَاحِدَةً} وهذا يدل على أن الأمم الإسلامية - في شتى أنحاء المعمورة - يجب أن تكون قلباً واحداً، ويداً واحدة، وأمة واحدة: في تشريعها، ومقاصدها، وأغراضها، وتوحيدها؛ فالكل يؤمن بإله واحد يدينون له بالطاعة والعبودية، والكل مصدق بملائكته، وكتبه، ورسله، والكل معترف بالبعث والإحياء، والحساب والجزاء(1/416)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرقوا في أمر دينهم، وفي أمور دنياهم
[ص:417] {زُبُراً} كتباً ألفوها، وضلالات وضعوها، وخرافات ابتدعوها أو أريد بالزبر: الكتب المنزلة إليهم؛ كالتوراة والإنجيل والزبور: تمسك كل فريق بكتابه؛ بعد أن شوهه، ومسخ ما فيه. أو «زبراً» بمعنى قطعاً؛ أي تفرقوا في أمر دينهم؛ فصاروا يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض(1/416)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} فدعهم في غفلتهم وضلالتهم {حَتَّى حِينٍ} أي إلى حين انتهاء آجالهم(1/417)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أن إمدادنا لهم، وتوسعتنا عليهم بالأموال والبنين {} التي يبتغونها ويطلبونها؛ حباً لهم، ورغبة في إرضائهم؛ لا(1/417)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم في الدنيا؛ لنعاقبهم على ما فعلوا عقوبة كاملة يوم القيامة(1/417)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
{مُّشْفِقُونَ} خائفون(1/417)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي الذين يعطون الصدقات وقلوبهم خائفة ألا تقبل منهم. وقرأت عائشة وكثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم «والذين يأتون ما أتوا» أي يرتكبون ما ارتكبوا من الذنوب «وقلوبهم وجلة» خائفة من عاقبة ما ارتكبوا {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيعاقبهم على ما أتوه، أو يعاقبهم على المنع، أو على الرياء(1/417)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{أُوْلَئِكَ} المذكورون: هم الذين {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وأي مسارعة في الخير أكثر من وجل القلب؛ عند اقتراف الذنب؟ أو عند استقلال العطاء، رغبة في الجزاء(1/417)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} وهو اللوح المحفوظ: سطرت فيه أعمال العباد(1/417)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} في جهالة(1/417)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{مُتْرَفِيهِمْ} متنعميهم {يَجْأَرُونَ} يصرخون مستغيثين(1/417)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي ترجعون القهقرى. والمعنى: تعرضون عن الحق(1/418)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{مُسْتَكْبِرِينَ} أي متكبرين على المسلمين {بِهِ} أي بالحرم: زاعمين أنكم أهله وسادته وحماته. أو «مستكبرين به» أي بالقرآن: تستكبرون عن سماعه والتصديق به، وتطغون على المؤمنين {سَامِراً} أي جماعة تتسامرون {تَهْجُرُونَ} أي تقولون في سمركم الهجر؛ وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسب النبي(1/418)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{أَمْ جَآءَهُمْ} من الشريعة والأحكام {مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ} أو المراد «أم جاءهم» أمان من العذاب؛ وهو «ما لم يأت آباءهم الأولين» أو «أم» بمعنى: بل(1/418)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون(1/418)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} القرآن {أَهْوَآءَهُمْ} بأن ينزل بما تهوى أنفسهم؛ من حل المحرمات، وعبادة الأصنام، وتعدد الآلهة، والقول ببنوة عيسىلله. تعالى الله عما يقولون ويريدون علواً كبيراً ولو نزل القرآن بما أرادوا {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بالقرآن الذي فيه شرفهم وفخرهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} والذكر: الشرف، والعز، والسؤدد. أو «آتيناهم» بالقرآن؛ الذي فيه ذكرهم، وذكر أعمالهم؛ وما يترتب عليها من ثواب، أو عقاب(1/418)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أجراً؛ من الخراج: وهو الإتاوة {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} رزقه الذي يجريه عليك من غير منع ولا قطع؛ فذلك {خَيْرُ} منهم ومما يملكون(1/418)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{لَنَاكِبُونَ} لعادلون ومائلون(1/418)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} كشأننا دائماً مع عبادنا {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} جوع وفقر. وقد كانوا قحطوا بمكة سبع سنين؛ حتى أكلوا الجيف {لَّلَجُّواْ} تمادوا واستمروا {فِي طُغْيَانِهِمْ} ضلالهم {يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين(1/418)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بالجوع، والقحط الشديد {فَمَا اسْتَكَانُواْ} فما خضعوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يتذللون بالدعاء إلى ربهم؛ ليكشف ما بهم(1/418)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالقتل، والأسر، والسبي، والذل؛ وكان ذلك يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة {إِذَا هُمْ فِيهِ} أي في ذلك العذاب
[ص:419] {مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير(1/418)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
{وَهُوَ} جل شأنه {الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} الذي به تسمعون {وَالأَبْصَارَ} التي بها تبصرون {وَالأَفْئِدَةَ} التي بها تعقلون؛ فما لكم لا تسمعون النصح، ولا تبصرون الحق، ولا تعقلون الهدى و {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي لا تشكرون البتة(1/419)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة؛ فيؤاخذكم بما كنتم تعملون في الدنيا(1/419)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان؛ وذلك بفعله سبحانه وتعالى؛ ليقيم بنفسه الدليل على وجوده(1/419)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} أي أنكروا البعث مثل إنكارهم؛ وذلك لأن الأولين(1/419)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
{قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا} صرنا في قبورنا {تُرَاباً وَعِظَاماً} نخرة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمعادون إلى الحياة؟ لا نظن حدوث ذلك(1/419)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا} البعث {مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ}
الوعد {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب وأباطيل {الأَوَّلِينَ} المتقدمين(1/419)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين، واسألهم {لِّمَنِ الأَرْضُ} من خلقها، ومن يملكها {وَمَن فِيهَآ} من المخلوقات؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها(1/419)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ} ما دام الله هو مالكها؛ فما بالكم لا تؤمنون به؟ وما دام الله هو خالقها «ومن فيها» فكيف لا يستطيع إعادتها بمن فيها؟ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون ذلك فتؤمنون(1/419)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
{قُلْ} لهم أيضاً مبالغة في إقامة الحجة عليهم {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وما فيهن من أفلاك، ومن بهن من أملاك {وَرَبُّ الْعَرْشِ} الملك {الْعَظِيمِ} الذي لا يحد، ولا يوصف؟(1/419)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقرأ أبو عمرو «سيقولون الله» وهي القراءة المثلى؛ لملاءمتها للسياق {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} من هذا شأنه، وهذا سلطانه؟(1/419)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
{قُلْ مَن بِيَدِهِ} وتحت أمره وتصرفه {مَلَكُوتُ} ملك {كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ} من استجار به؛ فيحميه مما يؤذيه، ويدفع عنه ما يخشاه {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أي ولا يستطيع أحد أن يمنع السوء عمن أراد الله تعالى إنزاله به(1/419)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقرأ أبو عمرو أيضاً «سيقولون الله» وهو أنسب للمقام؛ كما قدمنا {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون، وتصرفون عن الحق الواضح الظاهر؟(1/419)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} كما تقول النصارى ببنوة عيسى {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} يشركه في ملكه؛ كما يقول المشركون {إِذَآ} أي لو كان معه إله {لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ} من الآلهة {بِمَا خَلَقَ} وانفرد بإدارته، ومنع الآخر من الاستيلاء عليه {وَلَعَلاَ} تعالى وتكبر {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كفعل ملوك الدنيا؛ وشأنهم دائماً التنازع والمغالبة والتعاظم {سُبْحَانَ اللَّهِ} تعالى وتقدس {عَمَّا يَصِفُونَ} من الكفر(1/420)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} السر والعلانية(1/420)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
{قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي إن كان ولا بد أن تريني ما تعدهم من العذاب(1/420)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ لئلا ينالني ما ينالهم من العذاب(1/420)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي ادفع أذى الكفار وإساءتهم بطريقة حسنة لينة؛ لا عنف فيها. قيل: نسخ ذلك بالأمر بالقتال: فيجب موادعة الكافرين، ما دمنا على محاربتهم غير قادرين. وقد ورد هذا بلفظه ومعناه في مكان آخر من الذكر الحكيم؛ وهو خاص بدفع المؤمنين. (انظر آية 34 من سورة فصلت)(1/420)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ} نزغاتهم ووساوسهم(1/420)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي أن يحضروني في أموري وعباداتي: فيفسدون ديني ودنياي، أو أن يحضروني عند الموت: فيفسدون آخرتي(1/420)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي جاء أحد الكافرين {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي أرجعني إلى الدنيا، وأعدني إلى الحياة(1/420)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{لَعَلِّي أَعْمَلُ} عملاً {صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} فيما خلفت ورائي من مال، أو فيما عملته من عمل سيىء قيل: يقول ذلك الكفار، والبخلاء عند موتهم؛ وقد أجابهم الله تعالى على طلبهم الرجوع بقوله: {كَلاَّ} لا رجوع {إِنَّهَا} أي إن قول الكافر «رب ارجعون» {كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} لا أثر لها، ولا فائدة فيها {وَمِن وَرَآئِهِمْ} أمامهم إلى يوم القيامة {بَرْزَخٌ} حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا(1/420)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(1/420)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} بالحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنعيم. الناجون من الجحيم(1/420)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ} تحرقها {كَالِحُونَ} عابسون منقبضون(1/421)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم ذلك(1/421)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي تغلبت علينا أهواؤنا وشهواتنا. وسميت شقوة: لأنها مؤدية إليها. وذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن المعنى: غلب علينا ما كتب علينا من الشقاء؛ في حين أنه لم يكتب عليهم سوى ما علم أنهم يفعلونه بمحض اختيارهم؛ فليسوا مغلوبين ولا مضطرين(1/421)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{قَالَ اخْسَؤواْ فِيهَا} أي ابعدوا في النار أذلاء يقال: خسأ الكلب: طرده(1/421)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} أي سخرتم منهم، واستهزأتم بهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} لانشغالكم بالاستهزاء بهم عن تذكري {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} إذا ذكروني وعبدوني(1/421)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم على إذايتكم {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ} بنعيمي(1/421)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{قُلْ} الملك المكلف بسؤالهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} قيل: السائل لهم مالك عليه السلام: خازن النار(1/421)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصروا مدة لبثهم في الدنيا؛ لما نالهم في الآخرة من العذاب الأليم، ولما استعجلوه في الدنيا من ملذات(1/421)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} في الدنيا {عَبَثاً} وأنكم تعيثون في الأرض فساداً ولا تصلحون، وتعبدون من الأصنام والأوثان ما تشاءون، وتذرون ربكم أحسن الخالقين {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} فنحاسبكم على ما جنيتم، ونؤاخذكم على ما كسبتم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(1/421)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{فَتَعَالَى اللَّهُ} تنزه وتقدس
[ص:422] {الْمَلِكُ الْحَقُّ} الذي {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ولا معبود سواه(1/421)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ} لا حجة {لَهُ بِهِ} تقوم على صحة ألوهيته، وصدق ربوبيته {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} أي عقوبة كفره، ومحاسبته عليه {عِندَ رَبِّهِ} في جهنم وبئس المصير(1/422)
سورة النور
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/422)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{وَفَرَضْنَاهَا} أي فرضنا أحكامها {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات(1/422)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} قدم تعالى ذكر الزانية على الزاني: لأنها منشأ الجناية، ومبدأ الغواية فلو لم تطمع الزاني بلين كلامها، وتفتح له المجال بإشراق ابتسامها؛ وتخرجه عن طوره بإظهار محاسنها، وإبداء مفاتنها؛ وتمكنه - مع كل ذلك - بالاختلاء بها من غير محرم؛ لا ثالث لهما سوى الشيطان لولا ذلك لما اعتدى أحد على حرمتها، وأهدر كرامتها، وسلبها عزها وفخرها؛ وأخرجها من عداد العفائف الحرائر، إلى مصاف الزانيات الفواجر وجلد المائة: حكم غير المحصن «الأعزب» أما المحصن «المتزوج» فحده الرجم بالحجارة حتى الموت ومنهم من قال: يجلد المحصن والمحصنة مائة جلدة؛ ثم يرجم؛ على خلاف في ذلك. والاتفاق والإجماع على جلد غير المحصن، ورجم المحصن فحسب؛ وهل بعد الموت والتنكيل عبرة لمعتبر؟ (انظر آية 106 من سورة البقرة).
ويا لها من عدالة ظاهرة، وحكمة باهرة: ينتهك المسلم حرمة أخيه المسلم؛ فلا يجد قانوناً يردعه، ولا تشريعاً يمنعه؛ وذلك لأن القوانين الوضعية - في شتى بلدان العالم - قد أجمعت على ترك الزاني بلا رادع، ولا وازع؛ حتى تفشت بسبب ذلك الأمراض الخبيثة، وفتكت بالأجسام، وأطالت الأسقام؛ وما ذاك إلا لعدم تمسكنا بديننا الحنيف، وانصرافنا عن قانوننا السماوي؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (انظر آية 32 من سورة الإسراء) {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} أي لا تأخذكم بهما شفقة حين ترون تألمهما من الجلد؛ فتجلدوهما جلداً هيناً ليناً - فما هكذا أرادالله؛ في تأديب عباده العصاة - بل الواجب شرعاً أن يجلدا بمنتهى الحزم والغلظة؛ ليكونا عبرة لغيرهما، ونكالاً لأمثالهما وكيف تأخذ الإنسان المسلم رأفة بمن لم تأخذه رأفة بأخيه المسلم؛ فانتهك حرمته، واستباح عرضه؟ بل انتهك حرمات الله تعالى، وطرح أوامره، ولم يعبأ بما أوعد به من عقاب وكيف تأخذ الإنسان المسلم
[ص:423] رأفة {فِي دِينِ اللَّهِ} وقد أمره بالجلد؛ وهو تعالى أحكم الحكماء، وأرحم الرحماء؛ ولأن الرحمة بالجاني: تحمل معنى عدم الرحمة بالمجنى عليه؛ سواء كان زوجاً، أو أباً، أو أخاً
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ} جماعة {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} زيادة في فضيحتهما، والاعتبار بهما هذا ويجب أن يتقى في الجلد الوجه والمقاتل؛ والأصوب أن يكون الجلد على الظهر؛ بلا حائل من الملبس يحول دون العذاب المفروض(1/422)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ} لا يتزوج {إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي أن الواجب ألا تزوج المسلمات العفيفات للزاني الفاجر، بل له أن يتزوج زانية مثله، أو مشركة تليق بشاكلته. {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ} لا يتزوجها {إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي يجب ألا يتزوج الحر العفيف زانية فاجرة وقد قال بعض الفقهاء بوجوب التفريق بين العفيفة إذا تزوجت بزان؛ لأنه غير كفء لها(1/423)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون العفائف المسلمات: بأن يرموهن بالزنا كيداً وظلماً {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} بعد أن ثبت فسقهم وزورهم؛ هذا ولا تقبل شهادتهم - ولو بعد توبتهم - للتأبيد الوارد في الآية «أبداً» أما قوله تعالى:(1/423)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ} فهو استثناء من قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ولا يعمل الاستثناء فيما قبل ذلك؛ وإلا لتناول الجلد أيضاً؛ وهو حد من حدود الله تعالى؛ لا يسقط بالتوبة(1/423)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وذلك بأن يقول أربع مرات: أشهد ب الله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي(1/423)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
{وَالْخَامِسَةَ} أي يقول في الخامسة: عليّ لعنة الله تعالى إن كنت من الكاذبين(1/423)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{وَيَدْرَؤُاْ} يدفع {عَنْهَا الْعَذَابَ} الرجم الذي استحق عليها بشهادة زوجها {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} بأن تقول أربع مرات: أشهد ب الله أن زوجي لمن الكاذبين.
وتقول في الخامسة: وعليّ غضب الله تعالى إن كان من الصادقين وباللعان هذا تحصل الفرقة الأبدية بين الزوجين: فلا يحل أحدهما للآخر أبد الدهر؛ فلا يجتمعان. ولا يتوارثان. وكيف يمسكها وهي بغي؟ أو كيف ترضى به وقد رماها بأقبح ما ترمى به امرأة، وأسوأ ما ينسب إلى حليلة؟(1/423)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ} الإفك: أسوأ الكذب؛ وقد كذبوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ورموها بما هي منه براء
[ص:424] {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي تحمل معظم الإثم، وخاض أكثر الخوض. والكبر: الإثم الكبير ومعظم الشيء. وقرىء «كبره» بضم الكاف. والمقصود به عبد الله ابن أُبيبن سلول، وقيل: حسانبن ثابت. ولكنه رضي الله تعالى عنه كذب ما أشيع عنه بقصيدة عصماء نفى بها ما أشيع وأذيع، وأثنى على عائشة رضي الله تعالى عنها بما هي أهل له قال فيها:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافلحليلة خير الناس ديناً ومنصباً
نبي الهدى والمكرمات الفواضلمهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل(1/423)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{لَّوْلا} هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي إذ سمعتم الإفك {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} الذين سمعوا الإفك {بِأَنْفُسِهِمْ} أي بالمفترى عليها؛ لأن جميع المؤمنين: كالنفس الواحدة {وَقَالُواْ هَذَآ} الذي سمعناه {إِفْكٌ مُّبِينٌ} كذب واضح؛ والإفك: أسوأ الكذب(1/424)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
{لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ} أي هلا جاء العصبة على هذا الإفك؛ وهو قذف صريح {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يشهدون على صدق ما زعموا(1/424)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لكم بتأخير العقوبة في {الآخِرَةَ} بالغفران لمن تاب {لَمَسَّكُمْ} أيها العصبة {فِي مَآ أَفَضْتُمْ} فيما خضتم(1/424)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أي تتلقونه؛ يؤيده قراءة من قرأ «تتلقونه» والمعنى: «تتلقونه» بأسماعكم؛ فتذيعونه «بألسنتكم» فور سماعه؛ فكأنما تلقيتموه بألسنتكم؛ لا بأسماعكم؛ لسرعة إذاعته. وقرىء «تلقونه» بكسر اللام؛ من الولق: وهو الاستمرار في الكذب {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وفي هذا دليل قاطع على النهي عن التكلم في الجنايات بالسماع؛ بل يجب أن يكون التكلم عن بينة واضحة، وعن رؤية مثبتة؛ فليست دماء الناس، وأموالهم، وأعراضهم؛ بمثل هذا القدر من الهوان {وَتَحْسَبُونَهُ} أي تحسبون هذا الرمي
[ص:425] والقذف {هَيِّناً} سهلاً {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} مستوجب للحد والمقت(1/424)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{وَلَوْلا} وهلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ} ما يصح ولا يجوز لنا {أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} أن نتهم أحداً ظلماً؛ بغير دليل ولا بينة
{سُبْحَانَكَ} يا ألله؛ تنزهت وتعاليت عن كل قبيح {هَذَا بُهْتَانٌ} زور وباطل {عَظِيمٌ} كبير(1/425)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} ينهاكم {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} أن تقعوا فيما وقعتم فيه(1/425)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أن تذيع ظلماً وزوراً وبهتاناً {فِي الَّذِينَ آمَنُواْ} وليس معنى ذلك أن يتستر الإنسان على ما ظهر من الفواحش وبدا للعيان؛ فذلك واجب المنع بكل لسان، والمحاربة بكل سنان؛ وهو يدخل في باب تغيير المنكر؛ الذي هو إحدى مراتب الإيمان وهذا بعيد كل البعد عمن يتسقط النبأ، فيذيعه على الملأ؛ فأولئك {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} بالجلد، والخزي، وسقوط العدالة، وعدم قبول الشهادة {وَالآخِرَةِ} بغضب الرحيم، وبالعذاب الأليم(1/425)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} اللعين {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} وكل صديق سوء أمر بمنكر، وزين معصية: فهو في حكم الشيطان؛ بل هو شر منه؛ ويجب اجتنابه والابتعاد عنه {مَا زَكَا} ما طهر {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يطهر من أراد من دنس الفحش، وذل العصيان(1/425)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{وَلاَ يَأْتَلِ} ولا يقصر. وقرأ أبو جعفر «ولا يتأل» أي ولا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} الغنى {أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} أي لا يقصر، ولا يحلف هؤلاء ألا يؤتوا الفقراء من أموالهم؛ لذنب جنوه، أو إثم ارتكبوه. قيل: نزلت هذه الآية حينما أقسم كثير من الصحابة - ومنهم أبو بكر - رضي الله تعالى عنهم؛ ألا يعطوا بعض من خاض في الإفك من الفقراء الذين كانوا يعطونهم. فلما نزل قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: بلى؛ أنا أحب أن يغفر الله لي وأعاد ما كان يجريه على الفقراء الذين جاءوا بالإفك. وقد أراد الله تعالى أن يحفز السامع إلا ملازمة الصفح والعفو؛ بقوله:
{أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي حيث إنكم تحبون الغفران، وتطلبونه من الديان؛ فلم لا تغفرون للإخوان، وتصفحون عما كان؟ وفي قصة الإفك، وما أعقبها: دليل على وجوب إعطاء الفقير ولو عصى، والمسكين ولو أثم إذ أن مقياس العطاء: الحاجة؛ فإذا ما استوى فيها التقي والشقي: وجب تقديم الأول على الثاني(1/425)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي يوفيهم جزاءهم الذي يستحقونه على أفعالهم(1/426)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} أي إن الخبيثات لا يرغب فيهن إلا الخبيثون. والآية مبنية على قوله تعالى: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} لأن الخبيثات والخبيثين: هم الزواني {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} وهم العفائف؛ فلا يجوز أن يتزوج عفيف إلا عفيفة مثله، ولا أن تتزوج عفيفة إلا عفيفاً مثلها. وهذه هي سنة النفوس الفاضلة، والخلق الكامل هذا ولم تخرج أوامره تعالى، وإرشاداته لخلقه عن أسمى الأخلاق التي تصبو إليها الإنسانية، وتنتظم بها الأسر: فلا يختلط الخبيث بالطيب، ولا يدنس العفيف نفسه بمخالطة البغي، ولا تنزل العفيفة إلى درك الزاني الفاجر {أُوْلَئِكَ} الطيبون والطيبات {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي مما يقوله فيهم الخبيثون والخبيثات، الوالغون في الأعراض، الطاعنون في الكرامات(1/426)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ} يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى آداب الزيارة، وكيف أننا لا نلج بيتاً قبل أن نستأذن أهله في دخوله، ونأنس بهم، ويأنسوا بنا. وانظر - يا من تتوهم أن الحضارة والرقة نأخذهما عن الغربيين - إلى أي حد يعلمنا مربينا تعالى، وإلى أي مدى يؤدبنا قرآنه الكريم، وكتابه الحكيم؛ فيحسن تأديبنا وتربيتنا(1/426)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} من أهلها تستأذنونه وتستأنسون به {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} وسواء كانت البيوت مفتوحة الأبواب، أو مغلقتها؛ فقد أغلقها الله تعالى بتحريم دخولها؛ وجعل مفتاحها الإذن من قاطنها، أو مالكها؛ و(1/426)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم؛ في {أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي غير معدة للسكن الخاص {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} وهو كل ما يتمتع به: من إيواء، واتقاء حر أو برد أو هي البيوت المستعملة لخزن البضائع وما شاكلها ويجوز أن يدخل في عموم ذلك الفنادق(1/426)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي لا يتطلعوا بأبصارهم إلى النساء؛ لأن البصر رائد القلب؛ بل هو بريد الزنا؛ بل هو مجلبة لانطماس القلب وغضب الرب فانظر - كفاك الله كيد نفسك وشيطانك - أين تضع بصرك قال الشاعر:
وطرفك إن أرسلته لك رائداً
لقلبك يوماً: أتعبتك المناظررأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه، ولا عن بعضه أنت صابر(1/426)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المراد بالزينة: مواضعها كالجيد، والمعصم، والساق، وما شاكلها، أو المراد نفس التزين: كالاكتحال، وتخضيب الكفين، ووضع المساحيق على الوجه، وتلوين الشفتين، وما أشبه ذلك {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي إلا المقدار الذي لا يمكن إخفاؤه: كالوجه والكفين؛ بغير زينة، ولا خضاب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليضعن ما يتلفعن به على صدورهن؛ والجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق؛ ومنه قوله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفية؛ وهي ما عدا الوجه والكفين، أو هو كل ما يستحب رؤيته من المرأة، وما يجذب أبصار الرجال إليها؛ فكل ذلك حرام إبداؤه {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أزواجهن؛ الذين تملكوهن بكلمة الله ولا يحل لامرأة تؤمن ب الله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لبعلها الذي أحلها الله تعالى له، أو لمحرم ممن ذكرهم الله جل شأنه في هذه الآية. وقد ذهب كثير من العلماء إلى حرمة كشف الوجه - إذا خيفت الفتنة - وذلك لأن الزينة منها ما هو خلقي: كالوجه، وما هو كسبي: كالثياب، والحلي، والكحل، والمساحيق، والأصباغ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الإماء دون العبيد؛ ولو كانوا خصياناً {أَوِ التَّابِعِينَ} كالخدم، أو الفقراء؛ الذين يتبعونكم لأجل إطعامهم والتصدق عليهم؛ بشرط أن يكونوا من {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} وهم الذين ليس لهم مأرب في النساء: كالشيوخ الصلحاء، والمجبوبين؛ ومن شابههما {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} أي ليسمع صوت الخلخال(1/427)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{وَأَنْكِحُواْ} زوجوا {الأَيَامَى} جمع أيم؛ وهي من ليست بذات زوج: بكراً كانت، أو ثيباً؛ ويطلق الأيم على الذكر والأنثى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}
أي المسلمين من العبيد والإماء(1/427)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي لا يستطيعون الزواج لفقرهم؛ والاستعفاف: الابتعاد عن الزنا، ومواطنه، وأسبابه، ومقدماته؛ ومدافعة الرغبة بالصوم؛ قال: «من استطاع الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وجاء»
[ص:428] {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} يطلبون المكاتبة: وهم العبيد يكاتبون مواليهم على أداء شيء معلوم؛ يتحررون بعد أدائه {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ} بناتكم، أو إمائكم، أو من تقومون بأمورهن مقام الولي والكفيل {عَلَى الْبِغَآءِ} الزنا؛ بتركهن بدون تزويج {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} تعففاً؛ بالزواج الحلال الطيب هذا وقد دأب أكثر الناس اليوم على التباطىء في تزويج بناتهم تباطؤاً أدى إلى الوقوع في الموبقات؛ بحجة عدم صلاحية طالب الزواج تارة، وبالتغالي في المهور تارة أخرى؛ مما يؤدي إلى الانصراف عن الفتيات، والرغبة عنهن، مكان الرغبة فيهن وفي هذا ما فيه من الانحراف، عن الاستعفاف، فليبادر من يتق الله تعالى إلى تزويج بناته؛ متى وجد الكفء لهن، الراغب فيهن، الحافظ لأعراضهن
وقيل: إنهم كانوا يكرهونهن على البغاء، لاجتلاب الرخاء؛ كما يفعل بعض من أعمى الله تعالى بصائرهم، وطمس على قلوبهم؛ وساقهم الشيطان إلى مهاوي الضلال، ومهامه الرذيلة {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} لهن {رَّحِيمٌ} بهن {مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا(1/427)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي منورهما، والهادي فيهما إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم
ولما كان النور: هو الذي يرشد الإنسان إلى مواطن الضرر والخطر، ويهديه إلى طرق الأمن والسلامة؛ ولولاه لتردى الإنسان في مهاوي البيداء، ومهامه الصحراء
ولما كان الله تعالى هو الهادي إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل؛ كان وصفه جل شأنه بالنور: هو الجامع لصفاته العلية، الموضح لحاجة الكل إليه، واعتمادهم عليه وإلا فليس بعد النور الإلهي سوى دياجير الظلمات، المبعدة عن الرحمات والجنات فتمسك - يا رعاك الله - بنورالله: يهدك سبل الرشاد والسداد «ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور» {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وهي الكوة غير النافذة في الجدار {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا} في صفائه وبريقها {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} مضيء؛ نسبة إلى الدر الذي يضيء لشدة لمعانه {يُوقَدُ} ذلك الكوكب الدري {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي ليست كسائر الشجر؛ بل «من شجرة» بورك فيها وعليها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي بينهما؛ فلا يتمكن منها حر ولا برد يضرانها {يَكَادُ زَيْتُهَا} لشدة صفائها {يُضِيءُ} بنفسه {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ضوء الزيت، وضوء النار. أو هو نور الله تعالى - وهو هدايته للمؤمن - على نور المؤمن - وهو اهتداؤه بنفسه إلى خالقه، واختياره للإيمان. وانصرافه عن داعي الشيطان - وهو النور الذي يبدؤه المؤمن باختياره؛ فيذكيه مولاه تفضلاً وتكريماً منه تعالى لمن أكرم
[ص:429] نفسه، وسما بروحه؛ فينبثق النور من القلب؛ فتشتعل جذوة الإيمان، وتبعث الأعضاء على الانقياد والعبادة؛ فيصير الإنسان الترابي نورانياً: يأمر الأقدار فتطيعه، ويقسم فيبر الله قسمه، ويرغب فينقاد إليه كل شيء طوعاً وكرهاً بإذن الحنان المنان، الرحيم الرحمن {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} أي للإيمان به(1/428)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{فِي بُيُوتٍ} هي المساجد، أو هو كل بيت يقيم أهله الصلاة فيه، ويذكرون اسمه تعالى ويسبحونه ويقدسونه وهذه البيوت: هي محط نور الله تعالى، ومبعث هدايته ورحمته، والطريق إلى رضائه وجنته؛ وفيها المشكاة، ومنها ينبعث نور المصباح {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي في الصباح والمساء(1/429)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{يَخَافُونَ يَوْماً} هو يوم القيامة {تَتَقَلَّبُ} تضطرب
{فِيهِ الْقُلُوبُ} من شدة الخوف والرعب، والتردد بين الهلاك والنجاة تتقلب فيه أيضاً {الأَبْصَارِ} حيرى بين الجنة والنار(1/429)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من فضله في الدنيا، ومن نعيمه في الآخرة {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بلا حد، وبلا مقابل؛ فقد يرزق بالقناطير، جزاء للنزر اليسير، وقد يدخل الجنات، جزاء لصدق الطويات؛ فتعالى المعطي المانع، الضار النافع(1/429)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ} الصالحة؛ التي عملوها في الدنيا - كصلة الرحم، وحسن المعاملة، والصدقة، وأشباه ذلك - فإنها تصير يوم القيامة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وهو شعاع يرى في الفلاة في وسط النهار {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} فيهرع إليه لشدة ظمئه {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مما أراده: لا ماء، ولا ري {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} أي عند عمله؛ الذي هو كالسراب، والذي هو في مسيس الحاجة إلى أقل الجزاء عليه؛ وفاته أنه قد جوزي على إحسانه في دنياه؛ تفضلاً وعدلاً من الله فإذا ما طمع في الجزاء عليه يوم القيامة «وجد الله عنده» {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} من العذاب؛ جزاء فسقه وكفره(1/429)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ} أي إن أعمال الكفار «كسراب بقيعة، أو كظلمات» {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} عميق، بعيد الغور، كثير الماء {يَغْشَاهُ} أي يغطي هذا البحر العميق {مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ} أي من فوق هذا الموج {مَوْجٌ} آخر {مِّن فَوْقِهِ} أي من فوق هذا الموج؛ الذي هو فوق الموج الأول {سَحَابٌ} غيم؛ فتجتمع من هذه الظلمات، والبحر، والأمواج المتراكبة المتكاثرة، والغيوم المتكاثفة {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ} الناظر، أو الواقع في هذا البحر {يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لما أحاط به من الظلمات
وهو مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار؛ فمثل أعمالهم بالظلمات؛ لأنها كلها مبنية على الخطإ والزيغ والفساد، ومثل اضطراب قلوبهم، وعدم استقرارها، وتغشيتها بالحيرة والضلالة: بالبحر اللجي
[ص:430] المتلاطم بالأمواج؛ إلى غير مقصد، وعلى غير هداية، ومثل جهلهم الذي غطى على عقولهم، وران على قلوبهم: بالسحاب {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يسترشد به في الملمات، ويهتدي به في الظلمات {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} يوصله إلى الأمن والنجاة والسلامة(1/429)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من ملك وإنس وجن {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ} باسطات أجنحتهن بين السموات والأرض؛ فصار التسبيح شاملاً لما في السموات والأرض وما بينهما {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي قد علم الله تعالى صلاتهم وتسبيحهم، أو «كل قد علم» كيف يصلي، وكيف يسبح. (انظر آية 44 من سورة الإسراء)(1/430)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي} يسوق {سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يضم بعضه إلى بعض؛ بعد أن كان متفرقاً {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً؛ بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر. وقيل: البرق {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من ثنايا السحاب {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بالبرد النازل من السماء {مَن يَشَآءُ} معاقبته: فيتلف به زرعه، ويهلك ضرعه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي لمعان برق ذلك السحاب المزجي المتراكم {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} يعميها فلا ترى شيئاً(1/430)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يأتي بأحدهما مكان الآخر، أو ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر(1/430)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} أي من نطفة؛ وذلك لأنها سائلة، وأغلبها ماء. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، أو حيوان أو طير، ونحوه. والدابة إجمالاً: كل مخلوق تدب فيه الحياة. حتى الطير فإنه يخلق من البيضة؛ والبيضة محتوية على ماء الذكر حتماً؛ وإلا فهي غير معدة للإنتاج. وبذلك اقتضت حكمة الحكيم
{فَمِنْهُمْ} أي من الدواب {مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالثعبان {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان، والطائر {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام والحيوان {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} كما شاء {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} على إيجاده؛ وإنما هي أسباب سببها، وأمور رتبها؛ وقد خلق تعالى كل شيء ابتداء من غير ماء ولا نطفة، وسيعيده انتهاء من غير سبب؛ فتعالى الخالق، وجل المبدع المصور(1/430)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} حجج واضحات: هي آيات القرآن الكريم {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} هو طريق الإسلام؛ الموصل إلى الجنة(1/430)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَيِقُولُونَ} أي يقول المنافقون {ثُمَّ يَتَوَلَّى} يعرض {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فيما عرض لهم من خلاف(1/430)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن هذه الحكومة يأبونها لأن الحق قد جانبهم، والصواب قد باعدهم؛ ولأن الرسول لا يقول إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً(1/431)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ} أي في جانبهم {يَأْتُواْ إِلَيْهِ} أي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لعلمهم أنه سيحكم لهم؛ ما دام الحق معهم {مُذْعِنِينَ} طائعين مسرعين(1/431)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المراد بالمرض: الرغبة في اغتيال الحقوق؛ أو المراد به الكفر {أَمِ ارْتَابُواْ} شكوا في صدقه ونبوته {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ} يجور ويظلم {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الكافرون(1/431)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي الواجب على من يتصف بالإيمان(1/431)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ} أي أقسم المنافقون {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غايتها ونهايتها {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} بالخروج للجهاد {لَيَخْرُجُنَّ} معك {قُل لاَّ} حينما يقسمون لك، ويجهدون أنفسهم في خداعك {تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي إن مبلغ طاعتكم وانقيادكم معروف لنا أيها المنافقون، وقد أطلعنا الله تعالى على ما في قلوبكم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من طاعة باللسان، ومخالفة بالجنان(1/431)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا؛ أي فإن تعرضوا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} من التبليغ إليكم؛ وقد بلغ {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} من وجوب الإيمان والطاعة؛ وقد كفرتم وعصيتم(1/431)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} وهو أمر ظاهر: فقد تم للمؤمنين فتح فارس والروم، ودانت لهم البلاد والعباد {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل: أهلك الله تعالى الجبابرة بمصر والشام؛ وأورثهم أرضهم وديارهم
[ص:432] {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وأي تمكين أكثر من أن شاع الإسلام وذاع، وملأ الأراضي والبقاع، ولم تبق بقعة على وجه الأرض تخلو من الإسلام والمسلمين؛ رغم محاربة الكافرين، ومعاداة المضلين {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فقد كان السائر في الجاهلية لا يستطيع أن يمشي بضع خطوات؛ مطمئناً على نفسه، أو ماله؛ فجاء الإسلام فأحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق، والحب مكان الكراهية، والعطف والحنان مكان البغض والحقد {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون على ربهم(1/431)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ} أي لا نقدر على مؤاخذتهم والنيل منهم.
أي لا يجوز أن يدخل عليكم خدمكم، ولا أطفالكم بدون استئذان في هذه الأوقات الثلاثة: وهي قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت طرح ثياب النوم واستبدالها بغيرها، وحين تخلعون ثيابكم لتناموا ظهراً؛ لأنه وقت القائلة وتخفيف الثياب، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرد من الثياب(1/432)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أي هذه الأوقات المذكورة «ثلاث عورات لكم» لأنكم تحتاجون فيها إلى خلع الثياب؛ وبذلك يبدو منكم ما تحرصون على ستره، وتكرهون أن يراه أحد من الناس وقيل: أصل العورة من العار؛ وذلك لما يلحق في ظهورها من العار والمذمة (انظر آية 8 من سورة النساء) {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} جناح في ترك دخول خدمكم عليكم بغير استئذان؛ في غير هذه الأوقات الثلاثة {وَلاَ} حرج {عَلَيْهِمْ} في دخولهم عليكم. وهذا الحكم قبل أن تكون للبيوت أبواب أو ستور؛ أما عند وجود الأبواب أو الستر؛ فالإذن واجب في كل الأوقات، وسائر الحالات {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني الخدم يطوفون عليكم بحوائج البيت، وتطوفون عليهم بطلب ما يلزمكم(1/432)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} أي في كل الأوقات {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ} بلغوا الحلم {مِن قَبْلِهِمْ} وهم الذين تناولتهم الأحكام السابقة(1/432)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} وهن اللائي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن. وهم لذلك لا يطمعون في الزواج ولا يطلبونه؛ بعد أن بلغن ما بلغن {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} التبرج: إظهار ما خفي من الزينة {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} عن التبرج والتزين {خَيْرٌ لَّهُنَّ} في الدنيا؛ لأنه موجب للإكبار والاحترام، و «خير لهن» في الآخرة؛ لأنه مدعاة لرضا الرب سبحانه وتعالى(1/433)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} أي بيوت أبنائكم؛ لأن بيت الإنسان لا يحتاج إلى إذن ورفع حرج. ولأنه تعالى لم يذكر بيت الأبناء؛ وهو أولى البيوت بالأكل منه؛ وعبر تعالى عنها بلفظ «بيوتكم» لأن بيت الابن ليس كبيت الإنسان فحسب؛ بل هو بيته فعلاً؛ قال: «أنت ومالك لأبيك» {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} أي خزنتموه لغيركم، وكنتم وكلاء على إدارته؛ كناظري الزراعات، ومديري المطاعم، وأشباههم. ويجب - في هذه الحال - أن يكون المالك عالماً بذلك. وقيل: إن هذا خاص بمن يقوم بعمله من غير أجر {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي ليس عليكم جناح في أن تأكلوا من بيوت من ذكر؛ ولو بغير حضورهم. هذا وقد يرتاح الإنسان في الأكل من بيت صديقه؛ أكثر من راحته في الأكل من بيت نفسه فكم من حبيب، أعز من القريب؛ وكم من أخ لك لم تلده أمك و {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً} مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتاً} متفرقين {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} بأن تقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن الملائكة ترد عليكم. هذا إذا لم يكن بها إنسان(1/433)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حقاً: هم {الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي أمر هام يحتاج للاجتماع: كخطبة الجمعة، ودراسة الدين والقرآن(1/433)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ} أي نداءه {كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} بأن تقولوا: يا محمد. بل قولوا: يا نبيالله، يا رسول الله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} أي يخرجون مستخفين متسترين؛ يلوذ بعضهم ببعض {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يخالفون أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أمره جل شأنه {أَن تُصِيبَهُمْ} بسبب هذه المخالفة {فِتْنَةٌ} عذاب، أو زلازل وأهوال، أو سلطان جائر(1/434)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} «قد» للتحقيق؛ أي قد علم {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من خير فيثيبهم عليه، ومن شر فيأخذهم به.(1/434)
سورة الفرقان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/434)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
تعالى وتقدس وتنزه أو هو من البركة، وهي الخير كل الخير {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} القرآن، وسمي فرقاناً: لأنه يفرق بين الحق والباطل {عَلَى عَبْدِهِ} محمد {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} الجن والإنس؛ و «العالمين» جمع العالم. والعالم: الخلق كله(1/434)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{وَلَمْ} كما تزعم النصارى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} كما زعم المشركون {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} بحيث لا يزيد عن الحاجة، ولا ينقص عنها (انظر آية 50 من سورة طه)(1/435)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} هي الأصنام {وَلاَ نُشُوراً} أي بعثاً للأموات؛ وهذه جميعها يملكها مبدع الأرض والسموات؛ فهو تعالى وحده خالق الخلق ومالكهم، وهو جل شأنه القادر على إيقاع الضر، وإيصال النفع، وإحداث الموت والحياة والنشور(1/435)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا} ما هذا القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ} كذب {افْتَرَاهُ} اختلقه محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} ساعده على اختلاقه {قَوْمٌ آخَرُونَ} زعم المشركون أن بعض من آمن بمحمد من اليهود كانوا يعاونونه في اختلاق القرآن {فَقَدْ جَآءُوا} بقولهم هذا {ظُلْماً وَزُوراً} كفراً وكذباً؛ إذ كيف يؤمن به قوم يعلمون علم اليقين كذبه وافتراءه؟ وكيف يعقل أن هذا القرآن المعجز من صنع البشر، ومن جنس كلامهم؟ (انظر آية 23 من سورة البقرة)(1/435)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الأَوَّلِينَ} المتقدمين {اكْتَتَبَهَا} طلب من غيره كتابتها له {فَهِيَ تُمْلَى} تقرأ {عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أول النهار وآخره. أي صبحاً ومساء(1/435)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الذي يعلم ما خفي فيهما. ولما كان القرآن الكريم حاوياً لكثير من المغيبات؛ التي يستحيل على البشر علمها؛ كان ذلك دليلاً على نزوله من لدن عالم السر والنجوى(1/435)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{وَقَالُواْ} من جهلهم وغبائهم {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل {وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} طلباً للمعايش؛ كما نمشي {لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} من السماء {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يصدقه فيما يبلغه عن ربه(1/435)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} يغنيه عن المشي في الأسواق، ويجعله من الأغنياء الذين ينظر إليهم بعين الإكبار والاعتبار {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} الكافرون {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مخدوعاً، مغلوباً على عقله(1/435)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انظُرْ} يا محمد {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ} فوصفوك بالمسحور، والمحتاج إلى مال ينفقه، وإلى ملك يؤيده؛ وهذه الأمثال التي ضربوها، والأكاذيب التي اخترعوها؛ ما أرادوا بها إلا التوصل إلى تكذيبك، والحط من شأنك {فَضَلُّواْ} عن الهدى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الإيمان؛ وكيف يهديهم الله تعالى وقد ضلوا وأضلوا {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا(1/436)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً} غلياناً؛ كما يغلي صدر المغضب المغيظ {وَزَفِيراً} صوتاً شديداً. أو المعنى: رأوا لها تغيظاً، وسمعوا لها زفيراً؛ لأن التغيظ لا يسمع؛ أو هو وصف لخزنتها(1/436)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} أي إذا ألقوا في مكان ضيق منها؛ وجهنم تضيق على وارديها - رغم سعتها، وقولها {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} - ليكون ذلك الضيق من جملة العقاب الواقع بهم {مُّقَرَّنِينَ} مسلسلين في الأغلال؛ قرنت أيديهم وأرجلهم {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} أي هلاكاً؛ كقول المصاب: وامصيبتاه؛ فيقال لهم:(1/436)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} لأن الهلاك قد أحاط بكم من كل جانب(1/436)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{قُلْ} للمشركين يا محمد - بعد وصف ما أعده الله تعالى لهم من عذاب أليم - {أَذلِكَ} العذاب {خَيْرٌ} لمن يحل به {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ} بها، وأعدها الله تعالى لهم {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً} ثواباً على أعمالهم {وَمَصِيراً} مرجعاً يصيرون إليه؛ فضلاً من ربهم ورضواناً(1/436)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{كَانَ} ذلك الجزاء {وَعْداً} وعده الله تعالى عباده المتقون {مَّسْئُولاً} يسأله من وعد به: «ربنا وآتنا ما وعدتنا» ويسأله الملائكة «ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم»(1/436)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي يحشر المشركين {وَمَا يَعْبُدُونَ} من الأصنام، أو من الملائكة، والإنس والجن {فَيَقُولُ} تعالى للمعبودين(1/436)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{قَالُواْ} أي الأصنام؛ ينطقها الله الذي أنطق كل شيء. أو المراد بما يعبدون: ما يعقل: كالملائكة، وعيسى، وعزير {سُبْحَانَكَ} تعاليت وتقدست عما قالوا، وما فعلوا (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} ونحن المعبودون لهم نواليهم ونركن إليهم؛ فكيف نضلهم، ونطلب منهم أن يعبدونا من دونك؟ {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ} بسعة الرزق، وطول العمر
[ص:437] {حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ} تركوا شكر نعمتك؛ حتى استوجبوا نقمتك {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} هلكى؛ أو هو كالأرض البور: الفاسدة التي لا تجود بالنبات(1/436)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} أي كذبتكم الآلهة التي تزعمونها، وتبرأت منكم {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} دفعاً للعذاب عنكم {وَلاَ نَصْراً} ولا أحداً ينصركم علىالله، ويمنعكم عذابه الذي قضاه لكم {وَمَن يَظْلِم} يشرك(1/437)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} كما تأكل {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}
كما تمشي؛ فلست بدعاً من الرسل؛ بل أنت واحد منهم {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} أي بلية: ابتلى الفقير بالغني، والمريض بالصحيح، والوضيع بالشريف؛ فيقول الفقير: ما لي لا أكون غنياً؟ ويقول المريض: ما لي لا أكون صحيحاً؟ ويقول الوضيع: ما لي لا أكون شريفاً؟ وذلك الابتلاء لينظر تعالى {أَتَصْبِرُونَ} على ما ابتليتم به، أم تكفرون؟ {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} بعباده، عالماً بما سيؤول إليه أمرهم وحالهم(1/437)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لا يؤمنون بالآخرة {لَوْلاَ} هلا {وَعَتَوْا} طغوا(1/437)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ} يوم القيامة؛ لأنهم لا يرونهم إلا يومها؛ ويومذاك {لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} الكافرين؛ بل لهم العذاب والخزي والحرمان ولا تكون البشرى إلا لصالحي المؤمنين {وَيَقُولُونَ} أي يقول الملائكة {حِجْراً مَّحْجُوراً} أي حراماً محرماً أن يبشر أو يدخل الجنة؛ إلا من قال: لا إله إلاالله، وقام بحقها. وقيل: هو من قول الكافرين؛ بمعنى: عوذاً معاذاً؛ يستعيذون من الملائكة الذين يدفعونهم إلى جهنم، ويدعونهم إلى نارها(1/437)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} أي إنا لا نقيم لحسنات الكفار وزناً يوم القيامة(1/437)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي منزلاً؛ وهو المكان الذي يقال فيه؛ أي ينام وقت القيلولة؛ وهي منتصف النهار(1/437)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ} تتشقق {بِالْغَمَامِ} قيل: تتشقق السماء عن غمام أبيض؛ وهو المعنى بقوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ} من أمكنتها وسماواتها {تَنزِيلاً} بأمر ربها(1/437)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي الملك الحقيقي؛ الذي فيه الرفع والخفض، والإعزاز والإذلال؛ وليس كملك الدنيا وملوكها؛ الذين لا حول لهم ولا طول(1/437)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} ألماً وحسرة وندماً
[ص:438] {يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} طريقاً إلى الهدى(1/437)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} وفلاناً: هو الشيطان الموسوس: إنسياً كان أو جنياً(1/438)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} صرفني عن القرآن وما فيه من عظات، وآيات بينات(1/438)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي متروكاً؛ والمراد ترك أحكامه، أو ترك تلاوته والاتعاظ به. وقيل: اتخذوه محلاً للهجر والسخرية. والهجر: فحش القول(1/438)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} لنتأكد أنه منزل من عند ربه؟ قال تعالى رداً عليهم {كَذَلِكَ} أنزلناه مفرقاً منجماً {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي قلبك بحفظه واستيعابه، وفهمه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي بيناه تبييناً، ونزلناه بتمهل وتؤدة(1/438)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} يريدون به تكذيبك وإبطال أمرك {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الدامغ لباطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} بياناً للأمور؛ وقد وصفهم الله تعالى بقوله:(1/438)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} يجرون عليها؛ وفي هذا منتهى الإذلال والتعذيب(1/438)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة. وقد شرع الله تعالى في تسلية رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بسرد تكذيب الأمم السابقة لرسلهم - كما كذبه قومه - وما حل بأقوامهم من تعذيب وتدمير(1/438)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} وهم فرعون وقومه من القبط؛ فذهبا إليهم برسالة ربهم وكتابه؛ فكذبوهما وآذوهما ومن آمن بهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أهلكناهم إهلاكاً(1/438)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} عظة وعبرة {وَأَعْتَدْنَا}
أعددنا وهيأنا(1/439)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{وَعَاداً} قوم هود {وَثَمُودَاْ} قوم صالح {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} الرس: البئر غير مطوية؛ وقد كانوا حولها وقت نزول العذاب فانهارت بهم؛ ولذا تسموا باسمها. وهم قوم شعيب عليه السلام {وَقُرُوناً} أمماً(1/439)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أهلكنا إهلاكاً؛ من التبر: وهو الكسر والإهلاك(1/439)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{وَلَقَدْ أَتَوْا} أي مر كفار مكة {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} السوء: العذاب؛ وهي قرية سذوم: أعظم قرى قوم لوط؛ وقيل: سدوم. وقد أهلكها الله تعالى وأمطرها حجارة. وقد كانت قريش تمر بها في تجاراتهم إلى الشام {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} أي لا يؤمنون بالبعث(1/439)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} دمنا وبقينا على عبادتها(1/439)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي نسي مولاه، واتبع هواه، وانقاد له في كل الأمور. قيل: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر؛ فإذا مر بحجر أحسن منه عبده وترك الأول (انظر آية 176 من سورة الأعراف)(1/439)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} بسط الظل الظاهر للعيان؛ ليتمتع به كل إنسان {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} مستقراً لا تنسخه شمس. أو المراد بسكونه: منع الشمس من الطلوع {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي على تحرك الظل؛ إذ أن الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها؛ فلولا الشمس ما عرف الظل(1/439)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا الظل الممدود {قَبْضاً يَسِيراً} خفياً بطيئاً؛ بطلوع الشمس، أو بزوالها؛ حيث يقبض الظل ويتقلص، ويحل محله الإظلام التام(1/440)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} أي ساتراً كاللباس {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة. وقيل: موتاً لأنه الموت الأصغر. قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}
أي ينشر فيه الخلق لطلب المعايش، أو هو كالبعث من الموت(1/440)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح لتبشر الناس بالمطر وسمي المطر رحمة: لأن به حياة النفس، والأرض، والنبات، والحيوان(1/440)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} جدباً؛ لا نبات فيها {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً} إبلاً وبقراً وغنماً {وَأَنَاسِيَّ} جمع إنسان أو جمع إنسي(1/440)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} بيناه؛ والمراد به القرآن الكريم؛ وقيل: المراد به الماء؛ وليس بشيء؛ وقد جاء ذكر القرآن في صدر السورة {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} وقوله {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} القرآن {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي} وقوله تعالى:(1/440)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي بالقرآن - لا بالماء - والجهاد به: الأمر بالعمل بما فيه، والقتال عليه(1/440)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} جعلهما متلاصقين مختلطين {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزً {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} حائلاً يمنع أحدهما عن الآخر(1/440)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ} المني {بُشْرَى} إنساناً {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} بأن يتزوج، ويزوج، فيناسب، ويصاهر؛ وبذلك ينتج وينجب من يناسب ويصاهر أيضاً؛ فلا تنقطع البشرية(1/440)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي معيناً عليه أعداءه؛ من شياطين الإنس والجن(1/440)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي على التبليغ {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لا أطلب أجراً لي على التبليغ؛ إلا من شاء أن يتخذ طريقاً لمرضات ربه؛ فينفق من ماله، ويتصدق مما آتاه الله(1/441)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} هو قول: سبحانالله، والحمدلله قال «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} عليماً بها؛ فيجازيهم عليها {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود(1/441)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{الَّذِي خَلَقَ} أي عنه؛ والباء تكون بمعنى عن؛ إذا اقتضى السياق ذلك. ونظيره قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي عن عذاب. ومعنى «فاسأل به» أي اسأل عما ذكر من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش {خَبِيراً} أي خبيراً بذلك؛ وهو الله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقال بعض الأجلاء: «فاسأل به خبيراً» أي اسأل عن الرحمن «خبيراً» وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ وقد ورد اسم الرحمن في كتبهم؛ وقد كان المشركون أنكروا على الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الاسم الكريم عند نزول قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى} وقد وصف الله تعالى ما حدث منهم بقوله جل شأنه:(1/441)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ} مستنكرين {وَمَا الرَّحْمَنُ} ألست تزعم أن ما تدعونا إليه إلهاً واحداً؟ {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} ذكر الرحمن {نُفُوراً} على نفورهم، وكفراً على كفرهم(1/441)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{تَبَارَكَ} تعالى وتنزه وتقدس الله {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً} وهي اثنا عشر (انظر آية 16 من سورة الحجر) {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} يضيؤها؛ وهو الشمس {وَقَمَراً مُّنِيراً} ينير الأرض عند طلوعه، ويهدي السائرين والمسافرين.
هذا وقد ولع أقوام باكتشاف القمر؛ ولم تقف أطماعهم عند حد النظر؛ بل أرادوا أن يلجوه، ويسبروا غوره، ويعرفوا ما وراءه. وزعم بعضهم أنه سيرسل صاروخاً يفجر به جزءاً من القمر؛ ليكون هذا التفجير طريقاً إلى اكتشافه.
وما رأينا فيما رأينا ولا سمعنا فيما سمعنا حمقا يعدل هذا الحمق ولا جهلا يوازي هذا الجهل! فإننا لو افترضنا جدلا أن الوصول إلى القمر بالطريق التي يرسمونها، ومن اليسر بالدرجة التي يتوهمونها، فهمل من الحكمة، وهل من السداد أن يحطم الإنسان ما يريد أن يكتشفه وينتفع به؟!
وماذا يكون الحال لو ثبت أن في هذه الكواكب سكاناً عقلاء، وأنت هؤلاء السكان قد بلغوا
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: النص التالي في النسخة الإلكترونية، وليس في المطبوع:
وقوام البحث العلمي الصحيح: أن نبحث أموراً ثلاثة:
أولها: أن التحدي واقع على الإنس والجن معاً {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ}.
ثانيها: أقطار السموات والأرض، ومدى هذه الأقطار، وكنهها {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ}
ثالثها: السلطان؛ الذي تستطيع أن تنفذ به الإنس والجن من أقطار السموات والأرض؛ متى توفر لهم {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} وهل يمكن توفر هذا السلطان أم لا؟
الأول: التحدي يجب أن يكون بأمر؛ ليس في طاقة المتحدِّي إتيانه.
وقد ثبت من القرآن نفسه: قول الجن «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً».
فوجب أن يكون التحدي: أبعد من لمس السماء، أو أن يكون اللمس غايته؛ لأنهم قد منعوا عنه بالحرس والشهب.
الثاني: أن مدى أقطار السموات والأرض؛ يستدعينا أن نستوفي المقاييس بين السماء والأرض؛ لمعرفة أقطارهما، والكواكب المتعلقة بالأرض، والمسخرة لخدمتها وخدمة سكانها؛ فالقمر: الذي وصلوا إليه، والمريخ والزهرة: اللذان يحاولون الوصول إليهما؛ بل المجموعة الشمسية كلها؛ بما فيها من كواكب، وأنجم ومجرات: كلها مسخرة للأرض {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ}
[ص:442] من العلم ما بلغنا وأنهم قد رغبوا فيما رغبنا فيه، من اكتشاف بعض الكواكب القريبة منهم - كالأرض مثلا- فإذا بنا نفاجأ يوما ما بصاروخ موجه إلى الأرض من القمر أو سكان الزهرة أو المريخ، وإذا بنا في لحظة من اللحظات وقد طاحت القارة الأمريكية أو الأوروبية أو غيرهما من القارات، في سبيل استكشاف سكان بعض الكواكب للكوكب الأرضي
أليس في هذا من الحمق والخرق ما يكفي لأن نغل يد من يقول بذلك ويعمل في سبيله، وأن نلقي به في غياهب البيمارستانات، حتى يرتد إليه عقله، ويثوب إليه رشده
وإذا سرنا وراء السائرين، وقلنا مع القائلين: بأن الإنسان سيبلغ القمر لا محالة، وأنه سيسكنه ويستعمره في بضع سنين، فما الفائدة التي تعود على بني الإنسان من سكنى القمر أو سكنى بعض الكواكب؟ ولنفترض أننا قد وصلنا إليه الآن فعلا، فهل تقف مطامع الإنسان عند هذا الحد أو يشمر عن ساعد الجد، فيسعى للوصول إلى الزهرة فالمريخ - وقد طمع من الآن في ولوجهما، وبدأ في قياس أبعادهما، وطريق الوصول إليهما - وها نحن أولاء قد وصلنا إلى القمر وسكناه، وإلى المريخ فاستعمرناه، وإلى الزهرة فملكناه، فهل تقف المطامع إلى هذا الحد، أم تتصاعد إلى عطارد، فالمشترى، فزحل
[ص:443] وآخر المطاف قد يفكر الإنسان في ولوج الشمس؛ ليسبر غورها، ويكشف لثامها؛ ولم لا: ألم يتغلب على سائر الأجواء، ويتملك الأرض والسماء؟ فإن كانت الشمس قطعة من النيران؛ فإنه يستطيع حتماً مكافحتها بما أوتي من حذق وعلم؛ فليأخذ كل صاعد إلى الشمس آلة صغيرة مما أعد لإطفاء الحرائق؛ فيعيش في النيران، كما يعيش المنعم في الجنان
وإذا ملك الإنسان الكواكب واستعمرها - كما يزعم - فهل يقف عند ذلك؛ أم يقلب ناظريه إلى العرش والكرسي، وإلى الملك اللانهائي؛ فيطمع في معرفة حدوده وأركانه وتخومه؛ وكيف نشأ الكون؟ وكيف بدأ؟ وكيف صنع؟ ومن هو هذا الصانع؟ وأين هو؟ هلم إلى لقائه؛ بل إلى محاربته ألم ننكر وجوده؟ ألم نكفر بحقيقته؟ ألم نقل: لا إله إلا المادة، ولا خالق إلا الطبيعة، ولا رازق إلا السعي، وأن المخلوقات إنما خلقت من لا شيء، والموجودات وجدت من غير شيء؟ وها هو الكون قد جبناه، والملكوت قد حصرناه؛ فأين يوجد ما تزعمون أنه الله؟
[ص:444] فيا أيها ذا الأحمق الأخرق: لقد وصلت إلى درجة من الفهم؛ ما كنت لتعقلها لولا ما وهبك الله تعالى من عقل، ووصلت إلى درجة من العلم؛ ما كنت لتعلمها لولا هداية العزيز الأكرم، الذي {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فقد استطعت أن تقيس سرعة الصوت والضوء، وأن تحسب تنقلات الشمس والقمر في بروجهما، وتحديد زمن كسوفهما وخسوفهما؛ وشأن كليهما وتأثيره في الحيوان، والنبات، والجماد.
وقد أدركت - بما علمك الله تعالى - بعض القوانين الكونية، وكثيراً من الأسرار الطبيعية
كل ذلك قمين بهدايتك إلى خالقك وموجدك، وجدير بإنابتك له وتعبدك ولكنك أيها الإنسان - كشأنك دائماً - جحود كنود فقد جعلت هذه الفتوحات الربانية باباً لكفرك وتكذيبك، ومصدراً لإلحادك وعنادك؛ ولم تقل: جل الصانع، وتبارك الخالق بل قلت: ما أجمل الطبيعة وأبدعها أليست هي مصدر الكون، وأصل الحياة؟ وما الكون إلا وليد الصدفة، وما الإنسان إلا وليد الطبيعة
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؛ الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك اعلم أن الذي أدركته وملكته واستعمرته: لا يعدل قطرة من بحر ملك ربك الزاخر، وأن ما علمته من الكواكب، وما أدركته من صفاتها ومقوماتها؛ إن هو إلا ذرة في مجموعة من النجوم - لا تستطيع أن تحصيها ولو أضفت إلى عمرك أعمار النسور، وأضفيت على نفسك قوى الجبابرة والعمالقة - وهذه النجوم مجتمعة - ما عرفت منها وما لم تعرف - إن هي إلا ذرة في مجموعة أخرى؛ لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوهم؛ وهكذا هكذا بغير انتهاء
واعلم أنك - وقد استويت خلقاً، وأوتيت علماً وفهماً، وسلطك الله تعالى على ما هو أكبر منك جسماً، وأشد مراساً؛ من مخلوقاته - لو سلط عليك قليلاً من النمل لأهلكك، أو ريحاً من الرمل لأفنتك وها هو الميكروب الذي عرفته، وبما آتاك الله تعالى من علم اكتشفته: لو سلطه الله تعالى عليك لجعلك كالعصف المأكول؛ كما فعل بأصحاب الفيل
فيا أخي في الإنسانية، وعدوي في اللادينية: ثب إلى رشدك، وقف عند حدك، والزم أدبك؛ واعلم أن نفسك ليست بأخس من النعل، ولا بأحقر من الحديدة في حافر البغل؛ وهما لا يوجدان بغير موجد، ولا يكونان بغير مكون. فكيف توجد أنت - يا لابس الحذاء، وراكب البغل - بلا خالق، وتأكل بلا رازق، وتولد بلا مصور، وتتعلم بلا معلم، وتتربى بلا مرب، وتحفظ بلا حفيظ، وتهتدي بلا هاد، وتغنى بلا مغن؟ كيف يفوتك ذلك وأنت اللبيب الأريب؟ وقد أبان لك الله تعالى الطريقين، وهداك النجدين؛ فاحذر يا أخي من الوقوع في براثن الشيطان؛ إنه لك عدو مبين؛ وإني لك لناصح أمين
ومن عجب أن يتبرع أناس بأنفسهم، ويضحون بأرواحهم، ويطلبون أن يكونوا من بين المسافرين إلى الكواكب؛ كأن السفر إلى الكواكب قد أصبح بين عشية وضحاها حقيقة ثابتة واقعة لا محالة. ومثلهم في ذلك كمثل من سعى إلى حتفه بظلفه؛ فلن يبلغ الكواكب بالغ، ولن يسافر إليها مسافر فكما أن أجواء أعماق البحار والأنهار غير صالحة لسكنى بني الإنسان - مع صلاحيتها لسكنى كثير من الحيوان - فإن أجواء الكواكب لا تصلح لسكناه، أو لبقائه بضع دقائق على قيد الحياة؛ كما أن الأرض لا تصلح لحياة ساكني البحار، ولا ساكني الكواكب.
وهذا وقد قال الحكيم العليم - في معرض التعجيز والتحدي - {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أي بقوة عظيمة قاهرة؛ وأنى لكم ذلك؟ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فإن استطعتم يا معشر البلهاء؛ أن تبلغوا الكواكب فابلغوها، وأن تصعدوا إلى النجوم فاصعدوا إليها؛ فقد سبقكم إلى ذلك فرعون؛ حيث قال لهامان: {يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} فما نالهما سوى الخزي والخذلان
وما فرعون وهامان بأكفر ولا أحمق منكم: فقد كذب بخالقه كما كذبتم، وأنكر إلهه كما أنكرتم؛ فأنتم في الغفلة سواء؛ كما أنكم في الكفر أشقاء؛ ولم يبق إلا أن تنزل بساحتكم الأرزاء، وبجسومكم الأدواء؛ ومآلكم جميعاً إلى النار، وبئس القرار
فيا أيها الناس استجيبوا لقول خالق الناس؛ واحذروا ما أعده لأمثالكم من نار ونحاس؛ واحفظوا على أنفسكم أموالكم وعقولكم؛ واعلموا أن استعمار الأنهار، وسكنى قاع البحار؛ أقرب إليكم من استعمار الكواكب وسكناها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}(1/441)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف أحدهما الآخر {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} يتذكر؛ فإن فاتته عبادة في أحدهما؛ أدركها في الآخر {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أو أراد أن يشكر ربه. هذا وشكره تعالى باللسان: أقل مراتب الشكر؛ وإنما يكون الشكر بالعبادة، والصدقة،
[ص:445] والصيام، والقيام (انظر آية 152 من سورة البقرة)(1/444)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} أي متواضعين، هينين؛ بدون كبر، ولا مرح، ولا بطر {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ} بسفههم: قابلوه بحلمهم؛ و {قَالُواْ سَلاَماً} أي قالوا قولاً يسلمون به من الإثم الذي وقع فيه الجاهلون {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}
أي هلاكاً لازماً، ومغرماً لا كسب فيه(1/445)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ} نفقة على أنفسهم وعيالهم {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} أما إذا كان الإنفاق في الصدقات؛ فيستحب الإسراف فيه. قال: «لا سرف في الخير» {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أي عدلاً بين الإسراف والتقتير؛ وكفى بالمرء سرفاً: أي ينيل نفسه كل ما تبتغيه(1/445)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} أي جزاء الإثم. وأي إثم أشد من الإسراف، والشرك، وقتل النفس، وارتكاب الزنا(1/445)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أي يخلد في العذاب خلوداً أبدياً لا انقضاء له (انظر آية 93 من سورة النساء)(1/445)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{إِلاَّ مَن تَابَ} عن الإسراف، والعصيان، والقتل؛ قبل أن يدركه الموت وأسبابه {وَآمَنَ} ب الله إيماناً يقينياً {وَعَمِلَ} عملاً {صَالِحاً} وذلك لأن الإيمان لا يتم إلا بالعمل الصالح بعد أن بين الله تعالى الموبقات المهلكات، وذكر جزاءها؛ وهو الخلود في النار: ذكر إثماً من أكبر الآثام وأشدها: وهو شهادة الزور(1/445)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولا يخفى ما في شهادة الزور من ضياع للحقوق، وإتلاف للأموال، وإفساد للضمائر؛ إلى غير ذلك من إهدار للدماء، وفشو للجرائم وشهادة الزور: من أكبر الكبائر قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسولالله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور» كررها ثلاثاً؛ لمزيد قبحها، وفادح شرها هذا وقد كان قدماء المصريين يحكمون على شاهد الزور بالقتل {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} أي بالفحش، وكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو} أي معرضين عنهم(1/445)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي قرىء القرآن، أو ذكروا بما فيه {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي بل يسمعونها، ويتبصرون فيها؛ ليعملوا بها(1/445)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}
بأن يكونوا طائعين لك ولنا، مشفقين منك وعلينا. وقرة العين: هدوؤها واستقرارها بالاطمئنان؛ أو هو من القر: وهو البرد؛ لأن دمع السرور: بارد، ودمع الحزن: ساخن. ولذا يقال في الدعاء: أقر الله عينك، وأسخن عين عدوك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي قدوة يقتدي بنا في الخير(1/445)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أُوْلَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {يُجْزَوْنَ}
[ص:446] على صنيعهم وقولهم هذا {الْغُرْفَةَ} هي واحدة الغرفات؛ وهي أعالي الجنات؛ ومنه قوله تعالى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وقيل: الغرفة: الدرجة العليا {بِمَا صَبَرُواْ} أي جزاء صبرهم على الطاعات، وعن المعاصي(1/445)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{قُلْ} يا محمد لكفار مكة {مَا يَعْبَأُ} ما يكترث {بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} له في الملمات والشدائد؛ فيكشفها عنكم: إثباتاً لألوهيته وربوبيته؛ وتسجيلاً لعدولكم عن الإيمان إلى الشرك، وكفركم بربكم؛ بعد إنجائكم وإغاثتكم؛ قال تعالى {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بالقرآن والرسول {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي سوف يكون تكذيبكم هذا لزاماً لكم؛ تجزون به، وتعاقبون عليه أو سوف يكون العذاب ملازماً لكم.(1/446)
سورة الشعراء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/446)
طسم (1)
{طسم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/446)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي قاتلها حزناً وغماً(1/446)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً} أي إن نشأ إيمانهم قسراً: ننزل عليهم من السماء برهاناً وحجة، ومعجزة ظاهرة {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل رؤساؤهم ومقدموهم، أو جماعاتهم لها منقادين. وجاء في اللغة: العنق: بمعنى الرئيس، أو الجماعة(1/446)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} قرآن {مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} جديد بالنسبة إليهم؛ قديم بالنسبة لمنزله تعالى:
آيات حق من الرحمن محدثة
قديمة صفة الموصوف بالقدم(1/446)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{فَقَدْ كَذَّبُواْ} بربهم وآياته ورسله {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ} عواقب(1/446)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف من الثمار والأزهار، والمطعوم والمشموم {كَرِيمٍ} حسن نفيس(1/446)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنبات {لآيَةً} دالة على وحدانيته تعالى، وكمال قدرته(1/446)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{وَيَضِيقُ صَدْرِي} من تكذيبهم لي {وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} في محاجتهم. قيل: كانت به لثغة تمنعه من الانطلاق في الكلام {فَأَرْسِلْ إِلَى} أخي {هَارُونَ} أي اجعله معي رسولاً إلى فرعون وقومه(1/446)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} هو قتله للقبطي (انظر آية 15 من سورة القصص)(1/446)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{قَالَ} تعالى {كَلاَّ} لا تخافا {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ} بحججنا الدالة على صدقكما ووحدانيتنا {قَالَ} فرعون لموسى؛ حين قال له:(1/446)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *(1/446)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}(1/446)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} أراد فرعون أن يذكر موسى بتفضله عليه بالتربية؛ ولم يعلم اللعين أن الله تعالى هو ربه ومربيه(1/446)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} المراد بالفعلة: قتله القبطي {وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بتربيتي لك، ونعمتي عليك(1/446)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً} أي حينئذٍ
[ص:447] {وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ} أي لم أكن بعثت، ولم تأتني الرسالة بعد(1/446)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} أي علماً غزيراً؛ أستطيع بواسطته الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً(1/447)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{وَتِلْكَ} القالة التي تقولها؛ من أنك ربيتني وليداً، وأبقيتني بينكم سنين من عمري {نِعْمَةٌ} حقيقية {تَمُنُّهَا عَلَيَّ} ولكن ما قيمتها بعد {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وأذللتهم؛ وفي ذلك إذلال لي أيضاً؛ لأن كرامة النوع الإنساني لا تتجزأ(1/447)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{قَالَ} موسى لفرعون {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} بمعجزة ظاهرة بينة(1/447)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
{قَالَ} فرعون {فَأْتِ بِهِ} أي بهذا الشيء المبين {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك(1/447)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
{فَأُلْقِيَ} موسى {عَصَاهُ} التي كان ممسكاً بها في يده يتوكأ عليها {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ضخم عظيم(1/447)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
{وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرجها من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} تسطع نوراً يغشى الأبصار؛ وليس بياضاً كبياض البرص(1/447)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{قَالَ} فرعون {لِلْمَلإِ} الذين {حَوْلَهُ} من شيعته، المؤمنين بربوبيته {إِنْ هَذَا} يعني موسى عليه السلام(1/447)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أن أرجئهما وأخرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} جامعين(1/447)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ} لوقت {} هو وقت الضحى من يوم الزينة(1/447)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
{قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً} عندك(1/447)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}
لموسى(1/447)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
{قَالَ لَهُمْ مُّوسَى} أي قال للسحرة {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} من السحر(1/447)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} فخيل إلى موسى أنها حيات تسعى {وَقَالُواْ} حينما ألقوا ما ألقوا {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} مولانا وإلهنا(1/447)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
{تَلْقَفُ} تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يزورون من تخييل الحبال والعصى أنها حيات. فلما رأى السحرة ما فعله موسى بسحرهم، وعلموا أن ما جاء به ليس بسحر؛ لأن السحر تبقى معداته وأدواته، ولا تمحى؛ وقد لقفت عصاه حبالهم وعصيهم، ولم يبق أثر لها(1/447)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} على وجوههم {سَاجِدِينَ} لرب موسى وهارون؛ بعد أن كانوا يقولون {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وأصبح من يستعين بهم فرعون: عوناً عليه، لا عوناً له؛ فأسقط في يد اللعين، وحل به الخزي والعار في عقر داره، وبين أهله وأنصاره. وحينئذٍ(1/447)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{قَالَ} مخاطباً سحرته {آمَنتُمْ لَهُ} أي هل آمنتم لموسى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّهُ} أي موسى {لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أراد أن يوهم قومه أن سحر موسى من جنس سحر السحرة؛ كيف لا: وقد أحال موسى عصاه حية؛ كما أحالوا حبالهم وعصيهم حيات. وفاته أن السحرة - وهم أدرى الناس وأعلمهم بالسحر - قد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر؛ وإنما هو من صنع فاطر الأرض والسموات(1/447)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
{قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لا ضرر {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون إليه؛ فيجزينا على ما تفعل بنا خير الجزاء لقد آمن السحرة إيماناً صحيحاً يقينياً، ووثقوا بالبعث والحساب،
[ص:448] والثواب والعقاب؛ يدل على ذلك قولهم:(1/447)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{إِنَّا نَطْمَعُ} بإيماننا وإنابتنا {أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} التي ارتكبناها حال كفرنا {أَنْ} أي بأن {كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}
من شيعتك(1/448)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي سر بهم ليلاً {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} سيتبعكم فرعون وجنوده؛ بقصد إهلاككم والقضاء عليكم(1/448)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ} التابعة له {حَاشِرِينَ} جامعين لقوات جيشه؛ قائلاً لهم(1/448)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
{إِنَّ هَؤُلاءِ} يقصد موسى ومن آمن معه {لَشِرْذِمَةٌ} طائفة قليلة(1/448)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} اعترف عدو الله بالخزي والذلة؛ وأن المؤمنين قليلون؛ غير أنهم له غائظون وسيرى يوم القيامة الذل الأكبر، والخزي الأعظم، والغيظ الأعم؛ حين يقدم قومه يوم القيامة؛ فيوردهم النار، وبئس الورد المورود(1/448)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{حَاذِرُونَ} متيقظون(1/448)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ ظاهرة للعيان(1/448)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} المقصود بها أرض مصر؛ ولا يخفى ما اكتشف فيها حتى الآن من الكنوز الزاخرة التي خلفتها الفراعنة. والمراد بالمقام الكريم: الدور الرفيعة، والقصور المشيدة؛ التي كانوا يقيمون فيها، ويمرحون في جنباتها(1/448)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي ملكنا بني إسرائيل مصر وما فيها من {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} بعد إغراق فرعون وقومه(1/448)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي وقت شروق الشمس أو توجهوا جهة المشرق(1/448)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي رأى كل فريق منهما الآخر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي سيدركنا حتماً فرعون وأصحابه، ويقضون علينا(1/448)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
{قَالَ} موسى مطمئناً لوعد ربه بإنجائه {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} بعونه وإرشاده {سَيَهْدِينِ} إلى ما ينجيني. وحين وثق موسى بربه وتأكد من نصرته ومعونته: أمده الله تعالى بالقوى التي لا تقاوم، وبالنصر المؤزر الذي لا يدافع؛ وأوحى ربه إليه(1/448)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه {فَانفَلَقَ} الماء عن الأرض اليابسة {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ} كالجبل(1/448)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{وَأَزْلَفْنَا} قربنا {ثُمَّ} هناك {الآخَرِينَ} فرعون وقومه(1/448)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بمرورهم على الأرض؛ بعد انحسار الماء عنها(1/448)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} لأنهم تبعوا موسى في الطريق الذي سار فيه؛ فأمر الله تعالى البحر فأطبق عليهم؛ فأغرقهم عن آخرهم(1/448)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنجاء والإهلاك {لآيَةً} لعبرة لمن يعتبر(1/448)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي على عبادتها مداومين(1/448)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{فَإِنَّهُمْ} أي الأصنام التي تعبدونها {عَدُوٌّ لِي} لا أعبدهم مثلكم، ولا أواليهم {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فإني أعبده؛ لأنه خالقي ومالكي ورازقي؛ وهو السميع العليم. النافع الضار(1/448)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{وَالَّذِي أَطْمَعُ} أرجو {أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء؛
[ص:449] وهو يوم القيامة. واستغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم؛ أو هو لذنوب سلفت منهم قبل اختيارهم، واضطلاعهم بمهام الرسالة؛ وخطاياهم - إن صح أن لهم خطايا - لا تعدو الصغائر المعفو عنها؛ إذ أنهم عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الكبائر حتماً(1/448)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} علماً يقيني الخطأ والزلل {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} بمن تقدمني من الأنبياء(1/449)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} أي ثناء وذكراً حسناً {فِي الآخِرِينَ} فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل له ذكراً حسناً إلى يوم الدين: فلا يصلي مصلَ إلا إذا صلى عليه في صلاته، ولا يؤمن مؤمن إلا إذا آمن بنبوته واعترف بفضله، وأثنى عليه الثناء كله: اللهم صل على سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد(1/449)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
{وَلاَ تُخْزِنِي} لا تفضحني {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} فياعجباً: إبراهيم خليل الله تعالى ونبيه - بل قدوة أنبيائه - وصاحب الملة الحنيفية: يدعو ربه ويسأله ألا يفضحه يوم القيامة ونحن وحالنا كما لا يخفى: إيمان قاصر، وعمل فاجر، ورياء ونفاق، وخصومات وشقاق؛ ونظن أن لنا يوم البعث القدر الأعلى، والقدح المعلى فالجأ أيها المسكين إلى ربك بالدعاء واجأر إليه بالرجاء؛ عسى أن يكتبك في عداد الناجين، الفائزين، المقبولين(1/449)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} من الشرك، والنفاق، والحقد «سليم» بالإيمان؛ لأن قلب الكافر والمنافق: مريض؛ لقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ}(1/449)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} قربت، وهيئت، وأعدت(1/449)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أظهرت {لِلْغَاوِينَ} الكافرين، الهالكين(1/449)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} طرح بعضهم على بعض في الجحيم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي كبكب الآلهة - وهي الأصنام - «والغاوون» وهم الكافرون(1/449)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وهم أتباعه، ومن أطاعه؛ من الجن والإنس(1/449)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {أَن كُنَّآ} في الدنيا {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ظاهر، بيِّن(1/449)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{إِذْ نُسَوِّيكُمْ} أيها الشياطين؛ في الطاعة والعبادة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي ينفع ويضر، ويحيي ويميت(1/449)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الناجين(1/449)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور؛ من مجادلة إبراهيم لأبيه وقومه، وذكر ما أعده الله تعالى للمؤمنين؛ من نعيم مقيم، وللكافرين من عذاب أليم؛ إن في ذكر ذلك جميعه {لآيَةً} عظة وعبرة(1/449)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} السفلة والرعاع(1/450)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لست أعلم بما كانوا يعملون؛ وغاية علمي أنهم آمنوا وكفرتم، وصدقوا وكذبتم، وأطاعوا وعصيتم، واهتدوا وضللتم؛ وهذه هي ظواهرهم؛ وليس لي أن أطلع على سرائرهم(1/450)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
{أَنْ} ما {حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي} فهو عالم السر وأخفى {لَوْ تَشْعُرُونَ} لو تعلمون(1/450)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ} المقتولين بالحجارة(1/450)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ} أي احكم بيني وبينهم حكماً. وحكمه جل شأنه: عدل كله، وصواب كله فكأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه طلب إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين(1/450)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} السفينة المملوءة(1/450)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} عبر القرآن الكريم بصيغة الجمع «المرسلين» لأن مكذب الرسول الواحد: مكذب لسائر من تقدمه من الرسل(1/450)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ(1/451)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} كانوا يبنون بكل مكان مرتفع برجاً يجلسون فيه، ويسخرون بمن يمر بهم من المؤمنين(1/451)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} قصوراً، أو حصوناً(1/451)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} بضرب أو قتل {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} من غير رأفة ولا رحمة(1/451)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
{وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أنعم عليكم بالنعم الظاهرة؛ التي تحسونها وتعلمونها؛ وفسرها تعالى بقوله:(1/451)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} تركبون عليها؛ وتأكلون من لحومها، وتشربون من ألبانها، وتكتسون من أوبارها وأشعارها {وَبَنِينَ} أي وأمدكم ببنين يعاونونكم، وتقر بهم أعينكم(1/451)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
{وَجَنَّاتٍ} بساتين؛ تمرحون فيها، وتنعمون بفاكهتها {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ تراها العين(1/451)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن بقيتم على حالكم من الكفر، والظلم، والبطش {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا بالاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب الأليم المقيم(1/451)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
{قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ} فإنا لا نتبعك، ولا نستمع لوعظك(1/451)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إِنْ هَذَا} ما هذا الذي نحن فيه {إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} عادة الأولين وطبعهم {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ}(1/451)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أو المعنى: ما هذا الذي تقوله، وتأمرنا به؛ إلا أكاذيب الأولين واختلاقهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «خلق الأولين»(1/451)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{فَكَذَّبُوهُ} أي فأصروا على تكذيبه {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بالريح؛ قال تعالى {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإهلاك {لآيَةً} عظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} فكانوا من الهالكين؛ ولم يؤمن بهود إلا قليل؛ أنجاهم الله معه(1/451)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} لأن تكذيبهم لرسولهم صالح: تكذيب لمن سبقه من المرسلين(1/451)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} الله، وتخشون بأسه؛ فتؤمنون به(1/451)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ(1/451)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ} أي في الدنيا، وفيما أنتم فيه {آمِنِينَ} من السوء والعذاب؟ وقد كانوا معمرين؛ يدل عليه قوله تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(1/452)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
{فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار(1/452)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{وَزُرُوعٍ} وهو كل ما يزرع {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا} ثمرها {هَضِيمٌ} لين؛ كالرطب، أو هش نضيج(1/452)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} نشطين حاذقين؛ ومن قرأ «فرهين» أراد بطرين متكبرين(1/452)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
{وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الكافرين(1/452)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي(1/452)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين غلب على عقلهم السحر؛ والمراد به: نسبته عليه السلام إلى الجنون(1/452)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{فَأْتِ بِآيَةٍ} معجزة تدل على صدقك(1/452)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} نصيب من الماء للشرب(1/452)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
{فَعَقَرُوهَا} ذبحوها. عقرها واحد منهم؛ ونسب العقر لجميعهم: لأنهم رضوا عن فعله؛ فكان جزاؤهم كجزائه(1/452)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} بالرجفة، أو الصيحة؛ التي طغت عليهم؛ فأهلكوا جميعاً. قال تعالى {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ}(1/452)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} اللواط(1/453)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
{وَتَذَرُونَ} تتركون {عَادُونَ} معتدون؛ بانتهاككم حرمات الله تعالى، وإتيانكم ما لا يحل
هذا وحكم اللواط: كحكم الزنا؛ ألا ترى أن الله تعالى وصف اللائطين هنا بالعدوان «بل أنتم قوم عادون» ووصف الزانين بقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فوجب أن يقام الحد على اللائط؛ كما يقام على الزاني. وذهب قوم إلى وجوب إلقائه من حالق (انظر آية 7 من سورة المؤمنون)(1/453)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} المطرودين(1/453)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} لفسقكم {مِّنَ الْقَالِينَ} المبغضين(1/453)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب؛ وهي امرأته: أهلكها الله تعالى فيمن أهلك(1/453)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا} أهلكنا(1/453)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أمطرهم الله تعالى حجارة. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام خسف الأرض بقرية قوم لوط، وجعل عاليها سافلها، وأمطر من كان منهم خارج القرية بالحجارة(1/453)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب؛ المنتقم من أعدائه {الرَّحِيمُ} بعباده وأوليائه؛ فلا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ ولا يؤاخذهم بذنوب غيرهم(1/453)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} هم قوم شعيب عليه السلام؛ و «الأيكة»: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر(1/453)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الذين ينقصون الناس حقوقهم، أو الذين خسروا أنفسهم وآخرتهم(1/454)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
{وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} الميزان(1/454)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{وَلاَ تَبْخَسُواْ} لا تنقصوا {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد الخليقة(1/454)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
{قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين اختلط عقلهم، وغلب عليهم السحر(1/454)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً} قطعاً {مِّنَ السَّمَآءِ} وهذا كقولهم {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1/454)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} هي سحابة أظلتهم؛ بعد أن عذبوا بالحر الشديد سبعة أيام؛ فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها، طامعين في بردها ومائها؛ فأمطرتهم ناراً: فاحترقوا عن آخرهم. قيل: كان لمدين ستة ملوك؛ يسمون: أبجد، هوز، حطى، كلمن، سعفص، قرشت؛ وقد وضعت العرب الكتابة العربية على عدد حروفهم؛ بعد زيادة ستة أحرف؛ جمعوها في ثخذ، ضظغ. وكان رئيسهم: كلمن. هلكوا جميعاً - فيمن هلك - يوم الظلة؛ وقد رثت ابنة كلمن أباها بقولها:
كلمن هدم ركني
هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ
ـحتف ناراً وسط ظله
جعلت ناراً عليهم
دارهم كالمضمحلة(1/454)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وَإِنَّهُ} أي القرآن الذي يكذبون به {لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} العالمين: جمع العالم، والعالم: الخلق كله؛ من إنس وجن، وطير ووحش(1/454)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} جبريل عليه السلام: أمين وحي الله(1/454)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} كتبهم. أي إن القرآن ثابت مذكور في الكتب السماوية المتقدمة(1/454)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ} علامة على صدقك
[ص:455] {أَن يَعْلَمَهُ} يعلم هذا القرآن، ويعلم أنه منزل من لدن ربك {عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين آمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام: كعبد اللهبن سلام، وكعب الأحبار، وأضرابهما؛ وقد صاروا من علماء المسلمين. وقد قال قائل: ما من أمة إلا وعلماؤها شرارها؛ إلا هذه الأمة المحمدية: فإن علماءها خيارها
فلينظر علماء الأمة الإسلامية اليوم إلى هذا القول، وليدبروه، وليجتهدوا أن يكونوا مصداقاً له. قال الصادق المصدوق؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: «يؤتى بالرجل يوم القيامة؛ فيلقى في النار؛ فتندلق أقتاب بطنه؛ فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى. فيجتمع إليه أهل النار؛ فيقولون: يا فلان، مالك ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى؛ قد كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» وفي رواية: «أول أهل النار دخولاً: عالم يلقى في النار ... الحديث»(1/454)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} جمع أعجم؛ وهو الحيوان؛ لأنه لا ينطق. وقيل: هو جمع أعجمي. وهو الذي لا يفصح وإن كان عربياً. وقرأ الحسن «الأعجميين» جمع أعجمي؛ وهو الذي لا ينطق العربية(1/455)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي القرآن: أدخلناه {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين: سلكناه في قلوبهم؛ بحيث يعقلونه - إذا أرادوا - أليس يعقل كل ما فيه؟ ويتفهمونه - إذا رغبوا - أليس معلوماً، وواضحاً مفهوماً؟ وذلك لأن تكذيبهم به - بعد دخوله في قلوبهم - أعظم كفراً، وأشد وزراً؛ من تكذيبهم لشيء لم يعلموه، ولم يفهموه، ولم يطرق لهم قلباً، أو يقرع لهم لباً؛ فإن المكذب بالحق بعد معرفته له: شر من المكذب لما لا يفقه، ولا يعرف. وقد سلكه الله تعالى في قلوبهم: إلزاماً لهم، وحجة عليهم لكنهم استكبروا استكباراً، وأصروا على كفرهم إصراراً: فلم يؤمنوا بما سلكه الله تعالى في قلوبهم، ويسره على أفهامهم. ونظيره قوله تعالى:
{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقوله جل شأنه؛ خطاباً للكفار «سيريكم آياته فتعرفونها» وقوله عز سلطانه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقوله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وقول الحكيم المتعال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}(1/455)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ} بأعينهم {الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الذي وعدوا به في الدنيا، أو يوم القيامة؛ فحينئذٍ يعلمون أنه الحق من ربهم؛ حيث لا يجدي إيمانهم، ولا تنفع توبتهم
وقد ذهب جل المفسرين - إن لم يكن كلهم - إلى أن المقصود بذلك: أن الله تعالى يسلك التكذيب
[ص:456] في قلوب الكافرين؛ ليمنعهم من الإيمان. وهو قول بادي البطلان، ظاهر الخسران؛ يتنافى مع العدل المطلوب من بني الإنسان؛ فما ظنك بالرحيم الرحمن أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين
هذا ويؤيد ما ذهبنا إليه - وخالفنا المفسرين فيه - قوله جل شأنه في ختام هذا القول: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} إذ كيف يرسل تعالى المنذرين؛ وقد سلك تكذيبهم في قلوب الكافرين؟ وكيف ينفي الظلم عن نفسه؛ وما زعمه المفسرون هو الظلم المبين
وكيف يتفق قول المفسرين؛ وقول العزيز الحميد، في كتابه المجيد «ولا يرضى لعباده الكفر» وكيف لا يرضاه؛ وقد سلكه في قلوبهم، وأجراه في دمائهم؟ وكيف يحول المولى سبحانه وتعالى بينهم وبين الإيمان؛ وهو جل شأنه القائل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى}؟ وكيف يؤمنون، أو يهتدون؛ وقد حال بينهم وبين الإيمان والاهتداء؟ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}.
ونحن إذا ما وافقنا المفسرين فيما ذهبوا إليه: احتجنا إلى تعليل قولهم تعليلاً مقبولاً؛ بأن نقول: إن سلوك التكذيب في قلوبهم: كان نتيجة لإصرارهم على الكفر، وتعاميهم عن الحق؛ رغم وضوح آيات الله تعالى، وتواتر معجزاته، وصدق رسالاته وقد وصف الله تكذيبهم بأشنع ما يوصف به المكذبون - من جهل وعناد واستكبار - فقد بلغ تكذيبهم: أن لو قرأ القرآن عليهم من لا يدريه ولا يفهمه؛ بل ومن ليس في عداد الآدميين؛ من الأعجميين {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} فكان سلوك التكذيب في قلوبهم: عقوبة لهم على عنادهم؛ كقوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فكانت الإزاغة عقوبة على الزيغ. وقوله جل شأنه: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} فكان الظلم والفسق سابقان للإضلال وبغير الذي قلنا لا يستقيم المعنى الذي أرادهالله، ولا تتوافر القدسية الواجبة في حقه تعالى فليتأمل هذا، وليعتبر به من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر الآيات 33 من سورة الرعد و8 من سورة فاطر وصلى الله عليه وسلّم8 من سورة الحج)(1/455)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
{فَيَأْتِيَهُم} العذاب {بَغْتَةً} فجأة(1/456)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{مُنظَرُونَ} مؤجلون(1/456)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} به من العذاب(1/456)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} أي بالقرآن(1/456)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{وَأَنذِرْ} خوف يا محمد {عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قومك وآلك؛ لينذروا من حولهم؛ فيكثر المسلمون، وتعم الدعوة الإسلامية. قال تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي ومن بلغه القرآن: ينذر به أيضاً(1/456)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} ألن جانبك وتواضع(1/456)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تعالى تقلبك في الصلاة مع المصلين(1/456)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أي تتنزل بالوسوسة والإغواء والإفساد(1/457)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} كذاب، مرتكب للإثم. والمقصود: رؤساء الكفار والذين يزعمون معرفة الغيب(1/457)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{يُلْقُونَ السَّمْعَ} أي أن الشياطين تتسمع إلى الملإ الأعلى {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} يقولون لأوليائهم ما لا يسمعون. وأولياؤهم: هم {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} يزيدون على إفك الشياطين إفكاً، ويزدادون على إثمهم إثماً(1/457)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ليس المراد بالشعراء هنا: كل الشعراء. بل أريد الغاوون منهم، والضالون: الذين يلوكون بألسنتهم أعراض الناس، ويتشدقون بالإثم والفجور، ويروجون للفسق والخمور أما من ارتقى منهم بشعره عن درك الفساد والإفساد؛ فقد يكون من أئمة الأتقياء، وخلاصة الفضلاء الأصفياء وناهيك بأن منهم الإمام البوصيري، وحسانبن ثابت: شاعر النبي والإمام ابن الفارض، والبرعي؛ وغيرهم ممن وقفوا قرائحهم وأشعارهم على ذكر الرحمن الرحيم، ومدح رسوله العظيم، ووصف كتابه الكريم وهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله:(1/457)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي وانتصروا لأنفسهم، أو لإخوانهم، أو لدينهم؛ من بعد ما ظلمهم الغير. ونظيره قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}.(1/457)
سورة النمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/457)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{طس} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/457)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} بالقيامة، والحساب، والجزاء {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} الفاسدة؛ ليزدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم (انظر آية 122 من سورة الأنعام) {يَعْمَهُونَ} يترددون في ضلالهم(1/457)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أسوؤه(1/457)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} لتتلقاه وتتلقنه {مِن لَّدُنْ} من عند {حَكِيمٍ} يحكم قوله وفعله وأمره {عَلِيمٍ} بمصالح الناس وحاجاتهم(1/457)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{إِذْ قَالَ مُوسَى} أي واذكر قصة موسى؛ إذ قال {لأَهْلِهِ} امرأته {إِنِّي آنَسْتُ} أبصرت من بعيد {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} لأن النار الموقدة: دليل على وجود موقد لها؛ تستقى منه الأخبار، ويهتدى به إلى الطريق، ويستطعم {بِشِهَابٍ} شعلة مضيئة {قَبَسٍ} القبس: كل ما يقتبس؛ من جمر، وجذوة، ونحوهما {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ} تستدفئون من البرد(1/457)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{فَلَمَّا جَآءَهَا} أي جاء موسى النار التي توهمها {نُودِيَ} من حيث لا يعلم من أين يأتيه النداء، ولا يعلم صفته، ولا كنهه: نداء ولا صوت {أَنْ} بأن {بُورِكَ} بارك الله {مَن فِي النَّارِ} من الملائكة
[ص:458] {وَمَنْ حَوْلَهَا} موسى. وهي تحية من الله تعالى لكليمه عليه الصلاة والسلام {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتقدس (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ونودي(1/457)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{يمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} القوي، الغالب، الذي لا يغلب {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأمور في مواضعها، ويعد لكل شيء عدته(1/458)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حية {وَلَّى مُدْبِراً} أسرع راجعاً {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع؛ فناداه ربه تعالى {يمُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وكيف يخافون في موطن الأمن والسلامة؟(1/458)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ} نفسه منهم بالزلل {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} كآدم، ويونس، وداود، وسليمان؛ عليهم السلام فإنهم يخافون؛ رغم رضائي عنهم، ومغفرتي لهم، وتوبتي عليهم. وقيل: «إلا من ظلم» من غير الأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يظلمون(1/458)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير مرض: كبرص ونحوه(1/458)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي ظاهرة بينة(1/458)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} أي أنكروها بألسنتهم؛ لشدة كفرهم وعنادهم، واستيقنتها قلوبهم؛ لما رأوه من صحتها، وصدقها، ووضوحها (انظر آية 200 من سورة الشعراء)(1/458)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} في النبوة والعلم؛ دون سائر أبنائه {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} المراد به كثرة ما أوتي من الملك، والعلم، والنبوة(1/458)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{وَحُشِرَ} جمع {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم؛ ليكونوا مجتمعين طوع أمره وإرادته(1/459)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{وَادِي النَّمْلِ} هو واد كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ} قيل: إنها ملكتهم. هذا وقد أثبت العلم الحديث: أن للنمل ملكة يأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها (انظر آية 38 من سورة الأنعام) {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} لئلا يحطمنكم. والحطم: الكسر. ومن هنا نعلم أن القوي قد يهلك الضعيف من حيث لا يشعر، وأن الضعيف يجب أن يعد عدته، ويأخذ أهبته؛ لتوقي ضرر القوي(1/459)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني(1/459)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} ليكون عبرة لغيره؛ ممن يستكبر عن أمري. هذا وقد رسمت هذه الكلمة في المصحف الإمام هكذا «لا أذبحنه» بصيغة النفي. وساق علماء الرسم في سبيل إثبات صحة هذا الرسم التعلات، وبذلوا ما وسعهم من الجهد ليحولوا دون الحقيقة المجردة: وهي لا تعدو خطأ كاتب، أو زلة مملٍ. وفي موضوع هجاء المصحف العثماني ورسمه، وعدم وجوب التقيد به، مزيد بيان؛ فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان» {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة ظاهرة(1/459)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{فَمَكَثَ} سليمان وقتاً {غَيْرَ بَعِيدٍ} فجاء الهدهد {فَقَالَ} حين سأله سليمان عن سبب تخلفه عن مجلسه {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} وهي قبيلة باليمن، أو هو اسم مدينة بها؛ تعرف بمأرب(1/459)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} هي بلقيس بنت شراحيل {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} تحتاجه الملوك: من الجند، والميرة، والذخيرة، والعظمة، والقوة {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير كبير من ذهب، مرصع بالجواهر واليواقيت؛ كانت تجلس عليه للحكم(1/459)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{الْخَبْءَ} المخبوء، المستتر عن الأنظار {فِي السَّمَاواتِ} من الماء في {الأَرْضِ} من النبات والكنوز} وفي هذه القصة: تعليم لنا من الله تعالى باستخدام الطير في حمل الرسائل، ولذا وفق الناس لاختيار الحمام الزاجل(1/460)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{ثُمَّ تَوَلَّ} انصرف {عَنْهُمْ} وكن قريباً منهم؛ بحيث تراهم ولا يرونك {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يجيبون على كتابي. فلما قرأت بلقيس خطاب سليمان: جمعت وجوه قومها، وأشرافهم، وقادتهم؛ و(1/460)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
{قَالَتْ} لهم {يأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} يؤخذ من هذا: أن بلقيس كانت تحكم قومها حكماً «ديموقراطياً» وأنه كان لها مجلس للشورى «برلمان» والقرآن لم يورد هذه القصة عبثاً؛ بل ليرشدنا إلى الطرق الدستورية، والنظم الشورية(1/460)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} لا تتكبروا عن طاعتي {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مؤمنين منقادين(1/460)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي ما كنت ممضية أمراً حتى تحضرون. لم تأخذها العزة بالإثم، ولم تغرها سطوة سلطانها، وقوة جيشها، وإخلاص شعبها؛ لم يمنعها كل ذلك من استشارة رؤوس دولتها، وكبراء مملكتها، ومناقشتهم؛ وقد تكون بلقيس أول امرأة في التاريخ بمثل هذا الخلق، وبمثل هذا التدبير، وهذه الحكمة(1/460)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} فاتحين غازين {أَفْسَدُوهَا} بالقسوة والبطش {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} لقد نظرت بلقيس بثاقب رأيها، وعلمت أن الملوك الأقوياء إذا احتلوا بلداً عنوة: أخذوا خيراتها، وأذلوا أهلها واستعبدوهم
[ص:461] {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ}
دائماً(1/460)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} امتحاناً لهم، ودرءاً لصولتهم؛ فعسى أن يكونوا طلاب مال؛ فتشغلهم هديتنا عن إيذائنا {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من أخبارهم(1/461)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{فَلَمَّا جَآءَ} الرسل {سُلَيْمَانُ} ورأى ما يحملون من هدايا، وأموال، وتحف، ونفائس؛ تفوق العد والحصر {قَالَ} لرسل بلقيس {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللَّهُ} من الإسلام، والملك، والعلم، والنبوة {خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} من المال وحده {بَلْ أَنتُمْ} لا أنا {بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} والتفت سليمان إلى رئيس وفد بلقيس قائلاً له(1/461)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بهديتهم {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم على مقابلتهم ومقاتلتهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ} أي من بلادهم {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} الصغار: شدة الذل.
ثم التفت سليمان إلى خاصته ووزرائه؛ من الإنس والجن(1/461)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{قَالَ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} الذي رآه الهدهد، ووصفه لي: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} {مُسْلِمِينَ} طائعين منقادين(1/461)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} العفريت: هو القوي، الواسع الحيلة، النافذ الأمر، الشديد الدهاء. و «الجن» المستتر. من جنه الليل: إذا ستره. وجن الليل: ظلمته {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلسك هذا(1/461)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قيل: إنه ملك سخره الله تعالى لسليمان. وقيل: إنه جبريل عليه السلام. وقيل: هو وزيره آصفبن برخيا؛ وقد كان يعلم اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي قبل أن تغمض عينك؛ والمراد به: المبالغة في قرب المدة {لِيَبْلُوَنِي} ليختبرني {أَأَشْكُرُ} على ما أنعم به علي {أَمْ أَكْفُرُ} فأنسى ذلك، وأنسبه لنفسي ولجندي {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكر الشاكرين، وعبادة العابدين {كَرِيمٌ} في عطائه؛ يتفضل على من يشكر، ومن يكفر(1/461)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{قَالَ نَكِّرُواْ} أي غيروا(1/461)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{فَلَمَّا جَآءَتْ} بلقيس: أروها عرشها المستقر عند سليمان؛ و {قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} لم تجزم بأنه هو: لغرابة وجوده في ذلك الزمان والمكان، ولاستحالة حدوث ذلك عقلاً. وذهب بعض المحدثين إلى أنه لم يكن ثمة سوى رسم العرش - لا العرش نفسه - واستدلوا على ذلك: بقول سليمان لها: «أهكذا عرشك» وقولها «كأنه هو» وهذا الرأي يأباه سياق النظم الكريم؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} وإلا فأين المعجزة الخارقة وأين الآية الظاهرة؟ {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} هو من قول سليمان؛ أي أوتينا العلم بأن الله تعالى على كل شيء قدير
{مِن قَبْلِهَا} أي من قبل هذه المرة، أو «وأوتينا العلم» بمجيئها طائعة وإسلامها «من قبل» مجيئها {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمرالله، طائعين له(1/462)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وَصَدَّهَا} منعها عن عبادة الله تعالى {مَا كَانَت} أي الذي كانت {تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} ويجوز أن يكون المعنى «وصدها» سليمان «ما كانت تعبد» عما كانت تعبد {إِنَّهَا} أي لأنها {كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} يعبدون الشمس والقمر(1/462)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} وهو كل بناء عال {فَلَمَّا رَأَتْهُ} أي رأت الصرح؛ وقد صنعت أرضه من زجاج شفاف {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماء عظيماً {قَالَ} سليمان {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس {مِّن قَوارِيرَ} زجاج. فلما رأت هذه العظمة، وهذه الأبهة؛ التي أضفاهما الله تعالى على سليمان، ورأت عرشها؛ وقد جيء به إليه: علمت أن ذلك لا يتوفر إلا لمن تسنده قوى خارقة من السماء؛ و {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بالشرك الذي كنت فيه، وأقمت عليه {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قيل: إن سليمان تزوجها بعد إسلامها. وقيل: زوجها لذي تبع ملك همدان؛ ولم يثبت صحة شيء من ذلك(1/462)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{قَالَ} لهم نبيهم صالح {يقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} تطلبون العذاب {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل طلب المغفرة. أو {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} بالمعصية قبل الطاعة {لَوْلاَ} هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} من ذنوبكم الماضية(1/462)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{اطَّيَّرْنَا} تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} من المؤمنين {قَالَ طَائِرُكُمْ} شؤمكم {عِندَ اللَّهِ} ينزله بكم؛ بسبب كفركم وتكذيبكم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف)
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشر، أو «تفتنون» تعذبون بسبب إصراركم على الكفر والعصيان(1/462)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} الرهط: ما دون العشرة من الرجال(1/462)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قَالُواْ} لبعضهم {تَقَاسَمُواْ} أي احلفوا {بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ} لنقتلنه بياتاً؛ أي ليلاً
[ص:463] {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي لولي دمه {مَا شَهِدْنَا} ما رأينا(1/462)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي دبروا أمرهم بإهلاك صالح وأهله، ودبرنا أمراً بإهلاكهم(1/463)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} أهلكناهم(1/463)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أي ساقطة، أو خالية {بِمَا ظَلَمُواْ} أي بسبب ظلمهم وكفرهم وذلك بمعنى قولهم: إن الظلم يخرب الديار الإهلاك والتدمير {لآيَةً} عظة وعبرة(1/463)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{وَلُوطاً} أي واذكر لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} اللواط {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أي تبصرون ما حل بالأمم السابقة من العذاب؛ حين عصوا وكفروا بربهم. أو المراد: يبصر بعضكم بعضاً؛ عند إتيان هذه الفاحشة الذميمة وذلك إمعاناً منهم في الفسوق، وانهماكاً في المعصية(1/463)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} كان قولهم ذلك استهزاء؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أو أرادوا «يتطهرون» مما نعمل {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب؛ لإصرارها على الكفر، وتكذيب زوجها مع المكذبين(1/463)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{ءَآللَّهُ} استفهام؛ أي أألله {خَيْرٌ} عبادة، وخير لمن يعبده {أَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الأصنام(1/463)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأفلاك، ومن فيها من مخلوقات وأملاك
[ص:464] خلق {الأَرْضِ} وما فيها من بحار وأنهار، وزروع وأشجار، وجبال ورمال، وإنسان وحيوان {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} حسن ورونق {مَّا كَانَ لَكُمْ} ما كان في استطاعتكم فما بالكم بثمرها؟ والمعنى: أذلك الإله - الموصوف بكل هذه الصفات - خير أم ما تعبدون من دونه؟ ويلكم {مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *(1/463)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يشركون ب الله تعالى غيره ممن خلق، ويجعلونه له عدلاً. والعدل: المثل والنظير {قَرَاراً} للاستقرار عليها؛ ولا تميد بأهلها {خِلاَلَهَآ} فيما بينها {رَوَاسِيَ} جبالاً {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} بين العذب والملح: لا يختلط أحدهما بالآخر. والحجز: المنع {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الضر، أو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ} أي سكانها؛ يخلف بعضكم بعضاً فيها {بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي للبشارة قدام المطر. وسمي المطر رحمة: لأنه سبب في حياة سائر الحيوان والنبات(1/464)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ} من غير مثال سبق {ثُمَّ يُعيدُهُ} يوم القيامة؛ بلا تعب ولا نصب {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} بالمطر من {الأَرْضِ} بالنبات {مَّعَ اللهِ بَلْ} فإن زعموا - بعد أن سقت لهم هذه الآيات البينات - أن هناك إلهاً مع الله {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم(1/464)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا يعلم أحد ممن فيهما الغيب الذي انفرد الله تعالى بعلمه إلا هو. قيل: نزلت حين سأل المشركون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عن وقت القيامة
[ص:465] {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى يبعثون من قبورهم. وقيل: نزلت في سائر الغيوب. ويؤخذ من هذه الآية أن في السموات سكاناً عقلاء؛ لأن «من» لمن يعقل، و «ما» لما لا يعقل. والآية دليل قاطع على نفي علم الغيب عن سائر المخلوقات؛ حتى سكان السموات ومن عجب أن نرى من بيننا من يدعي علم الماضي والحاضر والمستقبل والأعجب أن نرى من يصدقه في هذا الافتراء والزور والبهتان ومن ذهب إلى منجم أو عراف: فقد جحد بهذه الآية؛ بل كذب بالرسالة قال: «من ذهب إلى عراف ذهب ثلثا دينه» وفي حديث آخر «فقد كفر بما أنزل على محمد» وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: «من قال إن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}.
هذا وقد اعتاد كثير من الناس التردد على بعض العرافين وأرباب التنويم والتنجيم؛ وكثير من هؤلاء يزعم علم الغيب ومعرفته؛ ويقدم لك دليلاً على صدقه: إنباءك بما في يدك - مما يقع عليه بصرك، ويدركه علمك - وهذا ليس من الغيب في شيء؛ بل يدخل تحت قراءة الأفكار. وقد جيء للحجاج بأحد العرافين؛ فأمسك الحجاج في يده حصيات - بعد أن علم عددها - وقال للعراف: كم في يدي؟ فذكره العراف ولم يخطىء. فأمسك الحجاج بحصيات أخر - لم يعدهن - وسأله عن عددها؛ فأخطأ. فسأله عن السبب؟ فقال: إن الأولى قد أحصيتها أنت وعلمتها فخرجت عن حد الغيب، والأخرى لم تحصها فكانت غيباً و {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}(1/464)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي تدارك وتكامل علمهم بها؛ لوصول الرسل والنذر إليهم، وتحقق الموعود به. وقيل: المعنى: بل جهلوا علمها، ولا علم عندهم من أمرها {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي من وقوعها {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} عمي قلب وبصيرة(1/465)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} من قبورنا أحياء(1/465)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ} على لسانك وعد {آبَآؤُنَا} على لسان من سبقك من الرسل {إِنْ هَذَآ} ما هذا الذي تقوله من أمر البعث والحساب والجزاء {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب(1/465)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على عدم إيمانهم {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ويكيدون لك؛ فسننصرك عليهم(1/465)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالعذاب، أو بالقيامة {رَدِفَ لَكُم} قرب منكم(1/465)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} وقد جاءهم بعض العذاب الموعود يوم بدر، وباقيه سيأتيهم في قبورهم، ويوم القيامة عند بعثهم(1/465)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
{مَا تُكِنُّ} تخفى(1/465)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} تغيب عن علمنا، وعن تصورنا {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} مكتوب؛ بمعنى أنه مقضي بها، ومعلوم لدى ربك أمرها(1/465)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} يوم القيامة(1/466)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وحده؛ ولا تخش أحداً {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الدين الواضح المنجي(1/466)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} لما كانوا لا يعون ما يستمعون: شبهوا بالموتى؛ لأن حالهم كحالهم، وشبهوا أيضاً بالصم والعمي؛ لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون من الحق، ولا بما يرون من الآيات(1/466)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ} ما تسمع سماع قبول وتفهم {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} القرآن {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون؛ لأنهم فتحوا أسماعهم لسماع القرآن، وقلوبهم لفهمه(1/466)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} أي وقع الغضب، وحق العذاب: وقتئذٍ لا تقبل توبتهم، ولا يفيد استغفارهم. وقد أجمع أهل العلم على أن وقوع القول - المعني في هذه الآية - لا يكون إلا عند انعدام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} كلاماً مفهوماً؛ وحينئذٍ لا يقبل استغفار مستغفر، ولا إيمان طالب. قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» وقيل «تكلمهم» أي تجرحهم؛ تؤيده قراءة ابن عباس، والحسن، وغيرهما «تكلمهم» من الكلم؛ وهو الجرح.
وقد اختلفوا في هيئة الدابة، وصفتها، ووقت طلوعها، ومن أين تطلع؛ وتكلموا كلاماً أغرب من الخيال، وأشبه بالمحال؛ ولا حاجة بنا إلى إيراده لأنه بالأساطير أشبه. وقد قيل: إنها فصيل ناقة صالح. وقيل: إنها دابة لها لحية طويلة. وقيل: إنها إنسان كامل عاقل؛ يكلم الناس بالقول الصحيح، والكلام الفصيح، والمنطق البليغ، والحجة القاطعة. وتطلع الدابة - كيفما كان شكلها وصفتها - قبيل القيامة. وقيل: إنها تخرج من مكة؛ فلا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب: فتمسح على جبين المؤمن؛ فيصير وضيئاً منيراً، وتخطم الكافر والمنافق؛ فيكون وجهه كالحاً مسوداً وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هل «تكلمهم» أو «تكلمهم»؟ فقال: هي والله تكلمهم، وتكلمهم: تكلم المؤمن، وتكلم الكافر والفاجر؛ وتقول لهم: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} وعلى قراءة الفتح يكون المعنى «بأن الناس» وبها قرأ ابن مسعود(1/466)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{فَوْجاً} جماعة {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم؛ حتى يجتمعوا؛ ثم يساقون إلى موضع الحساب(1/466)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ} حق العذاب(1/466)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} من السكون. وهو الهدوء، والراحة، والطمأنينة {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} مضيئاً؛ يبصر فيه الإنسان كل شيء، ويتقن كل مصنوع
[ص:467] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} لعظات وعبر(1/466)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وهو القرن: ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} ألا يفزعه. وهم الشهداء: لأنهم {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} والفزع إنما يصل إلى من حيي، والأنبياء: لأن لهم الشهادة مع النبوة. وقيل: هم الملائكة. ويدخل من جملة هؤلاء: المؤمنون الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} صاغرين منقادين(1/467)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{جَامِدَةً} واقفة لا تتحرك {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فانظر - يا رعاك الله - إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها: لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر ولو تأملت ما في بطنها من مجاري أكلها، ومسالك أمعائها، وما في رأسها من أعين وآذان، وأداة ذوق وشم ولمس. لو تأملت ذلك لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً وهي مع هذا الضعف والصغر: تفكر في رزقها، وتنقل الحبة إلى جحرها، وتجمع في رخائها لشدتها، وفي حرها لبردها
وانظر أيضاً إلى النحلة في دقة خلقتها، وجمال صنعتها، وعظم منفعتها: تأكل من ثمار الأشجار، وورق النبات والأزهار، وتخرج لنا رحيقاً مختوماً بخاتم الكمال، من صنع ذي الجلال ومنه نتخذ غذاء لذيذاً، وشراباً صافياً، ودواء شافياً. كل ذلك بتقدير العزيز الرحيم، وتدبير الحكيم العليم {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}(1/467)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ} من الثواب الجزيل، والأجر الجميل {خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} وبذلك يسلم المؤمنون المحسنون من أهوال القيامة، وينجون من الفزع الأكبر، ويكونون من المستثنين، بقول أصدق القائلين {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ}(1/467)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{فَكُبَّتْ} ألقيت(1/467)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
{هَذِهِ الْبَلْدَةِ} مكة شرفها الله تعالى {حَرَّمَهَا} جعلها حرماً آمناً(1/467)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} في أنفسكم، وفي غيركم، و «في الآفاق» {فَتَعْرِفُونَهَا} تعلمونها علم اليقين {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.(1/467)
سورة القصص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{طسم}(1/468)
طسم (1)
(انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/468)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى} خبره {بِالْحَقِّ} بالصدق الذي لا مرية فيه؛ لا كقصص القصاصين، وأساطير الأولين(1/468)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} طغى وتكبر، وجاوز الحق. و «فرعون»: لقب لملوك مصر السابقين. قيل: إن فرعون موسى: هو منفتاح الأول، ابن رمسيس الثاني {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقاً. وهذا شأن الملوك المستبدين: يفرقون بين الأمة، ويجعلونها شيعاً وأحزاباً {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أي يترك البنات أحياء للخدمة، أو يفعل بهن ما يخل بالحياء(1/468)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} نتفضل وننعم {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ} وظلموا، وغلبوا على أمرهم {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} يهتدى بهم في الخير، ويقتدى بهم في الدين {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} للحكم والملك؛ بعد فرعون(1/468)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ} نجعل لهم مكانة {فِي الأَرْضِ} أرض مصر والشام {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وزيره ومستشاره {وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} أي من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ} وعلى رأسهم موسى وهرون {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} أي ما كانوا يخافون ويتوقعون: وهو القتل، وذهاب الملك. وقد كان لفرعون منجم؛ رأى له أن سيكون موته وذهاب ملكه على يد طفل من بني إسرائيل. فأمر عدو الله بقتل كل ولد يولد من بني إسرائيل. وذلك معنى قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}(1/468)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} وحي منام، أو إلهام. وقيل: وحي إعلام: بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام
[ص:469] {فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} البحر {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} قد جمع الله تعالى في هذه الآية بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وقد وضعته في صندوق وألقت به في اليم - كما أوحى إليها -(1/468)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} وهم أعوانه وشيعته {لِيَكُونَ لَهُمْ} في عاقبة الأمر {عَدُوّاً} يسعى في هلاكهم؛ بسبب كفرهم {وَحَزَناً} سبب حزن لهم، وغم عليهم(1/469)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} لفرعون حين خشيت فتكه بموسى؛ كما يفتك بسائر أبناء بني إسرائيل {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} أي سبب سرور وسعادة لنا {عَسَى أَن يَنْفَعَنَا} في الخدمة {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وكانت عاقراً لا تلد {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه عليه السلام سيكون مصدر حزنهم وشقائهم؛ بل ومصدر فنائهم(1/469)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} من العقل والتفكير؛ لفرط جزعها وهمها: حين سمعت بالتقاط آل فرعون له {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}
أي لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها. قيل: إنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون؛ كادت تصيح: واإبناه {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} سكناه بالصبر والطمأنينة؛ وذكرناها بوعدنا السابق الصادق: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقد صدق الله تعالى وعده، وأعز جنده(1/469)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{وَقَالَتِ} أم موسى {لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره، وانظري خبره {عَن جُنُبٍ} عن بعد. قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي البعيد؛ ومنه الأجنبي. وقيل: عن جانب. أي من ناحية الجنب. وقيل: عن شوق؛ وهي لغة لقبيلة من معد يقال لها جذام(1/469)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} جعلناه يرفض التقام ثدي المراضع اللاتي أحضروهن لإرضاعه {فَقَالَتْ} لهم أخته {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} يقومون بكفالته، وتربيته، وإرضاعه {لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} حافظون محبون(1/469)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} كما وعدناها: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بقربه {وَلاَ تَحْزَنِي} لفقده وفراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} الذي وعدها إياه {حَقَّ} واقع لا محالة(1/469)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{وَلَمَّا بَلَغَ} موسى {أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} أي بلغ نهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم {آتَيْنَاهُ حُكْماً} حكمة في فهم الأمور {وَعِلْماً} فقهاً في الدين؛ وذلك قبل أن يبعثه الله تعالى نبياً(1/470)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{وَدَخَلَ} موسى {الْمَدِينَةِ} مدينة فرعون؛ وهي منف، أو منفيس؛ وهي مكان بلدتا البدرشين وميت رهينة؛ بمحافظة الجيزة، وكانت هذه المدينة عاصمة ملك فرعون؛ وفيها قصوره ومعابده {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أتباعه وأنصاره {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من أتباع فرعون {فَوَكَزَهُ مُوسَى} ضربه بجمع كفه «لكمه» {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي إن هذا التسرع في القتل من عمل الشيطان ووسوسته. ومن هنا نعلم أن التسرع في الحكم على الأشياء: مضيع للتدبر والحكمة، وموجب للأسى والندم؛ وهو من عمل الشيطان وتحريضه وقد حدث ذلك لموسى قبل بعثته؛ أما بعد النبوة: فالشيطان محجوب عن الأنبياء، ممنوع من إغوائهم والوسوسة إليهم؛ ألا ترى إلى قول الحكيم العليم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقول اللعين {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1/470)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بارتكاب القتل(1/470)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي بحق إنعامك علي بإنجائي، واصطفائي {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} معيناً {لِّلْمُجْرِمِينَ} الكافرين(1/470)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أن يؤخذ فيمن قتله بالأمس {يَتَرَقَّبُ} يتوقع المكروه {فَإِذَا} الرجل {الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ} طلب نصرته ومعونته {بِالأَمْسِ} ونصره بقتل عدوه {يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيث به على رجل قبطي آخر يقاتله
{لَغَوِيٌّ} ضال {مُّبِينٌ} بين الضلال؛ لما فعلته بالأمس، وتفعله اليوم(1/470)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ} موسى {أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي عدو لموسى وللمستغيث به {قَالَ يمُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} القائل لذلك هو القبطي؛ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن القائل: هو الإسرائيلي - المستصرخ بموسى - لما رأى من غضب موسى عليه السلام، وقوله له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} وهو لا يتفق وسياق النظم الكريم ولقوله بعد ذلك لموسى {إِن تُرِيدُ} ما تريد {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} وهذا القول لا يقوله إلا الأعداء الألداء؛ خصوصاً والقتل السابق قد حصل دفاعاً عن الإسرائيلي، وانتقاماً له(1/470)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{وَجَآءَ رَجُلٌ} مؤمن {مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} آخرها؛ بالنسبة لمكان موسى {قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ} قوم فرعون {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون في أمرك {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} من المدينة(1/471)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} يتوقع لحوق أعدائه به، أو «يترقب» نصرة الله تعالى له(1/471)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ} ناحية {مَدْيَنَ} هي قرية شعيب عليه السلام؛ وهي خارجة عن حكم فرعون {سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي الطريق الصحيح المستوي؛ الموصل للنجاة والخير(1/471)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} وكانت بئراً يستقون منها {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} جماعة {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي سواهم؛ بعيداً عن الذين يستقون {امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ} تمنعان أغنامهما عن ورود الماء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما؟ وما الذي دعاكما إلى الابتعاد عن الماء؛ مع حاجتكما إليه؟ {قَالَتَا لاَ نَسْقِي} ولا نزاحم؛ لأن المزاحمة تقتضي الاختلاط بالرجال وملاحقتهم، وهو أمر ينقص من قدر المرأة، ويذهب بحيائها؛ بل ننتظر في مكاننا هذا البعيد عن الماء {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ} أي حتى يرجع الرعاة بعد سقيهم؛ وما ألجأنا إلى ذلك إلا انعدام وجود الرجال، الذين يقومون بالأعمال في أسرتنا {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقوى على السعي والسقي. فزاحم موسى، وأخذ غنمهما(1/471)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ} حلت به متاعب الأسفار، وأدركه تعب السعي والسقي؛ فطلب الراحة لنفسه؛ و {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ليرتاح مما لاقاه من المشاق؛ التي لا يحتملها إلا الأنبياء؛ وخواص الأولياء والأصفياء وأحس بالجوع الذي يذيب الجسد، ويفري الكبد {فَقَالَ} مخاطباً مولاه؛ الذي خلقه فسواه، وكلأه ورعاه {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طعام {فَقِيرٌ} محتاج. وقد قال «لما أنزلت» ولم يقل: لما تنزل؛ لتأكده من استجابة ربه له ولتحققه من نزول الخير إليه(1/471)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{فَلَمَّا جَآءَهُ} أي جاء موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} قصته مع فرعون، وهروبه من مصر {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بوصولك إلى «مدين» وهي ليست في ملك فرعون، وليست خاضعة لحكمه(1/471)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} يؤخذ من هذه الآية: أن العاقل الحكيم، يخطب لبناته صاحب الخلق الكريم، حيث لا تهمه المادة؛ بل يهمه القوة على العمل والقدرة على الكسب؛ لئلا يكون عالة على غيره {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} أن تكون أجيراً لي {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} سنين(1/472)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{قَالَ ذَلِكَ} الأمر {بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ} الثمان أو العشر {قَضَيْتُ} مهراً لزوجتي {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي فلا أكون معتدياً، أو لا يعتدي عليَّ بطلب الزيادة(1/472)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} الأكمل، والأتم. وقيل: قضى عشراً وعشراً؛ ومن أوفى في الأداء، من الأنبياء؟ {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} بامرأته نحو مصر؛ بعد أن قضى بمدين المدة المسقطة للجريمة؛ وكانت تسقط بمضي عشر سنوات في شريعة فرعون؛ وهي جريمة قتل القبطي {آنَسَ} أبصر {مِن جَانِبِ الطُّورِ} الجبل {أَوْ جَذْوَةٍ} قطعة متقدة {تَصْطَلُونَ} تستدفئون(1/472)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{فَلَمَّآ أَتَاهَا} أتى موسى النار. وقيل: أتى الشجرة الآتي ذكرها {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ} جانب {الْوَادِي الأَيْمَنِ} بالنسبة لموسى {مِنَ الشَّجَرَةِ} التي أوجدها الله تعالى في هذا المكان، البعيد عن العمران والسكان، الخالي من الماء والنبات؛ ونودي بكلام مقدس: لا تحيط به اللغات، ولا تدركه الصفات، ولا يشابه الحروف والأصوات؛ ولا يشاكل النغمات والعبارات؛ من لدن باسط الأرض ورافع السموات «نودي» {أَن يمُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *(1/472)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} لأريك من بدائع قدرتي، وعجيب صنعي. فألقاها فإذا بالحياة تدب فيها بأمر باعث الحياة، وإذا بها تتثنى وتتلوى؛ وقد زايلها الجمود الملصق بطبيعتها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حية صغيرة كثيرة الحركة {وَلَّى مُدْبِراً} رجع مسرعاً من حيث أتى {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع(1/472)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{اسْلُكْ} أدخل {يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير مرض: كبرص ونحوه؛ بل كضوء الشمس {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} أي من أجل الرهب؛ وهو الخوف. المعنى: اضمم يدك إلى صدرك: يذهب ما بك من خوف وفرق من الحية؛ ولأن موسى خشي أن يضم يده إليه؛ لما رأى من إضاءتها وتغيرها {فَذَانِكَ} أي تحرك العصا، وإضاءة اليد معجزتان {مِن رَّبِّكَ} لتذهب بهما {اسْلُكْ يَدَكَ فِي} تأييداً لنبوتك، وتصديقاً لرسالتك(1/473)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{رِدْءاً} عوناً {يُصَدِّقُنِي} أي يكون - بسبب فصاحته، وطلاقة لسانه - سبباً في تصديقي(1/473)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} غلبة وتسلطاً على الأعداء {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بسوء التي نمدك بها {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا} من المؤمنين {الْغَالِبُونَ} لأعداء الله(1/473)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا} معجزاتنا {بَيِّنَاتٍ} واضحات ظاهرات؛ لا ينكرها إلا من انطمست بصيرته، وعمي قلبه {قَالُواْ} أي فرعون وشيعته {مَا هَذَآ} الذي جئتنا به؛ من انقلاب العصا حية، وما انبعث من الضوء في يدك؛ إن هذا {إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تزعمه: من وجود إله واحد {فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ} المتقدمين(1/473)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} ولم يختلق، ولم يفتر {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة يوم القيامة(1/473)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه؛ بعد أن أخرسه موسى بحججه ومعجزاته
[ص:474] {يأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وأراد أن يوهم قومه بأنه ذو بطش شديد وقوة، وأن إله موسى في متناول يده، وغير بعيد عليه، وأن في إمكانه الصعود إليه ومقابلته ومقاتلته؛ فقال لوزيره وشريكه في الكفر ومراده من ذلك: صنع لبنات من الفخار؛ مما يتخذ للبناء {فَاجْعَل لِّي} من هذه اللبنات {صَرْحاً} بناء عالياً {لَّعَلِّي أَطَّلِعُ} أصعد وانظر {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} وأقف على حاله(1/473)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
{وَاسْتَكْبَرَ} اللعين، وتعالى عن الإيمان {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث يوم القيامة(1/474)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} طرحناهم في البحر. قيل: إنه بحر القلزم؛ وهي بلدة على ساحل البحر الأحمر، بين مصر والحجاز(1/474)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادة {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى} الكفر؛ والكفر موصل إلى {النَّارِ} حتماً(1/474)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طرداً، وإبعاداً وهلاكاً {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} المطرودين المبعدين(1/474)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} الأمم المتقدمة؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم {بَصَآئِرَ} أي الكتاب المنزل على موسى «بصائر» يتبصر بها في شؤون الدين والدنيا(1/474)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{وَمَا كُنْتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي بجانب الجبل الغربي؛ الذي كان فيه ميقات موسى عليه السلام؛ حين كلمه ربه تعالى {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} المشاهدين لذلك(1/474)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{قُرُوناً} أمماً {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} مقيماً {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} قوم شعيب عليه السلام
[ص:475] {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لك يا محمد بهذه القصص، وهذه الأنباء؛ التي تخفى عليك؛ لولا أن أنزلناها إليك؛ لتعلمهم بها: فتكون دليلاً على صدقك، وصحة رسالتك(1/474)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{الطُّورِ} الجبل {إِذْ نَادَيْنَا} موسى، وحملناه الرسالة {وَلَكِنَّ} أرسلناك لقومك {رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} نبي ينذرهم بطش ربهم وعقابه، ويرغبهم في رحمته وثوابه(1/475)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} يهدينا إلى معرفتك، ويرشدنا إلى عبادتك؟ {فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ} المنزلة عليه(1/475)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} محمد عليه الصلاة والسلام {قَالُواْ لَوْلا} هلا {أُوتِيَ} من المعجزات {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى} ونسوا أنهم - من قبل - كفروا بموسى وحاربوه، وسخروا بمعجزاته واستهزأوا بها {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي تعاونا. والمراد بهما: التوراة والقرآن، أو هما موسى ومحمد؛ على قراءة من قرأ «ساحران تظاهرا» {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ} من التوراة والقرآن، أو موسى ومحمد {كَافِرُونَ} وقراءة «سحران» أصح وأوضح؛ لقوله تعالى:(1/475)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ} أي أكثر هداية من التوراة والقرآن {وَمَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل {مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بل يزيدهم ضلالاً على ضلالهم {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} (انظر آية 176 من سورة الأعراف)(1/475)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا} أي أوصلنا، وبينا؛ ووصل الشيء: لأمه(1/475)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى؛ وكتابهم: التوراة والإنجيل {مِن قَبْلِهِ} من قبل القرآن؛ والمراد بهم مؤمنو أهل الكتاب {هُم بِهِ} أي بالقرآن {يُؤْمِنُونَ *(1/476)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن {مُسْلِمِينَ} مؤمنين بالله؛ لاتباعنا ما نزل علينا من الكتاب(1/476)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم} ينالون جزاءهم وثوابهم {مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي؛ ولإيمانهم أولاً بكتابهم ورسولهم، وإيمانهم آخراً بالقرآن ومن أنزل إليه {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون بالطاعة المعصية، أو يدفعون الأذى بالعفو والحلم(1/476)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{اللَّغْوَ} الباطل {وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا} فنثاب عليها {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فتؤخذون بها {لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نريد مصاحبتهم ومخالطتهم(1/476)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} هدايته {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فيزيدهم {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى}(1/476)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} أي يحاربنا الناس ويخرجوننا من أرضنا؛ وهذا قول باطل مردود عليه بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} يأمنون فيه من الاعتداء والقتل، والإغارة؛ الواقعة من بعض العرب على بعض {يُجْبَى إِلَيْهِ} أي يجلب ويجمع {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} من عندنا؛ لا بجهد منهم، أو مشقة عليهم: يزرع غيرهم فيأكلون، وينسج فيلبسون(1/476)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}
أي تنكرت لما اختصها الله تعالى به من النعم؛ فلم تشكر عليها {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} خالية خاوية {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ} لما فيها من وحشة وخراب، وما يعروها من ظلمة واكتئاب {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا سكناً قليلاً: يحط بها المسافرون - للضرورة - يوماً أو بعض يوم(1/476)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أي يبعث في عاصمتها، والقرية العظيمة فيها {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} كافرون(1/477)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{وَمَا عِندَ اللَّهِ} في الآخرة: من جنان، وفاكهة ورمان، وحور حسان {خَيْرٌ وَأَبْقَى} من متاع الدنيا الزائل؛ ومجدها الزائف(1/477)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} بالنعيم الدائم في الجنة {فَهُوَ لاَقِيهِ} حتماً؛ ومن أصدق وعداً منالله؟ {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فشغله الحال، عن المآل، وأنساه التدبير عن المصير {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في النار(1/477)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب عليهم العذاب {أَغْوَيْنَآ} أضللنا {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} منهم(1/477)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ} أي ادعوا الأصنام التي أشركتموها مع الله تعالى في العبادة؛ ليكشفوا عنكم ما بكم من ضيق، وليدفعوا عنكم ما أنتم فيه من عذاب {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} وكيف يستجيب من لا يجيب؟ أو كيف ينجي من العذاب من هو واقع في العذاب؟(1/477)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ} أي خفيت ولم يدروا بماذا يجيبون(1/477)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} خلقته {وَيَخْتَارُ} ما يشاء اختياره {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي ما كان لأحدهم أن يختار لنفسه؛ لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، وحاكمه؛ وهو وحده صاحب الخيرة فيه ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ويختار» الذي فيه «الخيرة» لهم والمصلحة وهذا واضح ملموس: فقد يختار الإنسان ما يضره، ويساق رغم أنفه إلى ما يسره وهذه خيرته في خليقته. وكما أنه تعالى اختار لما خلق؛ فقد خلق ما اختار: خلق تعالى أصنافاً متعددة، وأجناساً شتى، وأمماً متباينة؛ حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحكمة: ملائكة وشياطين، وإنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وبحاراً وأنهاراً، وجبالاً ووهاداً، وثماراً وأزهاراً؛ إلى ما لا نهاية لحده، ولا حد لمنتهاه؛ وليس الطاوس الجميل بأكرم عليه تعالى من الغراب الذليل، ولا الهدهد بأعز لديه من الحدأة، ولا الحمل بأحب إليه من الذئب.
وكذلك خزنة النار - وهم من هم في إنزال العذاب وإحلال النقمة - فإنهم ليسوا بدون خزنة الجنة؛ وهم من هم في إسباغ السعادة وإحلال النعمة
وكذلك ملك الموت - الذي يجلب الحزن ويأتي بالفناء - فإنه ليس بدون ملك الأرزاق الذي يأتي بالخصب والرخاء.
وجبريل الذي ينزل بالعذاب؛ ليس بدون ميكائيل الذي ينزل بالرحمة فالكل مخلوق له تعالى، دال على وحدانيته. والكل مخلوق بإرادته ومشيئته، وتدبيره وحكمته وهو وحده {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} (انظر آية 105 من سورة يوسف) {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتقدس {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم به غيره (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)(1/478)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} ما تضمره وتخفيه قلوبهم(1/478)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى} في الدنيا له الحمد في {الآخِرَةُ} وهو قول المؤمنين الناجين يوم القيامة «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. الحمدلله الذي صدقنا وعده. الحمدلله رب العالمين»(1/478)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{سَرْمَداً} دائماً {تَسْكُنُونَ} تستريحون وتنامون(1/478)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في النهار(1/478)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{وَنَزَعْنَا} أخرجنا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يشهد عليهم ولهم بما قالوا، وما فعلوا {فَقُلْنَا} للمشركين {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} على صحة معبوداتكم
[ص:479] {فَعَلِمُواْ} وقتذاك {أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} وحده، وأن ما سواه هو الباطل {وَضَلَّ} غاب {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون من الآلهة والأصنام(1/478)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} ممن آمن به. وكان ابن عمته، وابن خالته {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ظلمهم وتكبر وتجبر فيهم؛ وأعجب بماله وغناه {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} المفاتح: جمع مفتح. والمفتح: هو المفتاح. والمفتاح جمعه مفاتيح. وقيل: المراد بالمفاتح: الأوعية. فيكون المعنى: ما إن خزائنه، وصناديق كنوزه وأمواله {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} لتثقل بالجماعة {أُوْلِي الْقُوَّةِ} أصحاب القوة والشدة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الفرحين: فرح أشر وبطر؛ أما من منّ الله تعالى عليه بنعمة: فاطمأن إليها؛ اطمئنان الواثق بربه، وفرح بها: فهو ممن أحبه مولاه؛ فرضي عنه وأرضاه(1/479)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي اطلب الآخرة فيما آتاك الله من الثروة والغنى؛ بأن تتصدق، وتصل الرحم؛ ولا تنس أن تبقى لنفسك شيئاً يقيك العوز، ويمنعك من إراقة ماء وجهك {وَأَحْسِن} إلى الناس؛ ولو أساءوا {كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} رغم إساءتك {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي(1/479)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}
أي إنما حصلت على هذا المال بسبب علمي بوجوه المكاسب، وضروب الاتجار. وقيل: كان يشتغل بالكيمياء؛ وهي تحويل بعض المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة - كالذهب - وذلك بواسطة إضافة عناصر أخرى إليها. وقد شغف الكثيرون بذلك العلم؛ وقضوا أعمارهم، وأفنوا أموالهم في ذلك السبيل؛ فلم يحظوا بطائل؛ وحذر كثير من الألباء من ولوج هذا الباب؛ فحذار - أيها المؤمن اللبيب - أن تحاول ما يعكر صفو حياتك، ويشغلك عن عبادتك؛ وانصرف عما لا يفيدك، إلى ما يفيدك {مِنَ الْقُرُونِ} الأمم {وَأَكْثَرُ جَمْعاً} للمال {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي لا يسألون سؤال استعتاب {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} بل يسألون سؤال حساب وعقاب {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقيل: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم: لظهورها وكثرتها؛ بل يدخلون النار بغير حساب؛ كما يدخل خيار المؤمنين الجنة بغير حساب(1/479)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{فَخَرَجَ} قارون {عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي في أبهته: لابساً فاخر الثياب، راكباً فاره المراكب {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وليس لهم نصيب في الآخرة {يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} من الجاه والمال {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} نصيب كبير في الدنيا(1/479)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} الدين، والمعرفة، والحقيقة {وَيْلَكُمْ} أي الويل لكم. والويل: حلول الشر {ثَوَابُ اللَّهِ} جزاؤه في الآخرة {خَيْرٍ} من الدنيا وما فيها، ومن فيها {لِّمَنْ آمَنَ} بالله
[ص:480] {وَعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه {وَلاَ يُلَقَّاهَآ} أي لا يؤتى الجنة، ولا يدخلها؛ أو لا يوفق للأعمال الصالحة {إِلاَّ الصَّابِرُونَ} على الطاعات، وعن المعاصي(1/479)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{فَخَسَفْنَا بِهِ} أي بقارون {وَبِدَارِهِ}
بما فيها من كنوز، وأموال؛ لم تغن عنه كثرتها ووفرتها؛ وأهلكه الله تعالى، وأذهب حاله، وزينته، وجاهه؛ ولم يبق له في الدنيا سوى الخزي واللعنة، وفي الآخرة الجحيم والعذاب الأليم {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} جماعة، أو عصابة {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} يمنعون عنه الهلاك الذي قدره له(1/480)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} وكانوا يقولون {يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} أصبحوا يقولون {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} وي: كلمة يقولها النادم لإظهار ندمه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بإرادته {وَيَقْدِرُ} يقبض ويضيق عمن يشاء بحكمته وليس البسط دليلاً على رضاه، ولا القبض دليلاً على سخطه {لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالإيمان والصبر {لَخَسَفَ بِنَا} الأرض؛ كما خسف بقارون {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} الذين كفروا بأنعمالله؛ فلم يشكروها. وقنطوا من زوال الشدة، فلم يصبروا عليها(1/480)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً} بغياً وكبراً {وَلاَ فَسَاداً} بارتكاب المعاصي. لأن الطاعة والإحسان: هما الوضع الصحيح الذي يقتضيه النظام الكوني، وتلتزمه الفطر السليمة. أما المعصية والإساءة: فهما خروج عن الطاعة، وفساد للنظام. والمعصية: فساد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} والعاصي: مفسد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {وَالْعَاقِبَةُ} في الدنيا والآخرة {لِلْمُتَّقِينَ} الذين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاءه وعقوبته(1/480)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أنزله إليك، وكلفك بتبليغه والعمل به {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى عود. أي لمعيدك بعد الموت، أو لرادك إلى مكة؛ بعد أن أخرجوك منها. وكانت عودته - عليه الصلاة والسلام - يوم الفتح(1/480)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{وَمَا كُنتَ تَرْجُو} تأمل قبل أن نهبك النبوة {أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أن ينزل عليك القرآن {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولكن الله تعالى أنزله إليك: رحمة منه تعالى بك وبالناس
[ص:481] {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ} أي معيناً لهم. والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام - في هذا وأمثاله - وهو أبعد المخلوقين عن مظاهرة الكافرين والمراد به أمته {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}(1/480)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} لا يمنعونك {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} عن تبليغها(1/481)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{كُلِّ شَيْءٍ} سواه تعالى {هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي إلا الأعمال الصالحة التي قصد بها وجهه تعالى؛ فهي باقية: يثاب عليها، ويسعد بها في الدنيا وفي الآخرة أو {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} إلا ذاته العلية؛ فهي منزهة عن الهلاك والفناء {لَهُ الْحُكْمُ} القضاء النافذ في الدنيا والآخرة(1/481)
سورة العنكبوت
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/481)
الم (1)
{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/481)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أي لا يمتحنون ويختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم. وذلك بنقص الأموال، وموت الأولاد، والقحط، وغير ذلك. وكما يكون الامتحان والاختبار بالفقر، والمرض، والموت، والجدب؛ فإنه يكون أيضاً بالغني والعافية. وكما يكون الابتلاء بالضراء، يكون بالنعماء والسراء، وقد فتن سليمان عليه السلام بكليهما. قال تعالى:(1/481)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}(1/481)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
{أَن يَسْبِقُونَا} يفوتونا؛ فلا نستطيع إدراكهم ومعاقبتهم(1/481)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ} ومثوبته في الآخرة {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} الذي أجله ووقته لهذا اليوم الموعود {لآتٍ} لا ريب فيه {وَهُوَ السَّمِيعُ} لكل ما يقال {الْعَلِيمُ} بكل ما يفعل؛ فيجازي عليه(1/482)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي لمنفعتها؛ لأن في الجهاد: حماية الأهل والوطن، ودفع العدو الغاشم، وإعلاء الدين، ودخول الجنة
{لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لنمحونها عنهم(1/482)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي أمرناه بالإحسان إليهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء) {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} في العبادة {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فقد علمت أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده {فَلاَ تُطِعْهُمَآ} إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها مخالفة الوالدين وعصيانهما؛ إذا هما أكرها ابنهما على الإشراك بالله(1/482)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} أي لنحشرنهم مع الأولياء والأنبياء(1/482)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي بسبب إيمانه ب الله تعالى {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي إذايتهم له {كَعَذَابِ اللَّهِ} المتوقع للعصاة؛ فاضطر بسبب ضعف إيمانه، وفساد عقيدته، إلى الخوف من الناس، والتزلف إليهم {أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} من إيمان، أو شرك، أو نفاق(1/482)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} بقلوبهم {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الغش والخداع(1/482)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا} ديننا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} في أتباعنا(1/483)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{وَلَيَحْمِلُنَّ} القائلون «اتبعوا سبيلنا» {أَثْقَالَهُمْ} أوزارهم؛ بكفرهم {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أي أوزاراً مع أوزارهم؛ وهي ذنوب من اتبعهم واستن بسنتهم السيئة؛ من العصاة والكافرين (انظر آية 29 من سورة المائدة)(1/483)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً} أي وجعلنا السفينة علامة على قدرتنا ووحدانيتنا. أو وجعلنا هذه القصة عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ(1/483)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{أَوْثَاناً} أصناماً {وَتَخْلُقُونَ} أي تنحتون {إِفْكاً} كذباً. والمعنى: إنما تعبدون أصناماً تنحتونها بأيديكم {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي لا يستطيعون رزقكم، ولا أنفسهم يرزقون {فَابْتَغُواْ} اطلبوا {عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فهو وحده {الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {وَاعْبُدُوهُ} حق عبادته {وَاشْكُرُواْ لَهُ} أنعمه عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم على شكركم {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(1/483)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} رؤية روية وتفكر {كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ} يبدأه من غير مثال سبق
[ص:484] {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يوم القيامة كما بدأه {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}(1/483)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي يعيد الخلق مرة أخرى، ويبعثهم يوم القيامة؛ وحينئذٍ(1/484)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
{يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} تعذيبه؛ وهو من مات على الكفر، أو أصر على الفسق؛ ولم يؤمن بربه، أو يتب من ذنبه {وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} رحمته؛ ممن آمن به، وتاب عما فرط منه، وابتعد عن محارمه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون(1/484)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين الله تعالى، وناجين من عذابه: مهما كنتم، وأين كنتم؛ فإنه مدرككم {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِن وَلِيٍّ} يمنعكم منه {وَلاَ نَصِيرٍ} ينصركم عليه(1/484)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن الكريم {وَلِقَآئِهِ} أي كفروا بالبعث والقيامة
{أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} بهم؛ حين يرون العذاب {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}(1/484)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي جواب قوم إبراهيم على دعوته لهم لعبادة الله تعالى، وترك عبادة الأوثان {إِنَّ فِي ذلِكَ} الإنجاء من النار {لآيَاتٍ} عبر ومعجزات؛ إذ جعل الله النار برداً وسلاماً عليه(1/484)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{أَوْثَاناً} أصناماً {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} أي جعلتم عبادة الأوثان سبباً للمودة فيما بينكم {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يلعن الأتباع قادتهم(1/484)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي آمن بإبراهيم، وصدق برسالته؛ وهو ابن أخيه {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي منتقل من جانبكم إلى طاعة الله تعالى. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن القائل: هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ وأنه هاجر من سواد العراق إلى الشام. وقيل: إن القائل هو لوط عليه السلام(1/484)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ} أي ذرية إبراهيم {النُّبُوَّةَ} فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته {وَالْكِتَابَ} اسم جنس؛ بمعنى الكتب. أي وجعلنا نزول الكتب في الأنبياء من ذريته أيضاً: كالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان، وبين سائر الملل(1/485)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي إتيان الذكران «اللواط» {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} أي بهذه الفاحشة؛ وقد كانوا - لعنهم الله تعالى - أول من ابتدعها، واقترفها(1/485)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} الطريق؛ لأن كل من مر؛ كان عرضة لانتهاك عرضه {فِي نَادِيكُمُ} في مجلسكم ومجتمعكم {الْمُنْكَرَ} هو ما ينكره الشرع والعرف والذوق؛ وقد كانوا يفعلون الفاحشة ببعضهم نهاراً جهاراً {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الذي أوعدتنا بنزوله {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تقوله(1/485)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ} ملائكتنا إلى {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} بالبشارة بالولد؛ أو بإهلاك أعدائه {قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} قرية لوط عليه السلام(1/485)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{قَالَ} إبراهيم لرسل ربه {إِنَّ فِيهَا} أي إن في القرية التي أمرتم بإهلاك أهلها {لُوطاً} وهو جدير بالحفظ، قمين بالنجاة {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} من الظالمين فنهلكهم، ومن المؤمنين فننجيهم؛ و {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} وهم من آمن معه {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب(1/485)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{سِيءَ بِهِمْ} ساءه مجيئهم؛ خشية الفضيحة بسببهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي ضاق صدره من أجلهم؛ وقد كانوا حسان الوجوه؛ فخشى اعتداء قومه عليهم كعادتهم. فلما رأى الملائكة خوفه وحزنه: قاموا بتسليته
[ص:486] {وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ} من شيء {وَلاَ تَحْزَنْ} على شيء(1/485)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً} عذاباً(1/486)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أي تركنا من القرية دلالة واضحة؛ على ما حل بها من الخراب والدمار؛ وهي آثارها وأطلالها البالية {وَارْجُواْ الْيَوْمَ آلآخِرَ} يوم القيامة، وما فيه من أهوال(1/486)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد(1/486)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين(1/486)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{وَعَاداً} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} ما حل بهم من دمار واستئصال؛ وكانوا يرونها في أسفارهم نحو اليمن {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} منعهم عن الإيمان {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ}
أي ذوي عقول وإدراك وتمييز؛ لكنهم لم يؤمنوا؛ فكان كفرهم أشد من كفر غيرهم؛ وذلك كقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}(1/486)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{وَقَارُونَ} من قوم موسى؛ وقد مضى ذكره في سورة القصص {وَهَامَانَ} وزير فرعون {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات الظاهرات {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي فائتين، وناجين من العذاب؛ بل أهلكناهم كما أهلكنا المكذبين والمستكبرين من قبلهم ومن بعدهم(1/486)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{فَكُلاًّ أَخَذْنَا} أهلكنا {بِذَنبِهِ} الذي ارتكبه بفعله واختياره {فَمِنْهُم} كقوم لوط؛ والحاصب: الريح ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى الصغار {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كثمود وأهل مدين. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} كقارون
[ص:487] {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقوم نحو {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} ليعاقبهم بغير ذنب أتوه {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكاب الذنوب، وتعريضها للعقاب(1/486)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{أَوْلِيَآءَ} نصراء؛ والمقصود بها الأصنام {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أضعفها(1/487)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {مِّن شَيْءٍ} أي إنهم لا يعبدون شيئاً يذكر بين الأشياء؛ وأن معبوداتهم: لا ترتفع إلى درجة الوجود؛ فما بالك إذا قيست بالواجد لكل موجود(1/487)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} العنكبوت، والبعوضة، وما شابههما {نَضْرِبُهَا} نسوقها {وَمَا يَعْقِلُهَآ} ما يفهمها ويتدبرها {إِلاَّ الْعَالِمُونَ} المتدبرون {لآيَةً} دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته(1/487)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} عن الحسن رضي الله تعالى عنه: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر: فليست صلاته بصلاة {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} المراد بالذكر: التذكر. أي ولتذكر الله تعالى وخشيته، والإسراع في مرضاته، والابتعاد عن محرماته: أكبر من سائر العبادات؛ إذ أن العبادات وسيلة لمعرفة الله تعالى وخشيته؛ واتباع أوامره، واجتناب نواهيه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته: أكبر من ذكركم إياه بطاعته {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} فيجازيكم عليه، ويؤاخذكم به(1/487)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بأن آذوكم وقاتلوكم؛ فأغلظوا عليهم، ونكلوا بهم {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا} الذي {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من الكتب(1/487)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو} تقرأ {مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن {مِن كِتَابٍ} أي مكتوب {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} لأنك أمي: لا تقرأ ولا تكتب؛ وهي معجزة لك؛ دالة على صدقك. ولو كنت تكتب وتقرأ {إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي لو كنت تتلو الكتب المتقدمة - قبل نزول القرآن - وتكتب بيمينك ما نزل عليك: لشك المبطلون في رسالتك، وحق لهم أن يشكوا وقتذاك. ولكنك أمي لم تقرأ كتاباً، ولم تخط بيدك سطراً؛ فلم إذن الشك والارتياب؟(1/488)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} بعد وضوحها، وإحاطتها بسياج منيع يبعد بها عن الشبهات {إِلاَّ الظَّالِمُونَ} الكافرون(1/488)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} أي هلا أنزل عليه آيات من ربه: مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى؛ عليهم السلام(1/488)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} من الآيات الدالة على صدقك {أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي أولم يكفهم من الآيات المعجزات: هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك لأنك أمي؛ وهذا القرآن - الذي جئت به - أعجز الفصحاء والبلغاء؛ وفيه رحمة وهدى، وشفاء للمؤمنين، وقد أحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث؛ ولم يستطيعوا - رغم قوة حجتهم، وبلاغة عارضتهم - أن يأتوا بمثل سورة منه؛ وهو معجزة المعجزات أبد الآبدين، ودهر الداهرين(1/488)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ} وهو كل معبود سوى الله تعالى {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}(1/488)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} بقولهم: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم»
{وَلَوْلاَ أَجَلٌ} وقت {مُّسَمًّى} ضربناه لنزول العذاب بهم {لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} حين استعجلوا به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فجأة(1/488)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} يغطيهم {وَيِقُولُ} أي يقول لهم ربهم على لسان ملائكته - لأنهم محجوبون عن التلذذ بخطاب العزيز الكريم - {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءه(1/489)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{يعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فإذا أوذيتم في بلدة؛ فهاجروا منها إلى غيرها(1/489)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لننزلنهم {مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً} الغرف: أعالي الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أبداً؛ خلوداً لا نهاية له(1/489)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
{الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي(1/489)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ} أي وكم من دابة. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو حشرة، أو نحوه {لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي لا تستطيع الحصول عليه، ولا تدخره {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم ودعائكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم وضمائركم
والعجب كل العجب: أن تضرب الصخرة؛ فتنشق عن حشرة: لا تدري حين تلقاها، من أين يرزقها مولاها، وعلى أي شيء أنشأها ورباها وهي إن لم تجد القوت؛ فليس لها حتماً سوى الموت وتجد الإنسان - صاحب الحول والطول، والحيلة والدهاء والتدبير - دائب الكد، متواصل السعي؛ فلا يدرك - بكده وجهده - غير لقمته، ولا يبلغ من حياته سوى الكفاف، أو ما هو دون الكفاف وتجد آخر متربعاً في عقر داره؛ يحمل إليه فاخر الملبس، ونفيس المأكل والمشرب؛ بما يفيض عن حاجته، ويزيد عن طلبته؛ ليسجل تعالى على مخلوقاته: أنه الرازق بلا سبب، المعطي بلا طلب رزق «السميع العليم» الذي تكفل بما خلق؛ وساق لكل ما أراده تعالى له، لا ما أراده هو لنفسه؛ فتعالى المدبر الحكيم، الرزاق الكريم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن الإيمان، بعد اعترافهم(1/489)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه من غير سبب {لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} من غير طلب {وَيَقْدِرُ لَهُ} ويضيق عليه؛ بعد التوسعة: ابتلاء له، أو انتقاماً منه(1/489)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذ يعترفون بخلقته، ويكفرون بوحدانيته(1/490)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ} وما فيها من زخرف وبهجة {إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} لا بقاء له، ولا ثمرة فيه {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي لهي الحياة الحقيقية: الدائمة النعيم، الباقية السرور والحبور؛ الجديرة بأن تسمى حياة(1/490)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ} في السفن؛ وهاج عليهم البحر العجاج، وتلاطمت بهم الأمواج؛ وظنوا ألا مهرب من الله إلا إليه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي صادقين في نيتهم، مخبتين في دعوتهم: فاستجاب ربهم لدعائهم؛ وهو تعالى دائم الاستجابة لمن دعاه، ولو كان عابداً لسواه فتعالى الملك العظيم، البر التواب الرحيم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} وأمنوا الهلاك والإغراق {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} بمولاهم، ويكفرون بمن أنجاهم(1/490)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}
من نعمة الإثراء والإنجاء {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} بالدنيا وما فيها من نعيم زائل؛ ما هو {إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} عاقبة أمرهم، ومغبة كفرهم(1/490)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي جعلنا بلدهم حرماً يأمن داخله؛ في حين أن الناس تتخطف من حولهم بالقتل، والسلب، والسبي {أَفَبِالْبَاطِلِ} الأصنام، وكل ما عدا الله {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} الإسلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام {يَكْفُرُونَ} فياعجباً لهم: اشتروا دنياهم بآخرتهم، وشقاءهم بسعادتهم؛ فتعساً لهم(1/490)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن نسب له الشريك والولد {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} القرآن والإسلام {مَثْوًى} مأوى(1/490)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا} أي جاهدوا من أجلنا. والجهاد يطلق على مجاهدة النفس والشيطان، وأعداء الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي لنهدينهم إلى سبيل الخير والتوفيق. أو والذين جاهدوا فيما علموا؛ لنهدينهم إلى ما لم يعلموا؛ لأن من عمل بما علم: أعطاه الله علم ما لم يعلم {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالعون، والنصر، والحفظ، والهداية(1/490)
سورة الروم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/491)
الم (1)
{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/491)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
{غُلِبَتِ الرُّومُ} غلبتها الفرس: ففرح كفار مكة بذلك؛ لأن الفرس كانوا يعبدون الأصنام مثلهم(1/491)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أقربها إلى فارس، وإلى بلاد العرب. قيل: كانت موقعتهم بالشام {وَهُمْ} أي الروم {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي بعد غلبة فارس {سَيَغْلِبُونَ *(1/491)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
فِي بِضْعِ سِنِينَ} البضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من اللقاء الأول؛ وغلبت الروم فارس: مصداقاً لقول العزيز الكريم {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} فهو وحده الذي قدر هزيمة الروم «من قبل» وقضى بنصرتهم «من بعد» {وَيَوْمَئِذٍ} يوم نصرة الروم على الفرس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} لأن الروم أهل كتاب؛ فهم بالمؤمنين أشبه، وإلى قلوبهم أقرب. أما الفرس فقد كانوا من عبدة الأوثان ككفار مكة(1/491)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
{يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} نصره - ولو كان ضعيفاً - ويكبت من يشاء كبته - ولو كان قوياً - {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(1/491)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يعلم الكفار ما يحتاجون إليه في الدنيا من أمور المعايش: كالزراعة، والصناعة، والتجارة، ونحو ذلك. ولا يزالون حتى الآن متقدمين في شتى العلوم والفنون - مصداقاً لهذه الآية الكريمة - فقد تقدموا تقدماً كبيراً في استخدام القوى الكهربائية، والطاقة الذرية، وفنون الطيران واللاسلكي، والميكانيكا، وغيرها {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ} وما يوصل إليها: من قول وعمل {هُمْ غَافِلُونَ} فلا يؤمنون بخالقهم، ولا يدينون برازقهم(1/491)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} كيف أنشأناهم وأبدعنا صورهم؟ وكيف سويناهم وخلقنا عقولهم؟ وكيف هديناهم إلى ما يصلحهم؟ أو {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} فيما بينهم وبين «أنفسهم» {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ}
وما فيها من كواكب وأملاك، وأنجم وأفلاك، ومخلوقات جمة؛ لا يحصيها، ولا يعلمها إلا خالقها ومبدعها ما خلق الله {الأَرْضِ} وما فيها من بحار وأنهار، وجبال وأشجار، ونبات وحيوان {وَمَا بَيْنَهُمَآ} مما لا يعد ولا يحد {إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلا لإقامة الحق والعدل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وبقاؤها لأجل مسمى {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} رغم هذه الدلالات الواضحات على قدرة الله تعالى ووحدانيته {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} لا يؤمنون بالبعث والحساب(1/491)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين؛ بسبب تكذيبهم؛ وقد {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وما حل بهم: كعاد وثمود {وَأَثَارُواْ الأَرْضَ} حرثوها للزرع، وحفروها لاستخراج الفلزات والمعادن {وَعَمَرُوهَآ} بالتجارة والبناء {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي أكثر مما عمرها الكفار المعاصرون {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات؛ فلم يؤمنوا، وكذبوا رسلهم وآذوهم: فأهلكهم الله تعالى واستأصلهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بهذا الإهلاك {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتكذيبهم الرسل(1/492)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى} أي العذاب الأسوأ؛ كما أن عاقبة الذين أحسنوا الحسنى {أَنَّ} بسبب أن(1/492)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ينشؤه ابتداء؛ من غير مثال سبق {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يحييه للبعث والحساب يوم القيامة {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} جميعاً: مسلمكم وكافركم(1/492)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ييأسون ويتحيرون.
والإبلاس: الحزن والانكسار. وقيل: هو انقطاع الحجة(1/492)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{شُرَكَآئِهِمْ} آلهتهم اللاتي أشركوا بعبادتها مع الله تعالى؛ وهي الأصنام(1/492)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{يَتَفَرَّقُونَ} المؤمن في الجنة، والكافر في النار(1/492)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{يُحْبَرُونَ} يتهللون فرحاً وسروراً(1/492)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{وَعَشِيّاً} وقت العشاء {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وقت الظهر. والمراد: ليلاً ونهاراً(1/493)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} يخرج الدجاجة - وهي حية - من البيضة - وهي ميتة - ويخرج الإنسان - وهو حي - من المني - وهو ميت في ظاهره - {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} يخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج المني من الإنسان والحيوان.
وقد ورد في الحديث الشريف: «يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن» وذلك لأن الإيمان: هو الحياة الحقيقية التي يعتد بها وقد شبه الله تعالى الكفار بالموتى في غير موضع من كتابه الكريم (انظر آية 27 من سورة آل عمران) {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ينبتها بعد جدبها {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي وكما يخرج النبات من الأرض - بعد جدبها - بقدرة الله تعالى: تبعثون من القبور - بعد موتكم - بإرادته تعالى(1/493)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} علامات قدرته وربوبيته {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي خلق أباكم وأصلكم: آدم عليه السلام {تَنتَشِرُونَ} في الأرض، وتتصرفون فيما فيه معاشكم ومنفعتكم(1/493)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ} لتطمئنوا {إِلَيْهَا} وترتاحوا {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي جعل بينكم التواد والتراحم؛ بسبب الزواج وقيل: «مودة» بالشابة «ورحمة» بالعجوز. ولا يخفى ما بثه الله تعالى بين الأزواج: من الشفقة والحنان؛ وما أوجبه على كلا الزوجين من المودة، والتفاني في الإخلاص والمحبة وهذا لا يتنافى مع ما يحدث من الشقاق بين الطبقة الدنيا، وذوي النفوس الوضيعة، مما ينشأ من ضعف الأخلاق، وفساد البيئة، ونقص التربية. وكثيراً ما يكون ذلك سبباً في هدم بعض النواميس الطبيعية: فقد يقتل الابن أمه - وهو أحب الناس لديها - والأب ابنه - وهو قرة عينه في الحياة - وما سبب ذلك إلا فساد الطبائع، والانصراف عن الدين الحنيف: الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر والآية الكريمة تشير إلى أن الواجب على الزوجين: أن تسود بينهما المودة والحنان، والرحمة والإحسان كيف لا وهما شركاء البأساء والنعماء، والضراء والسراء(1/493)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} تعالى أيضاً {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما، ومن فيهما {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ} لغاتكم {وَأَلْوَانِكُمْ} فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أحمر، وهذا أصفر؛ بغير تفريق بين كل منهم في القدر والفضل؛ اللهم إلا بالعلم والتقوى: فالعالم الأسود المتقي ربه: خير من الجاهل الأبيض المفرط في حقوق مولاه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ومن عجب أن كثيراً من الأمم الغربية - التي تتزعم المدنية الزائفة - اتخذت التفريق العنصري ديدناً وشعاراً: فهم يقتلون الملونين بأوهى الأسباب؛ بل بلا سبب أصلاً؛ ولا يثأرون لهم ممن يعتدي عليهم من أبناء جلدتهم. وقد فاتهم
[ص:494] أن جميع الكائنات البشرية إخوة، وأن وراء هذه الألوان المتعددة روحاً واحدة لا لون لها؛ وأن إلهاً واحداً هو الذي خلقهم جميعاً، وأودع في كل منهم سره ونوره؛ وأرخى على روح كل واحد منهم ستاراً كثيفاً: هو الجسد؛ وهذا الستار يكون في صقع أبيض، وفي آخر أسود؛ وفي صقع أحمر، وفي آخر أصفر.
ومن آياته تعالى البينات: اختلاف اللغات؛ وقد بلغ عددها في بعض الأصقاع عشرات المئات. وقد قام كثير من الباحثين بحصر اللغات العالمية وإحصائها؛ فزاد ما أحصوه على الثلاثة آلاف، ولم يبلغوا بعد غايتها ونهايتها.
وتستوي اللغات جميعها في وحدة المقصد: وهو الإبانة. ولا فضل لإحداها على الأخرى إلا بالسهولة، ويسر التناول. وقد شرف الله تعالى اللغة العربية بنزول القرآن بها؛ وذلك بسبب حاجة الأمة العربية للهداية؛ ولا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من رجحان العقل أو نقصانه - أن يزعم أن اللغة العربية - التي نزل بها القرآن - هي اللغة التي يتخاطب بها ملائكة الرحمن في سمواته، وأنها لغة الله تعالى التي لا يصدر أوامره إلا بها. ألم ينزل بها كتابه؛ وهو كلامه العزيز، وقرآنه الكريم؟
والواقع أن اللغات جميعها - عربيها وعجميها - مخلوقةلله تعالى، وهي إحدى آياته البينات {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}.
وليس من فضل للغة من اللغات على صاحبها: سوى الإبانة التي لم تخلق اللغة إلا لتكون أداة لها.
وكما أوحى ربك إلى الإنسان؛ أوحى أيضاً إلى الحيوان {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ونتيجة الوحي في الحالتين: هي وصول العلم بالموحي به إلى الموحى إليه - مع اختلاف الوسائل - وكذلك كان وحيه تعالى إلى كثير من خلقه {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} فلم يقل إنسان: أنه تعالى أوحى إليها عن طريق جبريل عليه السلام؛ وإنما كان عن طريق الكشف عما يجب أن يتبع، أو عما فيه الصالح العام للمجتمع الإنساني.
ومن ذا الذي يستطيع أن يجحد أن ما نراه من صنوف المخترعات، وشتى الفنون؛ إنما كان عن طريق الوحي، والتوجيه، والتعليم الإلهي {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
وإلا فأين جهد العقل الإنساني من الكهرباء؛ وهو لم يعلم - حتى الآن - كنهها، ولم يكشف سرها؟ وأين جهد العقل البشري من الرادار، والتليفزيون، والذرة، وما شاكل ذلك؟
إن الإنسان يتوهم أن جميع ذلك كان وليد الصدفة المحضة؛ ولكن هذه الصدفة التي يزعمونها؛
[ص:495] إن هي إلا وحي خالص من لدن حكيم عليم (انظر آية 5 من سورة العلق).
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد(1/493)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} منقادون(1/495)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي إن إعادة الخلق: أهون عليه من بدئه(1/495)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عبيدكم {مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى؟ فإذا لم يكن ذلك كذلك؛ فكيف ترضونلله شريكاً: هو في الأصل مخلوق، ومملوكلله؟ {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي أنتم وعبيدكم سواء في الرزق؛ ومع ذلك لا ترضونهم شركاء فيه؛ ورضيتملله شركاء في خلقه وملكه، من عبيده وصنع يده {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أن تخافون أن يرثكم عبيدكم وإماؤكم؛ كخيفة أن يرث بعضكم بعضاً. فإذا كنتم تخافونهم على أموالكم - وأنتم وهم فيها سواء - فكيف ترضون أن يشرك الله تعالى في ملكه: ما تصنعونه بأيديكم؛ وأنتم صنع يده، وفقراء رحمته؟(1/495)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ} أي أقبل عليه باهتمام {حَنِيفاً} مسلماً، مائلاً إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} خلقته ودينه {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أعدهم لقبولها، وأهلهم لفهمها وألزمهم بها؛ بما أودعه فيهم من عقل وتمييز {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم، الواضح، المعقول، المقبول؛ الذي تستسيغه وتقبله الفطر السليمة(1/495)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه: مؤتمرين بأوامره، منتهين عن نواهيه(1/495)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً {كُلُّ حِزْبٍ} كل فرقة، وجماعة {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الآراء الباطلة، والعقائد الفاسدة {فَرِحُونَ} مسرورون؛ لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث وراء الحقائق، والسعي إلى معرفة الخير الموصل إلى رضا الرحمن ورحيب الجنان(1/495)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} شدة، وفقر، ومرض {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إلى طاعته {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً}
سعة، ورخاء، وصحة {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يشركون غيره معه في العبادة: يخلقهم فيعبدون غيره، ويرزقهم فيشكرون سواه وللشرك مظاهر شتى لا حصر لها فليس مقصوراً على عبادة غير الله فحسب: فلو انتصر محارب على عدوه، وظن أن نصرته من قوته: فقد أشرك بمن أعانه وأخذ بناصره. ولو أثرى تاجر، وظن أن ذلك بفطنته: فقد أشرك برازقه. وإذا برع صانع في صنعته، وظن أن ذلك بحذقه ومهارته: فقد أشرك بمعلمه وموفقه فاحذر - هداك الله - الشرك الخفي؛ فقد أهلك من كان قبلكم قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ومن قبل قال قارون {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}(1/495)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} من الخيرات والبركات: فمن مال وفير، ورزق كثير؛ إلى سرور -
[ص:496] وحبور، وصحة وقوة، وبنين وبنات {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم، وعدم شكركم(1/495)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} حجة؛ وكتاباً {فَهُوَ} أي الكتاب {يَتَكَلَّمُ} كلام دلالة؛ لا كلام نطق {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} أي بصحة شركهم(1/496)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} شدة وضيق {} بسبب ما قدمت {أَيْدِيهِمْ} من ذنوب وآثام {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ييأسون من رحمة الله تعالى ومعونته ويضيق(1/496)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} البسط والتضييق {لآيَاتٍ} لعبر، وعظات، ودلالات؛ تدل على وجود الخالق الرازق؛ الذي {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبغير سبب ظاهر، ويضيق على من يشاء بغير سبب؛ ومع توافر أسباب الرزق والسعة. فهو تعالى وحده يختص من يريد بما يريد {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فإذا كنت يا من هداكالله؛ ترغب في فضل الله(1/496)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو المسافر المنقطع. وقد عرفنا الله تعالى بذلك: أن لذي القربى، والمسكين، وابن السبيل حقوقاً ثابتة في أموالنا؛ يجب بذلها لهم، وأداؤها إليهم. وأن هذه الحقوق ليست تفضلاً منا عليهم؛ بل هي فرض واجب الأداء والوفاء، وأوامر واجبة النفاذ؛ أصدرها من يملك الخلق والرزق، والثواب والعقاب(1/496)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم أحداً {مِّن رِّباً} أي من شيء تطلبون زيادته؛ كأن تهبوا هبة أو تهدوا هدية؛ لا بقصد الهبة، ولا بقصد الإهداء؛ بل بقصد الزيادة والتفاخر، والتكاثر {لِّيَرْبُوَ} ليزيد {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} فيردونه إليكم مضاعفاً؛ فإن هذا العمل إذا جاز أن يربو عند الناس {فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} لأنه لم يقصد به وجهه الكريم فليس لكم عليه من أجر، ولا ثواب. وهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} {وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم وأنفقتم {مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ} بها {وَجْهَ اللَّهِ} مرضاته وثوابه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} الذين يضاعفون ثواب حسناتهم؛ فيرضيهم ربهم ويرضى عنهم(1/496)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} الذين تعبدونهم {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} أي هل من شركائكم من يستطيع أن يبسط الرزق لأحد، أو أن يقدره على أحد؟ أو أن يكشف الضر عن أحد، أو أن يلحقه بأحد؟ أو أن يخلق، أو يرزق؟ أو أن يحيي أو يميت؟(1/496)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ} المراد بظهور الفساد: ظهور المعاصي؛ وظهوره: ظهور آثاره وعواقبه {فِي الْبَرِّ} بالجدب، ونقص الثمرات، وذهاب البركة {وَالْبَحْرِ} بقلة ماء المطر، المستمد منه، أو بقلة الأسماك التي تصاد منه، أو بكثرة طغيانه بالفيضان والإغراق {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} من المعاصي {لِيُذِيقَهُمْ} ربهم {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ} أي جزاءه {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن معاصيهم؛ فتعود إليهم أرزاقهم، وتتوافر خيراتهم ومكاسبهم، ويرضى عنهم ربهم(1/496)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} اقصد واتجه بكليتك {لِلدِّينَ الْقِيِّمِ} الإسلام؛ فذلك وحده سبب كل خير ويسر {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} لا دافع له، ولا مانع {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}(1/497)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون لأنفسهم مقر راحتهم في الدنيا، ونعيمهم الدائم في الآخرة(1/497)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} بالمطر؛ الذي هو سبب الإنبات والرزق {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} خصبه وسعته {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} السفن {بِأَمْرِهِ} بإرادته، ومعونته، وحفظه {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} تطلبوا الرزق بالتجارة والكسب؛ عن طريق الأسفار، في البحار(1/497)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات الظاهرات(1/497)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قطعاً {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من خلال السحاب؛ وهو وسطه {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر(1/497)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{لَمُبْلِسِينَ} آيسين(1/497)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} بعباده، وشفقته بخليقته {كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ} بالماء، والنبات، والأقوات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} جدبها ويبسها {إِنَّ ذَلِكَ} الإله؛ المرسل الرياح، المثير السحاب، المنزل الماء على من يشاء، المحيي به الأرض بعد موتها «إن ذلك» القوي القادر {لَمُحْييِ الْمَوْتَى} من قبورها، وباعثها من أجداثها، ومحاسبها على أعمالها(1/497)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} أي الريح، أو الزرع، أو السحاب. وذلك لأن اصفرار السحاب: يدل على عدم وجود الماء فيه، واصفرار الريح: على أنها لا تلقح السحاب، واصفرار الزرع: على يبسه وعدم نمائه {لَّظَلُّواْ} لمكثوا {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد الاصفرار، ويأسهم من الإمطار {يَكْفُرُونَ} يجحدون أنعم الله تعالى السابقة عليهم، ورحمته الواصلة إليهم(1/497)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} أي لا تستطيع إسماع موتى القلوب، ولا صم العقول. وشبههم تعالى بالموتى والصم؛ لأن حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع(1/497)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} أي من شيء ضعيف؛ لا قوة له: وهو المني. أو أريد به الطفولة؛ وهي مكمن الضعف {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ} وهو سن الشباب والفتوة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} وهو الهرم والشيخوخة(1/498)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} الكافرون؛ أنهم {مَا لَبِثُواْ} مكثوا في الدنيا، أو في القبور {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} أي «كذلك» كما صرفوا عن حقيقة لبثهم في الدنيا أو في القبور؛ كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا(1/498)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} الملائكة {وَالإِيمَانَ} وهم الأنبياء {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي فيما كتبه الله تعالى في سابق علمه وتقديره(1/498)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} الكفار {مَعْذِرَتُهُمْ} اعتذارهم عما سلف منهم في الدنيا {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يعاتبون؛ لأن العتاب، لا يكون إلا بين الأحباب. والاستعتاب أيضاً: الاسترضاء(1/498)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} معجزة مما يقترحون؛ كالعصا، واليد، والناقة، والمائدة، وأشباه ذلك {لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم الذين يقترحون الآيات والمعجزات؛ كقولهم {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ} {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ} فإذا جاءهم رسولهم بآية قالوا {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} كاذبون، ساحرون(1/498)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
{كَذَلِكَ} كما طبع الله تعالى على قلوب هؤلاء حتى أدخلوا النار بأعمالهم {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} أي الذين لا يلقون بالهم لأدلة التوحيد، وبراهين الربوبية(1/498)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فَاصْبِرْ} على أذاهم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرك وخذلانهم {حَقٌّ} لا مراء فيه {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يحملنك على الخفة، والقلق، والجزع: قولهم لكم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}.(1/498)
سورة لقمان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/499)
الم (1)
{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة).(1/499)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُوْلَئِكَ} المقيمون الصلاة، المؤتون الزكاة، الموقنون بلقاء الله {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} فتحوا آذانهم لكلامه؛ فحفهم بإنعامه، وأطاعوا رسله؛ فهداهم سبله؛ {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون في الآخرة بالنعيم الأكبر، والخير الأوفر(1/499)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي ما يلهي من الحديث {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} طريق الإسلام(1/499)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} صمماً(1/499)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{رَوَاسِيَ} جبالاً شوامخ {أَن تَمِيدَ} لئلا تميل الأرض {بِكُمْ} وتضطرب {وَبَثَّ} فرق ونشر {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف {كَرِيمٍ} حسن، عظيم، بهيج(1/500)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} خلق الجنان ومن أهَّلهم لسكناها، والجحيم ومن أعدهم للظاها، وخلق السموات وما فيها ومن فيها، والأرض وما فوقها وما تحتها، والجبال لتقيها وتحفظها، والإنسان، والدواب لتسكنها وتنعم بخيراتها وبركاتها، وأنزل من السماء ماءاً ليصلحها ويخصبها، وأمتع من فيها؛ امتحاناً لهم، واختباراً لإيمانهم «هذا» جميعه «خلقالله» {فَأَرُونِي} أيها المكذبون الضالون {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ} تعبدونهم {مِن دُونِهِ} غيره تعالى {بَلِ الظَّالِمُونَ} الكافرون الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب(1/500)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} وهي العلم، والإصابة في الرأي، وتحري الحق، و «لقمان» قيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه من أولاد آزر. وقيل: إنه عاش ألف سنة: وأدركه نبي الله داود، وأخذ عنه العلم. وقد كان يقضي ويفتي قبل مبعثه؛ فلما بعث قطع القضاء والفتيا؛ فسئل في ذلك. فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال بعضهم بنبوته. والجمهور على أنه كان حكيماً ولياً، ولم يكن نبياً؛ ولقد أحب لقمان ربه فأحبه؛ وآتاه «الحكمة» وعلمه ما لم يكن يعلم {أَنِ اشْكُرْ للَّهِ} وشكر الله تعالى: أساس الإيمان، ورأس الحكمة {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن ثواب شكره عائد عليها {وَمَن كَفَرَ} فلم يشكر أنعم الله تعالى عليه {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن عبادته، وعن شكره {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} {حَمِيدٌ} محمود في صنعه، مستوجب الحمد والشكر؛ فما من نعمة إلا هو - جل شأنه - مسديها. وما من خير إلا هو - عز سلطانه - باعثه. وما من مخلوق إلا تحوطه من الله تعالى أنعم لا يدرك مداها، ولا تعلم خوافيها:
فكم لله من لطف خفي
يدق خفاه عن فهم الذكي
وقد أبان الله تعالى لنا حكمة لقمان، وأن جماعها شكر العزيز المنان: «أن أشكرلله» وأن أفحش الظلم وأعظمه: الشرك ب الله(1/500)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{يبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأن خير ما يرضيه تعالى: طاعة الوالدين وبرهما، والحدب عليهما، وشكرهما {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}(1/500)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} والوصية: أرقى مرتبة من الأمر؛ ألا ترى إلى قول الرحيم الرحمن - بعد أن أمر ونهى في محكم القرآن - {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (انظر آيتي 15صلى الله عليه وسلّم وصلى الله عليه وسلّم52 من سورة الأنعام} {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} أي ضعفاً على ضعف {وَفِصَالُهُ} فطامه {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} الشكر لله تعالى
[ص:501] على أنعمه؛ وأجلها وأفضلها: نعمة الإيمان {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} والشكر للوالدين: على حبهما، وتضحيتهما، وتربيتهما، ونصحهما وقد قرن تعالى شكر الوالدين بشكره: ليشعرنا بمزيد الاهتمام لهما، والعناية بهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء)(1/500)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وَإِن جَاهَدَاكَ} قاتلاك {عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي على أن تعبد ما يعبدان من آلهة لا أصل لها ولا حقيقة لأمرها {فَلاَ تُطِعْهُمَا} على الشرك. وهو الأمر الوحيد الذي يستوجب عصيانهما ومخالفتهما؛ ولكنه لا يستوجب نبذهما، أو محاربتهما؛ كسائر الكفار والمشركين؛ فقد قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أي بالمعروف الواجب لهما: من بر، وصلة، ومعونة. وقد أفتى الأكثرون على وجوب معاونتهما في الذهاب إلى الكنيسة متى طلبا ذلك {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} رجع {إِلَى}
في دينه، وأمره، واستعانته، وتوكله {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من عمل؛ فأجازيكم عليه: ثواباً، أو عقاباً(1/501)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يبُنَيَّ إِنَّهَآ} أي الخصلة السيئة، والفعلة الذميمة {إِن تَكُ مِثْقَالَ} وزن {حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} التمثيل بحبة الخردل: مبالغة في الصغر؛ لأن حبة الخردل؛ من أصغر الحبوب {فَتَكُنْ} هذه الحبة من الخردل مستكنة {فِي صَخْرَةٍ} فلا ترى لذي عينين {أَوْ} تكن ضائعة {فِي السَّمَاوَاتِ} على سعتها {أَوْ فِي الأَرْضِ} على رحبها؛ فإنها لا تخفى على ربها؛ بل {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} الذي {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} بعباده {خَبِيرٌ} بأحوالهم(1/501)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{يبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ} في أوقاتها.
والصلاة لله تعالى: فرضت في سائر الشرائع المتقدمة؛ مع اختلاف بسيط في طرق أدائها؛ مع اتحادها جميعاً في الخضوع له تعالى، والالتجاء إليه، والإقرار بوحدانيته {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} وهو كل ما يقره الشرع ويرتضيه، ويأمر به {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهو كل ما ينكره الشرع، وتأباه المروءَة، وتنبو عنه الأذواق السليمة {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} أي ما يصيبك في هذه الحياة من شدائد وبلايا، وما تلقاه من أذى عند الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يصيبك عند كبح الجماح، عن غير المباح {إِنَّ ذَلِكَ} الصبر {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي معزوماتها؛ التي يجب التمسك بها. أو «إن ذلك» الذي وصيتك به جميعاً: من إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المكاره(1/501)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تعرض عنهم تكبراً. والصعر - بفتح العين - ميل الوجه(1/501)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} القصد: التوسط. أي لا تسرع في المشي؛ فيذهب بهاؤك، ولا تتباطأ؛ فتبدو خيلاؤك {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ}
[ص:502] أتمها ووسعها(1/501)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} الظاهرة: حسن الخلق واستواء الأعضاء. والباطنة: حسن الخلق، والذكاء، والعلم، والمعرفة. أو الظاهرة لك: كالغنى، والعافية، والإيمان. والباطنة عنك: كالإنجاء من المكاره، ودفع الأرزاء والأسواء؛ من حيث لا تدري ولا تحتسب. ونعم الله تعالى الخفية: أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى فلو علمت أيها الإنسان، أن الحنان المنان: يسلك من بين يديك ومن خلفك من يكلؤك بإرادته، ويحفظك بمشيئته؛ لما وسعك إلا التمسك بطاعته، والتزلف إليه واذكر قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وقوله العزيز الجليل: «ف الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين»(1/502)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي يقبل على طاعته، وينقاد لأوامره {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله بالحبل المتين الوثيق؛ الذي لا انقطاع له؛ وهو دين الله المستقيم: الذي من تمسك به فاز ونجا، ونال الدرجات العلا(1/502)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} هؤلاء الكفار {فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} ونجزيهم عليه: جحيماً، وعذاباً أليماً {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنوناتها(1/502)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} في الدنيا؛ لأن زمنها قصير وإن طال {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} قاس، شديد(1/502)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه {الْحَمِيدُ} مستوجب الحمد: المحمود في صنعه(1/502)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن سائر شجر الأرض؛ تحولت فروعه وأغصانه إلى أقلام يكتب بها {وَالْبَحْرُ} الذي لا يحد حده، ولا يبلغ أمده {يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} تماثله في العمق، والسعة، والعظم؛ وصارت مياه هذه البحار مجتمعة مداداً؛ تستمد منه هذه الأقلام، وتكتب كلمات الله تعالى: لنفدت هذه الأبحر، ونضب ماؤها؛ و {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} وليس المراد بالكلمات في هذا المقام: الكلام المكون بالنطق، المؤلف بالحروف؛ وإنما أريد بها نتائجها؛ وهي النعم الجزيلة، والمنن العظيمة، والصفات الباهرة، والآيات الظاهرة؛ فإن كلا من هذه لو وقف عليه إنسان صافي الذهن، صحيح الفكرة، طلق اللسان، واضح البيان؛ لما وسعته أشجار الأرض أقلاماً، وبحورها مداداً ولو تضاعفت هذه الأشجار، وتلكم البحار؛ أضعافاً مضاعفة (انظر آية 109 من سورة الكهف) {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في ملكه؛ غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} لا يخرج شيء عن علمه وحكمته(1/502)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} أي يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل؛ وذلك بزيادة الليل شتاءاً ونقصه صيفاً
[ص:503] {كُلُّ} من الشمس والقمر {يَجْرِي} في فلكه بأمر ربه تعالى {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء الدنيا، وقيام الساعة(1/502)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ذَلِكَ} النظام الدقيق المحكم {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ} الإله {الْحَقُّ} القادر؛ واجب الوجود، والموجد لكل موجود {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} ما يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {الْبَاطِلُ} الزائل؛ الذي لا أصل له، ولا برهان عليه {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} المتعالي عن صفات المخلوقين؛ بالبقاء، والقدرة؛ المتعالي عليهم بالغلبة والقهر {الْكَبِيرُ} العظيم؛ الذي لا يماثله شيء(1/503)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} بالأرزاق والتجارات {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته؛ من حمل الماء للفلك، والحفظ من مهالك البحر، والهداية إلى مسالكه، والتوفيق إلى أسباب الكسب؛ فقد يقوم تاجران - في وقت واحد - بتجارة متجانسة؛ فيعود أحدهما بالمال الكثير، والربح الوفير، ويعود الآخر بالخسارة والحرمان. وقد يربح الغبي، ويخسر الذكي {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر {شَكُورٍ} كثير الشكر(1/503)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} غطاهم {مَّوْجٌ} شديد {كَالظُّلَلِ} الظلل: جمع ظلة؛ وهي كل ما أظلك من جبل، أو سحاب {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي متوجهين بقلوبهم إليه مؤمنين حق الإيمان به {فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي باق على الإيمان، أو هو بين بين: بين الكفر والإيمان، وقيل: مظهر للإيمان، مبطن للكفر؛ والأول أولى. والمعنى: فمنهم باق على إيمانه وإخلاصه الذي بدا منه وقت شدته، ومنهم من رجع إلى أصله، وعاد إلى كفره {خَتَّارٍ} غدار {كَفُورٍ} شديد الكفر(1/503)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{وَاخْشَوْاْ يَوْماً} هو يوم القيامة {لاَّ يَجْزِي} لا يغني {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} أي لا يتحمل والد العقوبة عن ولده، ولا مولود العقوبة عن والده؛ بل يجزي كل منهما بما فعل واكتسب
{كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} وذكر تعالى الوالد والولد: لأن الوالد محط الحب والفداء، والمولود محط الرحمة والرجاء؛ فإذا كانا لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً؛ فبالنسبة للأباعد يعز الغناء {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث والجزاء {حَقٌّ} ليس فيه مراء {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان(1/503)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} كيف تقوم، ومتى تقوم؟ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر؛ وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفقر؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} من الأجنة: ذكراً أو أنثى؟ حياً أو ميتاً؟ شقياً أو سعيداً؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خير أو شر {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فقد يسافر مسافر إلى الصين بلا سبب: فتعاجله المنية وقد يحين حينه وهو في ذروة قوته، ووافر صحته وقد يسافر ليبرأ من علته: فيأتيه الموت لساعته
[ص:504] وهذه الأمور الخمسة اختص بمعرفتها العليم الخبير وقد يقال: إن علماء الفلك، والأرصاد الجوية؛ قد أصبحوا - بواسطة علمهم وآلاتهم - يعلمون متى تهب الرياح؟ ومتى تنزل الأمطار؟ وهو قول لا يعتد به، ولا يلتفت إليه؛ فكم من مرة وعدوا بالخصب: فحل الجذب، وأوعدوا بالبلاء: فعم الرخاء. وكم من مرة حذروا من البرد: فجاء الحر، ومن الحر: فجاء القر وقولهم لا يعدو التخمين والظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أما اليقين: فلا يعلمه سوى رب العالمين.(1/503)
سورة السجدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/504)
الم (1)
{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/504)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{لاَ رَيْبَ} لا شك(1/504)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق محمد هذا القرآن {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} وهم قريش خاصة، أو العرب كافة. وبذلك تكون من أهل الفترة؛ قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقد كانوا مكلفين باتباع إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام؛ وذلك مصداق قوله جل شأنه {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} لكنهم تحولوا إلى عبادة الأصنام؛ التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى(1/504)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به تعالى، وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود(1/504)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ} مدة بقاء الدنيا. وتدبير الأمر: أمره تعالى بما يصلح البلاد والعباد: من نزول أمطار، ونمو أشجار، وازدهار أثمار، وجريان أنهار، وإماتة أحياء، وإحياء أموات. فتعالى الخالق المصور، الرازق المدبر {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يصعد إليه ذلك الأمر، ونتائجه ليفصل فيه: لقد أمر تعالى بنعمة لبعض عباده؛ هل شكروها، أم كفروها؟ وأمر لبعض عباده ببلاء؛ هل صبروا على بلواهم. أم قنطوا من رحمة مولاهم؟ ووسع على بعض عباده في الرزق؛ هل أعطوا منه الفقير، أم بخلوا وعندهم الكثير؟ وضيق على بعضهم؛ فهل لجأوا له بالطلب، وجأروا إليه بالدعاء، أم يئسوا من روحالله؛ ولا {يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ} فتصعد إليه تعالى أوامره وما تم فيها - وهو جل شأنه أعلم بها من فاعلها وحاملها - وذلك {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهو يوم القيامة {ذلِكَ} الإله القادر القاهر، رب الأرباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وخالق السموات والأرضين؛ وما بينهما من حيوان وطير وجماد وآدميين، وغيرهم من المخلوقين «ذلك» هو مدبر الأمر(1/504)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} رب العالمين(1/505)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي أحسن خلق كل شيء خلقه. فلو تصورت مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل، أو للجمل مثل رأس الأسد، أو للإنسان مثل رأس الحمار: لوجدت في ذلك خللاً عظيماً، ونقصاً كبيراً؛ وعدم تناسب في الخلقة، وانعدام الانسجام بين الأعضاء مع حاجة المخلوق إليها على حالتها؛ بالنسبة لبيئته ورغبته؛ لأنك لو علمت أن طول عنق الجمل وشق شفته: سببه حاجة الناس إليه في الأسفار الطويلة، وحاجته هو إلى تناول الكلإ أثناء سيره. وأن الفيل لولا خرطومه الطويل: لما استطاع أن يبرك بجسمه الثقيل ليتناول طعامه وشرابه. وهكذا سائر المخلوقات من شتى الصور والأجناس؛ حتى الجمادات فقد اختصها الله تعالى بأشكال جذابة يسرح البصر في محاسنها، وألوان خلابة يتوه الفكر في مفاتنها فإنك لو تأملت ذلك، وتدبرت ما هنالك: لتيقنت أنه ليس في مقدور البشر، وأنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ} وهو آدم عليه السلام(1/505)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ} خلاصة؛ وهي المني. و «السلالة»: ما انسل من الشيء؛ سمي به المني: لأنه ينسل من سائر البدن، أو هو ينسل من النخاع {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ضعيف: لا قوة فيه، ولا أثر له بنفسه: وهو النطفة(1/505)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ثُمَّ سَوَّاهُ} جعله مستوي الأعضاء، تام الخلقة، جميل الصورة {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} المملوكة له تعالى؛ والتي لا يستطيع مخلوق أن يهبها {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} الذي به تسمعون، وعنه تسألون {وَالأَبْصَارَ} التي بها تبصرون، وعنها تحاسبون {وَالأَفْئِدَةَ} التي بها تعقلون، وبواسطتها تهتدون. وكل هؤلاء جعلها الله تعالى أداة لتلقي الإيمان، وقبول الهداية؛ والإنسان عن جميعها مؤاخذ مسؤول ألا ترى إلى قول العزيز الجليل «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً»(1/505)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أي إذا متنا وصرنا حطاماً ورفاتاً، واختلطنا بتراب الأرض، وضاعت معالم أجسامنا {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي نخلق خلقاً جديداً بعد هذا؟(1/505)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{قُلْ} لهم يا محمد: نعم {يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي كلف بقبض أرواحكم {ثُمَّ} تبعثون، و {إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فيعاقبكم بذنوبكم، ويعذبكم على كفركم(1/505)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} الكافرون، المنكرون للبعث: حين يبعثون {نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ} مطأطئوها من الذل والخزي والهوان؛ ويقولون {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} بأعيننا البعث الذي كنا به نكذب {وَسَمِعْنَا} الحق الذي كنا له ننكر {فَارْجِعْنَا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صَالِحاً} كما أمرت {إِنَّا} الآن، بعد ظهور
[ص:506] البرهان {مُوقِنُونَ} بصحة ألوهيتك، وصدق رسلك(1/505)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ} من هذه الأنفس {هُدَاهَا} في دنياها؛ على سبيل القسر والإلجاء. أو {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ} تطلب الرجعة إلى الدنيا «هداها» ورددناها إلى الدنيا {وَلَكِنْ حَقَّ} وجب {الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} كفرة الجن وعصاتهم {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الذين كفروا بي؛ بعد ظهور آياتي، وكذبوا رسلي؛ بعد إبداء معجزاتهم، وتوالى براهين صدقهم فكيف نردهم {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(1/506)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{فَذُوقُواْ} العذاب {بِمَا نَسِيتُمْ} بسبب نسيانكم {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ} وإنكاركم للبعث والحساب، والثواب والعقاب {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}
أي تركناكم كالمنسيين {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} الدائم؛ الذي لا انقطاع له(1/506)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} ويصدق برسالاتنا {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا} أي تليت عليهم {خَرُّواْ سُجَّداً} لله {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن طاعته، وعن عبادته(1/506)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{تَتَجَافَى} تتنحى وتتباعد {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي أن نومهم قليل، وسهرهم طويل؛ لانقطاعهم إلى الله تعالى، وحرصهم على عبادته {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} من غضبه وعقوبته {وَطَمَعاً} في رحمته وجنته(1/506)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} كافراً(1/506)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} التي يأوي إليها كل مؤمن {نُزُلاً} النزل: ما يعد لنزول الضيف وتكرمته(1/506)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ} كفروا وكذبوا(1/506)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} أي الأقرب؛ وهو عذاب الدنيا: بالقتل، والأسر، والخزي {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} أي قبل عذاب الآخرة، أو أقل من عذابها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى ربهم، ويتوبون عن كفرهم(1/506)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} وعظ بها(1/506)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ} شك {مِّن لِّقَآئِهِ} أي من لقاء موسى؛ وقد لقيه ليلة الإسراء: عند العروج به إلى السماء. وقيل: «من لقائه» أي من تلقي موسى الكتاب. وقيل: من لقاء ما لقيه موسى من تكذيب وإيذاء؛ مثل ما لاقيت أنت من تكذيب قومك وإيذائهم(1/506)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} أي ممن آمن بموسى من بني إسرائيل {أَئِمَّةً يَهْدُونَ}
الناس {بِأَمْرِنَا} بأوامرنا وشرائعنا التي بيناها لهم في التوراة {لَمَّا صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي؛ وجعل الله تعالى جزاء الصبر: إمامة الناس(1/506)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أو لم يتبين لهم {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ويرون ما حل بها من خراب ودمار {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإهلاك {لآيَاتٍ} لعبراً ودلالات على قدرتنا، وبطشنا بمن يكفر بنا(1/507)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أيضاً {أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} اليابسة، التي لا نبات بها {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} بهائمهم {وَأَنفُسُهُمْ} أي ويأكلون هم من ذلك الزرع أيضاً(1/507)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أي متى هذا الفصل في الحكومة؛ الذي تعدنا به؟ وهو يوم القيامة. وقيل «الفتح» النصر الموعود: يوم بدر، أو يوم فتح مكة(1/507)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون، أو يؤجلون(1/507)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ} نزول العذاب الموعود بهم {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} بك الدوائر.(1/507)
سورة الأحزاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/507)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{ياأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} الخطاب للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته: إذ ليس في البشر جميعاً أتقى منه لمولاه عليه صلوات الله تعالى وتسليماته، أمدنا الله تعالى بنفحة منه؛ تقربنا إليه، وتدنينا من رحمته(1/507)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي لا يجتمع الكفر والإيمان، والضلال والهدى، والمعصية والطاعة؛ في قلب واحد. وما دام الإنسان بقلب واحد - لا يتسع إلا لشيء واحد - فلا يكون إلا مؤمناً أو كافراً، ضالاً أو مهتدياً، عاصياً أو طائعاً. ولا طاقة لإنسان أن يجمع بين الضدين؛ فما جعل الله لرجل من قلبين {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} كان الرجل في الجاهلية إذا أراد طلاق امرأته؛ قال لها: أنت علي كظهر أمي {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} نزلت في زيدبن حارثة رضي الله تعالى عنه؛ وقد تبناه الرسول؛ فكانوا يقولون: زيد ابن محمد {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} ويقضي به {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} الطريق القويم؛ المؤدي لكل خير(1/508)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ} أي انسبوهم لهم {هُوَ أَقْسَطُ} أعدل {وَمَوَالِيكُمْ} أقرباؤكم {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم(1/508)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النَّبِيُّ أَوْلَى} أحق {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} لأنه عليه الصلاة والسلام أب لهم؛ وهو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} في الحرمة والإجلال والتكرمة {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} ذووا القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التوريث؛ كما أمر الله تعالى، وفرض في كتابه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} وقد كانوا يتوارثون - في بدء الإسلام - بالإيمان والهجرة؛ فنسخ بتوريث ذوي الأرحام
{إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} أي إلا أن تهبوا لأقربائكم الأباعد، أو لعبيدكم، أو توصوا لهم بشيء؛ لا أن يرثوا فيكم؛ فأقرباؤكم - من ذوي الأرحام - أولى بالميراث وأحق(1/508)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ} عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضاً {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عهداً عظيماً؛ وما ذاك إلا(1/509)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{لِّيَسْأَلَ} الله تعالى {الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} أي ليسأل الأنبياء عن تبليغهم لأقوامهم، أو عما أجابهم به قومهم. فانظر يا هذا: إذا كان الأنبياء يسألون؛ فكيف بمن عداهم من عامة البشر؟ قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(1/509)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} وكان ذلك يوم الأحزاب: جاءت قريش، وغطفان، وقريظة، والنضير؛ تجمعوا لحرب المؤمنين {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} هي الصبا. قال: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» أرسل الله تعالى تلك الريح في ليلة شاتية؛ فأسفت التراب في وجوههم، وقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب؛ فماجت خيل الكافرين بعضها في بعض، وكبرت الملائكة في جوانب المعسكر؛ فانهزموا من غير قتال؛ وذلك قوله تعالى: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة عليهم الصلاة والسلام(1/509)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{إِذْ جَآءُوكُمْ} أي جنود الأعداء {مِّن فَوْقِكُمْ} فوق الوادي؛ وهو أعلاه {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} بطن الوادي: من المشرق والمغرب {وَإِذْ زَاغَتِ} شخصت ومالت {الأَبْصَرُ} عن رؤية أي شيء؛ عدا رؤية الأعداء من كل جانب {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} من شدة الخوف والفزع؛ وهو ارتفاع القلب - من شدة الخفقان - حتى يكاد أن يبلغ الحلقوم؛ فيعتري الخائف عند ذاك ضيق قد يبلغ حد الاختناق {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ} تظنون اليأس من النصر؛ وقد وعدكموه؛ ووعده الحق {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وقيل: الظن هنا بمعنى اليقين؛ أي تيقن المؤمنون بالنصر، وتيقن الكافرون بهزيمة المؤمنين(1/509)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} امتحنوا بالصبر على الإيمان {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} اضطربوا اضطراباً شديداً من شدة الفزع، وخوفوا خوفاً بليغاً؛ ليختبرهم ربهم، ويعلم - علم ظهور - مبلغ تصديقهم، ووثوقهم بوعده(1/509)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفران {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بالنصر {إِلاَّ غُرُوراً} خداعاً وباطلاً(1/509)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{يأَهْلَ يَثْرِبَ} يا أهل المدينة.
ويثرب: من أسماء مدينة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا إقامة لكم بيننا {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي مكشوفة، ينالها العدو لعدم تحصينها
[ص:510] {إِن يُرِيدُونَ} ما يريدون بزعمهم هذا {إِلاَّ فِرَاراً} من الجهاد؛ لكفرهم وجبنهم(1/509)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا} من نواحيها. أي لو هوجموا ودخلت عليهم هذه البيوت، واحتلها العدو من أولها إلى آخرها {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} أي لو سئلوا الردة إلى الكفر، ومحاربة المسلمين؛ لفعلوا {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ} أي ما مكثوا بالفتنة، أو بالمدينة {وَلاَ نَصِيراً} وبعد ذلك يصيبهم الله تعالى بالهلاك، أو بالموت(1/510)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} أن يقاتلوا الكفار، و {لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} لا يهربون من القتال منهزمين {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} الذي عاهدوه من قبل {مَّسْئُولاً} أي يسأل الإنسان عن الوفاء به، ويعاقب على نقضه(1/510)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ} بالحياة {إِلاَّ قَلِيلاً} ثم يدرككم الموت، فالبعث، فالحساب، فالعقاب(1/510)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره(1/510)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} الذين يعوقون الناس عن الجهاد، وعن نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن الدخول في الإسلام {وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ} أي القتال(1/510)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بالمعاونة {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ} تأزم الموقف، ودارت رحى الحرب {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أملاً في أن توقف القتال {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} من جبنهم وشدة خوفهم {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} بانتصاركم على أعدائكم، واطمأنت قلوبهم على أنفسهم: لم يزدهم ذلك إلا حنقاً عليكم، وكراهة لكم؛ و {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي آذوكم ببذيء الكلام {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} لا ينفقون في سبيلالله؛ بل في سبيل الدنيا والحرص عليها. والمعنى أنهم في الأمن: أشح قوم مالاً، وأبسطهم لساناً، وفي الخوف: أجبن قوم حرباً، وأسرعهم هرباً {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها(1/510)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} أي إنهم لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا {بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} أي مقيمون في البادية؛ بعيداً عن القتال {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ} وما حل بكم؛ من غير ممارسة للقتال والنزال(1/511)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{أُسْوَةٌ} قدوة(1/511)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ} الذين تحزبوا وتجمعوا لقتالهم {قَالُواْ} إن {هَذَا} التجمع والتحزب هو {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الابتلاء والنصر(1/511)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} أي مات شهيداً {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} أي ينتظر الموت على الشهادة؛ لأنهم كانوا يعدون الموت في الجهاد فوزاً عظيماً؛ ويا له من فوز {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي ولم يبدلوا عهدهم الذي عاهدوا الله تعالى عليه؛ من الجهاد في سبيله، والموت دون رسوله(1/511)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} في الإيمان، الموفين بالعهد {بِصِدْقِهِمْ} أي بجزاء صدقهم(1/511)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} أي عاونوا الأحزاب {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يهود بني قريظة {مِن صَيَاصِيهِمْ} حصونهم(1/512)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} هي خيبر؛ وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة؛ لم يسبق للمسلمين تملكها(1/512)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي السعادة في الدنيا، وكثرة الأموال {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} أي أعطكن متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طلاقاً لا ضرار فيه؛ لأن ما رغبتن فيه من متاع الدنيا ليس عندي(1/512)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} هي مخالفة الرسول صلوات الله تعالى وتسليماته عليه. وأي فاحشة أبين وأقبح من مخالفته، أو العمل على غير إرادته {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي يكون ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأنهن لسن كسائر النساء؛ وكما أن حد العبد نصف حد الحر: يكون عذاب الخاصة ضعف عذاب العامة. وقد قيل: حسنات الأبرار؛ سيئات المقربين فما بالك بأقرب المقربين ولأن إغضاب الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كإغضاب أحد من الناس. قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقال جل شأنه: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (أنظر الآيات: من 2 - 5 من سورة الحجرات)(1/512)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} يطع {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي لا تكلمن الرجال بقول خاضع لين؛ كعادة أكثر النساء؛ وهذا واجب على كل امرأة تؤمن ب الله واليوم الآخر؛ خصوصاً من تعرضت منهن للرئاسة والهداية، وانتصب لها لواء التوجيه والإرشاد(1/512)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي ريبة وفجور
[ص:513] {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} لا ينكره الذوق والعرف؛ من غير لين، ولا خضوع(1/512)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اقررن؛ من القرار. أو هو من الوقار؛ تؤيده قراءة من قرأ «وقرن» بكسر القاف {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أي لا تتبرجن مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى. والتبرج: التبختر، وإظهار الزينة والمحاسن {أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بهذا الابتلاء، وهذه الأوامر {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} القذر والإثم؛ الذي يقع فيه كثير من الناس {أَهْلَ الْبَيْتِ} بيت النبوة الزكي الطاهر {وَيُطَهِّرَكُمْ} من سائر الدنايا {تَطْهِيراً} كبيراً(1/513)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{وَاذْكُرْنَ} تذكرن ما اختصكن الله تعالى به من فضل على نساء العالمين، و {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} كتابه العظيم، وقرآنه الكريم {وَالْحِكْمَةِ} التي ينطق بها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ من الأحاديث(1/513)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{وَالْقَانِتِينَ} المطيعين {وَالصَّابِرِينَ} على الطاعات والبلايا، وعن المعاصي {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} من الزنا
[ص:514] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام؛ وهو زيدبن حارثة {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإعتاق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} لقد تخبط أكثر المفسرين في تأويل هذه الآية، وذهبوا على غير مذهب، وأبعدوا في اتباع الأقاصيص التي حاكها أعداء الدين في الدين، وجاروا ما أذاعه اليهود طعناً في الرسول الكريم، العفيف النظيف؛ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقالوا: إن الرسول الأعظم رأى زينب - وهي في عصمة زيد - فأعجبته وأحبها، ووقعت من قلبه موقعاً كبيراً؛ إلى آخر ما أوردوه من إفك وبهتان يتبرأ منه أحط الفساق؛ فضلاً عن أكرم الخلق على الإطلاق
وخلاصة القول: أن العرب جرت عادتهم ألا يتزوج الرجل امرأة دعيه الذي تبناه. فأراد الله تعالى أن يبطل تلك العادة، ويجعل إباحة الإسلام مكان حرج الجاهلية: فأوحى إلى نبيه بأن يزوج زينب ابنة جحش - بنت عمته - بزيدبن حارثة متبناه؛ وأن يتزوجها بعد طلاقها منه؛ فخطبها لزيد: فأبت، وأبى أخوها عبد الله؛ فنزل قوله تعالى:(1/513)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فلما سمعاها قالا: رضينا يا رسولالله. فزوجها لزيد، وأمهرها له؛ فصارت تشمخ بأنفها، وتفخر عليه بنسبها. وتسيء معاملته؛ وكان يشكو ذلك لرسولالله - المرة بعد المرة - فكان عليه الصلاة والسلام - مع علو مقامه - يغلبه الحياء؛ فيتئد ويتمهل، ولا يعمل في تنفيذ حكم الله تعالى - الذي قضاه وأطلعه عليه - ويقول لزيد(1/514)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} إلى أن غلب أمر الله تعالى: فأذن لزيد في طلاقها؛ بعد أن ذاق معها الأمرين فتزوجها رسولالله؛ طائعاً لأمر ربه {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أي دخلوا بهن، وخلا بعضهم إلى بعض. فأين هذا مما خاض فيه الخائضون، وداعاه المبطلون؛ مما لا يرتضيه الأتقياء، فكيف بسيد الأنبياء؟ وتعالى الله عن أن يرسل رسولاً يطمح بعينيه إلى حلائل المؤمنين وأما خشيته للناس: فذلك استحياء منهم أن يقولوا: تزوج زوجة ابنه، بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي أمره لك، ووحيه إليك بتزوج زينب؛ رغم قولك لزيد {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}(1/514)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} إثم {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} أحله {لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ} طريقته {فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا من الأنبياء {مِن قَبْلُ} فقد أحل لهم التوسعة في الزواج: كداود، وسليمان،
[ص:515] وغيرهما؛ ممن لم تصل إلينا أخبارهم(1/514)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (أنظر آية 4 من سورة القلم)(1/515)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{بُكْرَةً} أول النهار {وَأَصِيلاً} آخره(1/515)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} الصلاة من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الدعاء والإستتار {لِيُخْرِجَكُمْ} برحمته {مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر {إِلَى النُّورِ} الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (أنظر آية 17 من سورة البقرة)(1/515)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على من أرسلت إليهم؛ بل على الناس جميعاً {وَمُبَشِّراً} من أطاع الله برحمته وجنته {وَنَذِيراً} لمن عصاه بغضبه وناره(1/515)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} إلى معرفته وطاعته {بِإِذْنِهِ} بأمره وتقديره {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} جمع الله تعالى - في وصف نبيه الأعظم - بين صفتي الشمس والقمر: قال تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} وفضله عليه الصلاة والسلام على سائر المخلوقات؛ لا يقل بحال عن فوائد الشمس، ونور القمر: فكما أن الشمس تبعث الدفء والحياة في سائر الكائنات؛ فإنه قد بعث دفء الإيمان، في قلوب بني الإنسان، وبعث الحياة الحقيقية، والسعادة الأبدية بين المؤمنين؛ وأنار الدنيا بشريعته وهدايته وكما أن السراج المنير يستضاء به، ويسترشد بواسطته: كذلك الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فإن من سار على سنته، واهتدى بطريقته: لا شك واصل إلى أمنيته، متمتع في جنته وأي سراج وهاج، وأي قمر منير يضاهي محمداً في نوره، أو يحاكيه في هدايته؟ جعلنا الله تعالى ممن يستضيء بنوره، ويستنير بضوئه، ويسير على سنته، ويهتدي بهديه؛ وينضوي تحت لوائه، ويحشر في زمرته، ويرتوي من حوضه(1/515)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي اترك مقابلة إذايتهم لك بمثلها. وهو تعليم من الله تعالى لعباده: بالإحسان إلى من أساء(1/515)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي عقدتم عليهن {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي من قبل أن تدخلوا بهن {فَمَتِّعُوهُنَّ} قيل: هي منسوخة بقوله تعالى {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فنصف المهر الذي فرضتموه {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي طلقوهن طلاقاً لا ضرار فيه(1/515)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء {مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} الفيء: الغنيمة؛ وهما صفية وجويرية؛ أعتقهما وتزوجهما
[ص:516] {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي يطلب زواجها {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي إن الهبة لا تجوز إلا له عليه الصلاة والسلام. فليس لمؤمنة أن تهب نفسها لمؤمن، وليس له أن يقبل ذلك؛ إذ أن الهبة إحدى خصوصيات الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {فِي أَزْوَاجِهِمْ} من وجوب المهر، والولي، والشهود، وانعدام الموانع، وعدم تجاوز الأربع من النسوة {حَرَجٌ} ضيق وإثم فيما فعلت(1/515)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{تُرْجِي} تؤخر {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} أي تضم إليك {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي ومن طلبت الفراش من أزواجك اللاتي عزلتهن عن القسمة بينهن في المبيت. وقد كان قد خير بعض أمهات المؤمنين: بين الطلاق، أو التنازل عن حقوقهن في القسمة: فاخترن التنازل. فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه لا حرج عليه في رد من يشاء منهن إلى فراشه {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} لا إثم ولا حرج فيما تفعل: من العزل، والإرجاء، والإيواء {ذلِكَ أَدْنَى} أقرب {أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} بما قضى به الله تعالى في أمرهن: من الإرجاء، والإيواء، والعزل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ} من ذلك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} من شأن النساء، والميل إلى بعضهن، وعدم العدل بينهن؛ فيجزى كلا بقدر نيته(1/516)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ} أي من بعد التسع، وهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينت بنت جحش، وجويرية {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} بتطليق بعضهن وإحلال غيرهن مكانهن {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء؛ مما كان يخصه عليه الصلاة والسلام من السبي(1/516)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي غير منتظرين نضجه {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أكلتم
[ص:517] {فَانتَشِرُواْ} فتفرقوا {وَلاَ} تمكثوا {يأَيُّهَا الَّذِينَ} تتناولونه مع بعضكم {إِنَّ ذَلِكُمْ} الدخول بغير استئذان، وانتظار الطعام، وحديث بعضكم مع بعض؛ كل ذلك {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} فلا يظهر تضجره؛ لسمو أخلاقه، وعظيم استحيائه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً}
عارية، أو حاجة {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ولا تتطلعوا لرؤيتهن {ذلِكُمْ} السؤال من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من الخواطر المريبة؛ التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال. والتي يبثها الشيطان في قلب كل إنسان وهذه الآية الكريمة جاءت حاوية لأدق الأخلاق الإنسانية، وأسمى الآداب الاجتماعية؛ فكم نرى بعض الثقلاء، يتظرف بالإيذاء: فيقتحم الحرمات، ويرتكب المحرمات؛ وهو لاه غافل، أو متلاه متغافل {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ} بعمل ما لا يرضاه {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} لأنهن أمهات لكم، محرمات عليكم(1/516)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ} أي لا إثم على النساء ألا يحتجبن من آبائهن. ولم يذكر تعالى العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} أي ولا يحتجبن عن النساء المؤمنات؛ أما الكافرات: فيجب الاستغفار عنهن كالرجال تماماً؛ لئلا يصفنهن للغير؛ لعدم أمانتهن ومن عجب أن نرى بعض المسلمات يصفن لبعض الرجال: المخدرات من النساء. وهي خصلة ذميمة: يأباها الشرع، وتقع تحت طائلة العقاب الإلهي؛ فليتقين الله ولا يفضحن محارمه؛ فيفضحهن الله تعالى بين العباد، وعلى رؤوس الأشهاد(1/517)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} الصلاة من الله تعالى: الرحمة ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: التعظيم والدعاء والإكبار وهذا أمر من الله تعالى بالصلاة عليه وهي تجب كلما ذكر اسمه الكريم عليه الصلاة والسلام؛ كما يجب ألا يكتب اسمه إلا مقروناً بها. وقد طعن في كثرة الصلاة عليه بعض الزنادقة الذين لا يعبأ برأيهم، ولا يعتد بقولهم، واختصرها بعضهم بوضع «صلعم» مكانها، أو «ص» وهذا نهاية في السخف؛ إذ ما معنى وضع هذه الطلاسم والمعميات؛ إذا لم نرد إثبات الصلاة عليه وما معنى أن نضع الألقاب الرنانة، والأسماء الطنانة، والكنى الضخمة، والرتب الكبيرة؛ لأناس غير أهل لبعض ذلك - بل ربما كانوا من وقود النار - ونبخل على كبير المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد الخلق أجمعين؛ بكلمة أمرنا الله تعالى بها وألزمنا لها، وأثابنا عليها صلاة يرضاها منا، ويرضى بها عنا، وسلم تسليماً كثيراً؛ بعدد كل الكائنات؛
[ص:518] رغم أنف الملحدين والمكابرين
ومن أعجب العجب قول القائلين: إن الصلاة عليه واجبة في العمر مرة واحدة. مع أن نص الآية يقتضي التكثير «صلوا عليه وسلموا تسليماً» والجمهور على أنها واجبة عند ذكر اسمه الشريف
هذا ولا يصح إفراد غير الأنبياء بالصلاة. وإنما يصلي على غيرهم بالتبعية؛ كقولهم صلى الله على النبي وآله وصحبه(1/517)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} بالكفر، ونسبة الولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به والمراد بالإذاية هنا: عملها؛ لا وصولها يؤذون {رَسُولِهِ} بالطعن والتكذيب {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فِي الدُّنْيَا} بالتخلي عن توفيقهم وهدايتهم في {الآخِرَةَ} بما أعده لهم من العذاب الأليم المقيم(1/518)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} برميهم بما ليس فيهم، واختلاق الجرائم عليهم {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} بغير ما عملوا {فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً} البهتان: أسوأ الكذب(1/518)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
{يُدْنِينَ} يقربن، ويرخين {عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} جمع جلباب؛ وهو الثوب يستر جميع البدن، أو هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة {ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} أي ذلك أقرب أن يعرفن بأنهن حرائر محصنات {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} فلا يؤذيهن أحد. وقد كانت عادة الإماء، والغير المحصنات: كشف الوجوه. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فسق وفجور؛ بدليل قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}(1/518)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
{وَالْمُرْجِفُونَ} هم أناس من المنافقين كانوا يذيعون أخباراً سيئة عن سرايا رسولالله {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنسلطنك عليهم {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ} أي في المدينة {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا مدة قليلة؛ ثم يستأصلهم الله تعالى بذنوبهم(1/518)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{مَّلْعُونِينَ} مطرودين {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ}
أينما وجدوا(1/518)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{سُنَّةَ اللَّهِ} عادته وطريقته {فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا(1/518)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} القيامة؛ ومتى وكيف تقوم؟
[ص:519] {وَقَالُواْ} أي الكفار؛ حينما رأوا العذاب المحيط بهم، والمعد لهم(1/518)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
{رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ} مثلين {مِّنَ الْعَذَابِ} في جهنم {وَالْعَنْهُمْ} عذبهم {لَعْناً كَبِيراً} عذاباً كثيراً متواصلاً. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد. ومن لوازم الطرد والإبعاد: الغضب؛ الذي من لوازمه العذاب(1/519)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى} بأن رموه بالسحر والجنون {فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ} وأثبت تعالى أن ما جاء به موسى آيات بينات، ومعجزات ظاهرات؛ لا تمت للسحر والجنون بسبب. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الإيذاء المقصود هنا: أنهم رموه بأنه آدر. ويدفع هذا المعنى السقيم قوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي نبياً كريماً، ورسولاً عظيماً؛ عليه وعلى نبينا صلوات الله تعالى وسلامه(1/519)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} هي الشهوة المركبة في الإنسان، أو التكاليف التي تعم جميع وظائف الدين؛ من أوامر، ونواه؛ أهمها: ضبط جماح النفس، والصبر على الطاعات، وعن المعاصي والشهوات {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وخفن من حملها {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً} لنفسه؛ لأنه لم يراع ما حمل: فعرض نفسه للعقاب {جَهُولاً} بحقيقة ربه؛ إذ لو علم حقيقته، وقدره: لما وسعه إلا التمسك بطاعته، والابتعاد عن معصيته وهذا العرض، والإباء: هو من قبيل الأمثال، ولسال الحال؛ كقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(1/519)
سورة سبإ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/520)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
{يَعْلَمُ مَا يَلْجُ} يدخل {فِي الأَرْضِ} من ماء، وكنوز، ودفائن، وأموات {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وأقوات {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من ماء، وأرزاق، وبركات، وخيرات، وصواعق، وسيول {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما يصعد إليها من أعمال العباد، ومن ملائكته تعالى؛ الذين ينزلون منها، ويعرجون إليها؛ بأمره جل شأنه(1/520)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي لا تقوم القيامة {عَالِمُ الْغَيْبِ} كل ما غاب عن العلم والفهم {لاَ يَعْزُبَ} لا يغيب {مِثْقَالَ} وزن {ذَرَّةٍ} أصغر نملة تذروها الرياح؛ وهو مثال في نهاية الدقة والصغر {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بين، وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه تعالى ما خلق وما يخلق، وما رزق وما يرزق، وما دق، وما جل، وما عظم، وما حقر، ومن كفر ومن آمن، ومن عصى ومن أطاع؛ حتى قيام الساعة؛ و {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ذلك(1/520)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بإيمانهم وعملهم(1/520)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
{وَالَّذِينَ سَعَوْا} بالرد والطعن
[ص:521] {فِي آيَاتِنَا} قرآننا الذي أنزلناه على محمد {مُعَاجِزِينَ} مغالبين لنا، ظانين أنهم سينجون من عذابنا، مقدرين ألا بعث، ولا ثواب، ولا عقاب {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} الرجز: أسوأ العذاب(1/520)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ أن {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن {هُوَ الْحَقَّ} هو {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ} طريق {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب {الْحَمِيدِ} المحمود في كل أفعاله(1/521)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنون به محمداً {يُنَبِّئُكُمْ} يخبركم أنكم {إِذَآ} متم و {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقتم في قبوركم كل تفريق {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي ستخلقون يوم القيامة من جديد(1/521)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{افْتَرَى} استفهام؛ أي هل افترى بقوله هذا {عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} جنون؛ فهو يعرف بما لا يعرف قال تعالى رداً على إفكهم وضلالهم {بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} عن الحق في الدنيا(1/521)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} قطعاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} برهاناً {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى الله بكليته(1/521)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{يجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي رجعي التسبيح معه {وَالطَّيْرُ} أيضاً يسبح معه. قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} جعلناه ليناً كالطين المعجون، أو وفقناه إلى إلانته بواسطة الصهر، وعلمناه طرق صناعته، وتشكيله كما يريد(1/521)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروعاً تامة؛ تغطي سائر البدن {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي في نسج الدروع. يقال لصانعها: سراد. ومعنى «وقدر» أي اجعل حلقاتها منسقة متناسبة {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} الخطاب لآل داود، وأمته؛ ويشمل الصلاح المأمور به: صلاح الأعمال والأفعال؛ من العبادات والصناعات سخرنا(1/521)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ}
[ص:522] {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وكذلك جريها بالعشي {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي معدن النحاس: أذبناه له، أو وفقناه لطرق صهره، والانتفاع بصناعاته؛ كما وفقناه لصهر الحديد. والرأي الأول أولى؛ ليتفق مع المعجزة: فإلانة الحديد؛ وإذابة النحاس؛ بغير ملين، أو مذيب طبيعي: أدعى إلى الإعجاز، وتنبيه القلوب، ولفت الأنظار {وَمَن يَزِغْ} يعدل ويحد {مَّحَارِيبَ} مساجد، أو مساكن {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}
الجفان: جمع جفنة؛ وهي القصعة الكبيرة. والجوابي: جمع جابية؛ وهي الحوض الضخم(1/521)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ} عملاً صالحاً {شَاكِراً} لله على ما آتاكم {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (انظر آية 24 من سورة ص)(1/522)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{دَابَّةُ الأَرْضِ} هي الأرضة {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} عصاه. وقد مات عليه السلام وهو ممسك بها؛ وظل على ذلك الحال؛ إلى أن جاءت الأرضة فأكلت من العصا حتى كسرتها؛ وسقط جسده عليه السلام إلى الأرض {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ويؤخذ من ذلك أن أجساد الأنبياء عليهم السلام لا تبلى، ولا تأكلها الأرض؛ شأن كل الأجساد(1/522)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} سبأ: قبيلة باليمن سميت باسم جد لهم. وقيل: مدينة؛ وهي التي منها بلقيس {جَنَّتَانِ} لم يرد تعالى بالجنتين: جنتين اثنتين فحسب؛ بل أراد أن بلادهم كلها أشجار وثمار وبساتين. وإنما التثنية في أنها يمنة ويسرة؛ يؤيده قوله تعالى: {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي حيثما سرت وجدت {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}(1/522)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{فَأَعْرِضُواْ} عن عبادة الله تعالى وطاعته {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} المطر الشديد؛ الذي يحطم كل ما يعترضه من أبنية، وأودية. و «العرم» السدود التي تبنى لتحجز المياه {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي ثمر مر، بشع. وقيل: هو كل شجر ذي شوك {وَأَثْلٍ} شجر طويل لا ثمر له {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ} وهو شجر بري؛ له ثمر كالنبق؛ غير أنه مر الطعم، سام لا يؤكل {ذلِكَ} التبديل الذي بدلناهم به: التلف بعد الترف، والمر بعد الحلو، والداء بعد الشفاء(1/522)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} أي بسبب كفرهم
[ص:523] {وَهَلْ نُجْزِي} بالشر بعد الخير، وبالعقاب بعد الثواب {إِلاَّ الْكَفُورَ}
الذي أعرض عنا، ولم يقم بواجب شكرنا(1/522)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام: باركنا فيها بالماء والشجر، والزهر والثمر {قُرًى ظَاهِرَةً} متتابعة؛ لا تنتهي من قرية حتى تبدو لك أخرى؛ ليستبين الفرق بين رضا الله تعالى وغضبه، وبين نعمته ونقمته {وَقَدَّرْنَا فِيهَا} أي في هذه القرى {السَّيْرَ} فلا يكاد السائر يقبل في قرية؛ حتى يبيت في أخرى؛ فلا يحتاج إلى مزيد من الأمن والزاد؛ وهذا معنى قوله جل شأنه: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} من الخوف والفزع، والجوع والعطش؛ فأطغتهم الراحة، وأبطرتهم النعمة، ونزغ الشيطان في نفوسهم؛ وتحرك الكفر الكامن في قلوبهم(1/523)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ملوا الراحة، وطلبوا الكد والتعب {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بحرمانها من الثواب، وتعريضها للعقاب {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} يتحدث الناس بما حل بهم، ويعجبون من أحوالهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقناهم في البلاد كل التفريق، وصيرناهم مضرباً للمثل؛ يقال: تفرقوا أيدي سبا، وذهبوا أيدي سبا {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ} عظات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات {شَكُورٍ} كثير الشكرلله تعالى على أنعمه(1/523)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
{وَمَا كَانَ لَهُ} أي لإبليس {مِّن سُلْطَانٍ} تسلط عليهم؛ ولكنهم {نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وما كان تسلط إبليس عليهم {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} علم ظهور ويعمل لها؛ فلا يبالي بالشيطان ووسوسته، ولا يعبأ بالنفس وهواجسها:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهم
{مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} فليس بمستيقن حساباً، ولا ثواباً ولا عقاباً: فإذا بدت له فرصة كسب - من أي طريق - انتهزها، وإذا لاحت له بارقة لذة انغمس فيها، وإذا لوح له إبليس بما يسره اليوم ويضره غداً بادر إلى إجابته وطاعته؛ فأي شك في الآخرة أكبر من هذا الشك؟ بل وأي كفر ب الله أشد من هذا الكفر؟ {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} رقيب وعليم(1/523)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم} ألوهيتهم، وعبدتموهم {مِن دُونِ اللَّهِ} اطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم ضراً أو أن يلحقوا بكم خيراً فإنهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} أي لا يملكون وزن نملة صغيرة في ملك الله الكبير {وَمَا لَهُ} جل شأنه {مِنْهُمْ} أي من هذه الآلهة {مِّن ظَهِيرٍ} من معين؛ بل هو وحده المعين الذي لا يعان عليه، المغيث الذي لا يغاث عليه(1/523)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} بها، وارتضاه شفيعاً فيمن أراد بفضله أن يمنحهم
[ص:524] رفده، ويعفو عن ذنوبهم؛ لسابقة خير أتوها، ويد برّ أسدوها {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي كشف الفزع، وزال عن قلوب الشافعين والمشفوع فيهم الرعب؛ بالإذن في الشفاعة، أو بقبولها من الشافعين في المشفوع لهم {قَالُواْ} أي قال الشفعاء لبعضهم، أو قال الأنبياء - وهم الذين يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة - للملائكة الذين يبلغون أمر ربهم؛ قالوا لهم {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في شأن شفاعتنا للعصاة من أممنا؟ {قَالُواْ} قال {الْحَقِّ} الذي ارتضاه وكتبه على نفسه {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقد أذن بكرمه وفضله لكم في الشفاعة {وَهُوَ الْعَلِيُّ} المتعالي فوق خلقه بالقهر {الْكَبِيرُ} العظيم؛ الذي كل شيء - مهما عظم - دونه(1/523)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ}
أي ونحن أو أنتم {لَعَلَى هُدًى} من الله {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أيّ تلطف هذا من الله تعالى بعبيده؟ وأي منطق تشرئب له الأعناق، وتنخلع له القلوب؟ يأمر الله تعالى أهدى الهداة؛ بأن يخاطب أعتى العتاة، وأعصى العصاة؛ بقوله: إن الخلاف بيننا لا يعدو إحدى اثنتين: إما أن أكون أنا على هدى، أو في ضلال مبين؛ وأنتم كذلك. فإذا ما تبصر المخاطب في هذا الجدل الرقيق الرفيق؛ الذي إن دل على شيء؛ فإنما يدل على الحقيقة المجردة من كل زيف، والقوة المجردة من كل قسوة، واطمئنان الواثق، ووثوق المطمئن. وإذا ما تدبر المخاطب المعاند أنه لا أحد يرزقه من السموات والأرض سوى الله تعالى، وأن معبوده المزعوم لا يخلق شيئاً؛ بل يخلقه العابد له بيديه، وأنه لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأن الذي يخاطبه يسانده المنطق لا القوة، وتؤيده البراهين والآيات؛ لا الأكاذيب والترهات؛ وأنه - ولا شك - مرسل من عند الله الحق؛ ليخرجه من الظلمات إلى النور، وينجيه من عذاب السعير إذا تدبر المخاطب كل ذلك: علم أنه على ضلال وأي ضلال؛ وأن الرسول على هدى وأي هدى(1/524)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
{قُلْ} لهم يا محمد {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} أي يحكم(1/524)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{شُرَكَآءَ} في العبادة {كَلاَّ} ردع لهم عن اتخاذ الشركاء للملك الحق(1/524)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالقيامة والبعث، والثواب والعقاب(1/524)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} ولن نصدق أنه منزل من عند الله {وَلاَ} نؤمن {بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل {وَلَوْ تَرَى} يا محمد {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} أي محبوسون {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} الأتباع والضعفاء {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} السادة والرؤساء {لَوْلاَ أَنتُمْ} وإضلالكم لنا {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} وفي عداد الناجين(1/524)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
{أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ} منعناكم {عَنِ الْهُدَى} الإيمان، أو القرآن، أو هما معاً؛ وهو استفهام إنكاري. أي لم نصدكم عن الهدى، ولم نكرهكم على الكفر(1/525)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أصل المكر: الاحتيال والخديعة. أي بل مكركم بنا ليلاً ونهاراً، أو كفركم أمامنا ليلاً ونهاراً؛ وهو الذي صدنا ومنعنا عن الهدى؛ وذلك لأن العمل الظاهر: فيه معنى الأمر بمثله؛ فمن يكفر: يكن قدوة لغيره في الكفر، ومن يفسق يكن قدوة لغيره في الفسق {أَندَاداً} أمثالاً وأشباهاً {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} أي أظهروها؛ وهو من الأضداد: يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. أو هو مشتق من الأسارير؛ وهي محاسن الوجه، والخدان؛ أي بدت الندامة وظهرت على أساريرهم؛ مما يعتري وجوههم من الانقباض والأسى والحزن(1/525)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
{مُتْرَفُوهَآ} رؤساؤها ومتنعموها(1/525)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
{وَقَالُواْ} أي الكفار المترفون المتنعمون {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} من المؤمنين الفقراء {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} توهماً منهم أن الأموال والأولاد هي منجاة لهم في الآخرة؛ كما كانت منجاة لهم في الدنيا(1/525)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} في الدنيا {لِمَن يَشَآءُ} من عباده: كافراً كان أو مؤمناً، طائعاً أو عاصياً؛ وكثيراً ما يعطي من يبغض، ويمنع من أحب {وَيَقْدِرُ} ويقبض عمن يشاء. وقد رد الله تعالى على هؤلاء المحتجين بغناهم، المحتجبين عن مولاهم؛ بقوله:(1/525)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} الزلفى: القربى والمنزلة. أي تقربكم عندنا منزلة {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إلا الإيمان والعمل الصالح؛ فهما وحدهما مقياس القرب من حضرة الرب {فَأُوْلَئِكَ} المؤمنون الصالحون {لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} أي نضاعف لهم جزاء حسناتهم
[ص:526] {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} أعالي الجنة {آمِنُونَ} من العذاب، ومن انقطاع النعيم(1/525)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} القرآن: يسعون في إبطاله، وإنكاره، والطعن فيه {مُعَاجِزِينَ} مغالبين لنا، ناسبين العجز إلينا(1/526)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{وَيَقْدِرُ} ويقبض {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي ما أنفقتم في سبيله تعالى، ومن أجل مرضاته؛ فإنه جل شأنه يعوضه لكم، ويرزقكم أضعافه. وقد ورد أن ملكاً في السماء يدعو «اللهم أعط منفقاً خلفاً، وممسكاً تلفاً» {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأن المخلوق يرزق الآخر لحاجة منه إليه، أو لرغبة يبتغيها عنده. أما «خير الرازقين» فيرزق بلا حاجة، ويعطي بلا مقابل(1/526)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} تعاليت وتقدست، وتعاليت عن المثل، والشبيه، والنظير {أَنتَ وَلِيُّنَا} خالقنا، ومعيننا، وكافينا؛ الذي نخلص له في العبادة؛ فكيف نرتضي أن نعبد من دونك؟ {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الشياطين الذين كانوا يغوونهم بعبادتنا، وعبادة غيرنا(1/526)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا(1/526)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات {قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ} يمنعكم {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} من الأصنام والأوثان {وَقَالُواْ مَا هَذَآ} القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} كذب مختلق(1/526)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأمم المتقدمة مثل تكذيبهم {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ} أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار، وقوة الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد. وقيل: المعشار: عشر العشر، أو هو عشر عشر العشر؛ فيكون جزءاً من ألف. ولعله المراد: لأنه أريد به المبالغة في التقليل. وقد يكون المعنى: وما بلغ المكذبين الذين من قبلهم معشار ما آتينا أمتك من العلم والبيان، والحجة والبرهان؛ فهم أولى الأمم بالإيمان، وأجدرهم بالإيقان {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي} أي كذبت الأمم السابقة رسلي؛ كما كذبك قومك {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} النكير: تغيير المنكر؛ أي فكيف كان تغييري لمنكرهم، واستئصالي وتدميري لهم؟(1/527)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي أنصحكم بكلمة واحدة: هي جماع الفضائل كلها، وأساس الإيمان واليقين والتوحيد {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} لعبادته {مَثْنَى} جماعات {وَفُرَادَى} أي مجتمعين ومتفرقين {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} فيما قلتموه، وترجعوا عما زعمتموه {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} جنون {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ} قدام {عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الآخرة. قال: «بعثت بين يدي الساعة»(1/527)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ} على التبليغ {فَهُوَ لَكُمْ} المعنى: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} والأجر الذي سألتكموه: هو لكم؛ لأن نفعه عائد عليكم {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ} عالم به، ومطلع عليه(1/527)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي يلقيه وينزله إلى أنبيائه(1/527)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
{قُلْ جَآءَ الْحَقُّ} الإسلام {وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ} الكفر {وَمَا يُعِيدُ} أي متى جاء الحق؛ فأي شيء بقي للباطل يبدؤه أو يعيده؟(1/527)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ} عند البعث {فَلاَ فَوْتَ} فلا مهرب(1/527)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} التناول. أي وكيف لهم تناول الإيمان بعد فوات وقته(1/528)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} أي وقد كانوا يتكهنون بالغيب؛ ويقولون: لا بعث، ولا حساب(1/528)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي حيل بينهم وبين النجاة من العذاب الذي هم فيه؛ أو حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا: من مال، وأهل، وولد، أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه: من الإيمان وقبوله منهم {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} أشباههم من الأمم السابقة.(1/528)
سورة فاطر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/528)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقهما ابتداء من غير مثال سبق {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} إلى الأنبياء بكلامه وهدايته، ورسلاً إلى الناس بنقمته ورحمته وهم من خاصة خلق الله تعالى. ومن خواصهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. ولا حصر لهم عدداً ولا إحاطة بهم وصفاً {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} ذوي أجنحة {مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أي إن لبعضهم جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة {يَزِيدُ} تعالى {فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} أي يزيد في خلق ملائكته، أو يزيد في أجنحتهم؛ فقد رأى نبينا محمد جبريل عليه الصلاة والسلام - على صورته - ساداً ما بين الأفق. وقيل: إن إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح. والزيادة في الخلق: تشمل كل خلق خلقه الله تعالى. فقد خلق تعالى الإنسان؛ والزيادة في خلقه: اعتداله وحسنه وجماله. وخلق العينان؛ والزيادة في خلقهما: حورهما. وخلق الصوت والزيادة في خلقه: ملاحته وحلاوته. وخلق الخط؛ والزيادة في خلقه: وضوحه وحسنه. وخلق الشعر؛ والزيادة في خلقه: إرساله وتهدله ونعومته(1/528)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} رزق، أو مطر، أو صحة، أو ما شاكل ذلك(1/528)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{يأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فاعبدوه واشكروا له {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ} بما ينزله من أمطار، ويجريه من أنهار من {الأَرْضِ} بما يخرجه من نبات وأقوات، وثمار وأزهار {لاَ إِلَهَ} يعبد {إِلاَّ هُوَ} له الحمد، وله الشكر، وله الثناء الجميل {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته؛ وأنتم لا ترزقون إلا بسببه، ولا تنعمون إلا بسببه(1/529)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان(1/529)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أتباعه وأولياءه {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}
بسبب طاعتهم له، وانغماسهم في كفرهم ومعاصيهم(1/529)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ} زينه له شيطانه، ورغبته فيه نفسه {فَرَآهُ حَسَناً} وهو في الحقيقة أقبح من القبح، وأسوأ من السوء والجواب محذوف تقديره «أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً» كمن هدي إلى الصراط المستقيم؟ {لاَّ يَسْتَوُونَ} {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} يضل من يشاء إضلاله؛ بسبب انصرافه عن آيات ربه بعد أن جاءته بينات محكمات، وبعد أن أدخلها الله تعالى في لبه، وسلكها في قلبه ولا تنس قول الحكيم العلم {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله جل شأنه: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(1/529)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
(انظر آية 200 من سورة الشعراء) {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي لا تقتل نفسك عليهم غماً وحسرة {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} مجدب؛ لا نبات فيه {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ} أي أحيينا الأرض بالمطر المستكن في السحاب؛ فأنبتت بعد جدبها {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي مثل إحيائنا للأرض الميتة: كذلك يكون بعثكم وإحياؤكم(1/529)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} في الدنيا والآخرة؛ فلا تنال بالمال، ولا بالولد، ولا بالجاه؛ وإنما تنال بطاعة الله تعالى؛ فمن أرادها فليعمل عملاً صالحاً يؤهله لنيلها {إِلَيْهِ} تعالى {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وهو كل كلام يتقرب به إلى الله تعالى؛ ويدخل فيه قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فكل قول حسن؛ هو من الكلم الطيب. وكذلك قوله جل شأنه: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} و {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} من أسباب العزة عندالله، وعند الناس؛ وصعود الكلم الطيب إليه تعالى: معناه أنه جل شأنه يعلمه، ويسرع بالجزاء عليه، ويحسن إلى صاحبه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} العبادة الخالصة
{يَرْفَعُهُ} أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فقد يكون الكلم الطيب رياء، أو مداهنة. أو «والعمل الصالح» يرفع عامله إلى مصاف الأتقياء. وقيل: «والعمل الصالح يرفعه» الكلم الطيب. يؤيده قراءة من قرأ «والعمل الصالح» بالنصب. هذا «والعمل الصالح» غير قاصر على العبادات فحسب؛ بل يشمل سائر الأعمال والمصنوعات التي يعهد بعملها إلى الناس. قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» وما من شك أن الأعمال الصالحة المتقنة: ترفع صاحبها عند الله وعند الناس؛ فيزداد بها علواً ورفعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي المكرات السيئات {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} يفسد ويبطل(1/530)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} أي خلق أصل الإنسان «آدم» من تراب {ثُمَّ} خلقكم {مِن نُّطْفَةٍ} مني. (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أنصافاً، أو ذكراناً وإناثاً {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} المعمر: طويل العمر. أي ما يزاد في عمر طويل العمر {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ؛ مكتوب فيه تلك الزيادة، وذلك النقصان. قيل: إن الزيادة: هي ما يستقبله من عمره، والنقصان: ما يستدبره منه. ونقصان الأعمار وزيادتها: أمر مسلم به، مقطوع بوقوعه: فالإحسان، وبر الوالدين، والصدقة، وصلة الرحم؛ فهي - فضلاً عن أنها مرضاة للرب - تطيل الأجل، وتزيد القوة، وتنمي الصحة، وتضفي السعادة قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - عمره - فليصل رحمه» وقد ورد أنه مكتوب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا؛ فإن وصل رحمه: زيد في عمره كذا {إِنَّ ذَلِكَ} النقصان والزيادة {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين لا يشق عليه(1/530)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} الملح والعذب {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة والحلاوة {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَمِن كُلٍّ} منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} هو السمك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هي اللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ}
[ص:531] السفن {فِيهِ مَوَاخِرَ} مخرت السفينة الماء: أي شقته {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارة والكسب(1/530)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{يُولِجُ} يدخل {الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بنقصان الليل، وزيادة النهار {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} بنقصان النهار، وزيادة الليل {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} وهو القشرة الرقيقة الملتفة على النواة.
وهو مبالغة في القلة، والحقارة. أي أنهم لا يملكون شيئاً مطلقاً(1/531)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{إِن تَدْعُوهُمْ} تنادوهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يتبرأون منكم، ومن عبادتكم لهم(1/531)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
{يأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لسائر الناس: غنيهم قبل فقيرهم، وسليمهم قبل سقيمهم، وقويهم قبل ضعيفهم؛ يقول لهم ربهم، وخالقهم، ومالكهم {أَنتُمُ} جميعاً {الْفُقَرَآءُ} المحتاجون {إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ} وحده {هُوَ الْغَنِيُّ} المستغني بنفسه عن غيره {الْحَمِيدُ} المحمود في صنعه والفقر: هو الافتقار؛ وجميع الناس - على اختلاف طبقاتهم، وتباين أجناسهم - مفتقرون إليه تعالى في كل شؤونهم؛ فالغني لا يكون إلا بأمره، والسعادة لا تكون إلا بمشيئته، والسلامة لا تتم إلا بإرادته، والحاجة دائماً إليه، والاستعانة دائماً به(1/531)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي إن تدع نفس مثقلة بالذنوب {إِلَى حِمْلِهَا} أي إلى حمل حملها الثقيل من الذنوب {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ} المدعو للحمل {ذَا قُرْبَى} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذٍ شأنه يغنيه} {وَمَن تَزَكَّى} تطهر بفعل الطاعات، وبترك المعاصي {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} لأن ثواب ذلك عائد إليه وعليه(1/531)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم(1/531)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
{وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ} الكفر والإيمان، أو الجهل والعلم (انظر آية 17 من سورة البقرة)(1/531)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
{وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ} الحق والباطل، أو الجنة والنار(1/531)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} أي الذين دخلوا في الإسلام، ومن لم يدخلوا فيه. ويصح أن يكون جميع ما تقدم على ظاهره
{وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} أي كما أنك لا تسمع الموتى - سكان القبور - فكذلك لا تستطيع إسماع الكفار: موتى القلوب(1/531)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي وما من أمة سبقت؛ إلا مضى فيها رسول ينذرهم سوء عاقبة الكفران، ويخوفهم وخامة الظلم والطغيان(1/532)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
{جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات {وَبِالزُّبُرِ} الصحف {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضح؛ كالتوراة والإنجيل(1/532)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} عذبتهم؛ بسبب تكذيبهم لرسلهم، وإنكارهم لكتبهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم(1/532)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} فاكهة {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} كحمرة التفاح وصفرته، وبياض العنب وسواده، واختلاف ألوان الفاكهة وطعومها؛ مع سقياها بماء واحد {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} طرق لونها أبيض، وأخرى لونها أحمر؛ وهذا مشاهد يعرفه كل من ارتاد الجبال وطرقاتها، ورأى مفاوزها ومسالكها. وقد رأيت ذلك رأي العين - ورآه الكثيرون - بجبال مكة المشرفة {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي وطرق سوداء حالكة السواد. يقال: أسود غربيب. ومنه الغراب لسواده(1/532)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} الاختلاف الظاهر في الثمرات، والجبال والطرق {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} حق خشيته، ويعرفه حق معرفته {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الذين يعلمون رحمته ونقمته، وعفوه وبطشه، وحلمه وقهره، ومغفرته وعذابه؛ ويعلمون أنه تعالى على كل شيء قدير
والعلم: هو في نفسه غاية الغايات، ونهاية النهايات؛ ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك، ويلهمك ما ينجيك، ويطلق عقلك من عقال الأوهام، ويقاوم التعصب والتقليد؛ وينزه فكرك من القيود، ويوصلك إلى المعرفة الخالصة، والحق المجرد وكل علم لا يصل بك إلى هذا المستوى؛ فليس بعلم
والعلم أيضاً وسيلة سامية، لغايات بالغة السمو: فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً، وبغيره لا تستطيع أن تحمي نفسك وتدفع عنها إيذاء المؤذين، وعدوان المعتدين
فالعلم إذن يجمع بين الحق والقوة، والسعادة والسيادة، والعظمة والسلطان. فبالعلم استطاع الإنسان - في دفاعه عن نفسه - أن يستعمل اللسان والسنان، وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء، والبخار والكهرباء؛ حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في أصبعه خاتم سليمان، ويجلس على بساطه
أما رجال السياسة؛ فهم - رغم غزارة علمهم، وسعة مداركهم - غير جديرين بشرف الانتساب إلى العلم: لأنهم جعلوه وسيلة للخسران، لا للعمران، وللفناء، لا للبقاء ومثلهم في ذلك كمثل إبليس:
[ص:533] حاز علم العلماء، وسلك سلوك الجهلاء(1/532)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} ويعملون بما فيه {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} محافظين عليها في أوقاتها {وَأَنفَقُواْ} على الفقراء {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} بفضلنا؛ لا بكسبهم {سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} من غير من، ولا أذى، ولا رياء: يسرون في النافلة «الصدقة» ويعلنون في الفريضة «الزكاة» أو يسرون ستراً على الفقير، وجبراً لخاطره، ويعلنون ليقتدى بفعلهم من عداهم. أولئك {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} وهي طلب ثواب الله تعالى، والنجاة من عقابه
هذا والتجارة معه تعالى من أربح التجارات وأحسنها، وأعلاها وأغلاها (انظر آية 245 من سورة البقرة)(1/533)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من الكتب(1/533)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{اصْطَفَيْنَا} اخترنا {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر، وتحمل الإثم، وذل المعصية {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم. أو هم الذين أعطوا الدنيا حقها، والآخرة حقها {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} لا يبغي من الدنيا مغنماً، ولا يقرب محرماً
وهذه الأصناف الثلاثة: هي التي عناها الله تعالى بقوله {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فأصحاب الميمنة: هم المعنيون بقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وأصحاب المشأمة: هم المعنيون بقوله {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} والسابقون السابقون: هم المعنيون بقوله جل شأنه {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهم السابقون إلى الخيرات والمكرمات {بِإِذُنِ اللَّهِ} بأمره وتوفيقه {(1/533)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة(1/533)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{الَّذِي أَحَلَّنَا} أنزلنا {دَارَ الْمُقَامَةِ} دار الإقامة: وهي الجنة. وسميت بذلك: لأن الإقامة فيها مؤبدة {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} إعياء(1/533)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
{لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} ويستريحوا(1/533)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} من النار، وأعدنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ} فيها عملاً {صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من قبل. قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أي «أوَلم نعمركم» في الدنيا الوقت الطويل الذي يتذكر فيه من أراد أن يتذكر، ويهتدي فيه من أراد أن يهتدي {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} محمد عليه الصلاة والسلام. وقيل «النذير» الشيب، أو موت الأهل والأحباب. والأول أحق بالصواب وأجدر(1/533)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ما غاب فيهما عن البصر، واحتجب عن الوهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخفايا القلوب(1/534)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ} خلائف: جمع خليفة. أي يخلف بعضكم بعضاً في تملك الأرض، والتمتع بخيراتها {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي عليه إثم كفره وعقوبته {وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} المقت: أشد البغض {وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} خسراناً؛ وأي خسران أشق وأشد من خسران الجنة ونعيمها؟ وأي خسران أدهى وأنكى من الخلود في جهنم وجحيمها؟(1/534)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ} أي إن الله تعالى عالم غيب السموات والأرض، ومبدعهما، وخالق من فيهما؛ وقد خلقكم تعالى شعوباً متعددة، وأمماً شتى، وأجناساً متباينة؛ ووالى - سبحانه وتعالى - خلقكم وإنشاءكم؛ فإذا ما انقرضت أمة؛ أخلف مكانها أمة أخرى، وإذا ما فني شعب؛ أحل مكانه شعباً آخر. وجميع ذلك خلق الله تعالى؛ فماذا خلق آلهتكم في هذه الأرض التي أنتم عليها؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} شركة مع الله {فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} مكتوباً يؤكد هذه الشركة {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة {مِّنْهُ} أي من هذا الكتاب {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} باطلاً(1/534)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
{إِنْ أَمْسَكَهُمَا} ما يمسكهما(1/534)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غاية اجتهادهم في الأيمان {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} محمد {مَّا زَادَهُمْ} مجيؤه {إِلاَّ نُفُوراً} من الحق، وانصرافاً عن الإيمان(1/534)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{اسْتِكْبَاراً} منهم وعلواً
[ص:535] {فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} أي ما زادهم مجيؤه إلا أن مكروا المكر السيء. والمكر: الخداع يحيط {فَهَلْ يَنظُرُونَ}
ما ينتظرون {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ} أي إلا طريقتنا مع الأولين: وهي تعذيبهم وقت تكذيبهم، واستئصالهم وقت كفرهم(1/534)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين، وكيف فعلنا بهم {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي أشد من أهل مكة؛ فما أعجزونا، وما استطاعوا النجاة من انتقامنا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} ليفوته(1/535)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} بما ارتكبوا من المعاصي {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} أي ظهر الأرض {مِن دَآبَّةٍ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو غيرهما {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فيجازيهم على ما عملوا.(1/535)
سورة يس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/535)
يس (1)
{يس} هو اسم الرسول الأعظم صلوات الله تعالى وسلامه عليه. وقيل: معناه: يا إنسان؛ في لغة طيىء. وقيل معناه: يا سيد البشر. وقيل: بل هو اسم من أسمائه تعالى؛ لذا منع مالك رضي الله تعالى عنه التسمي به. وهو قسم؛ يدل عليه عطف القسم الآخر(1/535)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} المحكم الذي لا يعتريه نقص، ولا يشوبه تناقض أو بطلان. وجواب القسم:(1/535)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
{إِنَّكَ} يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وإنك(1/536)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} على طريق الهدى والاستقامة؛ طريق من تقدمك من الأنبياء. وهو رد على الكافرين القائلين {لَسْتَ مُرْسَلاً}(1/536)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وهو القرآن {لِتُنذِرَ} به {قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} أي لم يأت آباءهم قبلك نذير مثلك؛ بكتاب مثل كتابك {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن خالقهم، منصرفون إلى إفكهم وباطلهم. أو «ما» بمعنى الذي. أي(1/536)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
لتنذر قوماً بالذي أنذر به آباؤهم. والأول أولى؛ لأن أمة العرب ظلت فترة طويلة من الزمن؛ بغير نبي يرسل إليهم، أو كتاب ينزل عليهم. يؤيده قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ}(1/536)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} وجب العذاب(1/536)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} جمع غل؛ ويكون الغل في الأعناق، والقيد في الأيدي {فَهُم مُّقْمَحُونَ} مرتفعة رؤوسهم؛ لا يستطيعون تحريكها؛ لضيق الغل وتحكمه عند أذقانهم. وذلك يكون يوم القيامة. وجاء السياق بصيغة الماضي «إنا جعلنا» لتحقق الوقوع. أو هو تشبيه على سبيل التمثيل؛ وذلك لأنهم امتنعوا عن الاهتداء؛ امتناع المغلول، وأنهم - على ما هم عليه من ذلة الكفر - مشرئبو الأعناق، رافعو الرؤوس(1/536)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
{فَأغْشَيْنَاهُمْ} أي غطينا على أبصارهم، وجعلنا عليها غشاوة(1/536)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إنما ينفع إنذارك ويتقبله من اتبع القرآن {وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} خافه ولم يره، وصدق بجنته وناره، وثوابه وعقابه(1/536)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} من عمل: خير أو شر؛ فنجازيهم عليه نكتب {آثَارِهِمْ} ما سنوه من سنة حسنة أو سيئة؛ فإن الله تعالى يجزيهم عمن اتبعها بعدهم؛ ثواباً أو عقاباً {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ(1/536)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ} إنطاكية {إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} رسل عيسى عليه الصلاة والسلام؛ بأمر ربه تعالى(1/536)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{فَعَزَّزْنَا} قوينا الرسالة {بِثَالِثٍ} هو كبير الحواريين {فَقَالُواْ} أي قال الرسل الثلاثة {قَالُواْ} أي أصحاب القرية؛ المرسل إليهم(1/536)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
{مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فما الذي يدعو إلى اختصاصكم بالرسالة من دوننا {وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ} عليكم {مِن شَيْءٍ} من وحيه {قَالُواْ} أي قال أصحاب القرية لرسلهم(1/537)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
{إِنَّا تَطَيَّرْنَا} تشاءمنا {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} ترجعوا عن دعوتكم(1/537)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
{قَالُواْ} أي قال الرسل لأهل إنطاكية {طَائِرُكُم} شؤمكم الذي تزعمونه {مَّعَكُمْ} ملصق بكم؛ لكفركم بإلهكم وعدم انقيادكم لمولاكم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {أَإِن ذُكِّرْتُم} استفهام. أي أئن وعظتم وخوفتم: تطيرتم وكفرتم؟ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في الكفر(1/537)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي أي شيء يحول بيني وبين عبادة الذي أنشأني وخلقني؟ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} جميعاً؛ فيحاسبكم على عملكم، ويدخلكم النار بكفركم(1/537)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ} غيره {آلِهَةً} كما اتخذتم {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ} أي إن يرد أن يلحقني {بِضُرٍّ} بمرض، أو فقر، أو آفة {لاَّ تُغْنِ عَنِّي} لا تنفعني {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ} مما أراده الله تعالى(1/537)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{إِنِّي إِذاً} إن اتخذت إلهاً من دون الله {لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} واضح ظاهر(1/537)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} أي سيقال له يوم القيامة: «ادخل الجنة» وسيقول يومئذٍ: «يا ليت قومي يعلمون» لأنه لما كان دخوله الجنة محققاً مقطوعاً به: ذكرت القصة بصيغة الماضي، كقوله تعالى: «أتى أمرالله» «وبرزوا لله جميعاً» أو قيل له ذلك عند موته؛ فقال: «يا ليت قومي يعلمون»(1/537)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد موته {مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ} لقتالهم وإهلاكهم(1/538)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ميتون(1/538)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} هو رد على من يقول بتناسخ الأرواح، ورجوعها إلى أبدان غير أبدانها(1/538)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} وما كل إلا جميع {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يوم القيامة؛ فنعذب من كفر بكفره(1/538)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة دالة على البعث، ويسر الإعادة {الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} الجدبة، التي لا تنبت {أَحْيَيْنَاهَا} بالنبات {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} كالقمح، والذرة، والفول، والعدس، وما شاكلها(1/538)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة)(1/538)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
{لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أن ثمر النخيل والأعناب، وما تنتجه البساتين من فاكهة وثمار {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} «ما» نافية. أي «ليأكلوا من ثمره» الذي صنعته لهم بقدرتي، وأسبغته عليهم بفضلي، ولم ينالوه بعمل أيديهم؛ فكم من أرض خصبة: اختصها الإنسان بالحرث والبذر، واصطفاها بالسقي والري؛ فأصبحت بفضل التفاته لها، وعنايته بها جدبة ممحلة ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ليأكلوا من ثمره» وليأكلوا أيضاً من الذي «عملته أيديهم» من شتى الأصناف والأنواع: حلاوات وأطعمة، وأدهان وأدوية، وغير ذلك؛ وكله مستخرج من الثمر، الذي خلقه بارىء البشر؛ من حدائق ذات بهجة، ما كان لهم أن ينبتوا شجرها «رزقاً للعباد»(1/538)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ} الأصناف والأنواع؛ باختلاف الألوان، والطعوم، والأشكال، والأحجام {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي ومن أنفسهم أيضاً خلق تعالى أزواجاً: ذكراناً وإناثاً، طوالاً وقصاراً سماناً وعجافاً، بيضاً وسوداً، حمراً وصفراً {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} من مخلوقاته تعالى في البر والبحر، والأرض والسماء {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}(1/538)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة دالة على قدرتنا، وعظمتنا، ووحدانيتنا {الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي نفصله وننزعه منه(1/538)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي} في منازلها {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} وهو أبعد منازلها؛ ثم تعود إلى أدناها. أو المراد بذلك يوم القيامة؛ حيث يكورها الرحمن؛ فتسكن عن الجريان ورووا عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قراءة «والشمس تجري لا مستقر لها» والإجماع على بطلانها؛ لمخالفتها رسم المصحف الإمام. وشمسنا هذه التي نراها، والتي تضيء الكون بمحياها: إن هي إلا واحدة من شموس لا يعلم مداها. وهذه الشموس لا تقل عن أربعين مليوناً: حساباً وعداً. ومن هذه الشموس
[ص:539] ما يزيد في الحجم عن شمسنا هذه أربعين ضعفاً، ويربو في الضوء والحرارة عن ذلك. وبعض هذه الشموس يرى في الفضاء كالذرة الصغيرة؛ لبعده عنا بعداً سحيقاً؛ فقد سجلوا أن الشعرى اليمانية - وهي تبدو كأصغر نجم في السماء - تبعد عن الأرض بحوالي اثنين وخمسين بليوناً من الأميال، وأنه لولا هذا البعد السحيق: لذابت الأرض بما فيها ومن فيها من حرارتها
وحول هذه الشموس - التي لا تحد ولا تعد - كواكب كثيرة تدور في فلكها؛ كما تدور أرضنا هذه في فلك شمسنا؛ وما يدرينا ما في هذه الشموس، وهذه الكواكب من مخلوقات، وما تحتويه من كائنات؛ لا يعلمها سوى خالقها وبارئها العليم الحكيم
وشمسنا هذه - رغم ضآلتها وحقارتها بجانب الشموس الأخرى - لو دنت قليلاً من الأرض: لفارت البحار والمحيطات؛ من شدة الغليان، ولتبخر ما فيها من مياه، ولانصهر أشد أنواع الصخور صلابة. فانظر - يا رعاك الله - إلى بديع صنعالله(1/538)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} يتنقل فيها (انظر آية 61 من سورة الفرقان) {حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ} العرجون: العذق؛ وهو من التمر كالعنقود من العنب {الْقَدِيمِ} حين يجف ويصفر ويتقوس(1/539)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ} لا يجوز لها، ولا يمكنها؛ لما أحاطها الله تعالى به من ضروب الحفظ، وما سخره لسيرها من ملائكته وخزنته؛ فلا ينبغي لها {أَن تدْرِكَ القَمَرَ} وأنى لها أن تدركه؛ وقد وضع لها خالقها نظاماً لا يمكنها من إدراك القمر؛ لو سعت إلى ذلك وأرادته. قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} {وَكُلَّ} من الشمس والقمر {فِي فَلَكٍ} خاص به، لا يتعداه إلى غيره {يَسْبَحُونَ} يسيرون في الهواء كسير السابح في الماء(1/539)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة أخرى دالة على قدرتنا وحفظنا وكلاءتنا {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ذرية الأمم المتقدمة: حملهم الله تعالى {فِي الْفُلْكِ} السفينة. والمراد بهم قوم نوح عليه السلام، أو المراد: ذرية كفار مكة. أو المراد بالذرية: الآباء؛ وهي من أسماء الأضداد. والمعنى: حمل الله تعالى آباءهم وهم في أصلابهم {الْمَشْحُونِ} المملوء ناساً ومعاشاً(1/539)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
{فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا يستطيعون الصريخ، أو فلا يستجاب لصريخهم(1/539)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} لمن ننجيه {وَمَتَاعاً} تمتيعاً له بالحياة {إِلَى حِينٍ} إلى حين انقضاء أجله(1/539)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ}
[ص:540] أي خافوا قدرتنا على تعذيبكم في الدنيا: بالمرض والفقر، أو القتل والأسر. وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم أو «ما بين أيديكم» ما ظهر لكم «وما خلفكم» ما غاب عنكم(1/539)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وهكذا الكفار في كل زمان ومكان: إذا ضاقت بهم الحيل، وأغلقت في وجوههم السبل: لجأوا إلى تافه القول، وفاسد الحجج، وتلاعبوا بالحقائق تلاعب الصوالجة بالأكر، ولاكوا بأفواههم الألفاظ الطنانة الجوفاء؛ فقد تهربوا من إطعام الطعام بقولهم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} كما دافعوا - عن جهلهم وحمقهم، وعبادتهم الأحجار التي لا تضر ولا تنفع - بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وكما احتجوا عن كفرهم وتعنتهم بالقضاء والقدر {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا}.
هذا وقد لجأ الناس في آخر الزمان إلى التلاعب بالألفاظ، والتمويه بالأسماء: فسموا الفوضى: حرية. والشيوعية: عدالة اجتماعية. والظلم: عدلاً، والاستبداد: نظاماً. والشورى: ضعفاً. والرشوة: هدية. والمحاباة: صلة رحم. والإهمال: أناة. والتهور: شجاعة. والقسوة: حزماً وهكذا فسدت المقاييس، واختلت المعايير؛ تبعاً للأهواء المردية(1/540)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالبعث والحساب والعقاب(1/540)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{مَا يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي نفخة إسرافيل الأولى؛ وبها يكون فناء سائر الأحياء {تَأُخُذُهُمْ} تهلكهم {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} يختصمون في البيع والشراء، والقضاء(1/540)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} النفخة الثانية؛ وبها يحيا كل ميت: يحيي بها الله تعالى الأموات، كما أمات بالأولى الأحياء: يعيدهم - جل شأنه - كما خلقهم أول مرة «كما بدأكم تعودون» {فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ} القبور {يَنسِلُونَ} يخرجون مسرعين(1/540)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ} بوقوعه {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} في إبلاغهم ذلك عن ربهم. وهذا القول رد من الملائكة على سؤال الكافرين {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟(1/540)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{إِن كَانَتْ} ما كانت {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يصيحها إسرافيل عليه السلام في سائر الأموات: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والشعور المتمزقة؛ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وهذا معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}(1/540)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ} ما يشغلهم عن التفكر فيما عانوه في الدنيا {فَاكِهُونَ} متنعمون ومنه سميت الفاكهة: لما يلقاه آكلها من شعور بالنعيم، وتلذذ بالنعمة ومنه الفكاهة؛ لانبساط النفس وانشراحها بها(1/540)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
{عَلَى الأَرَآئِكِ} السرر، أو الفرش(1/540)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
{وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ}
[ص:541] ما يتمنون(1/540)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي يسمعون صوت الرحمن الرحيم؛ يقول لهم في الجنان، بصوت لا يحيط به الجنان: سلام عليكم {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً}(1/541)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
{وَامْتَازُواْ} أي انفردوا عن المؤمنين {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} الكافرون. ويقال لهم وقتذاك(1/541)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} آمركم {يبَنِي آدَمَ} على لسان رسلي {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ} ولا تطيعوه {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} عاهد نفسه على إضلالكم، وأقسم على إغوائكم {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(1/541)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} وحدي، وأطيعوني {هَذَا} الاتباع والعبادة {صِرَاطٍ} طريق(1/541)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{وَلَقَدْ أَضَلَّ} الشيطان {مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} ذلك؛ حين رأيتم وقوع غيركم في الضلال(1/541)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
{اصْلَوْهَا} ادخلوها(1/541)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} نخرسهم فلا يتكلمون؛ لأنهم لا ينطقون إلا كذباً؛ أرأيت قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(1/541)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
{وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أعميناها في الدنيا {فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ} ابتدروا طريق الشر والكفر {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} فكيف يبصرون؛ بعد أن أعميناهم؟ ولكنا لعدلنا ورحمتنا: هديناهم الطريق، وأوضحنا لهم السبيل {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} قال تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أو المراد {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أعميناها في الآخرة؛ كما أخرسنا ألسنتهم
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}(1/541)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لمسخناهم في منازلهم، وفي أمكنتهم؛ حيث يجترحون المآثم، ويرتكبون العظائم؛ فجعلناهم قردة، أو خنازير، أو أحجاراً؛ كما مسخنا غيرهم {فَمَا اسْتَطَاعُواْ} بعد مسخهم {مُضِيّاً} في سيئاتهم {وَلاَ يَرْجِعُونَ} وما استطاعوا رجوعاً عن غيهم وكفرهم. أو لم يستطيعوا ذهاباً ولا مجيئاً(1/541)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
{وَمَن نّعَمِّرْهُ} نطل عمره {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي نغير حاله: من قوة إلى ضعف، ومن شباب إلى هرم، ومن جمال إلى قبح(1/541)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي ما علمنا محمداً الشعر؛ حتى تتهمونه بأنه شاعر، وأن ما جاء به من جنس الشعر {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ما يجوز له أن يكون شاعراً {إِنْ هُوَ} ما هو؛ أي القرآن الذي أتى به محمد {إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} واضح، مظهر للأحكام، ولكل ما تحتاجون إليه(1/541)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{لِّيُنذِرَ} به {مَن كَانَ حَيّاً} ذا قلب ولب {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يجب عليهم العذاب الموعود(1/541)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} أي مما خلقناه من غير شريك، ولا معين {أَنْعاماً} هي الإبل، والبقر، والغنم(1/541)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} سخرناها لهم(1/541)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها من ألبانها(1/541)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
{وَاتَّخَذُواْ} عبدوا {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله تعالى بشفاعتها كزعمهم(1/542)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
{وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي إن آلهتهم التي علقوا آمالهم عليها في النصر؛ ستحضر معهم في النار
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {نُّطْفَةٍ} مني. (انظر آية 21 من سورة الذاريات)(1/542)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} شديد الخصومة لنا(1/542)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} بقوله: {مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي خلقنا له أول مرة، ولم يك شيئاً(1/542)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ} تعالى {إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} هذا تقريب لأفهامها والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير حاجة للفظ «كن»(1/542)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{فَسُبْحَانَ} تنزيه وتقديسلله تعالى. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك {كُلِّ شَيْءٍ} والقدرة عليه. والملكوت: الملك، والعز، والسلطان {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فيحاسبكم على ما اجترحتم.(1/542)
سورة الصافات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/543)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
{وَالصَّافَّاتِ صَفَّا} الملائكة تصطف في العبادة، أو تصف أجنحتها. قال تعالى على لسانهم {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} أو هم المؤمنون يصطفون للصلاة. وقيل: الطير؛ لأن في صفها وقبضها، وإمساكها في الهواء؛ من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ما فيه(1/543)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} الملائكة تزجر السحاب وتسوقه بأمر الله تعالى، أو هم المؤمنون: الزاجرون الناس عن المعاصي، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر(1/543)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} الذين يتلون القرآن؛ من سائر المخلوقات. والتأنيث في الجمع هنا على اعتبار أنه جمع طائفة، أو جماعة.
وقيل في هذه الآيات: إنها في المجاهدين؛ يصفون للقتال في سبيلالله، ويزجرون الخيل للجهاد، ويتلون الذكر طلباً للنصر أقسم الله تعالى بملائكته، وصفوة عباده، والمجاهدين في سبيله، والآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المنقطعين لعبادته، العاكفين على تلاوة كتابه. وجواب القسم(1/543)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} لا إله إلا هو، ولا معبود سواه(1/543)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
{رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من مخلوقات، وعجائب؛ لا يعلمها، ولا يحيط بها إلا خالقها {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} جمع مشرق؛ وذلك لأن الشمس لها في كل يوم مشرق ومغرب؛ بعدد أيام العام. أو هو مشرق كل نجم، وكل كوكب. ومشرق الشيء: نوره وطلوعه(1/543)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} وهي أول سماء تلي الأرض {بِزِينَةٍ} وأي زينة {الْكَوَاكِبِ} جمع كوكب؛ وهي النجوم(1/543)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} متمرد، عنيد، جبار(1/543)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
{لاَّ يَسَّمَّعُونَ} لا يتسمعون. أي لا يستطيعون التسمع {إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى} الملائكة في السماء {وَيُقْذَفُونَ} أي الشياطين الذين يحاولون استراق السمع: تقذفهم الملائكة بالشهب(1/543)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
{دُحُوراً} طرداً. والدحور: الطرد والإبعاد. قال تعالى على لسانهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً}
{وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} دائم، موجع. من الوصب: وهو المرض الذي يصل إلى القلب(1/543)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} شعلة من نار تحرقه. والثاقب: النافذ؛ الذي يثقب. والشهب: هي التي ترى في الأفق، كأنها كواكب منقضة(1/543)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{فَاسْتَفْتِهِمْ} اسألهم {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أعظم خلقة، وأمتن بنية، وأشق إيجاداً
[ص:544] {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} من السموات والأرضين، وما فيهما من كائنات ومخلوقات. والمراد: كل ما عدا بني آدم: من الملائكة، والجن، والسموات والأرضين، والكواكب، والبروج، وغير ذلك مما لا يدركه الوصف، ولا يحيط به الوهم {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} لازم؛ أي يلصق باليد(1/543)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{بَلْ عَجِبْتَ} من تكذيبهم لك؛ مع وضوح حجتك {وَيَسْخُرُونَ} مما أرسلت به؛ وهو الحق(1/544)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
{وَإِذَا ذُكِّرُواْ} وعظوا بالقرآن {لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتعظون(1/544)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
{وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي إذا رأوا آية لك، وعلامة على صدقك؛ كانشقاق القمر، ونبع الماء، وما أفاضه الله تعالى عليك من بركات شهدتها الأرض والسماء؛ إذا رأوا بعض ذلك: لم يكتفوا بالاستهزاء بك؛ بل يحضون بعضهم بالسخرية عليك(1/544)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
{وَقَالُواْ إِن هَذَآ} ما هذا الذي أبديته {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر واضح(1/544)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
{أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ} أي هل يبعث آباؤنا الأولون أيضاً؛ رغم قدمهم وبلاء أجسادهم؟(1/544)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
{قُلْ نَعَمْ} تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} ذليلون صاغرون(1/544)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} هي أمر المولى جل وعلا بإحياء الخلائق، أو هي نفخة إسرافيل عليه السلام الثانية {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أحياء ينظر بعضهم لبعض(1/544)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
{وَقَالُواْ يوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} يوم الجزاء(1/544)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشباههم، أو قرناءهم من الشياطين {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ *(1/544)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
مِن دُونِ اللَّهِ}
أي وأصنامهم التي كانوا يعبدونها {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} دلوهم إلى طريق جهنم، أو ادفعوهم إليه {وَقِفُوهُمْ} أي احبسوهم(1/544)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
{إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} عما قدموا؛ فمعذبون عليه(1/544)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
{مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً الآن؛ كما كنتم تتناصرون في الدنيا(1/544)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} عاجزون أذلاء(1/544)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{قَالُواْ} أي قال الأتباع للمتبوعين {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي عن طريق القوة والقهر. والمعنى: إنكم كنتم تحملوننا على الضلال قسراً وجبراً(1/544)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
{سُلْطَانٍ} تسلط وقوة
[ص:545] {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} العذاب، وهو معنى قوله تعالى:(1/544)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ}(1/545)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أضللناكم {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ضالين مضلين(1/545)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
{وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} التي نعبدها وآباؤنا من قبلنا {لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون سيد الفضلاء والعقلاء: محمداً وما هو بشاعر ولا مجنون؛ بل خاتم الأنبياء وخير أهل الأرض والسماء {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}(1/545)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ} القرآن {وَصَدَّقَ} من سبقه وتقدمه من {الْمُرْسَلِينَ} فلم يكذب بأحدهم؛ بل صدق بجميعهم(1/545)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} خمر يجري على وجه الأرض؛ كأنهار الماء التي ترى بالعين. ولا تسمى الكأس كأساً؛ إلا إذا كانت ملأى؛ وإلا فهي كوب(1/545)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
{بَيْضَآءَ} صفة للكأس، أو صفة للخمر. وقرأ عبد الله «صفراء» ويؤيد أنها صفة للخمر قوله تعالى: {لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي ليست كخمر الدنيا: كريهة الطعم، فاسدة الرائحة(1/545)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي لا تغتال العقول كخمر الدنيا؛ التي تجعل شاربها يهرف بما لا يعرف {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكرون؛ فيخلطون. يقال: نزف الشارب: إذا ذهب عقله. أو المعنى: ولا هم عنها يصرفون ويمنعون(1/545)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} اللاتي يقصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يطمحن بأعينهن إلى غيرهم {عِينٌ} جمع عيناء؛ وهي النجلاء: حسناء العين واسعتها(1/545)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شبههن بالبيض المكنون في البياض والصفاء؛ وقد جرت عادة العرب في تشبيه النساء؛ بقولهم: بيضات الخدور(1/545)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} أي بعض أهل الجنة {عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} عما مر بهم في الدنيا؛ وذلك على سبيل المسامرة وقت الشراب(1/545)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} صديق مقارن لي في الدنيا(1/545)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
{يَقُولُ} لي متعجباً {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أي كان ينكر عليّ تصديقي وإيماني بالبعث(1/546)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي أئنا لمحاسبون ومجزيون؟ {قَالَ} هذا القائل لإخوانه؛ الذين يتكلم معهم، ويذكر لهم أخبار قرينه في الدنيا؛ الذي كان ينكر البعث والجزاء؛(1/546)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
قال: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي هل أنتم ناظرون معي إلى النار؛ لننظر حاله وما صار إليه الآن عقوبة على إنكاره وتكذيبه(1/546)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
{فَاطَّلَعَ} فنظر إلى النار هو ومن معه من أهل الجنة {فَرَآهُ} رأى قرينه في وسط النار(1/546)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{قَالَ} مخاطباً قرينه في النار {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {إِن كِدتَّ} قاربت {لَتُرْدِينِ} لتهلكني معك بإغوائك لي(1/546)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي} لطفه ورحمته: أن هداني للإيمان {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار(1/546)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ *(1/546)
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى} التي متناها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} بعد أن تداركتنا نعمة الله تعالى في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنجاة من النيران وهو استفهام تلذذ، وتحدث بنعمة الله تعالى وتقرير لتأبيد الحياة المنعمة، وانعدام التعذيب(1/546)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
{إِن هَذَآ} التنعم الخالد {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا يدانيه فوز(1/546)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{لِمِثْلِ هَذَا} النعيم الدائم} في الدنيا(1/546)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
{أَذَلِكَ} النعيم {خَيْرٌ نُّزُلاً} النزل: ما يعد لإكرام الضيف {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} هي من أخبث الشجر المر؛ ويوجد منه بتهامة. ينبتها الله في الجحيم؛ لتكون طعاماً لأهلها(1/546)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
{إِنَّا جَعَلْنَاهَا} أي جعلنا ذكر هذه الشجرة، وأنها «تخرج في أصل الجحيم» {فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} اختباراً للكافرين؛ حيث قالوا: إن النار تحرق الشجر؛ فكيف تنبته؟ وفاتهم أن الله تعالى هو وحده الذي اختص مخلوقاته بما شاء من مزايا؛ وهو جل شأنه، وتعالت قدرته؛ يرفع مزايا الأشياء إن شاء. ألا ترى أنه جل شأنه منع من النار مزية الإحراق؛ وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم حين شاء(1/546)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
{طَلْعُهَا} ثمرها {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} كرءوس الحيات القبيحة المنظر(1/546)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لخلطاً من ماء حار؛ يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء(1/546)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ} وجدوا(1/546)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} يسرعون(1/547)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أنبياء أنذروهم عاقبة كفرهم، ومآل أمرهم(1/547)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي عاقبة المرسل إليهم؛ حين كذبوا رسلهم؛ فأهلكناهم(1/547)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الذين آمنوا به، وصدقوا رسله؛ فإنهم لم يمسسهم العذاب(1/547)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} كان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام: وهو أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: وهو أبو السودان. ويافث: وهو أبو الترك، والخزر، ويأجوج ومأجوج(1/547)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} ممن تابعه في الدين {لإِبْرَاهِيمَ} الخليل: جد نبينا عليهم الصلاة والسلام(1/547)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{إِذْ جَآءَ} إبراهيم {رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} خالص من الشك والشرك(1/547)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
{أَإِفْكاً آلِهَةً} أي أتعبدون إفكاً؟ والإفك: أسوأ الكذب(1/547)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ أتظنون أنه تارككم بغير حساب وعقاب؟ فانصرفوا عنه؛ بعد أن دعوه إلى مصاحبتهم(1/547)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} أي نظر إلى السماء؛ موهماً لهم أنه يستطلع أخبار النجوم - وقد كانوا ممن يعتقدون ذلك - والتفت إليهم(1/547)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي عليل. وكانوا يخشون العدوى؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله:(1/547)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي أسرعوا بالابتعاد عنه.
وعلم التنجيم: علم قديم شائع ذائع. وقد شغف به كثير من المتقدمين، وأسسوا له أسساً، وبنوا له قواعد؛ وربطوا بين كل إنسان وما يتفق مع ولادته من طوالع الكواكب واقترانها، وقالوا بسعادة بعض الكواكب، ونحوسة بعضها. كما قالوا - تبعاً لذلك - بسعادة بعض المواليد، وشقاوة البعض الآخر. وما من شك أن هناك رابطة بين أجزاء الكائنات، وبالتالي بين الكواكب، وبين الكون الذي نحن فيه. كيف لا؛ والأرض كوكب من بين هاتيك الكواكب أما تعلق الكواكب بسعادة بعض الناس، وشقاوة البعض الآخر؛ فمما لا يسلم به الفكر السليم؛ فكثيراً ما نرى أناساً - لا حصر لهم - يموتون في الحروب؛ في وقت واحد، وآخرين يموتون في حرق أو غرق، وآخرين تحصدهم الأوبئة، وتجتاحهم الطواعين. فكيف اتفق لجميع هؤلاء الشقاوة والنحوسة، مع اختلاف طبائعهم، وتباين أوقات ميلادهم؟ وكثيراً ما نرى أيضاً الرجل صنو الرجل: في مولده، وفي معيشته، وفي دراسته؛ فيفترقان: هذا في قمة السعادة، وذروة المجد؛ وذاك في حضيض البؤس، ودرك الفقر(1/547)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} مال إليها سراً وخفية(1/547)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
{ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي ضرباً بالقوة؛ فكسرها(1/548)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يسرعون؛ حينما رأوا ما حل بآلهتهم(1/548)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم(1/548)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي خلقكم، وما تعملونه بأيديكم من الأصنام؛ فكيف تعبدونها؟(1/548)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} متجه إليه، ومتوكل عليه؛ فإنه {سَيَهْدِينِ} إلى معرفته، وإلى سبل الرشاد(1/548)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ} أي ولداً من الصالحين(1/548)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي لما بلغ الولد أن يمشي، ويسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه؛ وهو إسماعيل جد نبينا؛ عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هو إسحق. وأيد كلا القولين أقوام، ولكل فريق أدلة ساقها، ومراجع ذكرها؛ ولكن الفؤاد يرتاح إلى أنه إسمعيل لا إسحق؛ يدل عليه قوله تعالى في الآية المقبلة {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين {قَالَ يبُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ورؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: وحي(1/548)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} انقادا لأمره تعالى، ولإرادته جل شأنه: أسلم الأب ابنه، والابن نفسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه في الأرض على جبينه، ووضع السكين على حلقه(1/548)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
{وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ *(1/548)
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} وفعلت ما أوحينا به إليك، وأمرناك به(1/548)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} الاختبار البين(1/548)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قيل: نزل له جبريل عليه السلام بكبش عظيم؛ فذبحه مكان ابنه.
والقرآن الكريم لم يورد ما أورده من القصص عبثاً؛ وإنما أورده للذكرى والاعتبار والاستبصار وقد أراد الله تعالى بإيراد هذه القصة: أن يعلمنا إلى أي مدى يطيع الابن أباه؛ ليرضي مولاه فالواجب على من أحبالله، وأحبهالله: أن يكون مع والديه كالميت في يد المغسل: هل يستطيع أن يقول له أف لقد برد الماء، أو أف لقد زادت حرارته؟(1/548)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} في الأمم المتأخرة بعده(1/548)
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
{سَلاَمٌ} منا {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو - عليه الصلاة والسلام - يصلي عليه ويسلم كل مؤمن، في كل صلاة؛ تحية مباركة من الله(1/549)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} بتكثير ذريته من المؤمنين، وجعل ملته خير الملل «قل بل ملة إبراهيم حنيفاً» {وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي وباركنا أيضاً على ولده إسحق، بأن جعلنا من نسله أكثر الأنبياء {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} مؤمن {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} كافر: ظلم نفسه؛ بتعريضها للجحيم، والعذاب الأليم(1/549)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} بالنبوة(1/549)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} من آمن بهما من بني إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} استعباد فرعون لهم، وتقتيله لأبنائهم(1/549)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} القوي البيان؛ لما احتواه من أوامر ونواه، وحدود وأحكام، وغيرها. وهو التوراة(1/549)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قيل: هو إدريس النبي عليه السلام؛ ويعضده قراءة ابن مسعود «وإن إدريس» مكان «إلياس» وهذه القراءة شاذة لمخالفتها المصحف الإمام.
و {إِلْيَاسَ} النبي؛ غير اليأس: جد نبينا عليه الصلاة والسلام. وصحة اسمه اليأس - بفتح الياء وسكون الهمز - لا «إلياس» كما رواه الرواة خطأ، ونقله عنهم الناقلون. وسمي بالياس: لأنه أول من ابتلي باليأس - بفتح الهمز - وهو السل(1/549)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{أَتَدْعُونَ} أتعبدون {بَعْلاً} اسم صنم لهم(1/549)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} في النار(1/549)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} في الأمم المتأخرة بعده(1/550)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي على إلياس وقومه المؤمنين(1/550)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
{إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} أي الباقين في العذاب؛ وهي امرأته(1/550)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أهلكناهم(1/550)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} أي على منازلهم، وتشاهدون آثارهم، وترون آثار نقمتنا وتعذيبنا {مُّصْبِحِينَ} وقت الصبح(1/550)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
{وَبِالْلَّيْلِ} أي ترون ذلك في أسفاركم ليلاً ونهاراً {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك؛ فتتعظون بما حل بهم؟(1/550)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
{إِذْ أَبَقَ} هرب من قومه، ومن تعذيبهم وأذاهم له. وأبق العبد: إذا هرب واستخفى {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} السفينة المملوءة(1/550)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
{فَسَاهَمَ} أي فزاحم؛ ليأخذ له سهماً ونصيباً في ركوب الفلك {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي فزلق في البحر. وكثيراً ما يحصل هذا عند التزاحم على الركوب في السفن المشحونة، وغيرها. يقال: دحضت رجله: زلقت. ودحضت الحجة: بطلت. أو «فساهم» من المساهمة. أي فقارع. قيل: إنه لما ركب في السفينة؛ وقفت بهم في عرض البحر. فقال الملاحون: لا بد أن يكون بيننا عبد آبق من سيده؛ واقترعوا فيما بينهم، فخرجت القرعة عليه. فقال: أنا الآبق. وألقى بنفسه في الماء. وسمي آبقاً: لأنه هرب من قومه قبل أن يأذن له ربه بالانصراف عنهم(1/550)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} ابتلعه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي واقع في الملامة، ومستوجب للوم(1/550)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}
في بطن الحوت(1/550)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
{لَلَبِثَ} لمكث {فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لم يفتر لسانه عليه الصلاة والسلام - حين التقمه الحوت - عن قول «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» فأنجاه الله تعالى بسببها؛ وقد ورد أن من قرأها في مهلكة: أنجاه الله تعالى منها بمنه وفضله(1/550)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{فَنَبَذْنَاهُ} طرحناه؛ كما ينبذ آكل التمر النواة {بِالْعَرَآءِ} جعل الله تعالى الحوت يقذفه من جوفه؛ في أرض عراء؛ لا شجر فيها ولا نبات {وَهُوَ سَقِيمٌ} مريض؛ مما حل به في بطن الحوت، ومما اعتراه من خشية غضب الله تعالى عليه(1/550)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} وهو الدباء «القرع» ويطلق اليقطين على كل شجرة تنبسط على وجه الأرض، ولا تقوم على ساق(1/550)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
{فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي إلى حين انقضاء آجالهم(1/550)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} وذلك لقولهم: الملائكة بناتالله. أي كيف تنسبون له الولد؛ وهو تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}؟ ولم تكتفوا بذلك؛ بل نسبتم إليه البنات، وهن أخس الجنسين - في نظركم - قال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}(1/551)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)
{مِّنْ إِفْكِهِمْ} كذبهم(1/551)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
{أَصْطَفَى} أي هل اختار(1/551)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
{مَا لَكُمْ} أي ماذا دهاكم، وماذا جرى لعقولكم؟ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد(1/551)
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)
{أَمْ لَكُمْ} على ذلك الزعم {سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} حجة ظاهرة على ما تدعونه(1/551)
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
{فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ} الناطق بصحة دعواكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم {وَجَعَلُواْ} أي المشركون {بَيْنَهُ} تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي الملائكة؛ وسموا جناً: لاجتنانهم عن الأبصار؛ أي اختفائهم. أو أريد بالجنة: الجن {نَسَباً} وذلك لأن قريشاً زعمت أن الملائكة بنات الله وأمهاتهم من بنات الجن. وقيل:(1/551)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي الشياطين «نسباً» أي مناسبة؛ حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة. والقول الأول: أولى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} أي الملائكة {إِنَّهُمْ} أي قائلي ذلك {لَمُحْضَرُونَ} في النار؛ يعذبون فيها على ما قالوا، وما فعلوا(1/551)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
{سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه، وتقدس، وتعالى {عَمَّا يَصِفُونَ} من نسبة الشريك والولد إليه(1/551)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الذين لم يشب إيمانهم شك أو شرك؛ فإنهم ناجون(1/551)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} من الأصنام(1/551)
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي على الله {بِفَاتِنِينَ} أحداً. أي بمضلين، أو غالبين(1/551)
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
{إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} في علمه تعالى؛ وقد تخلى عنه حفظه وكلاءته، وبعدت منه نعمته ورحمته(1/551)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} لا يتجاوزه، ولا يتعداه؛ وهو قول الملائكة عليهم السلام؛ تبرأوا مما نسبه إليهم المشركون(1/551)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} أقدامنا في الصلاة، وفي الطاعة(1/551)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)
{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} أي كفار مكة(1/551)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ} أي لو أن عندنا كتاباً من جنس كتب المتقدمين؟ فنزل إليهم خير كتب الله تعالى، وأوفاها، وأهداها «القرآن»(1/551)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
{فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة كفرهم.(1/551)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} وعدنا وتقديرنا بالنصر(1/552)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرض {حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن تؤمر بقتالهم(1/552)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
{وَأَبْصِرْهُمْ} ذكرهم بتكذيبهم حين ينزل العذاب بهم {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} عاقبة ذلك(1/552)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
{فَإِذَا نَزَلَ} العذاب {بِسَاحَتِهِمْ} بفنائهم. والمراد: نزل بهم. وتعبر العرب عن القوم بالساحة(1/552)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرض(1/552)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
{سُبْحَانَ رَبِّكَ} تعالى وتقدس {رَبِّ الْعِزَّةِ} رب العظمة والغلبة {عَمَّا يَصِفُونَ} بأن له شريكاً أو ولداً(1/552)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
{وَسَلاَمٌ} من الله تعالى {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وأنت إمامهم(1/552)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أن هداك، وهدى بك(1/552)
سورة ص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/552)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
{ص} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أي ذي البيان والشرف(1/552)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ} واستكبار عن الإيمان به
[ص:553] {وَشِقَاقٍ} خلاف، وأي خلاف بل أي شقاق أعظم وأفدح من إعداد الأمم الغربية للقنابل الذرية والهيدروجينية؛ ليحارب بها بعضهم بعضاً، ويفني بعضهم بعضاً؛ ويزعمون أنهم أشياع عيسى عليه السلام. وعيسى منهم براء، وهم في الكفر سواء فلينظر هذا وليعتبر به من ألقى السمع وهو شهيد(1/552)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أمة {فَنَادَواْ} بالتوبة والاستغفار، والاستغاثة؛ عند نزول العذاب بهم {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي ليس الوقت وقت نجاة، ولا وقت خلاص. و «لات»: ليس. و «مناص»: ملجأ(1/553)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
{وَانطَلَقَ الْمَلأُ} الأشراف أو الجماعة {مِنْهُمْ} حين سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد: انطلقوا يقولون {امْشُواْ} من مجلس الرسول؛ الذي يذكر فيه دينه، وربه، وكتابه {وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ} اثبتوا على عبادتها؛ ولا تعبأوا بدعوته {إِنَّ هَذَآ} الذي يقوله محمد ويدعيه {لَشَيْءٌ يُرَادُ} بنا ومنا؛ ويريد به محمد الزعامة والرئاسة علينا(1/553)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} يعنون ملة عيسى عليه السلام. وقد كذبوا في ذلك؛ فلم تقم ملة عيسى إلا على التوحيد الذي قامت عليه ملة محمد، وملل سائر الأنبياء؛ عليهم الصلاة والسلام. وإنما أرادوا به التثليث الذي قالت به النصارى، وزعمت أنه دين عيسى {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} كذب مختلق لا أصل له(1/553)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن {مِن بَيْنِنَا} من دوننا؛ وهو الضعيف ونحن الأقوياء، الفقير ونحن الأغنياء، ولا عصبة له ونحن أولوا العصبة وذووا الحمية. قال تعالى {بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي}
من قرآني، وحقيقة نزوله على نبيي {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} لم يذوقوا عذابي ولو ذاقوه لآمنوا وصدقوا(1/553)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} فيهبون النبوة لمن شاءوا، وينزلون الذكر على من أرادوا(1/553)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
{فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ} أي فليصعدوا إلى السموات، ويمنعوا الملائكة من النزول على محمد(1/553)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} أي أن هؤلاء المكذبين المتكبرين: هم جند {مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ} الذين تحزبوا على عدائك، وتجمعوا لمحاربتك(1/553)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{وَعَادٌ} قوم هود {وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} سمي بذي الأوتاد: لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتاد: في يديه ورجليه. أو هو كناية عن ثبوت ملكه، وقوة سلطانه. أو كناية عن المباني العظيمة الثابتة. أو صاحب الجنود. وتسمى الجنود أوتاداً: لأنها دعائم الملك والقوة والسطوة والسلطان(1/553)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
{وَثَمُودُ} قوم صالح {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر. قيل: هم قوم شعيب عليه السلام {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} أي أولئك الأقوام الذين ذكرتهم لك: هم مثل الأحزاب الذين تحزبوا عليك؛ وسأجزيهم مثل ما جزيتهم(1/553)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} هي نفخة القيامة عند البعث {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} من رجوع، أو من إمهال قدر فواق الناقة؛ وهو ما بين حلبتي الحالب(1/554)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} حظنا من النعيم أو العذاب(1/554)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} ذا القوة في الدين {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلى الله تعالى(1/554)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
{يُسَبِّحْنَ} مع تسبيحه ويرددن مع ترديده {بِالْعَشِيِّ} وقت العشاء {وَالإِشْرَاقِ} عند شروق الشمس(1/554)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} مجموعة من كل ناحية. قيل: كان إذا سبح: رددت الجبال والطير تسبيحه(1/554)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}
النبوة، وكمال العلم. وقيل: الزبور {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} القضاء الفاصل بين الحق والباطل(1/554)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
{وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمد {نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ} أي تسلقوا حائطه. و «المحراب» المسجد، أو الغرفة(1/554)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
{وَلاَ تُشْطِطْ} أي ولا تتجاوز الحد {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} إلى الطريق السوي القويم(1/554)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
{أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنيها؛ لأنها كفلي، ومن نصيبي {وَعَزَّنِي} غلبني(1/554)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ} الشركاء الذين اختلط مالهم
[ص:555] {لَيَبْغِي} ليجور {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في المعاملات. هذا وقد ذهب أكثر المفسرين - في قصة داود عليه السلام - إلى أقاصيص من وضع اليهود والزنادقة: وزعموا أنه عليه السلام رأى زوجة أوريا عريانة - وهو أحد قواده - فتعلق بها، وأراد أن يتزوجها: فأرسل زوجها إلى القتال - على رأس جيش ليقتل فيتزوجها - فانتصر أوريا، وعاد سالماً. فأرسله ثانياً وثالثاً؛ إلى أن قتل؛ فتزوج داود عليه السلام زوجته التي رآها عريانة وأحبها من قبل؛ فأرسل الله تعالى ملكين على صورة خصمين؛ فاحتكما إليه في خصومة وهمية؛ كما وردت في سياق القرآن الكريم. وهذه القصة فضلاً عن أنها تكفر واضعها؛ فإنها أيضاً تكفر معتقدها ومصدقها: إذ أنه لا يصح نسبة ذلك لعامة المسلمين، وجهلة الفساق؛ فما بالك بخواص الأنبياء ولا يجوز بحال صرف هذه القصة عن ظاهرها؛ فليتدبر ذلك من له عقل سليم، ودين قويم وإنما أوردت هذه القصة وأمثالها للتحذير منها، والتنبيه على بطلانها. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: «من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص: جلدته مائة وستين» وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يبغون {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} قال الفضلبن عياض رضي الله تعالى عنه: الزم طرق الهدى؛ ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة؛ ولا تغتر بكثرة الهالكين {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}
اختبرناه بتلك الزلة. وزلته: أنه حكم قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر؛ بقوله {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وهي زلة عظيمة بالنسبة لعموم القضاة؛ فما بالك بنبي الله داود عليه السلام وقد قضت القوانين الوضعية برد القاضي إذا أبدى رأيه أثناء سير الدعوى(1/554)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
{وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي هوى النفس(1/555)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} أي لو بطل الجزاء؛ كما يقول الكفار بإنكارهم البعث والحساب؛ لاستوت أحوال من أصلح وأفسد، ومن اتقى وفجر(1/555)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
{أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذوو العقول(1/555)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
{أَوَّابٌ} كثير الرجوع إلى الله تعالى(1/555)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{الْجِيَادُ} الخيل السراع(1/556)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي آثرت حب الخيل حتى فاتتني صلاة العصر، وتوارت الشمس بالحجاب(1/556)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أي فجعل يمسح بيده على سوق الخيل وأعناقها. وهي عادة مشاهدة عند المعجبين بالخيل، المقتنين لها. أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين: من أنه عليه السلام طفق يقطع أعناقها وسوقها بالسيف؛ لأنها ألهته عن الصلاة. فهو قول واضح البطلان؛ وإلا فأي ذنب جنته هذه العجماوات تستحق عليه التقتيل والتمثيل؟ فضلاً عما في ذلك من تلف الأموال، ونسبة الأنبياء إلى فعل السفهاء والجهال وكان في مقدوره أن يخرجها من ملكه إلى الجهاد؛ وبذلك يتم له التخلص منها؛ مع نفع هو من أجل القرب إلى الله تعالى ولم يقل أحد: إن المسح بمعنى القطع. وإلا لكان قوله تعالى {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} أي اقطعوها. وإنما يعدل عن الظاهر: إذا اقتضت القرينة والسياق ذلك: كأن يقول: فطفق مسحاً بالسيف بالسوق والأعناق(1/556)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ابتليناه {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} أي رزقناه ولداً ميتاً؛ وجيء به على كرسيه. قال: «قال سليمانبن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة - أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيلالله. فقال له صاحبه: إن شاءالله. فلم يقل إن شاء الله فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاءالله: لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» ولعل سليمان لم يقلها: لأنه لم يتذكرها، ولم يسمعها من صاحبه الذي وجهه إلى قولها؛ لأن الأنبياء عليهم السلام: أئمة المتوكلين المنيبين
{أَنَابَ} رجع إلى الله تعالى، وتاب عن الانشغال عن الصلاة بما عداها، وعن عدم تقدير مشيئة الله تعالى في أموره كلها(1/556)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تجري طيبة لينة حيث أراد(1/556)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا الشياطين له: يبنون ما يريد، ويغوصون في البحر بأمره؛ لاستخراج اللؤلؤ(1/556)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
{وَآخَرِينَ} من الشياطين {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} مقيدين في السلاسل والأغلال؛ إذا أتوا ذنباً، أو عصوا له أمراً(1/556)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
{هَذَآ} الملك الواسع، والعلم الكبير، والتسخير العظيم {عَطَآؤُنَا} الذي أعطيناكه؛ استجابة لدعوتك: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} {فَامْنُنْ} على من شئت؛ مما أعطيناك من الملك الذي لا حدود له {أَوْ أَمْسِكْ} لا تعط أحداً {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا نسألك: لم مننت؟ ولم أمسكت؟ أو المراد: «فامنن» على من شئت من الشياطين؛ بالإطلاق «أو أمسك» دع من شئت
[ص:557] منهم في قيده وعبوديته. وهذا وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذه الآية؛ تخبطاً شنيعاً، وقال فيه قولاً لا يتفق وجلال القرآن فقال قائلهم: إن معنى قوله تعالى {هَذَا عَطَآؤُنَا} إشارة إلى ما أعطاه الله من القوة على الجماع، وأن «فامنن» مشتقة من المني. وهو قول بالغ غاية البذاءة والأعجب من ذلك أن ينسبوه لابن عباس - حبر الأمة، وترجمان القرآن - وعلم الله تعالى أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بريء من هذا القول وأشباهه(1/556)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى} قربى {وَحُسْنَ مَآبٍ} حسن مرجع(1/557)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} بتعب ومشقة؛ وذلك أنه كان يوسوس إليه، ويعظم في عينيه ما نزل به من الإبتلاء بفقد صحته وفقد ماله وأهله، ويغريه على الجزع، وعدم الصبر فالتجأ إلى ربه تعالى ليكشف عنه البلاء الذي تسبب في تدخل الشيطان بينه وبين ربه {وَعَذَابٍ} قيل: النصب، والضر: في الجسد. والعذاب: في الأهل والمال. ونسبة التعب، والضر، والعذاب؛ إلى الشيطان: تأدب في حقه تعالى كقول إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: وإذا أمرضني. وقيل: تسبب الشيطان في تعبه وتعذيبه: بوسوسته له بأن يسأل ربه البلاء؛ ليمتحن نفسه، ويجرب صبره؛ كما قال العارف بالله: الإمام عمربن الفارض:
وبما شئت في هواك اختبرني
فاختياري ما كان فيه رضاكا
هذا وسؤال البلاء؛ دون العافية: ذنب يجب الإقلاع عنه، والاستغفار منه فلما فطن أيوب إلى ذلك لجأ إلى ربه؛ ليكشف ما به، أو يوفقه للصبر الجميل (انظر آيتي 83 و84 من سورة الأنبياء)(1/557)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي لقد أجيبت دعوتك؛ فاضرب برجلك الأرض. فضربها فنبعت عين ماء. فقيل له: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}(1/557)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
{لأُوْلِي الأَلْبَابِ} لذوي العقول(1/557)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} حزمة صغيرة من حشيش. والضغث: ملء الكف من قضبان، أو حشيش، أو شماريخ {فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} كان أيوب عليه السلام قد آلى في مرضه أن يضرب امرأته مائة؛ لما رأى من شدة جزعها وحزنها، أو لأنها باعت ذؤابتيها برغيفين؛ فأنزل الله تعالى هذه الفتوى. هذا وإن التحايل في الأيمان لا يجوز؛ وإنما جاز في هذه الحالة؛ لأنه حلف محقاً، وهي فعلت ما فعلت محقة. وذلك لأن الشقاء والمرض: ألجآها إلى الفزع والجزع. وألجأها الجوع إلى بيع الشعر وقد دفعه إلى الحلف: مزيد ثقته بربه، وعلمه بأن الجزع منقصة للإيمان، وأن بيع الشعر - وهو جزء
[ص:558] من الجسم، وحلية تتحلى بها المرأة - منقصة للتوكل {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله تعالى(1/557)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
{أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} ذوي القوة في نصرة الدين والتبصر(1/558)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ} أي جعلناهم خالصين لنا {بِخَالِصَةٍ} هي {ذِكْرَى الدَّارِ} الآخرة. أي تذكرها والعمل لها(1/558)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
{هَذَا ذِكْرٌ} لهم؛ بالثناء الجميل عليهم في الدنيا {لَحُسْنَ مَآبٍ} حسن مرجع في الآخرة(1/558)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} جنات الإقامة. عدن بالمكان: أقام فيه(1/558)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
{يَدْعُونَ فِيهَا} أي يطلبون في الجنات؛ فيجابون إلى طلبهم(1/558)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي يقصرن أبصارهن على أزواجهن {أَتْرَابٌ} جمع ترب. أي في سن واحدة؛ لا تعدو سن الجمال والشباب(1/558)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
{مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي ليس له انقطاع(1/558)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الحميم: الماء البالغ نهاية الحرارة والغساق: ما يسيل من صديد أهل النار(1/558)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
{وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي وعذاب آخر في الشدة مثل العذاب الأول؛ وهو أصناف(1/558)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
{هَذَا فَوْجٌ} جمع {مُّقْتَحِمٌ} داخل {مَّعَكُمْ} في النار؛ وذلك أن قادة الكفار ورؤساءهم إذا دخلوا النار، ثم دخلوا بعدهم الأتباع: قال خزنة جهنم للقادة والرؤساء {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} فتقول السادة {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} فتقول الملائكة {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} داخلوها معكم(1/558)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
{قَالُواْ} أي قال الأتباع للرؤساء {بَلْ أَنتُمْ} يا من أضللتمونا وأغويتمونا {لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} لأنكم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أي قدمتم لنا في الدنيا أسباب العذاب الذي نصطليه الآن؛ و(1/558)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
{قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} العذاب؛ وسوغ أسبابه في الدنيا، وحببه إلينا {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} أي عذاباً مضاعفاً فيها(1/558)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
{وَقَالُواْ} جميعاً لبعضهم متسائلين {مَا لَنَا لاَ نَرَى} معنا في النار {رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ} يعنون الفقراء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام؛ كعمار، وصهيب، وبلال، وأمثالهم(1/558)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} أي كنا نسخر منهم في الدنيا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَرُ} أي مالت عنهم؛ فلم نرهم في النار معنا. قال الحسن رضي الله تعالى عنه: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخرياً، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم. وقيل: «أم» بمعنى بل(1/558)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{إِنَّ ذَلِكَ} المذكور {لَحَقٌّ} واقع {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} في النار(1/558)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي ما أنذركم به؛ من الحساب، والثواب والعقاب: خبر عظيم القدر، جليل الخطر؛ فلا تستهينوا به، ولا تهزأوا منه(1/558)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأَعْلَى} بالملائكة {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في أمر آدم: وهو قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} وقول إبليس {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} والإخبار بجميع ذلك لا يكون إلا بتأييد إلهي، ووحي غيبي(1/558)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
{إِن يُوحَى إِلَيَّ} ما يوحى إلي}(1/558)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
{أَسْتَكْبَرْتَ} الآن عن أمري {أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} المتكبرين أصلاً.
وقيل: «العالين» هم ملائكة السماء - ولم يؤمروا بالسجود لآدم - وإنما أمر بالسجود ملائكة الأرض فحسب(1/559)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود(1/559)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
{إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة فأمهلني(1/559)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أقسم اللعين بعزة الله ليغوين بني آدم أجمعين(1/559)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
{قَالَ} الله تعالى {فَالْحَقُّ} مني، أو فأنا الحق {وَالْحَقَّ أَقُولُ} أي ولا أقول إلا الحق؛ وإذا قلت فلا راد لقولي، ولا مانع لإرادتي. أو «فالحق» ما تقول يا إبليس: من أن عبادي المخلصين: لا قدرة لك على إغوائهم ولا سلطان لك عليهم «والحق أقول» من إدخالك جهنم أنت ومن تبعك(1/559)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ} أي من جنسك أيها الشيطان {وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من الناس الذين أقسمت على إغوائهم فاتبعوك(1/559)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
{قُلْ} يا محمد لأهل مكة {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ، أو على القرآن {وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي المتصنعين، المدعين، المرائين. والتكلف أيضاً: التعسف والتشكك(1/559)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي صدق ما جاء به القرآن {بَعْدَ حِينِ} أي حين تقوم الساعة، ويساق المؤمنون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، أو حين موتكم.(1/559)
سورة الزمر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/560)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ} أي مخلصاً في عبادته، صادقاً في محبته (انظر آية 17 من سورة البقرة)(1/560)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الذي لا تشوبه شائبة، ولا يقصد به غير وجهه تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال: (والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه) ثم تلا: «ألا لله الدين الخالص» {زُلْفَى} قربى {لاَّصْطَفَى} لاختار(1/560)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن صفات المخلوقين(1/560)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} التكوير: اللف، واللي. والمعنى: أنه تعالى يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان الليل وزيادة النهار، ونقصان النهار وزيادة الليل. ونظيره: قوله تعالى «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» أو هو تشبيه لجريانهما، وأن كلاهما يكر على الآخر: فيحجبه {كُلِّ} من الشمس والقمر
[ص:561] {يَجْرِي} في فلكه، ويقوم بما سخره فيه ربه {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء الدنيا؛ حين تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض(1/560)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} خلقها تعالى بيده. وهي آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} أي من جنسها {زَوْجَهَا} حواء {وَأَنزَلَ لَكُمْ} أي خلق لكم {مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذكراً وأنثى: من الإبل، والبقر، والغنم، والمعز {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} أي نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم إلى تمام التكوين {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ظلمة الصلب، وظلمة الرحم، وظلمة البطن {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته تعالى؛ إلى عبادة غيره؛ بعد ظهور هذه الدلائل، وثبوت هذه الحقائق؟(1/561)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وكيف يرضى تعالى بالكفر، وقد نهى عنه، وأوعد عليه. وأمر بالإيمان، وحث عليه، ورغب فيه، ووعد بجزائه؟ {} تؤمنوا {يَرْضَهُ لَكُمْ} ويثبكم عليه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى. والمعنى: أنه لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيحاسبكم عليه، ويجزيكم به {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب(1/561)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ} مرض وفقر {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً} أعطاه إياها؛ كرماً وتفضلاً. والمراد بالنعمة: الصحة والغنى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} أمثالاً ونظراء يعبدهم(1/561)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} مطيع عابد {آنَآءَ اللَّيْلِ} ساعاته {يَحْذَرُ} يخاف {الآخِرَةِ} وما فيها من أهوال وجحيم، وعذاب أليم
[ص:562] {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} نعمته وجنته {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} فيؤمنون، ويرجون رحمة ربهم، ويخشون عذابه {وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} فيكفرون، ويجعلونلله أنداداً {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذوو العقول(1/561)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بالإيمان والطاعة {حَسَنَةٌ} الجنة؛ جزاء لإحسانهم {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فهاجروا إليها، وسيروا فيها؛ إذا خشيتم على دينكم، أو أوذيتم في أوطانكم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} على الطاعات، وعن المعاصي {أَجْرَهُمْ} جزاءهم {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي أجراً كبيراً، وجزاء عظيماً؛ لا يوزن بأعمالهم؛ بل هو عطاء ربك الملك الوهاب(1/562)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
{قُلْ} لهم يا محمد {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} أي صادقاً في العبادة، موفياً حقها؛ من الإخلاص والمواظبة. (انظر آية 17 من سورة البقرة)(1/562)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب خسروا {أَهْلِيهِمْ} المراد بأهليهم: أزواجهم المعدة لهم في الجنة؛ من الحور العين. أو خسروا صحبة أهليهم؛ لأنهم كفروا فذهبوا إلى النار، وآمن أهلوهم فذهبوا إلى الجنة. كفرعون في النار بكفره، وآسية زوجه في الجنة بإيمانها {لَهُمُ} أي للكفار «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم»(1/562)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
لهم {مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} طبقات {مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} مثلها {ذَلِكَ} المذكور من شأن أهل النار من الكفار {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} ليؤمنوا به ويتقوه(1/562)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ} الأوثان، أو الشيطان، أو هو كل رأس في الضلال {وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ} آمنوا به، ورجعوا إليه {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالجنة ونعيمها(1/562)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
{وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذووا العقول(1/563)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} وجبت عليه {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} وهي قوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} بدعوتك؛ وقد أعرضوا عنها، ولم يؤمنوا بها، واستوجبوا كلمة العذاب(1/563)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ} فآمنوا به، واتبعوا رسوله {لَهُمْ غُرَفٌ} في الجنة {ثُمَّ يَهِيجُ} يجف ذلك الزرع {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد نضارته وحسنه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} متكسراً(1/563)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنزال للماء، وسلوكه ينابيع في الأرض، وإخراج الزرع المختلف الألوان، ثم اصفراره وتكسره «إن في ذلك» جميعه {لَذِكْرَى} تذكيراً بقدرة الله تعالى، ووحدانيته؛ وأن القادر على فعل ذلك: قادر على أن يحيي الموتى {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} لذوي العقول(1/563)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} بسطه {لِلإِسْلاَمِ} فاتبعه، وأقام حدوده {فَهُوَ عَلَى نُورٍ} هداية {مِّن رَّبِّهِ} أي أهذا المتبع للإسلام، المهتدي بهداية الله تعالى «كمن هو أعمى» {فَوَيْلٌ} شدة عذاب {لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الذين لا يفقهون، ولا يرون النور؛ فويل لهم {مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أي من ترك ذكر الله تعالى؛ فإذا ذكر أمامهم: ازداد كفرهم، وقست قلوبهم أو المراد بذكرالله: القرآن الكريم. أي فويل للقاسية قلوبهم مما قضاه عليهم القرآن الكريم؛ من عذاب أليم مقيم(1/563)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} يشبه بعضه بعضاً: في البيان، والحكمة، والإعجاز {مَّثَانِيَ} جمع مثنى؛ أي مردداً ومكرراً: لا يمل من ترديده وتكراره؛ بل كلما تكرر: ازداد حلاوة وبهاء وكل هذا واضح محسوس؛ لكل من تذوقه وعرفه أو تثنى فيه المواعظ والأحكام؛ لترسخ في ذهن القارىء والسامع {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي كلما سمعوا آيات الوعيد والعذاب: اقشعرت جلودهم. واقشعرار الجلد لا يكون إلا عند شدة الخوف، ومزيد الرعب {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} عند ذكر آيات رحمته ومنته، ومغفرته ونعمته(1/563)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} أي يتلقى به {سُوءِ الْعَذَابِ} أشده وأقبحه وأشنعه {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {ذُوقُواْ} عقوبة {مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تعملون في الدنيا(1/564)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} القتل، والأسر، والذل، والهوان من عذاب الدنيا وأشد(1/564)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} تقريباً لعقولهم، وتيسيراً لأفهامهم(1/564)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{قُرْآناً عَرَبِيّاً} بلغتهم التي يفهمونها ويتقنونها {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي مستقيماً، بريئاً من التناقض؛ لا لبس فيه ولا إبهام(1/564)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} للكافر، الذي يعبد آلهة متعددة كالأصنام، أو من يعبد المال؛ ويتقيد بجمعه وحفظه، أو من يعبد هواه {رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} متنازعون ومختلفون وهو كناية عن تحيره في أهوائه، وتنازع قلبه بين مطالبه التي يزينها له شيطانه {وَرَجُلاً سَلَماً} أي سالماً، خالصاً من الشركة. وهو مثل للمؤمن الذي يعبد إلهاً واحداً؛ لا يطيع غيره، ولا ينقاد لسواه فلا المال يطغيه، ولا الهوى يقوده(1/564)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
{إِنَّكَ} يا محمد {مَيِّتٌ} رغم رفعة قدرك، وعلو منزلتك {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} رغم انحطاطهم وتفاهتهم؛ فلا شماتة في الموت: فسيموت الأعلى والأدنى(1/564)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} بأن تحتج عليهم بتبليغك الرسالة، ويعتذرون عن عدم قبولها بما لا طائل وراءه(1/564)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ} بأن نسب إليه تعالى الشريك والولد {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} القرآن
[ص:565] {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} مأوى لهم(1/564)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
{وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ} النبي: جاء بالقرآن الكريم الذي {وَصَدَّقَ بِهِ} وهم المؤمنون. صدقوا به، وبما أنزل عليه من الصدق(1/565)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ} يمحو {عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ} من كفرهم قبل إيمانهم، وعصيانهم قبل توبتهم(1/565)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} حفظاً، ورزقاً، وعوناً، وكلاءة {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} بالأصنام؛ وقد كانت قريش تقول للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: إنا نخاف عليك أن تخبلك آلهتنا، وعلم الله تعالى أنهم هم وآلهتهم المخبولون(1/565)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} قوي، غالب لا يغلب {ذِي انتِقَامٍ} ممن يكفر به، أو يعصيه(1/565)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} مرض، أو فقر، أو أذى {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} يعني: هل تستطيع هذه الأصنام أن تكشف الضر الذي أراده الله تعالى {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} نعمة، وعافية، وغنى {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} الذين هداهم سبحانه للتوكل عليه، والإنابة إليه (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/565)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
{قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالتكم التي أنتم عليها، والعداوة التي تمكنتم فيها(1/565)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أي فثواب هدايته عائد على نفسه(1/566)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا} أي يقبضها عند انتهاء آجالها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} عن سعيدبن جبير رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى يمسك أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا {فَيُمْسِكُ} تعالى روح النفس {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا تقوم من منامها {وَيُرْسِلُ} النفس {الأُخْرَى} التي لم يقض عليها بالموت في منامها {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء عمرها؛ المكتوب لها في عالم الأزل. والنوم: هو الموت الأصغر؛ كما أن الموت: هو النوم الأكبر. قال: «كما تنامون فكذلك تموتون، وكما توقظون فكذلك تبعثون».
ومن عجب أن ترى الإنسان دائب البحث، حثيث السعي؛ وراء ما يجلب له النوم، ويدفع عنه الأرق؛ في حين أن فرائصه لترتعد جزعاً وفرقاً حين يذكر أمامه الموت والموت لا يعدو أن يكون نوماً هادئاً مريحاً؛ يمتاز بكثير عن النوم الذي يسعى إليه، وينفق الأموال في اجتلابه؛ وليس ثمة مدعاة للجزع والخوف؛ ما دام الإنسان ممتلئاً صدره إيماناً بالله، ويقيناً بوجوده، واطمئناناً لجزائه ولذا تحدى الله تعالى اليهود - حينما زعموا أنهم أولياؤه وأحباؤه - بقوله: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأجاب عنهم بما في صدورهم: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} فاحرص - يا من هديت إلى الإيمان والعرفان - على طاعة الله تعالى، واجتلاب مرضاته؛ لتنام خير منام، وتبعث خير مبعث، وتلقى خير جزاء، وأوفر نعيم (انظر آية 60 من سورة الأنعام)(1/566)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي نفرت وانقبضت {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات والعزى(1/566)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ} خالق ومبدع {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما، ومن فيهما {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما غاب، وما شوهد {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} يوم القيامة؛ في اليوم الموعود: الذي أنكروه وكفروا به، وآمن به المؤمنون، وعملوا له(1/566)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} من مال، وعقار، وأنعام {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أنفسهم {مِن سُوءِ الْعَذَابِ} بؤسه وشدته وقسوته {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ} ظهر لهم من أمره، وحقيقة وجوده، وصدق وعده ووعيده {مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} يحسبون، ويظنون. أو أنهم عملوا أعمالاً في الدنيا؛ وتوهموا أنها حسنات؛ فإذا هي سيئات. روي عن سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه - في هذه الآية - ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء؛ هذه آيتهم وقصتهم. اللهم باعد بيننا وبين الرياء في أعمالنا وعباداتنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم يا كريم(1/567)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{وَبَدَا لَهُمْ} ظهر {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} عقاب ما عملوا من الكفر والمعاصي {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي عقاب استهزائهم بمحمد وبكتابه(1/567)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
{فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ} مرض، أو فقر {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً} أعطيناه غنى وصحة؛ تفضلاً منا {قَالَ} لمزيد كفره، وانعدام شكره {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} مني بوجوه التجارات والمكاسب، أو على علم من الله باستحقاقي لذلك. قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي بل تخويلنا إياه النعمة؛ إنما هو امتحان له واختبار؛ لنرى أيشكر أم يكفر؟(1/567)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{قَدْ قَالَهَا} أي قال مثل هذه القالة {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كقارون؛ حين قال: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}(1/567)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي عقوبة هذه السيئات التي ارتكبوها: فخسف بقارون الأرض {وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ} أشركوا، وقالوا مثل هذا القول {مِنْ هَؤُلاَءِ} الموجودين {سَيُصِيبُهُمْ} أيضاً {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} كما أصاب {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عذابنا(1/567)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ} يوسع {الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} من عباده؛ بغير ما سبب: من علم، أو ذكاء، أو حنكة، أو دراية {وَيَقْدِرُ} يضيق على من يشاء؛ ولو كان من أعلم العلماء وأحكم الحكماء فقد يعطي الجاهل، ويمنع العالم، ويعطي الخامل، ويمنع العامل؛ فهو - جل شأنه، وتعالى سلطانه - الخالق الرازق؛ وهو وحده يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يتصرف في ملكه كما يريد؛ لا كما يريد العبيد {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
هو الحاكم {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإعطاء والمنع، والبسط والتضييق {لآيَاتٍ} دالات على وجوده تعالى وقدرته، وأنه وحده المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع(1/567)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بارتكاب المعاصي، واقتحام الذنوب {لاَ تَقْنَطُواْ} لا تيأسوا {مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ومغفرته؛ فالقنوط من رحمته تعالى كفر {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} للتائب المستغفر(1/567)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
{وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ} ارجعوا إلى ساحته، واطلبوا مغفرته {وَأَسْلِمُواْ لَهُ} وأخلصوا له العمل والنية {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} فجأة؛ كما حل بآل فرعون(1/568)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي لئلا تقول نفس مذنبة يوم القيامة: {يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ} على ما قصرت {فِي جَنبِ اللَّهِ} أي في حقه تعالى، وفي طاعته(1/568)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
{أَوْ تَقُولَ} نفس {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ينكرون على الله تعالى هدايته لهم؛ وقد هداهم. ألم يرسل لهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؟ ألم يخلق لهم العقول التي تميز بين المليح والقبيح، والسقيم والصحيح؟(1/568)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
{أَوْ تَقُولَ} نفس {حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} المعد لها يوم القيامة: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا {بَلَى} جواب النفي المستكن في المعنى؛ لأن القائل حين يقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} فإنه ينفي هداية الله تعالى له وينكرها؛ فقيل له جواباً لنفيه للهداية:(1/568)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
«بلى» أي نعم قد بيَّن الله تعالى لك طريق الهدى؛ بحيث صار في مقدورك، وفي متناول فهمك؛ و {قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي} المحكمات البينات {فَكَذَّبْتَ} ولم تؤمن {بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عن اتباع سبيل المؤمنين {وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الضالين عن الرشد والهداية(1/568)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} بنسبة الشريك والولد إليه {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} من غضب الله تعالى ونقمته {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مأوى {لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان(1/568)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ} أي وينجي الله الذين اتقوا بسبب أعمالهم الصالحة؛ التي أدت إلى فوزهم ونجاتهم. والمفازة: المنجاة {لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} العذاب، أو الخزي {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بالحرمان من النعيم الذي يريدونه، والخير الذي يطلبونه(1/568)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} حافظ، وقائم، ومتصرف(1/568)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
{لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكهما؛ وذلك كقولهم: فلان تولى مقاليد الملك. والمقاليد: المفاتيح. أو هي الخزائن، أو الأبواب(1/569)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} تأمرونني؛ وبها قرأ ابن عامر(1/569)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي ليبطلن(1/569)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق تعظيمه {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي تحت قبضته وقهره، وسيطرته وسلطانه {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي بقدرته؛ وقيل: هو على سبيل المجاز؛ أي أن السموات على عظمها وكبرها؛ فإنها تكون بالنسبة إليه تعالى كالشيء الصغير الحقير، الذي يطوى باليمين. وهو كناية عن قدرة الله تعالى، وإحاطته بجميع مخلوقاته. كما تقول: فلان لا يخرج من يدي، ولا ينفك من قبضتي {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس(1/569)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛ بأمر ربه {فَصَعِقَ} مات {مَن فِي السَّمَاوَاتِ} من مخلوقات وأملاك {وَمَن فِي الأَرْضِ} من الإنس والجن، وغيرهما من المخلوقات {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وهم الشهداء؛ لأنهم {أَحْيَاءٌ} بعد موتهم {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقيل: هم خواص الملائكة؛ كجبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل؛ عليهم السلام(1/569)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} أضاءت أرض المحشر {بِنُورِ رَبِّهَا} بعدله وقضائه بين عباده {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} الصحف التي فيها أعمال بني آدم؛ فمنهم آخذ بيمينه، ومنهم آخذ بشماله {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ} ليسألهم تعالى: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ} {وَالشُّهَدَآءِ} فيشهدون لمن ذب عن دين الله تعالى، ودافع في سبيله(1/569)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {مَّا عَمِلَتْ} من خير أو شر(1/569)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وعصوا الرسول
[ص:570] {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} أفواجاً وجماعات {قَالُواْ بَلَى} أي نعم جاءتنا رسل ربنا {وَلَكِنْ حَقَّتْ} وجبت {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي كلمة الله تعالى، المقتضية له؛ أو هي قوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1/569)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
{فَبِئْسَ مَثْوَى} مقام {الْمُتَكَبِّرِينَ} الكافرين(1/570)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} خافوا عقابه، وسعوا إلى رضوانه {إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً} أفواجاً وجماعات {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ} حراسها من الملائكة {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} من دنس الذنوب والمعاصي؛ فاستحققتم الجنة، أو «طبتم» نفساً؛ بما أوتيتم من خير عميم، ونعيم مقيم {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيها، غير خارجين منها {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}(1/570)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالجنة {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي أرض الجنة {نَتَبَوَّأُ} نسكن {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} أي حيث نريد؛ فلا تثريب ولا تضييق، ولا منع ولا حجر {
محيطين ومحدقين(1/570)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يقدسونه، وينزهونه عما لا يليق به {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بين الخلائق جميعاً. وقيل: بين الملائكة؛ فهم - وإن كانوا كلهم معصومين من الخطأ والزلل - فإن ثوابهم يكون على حسب تفاضل أعمالهم؛ فتتفاوت بذلك مراتبهم {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} افتتح تعالى الخلق بالحمد: قال عز من قائل: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} واختتمه أيضاً جل شأنه بالحمد: «وقيل الحمدلله رب العالمين».(1/570)
سورة غافر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/571)
حم (1)
{حم} قيل: اسم من أسمائه تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الر» و «حم» و «ن» هي حروف الرحمن متفرقة. وقيل غير ذلك (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة البقرة)(1/571)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{غَافِرِ الذَّنبِ} لمن أقلع عن ذنبه، واستغفر ربه {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ممن تاب وأناب {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصى ربه، واستمرأ ذنبه {ذِي الطَّوْلِ} ذي الفضل السابغ، والإنعام الواسع {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا معبود سواه(1/571)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} فيجزي كلاً بما عمل {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ} أي لا تخدعك أسفارهم بالتجارات، والأموال والأولاد؛ وعودتهم سالمين غانمين؛ فتظن أنهم بمنجاة من عذابنا وانتقامنا؛ فإن مصيرهم جميعاً إلى النار(1/571)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
{وَالأَحْزَابُ} الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم: كعاد، وثمود، ومن بعدهما {لِيَأْخُذُوهُ} ليقتلوه {لِيُدْحِضُواْ} ليبطلوا {فَأَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم(1/571)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{حَقَّتْ} وجبت(1/571)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} من الملائكة {وَمَنْ حَوْلَهُ} أي حول العرش؛ من الملائكة أيضاً
[ص:572] {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي لا عمل لهم سوى قولهم: سبحان الله وبحمده {وَيَسْتَغْفِرُونَ} يطلبون المغفرة {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} قائلين في استغفارهم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} أي وسعت رحمتك كل شيء، ووسع علمك كل شيء {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ} من ذنوبهم، وأقلعوا عن كفرهم {وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ} الذي ارتضيته لعبادك؛ وهو دين الإسلام(1/571)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه {الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ} بها(1/572)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي عقوبتها(1/572)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} لكم في الدنيا {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} والمقت: أشد البغض. ومقتهم أنفسهم يوم القيامة: كراهة بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وقال جل شأنه: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} {إِذْ تُدْعَوْنَ} في الدنيا {إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} المعنى: {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} في الدنيا حين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} الآن(1/572)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} في هذا دليل على الإحياء داخل القبر للسؤال، والإماتة بعده، والإحياء للبعث؛ فتصير موتتان وحياتان {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} وكفرنا الآن {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} من النار، ورجوع إلى الدنيا {مِّن سَبِيلٍ} {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيقال لهم: لا سبيل إلى الخروج ألبتة(1/572)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ذَلِكُمُ} العذاب الذي أنتم فيه، وعدم الاستماع إليكم، ورفض إخراجكم من النار وإعادتكم إلى الدنيا {بِأَنَّهُ} بسبب أنه {إِذَا دُعِيَ} عبد {اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} أي يعبد سواه {تُؤْمِنُواْ} بذلك المعبود الآخر(1/572)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
{هُوَ} جل شأنه {الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته ووحدانيته {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً}
مطراً؛ لأنه سبب للرزق
[ص:573] {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ} يرجع إلى الله، ويقلع عن الكفر والعصيان(1/572)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
{فَادْعُواْ اللَّهَ} اعبدوه أيها المؤمنون {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين له وحده الطاعة والعبادة من كل شائبة؛ فقد علمتم ما سيحيق بالكافرين (انظر آية 17 من سورة البقرة)(1/573)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} أي عظيم الصفات، أو رافع درجات المؤمنين: في الدنيا، وفي الجنة أي ذو الملك: صاحبه، ومالكه، وخالقه {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} أي يلقى الوحي بأمره {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين اصطفاهم لرسالته {لِيُنذِرَ} بما ينزله عليهم {يَوْمَ التَّلاَقِ} يوم القيامة؛ ففيه يلتقي الأولون والآخرون، وأهل السموات وأهل الأرضين(1/573)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} ظاهرون؛ لا بظواهرهم وأشكالهم فحسب، بل بأعمالهم وخوافيهم {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يقول ذلك الملك الجليل؛ ويجيب نفسه بقوله {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أو تقول ذلك الملائكة، وتجيب عليه سائر الخلائق إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم(1/573)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} بما عملت(1/573)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
{وَأَنذِرْهُمْ} يا محمد {يَوْمَ الأَزِفَةِ} يوم القيامة؛ وسميت آزفة: لقربها {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} أي إنهم - من شدة فزعهم ورعبهم - تصعد قلوبهم إلى حناجرهم {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي صديق مخلص؛ يدفع عنهم العذاب(1/573)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ} أي استراق النظر إلى ما لا يحل {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي ما تكنه من خير وشر؛ أو يعلم استراق النظر إلى الأجنبية، وما تخفي الصدور من التفكر في جمالها، والرغبة في نيلها؛ في حين لا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته؛ والله يعلم بذلك كله(1/573)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{وَاللَّهُ يَقْضِي} في الدنيا والآخرة {بِالْحَقِّ} الكامل المطلق {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} أي يعبدونهم {مِن دُونِهِ} غيره {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أصلاً؛ لأنها جمادات لا تستطيع القضاء بالحق ولا بالباطل؛ فكيف تعبد من دون الله وهذا حالها؟(1/573)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} فقد كانت لهم المصانع، والقصور، والحصون وغير ذلك. وها هي أهرامهم، ومعابدهم، ودورهم، وقبورهم، ونصبهم، وتماثيلهم؛ كل ذلك يشهد بآثارهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، والتي لم تصل أخبارها إلى نبيه الصادق عليه الصلاة والسلام؛ فكانت إحدى معجزاته البينات(1/573)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أهلكهم {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ} أي من بطشه وعذابه {مِن وَاقٍ} حافظ يقيهم بأسه وعذابه(1/574)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} برهان ظاهر؛ يتسلط على الأبصار، والأسماع، والأذهان؛ وهي المعجزات الظاهرات(1/574)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا} أي بالكتاب الحق؛ وهو التوراة. أو بتوحيد الله تعالى، والأمر بطاعته {وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ} استبقوهن للخدمة أو افعلوا بهن ما يخل بالحياء {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} خسران وهلاك(1/574)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {ذَرُونِي} دعوني واتركوني {أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} حينئذٍ لينصره مني، ويمنعه من القتل إن كان صادقاً.(1/574)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ} التجأت واعتصمت(1/574)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قيل: ابن عمه {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} عن فرعون وشيعته؛ خشية أن يقتلوه {وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات {وَإِن يَكُ كَاذِباً} فيما يقول
[ص:575] {فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي عليه وحده إثم كذبه؛ لا عليكم {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من العذاب {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} الإسراف: تجاوز الحد في كل شيء(1/574)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{ظَاهِرِينَ} عالين {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ} عذابه وبطشه {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى} أي ما أشير عليكم إلا بما ارتضيته لنفسي(1/575)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} أي مثل اليوم الذي أنزل فيه الله تعالى العذاب على الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم(1/575)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
{مِثْلَ دَأْبِ} مثل عادة {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} ممن كذبوا أنبياءهم؛ فعذبهم الله تعالى عذاباً شديداً في الدنيا، وأخذهم بكفرهم وتكذيبهم(1/575)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
{وَيقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يوم القيامة. وسمي بذلك لأنه ينادي فيه على الخلائق: «واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ... ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ... ونادى أصحاب الأعراف رجالاً ... ونادوا أصحاب الجنة ... ونادوا يا مالك» {مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} يعصمكم من عذابه(1/575)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج القاطعة الظاهرة؛ كقوله عليه السلام: {مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} مات {كَذَلِكَ} أي مثل الإضلال الذي وقع على الكافرين بالأنبياء، وما أنزل عليهم من آيات بينات {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في الكفر والعصيان {مُّرْتَابٌ} شاك فيما جاءه من المعجزات. فالكفر، والارتياب: سابقان للإضلال؛ وإضلال الله تعالى لا يكون إلا نتيجة للإصرار على الكفر، والتمسك بالتكذيب، وطرح تفهم الآيات، والنظر في الدلالات جانباً؛ و {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}.(1/575)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} حجة أو برهان {كَبُرَ مَقْتاً} عظم بغضاً {كَذَلِكَ} أي مثل ذلك الإضلال الواقع على من كفر وفجر {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} فالتكبر والتجبر: سابقان على طبع الله وختمه {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقد أراد الله تعالى أن يرينا مثالاً للمتكبرين المتجبرين، المسرفين المرتابين الكاذبين؛ المستحقين للإضلال والإذلال، والتغطية والتعمية؛ وهل بعد تكبر فرعون من تكبر؟ وهل بعد إسرافه في الكفر من إسراف؟(1/576)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لوزيره {يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} قصراً عالياً(1/576)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها، أو طرقها، أو ما يؤدي إليها. ولعل اللعين قد طلب من وزيره ما يفعله الآن بعد الملاعين؛ من عمل صواريخ يزعمون الوصول بها إلى الكواكب والسموات؛ وهيهات هيهات لما يتوهمون (انظر آية 61 من سورة الفرقان) {فَأَطَّلِعَ} انظر {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ} أي أظن موسى {كَاذِباً} فيما يزعمه: من أن له إلهاً واحداً {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} عقوبة له على تماديه في الكفر، وطرحه ما ظهر له من الآيات والمعجزات وراء ظهره {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} منع عن الإيمان؛ لأنه منع عقله عن التدبر، وقلبه عن التبصر؛ وحارب ربه، وقاتل رسوله، وقتل مخلوقاته، وادعى الربوبية، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فحق عليه غضب الله تعالى: فأصمه عن الاستماع، وصده عن سبيل الإيمان؛ عقوبة له على غيه وبغيه {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} خسار، وهلاك(1/576)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
{إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي تمتع لا يلبث أن يزول {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} دار البقاء والاستقرار(1/576)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} رزقاً واسعاً؛ لا حد له، ولا انتهاء(1/576)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
{وَيقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} أي إلى الإيمان؛ وهو الطريق الموصل إلى النجاة من النيران {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} أي إلى الكفر الموصل إلى الجحيم، والعذاب الأليم(1/576)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى} عبادة {الْعَزِيزُ} القادر المقتدر، الخالق الرازق {الْغَفَّارِ} الذي يغفر الذنوب جميعاً، ويعفو عن السيئات(1/577)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
{لاَ جَرَمَ} حقاً، لا محالة {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} لأعبده {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} أي لا يستطيع استجابة دعوة {فِي الدُّنْيَا} بأن يحفظ، أو يكلأ، أو يرزق، أو يشفي {وَلاَ فِي الآخِرَةِ} بأن يشقي، أو ينعم، أو يغفر، أو يرحم {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ} مرجعنا جميعاً {إِلَى اللَّهِ} فيجزينا على إيماننا خير الجزاء، ويعاقبكم على كفركم أشد العقاب {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين الحد بكفرهم(1/577)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} حين ترون العذاب بأعينكم، وتحسونه بجسومكم؛ حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي الاستغفار(1/577)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
{فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} وقاه تدبيرهم لقتله، ومكرهم لإيذائه {وَحَاقَ} نزل {بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} أشده وأقبحه؛ وهو(1/577)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} صبحاً ومساءاً. والمراد به استمرار العذاب؛ وذلك في الدنيا: يعذبون في قبورهم؛ وهو دليل على عذاب القبر؛ وهو واقع لا محالة بأهل الكفر والضلال؛ وقد استعاذ منه سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} يقول العزيز الجبار لملائكته {أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ} هو ومن تبعه {أَشَدَّ الْعَذَابِ} في جهنم وبئس المهاد(1/577)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ} يتخاصمون {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} لرؤسائهم {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ} دافعون {عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ} جانباً منها(1/577)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه(1/577)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {قَالُواْ بَلَى} نعم جاءتنا رسلنا {قَالُواْ} أي قال خزنة جهنم للكافرين {فَادْعُواْ} ربكم ما شئتم أن تدعوه؛ فلن يستجيب لكم
[ص:578] {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} خسار وضياع(1/577)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} الشهداء؛ وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك يوم القيامة {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزات التي تهدي من رآها، والتوراة التي تهدي من قرأها(1/578)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)
{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة(1/578)
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
{هُدًى} ليهتدوا بما فيها {وَذِكْرَى} تذكرة {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} ذوي العقول(1/578)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذاهم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصر أوليائه، وكبت أعدائه {حَقٌّ} واقع لا مرية فيه {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ليكون استغفارك سنة لأمتك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي داوم على التسبيح. وأفضل التسبيح: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة؛ لأنها مشتملة عليه {بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} في المساء والصباح(1/578)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} قرآنه بغير حجة، ولا برهان؛ على صدق مجادلتهم ومحاجتهم {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي ما في صدورهم إلا تكبر عليك، وطمع أن تعلو مرتبتهم على مرتبتك {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أي ما هم ببالغي أثر هذا الكبر؛ وهو الارتفاع والاستعلاء عليك؛ بل هم في أسفل سافلين، في الدنيا ويوم الدين {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الجأ إليه من مكرهم وأذاهم {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولك وأقوالهم {الْبَصِيرُ} بحالك وحالهم(1/578)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من الكواكب والمخلوقات {وَالأَرْضِ} وما فيها وما عليها {أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وإعادتهم للحساب والجزاء يوم القيامة(1/578)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ} أي كما أنه لا يستوي الأعمى والبصير: فإنه لا يستوي المؤمن والكافر، والطائع والعاصي(1/578)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{إِنَّ السَّاعَةَ} القيامة {لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي لا شك في إتيانها(1/578)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي سلوني أعطكم. وقيل: «ادعوني» أي اعبدوني «أستجب لكم» أجب ما تطلبونه من حوائج الدنيا والآخرة
ولو أن الداعي حين يدعو ربه - القادر القاهر - يكون واثقاً بما عنده؛ وثوقه بما عند نفسه؛ لما أبطأت إجابته، ولسعت إليه حاجته، ولكان طلبه رهن إشارته، ووفق رغبته فانظر - هداك الله تعالى ورعاك - إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يضع أهله وذريته في مهمه قفر؛ حيث لا كلأ ولا ماء، ولا إنس ولا أنيس؛ فيدعو ربه: واثقاً بما عنده: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ... فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات» فهوت إليهم أفئدة كثير من الناس من سائر الأقطار؛ وحملت المطعومات والثمار؛ من كل صوب وحدب؛ فطعموها قبل أن يطعمها زارعوها وحاملوها أليس هذا من صنع واسع العطاء، مجيب الدعاء؟ (انظر آية 186 من سورة البقرة) {دَاخِرِينَ} أذلاء صاغرين(1/579)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} ترتاحوا وتناموا {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} تبصرون فيه ما تريدون، وتعملون فيه ما ترغبون {ذَلِكُمُ} الخالق للسموات والأرضين، المالك ليوم الدين، المستجيب للداعين، الجاعل الليل سكناً وراحة للنائمين، والنهار مبصراً للمشتغلين والعاملين «ذلكم» هو {اللَّهِ} رب العالمين {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مبدع الكائنات وما فيها ومن فيها، وخالق كل ما أحاط به علمكم، وما لم يحط به، وما خطر في أذهانكم، وما لم يخطر لكم على بال {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وحده؛ واجب الوجود، والعبودية {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن معرفته؛ وقد ظهرت لكم الحجج على وحدانيته؟ وعن عبادته؛ وقد بانت لكم الدلالات على قدرته؟ {كَذَلِكَ} أي كما صرفتم عن الحق الواضح، وعن معرفته تعالى؛ مع قيام الأدلة والبراهين على ألوهيته {يُؤْفَكُ} يصرف {الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} كتبه، ودلائل ربوبيته {يَجْحَدُونَ} يجحدون بها، ولا يلتفتون إليها، ولا يتدبرونها(1/579)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً} مستقراً لكم؛ حال حياتكم، وبعد مماتكم {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} سقفاً ثابتاً؛ لا يزول، ولا يحول {ذَلِكُمُ} الذي جعل الأرض قراراً لكم، والسماء بناء فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ورزقكم ما عمله بيديه، ولم تعمله أيديكم، وأسبغ عليكم نعمه بفضله لا بسعيكم «ذلكم»(1/579)
{هُوَ الْحَيُّ} الباقي على الدوام، السامع لدعائكم، المجيب لندائكم {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ولا معبود سواه {فَادْعُوهُ} اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} صادقين في عبادته، ولا تشركون في طاعته ومحبته ومن الشرك الخفي: أن تفضل
[ص:580] دنياك على دينك، وأن تحب مالك أكثر من مآلك {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أن وهبك الإيمان، وهداك بالقرآن، ووفقك إلى الإحسان ووقاك كيد الشيطان(1/579)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} أي خلق أباكم آدم منه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هي واحدة الحيوانات الصغيرة التي ثبت وجودها بالمني. وقيل: العلقة: قطعة دم غليظ {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} تكامل قوتكم. وهو من ثلاثين إلى أربعين سنة. (انظر آية 21 من الذاريات) {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى} يستوفي أجله فيموت {مِن قَبْلُ} أي قبل بلوغ الأشد والشيخوخة {وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى} وقتاً محدوداً: هو انتهاء آجالكم {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} دلائل التوحيد التي بسطناها لكم، وهيأنا أذهانكم لقبولها(1/580)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{فَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي أراد فعله وإيجاده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} هو تقريب لأفهامنا؛ والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان بغير افتقار للفظ «كن»(1/580)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} القرآن {أَنَّى يُصْرَفُونَ} كيف يصرفون عنها؛ مع وضوحها وإعجازها(1/580)
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
{ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي تملأ بهم النار؛ وهو من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أو {يُسْجَرُونَ} يوقدون بها(1/580)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
{قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} غابوا عن عيوننا {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ} نعبد {كَذَلِكَ} أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} المعاندين لله، المكذبين لرسله، المنكرين لكتبه(1/580)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
{ذَلِكُمُ} العذاب الذي تعذبونه في الآخرة {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} باللهو والعصيان؛ وذلك لأن السارق يفرح بسرقته، والزاني يفرح بزناه، والباغي يفرح ببغيه، والظالم يفرح بظلمه. أما الفرح بالطاعات، وبما أحلهالله: فهو من عموم المباحات؛ التي يثاب عليها {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} المرح: التوسع في السرور والفرح.
ويطلق أيضاً على البطر(1/580)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{مَثْوَى} مقام(1/581)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} فإن نرينك بعض ما نعدهم به من العذاب {فَإِلَيْنَا} بعد موتهم {يُرْجَعُونَ} فنعاقبهم بما عملوا، ونأخذهم بما ظلموا(1/581)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} نبأهم في هذا القرآن {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ما حق، وما جاز لأي رسول ممن أرسلنا من رسلنا {أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} معجزة من عند نفسه {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} يوم القيامة {بِالْحَقِّ} المطلق؛ الذي لا تشوبه شائبة {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} في الآخرة {الْمُبْطِلُونَ} الكافرون(1/581)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
{الأَنْعَامَ} الإبل(1/581)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} في نسلها، ووبرها، وشعرها، وألبانها {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} هي الأسفار وحمل الأثقال {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} أي على الأنعام في البر، وعلى السفن في البحر {تُحْمَلُونَ} فيا لها من نعمة لا يحيط بها وصف، ولا يوفيها شكر: ذلل لنا ما نركب في البر والبحر، وسخر لنا الحيوان والجماد. اللهم أعنا على القيام بواجب شكرك، ولا تجعل هذه النعم استدراجاً لنا، وامتحاناً لإيماننا؛ بفضلك ومنِّك يا أرحم الراحمين(1/581)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
{وَيُرِيكُمْ} الله {آيَاتِهِ} الدالة على وحدانيته، الموصلة إلى جنته(1/581)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكفار؛ الذين انتقمنا منهم وأهلكناهم، وقطعنا دابرهم؛ وقد {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ} عدداً {وَأَشَدَّ قُوَّةً} وعدة {وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} مما بنوه من قصور، وآثار، وقبور، وكنوز {فَمَآ أَغْنَى} أي لم يغن {عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
يعملون في الدنيا(1/581)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات، والحجج الواضحات {فَرِحُواْ} أي فرح الكفار {بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ} الدنيوي {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقيل: فرح الرسل بما علموه من ربهم: من نصرتهم وخذل الكافرين {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي حل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون وقوعه(1/582)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شاهدوا عذابنا الموعود {قَالُواْ آمَنَّا} حيث لا ينفع الإيمان وقتئذٍ(1/582)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{فَلَمْ يَكُ} طريقته وعادته {الَّتِي قَدْ خَلَتْ} مضت {فِي عِبَادِهِ} السابقين {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} وقت نزول العذاب {الْكَافِرُونَ} خسروا حياتهم الدنيا بالموت، وحياتهم الأخرى بالجحيم(1/582)
سورة فصلت
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/582)
حم (1)
{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {تَنزِيلٌ} أي هذا القرآن(1/582)
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
«تنزيل» {مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بعباده: أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأحاطهم بكل ما ينجيهم، وهيأ لهم أسباب الإيمان واليقين(1/582)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
{كِتَابٌ} هو القرآن {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} بينت؛ بما احتوته من أحكام، وأوامر، ونواه(1/582)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
{بَشِيراً} لمن اتبعه بالجنة {وَنَذِيراً} لمن خالفه بالنار {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن سماع هذا الكتاب وتدبره {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر(1/582)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أغطية
[ص:583] {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} صمم {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} حائل ومانع؛ يحول دون اتباعك، وإيماننا بما جئت به. ولم يكن ثمة مانع سوى عنادهم واستكبارهم {فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنَا عَامِلُونَ} على ديننا {فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ} بالإيمان والطاعة عما فرط منكم؛ ليصلح دنياكم وآخرتكم(1/582)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ *(1/583)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} عبر تعالى عمن لا يؤتي الزكاة بالمشركين، وأنه من الكافرين بيوم الدين. لأنه لو آمن بالجزاء؛ لما بخل بالعطاء؛ فتدبر هذا أيها المؤمن (انظر آيتي 254 من سورة البقرة، وصلى الله عليه وسلّم4صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)(1/583)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع(1/583)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} خلقها تعالى في يومين؛ ولو شاء لخلقها في أقل من لمحة؛ وذلك ليعلم خلقه التدبر والأناة {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} شركاء، ونظراء. والند: المثل(1/583)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً شامخات {وَبَارَكَ فِيهَا} بالماء، والزرع، والضرع، والشجر، والثمر {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} أرزاق أهلها، ومعايشهم، وما يصلحهم(1/583)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} قصد ووجه إرادته وقدرته إليها {وَهِيَ دُخَانٌ} بخار مرتفع كالسحاب؛ والمراد أنها لم تكن شيئاً مذكوراً {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} هو على سبيل المجاز؛ ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما ذلك الأمر: أنه تعالى أراد أن يكونهما؛ فلم يمتنعا عليه، ولم يعسر عليه خلقتهما؛ وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع؛ إذا أمره الآمر المطاع(1/583)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{فَقَضَاهُنَّ} خلقهن {وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} السماء الأولى {بِمَصَابِيحَ} كواكب {وَحِفْظاً} أي والكواكب فضلاً عن كونها زينة للسماء؛ فهي أيضاً معدة لحفظها من الشياطين التي تسترق السمع {ذَلِكَ} الخلق، والتزيين، والحفظ {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} القادر في ملكه، القاهر في خلقه، الغالب الذي لا يغلب
[ص:584] {الْعَلِيمِ} بخلقه(1/583)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإيمان؛ بعد ظهور بواعث الإيقان {فَقُلْ} لهم {أَنذَرْتُكُمْ} أي أنذركم وأحذركم {صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي عذاباً يهلككم؛ مثل العذاب الذي أهلك عاداً وثمود. والصاعقة: نار تنزل من السماء. وعاد: قوم هود. وثمود: قوم صالح(1/584)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} فأنذرتهم بالعذاب، وحذرتهم من الكفر؛ كما جئتكم وأنذرتكم {جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} هو كناية عن كثرة الرسل، وإحاطتهم بهم من كل مكان. أو المراد: تتابع الرسل عليهم؛ متقدمين عنهم ومتأخرين. فكذبوهم، وكفروا بهم(1/584)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} عاصفة، تصرصر في هبوبها؛ أي تصوت، وهو من الصرير {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشئومات؛ لوقوع العذاب فيها. أما سائر الأيام: فلا شؤم فيها؛ إنما يتولد الشؤم من المعاصي، وإتيان ما يغضب الله تعالى، ويستوجب عقابه. (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} أشد، وأفدح، وأفضح {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} لا يستطيع أحد أن يمنع وقوعه بهم(1/584)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي فمهدنا لهم سبل الهداية: بأن جعلنا لهم عقولاً بها يفقهون، وآذاناً بها يسمعون، وأعيناً بها يبصرون؛ وأعددناهم بذلك للرؤية، والاستماع والتفهم؛ ثم أرسلنا لهم الرسل، وأبنا لهم طرق الرشد، وحذرناهم من الوقوع في شرك الشيطان، والسقوط في مهاوي الضلال {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي فاختاروا - برغبتهم وميلهم - الكفر على الإيمان {الْعَذَابِ الْهُونِ} المهين {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بما كانوا يعملون من المعاصي(1/584)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} يساقون بكثرة إلى النار؛ بحيث يحبس أولهم على آخرهم(1/585)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا} أي جاءوا القيامة، أو جاءوا الجحيم {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} يشهد «سمعهم» بما سمع من الغيبة «وأبصارهم» بما رأت من الحرام «وجلودهم» بما ارتكبت من زنا؛ لأن المراد بالجلود: الفروج. والتعبير عن الفروج بالجلود: من الكنايات الدقيقة؛ وإلا فأي ذنب تأتيه الجلود الحقيقية؛ إذا فسرناها على ظاهرها؟(1/585)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} تستخفون من أنفسكم؛ خشية {أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} وكيف يستخفي الإنسان بذنبه من أعضائه وهي ملتصقة به؟ أو كيف يستخفي بجريمته من جوارحه وهي أداتها، والسبيل إليها؟ ولكنه لما كان هو المسيطر عليها، الدافع لها، المدبر لارتكابها: كان الإثم محيطاً به، والعقاب واقعاً عليه. ولا أدري كيف يعصي الله تعالى عاصيه، أو كيف يجحده جاحده؛ وهو مطلع عليه، وناظر إليه، وجوارحه يوم القيامة شاهدة عليه؟ وما أحسن قول القائل:
هل يستطيع جحود ذنب واحد
رجل جوارحه عليه شهود؟(1/585)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} من أنه لا يراكم، وأنه {لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} {أَرْدَاكُمْ} أهلككم، وأوقعكم في النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ} وقد كان في استطاعتكم أن تكونوا ضمن الفائزين(1/585)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإن يطلبوا الرضا: فما هم من المرضيين. وذلك لأن العتاب من علائم الرضا، والعتاب: مخاطبة الإدلال. كما أن التوبيخ: مخاطبة الإذلال(1/585)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{وَقَيَّضْنَا} سخرنا وسلطنا {قُرَنَآءَ} أخداناً من الشياطين {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} قد مضت(1/585)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{وَالْغَوْاْ فِيهِ} أي شوشوا عليه بكلام ساقط؛ لا معنى له، ولا طائل وراءه
[ص:586] {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} المؤمنين؛ بهذا اللغو والتشويش(1/585)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} هما شيطانا الجن والإنس؛ فإن شيطان الجن يوسوس إلى بعض الناس بالمعصية، ويوسوس إلى بعضهم بالإغراء عليها، والإيقاع فيها، وكثيراً ما يفوق شيطان الإنس شيطان الجن؛ وهذا ظاهر: فإن من شياطين الإنس من يفوق بوسوسته وإغرائه شياطين الجن؛ أعاذنا الله تعالى منهما بمنه، وحمانا من كيدهما بفضله (انظر آية 112 من سورة الأنعام)(1/586)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} عملوا الصالحات وأقاموا على التوحيد {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ} تنزل عليهم عند الموت؛ قائلين لهم {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ} ولذلك يرى الميت الصالح ضاحكاً عند موته مستبشراً وقيل: هذه البشرى في مواطن ثلاثة: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث(1/586)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ} نصراؤكم. وهو قول المولى عز وجل. أو من قول الملائكة التي تتنزل عليهم بأمر ربهم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تطلبون، وما تتمنون(1/586)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{نُزُلاً} النزل: ما يعد للضيف من إكرام(1/586)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} إلى طاعته وعبادته؛ وهو الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه(1/586)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي إذا أساء إليك مسيء فأحسن إليه. أو «ادفع بالتي هي أحسن»: بالصبر عند الشدة، والكظم عند الغضب، والعفو عند القدرة
[ص:587] {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي بسبب إحسانك لمن أساء إليك: يصير الذي بينك وبينه عداوة؛ كالصاحب المحب المخلص(1/586)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يلقى، ويوفق إلى هذه الخصلة الحميدة - التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان، والدفع بالتي هي أحسن - إلا أهل الصبر، الذين لهم عند ربهم حظ عظيم؛ إذ فازوا بجنته، وحظوا بمعيته «إن الله مع الصابرين ... وبشر الصابرين ... والله يحب الصابرين ... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»(1/587)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} النزغ: الإغراء. أي فإن أغراك الشيطان على ما لا ينبغي؛ من عدم الدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة الإساءة بأسوأ منها {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الجأ إليه، واطلب منه تعالى إنجاءك من كيده وشره فرب شرارة أذكت ناراً، وكلمة أشعلت حرباً؛ وكم رأينا من مجازر بشرية؛ ضاع فيها كثير من الأنفس البريئة؛ بسبب كلمة بسيطة؛ كان علاجها شيء من الحلم، وقليل من الكظم. وذلك من عمل الشيطان الغوي المضل
{(1/587)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
وَمِنْ آيَاتِهِ} تعالى؛ الدالة على قدرته ووحدانيته {اللَّيْلُ} وقد جعله لباساً؛ لتسكنوا فيه {وَالنَّهَارُ} مبصراً؛ لتبتغوا من فضله {وَالشَّمْسُ} وقد جعلها ضياء {وَالْقَمَرُ} نوراً. خلق الله تعالى كل ذلك لكم؛ ليدل به على وجوده، وَجُوده؛ فاتخذتم منها آلهة تعبدونها {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} فإنهما مخلوقان أمثالكم {وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ} المعبود؛ واجب الوجود {الَّذِي} خلقكم، و {خَلَقَهُنَّ} فكيف تعبدون المخلوق، وتذرون أحسن الخالقين؟(1/587)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ} عن عبادة الرحمن، وأصروا على اتباع الشيطان {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} من الملائكة عليهم السلام؛ يعبدونه حق عبادته، و {يُسَبِّحُونَ لَهُ} ينزهونه ويقدسونه {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} لا يملون من عبادته تعالى، وتنزيهه وتقديسه {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}(1/587)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته وعظمته وسلطانه {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} يابسة؛ لا نبات فيها {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} تحركت بالنبات وانتفخت {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بالإنبات؛ بعد موتها بالجدب {لَمُحْىِ الْمَوْتَى} يوم القيامة للحساب والجزاء(1/587)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} أي يغيرون في معانيها، ويميلون بها عن الحق الذي نزلت به. أو «يلحدون في آياتنا» دلائل قدرتنا؛ التي قدمناها وسقناها؛ من إنزال الماء، وإحياء الأرض. بأن يقولوا: إن نزول الماء، بواسطة الأنواء، وطلوع النبات بطبيعة الأشياء {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ} بسبب كفره وعصيانه، وإلحاده في آيات الله تعالى {خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً}
من العذاب؛ بسبب إيمانه، وصالح عمله {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} هو غاية الإنذار والتهديد(1/587)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ} القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} منيع، جليل؛ لا يعتريه لغو، أو تناقض(1/588)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{مَّا يُقَالُ لَكَ} يا محمد؛ من الطعن، والسب، والتكذيب {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ} مثله {لِلرُّسُلِ} الذين أرسلناهم {مِن قَبْلِكَ} كنوح، ولوط، وإبراهيم؛ عليهم السلام {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} لمن تاب وآمن {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لمن كفر وفجر(1/588)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً} الأعجمية: هي كل لغة تخالف اللغة العربية {لَّقَالُواْ} محتجين على ذلك {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} هلا بينت بالعربية حتى نفهمها {ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي أقرآن أعجمي، يرسل إلى عربي؟ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى} يهديهم إلى طريق البر والخير، ويوصلهم إلى الرحمة، والنعمة، والمغفرة، والنعيم المقيم {وَشِفَآءٌ} لما في الصدور وأقسم بكل يمين غموس: أن القرآن الكريم كم أذهب أسقاماً، وأزال آلاماً، وشفى صدوراً، وأبرأ جسوماً وليس بمنقص من قدره، ولا بغاض من فضله: أن يتخذه أناس أداة للتكسب والاحتيال. وقد ورد أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يرقون اللديغ بأم الكتاب فيبرأ لوقته، ويقوم لساعته. وقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك. فأنعم به من هدى، وأكرم به من شفاء وهو فضلاً عن شفائه الأسقام والأوجاع؛ فإنه يشفي كل من آمن به؛ من الشك والريب {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} هو {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} صمم {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} يطمس قلوبهم، ويعمي أبصارهم وبصائرهم {أُوْلَئِكَ} الذين لم يؤمنوا بالقرآن؛ وأصموا أسماعهم عن تلقيه، وأعينهم عن رؤية ما فيه، وقلوبهم عن تفهم معانيه
{يُنَادَوْنَ} يوم القيامة {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ينادون بأسوإ الصفات، وأقبح السمات: فضيحة لهم، وإزراء بهم، وتقبيحاً لأفعالهم. أو هو تشبيه لعدم استماعهم للنصح في الدنيا؛ كمن ينادي من مكان بعيد؛ فلا يسمع النداء(1/588)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} كما اختلف في القرآن {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير الجزاء والعقاب إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي في شك من القرآن {مُرِيبٍ} موقع في الريبة(1/588)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{إِلَيْهِ} تعالى وحده {يُرَدُّ} يرجع؛ لا إلى أحد من خلقه {عِلْمُ السَّاعَةِ} معرفة القيامة، ومتى تقوم؟ {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} أوعيتها؛ قبل أن تنشق عن الثمرة
[ص:589] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي ينادي المشركين؛ قائلاً لهم {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين أشركتموهم معي في العبادة {قَالُواْ آذَنَّاكَ} أي أعلمناك {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} أي ما منا من أحد يشهد، أو يقول: إن لك شريكاً؛ بعد أن عاينا ما عاينا. أو ما منا من أحد يشاهدهم الآن ويراهم؛ حيث إنهم ضلوا عنهم(1/588)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{وَضَلَّ عَنْهُم} غاب {مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} يعبدون من الأصنام {وَظَنُّواْ} تيقنوا أنهم {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} مهرب من العذاب(1/589)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
{لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ} لا يمل {مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} من طلب المال والعافية {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} الفقر، أو المرض {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} من رحمة الله تعالى واليأس والقنوط: كفر(1/589)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}
أي لئن أذقناه عافية من بعد سقم، أو غنى من بعد فقر؛ ليقولن: هذا لي. أي هذا من حقي؛ استوجبته بتقواي وصلاحي، أو بقوتي واجتهادي. وهو في عداد المتكبرين، وفي مقدمة المرائين {وَمَآ أَظُنُّ} أن {السَّاعَةَ قَآئِمَةً} كما يزعم محمد {وَلَئِنْ} قامت كما يقول، و {رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي} يوم القيامة {إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} للجنة؛ وهي الجزاء الحسن. وذلك لأن الكافر والمرائي يريان أنهما أولى الناس في الحياة الدنيا بالنعمة، وأحقهم بالعافية، وأنهما أجدر الناس في الآخرة بالثواب والنعيم(1/589)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} بسعة وغنى {أَعْرَضَ} عن الشكر والعبادة {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} تباعد عن فعل الخير {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الفقر، أو المرض {فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} أي دعاء كثير(1/589)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} كما يقول محمد {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كحالكم الآن {مَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} خلاف في شأن القرآن وصحته {بَعِيدٍ} عن الحق والإيمان(1/589)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} دلائل وحدانيتنا وقدرتنا {فِي الآفَاقِ} أقطار السموات؛ وما فيها من كواكب وبروج، وأنجم وأفلاك. وأقطار الأرض: وما فيها من جبال وبحار، ونبات وأشجار، ومعادن وجواهر، وغير ذلك سنريهم أيضاً آياتنا {فِي أَنْفُسِهِمْ} من بديع الصنعة، ومزيد الحكمة؛ وكيف أنشأناهم من ماء مهين؛ فكانوا بشراً وصهراً أو {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} بفتح البلاد للمسلمين «وفي أنفسهم» بفتح مكة. أو آيات الآفاق: خراب ديار الأمم السابقة المكذبة، وآيات النفس: الأمراض والبلايا {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي القرآن، أو الإسلام، أو أن محمداً هو الرسول الحق {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} أي أولم يكفهم للإيمان بربهم: ما ساقه من أدلة وجوده وتوحيده؟
[ص:590] و {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مشاهد وعالم، ومجاز عليه(1/589)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} في شك {مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} وثوابه وعقابه؛ يوم القيامة {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} قدرة وعلماً.(1/590)
سورة الشورى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/590)
حم (1)
{حم *(1/590)
عسق (2)
عسق} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/590)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{كَذَلِكَ} أي مثل ما أوحينا إلى كثير ممن سبقك من الأنبياء(1/590)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي يتشققن من ظلم العباد، وادعائهم أنلله شريكاً وولداً {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ} من عصاة المؤمنين؛ أما الكافرين فلا شفاعة لهم، ولا استغفار يقبل بشأنهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}(1/590)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
{مِن دُونِهِ} غيره تعالى {أَوْلِيَآءَ} يعبدونهم ويوالونهم {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي حافظ لما يقولون، وما يعملون؛ فمحاسبهم عليه(1/590)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة؛ لأنها أشرف البقاع، ومنها انتشر الدين {وَمَنْ حَوْلَهَا} يشمل سائر الأرض، وجميع الناس {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي تنذر بيوم الجمع؛ وهو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تجمع فيه للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حدوثه ومجيئه؛ ويومئذٍ يكون الناس {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهم الكافرون(1/591)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ وهو الإسلام {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} في جنته ونعمته؛ لإيمانه بربه، واستجابته لرسله {وَالظَّالِمُونَ} الكافرون {مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} ينفعهم {وَلاَ نَصِيرٍ} ينصرهم من الله ويدفع عنهم عذابه(1/591)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
{أَمِ اتَّخَذُواْ} أي بل اتخذوا {مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَآءَ} وهم الأصنام {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} الحق؛ الذي يهدي من يتولاه في دنياه، وينجيه في أخراه(1/591)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي إلى ما أنزل الله في كتابه؛ من الشرائع والأحكام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في سائر أموري (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع في أموري كلها(1/591)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقها من غير مثال سبق {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} لتسكنوا إليها جعل {أَزْواجاً} ذكراناً وإناثاً؛ لحفظ نسلها، وتمام نفعها لكم {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} يخلقكم ويكثركم؛ بواسطة التزاوج(1/591)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكهما. والمقاليد: المفاتيح، أو الأبواب، أو الخزائن {وَيَقْدِرُ} ويضيق(1/591)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{شَرَعَ} بيَّن وأظهر {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} ما شرعه لنوح عليه السلام؛ وهو أول الأنبياء شريعة
[ص:592] {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} لله وحده {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ} لا تختلفوا {كَبُرَ} عظم، وشق {اللَّهُ يَجْتَبِي} يختار {إِلَيْهِ} إلى معرفته، وإلى دينه، وإلى توحيده {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} من يرجع إليه، ويقبل على طاعته، ويستمع إلى كلامه(1/591)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي ما تفرق الناس في الدين؛ فآمن بعضهم، وكفر البعض الآخر {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ} جميعاً {الْعِلْمُ} بالله تعالى، وبحقيقة توحيده، وصحة دينه، وصدق رسله. وهو علم مسقط للمعذرة، موجب للتكليف؛ وإنما كان كفر الكافرين {بَغْياً بَيْنَهُمْ} ظلماً واستعلاء، وطلباً للرئاسة. أو المراد بـ «العلم» الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (انظر آية 89 من سورة البقرة) {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معلوم؛ وهو يوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بتعذيب المكذبين، وإهلاكهم في والدنيا {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ} أي نزل إليهم، وورثوا علمه؛ وهم اليهود والنصارى {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من محمد(1/592)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{فَلِذَلِكَ} الدين القيم والإله الواحد {فَادْعُ} الناس {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لا تعر مزاعمهم التفاتاً {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} عليّ، وعلى الرسل السابقين {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم - إذا تخاصمتم - وفي قسمة الغنائم، وفي كل ما تحتكمون إليَّ فيه {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي نحن نؤاخذ بأعمالنا، وأنتم تؤاخذون بأعمالكم؛ لا يؤاخذ أحدنا بعمل الآخر {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا حجة قائمة تحتجون بها علينا؛ وإنما هو عناد ومكابرة {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} وبينكم يوم القيامة {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيثيب الطائع، ويأخذ العاصي(1/592)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ} يخاصمون {مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ} له أي بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دين الله تعالى أفواجاً. أو من بعد ما قامت الحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة؛ على وجوده تعالى ووحدانيته وبذلك وجبت الاستجابة له؛ والإيمان به {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} باطلة ساقطة(1/592)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
{بِالْحَقِّ} بالصدق، وأنزل {وَالْمِيزَانَ} أقام العدل، وأمر به؛ لأن الميزان: آلة الإنصاف والعدل. وربما أريد بالميزان: العقل؛ لأن به توزن الأمور، ويفرق بين الخير والشر، والحق والباطل(1/593)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{مُشْفِقُونَ} خائفون {يُمَارُونَ} يجادلون(1/593)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} بالعاصي منهم والطائع، والكافر والمؤمن؛ يرزق كلا النوعين، ويمتع كلا الصنفين: لطف بأوليائه حتى عرفوه؛ ولو لطف بأعدائه لما جحدوه وإنما كان لطفه بهم من ناحية الرزق والحفظ {وَهُوَ الْقَوِيُّ} على مراده {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب(1/593)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أي ثوابها. لما كان العامل في هذه الدنيا كالزارع الذي خدم الأرض وسقاها: جعل جزاؤه وثوابه على عمله في الآخرة كالحرث(1/593)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
{أَمْ لَهُمْ} أي للمشركين {شُرَكَاءُ} آلهة {شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} كالشرك، ونسبة الولد إليه تعالى {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ليوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بالعقوبة التي يستحقونها {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين(1/593)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا كَسَبُواْ} من جزاء ما عملوا من المعاصي {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي نازل بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كسبوا(1/593)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا أسألكم على التبليغ أجراً؛ إلا أن تودوا قراباتكم، وتصلوا أرحامكم. وقيل: المراد بالقرابة: قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهو مردود؛ لأن مودة قرابة الرسول - ولو أنها فرض على كل مؤمن - فإنها تعتبر أجراً على التبليغ، وسياق القرآن الكريم ينافي ذلك في سائر مواضعه. وقيل:
{إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني وتكفوا عن إذايتي؛ لقرابتي منكم {وَمَن يَقْتَرِفْ} يكتسب {حَسَنَةً} طاعة {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} في أجرها {حُسْناً} أي نضاعفها له(1/594)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي يربط عليه بالصبر على أذاهم، وتكذيبهم لك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنونات القلوب(1/594)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} توبة العبد: هو أن يندم على ما ارتكبه من الذنوب، ويعيد ما فاته من الفرائض، ويرد ما اكتسبه من المظالم(1/594)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه. واستجاب، وأجاب بمعنى {وَيَزِيدُهُم} فوق مطلوبهم(1/594)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ} أي لو أغناهم: لاستكبروا وظلموا {وَلَكِن يُنَزِّلُ} الرزق {بِقَدَرٍ} بتقدير {مَّا يَشَآءُ} فيبسطه لأناس: يستحقون البسط، أو لا يستحقونه؛ جديرون بالإكرام، أو غير جديرين به. ويقبضه عن أناس: يستوجبون القبض، أو لا يستوجبونه؛ جديرون بالامتهان، أو غير جديرين به. وفي كلا الحالين: هو الحكيم العليم؛ الذي يعلم ما يصلح عباده، وما لا يصلحهم. جاء في الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته لفسد حاله، ومنهم من إذا أفقرته لفسد حاله» {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ} بما يصلحهم {بَصِيرٌ} بحاجاتهم؛ أكثر من إبصارهم لها(1/594)