ـ[أوضح التفاسير]ـ
المؤلف: محمد عبد اللطيف الخطيب
الناشر: المطبعة المصرية ومكتبتها
الطبعة: السادسة، رمضان 1383 هـ - فبراير 1964 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير](/)
(ك)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}.
والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه {كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله}.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!(المقدمة/11)
(ل)
ولكنه الله: {الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد}!
فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً!
وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل.
وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات!
جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه {أهل التقوى وأهل المغفرة}.
وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله!
وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول!
وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين!
لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!(المقدمة/12)
(م)
ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟!
ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه!
وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (1)، وأصفى من الصفاء!
وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (2)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين!
وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله!
ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا
ــــــ
(1) ماء رواء: كثير مرو.
(2) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».(المقدمة/13)
(ن)
للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية!
فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر:
وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى ... من أغضب المولى، و أرضى العبيد!
ولكني -علم الله- لم أبغ فيما كتبت سوى رضا الله! لأنه تعالى هو وحده المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، الغفور الرحيم!
وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه!
جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب!
محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب(المقدمة/14)
(ف)
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى.
أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي.
فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة.
ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟!
وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن(المقدمة/17)
(ص)
الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين!
أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات.
وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها.
وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي.
ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان {وما يعلم تأويله إلا الله}.
وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن.
مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له.
وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.(المقدمة/18)
(ق)
ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب!
فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان.
وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس.
والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه!
ابن الخطيب(المقدمة/19)
سورة الفاتحة(1/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
آية من الكتاب الكريم؛ تدل على ذات الله العلية، وصفاته السنية وقد ورد أنها المعنية بقول الحكيم العليم: «وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً» قيل: إن من قرأها - متعبداً بها - أنجاه الله تعالى من ملائكة الجحيم التسعة عشر «عليها تسعة عشر» فعدد حروفها بعددهم. وقال بعضهم: إنها تيجان لسور القرآن؛ وليست بآية منه. وعلى ذلك قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها. وقيل: إنها آية من كل سورة؛ وعلى ذلك قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما. وقد رجحوا أنها آية من الفاتحة فحسب؛ لأحاديث وردت بذلك. والرأي أنها آية من كل سورة عدا براءة؛ لثبوتها في المصحف الإمام؛ الذي لا زيادة فيه ولا نقصان بإجماع الأمة الإسلامية.
قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم: فهو أبتر» أي ناقص وقليل البركة وجب علينا أن نبدأ بها في كل أمورنا: لتحل بركتها، ويعم نفعها
هذا وقد جرت عادة بعض كتاب هذا العصر على إغفالها في مؤلفاتهم؛ وهو خطأ فاحش شنيع إذ كيف نبدأ في أمورنا باسم بعض المخلوقات الفانية العاجزة، ونغفل اسم الإله الباقي العظيم الخبير، اللطيف القدير؟(1/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{رَبِّ} مالك وسيد. يقال: «رب» الدار أي مالكها، و «رب» الغلام؛ أي مالكه قال تعالى: «ارجع إلى ربك» أي إلى سيدك ولا يقال لمخلوق: هذا الرب: معرفاً بالألف واللام. فإن هذا لا يجوز إلالله تعالى وحده. وإنما يقال: «رب» المنزل، و «رب» القرية. فيعرف بالإضافة أنه من الأرباب المخلوقين؛ فتعالى رب الأرباب رب العالمين {الْعَالَمِينَ} جمع العالم. والعالم: الخلق كله. والمراد: رب سائر المخلوقات؛ من ملك وإنس وجن، ووحش وطير وغيره وبالجملة فهو ما سوى الله تعالى من أحياء وجماد ويتناول أيضاً سائر العوالم الكائنة بشتى الكواكب المتناثرة في ملكوت الله تعالى.
فتعالى الله رب العالمين(1/2)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مالك يوم الجزاء - وهو يوم القيامة - فلا شفيع إلا بإذنه، ولا عقاب إلا بأمره، ولا ثواب إلا بفضله(1/2)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق الذين أنعمت عليهم بالهداية والاصطفاء كالنبيين،
[ص:3] والصديقين، وخواص المؤمنين {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} وهم العصاة؛ الذين جعلوا إلههم هواهم، واشتروا دنياهم بأخراهم، ولم يبالوا بغضب مولاهم؛ فارتكبوا الذنوب وهم بها عالمون، ولعاقبتها مقدرون. وقيل: هم اليهود {وَلاَ الضَّآلِّينَ} وهم الذين يرتكبون الذنوب حال كونهم غير عالمين بجرمها، ولا بمبلغ إثمها. وقيل: هم النصارى. ولا يخفى أن اليهود: مغضوب عليهم وضالون، وأن النصارى: ضالون ومغضوب عليهم.
«آمين» ليست من القرآن بالإجماع؛ ويسن قولها بعد الفراغ من قراءة الفاتحة؛ وبعد سكتة قصيرة؛ للفرق بينها وبين كلامه تعالى. ومعناها: اللهم استجب، أو كذلك فليكن. وقيل: هي اسم من أسمائه تعالى.(1/2)
سورة البقرة(1/3)
الم (1)
{الم} قيل: إن المعنى: ألف، لام، ميم(1/3)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي إن هذا الكلام البليغ المعجز: مكون من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم؛ وهي الألف، واللام، والميم؛ وهكذا. وقيل: إن «آلم»: اسم للسورة، وهكذا سائر أوائل السور المكونة من الأحرف. وقيل: غير ذلك. وجميع ما ذكر في هذا الصدد لا يرتاح إليه الضمير،؛ والله تعالى أعلم بما يريد.
وقد جاءت {الم} في بدء ست سور من القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وزيدت عليها الصاد في الأعراف: {المص} وزيدت عليها الراء في الرعد: {المر} (انظر آية 1 من سورة غافر) {لاَ رَيْبَ} لا شك(1/3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} بما غاب عنهم؛ من أمر البعث والحساب، وغير ذلك؛ مما غاب عن البصر، ولم يغب عن البصيرة {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الثمار والأموال والخيرات {يُنْفِقُونَ} يتصدقون على الفقراء والمعوزين (انظر آيتي 44 من سورة الروم، و107 من سورة الصافات)(1/3)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} على من تقدمك من الرسل: كالتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؛ عليهم السلام. والمراد أنهم يؤمنون بالرسول عليه الصَّلاة والسَّلام وما أنزل إليه، وبالرسل المتقدمة - الذين جاء ذكرهم في القرآن - وصدق دعواهم: «قولوا آمنا ب الله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى
[ص:4] وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» {وَبِالآخِرَةِ} وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب أليم {هُمْ يُوقِنُونَ} يؤمنون بالقيامة وما فيها تمام الإيمان؛ من غير شك ولا شبهة(1/3)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُولَئِكَ} المذكورون {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} هداية أضفاها عليهم، وعناية أحاطهم بها: لإيمانهم بالغيب، وإقامتهم الصلاة، وإنفاقهم مما رزقهم الله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالجنة، الناجون من النار(1/4)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي وعظتهم أم لم تعظهم، وخوفتهم أم لم تخوفهم {لاَ يُؤْمِنُونَ} عناداً واستبداداً(1/4)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} أي غطى عليها وطبع {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} غطاء. من غشاة: إذا غطاه. والمعنى: أنه تعالى طبع وغطى على قلوبهم؛ فلا تفهم العظة، وعلى أسماعهم؛ فلا تسمع النصح، وعلى أبصارهم؛ فلا ترى الحقيقة(1/4)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
{وَمِنَ النَّاسِ} وهم المنافقون {مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وغاية الإيمان: أن يؤمن الإنسان بقلبه ب الله فيتقيه، وباليوم الآخر وما فيه. أما إذا كان الإيمان لا يجاوز اللسان: فهو خداع ونفاق؛ وذلك لأنك إذا تيقنت أن هناك إلهاً قادراً عظيماً؛ يراك حين تعصاه، ويسمعك حين تبغى على مخلوقاته: وجب عليك أن تتجنب هذا العصيان وذلك البغي، وإذا آمنت أن هناك يوماً تحاسب فيه على الكبير والصغير، والنقير والقطمير: وجب عليك ألا تفعل إلا طيباً، ولا تقول إلا حسناً(1/4)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يبدون من الإيمان، خلاف ما يخفون من الكفران(1/4)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق. لأن الشك: تردد بين الأمرين، والمريض: متردد بين الحياة والموت(1/4)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} هكذا شأن المفسدين في كل زمان ومكان: يظنون في أنفسهم الإصلاح وهم عنه بعداء، ويتوهمون ما يفعلونه الخير وهم منه براء يعنون بالسفهاء: أئمة المسلمين، وهداة الدين؛ الذين آمنوا بالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه «وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه» والسفهاء: الجهال. قال تعالى رداً عليهم: لمزيد جهلهم، وفرط سفههم(1/4)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي إذا انفردوا بمن هم كالشياطين في العتو والتمرد والكفر؛ وهم رؤس الكفر والضلال من قسسهم ورهبانهم.
[ص:5] {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} في الدين؛ فلا تظنوا أنا قد آمنا مع هؤلاء واتبعنا دينهم {إِنَّمَا نَحْنُ} بتظاهرنا بالإيمان {مُسْتَهْزِئُونَ} بمحمد وأصحابه. قال تعالى رداً على استهزائهم بالمؤمنين(1/4)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أي يسخر منهم، ويجازيهم على استهزائهم. وسمي الجزاء باسم العمل؛ كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} وقوله جل شأنه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَيَمُدُّهُمْ} يمهلهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} وذلك لأنهم ابتدأوا بالكفران؛ فزاد لهم ربهم في الطغيان. والطغيان: تجاوز الحد في العصيان يتحيرون ويترددون(1/5)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} أي الكفر بالإيمان (انظر آية 175 من هذه السورة)(1/5)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{مَثَلُهُمْ} في طغيانهم ونفاقهم، وزعمهم الإيمان، وإنكارهم له {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} أوقدها، أو طلب إيقادها للإضاءة {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} واستبدل ظلمته نوراً؛ بالتلفظ بالإيمان؛ وهو قولهم عند ملاقاة المؤمنين: «آمنا» {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} عندما خلوا إلى شياطينهم، و «قالوا» لهم «إنا معكم إنما نحن مستهزئون» {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} وهي ظلمات الكفر، والنفاق، والجهل. والدنيا كلها ظلمات؛ إلا موضع العلم، والعلم كله هباء؛ إلا موضع العمل، والعمل كله هباء؛ إلا موضع الإخلاص. فالإخلاص أس العبادة، وجماع الإيمان والفضائل(1/5)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{صُمٌّ} عن سماع الحق {بِكُمُ} عن النطق به. {عُمْيٌ} عن رؤيته. والصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع. والبكم: الخرس {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الظلمات التي يعمهون فيها؛ وذلك لصممهم وعماهم وخرسهم(1/5)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{أَوْ كَصَيِّبٍ} أي «مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً» أو مثلهم «كصيب» والصيب: المطر الشديد. وأريد بالصيب: القرآن الكريم
{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} وهو تمثيل لما فيه من الوعيد الشديد؛ بنيران الجحيم، والعذاب الأليم {بَرِقَ} أي فيه ظلمات الوعيد، ورعد العذاب «وبرق» المعرفة لأنه أريد بالبرق: نور الحجج البينة المنيرة اللامعة {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ} وقاية وحذراً منها. والصاعقة: نار تنزل من السماء؛ عند قصف الرعد. وهل تمنع الأصابع في الآذان، عذاب الملك الديان؟ وكيف تمنع {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} عالم بهم، قادر عليهم؛ لا يفوته شيء من أعمالهم؛ ولا تعجزه أفعالهم؛ فلا يستطيع أحد الفرار من بطشه، أو النجاة من بأسه، أو الخروج عن أمره(1/5)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لسرعة وميضه، وشدة لمعانه
[ص:6] {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} أي كلما لمع البرق مشوا مسرعين في ضوئه {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي إذا سكت البرق، وخبت ناره، وانطفأ نوره: وقفوا في أماكنهم متحيرين مترصدين خفقة أخرى؛ عسى يتسنى لهم الوصول إلى مقاصدهم(1/5)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} تقعدون عليها وتمشون وتنامون {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} ماء المطر: ينزل من السماء رأى العين؛ ومنشؤه البحار، وتحمله السحب. قال الشاعر:
كالبحر يمطره الغمام وما له
فضل عليه لأنه من مائه
{أَندَاداً} شركاء ونظراء وأمثالاً(1/6)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد من آيات الكتاب المجيد {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} تحداهم أولاً بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وبعد ذلك تدرج تعالى معهم - نكاية بهم، وزيادة في توبيخهم - بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} وبعد كل هذا الاحتقار والازدراء؛ أراد أن يستثير كامن همتهم، وماضي عزيمتهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أيّ سورة، بل أيّ آية؛ وأنى لهم أن يأتوا بأقصر سورة من مثل هذا القرآن الذي أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء؛ وانظر - يارعاك الله - في أي عصر من العصور حصل هذا التحدي؟ إنه في عصر الفصاحة التي لا تمارى، والبلاغة التي لا تجارى، والمنطق الذي لا يلحق له بغبار. وقد وقف الجميع مكتوفي الأيدي، ناكسي الرؤوس؛ لا يستطيعون أن يحيروا جواباً أو أن ينبسوا ببنت شفة {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم} آلهتكم التي تعبدونها(1/6)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي رزقنا في الدنيا مثله: في المنظر، لا في المخبر {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الحيض والأقذار، والأدناس الحسية والمعنوية(1/6)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحى} من الحياء؛ جاءت رداً على الكفرة حيث قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. فجاءت على سبيل المقابلة {فَمَا فَوْقَهَا} في الحقارة والصغر {يُضِلُّ بِهِ} أي بهذا المثل {كَثِيراً} من المنافقين؛ لكفرهم وعنادهم {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} من المؤمنين؛ لتسليمهم وانقيادهم.
[ص:7] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} الكافرين؛ لأن الله تعالى لا يضل مؤمناً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما إضلال الله تعالى يقع عقوبة لمن يصر على الكفران، ويأبى داعي الإيمان(1/6)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} والمراد بناقضي العهد: المنافقين، أو الكفار جميعاً، أو هم أحبار اليهود؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} كصلة الأقرباء، والعطف على الفقراء، ومعاونة الضعفاء، وإشاعة المحبة بين الناس، والإلفة والمرحمة(1/7)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} نطفاً في أصلاب آبائكم. والموت يطلق على السكون وعدم الحركة {فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحام، أو بالخروج إلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يبعثكم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فيؤاخذكم بما فعلتم و(1/7)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} لخدمتكم ومصلحتكم: لقد سخر تعالى لكم الحيوان والطير، والنبات والجماد، والماء والهواء؛ بغير حول لكم ولا قوة فانظر أيها المؤمن إلى تذليل الله تعالى للحيوان، وخضوعه واستكانته لبني الإنسان: فترى البعير الكبير، وقد انقاد للطفل الصغير وكيف أن الفيل - رغم قوته وضخامته - ينقاد لبني الإنسان، ويكون له مطية في كثير من الأحيان، ومعواناً له في الرحال، وحمل الأثقال. وانظر إلى الطير، وكيف يرحل من مواطنه، ويسير آلاف الأميال؛ حتى يرتمي بين فكيك، وينسحق تحت ماضغيك، وانظر إلى الثمار والنبات: كيف ترمي البذرة فتنتج لك الجنات، وتلقي بالحبة فتنبت لك الأقوات. وانظر أيضاً إلى الجماد: فقد علمك المعلم على الاستفادة به في شتى الحالات. وكذلك الماء: فقد ساقه الله تعالى لك سلسلاً؛ تستقى منه وتسقي ما تشاء من العجماوات. والهواء: وقد أجراه الله تعالى لك؛ ليحييك ويكفيك صنوف البلاء
ولو شاء ربك لقلب هذه النعم نقماً، وجعل الداء مكان الدواء؛ لأنه تعالى وحده خالق الخلق الفاعل لما يشاء {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} وجه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض {فَسَوَّاهُنَّ} خلقهن مستويات؛ لا عوج فيها، ولا خلل، ولا خطأ «لا ترى في خلق الرحمن من تفاوت»(1/7)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} يخلفني في تنفيذ أحكامي، والقيام بأوامري؛ وهو آدم أبو البشر عليه السلام. {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} وهذا يدل على وجود الأرض قبل آدم، وسكناها بأمم قبل بني آدم؛ كان دأبها الإفساد في الأرض وسفك الدماء. أو كان قول الملائكة استفهاماً عن الحكمة الداعية لذلك الخلق؛ وقد كانوا عليهم السلام ملء الأرض والسموات، وقد رأوا في اللوح المحفوظ فساد بني الإنسان،
[ص:8] وشهوته إلى سفك الدماء وها هو الجنس الآدمي قد حقق ظن الملائكة فيه؛ فملأ الأرض فساداً وإفساداً، وأراق الدماء بحاراً وأنهاراً، وعصى خالقه ورازقه جهاراً، وكفر بموجده ومربيه نهاراً؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله العلي العظيم هذا ولم يكن سؤال الملائكة عليهم السلام اعتراضاً على فعله تعالى، أو مخالفة لأمره؛ فحاشا أن يعترض على الله تعالى أعلمهم به، وأخوفهم منه، وأتقاهم له {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ننزهك عن كل نقص، ونحمدك على نعمائك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظمك، أو نطهر أنفسنا لعبادتك. ومعنى تقدس: تطهر(1/7)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا} أي ألهمه معرفة كل شيء يحتاج إليه. وسمى «آدم» لخلقته من أديم الأرض؛ وهو ما على وجهها من تراب. وزعم بعضهم: أن آدم وإبليس ليسا على حقيقتهما؛ وإنما هما رمزان لا أصل لهما؛ يمثلان الشر والمعصية. وهو قول بادي البطلان؛ يدفعه صريح القرآن {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} أي عرض المسميات لا الأسماء؛ بدليل قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ} المسميات؛ ليريهم أنه تعالى قد وهب لآدم من المعرفة ما لم يهبه لهم، وليريهم آيته في حكمة خلق الإنسان وخلافته في الأرض.
هذا وقد أضفى تعالى على نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه علوم الأولين والآخرين؛ ليجعله رحمة للعالمين؛ ولله در البوصيري حيث يقول في همزيته:
لك ذات العلوم من عالم الغيـ
ـب ومنها لآدم الأسماء(1/8)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} تنزهت وتعاليت (انظر آية 1 من سورة الإسراء).(1/8)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ} أمرهم الله تعالى بالسجود ابتلاء لهم واختباراً؛ وهو سجود لقدرة الله تعالى وإبداعه، ولا وجه لمن قال: إن سجودهم كان بالانحناء فحسب؛ على سبيل التحية؛ بل كان سجوداً حقيقياً كسجود الصلاة؛ يدل عليه قول الحكيم العليم: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} {فَسَجَدُواْ} أي سجد الملائكة جميعاً، وسائر العقلاء من المخلوقات {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} رفض السجود المأمور به. و: «إبليس»: أبو الجن؛ وليس من الملائكة كما زعموا. وسمى بإبليس: ليأسه من رحمة الله تعالى وتحيره؛ لأن معنى أبلس: يئس وتحير {رَغَداً} الرغد: طيب العيش وسعته {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هي شجرة أيّ شجرة نهيا عن الأكل منها امتحاناً لهما، واختباراً لعزمهما. وقيل: إنها الحنطة، أو العنب، أو التفاح {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} يؤخذ من ذلك أن هناك خلقاً قبل آدم عليه السلام، وأن ظالماً وظلماً قد كان في الأرض قبله(1/8)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} أوقعهما في الزلة. وقرىء «فأزالهما» أي عن النعيم الذي كانا فيه {اهْبِطُواْ} انزلوا.
[ص:9] والمعنى: تحولوا من الجنة العالية، إلى الأرض السافلة، ومن النعيم، إلى البؤس والشقاء {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} بني الإنسان، وبني الشيطان، أو بعض بني الإنسان عدو لبعض {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء الأجل(1/8)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ} ألهم، أو أوحى إليه {كَلِمَاتٍ} هي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {فَتَابَ عَلَيْهِ} ربه: قبل توبته، وغفر له(1/9)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً}
المراد آدم وحواء؛ تؤيده قراءة من قرأ {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وقد خوطبا بلفظ الجمع: لأنهما أصل لبني الإنسان، أو على مذهب من يقول: إن أقل الجمع اثنان وقد يكون المقصود بالخطاب: آدم وحواء وإبليس {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} كتاب أو رسول(1/9)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} خطاب لليهود. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام. وخص بني إسرائيل بالذكر؛ لأنهم أوفر الأمم نعمة، وأشدهم كفراً، وأكثرهم فساداً وعناداً {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أنجاهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا طغياناً وكفراً، وبغياً وعتواً {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي} الذي عهدته إليكم في التوراة؛ بالإيمان بمحمد عند بعثته. أو أوفوا بما عاهدتكم عليه؛ من تبليغ ما أنزل إليكم، وتبيينه للناس: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الذي قطعته على نفسي؛ وهو إثابتكم على ذلك بالثواب والأجر {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فخافوني وأطيعوا أمري(1/9)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ} من القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة؛ وفيها ذكر الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي بالقرآن، أو بالرسول {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تبيعوا دينكم بدنياكم وأخراكم بأولاكم(1/9)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{وَلاَ تَلْبِسُواْ} لا تخلطوا {الْحَقِّ} الإيمان {بِالْبَاطِلِ} بالكفر الذي تفترونه(1/9)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} البر: الاتساع في الخير {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} فلا تأتمرون بما به تأمرون. قيل: نزلت في أحبار اليهود، كانوا ينصحون سراً باتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام، ولا يتبعونه؛ طمعاً فيما يصل إلى أيديهم من الصلات والهبات والهدايا
{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} التوراة؛ وفيها ذكر الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأبناء رسالته(1/9)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{وَاسْتَعِينُواْ} على الأمور الشاقة، والشهوات الموبقة {بِالصَّبْرِ} على الطاعات، وعن الملذات {والصَّلاَةِ} التي هي مناجاة لرب العالمين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة شاقة
[ص:10] {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} الذين يستغرقون في مناجاة ربهم(1/9)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يوقنون {أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فيجازيهم على طاعتهم وإخلاصهم(1/10)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{وَاتَّقُواْ يَوْماً} خافوا يوم القيامة {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} بدل أو فدية(1/10)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{يَسُومُونَكُمْ} يظلمونكم أشد الظلم؛ من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يتركونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء {بَلاءٌ} بلية ومحنة(1/10)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{وَإِذْ فَرَقْنَا} فصلنا وفلقنا(1/10)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذلك لما دخل بنو إسرائيل مصر - بعد هلاك فرعون - ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه: وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه كتاباً «التوراة» وضرب له ميقاتاً: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} عبدتموه؛ وهو العجل الذي صنعه لهم السامري من حليهم؛ وكان الشيطان يدخل في جوفه ويخور كما يخور العجل قال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} وقيل: صنعه بحيث إذا تعرض للهواء: أصدر صوتاً يشبه خوار العجل(1/10)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {وَالْفُرْقَانِ} الذي يفرق بين الحق والباطل {بَارِئِكُمْ} خالقكم(1/10)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المذنب؛ ولا يتستر عليه لقرابته، أو لمحبته. وقيل: كانت التوبة عندهم أن يقتل التائب نفسه إثباتاً لصدق توبته. أو المراد بقتل النفس: كبح جماحها، وقتل شهواتها، والحيلولة دون سطوتها وتسلطها، وتمردها على الحق؛ ويكفي في التوبة: الإقلاع عن المعصية، ورد المظالم، واجتناب المحارم {الصَّاعِقَةُ} نار تنزل من السماء؛ ذات أصوات(1/10)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي من بعد أخذ الصاعقة لكم، ومعاينة أسباب الموت وموجباته.
ولعل المراد بالبعث هنا: من خلفهم من ذراريهم وأبنائهم(1/10)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{الْغَمَامِ} السحاب {الْمَنَّ} طل ينزل من السماء وينعقد عسلاً. أو هو كل ما يمنّ الله تعالى به على الإنسان
[ص:11] {وَالسَّلْوَى} قيل إنه السمائي؛ الطائر المعروف. أو هو كل ما يتسلى به؛ من فاكهة ونقل، ونحوهما {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الرزق الحلال المبارك (انظر آيتي 172 من هذه السورة و58 من الأعراف) {وَمَا ظَلَمُونَا} بكفرهم ومعاصيهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتعريضها للعذاب الأليم المقيم(1/10)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} وهي بيت المقدس، أو أريحاً؛ وهي بلد بالشام {رَغَداً} الرغد: سعة العيش {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} أي حينما تدخلون باب هذه القرية: اسجدو الله تعالى؛ شاكرين فضله وأنعمه {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} مسألتنا حطة؛ أي نطلب حط الذنوب عنا. وهو كناية عن التوبة وطلب المغفرة(1/11)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{رِجْزاً} عذاباً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الفسق: الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق، وجادة الصواب(1/11)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} طلب لهم السقيا من الله تعالى {فَقُلْنَا} له {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} وذلك أنه لما اشتد العطش ببهي إسرائيل: طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو ربه ليرسل لهم الماء؛ فدعا الله تعالى؛ فقيل له: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} تفيض بالماء؛ وذلك بعدد رؤساء الجند {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي قد علم كل فرقة من الجند عينهم التي يشربون منها {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثو: أشد الفساد(1/11)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وهو {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} {بَقْلِهَا} البقل: ما تنبته الأرض من الخضر؛ كالفول والفاصوليا واللوبيا، والحمص وأمثالها؛ وهو ما ينبت في بزره لا في أصل ثابت {وَفُومِهَا} الفوم: الثوم. وقيل: الحنطة {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أقل وأحقر {اهْبِطُواْ مِصْراً} المصر: العاصمة. أي اهبطوا مصراً من الأمصار، أو هي مصر نفسها {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} من البقل، والقثاء، والفوم، والعدس والبصل.
[ص:12] {وَضُرِبَتْ} جعلت {عَلَيْهِمْ} وصارت لزاماً لهم {الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أعطاهم الله تعالى جميع ما سألوا، ووهبهم فوق الذي طلبوا؛ فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراناً؛ فسلبهم العزة، وألبسهم الذلة. وليس المراد بالمسكنة: الفقر نفسه؛ بل المراد لازمه؛ وهو الحقارة، وقلة الشأن، والصَّغار. ومصداق هذه الآية: اضطهاد العالم أجمع لليهود، وتشتيتهم في سائر الممالك؛ حيث لا وحدة تجمعهم، ولا رابطة تضمهم؛ اللهم سوى ما اغتصبه بعض الأفاقين من أرض فلسطين؛ وهو عائد إلى أربابه بإذن رب العالمين {وَبَآءُوا} رجعوا(1/11)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى، وبرسوله محمد {وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود. من هاد: إذا تاب ورجع إلى الحق، وهم قوم موسى عليه السلام {وَالنَّصَارَى} وهم قوم عيسى عليه السلام. قيل: سموا نصارى؛ لتناصرهم وتآلفهم على دينهم - وقت تسميتهم - وقيل: نصراني؛ نسبة إلى نصورية: بفتح النون، وضم الصاد، وكسر الراء وفتح الياء قرية بالشام {وَالصَّابِئِينَ} الخارجين من دين إلى آخر؛ من صبا: إذا مال. وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأنجم والكواكب. وقيل: هم قوم على ملة نوح عليه السلام؛ استمروا على إيمانهم به، فلم يقبلوا اتباع من أرسل بعده من الرسل {مَنْ آمَنَ} إيماناً حقيقياً كاملاً؛ من هؤلاء الذين آمنوا بمحمد، أو آمنوا بموسى، أو آمنوا بعيسى، أو آمنوا بنوح؛ من آمن منهم {بِاللَّهِ} وعظمته وقدرته ووحدانيته {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} القيامة؛ وما فيها من عقوبة للعاصين، ومثوبة للطائعين {وَعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه؛ تقرباً إلى مولاه وذلك لأن الإيمان لا ينفع ولا يجدي؛ ما لم يكن مقروناً بالعمل الصالح {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي فلهؤلاء المذكورين جزاءهم على إيمانهم(1/12)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} العهد عليكم بالعمل بما في التوراة {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل. قيل: لما جاء موسى عليه السلام لبني إسرائيل بالصحف المنزلة عليه من ربه: أمرهم بالعمل بما فيها؛ فقالوا:
{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فرفع الله تعالى الجبل فوقهم؛ حتى صار كالظلة عليهم. فقال لهم موسى: إن لم تؤمنوا وقع عليكم وكنتم من الهالكين فآمنوا جميعاً ذعراً وخوفاً من الهلكة {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} ائتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه(1/12)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان(1/12)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} بصيد السمك فيه؛ وقد نهيناهم عنه. والمقصود بالسبت: يوم السبت؛ ومعناه لغة: الراحة؛ لأنه يوم راحتهم؛ وكانوا قد أمروا بالتفرغ فيه للعبادة؛ فخالفوا ذلك، وخرجوا للاصطياد {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} أي كالقردة؛ في الخفة والحمق والفساد. أو مسخوا قردة على
[ص:13] الحقيقة {خَاسِئِينَ} مطرودين(1/12)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
{فَجَعَلْنَاهَا} أي جعلنا هذه العقوبة، أو هذه المسخة، أو هذه الآية {نَكَالاً} عبرة وعظة. يقال: نكل به تنكيلاً: إذا صنع به صنيعاً يحذر به غيره {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي لمعاصريهم ومن بعدهم، أو للسابقين واللاحقين(1/13)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} حين وجدوا قتيلاً من بينهم؛ ولم يعلموا قاتله فسألوه أن يدلهم عليه. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وحكاية ذلك: أن رجلاً موسراً قتله بنو عمه ليرثوه، وطرحوه عند باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بديته؛ فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها؛ فيحيا ويخبرهم بقاتله. فضربوه بذنبها، فحي وقال: قتلني فلان وفلان - يريد ابني عمه - فاقتص منهما، وحرما ميراثه.(1/13)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
{فَارِضٌ} طاعنة في السن {عَوَانٌ} وسط في السن {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}(1/13)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} شديد الصفرة(1/13)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{لاَّ ذَلُولٌ} أي لم تذلل للعمل {مُسَلَّمَةٌ} سالمة من العيوب {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} لا علامة(1/13)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
{فَادَّارَأْتُمْ} أصلها: فتدارأتم؛ أي تدافعتم في الخصومة، وتستر بعضكم وراء بعض {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} مظهر {مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} من الجريمة(1/13)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل ببعض البقرة فيحيا، أو اضربوا القاتل ببعض جثة القتيل؛ وهذا يكون مدعاة لاعتراف القاتل {كَذَلِكَ} أي مثل إحياء القتيل أمامكم {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يوم القيامة؛ فتقوم، وتجادل، وتحاسب، وتثاب، وتعاقب؛ وعلى القول الثاني وهو ضرب القاتل ببعض جثة المقتول {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} بظهور القاتل، والاقتصاص منه.(1/13)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أيها اليهود {مِّن بَعْدِ ذلِكَ} أي من بعد أن أظهر الله تعالى ما كتمتموه في أنفسكم من القتل، وبعد أن أراكم كيف يحيي الموتى؛ ومن حق القلوب التي ترى ذلك أن تخضع وتلين؛ ولكن قلوبكم ازدادت قسوة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} في الصلابة والجمود، وعدم الخشوع والفهم {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من الحجارة.
[ص:14] {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} إشارة إلى أن من الحجارة ما هو أرق من القلوب القاسية، وأرقى من القلوب الكافرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي وإن من الحجارة لما يخشع ويخضع خوفاً منالله؛ قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}(1/13)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أي تؤمن لكم اليهود عن طريق النظر والاستدلال؟ وكيف يكون ذلك {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي من أسلافهم، ومن هم على شاكلتهم؛ وهم قوم موسى {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ} في التوراة؛ ويعلمون تمام العلم أنه حق - بما ظهر لهم من الآيات المتتالية، والمعجزات المتوالية - {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرونه، ويبدلونه؛ متعمدين معاندين {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} فهموه بعقولهم(1/14)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا} بأنكم على الحق، وأن رسولكم هو المبشر به في التوراة {وَإِذَا خَلاَ} انفرد ورجع {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ} أي قال الذين لم ينافقوا ولم يؤمنوا للذين نافقوا بقولهم «آمنا» قالوا لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} عرفكم في التوراة من نعت محمد {لِيُحَآجُّوكُم} ليقيموا عليكم الحجة(1/14)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{وَمِنْهُمْ} أي من اليهود {أُمِّيُّونَ} لا يقرأون، ولا يكتبون {إِلاَّ أَمَانِيَّ} إلا أكاذيب. وقيل: «أماني»: قراءة. والمعنى: إنهم يقرأون بغير فهم، ولا علم، ولا تدبر(1/14)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{فَوَيْلٌ} الويل: حلول الشر، وشدة العذاب {لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} التوراة {بِأَيْدِيهِمْ} مغيرين فيها ومبدلين؛ طبقاً لأهوائهم.(1/14)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} ارتكب جرماً، أو المراد بالسيئة: الشرك {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي لم يخرج من معصيته بالتوبة، ومن كفره بالإيمان {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} لقد أمر الديان، للوالدين بالإحسان، في كل وقت وزمان، وفي كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله؛ فتدبر هذا أيها المؤمن، وتقرب إلى ربك بطاعتهما وبرهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء) {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} أي قولاً حسناً؛ وهو حث بليغ على طيب الأخلاق وحسن المعاملة. والقول الحسن: يجمع سائر الفضائل، وبه تنبعث المحبة من القلوب، وله تطمئن النفوس، وبه تختفي الإحن، وتذهب حزازات الصدور {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان، والعمل بهذه الوصايا النافعة في الدنيا والآخرة(1/15)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي أخذنا العهد عليكم؛ بأن أمرناكم وعقلتم ما أمرناكم به، أو أمرناكم بما يجب أن يطاع، وبما فيه مصلحتكم؛ فكان ذلك بمثابة العقد والعهد والميثاق {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ} أي لا ترتكبون من الجرائم ما يوجب سفكها قصاصاً {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي أقر عقلكم بذلك واستصوبه(1/15)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي يقتل بعضكم بعضاً {تَظَاهَرُونَ} تتعاونون {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى} أي تقبلوا إطلاقهم نظير أموال تدفع إليكم؛ وقد حرم عليكم أصلاً محاربتهم وإخراجهم من ديارهم {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وبالتالي يحرم عليكم أخذ الفدية منهم؛ لأنهم إخوانكم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
[ص:16] الْكِتَابِ} التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} لأن فيها حل المفاداة، وحرمة القتل والإخراج {إِلاَّ خِزْيٌ} فضيحة وهوان(1/15)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي اشتروا اللذة الفانية، والشهوة الزائلة؛ بالثواب الباقي، والنعيم السرمدي(1/16)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام(1/16)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مغشاة بأغطية(1/16)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} القرآن الكريم {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} موافق لكتابهم {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} المشركين - إذا قاتلوهم - ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد وصفه ونعته في كتابنا «التوراة» {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ} أي ما عرفوه في كتبهم؛ من بعثتهصلى الله عليه وسلّم {كَفَرُواْ بِهِ} فلم يؤمنوا؛ وقد كان الأجدر بهم أن يؤمنوا بما عرفوا. (انظر آية 14 من سورة الشورى)(1/16)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي ساء ما اشتروا به أنفسهم، أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ} على رسوله {بَغْياً
[ص:17] أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم: أن أنزل الله تعالى الكتاب على غيرهم {فَبَآءُو} رجعوا {بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} غضب استوجبوه بسبب كفرهم بمحمد عند بعثته، وغضب استحقوه بسبب جحودهم نبوته، وزعمهم بأنه ليس هو المنعوت في كتابهم، وحسدهم لمن بعث فيهم(1/16)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على محمد؛ وهو القرآن الكريم {قَالُواْ} لا {نُؤْمِنُ} إلا {بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من التوراة والإنجيل {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} بما بعده، وبما عداه؛ وهو القرآن {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} أي حال كون هذا القرآن - الذي يكفرون به - هو الحق، وهو مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل {قُلْ} فإن كنتم صادقين فيما تقولون، وأنكم بغير الذي أنزل عليكم لا تؤمنون {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} كزكريا ويحيى عليهما السلام(1/17)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ}
المعجزات الظاهرات {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} عبدتموه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} لأنفسكم بكفركم(1/17)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أخذنا العهد عليكم بأن تبينون الكتاب للناس ولا تكتمونه عنهم {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} من الأوامر والنواهي {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد وعزيمة: {قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك: {وَعَصَيْنَا} أمرك. أي قالوا بألسنتهم: «سمعنا» وعملوا بعكس ما يعمل السامع؛ كمن قال «عصينا» قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} عبر بذلك كناية عن تغلغل حب العجل في قلوبهم وعبادته كتغلغل الشراب(1/17)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولون؛ من أن لكم الثواب في الآخرة، ولمن عداكم العقاب. وذلك لأن من تيقن أن النعيم أمامه: أسرع إليه، ومن تيقن أنه صائر إلى الجنة: اشتاق إلى ورودها؛ ليخلص من دار الآثام والآلام. ولكن قولهم ينافي فعلهم؛ إذ هم متمسكون بدنياهم، مفرطون في شؤون أخراهم(1/17)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
[ص:18] عَلَى حَيَاةٍ} لما تراه من خوفهم وجبنهم؛ شأن المنزعج على مصيره، الخائف من عاقبته {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} في الدنيا؛ ما دام الموت له بالمرصاد، والجحيم معدة له يوم المعاد(1/17)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} أي فإن جبريل الذي يعادونه: نزل القرآن على قلبك. وناهيك بمن نزل بالقرآن من الرحمن وقد نشأت عداوة اليهود لجبريل عليه السلام؛ حين علموا أنه ينزل بالعذاب والهلاك والدمار {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}
ما تقدمه من الكتب المنزلة(1/18)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً} وهو موثقهم في التوراة بتبيين أحكامها للناس، وعدم إخفاء شيء منها(1/18)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{فَرِيقٌ} طرحه وألقاه {فَرِيقٌ مِّنْهُم} وهم المنكرون لمحمد عليه الصلاة والسلام وبعثته، والقرآن ونزوله(1/18)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{وَاتَّبَعُواْ} أي اليهود {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} من كتب السحر والشعوذة {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي في زمنه وعهده، أو حول ملكه وسلطانه؛ وكانوا يذيعون أن ملكه كان قائماً على السحر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} كما ادعت اليهود؛ حيث قالوا: إن محمداً يخلط الحق بالباطل، ويذكر أن سليمان نبي؛ مع أنه كان ساحراً يركب الريح، وتأتمر الجن بأوامره {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} بتعليمهم الناس السحر {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} بالوسوسة؛ ويحتمل أن يعني بالشياطين: شياطين الإنس والجن معاً {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى
[ص:19] الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} يحتمل أن يكون هناك ملكان حقيقة؛ أنزلهما الله تعالى لتعليم الناس السحر؛ لإظهار الفرق بين السحر والمعجزة؛ وليروا أن ملك سليمان، وما فيه من خوارق وعظمة وسلطان؛ لم يكن قائماً على سحر وتخيلات، بل على كرامات ومعجزات؛ وأنه عليه السلام لم يكن ساحراً ماكراً؛ بل كان رسولاً عظيماً، ونبياً كريماً؛ أمده الله تعالى بالملك الواسع، والغنى الجامع؛ تحقيقاً لرغبته، واستجابة لدعوته وإلا فأين السحر من تكليم الحيوان والحشرات والطير؟ وأين السحر من تسخير الهواء والماء، والجن والإنس؟ وقد ذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية؛ في قوله تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} وقوله جل شأنه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي لم ينزل على الملكين شيء من السحر، ولم يعلماه أحداً؛ كما ادعت اليهود أن هناك ملكين أنزل عليهما السحر، وأنهما يعلمانه للناس، وكما ادعوا على سليمان؛ فكذبهم الله تعالى في ذلك. و «بابل» قرية بالعراق {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان للملكين المزعومين؛ كما اسمتهما اليهود. وقيل: إنهما رجلان تعلماه من الشياطين، وجعلا يعلمانه للناس. وقيل: إنهما قبيلتان من قبائل الجن. وعلى قراءة من قرأ «ملكين» يكون المراد بهما: داود وسليمان
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} أي إنما نحن ابتلاء من الله تعالى واختبار؛ فلا تكفر بتعلم السحر والعمل به {فَيَتَعَلَّمُونَ} أي الناس {مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهي الأشياء التي يعملها بعض الفجار؛ مما يؤدي إلى التفرقة بين الزوجين بواسطة بعض التخييلات. ويلاحظ أن الرأي القائل بأن «ما» نافية لا يستقيم مع باقي الآية. وقيل: إن أهل بابل كانوا يعبدون الكواكب - بصرف السحرة لهم عن الحق - فأنزل الله تعالى هذين الملكين ليفضحا حيل السحرة، وليظهرا أمر السحر للناس على حقيقته، ويعلموهم أن ما يسيطرون به عليهم ليس إلا نوعاً من التمويه والتخييل، وكان الملكان يعلمان الناس حيل السحرة، ويحذرانهم أن يفعلوا مثله، لأنه كفر وضلال، ويقولان لهم: إنما نحن امتحان لكم، فلا تكفروا بما نعلمكموه؛ فإنما نعلمكم للتحذير من الوقوع في مثله، ولتستطيعوا أن تفرقوا بين السحر والمعجزة، وبين الحق والباطل.
أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين: من أن هاروت وماروت: ملكان؛ عصيا الله تعالى وزنيا، وقتلا النفس، وشربا الخمر؛ فعذبهما الله تعالى بأن علقهما من شعورهما في بئر ببابل؛ فجعلا يعلمان الناس السحر. إلى آخر ما أوردوه من أقاصيص من وضع الدساسين والزنادقة واليهود؛ وهو كلام لا يجوز نسبته بحال إلى الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
[ص:20] عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} وقال جل شأنه واصفاً طاعتهم: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {خَلاَقٍ} نصيب(1/18)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} أي لكان ذلك ثواباً لهم(1/20)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{رَاعِنَا} راقبنا؛ وهي بلغة اليهود: كلمة سب؛ من الرعونة {انْظُرْنَا} انتظرنا(1/20)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
{مَا نَنسَخْ} نبدل {أَوْ نُنسِهَا} من النسيان. وقرىء «أو ننسأها» أي نؤخرها {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي نأت بآية جديدة حاوية لحكم جديد، خير من الحكم المنسوخ. وقد ذهب كثير من العلماء والمفسرين إلى تقسيم المنسوخ إلى أقسام: منها ما نسخ حكمه ونسخت تلاوته، ومنها ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، ومنها ما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فإذا ما استساغ العقل منسوخ الحكم والتلاوة، ومنسوخ الحكم باقي التلاوة؛ فإن القسم الأخير لا يستساغ عقلاً؛ إذ كيف تنسخ التلاوة مع بقاء الحكم؟
ومن ذلك زعمهم أن القنوت في الصلاة من القرآن المنسوخ؛ في حين أن القنوت ورد بألفاظ شتى، وعبارات متباينة، وقد أخذ كل واحد من الأئمة بصيغة تخالف ما أخذه غيره.
كما زعموا أيضاً أن «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» من القرآن المنسوخ تلاوة الباقي حكماً.
هذا مع أن الرجم لم ينزل به قرآن البتة؛ بل هو عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وتشريع الرسول واجب حتماً كتشريع القرآن؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} وقوله جل شأنه: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} وقوله عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
وأفحش هذه المزاعم: روايتهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان فيما يقرأ من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» وأن ذلك قد نسخ بقوله تعالى «خمس رضعات معلومات يحرمن» وأن النبي توفي وهي فيما يقرأ من القرآن. وأن الدواجن أكلتها بعد موت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه
وهذا الزعم يشهد بفساده وبطلانه: وعد القدير العظيم، بحفظ كتابه العزيز الكريم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقد حفظه تعالى من شياطين الإنس والجن؛ فكيف بالدواجن، وضعاف الطير؟ {وَلِيُّ} محب يلي أموركم(1/20)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أي كما سأل قوم موسى موسى بقولهم: {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقوله: {أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} {سَوَآءَ السَّبِيلِ} الطريق السوي(1/20)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} المراد بالحسد هنا: الأسف على الخير عند الغير (انظر آية 5 من سورة الفلق)
[ص:21] {فَاعْفُواْ} عنهم {وَاصْفَحُواْ} عن ذنوبهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بالقتال، أو بنمو الإسلام بزيادة بنيه وقدرتهم على دفع عدوهم {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}
أي تجدوا ثوابه وجزاءه {هُوداً} أي من اليهود(1/20)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} آمالهم، أو تلك أقوالهم التي يدعونها(1/21)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} أخلص نفسهلله، وصدق في عبادته {وَهُوَ مُحْسِنٌ} لنياته وأعماله {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة(1/21)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{وَهُمْ} أي اليهود والنصارى {يَتْلُونَ الْكِتَابَ} التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى؛ وفي التوراة: تصديق عيسى. وفي الإنجيل: تصديق موسى. وفي الكتابين: تصديق محمد. وفي القرآن: تصديق ما تقدمه من الكتب والرسل (انظر آية 157 من سورة الأعراف).(1/21)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ} أي تعطيلها. ويدخل في ذلك: منع المصلين، وحبس المياه أو النور عن المساجد، أو تركها بغير إصلاح وتعمير؛ مع حاجتها إلى ذلك، والقدرة عليه. أو هو نهي عن ترك الصلاة وهجر المساجد {خِزْيٌ} فضيحة وهوان {فَثَمَّ} هناك(1/21)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
{وَاسِعٌ} أي واسع الرحمة؛ يسع فضله كل شيء(1/21)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{وَقَالُواْ} أي النصارى {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} يعنون به المسيح عيسى ابن مريم {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له عن الولد والوالد {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} خاضعون مطيعون. وهو إنكار لاتخاذ الله تعالى للولد بالدليل العقلي: لأن الإنسان لا يسعى للولد إلا رغبة في المساعدة والمعاونة؛ وكيف يحتاج تعالى لذلك و {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومن فيهما: طائعين خاضعين(1/21)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مبدعهما {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو تقريب لأفهامنا؛ والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً كان؛ بغير افتقار للفظ «كن»(1/21)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلا يكلمنا الله {أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} معجزة مما نقترحه. قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً}.(1/21)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} بالقرآن {بَشِيراً} مبشراً من أطاع بالثواب والجنة {وَنَذِيراً} منذراً من عصى بالعقاب والنار {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي ولا نسألك عنهم: ما لهم لم يؤمنوا بعد أن أبلغتهم رسالة ربهم؟ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {وَلِيُّ} محب يلي أمرك، ويهمه شأنك(1/22)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى؛ وآمنوا به إيماناً حقيقياً {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يفهمونه حق فهمه {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بمحمد، أو بالقرآن، أو بكتابهم الذي هداهم إلى معرفة محمد وكتابه(1/22)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
{عَدْلٌ} بدل أو فدية(1/22)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{ابْتَلَى} اختبر وامتحن {بِكَلِمَاتٍ} أوامر ونواه {فَأَتَمَّهُنَّ} فأداهن أحسن تأدية، وقام بهن خير قيام {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} أي رئيساً لهم؛ يأتمون بك في الدين، ويقتدون بك في الأعمال {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} أي واجعل من ذريتي أيضاً أئمة يقتدى بهم {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} المراد بالظلم هنا: الكفر أي لا تصيب الإمامة الكافرين من ذريتك. ويصح أن يراد بالظلم: الظلم نفسه لا الكفر؛ إذ أن ولاية الظلمة والفسقة لا تجوز؛ وكيف تجوز ولاية الظالم، لكف المظالم؟(1/22)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
{مَثَابَةً} مرجعاً؛ من ثاب: إذا رجع أو المعنى: موضع ثواب؛ يحجون إليه، فيثابون عليه {وَأَمْناً} يأمن من فيه على نفسه - في الجاهلية والإسلام - فقد كان الرجل يلقى فيه قاتل أبيه؛ فلا يستطيع أن يصعد النظر نحوه {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ
[ص:23] إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} موضع صلاة. وهو أمر بركعتي الطواف. روى جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين؛ وقرأ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
ومقام إبراهيم: هو الحرم كله، أو الحجر الذي قام عليه عند البناء؛ وفيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر - حين قام عليه وأذن بالحج - وعن عمر رضي الله تعالى عنه: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر؛ فلو أمرتهن أن يحتجبن؛ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله نساؤه - في الغيرة - فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فنزلت كذلك: {وَعَهِدْنَآ} أوصينا وأمرنا {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين(1/22)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وقد أجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فحملت الثمار من سائر الأقطار إلى الحرم؛ قبل أن يتذوقها زارعوها وحاملوها؛ وقد تجد بين أيديهم فاكهة الصيف في الشتاء؛ وفاكهة الشتاء في الصيف؛ وقد رأيت بعيني رأسي أرقى ثمار العالم تحمل إليه بالطائرات عبر البحار والمحيطات، فعجبت - حيث لا عجب - لماذا يحمل كل ذلك لهذه البلدة الخاوية إلا من الدين، الخالية إلا من المؤمنين؟ فتذكرت دعوة إبراهيم، فتبارك السميع العليم {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقد كان دعاؤه عليه السلام قاصراً على من آمن منهم فحسب؛ ولذا قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ} أي وسأرزق أيضاً من كفر {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} في الدنيا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجئه(1/23)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{الْقَوَاعِدَ} الأسس والجدر {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} أي قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} ما نفعل في سبيلك؛ من بناء بيتك، وإعلاء دينك لقولنا ودعائنا {الْعَلِيمُ} بإخلاصنا وصدق نياتنا(1/23)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} مخلصين {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} عرفنا عباداتنا {وَتُبْ عَلَيْنَآ} أي اقبل توبتنا، ورجوعنا إليك، وإنابتنا لك وإذا كان هذا حال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وهما من كبار الأنبياء، وخيرة الأصفياء؛ فكيف بنا معشر العصاة الطغاة - وقد ارتكبنا ما ارتكبنا، وأتينا ما أتينا - فلم نتدبر المآب، ولم نفكر في المتاب؛ كأنما أخذنا عند الله عهداً بعدم العذاب، أو كأن ما فعلناه لا يستوجب العقاب(1/23)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ وهو خاتم الأنبياء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام. قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، ومن دنس المعصية(1/23)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} رغب عن الشيء:
[ص:24] لم يرده؛ ضد رغب فيه إذا أراده {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} حملها على السفه، أو أهلكها {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} اخترناه.(1/23)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
{أَسْلِمْ} استسلم(1/24)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{وَوَصَّى بِهَآ} أي بالملة؛ وهي الإسلام {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي اختاره ورضيه {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} المعنى حافظوا على دينكم، وتقربوا إلى ربكم؛ حتى لا تموتن إلا وأنتم ثابتون على الإسلام(1/24)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} مشاهدين وحاضرين {مُّسْلِمُونَ} مطيعون ومنقادون(1/24)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} قد مضت وهو خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. أي إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذراريهم من المؤمنين {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والأمة: الجماعة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} أي عليها إثم ما اقترفت من الذنوب، وثواب ما عملت من الصالحات، وعليكم إثم ما جنيتم من الآثام، وأجر ما عملتم من الحسنات(1/24)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
{وَقَالُواْ} أي اليهود والنصارى للمؤمنين {كُونُواْ هُوداً} يهود {قُلْ} لهم: لن أتحول عن ديني الذي هداني إليه ربي؛ ولن أكون يهودياً أو نصرانياً {بَلْ مِلَّةَ} أبي {إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مستقيماً {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان عابداًلله قانتاً(1/24)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب: ذراري أبنائه(1/24)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{وَّإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} في خلاف ومعاداة(1/25)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{صِبْغَةَ اللَّهِ} دينه(1/25)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا} أتجادلوننا {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا} أي جزاء أعمالنا وثوابها {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} إثمها وعذابها {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} في الحب، والعبادة والإخلاص: لب كل خير، وأساس كل نفع؛ فبغيره لا يصل الإنسان إلى ربه، ولا يهنأ بقربه؛ فالدنيا كلها ظلمات إلا موضع العلم، والعلم كله هباء إلا موضع العمل، والعمل كله هباء، إلا موضع الإخلاص. والإخلاص لا يكون باللسان؛ بل بالجنان، ولا يكتسب بالركوع والسجود؛ بل بالاتجاه إلى الرب المعبود فاحرص - هديت وكفيت - على الإخلاص؛ فهو باب النجاة والخلاص(1/25)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب عليه السلام: ذراري أبنائه {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} أخفاها ولم يبدها(1/25)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} قد مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} جزاء ما عملتم {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولا تؤاخذون بكفرهم وطغيانهم {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}(1/25)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ} الجهال منهم {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا يصلون نحوها؛ وقد كان المؤمنون - في بدء الإسلام - يصلون نحو بيت المقدس؛ حتى نزل قول العزيز الكريم:(1/25)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} {قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي له الكون أجمع بسائر جهاته {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}(1/25)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي متوسطين بين الغلو والتفريط. ووسط كل شيء: أعدله. والطريقة الوسطى: المثلى. قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم حكماً، وأصوبهم رأياً
[ص:26] {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} وهي بيت المقدس {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فيما يذكره عن ربه؛ من تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة {مِمَّن يَنقَلِبُ} يرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ} أي يعود إلى الكفر الذي كان فيه {وَإِن كَانَتْ} التولية عن القبلة {لَكَبِيرَةٌ} شاقة صعبة؛ لأن كل تغيير في أمر من الأمور - خاصة إذا كان هذا الأمر جديداً في أوله: كالإسلام، وكان هاماً: كقبلة الصلاة - فإنه يكون صعباً وشاقاً على النفوس
{إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وفقهم للإيمان، وهداهم للتصديق {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى القبلة الأولى. ولا يخفى ما في التعبير عن الصلاة بالإيمان: من تعظيم لشأنها، وإعلاء لقدرها؛ وأن من تمسك بأدائها، وحافظ على أوقاتها؛ فقد تمسك بالإيمان كله كيف لا وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر: {اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} وهي فوق ذلك مذهبة الهموم، ومفرجة الكروب «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} جهته {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أي ليعلمون أن تحويل القبلة هو الحق؛ لأنه معلوم عندهم، مدون في كتبهم(1/25)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى {بِكُلِّ آيَةٍ} بكل معجزة يقترحونها، وبرهان يطلبونه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} لإصرارهم على الكفر والعناد {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} علم الله تعالى أن رسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه ليس بتابع قبلتهم، ولا بمتبع أهواءهم؛ ولكنه خطاب موجه لسواد الأمة الإسلامية، ونهي لكل من يؤمن ب الله واليوم الآخر؛ عن اتباع الأشرار والفجار، واتخاذهم أولياء. وهو كنهي الملك لقائده، وتهديده أمام جنده؛ بقصد حثهم على الاستقامة؛ وتحفيزهم على الطاعة. وكل ما جاء في الكتاب الكريم من الآيات بهذا المعنى؛ فهو لهذا المرمى(1/26)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون النبي. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (انظر آية 157 من سورة الأعراف).
[ص:27] {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي ينكرون معرفة الرسول عليه الصلاة والسَّلام؛ الذي هو حق معروف ثابت في كتبهم {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين(1/26)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي ولكلَ قبلة يتجه إليها. أو لكل فريق طريقه هو متبعها {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي حيث إن الله تعالى قادر على الإتيان بكم جميعاً، ومحاسبتكم عما ضيعتموه، ومعاقبتكم على ما اقترفتموه؛ فسابقوا إلى الخيرات والحسنات؛ ليحل الثواب مكان العقاب، والرحمة مكان النقمة، والنعيم مكان الجحيم(1/27)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{شَطْرَهُ} جهته {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} اليهود والنصارى والمشركين {حُجَّةٌ} يجادلونكم بها؛ وذلك لأن اليهود تعلم أن النبي المنعوت في التوراة تكون قبلته الكعبة لا بيت المقدس {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} من أهل الكتاب؛ الذين قالوا: ما تحول إلى الكعبة إلا رغبة في دين قومه؛ ويوشك أن يرجع إلى ملتهم(1/27)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{وَيُزَكِّيكُمْ} يطهركم من الكفر والمعاصي {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي يعلمكم ما لا سبيل إلى علمه ومعرفته؛ إلا بالوحي الإلهي الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام بالطاعة(1/27)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{أَذْكُرْكُمْ} بثوابها، وبالتوفيق إلى أمثالها {وَاشْكُرُواْ لِي} ما أنعمت به عليكم.
والشكر قسمان: قسم بالأقوال، وقسم بالأفعال. والقول إن لم يصحبه فعل يدل على صدقه؛ فلا فائدة منه، ولا طائل وراءه. ورب شاكر باللسان ورب العزة عليه غضبان أما إذا صاحب القول الفعل؛ فقد ازداد الشاكر سعة ونعمة، ومن الله حباً وقرباً وشكر المال: إنفاقه في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، وإخراج زكاته. وشكر البصر: غضه عن المحارم. وشكر السمع: ألا يسمع به غيبة أو لغواً. وشكر القوة: نصرة المظلوم، والكف عن الأذى، وبذلها في الجهاد والدفاع عن الدين والوطن(1/27)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ} على قضاء حوائجكم الدنيوية والأخروية {بِالصَّبْرِ} على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الأمور الشاقة {والصَّلاَةِ} وكيف لا يستعان بها؛ وهي مرضاة رب العالمين، ومناجاة أكرم الأكرمين؛ ومفرجة كرب المكروبين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»(1/28)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ} من العدو {وَالْجُوعِ} القحط {وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} بالفقر وتقدير الرزق {وَالأَنفُسِ} بالموت والأمراض {وَالثَّمَرَاتِ} بالحوائج والآفات الزراعية بذلك لننظر أتصبرون أم تكفرون(1/28)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
{الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فيجزينا أجر ما أصابنا
عن النبي: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن الله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» وقد ورد عن أم المؤمنين أم سلمةرضي الله تعالى عنها؛ أنه لما توفي زوجها أبو سلمة رضي الله تعالى عنه: قالت - في نفسها ـ: ومن خير من أبي سلمة؟ رجل شهد المشاهد مع رسولالله، وفاز بصحبته، وحظي بمحبته؛ ولكنها استرجعت، ودعت الله كما جاء في الحديث: فخطبها رسولالله؛ فكان نعم الخلف وعنه أيضاً «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه»(1/28)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} الصلاة من الله تعالى: المغفرة(1/28)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} هما جبلان بمكة شرفها الله تعالى {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} أعلام مناسكه {اعْتَمَرَ} زار {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} لا حرج، ولا إثم عليه {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي بالصفا والمروة؛ بأن يسعى بينهما سبعاً {وَمَن تَطَوَّعَ} زاد على ذلك {خَيْراً} أي بخير؛ بأن أراد زيادة التقرب إلى الله تعالى بالنوافل {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} له ما زاد، مجاز عليه {عَلِيمٌ} بظواهره وسرائره(1/28)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أغفر لهم {يُنْظَرُونَ} يمهلون ويؤجلون(1/29)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأنجم، وأفلاك وأملاك في خلق {الأرْضِ} وما فيها من مخلوقات ونباتات، وأشجار وأنهار في {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي} بالذهاب والمجيء، والزيادة والنقصان في {الْفُلْكِ} السفن {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} بأمر الله تعالى ونعمته {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} من التجارات، والانتقال بواسطتها من بلد إلى آخر {وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد جدبها {وَبَثَّ} فرق ونشر {فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان ونحوهما في {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تقليبها جنوباً وشمالاً، باردة وحارة؛ بما ينفع الناس والمخلوقات، والزرع والضرع في {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} بأمر الله تعالى وقدرته {بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} دلالات واضحات على وحدانية القادر الحكيم {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون هذه الآيات، ويفهمون هذه الدلالات(1/29)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{وَمِنَ النَّاسِ} أي ممن لا يعقلون، ولا يفهمون، ولا يتدبرون {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَندَاداً} شركاء وأمثالاً {وَلَوْ يَرَى} ولو يعلم {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر واتخاذ الأنداد {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} يوم القيامة؛ وقد كانوا يكذبون به في الدنيا {أَنَّ الْقُوَّةَ} والقدرة والبطش {للَّهِ جَمِيعاً} له وحده؛ لا للأنداد التي كانوا يعبدونها(1/29)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
[ص:30] اتُّبِعُواْ} أي تبرأ الأنداد التي كانوا يعبدونها، والكهان والرهبان الذين كانوا يطيعونهم، والسادة والرؤساء الذين كانوا يتبعونهم، وكل من دعا إلى عبادة غير الله تعالى؛ يتبرأ هؤلاء جميعاً {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} أي الذين اتبعوهم على الكفر؛ وهم فقراء الكفار والمشركين وأراذلهم. يقول السادة والرؤساء يومئذٍ: لا نعرفهم، ولم نقل لهم: اعبدونا أو اتبعونا {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} أي أسباب المودة؛ من قرابة وصداقة ولم يبق لهم نصراء(1/29)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من رؤساء الأديان؛ الذين دعونا للكفر في الدنيا، وتبرأوا منا في الآخرة(1/30)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تطيعوا وسوسته لكم بترك الحسنات، وفعل السيئات.
ويدخل في ذلك شياطين الإنس أيضاً؛ فمنهم من هو أشد فتكاً، وأبلغ نكاية من شياطين الجن (انظر آية 112 من سورة الأنعام)(1/30)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{مَآ أَلْفَيْنَا} ما وجدنا {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي أولو كان آباؤهم جهالاً؛ لا يفقهون، ومجانين لا يعون؛ فهم لهم متبعون؟ فمثلهم(1/30)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يصيح {بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} أي صوتاً يسمعه ولا يفهم معناه؛ كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهمه {صُمٌّ} عن سماع الحق {بِكُمُ} عن النطق به {عُمْيٌ} عن رؤيته(1/30)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق الحلال؛ ومتى كان الأكل حلالاً: كان العمل صالحاً ومتقبلاً وإذا شاب الحرام الرزق أو أحاطت به شبهات الكسب: فترت الهمة، ووهنت العزيمة؛ ولم يتقبل الله تعالى من عبده العبادات والطاعات، وردت عليه دعوته؛ واكتنفه الذل مع عزته، والفقر مع غناه، وخسر دنياه وأخراه؛ فليحذر المؤمن الشبهات في سائر الحالات؛ خاصة في طعامه وشرابه (انظر آية 58 من سورة الأعراف) {وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فالشكر من لوازم العبادة؛ وغير الشاكر: لا يكون عابداً، ولو ظل طول دهره ساجداً. (انظر آية 152 من هذه السورة)(1/30)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} المسفوح {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} نهانا تعالى عن لحم الخنزير؛ لما فيه من شر وضر؛ فقد ثبت أنه يحمل ميكروبات شتى تسبب أمراضاً يعسر شفاؤها ويعز دواؤها
وهذه الآية من أهم ما حرص عليه الطب الوقائي: ففي الميتة ملايين الميكروبات التعفنية والرمية، كما أن الدم هو حامل الميكروب إلى سائر الجسم؛ وقد لجأ الطب أخيراً - حينما اكتشف ذلك - إلى تحليل جزء منه فيتضح له كل ما في الجسم من أمراض؛ وهو في هذه الحال من أسرع وسائل العدوى، ولحم الخنزير: مباءة لكثير من الميكروبات، وهو العائل الأصلي للدودة الشريطية
[ص:31] {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما ذبح للأصنام، أو ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من ذلك المحرم؛ بسبب مجاعة مهلكة أشرف فيها على التلف؛ فله أن يأكل على ألا يتناول منه سوى القدر الذي يحفظ عليه حياته {غَيْرَ بَاغٍ} على أحد؛ كأن يختطف ما يسد رمقه من إنسان آخر؛ ليس له ما يسد رمقه سوى ما اختطفه منه. أو «غير باغ» على جماعة المسلمين وخارج عليهم {وَلاَ عَادٍ} معتد عليهم بقطع الطريق؛ فألجأه ذلك إلى الجوع المهلك المتلف؛ فليس له أن يستمتع بهذه الرخصة(1/30)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى؛ كتموا نعت محمد عليه الصَّلاة والسلام؛ وهو موصوف عندهم في التوراة والإنجيل {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي بذلك الكتمان {ثَمَناً قَلِيلاً} هو ما يأخذه أحبارهم ورهبانهم {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يطهرهم. والمعنى: لا يغفر لهم(1/31)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} الكفر والمعصية {بِالْهُدَى} بالإيمان والطاعة {وَالْعَذَابَ} الذي ينالهم؛ عقوبة على ضلالهم وكفرهم {بِالْمَغْفِرَةِ} التي تنال المؤمنين المهتدين؛ جزاء إيمانهم وطاعتهم
ومن عجب أن ينصرف كثير من الناس عن إرضاء مولاهم؛ إلى الحرص على دنياهم وينصرف آخرون إلى إرضاء المخلوقين، وإغضاب رب العالمين؛ قال الشاعر:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
وللمشتري دنياه بالدين: أعجب
وأعجب من هذين: من باع دينه
بدنيا سواه: فهو من ذين أخيب
{شِقَاقٍ} خصام وجدال وخلاف {بَعِيدٍ} كبير(1/31)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} في الصلاة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} ب الله إيماناً حقيقياً {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وآمن بالقيامة وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب {وَالْكِتَابِ} أي وآمن بالكتاب؛ وهو اسم جنس. أي آمن بسائر الكتب المنزلة {وَآتَى الْمَالَ} أعطاه وبذله {عَلَى حُبِّهِ} أي رغم حبه للمال، وحاجته إليه، وافتقاره له؛ لأن مقتضى الحب: الحاجة إلى المحبوب، والتشوق إليه. وقيل: في سبيل حبه تعالى، ورغبة في إرضائه جل شأنه
والمراد: أن يعطي المال وهو طيب النفس بإعطائه (انظر آية 32 من سورة الزخرف) {وَابْنَ السَّبِيلِ} المسافر المنقطع {وَفِي الرِّقَابِ} أي إعتاق العبيد، وفك الأسرى. والرق معروف - من أقدم العصور - قبل الإسلام؛ فقد عرف في مصر الفرعونية، وفي دولة آشور، ودول فارس، والدولة الرومانية والبيزنطية؛ ولم يكن الإسلام مؤسساً للرق وموجداً له - كما يزعم الكثيرون - بل كان داعياً إلى التخلص منه والقضاء عليه؛ لما يكتنفه من المباهاة والمفاخرة وإذلال الغير. وحين بزغ قمر السلام، ولاح فجر الإسلام، وسطعت
[ص:32] أنوار الحرية: سعى الدين إلى رفع الذل والعبودية عن الأرقاء؛ فجعل من العتق قربة إلى الله تعالى ومنجاة من العذاب، وكفارة من الإثم فدعا بذلك إلى حرية الجنس الإنساني، وقدسية الآدمية (انظر آية 92 من سورة النساء). {الْبَأْسَآءِ} الفقر {والضَّرَّاءِ} المرض {وَحِينَ الْبَأْسِ} وقت اشتداد القتال(1/31)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وهو الأخذ بالمثل في العقوبة: كقتل القاتل {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فلا يقتل حر بعبد {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ويقتل بالحر أيضاً {وَالأُنثَى بِالأُنْثَى} وتقتل بالذكر، كما يقتل الذكر بها. و «القصاص»: يقتضي المماثلة في الدين؛ فلا يقتل مسلم - ولو عبداً - بكافر - ولو كان حراً - {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أي ولي المقتول؛ بأن ترك المطالبة بالقصاص واكتفى بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أي حيث إن ولي المقتول عفى عن قتل القاتل، وقبل الدية منه فليتبع ذلك بالمعروف، وليؤد إليه الدية بإحسان من غير مطل ولا ضرار {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ} بأن جاوز هذا الشرط؛ كأن لم يدفع القاتل الدية كاملة لولي المقتول، أو أن يقتل ولي المقتول القاتل بعد قبوله الدية(1/32)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الأَلْبَابِ} إقرأ هذه الآية - أيها المنصف الحكيم - وكرر قراءتها، وتبين معانيها ومراميها، وتفهمها جلياً، وتأملها ملياً؛ وانظر إلى بلاغة القرآن وإيجاز القرآن وإعجازه: يقول الله تعالى: إن لكم في الموت حياة. لأن القصاص: هو القتل ولنا في هذا القتل حياة
ولو لم يكن القصاص: لما بقي على ظهرها إنسان: إن النفوس التي جبلت على الشر، وروضت عليه لو علمت أنه لا يوجد حاكم يحكمها، ولا رادع يردعها، ولا ولي يأخذ لضعيفها من قويها، ولفقيرها من غنيها؛ لقتل الأشرار الأخيار، وأكل الناس بعضهم بعضاً وقد صدقالله: فإن لنا في القصاص لحياة وأي حياة(1/32)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فرض عليكم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه، وأحس المريض بدنو أجله ولم يبق له سوى صالح عمله {إِن تَرَكَ خَيْراً} أي مالاً كثيراً {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الذين لا يرثونه {بِالْمَعْرُوفِ} الذي أذن فيه الله تعالى وأجازه في الوصية؛ مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد فيه ظلم ورثته. وقيل: إن هذه الآية نسخت بآية المواريث في سورة النساء(1/32)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{فَمَن بَدَّلَهُ} أي غير الإيصاء - من الورثة، أو الشهود - عن وجهه الذي أراده الموصي {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} إثم هذا التبديل {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} لا على الموصي؛ الذي أبرأ ذمته، وأرضى ربه(1/32)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} جوراً وميلاً عن الحق {أَوْ إِثْماً} بألا يوصي لوالديه؛ بغضاً لهما، أو لا يوصي للأقربين؛ مع فقرهم وحاجتهم، أو يوصي بأكثر مما أجازه الله تعالى
[ص:33] في الوصية؛ متعمداً لحوق الضرر بالورثة {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} بين الموصي وورثته، أو بينه وبين من تجب عليه الوصية لهم(1/32)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فقد كان الصوم مفروضاً على من تقدمنا من الأمم {لَعَلَّكُمْ} بسبب هذا الصيام {تَتَّقُونَ} الله تعالى، وتخشون غضبه، وتعملون بأوامره؛ ومن هذا يعلم أن الصيام يبعث على الإيمان الصادق، ويرقق القلب، ويصفي النفس، ويعين على خشية الله تعالى؛ ولذا استعان به الأنبياء في تحقيق مآربهم، والأولياء في تهذيب نفوسهم، والخاصة في شفاء قلوبهم، والعامة في شفاء جسومهم(1/33)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} أي قلائل {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يتحملونه بجهد ومشقة؛ وهو رخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده (انظر آية 226 من هذه السورة) {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} زاد في الإطعام، أو زاد في الصيام؛ تطوعاً منه فوق ما فرض عليه من الإطعام والصيام {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} وفي هذا ما فيه من الحث على الإطعام، والترغيب في الصيام. ومنه يعلم ما في الصيام من فوائد جمة لا تدركها العقول؛ فإنه فضلاً عن كونه مرضات للرب، ومطهرة للنفس؛ فقد ثبت أنه علاج ناجع لكثير من الأمراض المستعصية؛ وقد يكون العلاج الوحيد لضغط الدم، وقد أجمع الأطباء على فائدته الكبيرة لمرضى السكر؛ يدل على ما تقدم قوله تعالى {وَأَن تَصُومُواْ} حال المرض والسفر {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما فيه مصالحكم(1/33)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى} آيات الكتاب الكريم {وَالْفُرْقَانِ} الذي يفرق بين الحق والباطل {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي حضره؛ ولم يكن مسافراً، ولا مريضاً {فَلْيَصُمْهُ} وليس معنى الشهود: الرؤية والمشاهدة {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} أي عدة الشهر؛ ليتساوى صائم الشهر كاملاً، مع من قضى ما فاته لعذر(1/33)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أين ربنا؟ وهل يسمع لدعائنا، ويستجيب لندائنا؟ {فَإِنِّي قَرِيبٌ} منهم؛ أسمع نجواهم وشكواهم، و {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ورب قائل يقول: إنني أسأله في كل يوم فلا يعطيني، وأناديه في كل ساعة فلا يجيبني. والجواب على هذا القائل: إنك أيها السائل لم تسأل ربك بل امتحنته، ولم تناده بل سخرت منه؛ ولو أنك ناديته بحق لأجابك، وسألته بصدق لاستجاب لك
إن من شرائط السؤال - أيها الممتحن لربه، الساخر بقدرته - أن تتيقن بإجابته تيقنك بوجودك، وأن تثق بما عنده وثوقك بنفسك: تسأل صديقك - الذليل الحقير الضعيف الفقير - أن يعطيك شيئاً؛ وأنت على تمام الوثوق، ومزيد اليقين بإجابة سؤالك، وتدعو ربك - المعطي المانع، الضار النافع - أن يهبك أحقر الأشياء؛ وأنت من الإجابة آيس، ومن عطائه قانط فما ترجوه بعد هذا الكفران؟ تؤمن
[ص:34] بصديقك أكثر ما تؤمن بربك، وترجو إجابة سؤالك ودعائك؛ هيهات هيهات أن يجاب لك؛ قبل أن تحسن ظنك به، وتثق بما عنده، وتعبده كأنك تراه، وتخشاه كأنه يراك (انظر آية 60 من سورة غافر) {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} إذا دعوتهم لما يصلحهم وينجيهم؛ لأجيبهم فيما يطلبونه مني
ومن هذا يعلم أن الإيمان والعمل الصالح: شرط في قبول الدعاء {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} يصيبون الرشد والسداد، ويوفقون لما يجعلهم مجابي الدعاء، عظيمي الرجاء(1/33)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي كل ليلة صيام؛ لا الليلة الأولى من رمضان؛ كما يتوهمه بعض العامة {الرَّفَثُ} الجماع {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أي كلاكما ستر للآخر عن الحرام، أو شبههما تعالى باللباس: لاعتناقهما، واشتمال كل واحد منهما على صاحبه، أو هو بيان لسبب الإحلال: فإن الذي بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة: قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذا رخص لكم في مباشرتهن {تَخْتانُونَ} أن تخونون {أَنْفُسُكُمْ} وتظلمونها بالجماع، أو تنقصونها حظها من الثواب {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} غفر ما سلف منكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} بإحلال ما كان محظوراً عليكم {أَلَّن} بعد الإحلال {بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} الفجر {مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} الليل {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ} لا تجامعوهن {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} مقيمون ومعتكفون {فِي الْمَسَاجِدِ} للتعبد والصلاة(1/34)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{وَتُدْلُواْ} تلقوا {بِهَآ} بالأموال {إِلَى الْحُكَّامِ} على سبيل الرشوة. وهذا مشاهد؛ يفعله بعض ضعافي النفوس عديمو الضمائر: فيرشون أمثالهم - ممن لا خلاق لهم - ليقتطعوا بذلك مال إخوانهم {بِالإِثْمِ} بالباطل والظلم فليحذر هذا وليتجنبه من يؤمن ب الله ويخشاه، وليخف يوماً إذا طولب فيه بالوفاء: عجز عن الأداء(1/34)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} هو كناية عن وجوب مباشرة الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها.
وقيل: كانوا يأتون بيوتهم - في الإحرام - من نقب ينقبونه في ظهرها؛ زاعمين أن ذلك من البر(1/34)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي قاتلوا الذين يبدأونكم بالقتال، أو قاتلوا الرجال الذين يقاتلونكم فحسب؛ ولا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بالابتداء بالقتال، أو بقتال الذين لم يقاتلوكم(1/34)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} حيث وجدتموهم {وَأَخْرِجُوهُمْ} والمراد بذلك المشركين {مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكة؛ لأنهم أخرجوا المسلمين منها {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} «الفتنة»: عذاب القيامة، أو الإخراج من مكة، أو الشرك(1/35)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
{فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الشرك {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهم ما تقدم من كفرهم {رَّحِيمٌ} بهم؛ فلا يعذبهم بما فعلوه حال كفرهم. والإيمان يجبُّ ما قبله(1/35)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} لا يكون شرك، ولا يكون إيذاء {فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الشرك والقتال {فَلاَ عُدْوَانَ} أي لا يصح القتال والاعتداء {إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ وقد انتهوا عن القتال وأسلموا(1/35)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ} في الحرمة والتقديس والأمن وعدم القتال {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أي مقابلاً له. والأشهر الحرام: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. فإذا قاتلكم المشركون في شهر منها؛ فلا تضعوا أيديكم على صدوركم، وتتحرجوا من قتالهم في مثلها وتقولوا: لا نقاتل في الأشهر الحرم؛ فقد حرم الله تعالى فيها القتال والاعتداء. بل قاتلوهم فيها كما قاتلوكم {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فكما انتهكوا حرمة الأشهر الحرم؛ جاز لكم أن تقتصوا بمثلها. يؤكده قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} في الأشهر الحرم {فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فيها. وليس معنى ذلك: أن من يقتل ولدي أقتل ولده، ومن يسمم بهيمتي أسمم بهيمته؛ إذ ما ذنب الولد حتى يعاقب بما جناه أبوه وما ذنب البهيمة حتى تعاقب بما جناه صاحبها؟ بل يجب أن تقع المماثلة في العقاب على نفس المجرم جزاء ما جنت يداه(1/35)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، والاستعداد للجهاد؛ فيقوى عدوكم، وتضمحل قوتكم وفي هذا ما فيه من الذل المؤبد، والهلاك المحقق. وقيل: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» بأن تعرضوها للموت المحتم، أو بإنفاق سائر مالكم فتعرضون أنفسكم وعيالكم للفقر والتلف والضياع {وَأَحْسِنُواْ} الظن ب الله تعالى في النصر والإخلاف أو أحسنوا أعمالكم ونياتكم(1/35)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي حوصرتم من الأعداء، ومنعتم من الحج {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما تيسر منه. و «الهدي» الإبل المهداة للحرم
[ص:36] {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} مرضاً يضطره إلى ترك شيء من المناسك {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} كبثور، أو قمل، أو نحوهما؛ مما يلجئه إلى حلق رأسه وهو محرم {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} يصوم ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} يتصدق بها؛ وهي ثلاثة آصع. والصاع: أربع أمداد. والمد: ملء كف الرجل المعتدل {أَوْ نُسُكٍ} ذبح شاة.
عن هادي الأمة صلوات الله تعالى وسلامه عليه، أنه قال لكعببن عجرة: «لعلك آذاك هوامك؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين، أو أنسك شاة» والفرق: ثلاثة آصع {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} الإحصار وكنتم في حال سعة وأمن {فَمَن تَمَتَّعَ} حل من إحرامه، واستباح ما كان محظوراً عليه {بِالْعُمْرَةِ} وفاته الحج بسبب إحصاره.
والعمرة: زيارة البيت الحرام؛ مع الطواف والسعي بالإحرام {إِلَى} وقت {الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فعليه دم بسبب تمتعه بمحظورات الإحرام {إِذَا رَجَعْتُمْ} أي من الحج {ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لم يكن من مستوطني مكة(1/35)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{فَلاَ رَفَثَ} الرفث: الجماع، أو الفحش في القول {وَلاَ فُسُوقَ} الفسوق: الفجور، والترك لأمر الله تعالى {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي لا مجادلة، ولا مخاصمة أثناء الحج. وذلك لأن الحج عبادة روحية تستدعي الصفاء وتفرغ النفس لعبادة ربها وحده، والبعد عن مواطن الخطأ والزلل {وَتَزَوَّدُواْ} لآخرتكم؛ بالعبادة والعمل الصالح والإخلاص(1/36)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لا حرج عليكم إن ابتغيتم - مع الحج - التجارة والتكسب {فَإِذَآ أَفَضْتُم} رجعتم {مِّنْ عَرَفَاتٍ} جبل معروف بمكة {الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} جبل يقف عليه الإمام، واسمه «القزح»(1/36)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي ارجعوا من حيث رجعوا؛ وهو أمر لقريش خاصة، وقد كانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف مع باقي المؤمنين بعرفة(1/36)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} أديتم عباداتكم المتعلقة بالحج {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} بالتكبير والثناء عليه {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} وقد كان من دأبهم المفاخرة بالآباء {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا} أي يجعل كل همه نيل ما يتمنى من دنياه {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أي ليس له فيها من نصيب؛ لانصرافه عن تحصيلها، وانشغاله بالفانية عن الباقية؛ فكان جزاؤه الحرمان من طيبات الدنيا، وحسن ثواب الآخرة(1/37)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي رزقاً واسعاً، وعيشاً رغداً {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} ثواباً ومغفرة، وجنة عرضها كعرض السموات والأرض؛ فكان حقاً على الله أن ينيله ما يتمناه فضلاً من لدنه ونعمة وقيل: إن حسنة الدنيا: المرأة الصالحة(1/37)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} أي ثواب ما عملوا.(1/37)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} هي أيام التشريق؛ وذكر الله فيها: التكبير عقب الصلوات {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة؛ فيجازيكم على ما عملتم(1/37)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} المزخرف، ونفاقه المستتر {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} لك؛ من ود وحب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} شديد العداوة والخصومة أو {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} في الدين واليقين {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} من إيمان وإحسان {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} للدين ولله ولرسوله(1/37)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{وَإِذَا تَوَلَّى} انصرف من عندك: ظهر على حقيقته، وبان على طبيعته، و {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} بكفره ونفاقه وإذاعته الإلحاد بين الناس {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} هو مبالغة في الإفساد؛ كقولهم أهلك الزرع والضرع(1/37)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} ولا تفعل ما يغضبه حملته الأنفة والحمية؛ على العمل {بِالإِثْمِ} الذي أمر باتقائه والبعد عنه
[ص:38] {فَحَسْبُهُ} كافيه {جَهَنَّمُ} التي سيصلاها عقوبة له {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش(1/37)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيعها {فِي السِّلْمِ} الإسلام؛ أو هو الاستسلام؛ وهو الصلح. أي اجتنبوا البغضاء والشحناء(1/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لأنه يدعوكم إلى التفرقة والشقاق(1/38)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{فَإِن زَلَلْتُمْ} وقعتم في الزلة {الْبَيِّنَاتُ} المعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات(1/38)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي بعذابه؛ كقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي بالعذاب {فِي ظُلَلٍ} جمع ظلة؛ وهو ما أظلك {مِّنَ الْغَمَامِ} السحاب المتكاثف {وَقُضِيَ الأَمْرُ} قامت القيامة، أو وجب العذاب(1/38)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} معجزة ظاهرة واضحة {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} أي آياته؛ التي أنعم بها على عباده لهدايتهم، وإنجائهم من الضلال؛ لأنها من أجل النعم وتبديلها: أنها سيقت لتكون سبباً للهداية، فيجعلونها سبباً للغواية(1/38)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي حببت إليهم، وزينها الشيطان لهم، وعجلنا لهم طيباتهم فيها. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {وَيَسْخَرُونَ} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} لأنهم لا يعبأون بالدنيا ولا بأهلها؛ وكل همهم الحرص على رضا ربهم جل شأنه {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ} ربهم وخافوه، وعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وصدقوا برسوله، وآمنوا بالنور الذي أنزل معه؛ فهؤلاء {فَوْقَهُمْ} أي فوق الكافرين؛ الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار فالمتقين في الجنة، والكافرين في النار {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من المؤمنين والكافرين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير سبب، فقد يرزق البليد، ويمنع النشيط، ويعطي العاصي، ويمنع الطائع؛ ما أراده كان، وما لم يرده لم يكن(1/38)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ هو دين الفطرة؛ أو كانوا كفاراً لا يعلمون حالهم ولا مآلهم (انظر آية 19 من سورة يونس) {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إليهم {مُبَشِّرِينَ} من أطاع بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من عصى بالنار
[ص:39] {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الذين يؤيدهم {بِالْحَقِّ} الذي يأمرون به، ويسيرون عليه. و «الكتاب» اسم جنس: يقع على سائر الكتب المنزلة؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي في الكتاب المنزل مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي إلا الذين أنزل عليهم الكتاب؛ أنزله الله تعالى مزيلاً للاختلاف، فجعلوه سبباً للخلاف
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً وظلماً: كيف ينزل الكتاب على رجل غيرهم؟ وكل واحد منهم يرى أنه أحق بنزوله عليه، وأجدر ممن نزل عليه {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} طريق(1/38)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{خَلَوْاْ} مضوا {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ} الفقر والحاجة {والضَّرَّاءِ} المرض {وَزُلْزِلُواْ} أزعجوا إزعاجاً شديداً(1/39)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ما الذي يتصدقون به؟ {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} مال؛ أو هو كل ما ينفق: من مال، أو غذاء، أو كساء، أو دواء. وسمى تعالى ما ينفق: خيراً؛ لأنه سبب في كل خير في الدنيا والآخرة؛ وناهيك يقول العظيم الكريم {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يجزي عليه أحسن الجزاء(1/39)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{كَتَبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الجهاد في سبيل الله {وَهُوَ كُرْهٌ} مكروه {لَكُمْ} لما فيه من مشقة، وبعد عن الأهل والولد؛ ولأنه في ظاهره تعرض للتلف والفناء، مع أنه أساس الحياة وسر البقاء {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} كالقتال {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا؛ بتخليص البلاد، ونجاة العباد، ورفع كلمة الله تعالى وفي الآخرة بنعيم الجنان، ورضا الرحمن {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} كالقعود مع الأهل والولد {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} في الدنيا؛ بالذل والاستعباد، وفقدان الكرامة وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه الخير لكم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فاتبعوا أوامره، وابتغوا ما فرضه عليكم؛ ففيه نجاتكم وسعادتكم(1/39)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {قِتَالٍ فِيهِ} أي هل يجوز القتال فيه؟ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} من المشركين لكم {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} منع عن دينه صد أيضاً عن {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} المؤمنين {مِنْهُ} وجميع ذلك {أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} إثماً وأعظم جرماً؛ من القتال في الأشهر الحرم. فكيف تسألون عن جواز القتال في الأشهر الحرم؟ قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} {وَالْفِتْنَةُ} أي الكفر، أو الإخراج من مكة، أو العذاب يوم القيامة {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} وأنكى وأشد {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال(1/40)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} ما حكمها؟ (انظر آية 90 من سورة المائدة) {وَالْمَيْسِرِ} القمار {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وأي إثم لقد أكرمك الله تعالى أيها الإنسان بالعقل المنير؛ فكيف تطفئه بالخمر؟ ووهبك الخير الكثير؛ فكيف تتلفه بالقمار؟ وهب أنك كاسب فيه غير خاسر؛ فبم تستحل لنفسك ما ليس لك بحق، وما هو محرم عليك، وشؤم على عيالك؟ ويدخل في عموم الميسر: ما يسمونه باليانصيب، وكذلك سائر المراهنات، وسباق الخيل؛ وكل كسب أو خسارة بغير سبب معقول، ووجه مشروع: فهي إثم في الخمر والميسر؛ مع ما فيهما من أسقام وآثام {وَمَنَافِعُ} في الظاهر {لِلنَّاسِ} ألا يربحون في تجارة الخمر، ويكسبون في لعب الميسر؟ وهو ربح ممقوت؛ الخسارة منه أكسب وكسب حرام؛ الإفلاس منه أربح وهي منافع حقيرة زائلة؛ بجانب ما يترتب عليها من الآلام والآثام فقد أثبت الطب - قديمه وحديثه - أن الإدمان على الخمر: يسبب تلفاً بالكبد، ويحول خلاياه الحية إلى ألياف ميتة؛ كما تؤدي إلى تصلب الشرايين، وإلى نزيف المخ، وإلى إفساد الجهاز العصبي، وضعف المدارك الحسية
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي أيّ شيء ينفقونه؟ {قُلِ الْعَفْوَ} أي الزائد عن نفقتكم وحاجاتكم. أو خير ما تنفقونه: «العفو» عند القدرة {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(1/40)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} في المعيشة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} منكم في هذه المخالطة {مِنَ الْمُصْلِحِ} الذي أراد بها تدبير أموال اليتامى، وإصلاح أمورهم {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} لأحرجكم وضيق عليكم(1/41)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} أي لا تتزوجوهن. والمشركة: التي تدعو مع الله إلهاً آخر؛ وهي غير الكتابية: اليهودية أو النصرانية. {وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ} أي لا تزوجوهم بناتكم {حَتَّى يُؤْمِنُواْ} وقد ذهب جماعة - منهم حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - إلى أن لفظ المشركات والمشركين؛ يعم اليهود والنصارى لقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} فهم مشركون أيضاً؛ لأن إلههم الذي يعبدونه يلد؛ وإلهنا تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ويعارض هذا الرأي: قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وقد قصد بهم اليهود والنصارى الذين قالوا: عزير ابنالله، والمسيح ابنالله. وعلى ذلك يكون المراد بالمشركين: عبدة الأصنام والنار والكواكب، ومن شاكلهم؛ ممن لا يؤمنون بوجود إله أصلاً {أُولَئِكَ} المشركون والمشركات {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الكفر المؤدي إلى النار؛ فلا تجوز مناكحتهم {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} بما يدعو إليه من أعمال صالحات؛ موصلة إليهما، موجبة لهما {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته(1/41)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} أي عن شأن الزوجة في مدة الحيض، وما ينبغي على الزوج حيالها وقت نزول دم الحيض؟
{قُلْ هُوَ أَذًى} مستقذر مبغوض {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن؛ لأن الأصل في الجماع: إنتاج الولد؛ وهن في هذه الحال غير مؤهلات للحمل. وقد جعل الله التلذذ عند التقاء الرجل بالمرأة: حرصاً على بقاء الجنس، واستيفاء لحاجة الكون من بني آدم وغيره من الأحياء؛ والمرأة الحائض تستقذر عادة؛ فإذا حاول الرجل إتيانها - وهي على هذه الحال - ربما أبغضها استقذاراً لها؛ فنهانا الحكيم العليم بعدم قربانهن في المحيض {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي حتى ينقطع الدم، ويمتنع الأذى؛ ويغتسلن؛ فيصرن نظيفات طاهرات مؤهلات لما أعدهن الله تعالى له. وقد أثبت الطب تحقق الضرر من التقاء الرجل بالمرأة وقت حيضها {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} في الفرج؛ لا في مكان آخر يكرهونه ويغضب الله تعالى(1/41)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} شبههن الله تعالى بالحرث: لما يلقى في أرحامهن وينتجن من الولد {أَنَّى شِئْتُمْ} أي بأي طريقة أردتم؛ في المكان المعلوم: موضع الحرث، لا موضع الفرث. وزعم بعض الفساق: أن الله تعالى أباح إتيان المرأة في دبرها؛ مستدلاً بقوله تعالى: «أنى شئتم» أي في أي موضع أردتم. والمعلوم أن معنى «أنى» لغة:
[ص:42] كيف. فلا تعطى المعنى الفاسد الذي ذهبوا إليه ومن المعلوم أيضاً أن الله تعالى أنزل هذا القرآن على مخلوقات تسمع وتعقل وتعي؛ فإذا ما كان هناك أمر تعاف إتيانه أحط الحيوانات؛ فكيف يتوهم حصوله من أفضل المخلوقات ولم نسمع أن حماراً أتى أتاناً في دبرها؛ فكيف نصدق أن إنساناً يستسيغ أن يكره امرأته على إتيانها في غير ما أمر الله تعالى به؟ فليتق الله من يؤمن بالله، ولا يدع شيطانه ينزل به إلى درك لم تنزل إليه البهائم التي لا تعقل وإن الإنسان ليرى العذرة في الطريق فيستقذر أن يمشي بقربها؛ فكيف يذهب بإرادته ويندس في مكانها ووعائها أفَ لمن يفعل ذلك، أو يحاوله؛ وله الويل يوم يسأل عنه ويعاقب عليه.(1/41)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي لا تجعلوه تعالى معرضاً لأيمانكم؛ فتحلفون به في كل وقت وحين، وفي كل مناسبة، وتعرضوا اسمه الكريم للابتذال بكثرة الحلف به. وقد ذم الله تعالى كثير الحلف بقوله {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} أو المعنى: ولا تجعلوا الله مانعاً وحاجزاً دون الخير؛ كمن يحلف على قطيعة رحم، أو عدم الإصلاح بين متخاصمين، أو عدم التصدق؛ أو ما شاكل ذلك. قال الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفِّر عن يمينه» {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} وهي الأمور المحلوف عليها: أداء أو تركاً. ويجوز أن يكون المعنى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} إلا إن كان ذلك بسبب البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ فحينئذٍ يجوز لكم أن تحلفوا بقصد إقناع البعض وإرضائه عن الآخر؛ كمن يحلف للزوجة المغاضبة: أن زوجها يقول عنها: إنها خير امرأة. وكمن يحلف للأخ المخاصم: أن أخاه يدعو له بالهداية والخير ويتطلب رضاه. وقد يكون الواقع عكس المحلوف به(1/42)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} لا يعاقبكم {بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وهو ما لا يعقد عليه القلب؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله(1/42)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{يُؤْلُونَ} يقسمون. وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {تَرَبُّصُ} التربص: الانتظار {فَآءُوا} رجعوا(1/42)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ثلاثة حيضات {وَبُعُولَتُهُنَّ} أزواجهن {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لقد كانت النساء قبل الإسلام مستعبدات، مملوكات، مهانات؛ وكان الرجل يرى أن وجود المرأة معرة؛ ويعاملها معاملة العبيد - بل أسوأ من معاملة العبيد - وكانت المرأة توهب وتورث كسائر الجمادات والحيوانات؛ ويزوجها وليها لمن لا تريد ولا ترغب رغم أنفها؛ شأن جهلة هذا العصر: الذين يضحون ببناتهم على مذابح الأطماع الدنيئة؛ ابتغاء العرض الزائل. وكان الرجل
[ص:43] في الجاهلية إذا مات عن زوجة: جاء ابنه - من غيرها - أو جاء أحد ورثته؛ فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. وتصير في حوزته، ويصير أحق بها من كل الناس - حتى من أهلها وأبويها - فإن شاء تزوجها من غير صداق، وإن شاء زوجها وأخذ صداقها لنفسه. فلما أشرقت شمس الإسلام وبزغ قمر السلام: خلصهن من هذا الاستعباد وأنقذهن من الذل والاسترقاق، وأوجب لهن على الرجال - مثل ما يجب للرجال عليهن - من حسن العشرة، وترك المضارة، والحب، والإخلاص، والمودة، والرحمة وغير ذلك من الحقوق التي تعرف بالبديهة، ويحس بها كل ذي عقل وقلب وأمر ألا تزوج إلا بإذنها، وبمن ترتضيه لنفسها. ولا حجة لمن قال بعكس ذلك من الفقهاء؛ لقوله: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن؛ وإذنها صماتها» وقد رد الرسول الكريم؛ صلوات الله تعالى وتسليماته عليه: تزويج الأب ابنته بغير إذنها وقد حثنا الدين الحنيف على التلطف بهن والعناية بأمرهن
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي. وأتى عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه بامرأة تصر على فراق زوجها؛ فنظر إلى الزوج فوجده أشعث غير نظيف الثياب؛ فقال: أدخلوه الحمام وألبسوه الأبيض. فلما جيء به نظيف الجسم، نظيف الثياب؛ قال لها: أتقيمين معه؟ قالت: نعم. فأصلح بينهما؛ وقال لمن حضره: تصنعوا لهن كما يتصنعن لكم.(1/42)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} دفعتان مفترقتان. فلو طلقها ثلاثاً بلفظ واحد: لم يقع إلا واحدة (انظر مبحث الطلاق بآخر الكتاب. وانظره أيضاً مفصلاً في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية) {تَسْرِيحٌ} تطليق {بِإِحْسَانٍ} من غير إجحاف ولا مضارة {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} أي حرام عليكم {أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهر وغيره {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} الزوجان {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بأن يخشى الزوج أن يسيء معاملتها - لكراهته لها - أو أن تسيء عشرته - لبغضها له - {فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكام. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} لا إثم ولا حرج {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها؛ من
[ص:44] رد ما أخذته - إن كانت كارهة له - ولا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى؛ إذ هو ظلم بين، ودليل على خسة الطبع، ودناءة النفس وحكمة رد المهر: أنها له كارهة، ولصحبته مبغضة؛ وهو في حاجة للتزوج بغيرها؛ فوجب أخذ ما دفعه ليمهر به سواها. أما إذا كان هو الكاره لها، المائل عنها لغيرها؛ فلا يحل له أصلاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} هذا وقد جاءت جميلة بنت سلول - وكانت زوجاً لثابتبن قيس - إلى النبي، وقالت له: يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق؛ ولكني أخشى الكفر بعد الإسلام؛ لشدة بغضي له فقال لها سيد ولد آدم: «أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال: «أما الزيادة فلا؛ ولكن حديقته». فأخذها ثابت وخلى سبيلها. وهذا أول خلع في الإسلام.
وقال بعض الفقهاء بجواز أخذ شيء من مالها. ولا حجة لهم فيه: لقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} واستثنى من ذلك بقوله جل شأنه {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي في هذه الحال فقط يحل أخذ بعض المهر أو كله، في حدود قوله تعالى: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهور والهدايا ونحوهما (انظر آية 20 من سورة النساء)(1/43)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
{فَإِنْ طَلَّقَهَا} للمرة الثالثة {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} مراجعتها {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} حتى تتزوج رجلاً آخر، ويبني بها ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الزوج الآخر {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} هي والمطلق الأول {أَن يَتَرَاجَعَآ} بعد انقضاء عدتها من زوجها الآخر بعقد جديد، وذلك {إِن ظَنَّآ} تأكدا {أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أوامره وشرائعه؛ التي سنها لعباده: من ترك المضارة، وحسن المعاملة، وطيب المعاشرة، وتوافر المودة والرحمة(1/44)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن آخر عدتهن {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} أي مريدين الإضرار بهن {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه، وتعريضها للعقاب(1/44)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} الإسلام، ونبوة محمد {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي بالقرآن {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} انقضت عدتهن {تَعْضُلُوهُنَّ} تمنعوهن {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الذين كانوا قبلكم. أو الذين يتقدمون إليهن، أو هو خطاب للأولياء. {ذَلِكَ} الأمر والنهي المتقدم {يُوعَظُ بِهِ}
يتعظ ويعمل به {مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الذي يعاقب فيه العاصي على عصيانه، ويثاب فيه الطائع على طاعته أفضل للمآب وأنمى
[ص:45] للثواب {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم ونفوسكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما يصلحكم في دنياكم وأخراكم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} لجهلكم وقصور أفهامكم، وطمعكم في الحطام الزائل الفاني، ونسيانكم النعيم الدائم الباقي(1/44)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{حَوْلَيْنِ} عامين {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الوالد؛ ولم يقل: وعلى الوالد؛ إشعاراً بأن الوالدات إنما ولدن لهم {بِالْمَعْرُوفِ} من غير إسراف ولا تقتير {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا يكلف الوالد بما لا يطيق؛ بل ينفق النفقة التي يستطيعها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} و: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي بسبب ولدها؛ بألا ينفق عليها، أو يهددها بأخذه منها {وَلاَ} يضار {مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} بأن تطالبه بما لا يستطيع، أو تترك له ولده - بعد أن ألفها واعتاد صحبتها - وما أشبه ذلك. وإضافة الولد إليهما في الموضعين: استعطافاً لهما، وهزاً لمشاعرهما {وَعَلَى الْوَارِثِ} أي وارث الصبي، أو وارث الأب {فَإِنْ أَرَادَا} أي الأب والأم {فِصَالاً} فطام الصغير {وَإِنْ أَرَدتُّمْ} أيها الأزواج الآباء {أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ} أي تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدات {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة. وقرىء {مَآ أُوتِيتُمْ} أي ما آتاكم الله تعالى، وأقدركم عليه(1/45)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{وَيَذَرُونَ} يتركون {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن وهي عدة المتوفى عنها زوجها؛ ما لم تكن حاملاً؛ فعدتها أبعد الأجلين: الوضع، أو الأربعة الأشهر والعشر {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قضين عدتهن {فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من التزين والتعرض للخطاب {بِالْمَعْرُوفِ} بالوجه الذي لا ينكره الشرع؛ فلا يبالغن في التزين، ولا يفرطن في التبرج(1/45)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج، ولا إثم {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} لوحتم وأشرتم {بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} كأن تقول لها: إنك لجميلة، أو صالحة، أو من غرضي أن أتزوج. وشبه ذلك مما لا ينكره الذوق، ولا يمقته الدين {أَوْ أَكْنَنتُمْ} أضمرتم {وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ} على اللقاء {سِرّاً} خفية عن أعين الرقباء؛ ففي هذا ما فيه من تمكين للشيطان الذي يجري مجرى الدم من الإنسان وقيل: المراد بالسر: الزنا، أو هو التعريض بالجماع. والمراد: لا يكون تعريضكم سفهاً وفجوراً؛ فذكر أمثال ذلك - أمام غير الزوجة - فحش؛ لا يرتكبه إنسان {وَلاَ تَعْزِمُواْ} تقصدوا قصداً جازماً {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} بانقضاء عدتها {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} من سوء وشر {فَاحْذَرُوهُ} خافوا عقابه، ووطنوا أنفسكم على فعل الخير ما استطعتم؛ وروضوا قلوبكم على عمل الطاعات، وتجنب المخالفات(1/45)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي لم تقدروا لهن مهراً {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن
[ص:46] ما يتمتعن به، واكسوهن بعد الطلاق {عَلَى الْمُوسِعِ} الغني {قَدَرُهُ} طاقته ووسعه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ}
الفقير {حَقّاً} أي ذلك التمتيع {حَقّاً} واجباً {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا أعمالهم، ورغبوا في إرضاء ربهم(1/45)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} قدرتم لهن مهراً {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن أخذ نصف المهر {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} أي تعفو الزوجة ووليها؛ فيردون المهر كله {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج؛ فلا يأخذ من المهر شيئاً؛ تلطفاً منه وكرماً {وَأَن تَعْفُواْ} أيها الأزواج؛ فتتركوا جميع المهر {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وأرضىلله ومن المعلوم أن العبد إذا اتقى ربه وأرضاه؛ فإنه تعالى يجازيه على ذلك؛ بأن يخلف عليه أكثر مما فاته من مال، وأن يعوضه خيراً ممن تركها {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي تذكروا أن الأكمل لدينكم، والأجمل لفعالكم؛ ألا تتشددوا وتقلبوا ما أقدمتم عليه من خير وتوثيق لروابط المحبة، إلى عداء كبير، وشر مستطير ومن عجب أن الناس اليوم لا يفعلون ما به الله أمر؛ بل يتنكرون لأوامره، ويتشددون عند حدوث ذلك، ويتخذونه مغنماً وهو غرام، ويفرحون بما يأخذون وهو حرام وتكون عاقبة الذين أساءوا السوأى؛ في الدنيا بعدم التوفيق، وسوء الرفيق، وفي الآخرة بالحرمان من رضا الرحمن(1/46)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} أي أدوها في أوقاتها {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} صلاة العصر؛ لتوسطها صلاة اليوم، واشتغال الناس - في وقتها - بأعمالهم ومتاجرهم.
وقيل: صلاة الظهر؛ لتوسطها النهار. وقيل: المغرب أو العشاء. وقيل: الفجر؛ لتوسطها بين صلاة الليل والنهار، ولما فيها من المشقة والثقل على المنافقين. قال «أثقل الصلاة على المنافقين: الصبح والعشاء» وقد أخفاها تعالى: ليحافظ المؤمنون على صلواتهم أجمع {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} طائعين خاشعين(1/46)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{فَإِنْ خِفْتُمْ} عند حلول وقت الصلاة من عدو يهاجمكم {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أي فصلوا قائمين أو راكبين ولو إلى غير قبلة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} أي إذا زالت أسباب الخوف} اشكروه، واعبدوه، وصلوا له {كَمَا عَلَّمَكُم} من أحكام دينكم، ومنافع دنياكم {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي ما كنتم تجهلونه، ولا تستطيعون علمه بعقولكم القاصرة(1/46)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ} يتركون {أَزْوَاجاً} فليوصوا {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} أي يجب عليهم أن يوصوا قبل موتهم لأزواجهم {مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} أي أن ينفق عليهن من ماله لمدة عام. قيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ولعله حق من حقوق الزوجة؛ لها أن تتمتع به ما دامت لم تتزوج غير زوجها المتوفى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا يخرجهن أحد من مساكنهن
[ص:47] {فإن خرجن} منها باختيارهن - قبل العام، وبعد انتهاء العدة - {فَلاَ جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت، أو يا أيها الحكام {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} بترك الحداد، والتزين، والتعرض للخطّاب {مِن مَّعْرُوفٍ} أي بشرط أن يكون ذلك في حدود المعروف؛ الذي لا ينكره الشرع، ولا العادة، ولا البيئة(1/46)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} نفقة العدة؛ يعطى لها {بِالْمَعْرُوفِ} من غير جلبة ولا مشقة {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
فمن كان يتقي الله تعالى؛ فليعط مطلقته - وقد كانت ضجيعته وموضع سره ومحبته - نفقتها «بالمعروف» من غير أذى، ولا معاندة، ولا مضارة(1/47)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{حَذَرَ الْمَوْتِ} خرجوا هرباً من الجهاد. وقيل: هرباً من الطاعون {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ} أي أماتهم، أو عرضهم للموت عند الجهاد واحتدام القتال {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} نصرهم على عدوهم - بعد يأسهم - والنصر: هو الحياة؛ إذ لا حياة مع ذلة، ولا بقاء بلا حرية وقيل: أماتهم موتاً حقيقياً؛ ليعلمهم بعد إحيائهم - أن الجبن لا يقي من الموت {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وليعرفهم أن القتال والاستبسال قد يكونان سبباً في الحياة الدنيوية والسعادة الأخروية {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بعد موتهم؛ بدعوة نبيهم(1/47)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم وسرائركم(1/47)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} عبر تعالى عمن ينفق في سبيله، ويتصدق على عبيده؛ بالمقرض له وذلك لتأكد الوفاء والجزاء. ومن أوفى من الله في مضاعفة الحسنات؟ ولكن هل من مؤمن؟ وهل من مصدق؟ وكيف لا تصدقون {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} الأرزاق عمن يشاء ابتلاء {وَيَبْسُطُ} يوسع لمن يشاء امتحاناً؛ وبيده وحده المنع والعطاء (انظر آية 261 من هذه السورة)(1/47)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{الْمَلإِ} الجماعة {مِن بَعْدِ مُوسَى} أي بعد موته {هَلْ عَسَيْتُمْ} أي هل طمعتم ورجوتم {إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} فرض عليكم الجهاد {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} وقد كان جالوت وقومه قد احتلوا ديارهم، وسبوا نساؤهم، وقتلوا أبناءهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ} أي فلما فرض عليهم الجهاد، وألزموا بتخليص أوطانهم من العدو: أعرضوا {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} وهبوا نعمة الإقدام {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} الكافرين؛ الذين لم يستمعوا لأوامره، وضعفوا واستكانوا(1/47)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{أَنَّى} كيف {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} ظنوا أن الله تعالى لا يؤتي ملكه إلا للأغنياء؛ وفاتهم أن العزة بالتقى، لا بالغنى {اصْطَفَاهُ} اختاره {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} البسطة في العلم: التوسع فيه، وشدة الفهم له. وفي الجسم: الطول، والضخامة، والقوة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} أي واسع الفضل والخير والرزق
[ص:48] {عَلِيمٌ} بمن هو أحق بالملك، وأجدر بالرفعة(1/47)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{آيَةَ مُلْكِهِ} علامته {التَّابُوتُ} وهو صندوق كانت به التوراة؛ وكان قد رفع من قبل عقوبة لهم {فِيهِ سَكِينَةٌ} طمأنينة لقلوبكم؛ وهو كتاب الله تعالى «التوراة» وقد جرت عادته جل شأنه أن يبعث طمأنينته وسكينته في كتبه الكريمة، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ وأي طمأنينة وسكينة أعلى وأرقى من حسن الجزاء ومزيد العطاء، وكرم الرحيم، ورحمة الكريم {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} بعض الألواح التي أنزلت على موسى عليه السلام، وبها الكثير من الأحكام(1/48)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} خرج {مُبْتَلِيكُمْ} مختبركم {فَلَمَّا جَاوَزَهُ}
أي جاوز طالوت النهر {قَالُواْ} أي قال الذين خانوا أمر طالوت، وشربوا من النهر {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يتأكدون {أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ} وهم الذين أطاعوا أمره، وسمعوا قوله؛ ولم يشربوا من النهر {كَم مِّن فِئَةٍ} جماعة(1/48)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي استعدوا لمحاربتهم، واصطفوا لقتالهم {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ} أصبب(1/48)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} يؤخذ من هذه الآية: أن الحرب من لوازم الحياة الدنيا، وأنه بدونها لا يتم العمران: فبها يحفظ التوازن الكوني، ولا يبقى على ظهر الأرض سوى من يصلح للبقاء، وللخلافة فيها؛ اللهم إلا إذا أراد الله تعالى لأرضه الفناء؛ فيشيع الفجور، وتعم الفوضى، ويملك الأرض العتاة المتجبرون؛ فيعيثون فيها فساداً، وفي أهلها إفساداً؛ ليتم الله تعالى أمره، ويرث الأرض ومن عليها؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى}.
وحاجة الكون إلى الحرب؛ كحاجته إلى الأوبئة والطواعين؛ إذ لو ترك العالم بغير حرب، وبغير وباء؛ لتكدس الناس فوق هذه الأرض تكدس الذباب، ولتكاثروا تكاثر الجراد؛ ولأكل بعضهم بعضاً شأن أحقر الحيوانات وأدنئها
ولكن شتان بين الحروب التي يحتاجها الكون، والحرب التي يدبرها الآن بعض المخلوقين للبعض الآخر؛ فإن الأولى يجب أن تكون لدفع ظلم، أو رد عدوان - وكثيراً ما يقع الظلم، ويحيق العدوان - أما الثانية فهي حروب تدبرها رؤوس خوت من العقل، وقلوب خلت من الرحمة ولا سبب لها سوى حب السيطرة، والسيادة، والتوسع. هذا وقد تطورت الحروب منذ بدء الخليقة حتى الآن: فقد كانت بادىء ذي بدء بالعصى والحجارة، ثم صارت بالمدى والسيوف، والقسي والرماح؛ ثم تطورت إلى البنادق والمدافع؛ وأخيراً - وليس آخراً - دبر الإنسان لهلاك نفسه، ومحو حضارته: القنابل الذرية والهيدروجينية،
[ص:49] والكوبالت، والصواريخ الموجهة؛ وما شاكل ذلك من وسائل التخريب والهلاك؛ ليهدم ما بنته الإنسانية في مئات الملايين من السنين، ويجتاح ما شيدته الفطر السليمة من مدنية وحضارة بتوجيه من موجد الكون ومنشئه تعالى ولو استمر دعاة السوء والحرب ما هم عليه الآن؛ لحق لنا أن نقول بحق: إن الجنس الإنساني قد أصبح بغير شك أغبى من الذباب - وقد هداه الله تعالى النجدين - وأحط من الصرصور - وقد خلقه تعالى في أحسن تقويم - وهذا نهاية الطيش والحمق والجنون وهو إن دل على شيء؛ فلا يدل إلا على عقول عفنة، أتلفها الجشع والطمع وقلوب متحجرة، أفسدتها الأنانية وحب الذات وحقاً إن أعدى أعداء الإنسان؛ لهو الإنسان نفسه
ولو خير العقلاء بين هذه الحروب وتلكم الأوباء؛ لاختاروا الثانية وفضلوها على الأولى وذلك لأن الأولى من صنع حثالة الخلائق، ووحوش البشرية؛ والثانية من صنع الحكيم العليم، العزيز الرحيم، الذي لا يصدر أعماله إلا بحكمة، ولا ينفذ قضاءه إلا برحمة؛ وكل شيء عنده بمقدار
وترى دعاة الحروب - رغم استعدادهم بتلك القوى الهائلة، وهذه الأدوات المهلكة - يتميزون بالجبن والخور: يخشون المحن، وعاديات الزمن؛ تحيط بهم الأطباء من كل جانب؛ ليحافظوا على نبضهم وضغطهم وحرارتهم فهم دائماً في مرض ونصب، وهم وتعب (انظر آية 50 من سورة طه) {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فيسخر هؤلاء للحرب: تبعاً لحاجة الكون إلى الحرب؛ لا تبعاً لحاجاتهم وأطماعهم؛ فتعالى القادر القاهر، المسير المسخر الذي هو بكل شيء عليم(1/48)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{تِلْكَ الرُّسُلُ} الذين نقصّ عليك قصصهم معجزة لنبوتك، وآية لأمتك {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} لما ميزناهم به عن الآخرين {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} كموسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهي مرتبة جليلة: اصطفاه الله تعالى لها، واختصه بها. (انظر آية 164 من سورة النساء) {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وناهيك برفعة قدر نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام
فاق النبيين في خلق وفي خلق
ولم يدانوه في علم ولا كرم
لم يساووك في علاك وقد حا
ل سناً منك دونهم وسناء
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، وقيل الإنجيل {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ} زكوا وتصدقوا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} به، وأمرناكم بالإنفاق منه {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة(1/49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
{لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} أي لا معاملة فيه بين الناس كشأنهم في الدنيا. أو هو إشارة إلى أن حرصهم في الدنيا على الربح والكسب، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، واهتمامهم بشؤون دنياهم؛ كل هذا لا يفيد في الآخرة؛ التي لا يفيد فيها سوى العمل الصالح؛ وأين العمل الصالح؛ وقد قضوا أعمارهم في الحرص على الربح - من أي وجه كان - من رباً، أو سرقة، أو كذب، أو خداع {وَلاَ} تنفع في هذا اليوم صداقة أو محبة؛ وقد كانوا في الدنيا يتحابون في الشيطان، ويتصادقون على المعاصي فلا صداقة اليوم تنجي من عذاب الله {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي والتاركون للزكاة {هُمُ الظَّالِمُونَ} بدليل أول الآية {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} وبدليل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وكفر تارك الزكاة لا يحتاج إلى دليل؛ فقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه مانعيها؛ والمؤمن لا تجوز مقاتلته إطلاقاً؛ فيؤخذ من ذلك أن أبا بكر حكم بخروجهم من الإسلام لمنعهم الزكاة؛ وقد قال: «والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه» ومن أولى بالاقتداء والاتباع من أبي بكر؟
وقد سماهم الله تعالى في هذه الآية بالكافرين وفي آية أخرى بالمشركين، وهذه التسمية بهم أولى وأليق (انظر الآيات 6 و7 من سورة فصلت، وآية 14صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام).(1/50)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} الذي لا يموت أبداً {الْقَيُّومُ} القائم بتدبير الخلق وحفظه؛ والقائم بذاته: الذي لا يقوم غيره إلا به وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هو الاسم الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي لا يشفع أحد عنده تعالى إلا إذا أذن له بالشفاعة ورضي قوله {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} قال شفيعنا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام «يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا عند ربنا فيريحنا مما نحن فيه؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا عند ربنا. فيقول: لست هناكم ليست لي هذه المرتبة؛ ويذكر خطيئته - أكله من الشجرة - ويقول: ائتوا نوحاً؛ أول رسول بعثه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - دعوته على قومه - ويقول: ائتوا إبراهيم؛ الذي اتخذه الله خليلاً. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - كذباته الثلاث التي عرض بها - ويقول: ائتوا موسى؛ الذي كلمه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته
[ص:51] - قتله القبطي - ويقول: ائتوا عيسى فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ائتوا محمداً؛ فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فيأتوني فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجداً؛ فيدعني ما شاء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه؛ ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة؛ ثم أعود فأقع ساجداً مثله - في الثالثة أو الرابعة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي أوجب عليه الخلود» (انظر آية 93 من سورة النساء) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
أي ما سيعملونه، وما عملوه {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أن يعلمهم إياه {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي وسع علمه {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَلاَ نَوْمٌ} لا يشق عليه تعالى ولا يتعبه {حِفْظُهُمَا} بهذا النظام العجيب، والتدبير البديع {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}(1/50)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: حرية الاعتقاد؛ ليكون التدين قرين البحث الفكري، والاقتناع العقلي؛ وذلك لأنه {قَد تَّبَيَّنَ} مما سقناه من المعجزات، وأوردناه من الآيات {الرُّشْدُ} الصواب؛ وهو الإيمان {مِنَ الْغَيِّ} الضلال؛ وهو الكفر {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} الطاغوت: الشيطان، أو الأصنام، أو هو كل رأس في الضلال. وهو مشتق من الطغيان {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الحبل المحكم الوثيق {لاَ انفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع لهذه العروة التي وثقها الله تعالى بالحق، وقواها بالإيمان(1/51)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ناصرهم ومعينهم، ومتولي أمورهم وكافيهم ولا تكون ولاية الله تعالى إلا للمؤمنين الصادقين {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} والإيمان سابق على ولاية الله تعالى؛ فلو لم يؤمن الإنسان: لكان وليه الشيطان {يُخْرِجُهُمْ} مولاهم {مِّنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر والجهل {إِلَى النُّورِ} الإيمان والعلم. (انظر آية 17 من هذه السورة) {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ}
نصراؤهم وأصدقاؤهم} الإيمان والعلم {إِلَى الظُّلُمَاتِ} الكفر والجهل. جعلنا الله تعالى من المؤمنين الجديرين بولايته وحمايته، وأخرجنا من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم(1/51)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ} جادل {إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} أي في حقيقة وجوده وربوبيته {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي غره ما هو فيه من ملك وسلطان؛ فجادل إبراهيم في ربه؛ وقد فاته أن السلطان الذي هو فيه، والملك الذي أوتيه؛ من لدن
[ص:52] ذي الجلال والإكرام؛ الذي يؤتي فضله من يشاء - منحة أو محنة - ليقيم بذلك الدليل على وجوده، والبرهان على وحدانيته {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} لعدو الله نمروذ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يخلق الحياة والموت {قَالَ} نمروذ {أَنَا} أيضاً {أُحْيِي وَأُمِيتُ} مثلما يحيي ربك ويميت {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} إن استطعت. وهنا أسقط في يد الكافر الخاسر؛ وقامت عليه الحجة القاطعة الدامغة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} دهش وتحير، ولم يحر جواباً وذلك لأن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ألهمه مولاه أن يسلك مع عدو الله أسلوباً قاطعاً لكل جدل، دامغاً لكل حجة: لقد قال الكافر لإبراهيم - جواباً على تقريره بأن الله تعالى يحيي ويميت - «أنا أحيي وأميت» فلو قال إبراهيم: كيف تحيي وكيف تميت؛ وقد انفرد الله تعالى بهما دون سائر الخلائق؟ لأحضر عدو الله إنساناً مقضياً بموته فأطلقه، وإنساناً بريئاً فأماته؛ وكان لإبراهيم على ذلك رد آخر: وهو أن الله تعالى يحيي ابتداء ويميت بغير أداة؛ ولاتسعت بينهما رقعة الجدال؛ ولكن الله تعالى ألهمه العدول عن مجاراته في هذه المهاترات، والتضييق عليه بالحجة التي لا تقبل التأويل، ولا تحتمل الجدل، ولا تتسع للمحاورة والمداورة؛ فقال له: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق» فإن كنت إلهاً كما تزعم {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وأنى لعدو الله أن يتعرض لملك الله بتغيير، أو لنظامه بتبديل؟(1/51)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} وهو عزير: أحد أنبياء بني إسرائيل (انظر آية 30 من سورة التوبة) {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي ساقطة على سقوفها؛ وهي بيت المقدس؛ وقد خربها بختنصر، وقتل أهلها ومن فيها {قَالَ} عزير في نفسه {أَنَّى يُحْيِي} كيف يحيي؟ {هَذِهِ} القرية؛ أي أهلها {اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} خرابها وهلاك أهليها {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ} أنامه؛ كما أنام أصحاب الكهف نيف وثلاثمائة عام {ثُمَّ بَعَثَهُ} أيقظه كما أيقظهم. وقد يكون المراد بالإماتة: الموت الحقيقي؛ الذي هو سلب الروح من الجسد - سلباً كلياً - ليكون إحياؤه دليلاً على إحياء أمثاله ممن مات من أهل هذه القرية {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} كيف صار رميماً؛ وهذا يدل على طول المكث، وأنه لبث مائة عام؛ لا {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} كما توهم. وقد أراه الله تعالى - في نفسه - كيف يقوم الإنسان بعد الإحياء عند بعثه، وأراه - في حماره - كيف يجمع العظم المتفتت، وكيف يركب بعضه فوق بعض {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} نركب بعضها على بعض (انظر آية 20 من سورة الكهف)(1/52)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} قد يظن ظان
[ص:53] من هذه القالة - أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في البعث، أو كان مرتاباً في قدرة ربه تعالى - وهو صفيه وخليله ومصطفاه - ولا يجوز بحال نسبة الشك، أو الارتياب إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ خصوصاً في أهم المعتقدات التي يتوقف عليها صحة الإيمان: كالبعث والإحياء. وأمامنا الكهرباء واللاسلكي وأمثالهما؛ فما من أحد إلا ويؤمن بهما إيماناً يقينياً وهو لا يعرف كيفيتهما أو كنههما؛ ويود لو توصل إلى عرفانهما. ولا يقال: إنه بطلبه هذه المعرفة شاك فيهما، غير مؤمن بوجودهما {فَصُرْهُنَّ} اضممهن {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً}
قيل: إنه أخذ أربعة أصناف من الطيور؛ فذبحها وخلط بين لحمها وعظمها ودمها وريشها، وجعل على كل جبل جزءاً منها؛ ثم نادى: تعالين بإذنالله؛ فصار كل جزء منهن يتضامُّ إلى الآخر ويتماسك، وجئن إليه طائرات كما كن(1/52)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ابتغاء مرضاته وثوابه {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} من قمح؛ زرعت في الأرض فـ {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} وهذا العدد أضعاف ما تنتجه أخصب الأراضي وأحسنها} ينمي ويزيد في الحسنات {لِمَن يَشَآءُ} أكثر من السبعمائة ضعف المذكورة: {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فقد يجعل الكريم الحليم، الودود الرحيم؛ من كل حبة من هذه السبعمائة: سبعمائة أخرى؛ فتكون أربعمائة وتسعين ألفاً - كما يفعل الزارع الثري الغني - ويضاعفها تعالى أيضاً إن شاء؛ وذلك معنى قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ولا حرج على فضله تعالى (انظر آية 117 من سورة آل عمران)(1/53)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ابتغاء ثوابه ومرضاته {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً} المن: أن يعتد الإنسان ويفخر على من أحسن إليه بإحسانه {وَلاَ أَذًى} ينالون به المنفق عليه؛ بأن يسخروه في المشاق، ويؤذوه بالشتم والسب؛ أولئك المنفقين الذين لا يمنون ولا يؤذون {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وناهيك بأجر الكريم العظيم وفي هذا ما فيه من عظم الأجر، ومزيد الثواب {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}(1/53)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} أي إنك إن تلين لأخيك القول، وتغفر له زلاته، وتعفو عن سيئاته؛ خير - عند الله - من أن تتصدق عليه صدقة تتبعها بالمن والأذى(1/53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} أي لا تذهبوا ثواب صدقاتكم بأن تمتنوا بها على الفقراء، وتقابلوهم بالسخرية والاستهزاء، وتؤذوهم بالقول أو بالفعل؛ بسبب حاجتهم إليكم، ولا تجعلوا إنفاقكم {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ} أي مراءاة لهم وتفاخراً؛ ليقال: هو كريم
[ص:54] جواد.
وما أكثر هؤلاء في عصرنا هذا {فَمَثَلُهُ} أي مثل المنفق رياء {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} حجر أملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطر غزير {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أملس لم يعلق به شيء؛ فكذلك من يرائي بعبادته وإنفاقه؛ فإن رياءه يذهب ثواب عمله، ولا يبقي له أجراً؛ كما يذهب المطر ما على الحجر الصلد الأملس من التراب {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا؛ لأنهم أنفقوه رياء؛ وابتغاء الفخر؛ لا ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته. هذا مثلهم(1/53)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي طلباً لرضائه {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي متثبتين مستيقنين بحسن جزائه، ومزيد ثوابه {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} بستان {بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شديد {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أنتجت ثمرها {ضِعْفَيْنِ} أي مثلي ما يثمر غيرها {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} مطر قليل؛ وهو الرذاذ، أو الندى. أي أن المنفقين ابتغاء وجه الله تعالى: يتضاعف لهم ثواب أعمالهم، ويجزون عنها الجزاء الأوفى؛ وذلك بعكس المرائي الذي يمحي ثواب عمله(1/54)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} استفهام للإنكار {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ذكر الله تعالى النخيل والأعناب في غير موضع من كتابه الجليل؛ وذلك لفتاً لأنظار ذوي الاعتبار إلى ما يحتويه الصنفان من فوائد تجل عن الحصر: فمن فوائد التمر أنه يقوي الكبد والرئتان والحلق، ويزيد في الباه مع الصنوبر، وأكله على الريق: قاتل لديدان المعدة، وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن؛ ويعتبر التمر غذاء ودواء، وفاكهة. أما العنب فهو من أجل الفواكه وأكثرها نفعاً؛ وهو يسهل ويسمن، ويقوي القلب والرئتان، ويقطع البلغم {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} ضعف عن السعي والكسب، واحتاج إلى الدعة والراحة {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} أبناء صغار ضعاف؛ لا يقدرون على السعي والكسب {فَأَصَابَهَآ} أي أصاب جنته؛ الذي أصبح هو وذريته في مسيس الحاجة إلى ثمارها {إِعْصَارٌ} ريح شديد مهلكة {فِيهِ نَارٌ} أي في هذا الإعصار نار {فَاحْتَرَقَتْ} جنته بما فيها من نبات وثمار
وهذا تمثيل لذهاب ثواب المرائي يوم القيامة؛ وهو أشد ما يكون احتياجاً إلى قليل الثواب(1/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي من أحسن ما عندكم وأنفسه {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} من سائر صنوف النبات والفاكهة {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تقصدوا أردأ ما عندكم فتجودوا به؛ يؤيده قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي لو قدم لكم
[ص:55] ما تقدمونه من الخبيث؛ لتأخذوه في حق من حقوقكم؛ ما قبلتموه لفساده ورداءته {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} أي إلا أن تغضوا أبصاركم عن خبثه ورداءته؛ فكيف تقدمونلله ما لا ترضونه لأنفسكم أتجعلونلله ما تكرهون؟ والإغماض: غض البصر. وهو كناية عن المسامحة {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عنكم وعن إنفاقكم؛ ولكنه تعالى يمتحن بهذه الأوامر قلوبكم {حَمِيدٌ} محمود، وأهل لكل حمد. أو «حميد» يحمد أفعالكم الحسنة؛ فيجازيكم عليها(1/54)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يخيل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بمالكم، ويفضي إلى سوء حالكم؛ ولكن الله تعالى {يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم {وَفَضْلاً} يختصكم به في الدنيا {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} موسع عليكم جزاء إنفاقكم؛ ألا ترون إلى قوله جل شأنه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} وقوله عز وعلا: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقد وعد تعالى مغفرة ذنوبكم: جزاء حسناتكم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {عَلِيمٌ} بالمنفقين فيكافئهم، وبالممسكين فيعاقبهم(1/55)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ}
والحكمة: العلم النافع، الموصل لخيري الدنيا والآخرة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} ومن الحكمة: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى صادق الوعد، وأن ما يبذله في سبيله سيؤتيه مكانه أضعافاً مضاعفة في الدنيا، وثواباً عظيماً ومغفرة ورضواناً في الآخرة {وَمَا يَذَّكَّرُ} يتذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول(1/55)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الأغنياء؛ الذين ظلموا الفقراء بحبس حقوقهم عنهم، ومنع إيصال الصدقات إليهم؛ فهؤلاء ما لهم {مِنْ أَنْصَارٍ} ينصرونهم من الله تعالى، ويمنعون عنهم عذابه يوم القيامة. أو المراد: أنهم ليس لهم أنصار في الدنيا؛ لكراهة الناس لهم، وبغضهم إياهم (انظر الآيات 141 من سورة الأنعام، و6 و7 من سورة فصلت)(1/55)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ} وتوزعوها أمام الناس عياناً {فَنِعِمَّا هِيَ} فنعم شيئاً هي؛ لأن إبداءها يحفز الهمم على التقليد لكم، والاقتداء بكم {وَإِن تُخْفُوهَا} عن الناس، وتتستروا عند إعطائها {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن فيه جبر خواطر الفقراء، وعدم إذلالهم والأفضل أن يبدي الزكاة المفروضة للاقتداء، ويخفي الصدقة حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه {وَيُكَفِّرُ} يمحو(1/55)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{لَّيْسَ عَلَيْكَ} يا محمد {هُدَاهُمْ} أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ فلست ملزماً بهدايتهم؛ إنما عليك الإنذار والبلاغ المبين {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} أي فثوابه وأجره عائد عليكم {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه في الدنيا بالستر، وفي الآخرة بالأجر(1/55)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ} منعوا بسبب الجهاد عن التكسب، وعن السير في مناكبها {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} أي لا يستطيعون سفراً للتجارة والكسب
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم {أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وذلك لإبائهم السؤال، ومجانبتهم التملق والتزلف {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} بما يلوح عليهم من انكساف البال، ورثاثة الحال {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} إلحاحاً أي يأخذونه ويستحلونه. والربا: الزيادة. هذا وقد فشا الربا في مجتمعنا هذا فشواً شنيعاً ذريعاً؛ ينذر بضياع الثروة، ومحو البركة، وسقوط المحبة، وانعدام التعاطف والتراحم بين الناس. وآكلوا الربا(1/56)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{لاَ يَقُومُونَ} يوم القيامة. أو «لا يقومون» في الدنيا {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} وهو المصروع {مِنَ الْمَسِّ} الجنون. وهذا مشاهد فيهم في الدنيا؛ إذ هم - رغم وفرة أموالهم، ومزيد ثرائهم - لا يزالون في هم دائم، وفكر مقيم وقد حرمهم الله تعالى اللذائذ - رغم توافر أسبابها - ومن النعم - رغم وجود مقوماتها - فتجدهم يأكلون أطايب الطعام؛ وكأنما يتناولون السم الزعاف، ويتداولون النقود، وكأنما يتداولون الصخور والأحجار، وينامون على الحرير، وكأنما يتقلبون على الجمر فحياتهم دائماً ظاهرها النعيم، وباطنها العذاب الأليم ويظن كثير من الناس أن إثم الربا يقع على آكله دون موكله؛ وأن موكله لا نص يوجب تأثيمه؛ وهو ظن فاسد، ووهم باطل؛ فالدليل قائم على اشتراك الموكل مع الآكل في الجرم والإثم؛ لقوله: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ذلك قولهم عند نزول هذه الآيات البينات، القاطعات الدلالة؛ وقد خلف من بعدهم خلف قالوا قالتهم، وساروا على نهجهم واتبعوا طريقتهم؛ وها نحن أولاء وقد فشا بيننا الربا فشواً يؤذن بالتدمير، وينذر بسوء المصير وها هو تاريخ الكفر يعيد نفسه؛ فإذا بالمعاملات جميعها وقد صار الربا جزءاً منها متمماً لها؛ ويا ليت المتعاملين به يقولون بتحريمه؛ كمن يتعاطى الخمر ويرتكب الزنا؛ عالماً بتحريمهما، كارهاً لهما؛ ولكنهم يتعاطون الربا، ويقولون كما قال آباء لهم من قبل: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
لأنه عن تراضٍ. كما أن الزيادة في ثمن المبيع بسبب تأخير دفع الثمن؛ لا غبار عليها، وهي مما أحل الله {وَحَرَّمَ الرِّبَا} لأنه ظلم وغصب - ولو أنه يتخذ دائماً مظهر الرضا في كثير من الأحيان - ومن عجب أن قام أناس من العلماء، يحلون ذلك الوباء؛ فإن الله وإنا إليه راجعون {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} تهديه إلى سواء السبيل، وتحول بينه وبين هذا الداء الوبيل {فَانْتَهَى} فامتنع عن أكل الربا، ورجع إلى الله تعالى {فَلَهُ مَا سَلَفَ}
[ص:57] ما مضى من أمره قبل مجيء الموعظة، ولا يعاقبه الله تعالى عليه؛ بشرط أن يرد ما أخذه لأربابه؛ لأنه ظلم. والظلم قرين الكفر قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ} {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه {وَمَنْ عَادَ} إلى أكل الربا؛ بعد استماع الموعظة {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وأولئك الذين أعلن الله تعالى ورسوله الحرب عليهم: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1/56)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا} يبطله ويذهب ببركته {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} يزيد وينمي المال الذي أخرجت منه الزكاة فاعجب لمال يزيد: فينقصه الله ويمحقه، ولمال ينقص فيزيده الله تعالى ويباركه
هذا فضلاً عن زيادة ثواب الزكاة والصدقة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} شديد الكفر {أَثِيمٍ} كثير الإثم(1/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{وَذَرُواْ} اتركوا {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} لكم عند مدينيكم(1/57)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ذلك، وطالبتم بما استحق لكم من الربا؛ بعد ما علمتم حرمته وشؤمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الويل كل الويل لمن سمع هذا الإنذار ولم يرتجع ولم يتب؛ بل انتحل الأعذار التي لا يستسيغها بعض المخلوقات، فضلاً عن مبدع الكائنات والإيذان: الإعلام(1/57)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{وَإِن كَانَ} المدين {ذُو عُسْرَةٍ} لا يستطيع دفع ما عليه في موعده {فَنَظِرَةٌ} مهلة وانتظار {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إلى أن يتيسر للمدين دفع دينه. قال: «من أنظر معسراً أو وضع عنه: أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» {وَأَن تَصَدَّقُواْ} تتصدقوا على المعسر بالترك، أو الإبراء، أو حط جزء من الدين {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما أعده الله تعالى من الأجر للمتصدق(1/57)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ثُمَّ تُوَفَّى} تجازى {كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت من خير أو شر(1/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي أجل معلوم؛ وهذا غير ما يعطى على سبيل المعونة {فَاكْتُبُوهُ} ليتذكر الدائن ما له، والمدين ما عليه.
انظر أيها المؤمن كيف يعلمنا الله تعالى النظام والكتابة؛ ليحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق؛ فله تعالى الحمد والمنة، والشكر والنعمة {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لأنه هو المدين، وهو الذي يعلم مبلغ يساره ووقته {وَلْيَتَّقِ} المدين المملي {اللَّهَ رَبَّهُ} أو «وليتق» الكاتب {وَلاَ يَبْخَسْ} لا ينقص {مِنْهُ شَيْئاً} أي من الدين {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} المدين {سَفِيهاً} لا يحسن التصرف {أَوْ ضَعِيفاً} عن الإملاء؛ لمرض، أو كبر {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ} لخرس، أو عي ونحوهما {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} متولي
[ص:58] أمره؛ كوالد، أو ولد، أو وصي، أو قيم {أَن تَضِلَّ} أي خشية أن تنسى {إْحْدَاهُمَا} إحدى المرأتين {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} بما نسيته {وَلاَ يَأْبَ} لا يمتنع {الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} للشهادة {وَلاَ تَسْأَمُواْ} لا تملوا {أَن تَكْتُبُوهُ} أي الدين {صَغِيراً} كان {أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} مدته، وموعد أدائه {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أعدل {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أقرب ألا تشكوا في مقدار الدين وأجله {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} بالتسليم وتسلم الثمن {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} إذ لا فائدة من الكتابة؛ فقد تم تسلم البضاعة، وتم دفع ثمنها {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} بسبب كتابته {وَلاَ شَهِيدٌ} بسبب شهادته؛ ما داما قد قاما بما أمر الله به من العدل والاستقامة {وَإِن تَفْعَلُواْ} ما نهيتم عنه، وألحقتم الضرر بمن كتب، أو شهد {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} خروج عن الطاعة {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما لم تكونوا تعلمون؛ بسبب خشيتكم وتقواكم(1/57)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} أي أدوها على وجهها الأكمل؛ لترد الحقوق إلى أربابها، والمظالم إلى أصحابها {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} إسناد الإثم إلى القلب - مع أنه سيد الأعضاء والمضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله - دلالة على أن كتم الشهادة من أكبر الآثام؛ إذ أن إثم القلب ليس كإثم سائر الجوارح(1/58)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} فيعلمه الناس عنكم {أَوْ تُخْفُوهُ} عن الناس؛ فإن الله تعالى يعلمه(1/58)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من القرآن {وَالْمُؤْمِنُونَ} آمنوا أيضاً به {كُلٌّ} من الرسول والمؤمنين {آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} أي وآمن بوجود ملائكة الله تعالى المكرمين {وَكُتُبِهِ} أي وكل آمن بسائر الكتب المنزلة على رسل الله وأنبيائه السابقين {وَرُسُلِهِ} أي وآمن برسله عليهم السلام؛ الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم {لاَ نُفَرِّقُ} أي يقول الرسول والمؤمنون: {لاَ نُفَرِّقُ} {بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} لذنوبنا {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فاعف عنا واغفر لنا(1/58)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} طاقتها {} من الثواب {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من العقاب {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} بذنوبنا {إِن نَّسِينَآ} إن فعلناها ناسين {أَوْ أَخْطَأْنَا} أو فعلناها مخطئين، غير عامدين. قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} أي لا تكلفنا أمراً يثقل علينا حمله وأداؤه. والإصر: العبء الثقيل {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} كبني إسرائيل؛ حين شددوا فشدد الله تعالى عليهم، وحرم عليهم طيبات أحلت لغيرهم (ربنا لا تحملنا
[ص:59] ما لا طاقة لنا به) أي لا تحملنا ما يصعب علينا القيام به. وليس معناه: لا تحملنا ما لا قدرة لنا على احتماله لأن ما لا قدرة عليه؛ لا يدخل في باب التكليف {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} {أَنتَ مَوْلاَنَا} سيدنا ومتولي أمورنا(1/58)
سورة آل عمران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/59)
الم (1)
{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/59)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} القائم بتدبير الخلق وحفظه. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الاسم الأعظم(1/59)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما قبله من الكتب: كالتوراة والإنجيل {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} على موسى {وَالإِنْجِيلَ} على عيسى(1/59)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيء إمام الرسل عليه الصلاة والسلام {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} القرآن الكريم؛ ويطلق «الفرقان» على سائر الكتب المنزلة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل(1/59)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراناً وإناثاً بيضاً وسوداً، حساناً وقباحاً(1/59)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} قطعية الدلالة؛ لا تحتمل اشتباهاً، ولا تأويلاً {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصله، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها {وَأَخَّرَ} أي وآيات أخر {مُتَشَابِهَاتٌ} محتملات التأويل، لها معان متشابهة. وقد ذهب قوم - عفا الله تعالى عنهم - إلى أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وذهب آخرون إلى أنه كله متشابه؛ لقوله جل شأنه: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ إذ أن معنى قوله تعالى: {الر كِتَابٌ} أي في حسن النظم، وقوة التعبير، وأنه حق من عندالله. ومعنى {مُّتَشَابِهاً}: أي يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول(1/59)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ} لا تمل {قُلُوبَنَا} عن الحق {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلى الإيمان {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ} وهو يوم القيامة(1/59)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ} من عذابه لهم، وانتقامه منهم(1/59)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{كَدَأْبِ} كشأن وعادة {آلَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وقومه {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الكافرة المعاندة؛ كعاد وثمود {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} التي أنزلناها على رسلنا {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} جازاهم بها، وعاقبهم عليها. يقال: أخذته بكذا: أي جازيته عليه(1/59)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{قُلْ} يا محمد {لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} يوم بدر {وَتُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة {إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش(1/59)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} برهان وعبرة
[ص:60] {فِي فِئَتَيْنِ} فرقتين وجماعتين {الْتَقَتَا} للقتال يوم بدر {فِئَةٌ} مؤمنة {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في سبيل نصرة دينه، وإعلاء كلمته {وَأُخْرَى} أي وفئة أخرى {كَافِرَةٌ} تحاول إطفاء جذوة الإيمان {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} أي يرى الكفار المؤمنين ضعفي عددهم، فتنخلع قلوبهم، أو يرى المؤمنون الكفار ضعفي عددهم - مع أنهم يزيدون عن الضعف زيادة كبيرة - فتقوى بذلك قلوبهم؛ وقد وعدهم الله تعالى بالنصر والغلبة: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} (انظر الآيات 41 وما بعدها من سورة الأنفال» {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الخداع الذي بدا على أعين القوم؛ والذي تسبب في نصرة المؤمنين، وخذلان الكافرين {لَعِبْرَةً} لعظة {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} لذوي البصائر(1/59)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} حبب إليهم، وزين الشيطان لهم {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}
والاستكثار من كل ذلك: يحبون النساء للشهوة؛ لا لابتغاء الولد الصالح، ويحبون البنين للطغيان والكثرة؛ لا للعبادة والقربى، ويحبون الذهب والفضة للجمع والكنز؛ لا للبذل والتصدق {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} الحسان المعلمة؛ يحبونها للفخر والزينة؛ لا للجهاد في سبيل الله {وَالأَنْعَامُ} وهي الماشية التي ترعى؛ وأكثر ما تطلق على الإبل {وَالْحَرْثِ} الزرع {ذلِكَ} كله {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يؤاخذ الإنسان على تصرفه فيها، والقيام بحقوقها {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} حسن المرجع؛ فمن شاء عمل لذلك؛ ولم تغره مفاتن الدنيا ومتاعها الزائل(1/60)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ} المتاع المذكور: الشهوات من النساء، والبنين، والقناطير من الذهب والفضة، والخيل الفارهة، والزرع والضرع؛ فخير من ذلك كله: ما أعده الله تعالى للمتقين {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} فأين الشهوات الزائلات، والأموال الفانيات؛ من الجنات العاليات، التي عرضها كعرض السموات والأرض {خَالِدِينَ فِيهَآ} أبداً لهم فيها {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الأدناس، ومن كل ما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} وهو خير من الجنات، وما فيها من الطيبات(1/60)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{وَالْقَانِتِينَ} الطائعين الداعين {وَالْمُنَافِقِينَ} مما آتاهمالله؛ الذين وقاهم شح أنفسهم، وزادهم هدى وآتاهم تقواهم {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} أواخر الليل، قبيل الصبح(1/60)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{شَهِدَ اللَّهُ} قرر، وبين لخلقه بالدلائل والآيات {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} يقررون ذلك أيضاً {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} مقيماً للعدل بين خلقه(1/60)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{إِنَّ الدِّينَ
[ص:61] عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} أي إن الدين الحق، المرضي المقبول، هو الإسلام.
وقد قال فيلسوف الإنجليز برناردشو في إحدى كتاباته عن الإسلام: هو دين المستقبل.(1/60)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{فَإنْ حَآجُّوكَ} جادلوك {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أخلصت نفسي {لِلَّهِ} أنا {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} من المؤمنين {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {وَالأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ} وانقادوا {فَقَدِ اهْتَدَواْ} إلى الصراط المستقيم {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}(1/61)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{بِالْقِسْطِ} بالعدل(1/61)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{حَبِطَتْ} بطلت(1/61)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} هم أحبار اليهود {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله على جماعة من يهود فدعاهم إلىالله؛ فقال له نعيمبن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم ودينه». فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً. فقال لهما رسولالله: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم». فأبوا عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.(1/61)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه؛ وهو يوم القيامة {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} في ذلك اليوم {مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذاب، أو نقصان ثواب(1/62)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ} أي تدخله فيه؛ بزيادة النهار ونقصان الليل {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} بزيادة الليل ونقصان النهار كما هو مشاهد في نهار الصيف والشتاء وليلهما {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الدجاجة وهي حية، من البيضة وهي ميتة، والإنسان وهو حي، من المني وهو ميت في الظاهر {وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} البيضة وهي ميتة، من الدجاجة وهي حية، والمني وهو ميت ظاهراً من الإنسان وهو حي. أو تخرج النخلة والأشجار وهما أحياء بالفاكهة والثمار، من النواة والبذرة وهما لا نفع منهما، ولا حياة فيهما. وروي عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن» ولا بدع فالحياة الحقيقية: حياة القلوب لا الجسوم؛ ولا حياة بغيرها والحياة الأبدية: هي الإيمان {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ} رزقه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بل بغير سبب؛ فقد يرزق تعالى الجاهل، ويمنع العاقل(1/62)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نهى سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار دون المؤمنين؛ لما يترتب على ذلك من مضار دينية ودنيوية؛ إذ أن الكافر إن أظهر الود فخداع ونفاق، وإن أبان الإخلاص فخصام وشقاق وما أخر الأمم الإسلامية وأذلها بالاستعباد والاسترقاق: سوى موالاة الكفار، ومجانبة الأبرار (انظر آية 51 من سورة المائدة) {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} بأن يوالي الكافرين من دون المؤمنين {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي فقد برىء من الله تعالى، وبرىء الله منه {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إلا إذا واليتموهم بقدر، وصاحبتموهم بحذر؛ لتتقوا بذلك أذاهم، وتسلموا من كيدهم {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوفكم بطشه وعقابه إذا لم تسمعوا قوله وتنزلوا على حكمه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فيؤاخذكم على ما فعلتم، ويعاقبكم على ما جنيتم(1/62)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} في الدنيا
[ص:63] {مِّنْ خَيْرٍ} أي أجره وثوابه {مُّحْضَراً} لم ينقص منه شيء {أَمَداً} مسافة وغاية(1/62)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وسيعاملهم يوم القيامة معاملة الكاره لهم؛ والويل لمن أبغضه الله(1/63)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اختار واجتبى {وَنُوحاً وَآلَ} لاتباع دينه ونشره {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} للإسلام. وآل الرجل: قومه وأتباعه، ومن هم على دينه. قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(1/63)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في موالاةالله، وفي الدين(1/63)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} أم مريم عليها السلام {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} من الولد {مُحَرَّراً} خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.(1/63)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{وِإِنِّي أُعِيذُهَا} أجيرها وأحصنها {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *(1/63)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} تقبل مريم التي نذرتها أمها {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} وهو مجاز عن التربية الحسنة. قال ابن عطاء: ما كانت ثمرته مثل عيسى؛ فذاك أحسن النبات
[ص:64] {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعله الله تعالى يتكفل بتربيتها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} الغرفة التي تجلس فيها، أو هو مكان العبادة {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} طعاماً. قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء {قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ} من أين لك {هَذَا} الذي أراه {هُنَالِكَ} عندما رأى زكريا مشاهد الرضا والقبول {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ففي مواطن التجلي يستجاب الدعاء(1/63)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي} فيه إشارة إلى أن الصلاة مفتاح للخيرات، وبها تجاب الدعوات؛ وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أي مصدقاً بعيسى عليه السلام؛ لأنه أتى إلى الحياة بكلمة {كُنَّ} فكان {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} الحصور: الذي يحصر نفسه ويمنعها عن ملاذها وشهواتها، أو هو المعصوم من الذنوب؛ كأنه حصر نفسه عنها. وقيل: الحصور: الذي لا يأتي النساء {قَالَ} زكريا {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} كيف يكون لي ولد {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} لا تلد لكبرها(1/64)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً} علامة على ذلك، أو مرني بأمر إذا وفقت إليه: أعلم منه إجابة دعوتي(1/64)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{قَالَ آيَتُكَ} علامتك {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} أي بالإشارة، لا بالنطق. وقد كان صيامهم عن الطعام والكلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً} اعبده {وَسَبِّحْ} بحمده {بِالْعَشِيِّ} وهو من الزوال إلى الغروب {وَالإِبْكَارِ} من طلوع الفجر إلى الضحى. والمراد: طول مدة التسبيح(1/64)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} اختارك {وَطَهَّرَكِ} من كل سوء. وقيل: من مس الرجال {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} قيل: على سائر النساء؛ من بدء الخليقة حتى قيام الساعة. وقيل: عالمي زمانها فحسب؛ وأنها عليها السلام لا تفضل فاطمةبنت محمد عليه الصلاة والسلام، ولا خديجة بنت خويلد؛ واستدلوا بقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ولم يقل أحد: إن بني إسرائيل أفضل من أمة خير الأنام؛ بل أن تفضيلهم كان على عالمي زمانهم، أو من تقدمهم من الأمم {يمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أديمي الطاعة له، والخشوع والابتهال إليه.(1/64)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ذلِكَ} المذكور من أمر مريم وأمها، وزكريا وابنه {مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ} الذي غاب عن علمك وعلم قومك {نُوحِيهِ إِلَيكَ} آية لنبوتك، وبرهاناً على صدقك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} في هذه العصور؛ حتى ترى ما فعلوا، وما فعل بهم؛ فتحكيه لقومك. ولكنا أطلعناك عليه من غيبنا الذي لا نطلع عليه إلا من ارتضينا {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} أطلعناك عليه ليؤمن بك من أنار الله بصيرته، ويهتدي بهديك من أراد الله هدايته {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} قبل ذلك عند ولادة مريم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} ليرون {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قيل: اختصم أهل مريم عليها السلام فيمن يكفلها؛ فاتفقوا على الاقتراع؛ وطريقته وقتذاك: أن يلقوا أقلامهم في النهر؛ ويحتمل أن تكون القرعة لصاحب القلم الذي يظل طافياً على الماء، أو الذي يكون رأسه إلى أعلى، أو أمثال ذلك(1/65)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} بعيسى عليه السلام؛ لأنه خلق بقول {كُنَّ} {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي ذا منزلة عالية في الدنيا، وعزة وكرامة في الآخرة(1/65)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} وهو ما يفرش للطفل؛ وكلامه في المهد معجزة له، وتبرئة لأمه مما افتراه عليها المفترون {وَكَهْلاً} أي ويكلمهم كهلاً. والكهل: الذي جاوز الثلاثين، وخطه الشيب. والمراد بذلك نفي ما ادعاه الكافرون من ربوبيته؛ فذكر تعالى أنه عليه السلام يدركه ما يدرك البشر من التغير والانتقال من الصغر إلى الكبر، ومن حال إلى حال(1/65)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{قَالَتْ} مريم {رَبِّ إِنِّي} كيف {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كسائر من يلدن(1/65)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} الكتابة التي يخطها بيده {وَالْحِكْمَةِ} العلم النافع؛ والمراد بها الشرائع والأحكام {وَالتَّوْرَاةَ} الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام؛ وقد كان معمولاً به حتى بعثة عيسى عليه السلام {(1/65)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي {وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ} الذي ولد أعمى {وَالأَبْرَصَ} وهو بياض يصيب بعض الجلد؛ فيجعله مشوهاً. وخصا بالذكر: لأن المبتلى بهما لا يبرأ منهما {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتي وقدرتي. قيل: إنه أحيا سامبن نوح؛ فكلمهم وهم ينظرون. وذهب بعض المفسرين المحدثين إلى أن المراد به إحياء موتى القلوب والنفوس؛ وهو تأويل فاسد، منكر لإحدى معجزات عيسى عليه السلام التي اختصه الله تعالى بها؛ وإلا فإن أكثر الصالحين يحيون موتى القلوب والنفوس {وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبركم.
[ص:66] {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قيل: إنه عليه السلام كان يقول لأحدهم: يا فلان لقد أكلت كذا في يومك، وادخرت كذا في بيتك؛ وذلك بغير تفكير، أو استنطاق لرمل أو أرقام؛ كما يفعل الدجاجلة. ولعل المراد أنه كان يعلمهم عناصر الأغذية وخواصها، وكيف يحفظونها ويدخرونها. وهو باب يدخل ضمن أبواب الأدوية والعلاجات: وقد تخصص فيها معجزة له عليه الصَّلاة والسَّلام(1/65)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ما تقدمني {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وقد كان تعالى حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم قال تعالى {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال جل شأنه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي، وحجة وعبرة؛ وهو كل ما قدمه من إبراء، وإحياء، وإخبار بغيب(1/66)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{هَذَا صِرَاطٌ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} ومن عجب أن يبرىء عيسى - لبني إسرائيل: الأكمه والأبرص، ويحيي لهم الموتى، ويخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه سواهم، وما هو كائن في حلوقهم وبطونهم؛ فيأبون الانقياد لخير العباد، ويرفضون الإيمان للديان(1/66)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} بالله، وإنكار بعثته، ونبوته: أراد أن يختار خلصاءه من بين من آمن منهم - وقليل ما هم - {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من أنصاري لنصل معاً إلىالله، أو من أنصاري مع الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} حواري الرجل: صفوته وخاصته(1/66)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} الذين يشهدون بوحدانيتك، ويؤمنون بصدق رسولك(1/66)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} أي جازاهم الله على مكرهم بمكر أشد منه وأقسى. وهذا على سبيل المقابلة. والمكر: الخداع. قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}(1/66)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي مستوفي أجلك. وقد اختلف في موته عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهل رفع حياً، أم رفعت روحه فحسب؟ واستدل كل فريق بما يراه مؤيداً لرأيه: فاستدل من قال بموته بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وعيسى عليه السلام من جملة النفوس التي كتب عليها الموت. ورد الفريق الآخر بأنه عليه السلام سيذوق الموت قبيل القيامة، وبعد نزوله إلى الأرض وحكمه بشريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ونحن إذا قلنا برفع روحه فحسب؛ فإن سائر الأرواح ترفع إلى بارئها سبحانه وتعالى؛ ولا يكون ثمة فضل لعيسى عليه السلام اختصه الله تعالى به وزعم قوم بأنه مات ودفن بجهة سموها؛ ولعلها ببلاد الهند؛ والله تعالى أعلم بقوله وفعله أي إلى السماء
[ص:67] {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بتخليصك منهم {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وآمنوا بك {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك. وهم الهيود - قاتلهم الله - كفروا بموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.(1/66)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ذلِكَ} القصص {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يا محمد(1/67)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ} في الخلق {كَمَثَلِ آدَمَ} خلقه من غير أب ولا أم، وخلق عيسى من غير أب؛ قال لهما: كونا فكانا(1/67)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} الشاكين(1/67)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{فَمَنْ حَآجَّكَ} جادلك من النصارى أو المشركين {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} الذي جاءك {مِّن الْعِلْمِ} في هذا الكتاب الحق {فَقُلْ} لهؤلاء المجادلين {نَدْعُ} نتضرع إلى الله تعالى.
والمباهلة: أن يجتمع الفريقان ويخرجان بأبنائهم ونسائهم، ثم يدعون الله تعالى باللعنة على الكاذب منهما {فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها(1/67)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} الكافرين(1/67)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ} مستوية؛ والسواء: العدل.(1/67)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} زعم كل من اليهود والنصارى: أن إبراهيم عليه السلام كان منهم؛ وجادلوا رسولالله فيه، فقيل لهم: إن اليهودية إنما كانت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل؛ وبين إبراهيم وموسى ألف عام، وبينه وبين عيسى ألفان فكيف يكون على دين لم يأت بعد، ولم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة؟(1/68)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} من أمر موسى وعيسى {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من أمر إبراهيم(1/68)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} كما تزعمون {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً} مائلاً إلى الدين الحق القيم؛ وهو الإسلام(1/68)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي آمنوا به؛ وليس من بينهم اليهود أو النصارى {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد؛ لأنه نادى بدين إبراهيم وملته {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فهؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم؛ لا من كذبوه(1/68)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جماعة من اليهود(1/68)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} تعلمون أنه حق منزل من عند الله تعالى؛ لورود ذكر مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام في كتابكم(1/68)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ} تخلطون(1/68)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لطائفة أخرى منهم.
[ص:69] {آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ} أوله {وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} وذلك أنهم تواصوا فيما بينهم أن يؤمن فريق منهم أول النهار، ثم يكفروا آخره؛ لأجل أن تتزلزل عقائد المسلمين؛ فيقولون في أنفسهم: ما دعا هؤلاء إلى الارتداد؛ إلا ظهور بطلان ديننا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعل المؤمنين يرجعون عن إيمانهم(1/68)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ} لا تصدقوا ولا تطمئنوا في هذا السر الذي اتفقنا عليه {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} لئلا يطلع المسلمون عليه {أَن يُؤْتَى} بأن يؤتى {أَحَدٌ} من المؤمنين {مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} من المعجزات والتوراة، وفلق البحر، والمن والسلوى، وأشباه ذلك {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} يجادلكم المؤمنون يوم القيامة {عِنْدَ رَبِّكُمْ} لأنكم أصح ديناً. قال تعالى رداً عليهم: مخاطباً خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ} كله {بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} وقد آتاك النبوة، وأنزل عليك الكتاب بالحق(1/69)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} من الذهب؛ والمراد به المال الكثير {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} لأمانته {ق} واحد {لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} لخيانته {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي ملحاً بالمطالبة والمقاضاة. وهو تحذير من معاملتهم وعدم الاغترار بأمانة بعضهم {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ} أي العرب {سَبِيلٍ} طريق للإثم؛ وذلك لأن اليهود لعنهم الله تعالى يستحلون أكل مال من عداهم من الأمم - مسلمين، أو نصارى، أو غيرهما - ويزعمون أن الله بذلك أمرهم. قال تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة ذلك الإفك إليه؛ وقد أمر تعالى بالوفاء بالعقود والعهود والوعود - للمسلمين والكافرين على السواء - وقد حض على ذلك بقوله جل شأنه(1/69)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أدى أمانته {وَاتَّقَى} الله ربه في سائر معاملاته {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فيعزهم في الدنيا، ويكرمهم وينعمهم في الآخرة(1/69)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} يستبدلون {بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} أي يستبدلون الصدق والوفاء والأمانة بالكذب والإخلاف والخيانة؛ نظير ثمن قليل هو حطام الدنيا الزائل الفاني وذلك كمن يتفق مع آخر على بيع سلعة من السلع؛ فيزيد له إنسان في ثمنها فيبيعها له، وينقض اتفاقه مع الأول. أو من يخطب ابنة إنسان؛ فيعاهده أبوها على تزويجها له نظير مهر مقدر بينهما؛ فيأتي آخر فيزوجها له نظير زيادة في المهر. أو كمن يحلف ببراءته من دين هو عليه. قال: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم: لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» وكيف يرجو الخير من يلقى الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان؟ أعاذنا الله تعالى من غضبه، وأنجانا من سخطه ومن علينا برضاه يوم نلقاه {أُوْلَئِكَ} الذين اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمناً
[ص:70] قليلاً {لاَ خَلاَقَ} لا نصيب {لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} من النعيم، والثواب المقيم {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} نظر عطف ورحمة، ولا يرعاهم {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يطهرهم من ذنوبهم(1/69)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود؛ وقد كانوا يقطنون حوالي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام {لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يميلونها في النطق؛ يريدون بذلك أن يفهموا السامع أن ما ينطقون به هو من التوراة {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} التوراة {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ما هو من التوراة؛ بل هو من عند أنفسهم(1/70)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ما جاز له وما صح {أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الإنجيل {وَالْحُكْمَ} العلم والفقه {وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ} وهو تكذيب لمن يقول بألوهية المسيح عيسى ابن مريم {وَلَكِنِ} كان يقول للناس {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} نسبة إلى الرب تعالى؛ أي طائعين له، ومنفذين لأحكامه. أو كونوا علماء حكماء أتقياء(1/70)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} أي ما كان لبشر أن يقول للناس: كونوا عباداً لي. ولا أن يأمركم {أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} على يديه، وبأمر من مرسله تعالى(1/70)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} أخذ العهد عليهم بأن يصدق بعضهم بعضاً، ويؤمن بعضهم بما جاء به الآخر {لَمَآ آتَيْتُكُم} للذي آتيتكم {مِن كِتَابِ} أنزلته عليكم {وَحِكْمَةٍ} علم نافع أضفيته على أفهامكم {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} محمد سيد البشر عليه الصَّلاة والسَّلام {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من الكتب المنزلة {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} بذلك {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ} الميثاق {إِصْرِي} أي عهدي.
والإصر: العهد والذنب، والثقل.(1/70)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{فَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن الإيمان بمحمد؛ وقد آمن به الأنبياء قبل إيجاده(1/71)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يطلبون {وَلَهُ أَسْلَمَ} انقاد {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من أملاك، وإنس وجن، ومخلوقات لا يعلمها سوى خالقها {طَوْعاً} بعد تدبر الأدلة والآيات، والحجج البينات {وَكَرْهاً} بالسيف، أو بعد معاينة العذاب؛ كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإغراق فرعون وقومه، وأمثال ذلك(1/71)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب عليه السلام؛ ذراري أبنائه.(1/71)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الدلائل الواضحات.(1/71)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
{يُنْظَرُونَ} يمهلون.(1/71)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ} أي بعد ارتدادهم أعمالهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم. {رَّحِيمٌ} بهم.(1/71)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} أي لن تنالوا بر الله تعالى وثوابه ومغفرته {حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وهذا يكاد أن يكون منعدماً في هذا الزمان؛ لأنك ترى الرجل يتصدق بثوبه الممزق، ولقمته العفنة، وكل ما يكرهه ويستقذره؛ ثم يتيه عجباً، ويختال طرباً، ويميس فخراً، بما جاد به، ويعتقد أن الجنة لم تخلق إلا لأجله؛ فهيهات هيهات أن يدخل مثل هذا جنةالله، أو أن يتمتع برضوانه ولن ينال برالله، سوى من أنفق مما يحب في دنياه {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فيؤاخذكم عليه إن كان مما تكرهون، ويثيبكم عليه إن كان مما تحبون فانظروا - هداكم الله - ماذا أنتم فاعلون(1/72)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها - وقد كانا أحب الأشياء عنده - لمرضه بعرق النسا. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام(1/72)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} مكة؛ وهما لغتان فيها {مُبَارَكاً} كثير الخير والبركات؛ لما فيه من الثواب وتكفير السيئات(1/72)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} حجج ظاهرات.
[ص:73] {مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت فأثرت فيه قدماه، ومنها أن الطير لا يعلوه أبداً؛ مع كثرته وشدته {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ} أي طلب منهم، وفرض عليهم {حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بالمال، والصحة، والأمن {وَمَن كَفَرَ} أي جحد فرضية الحج. أو هو من كفران النعم؛ أي من لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم، وسعة الرزق؛ ولم يحج {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ} وهم الفقراء إليه، المتزلفون له، الطالبون مرضاته، المؤملون فضله(1/72)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} تمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الحق؛ وهو الإسلام {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} تطلبونها وتريدونها معوجة(1/73)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} يحتمي به، ويلجأ إلى أوامره، ويهرع إلى مرضاته
{فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} قويم واضح، موصل لكل خير(1/73)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي خافوا الله واحذروه، وائتمروا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وداوموا على ذلك حتى تموتوا وأنتم مسلمون(1/73)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} بكتابه؛ لقوله: «القرآن حبل الله المتين».
[ص:74] {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} الشفا: الحافة {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} بأن هداكم للإسلام؛ وذلك لأن الكافر والمذنب - مثلهما في الدنيا - كمثل الواقف على حافة النار؛ فإذا مات: وقع فيها؛ فأنقذنا الله تعالى - بمنه وكرمه - من الوقوع في النار؛ بهدايتنا إلى الإيمان(1/73)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} أي جماعة من مثقفيكم وعلمائكم {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} يرشدون إلى الإيمان، ويحضون على الإحسان، ويوجهون إلى البر، ويحثون على الشكر {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالفعل الحسن الذي يقره العرف والشرع {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الذي يستقبحه الشرع، وينكره العقل {وَأُوْلئِكَ} الداعون إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذا وقد أوجب الله تعالى على سائر الأمة الإسلامية: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما يترتب على تركهما من فشو المعاصي، وانتهاك حرمات الله تعالى. قال: «ما أقر قوم المنكر بين أظهرهم؛ إلا عمهم الله بعذاب محتضر» وها نحن أولاء - وقد دعونا إلى الشر، وأمرنا بالنكر، ونهينا عن الخير - نعاني قلة البركات، وفساد النفوس والثمرات، وقلة الأرباح، وكساد التجارات، وعقوق الأبناء، وتجبر الآباء ولا دواء لما نعانيه، وشفاء لما نلاقيه؛ سوى اللجوء إلى الله تعالى، والتمسك بأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره(1/74)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ} هم اليهود والنصارى؛ حيث تعادوا وكفر بعضهم بعضاً «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء» {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآيات الواضحات(1/74)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} وجوه المؤمنين؛ ولو كانت سوداء {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وجوه الكافرين؛ ولو كانت بيضاء {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي بعد أن كان الإيمان في متناول قلوبكم وعقولكم يقال لهم ذلك على سبيل إذلالهم والنكاية بهم(1/74)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وجنته ورضوانه {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أبد الآبدين، ودهر الداهرين(1/74)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} في الدنيا والآخرة؛ فيقضي فيها حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه العدالة المطلقة(1/74)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{كُنتُمْ} يا أمة محمد {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} بسبب أنكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: صيرا الأمة الإسلامية خير الأمم وأفضلها كذلك تركهما يصير الإنسان أحط من العجماوات؛ فادأب - هديت وكفيت - على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لترضي نفسك، وترضي ربك؛ وتكفى ذل الحياة وبؤسها وليكن أمرك
[ص:75] بالمعروف ونهيك عن المنكر؛ ابتغاء وجه الله تعالى، ورغبة في مرضاته وحذار أن تفعل ذلك ابتغاء شهرة أو تظاهر فتهلك؛ وينقلب سعيك إلى خسران، وحقك إلى بطلان {مِنْهُمْ} أي من أهل الكتاب {الْمُؤْمِنُونَ} كعبد اللهبن سلام وأصحابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} الكافرون، الكائدون لكم(1/74)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{لَن يَضُرُّوكُمْ} بكفرهم وكيدهم {إِلاَّ أَذًى} يسيراً {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ} لجبنهم، وضعف باطلهم أمام حقكم(1/75)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} أي أينما وجدوا. نزلت في اليهود؛ وهي من الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والمغيبات الواضحات؛ وليس أدل على ذلك من اضطهاد العالم أجمع لهم، وتشتيتهم في سائر الممالك، وتفريق شملهم؛ ولا يغرنك ما هم عليه الآن من ملك اغتصبوه، وحق استلبوه؛ سيرد إلى أهله بقوة السنان والإيمان؛ بعون الله تعالى وستضرب عليهم الذلة - التي كتبها الله تعالى عليهم - والمسكنة - التي أرادها الله لهم - وستحل عليهم اللعنة أينما ثقفوا (انظر آية 61 من سورة البقرة) {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} الحبل: السبب والعهد. أي أنهم لا يأمنون على أنفسهم إلا إذا كانوا يدفعون جزية، أو يتملقون مسلماً؛ وهذا نوع من الذلة كتبه الله تعالى عليهم {وَبَآءُوا} رجعوا {بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} كتبت {الْمَسْكَنَةُ} الذلة والضعف؛ وها هم أولاء تعاونهم شتى الدول بالميرة والذخيرة، والعدة والعدد؛ فلم يزدهم ذلك إلا ذلاً وضعفاً وهواناً {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ} كيحيى وزكريا عليهما السلام(1/75)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{لَيْسُواْ سَوَآءً} أي ليس أهل الكتاب مستوين في الخير والشر {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} أي {لَيْسُواْ سَوَآءً} لأن منهم أمة قائمة بأمرالله؛ يتلون آياته {آنَآءَ اللَّيْلِ} ساعاته(1/75)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} أي لن يعدموا ثوابه(1/75)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} أي مثل ما ينفق الذين كفروا {فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من بر، وصدقة، وصلة رحم {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} الصر: برد يضر الحرث والنبات {أَصَابَتْ} تلك الريح {حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب {فَأَهْلَكَتْهُ} أي أهلكت الريح ذلك الحرث. وقد وصف تعالى المؤمنين في إنفاقهم - وما يجلبه هذا الإنفاق عليهم من أجر عظيم، وخير عميم - بقوله جل شأنه {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فضاعف تعالى أجر المؤمن المنفق إلى سبعمائة؛ ووعد أيضاً بأن يضاعف له هذه السبعمائة أضعافاً مضاعفة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} هذا مثل المؤمن المنفق؛ أما مثل إنفاق الكافر فقد مثله الله تعالى بالريح التي تعصف بالنبات والأقوات، وتهلك الزرع والضرع {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بذلك الجزاء {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر(1/76)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} بطانة الرجل: خاصته وأصدقاؤه. ومنه بطانة الثوب؛ لملاصقتها له {مِّن دُونِكُمْ} أي من غير دينكم وجنسكم؛ لأن الأجنبي لا يعمل لخيرك، بل يدس ويكيد لك؛ فوجب الابتعاد عنه، والاحتراس منه؛ قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي أنهم لا يقصرون في إفسادكم، وإيصال الضرر بكم {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي ودوا ضرركم أشد الضرر وأبلغه؛ وهو من العنت: أي المشقة {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بما يقذفونكم به من سباب، وما ينطقون به من كفر وهجر
{وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما بدا من أفواههم(1/76)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} وتتخذون منهم بطانة هم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم مفطورون على كراهة من عداهم {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} بالكتب المنزلة كلها؛ بما في ذلك كتابهم؛ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم، ولا بكتابهم أيضاً لأنهم لا يعملون بما في كتابهم {وَإِذَا لَقُوكُمْ} نافقوا و {قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ} بأنفسهم {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وعض الأنامل: عادة يفعلها المغيظ المحنق، إذا لم ينل من عدوه منالاً {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب(1/76)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} نصر أو غنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بإخفاق مقصد أو بهزيمة من عدو {يَفْرَحُواْ بِهَا} أرأيتم أيها المؤمنون حال من ننهاكم عن اتخاذهم بطانة لكم، أو أولياء توالونهم من دون المؤمنين؟(1/76)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} أي خرجت غدوة من أهلك. والغدوة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس {تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ} تنزلهم {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} مواقف؛ أي ترتب جيوش المؤمنين: ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين. وكان ذلك في وقعة أحد(1/77)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} هم بنو سلمة، وبنو حارثة {أَن تَفْشَلاَ} تضعفا عن القتال {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} كافيهما وناصرهما {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لا على أحد غيره قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1/77)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} قليلون؛ نصركم - رغم قلتكم وضعفكم - على المشركين رغم كثرتهم وقوتهم(1/77)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ} من وقتهم {مُسَوِّمِينَ} معلمين(1/77)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي هذا الإمداد {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} فلا تجزع لكثرة العدو {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يهبه لمن يشاء بلا قدرة ولا قوة، ويمنعه عمن يشاء مع مزيد القدرة ووفور القوة؛ وقد وهبكم النصر على الكافرين مع قلتكم وكثرتهم، وضعفكم وقوتهم(1/77)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ليهلك طائفة منهم {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يغيظهم ويذلهم ويخزيهم {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} فيرجعوا منهزمين.(1/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا} كلٌ نهي جاء مصحوباً بنداء المؤمنين: {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو من المحرمات؛ التي يأثم فاعلها، ويثاب تاركها: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} {لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} وأمثال ذلك. وأكل الربا من أفحش الموبقات المنهي عنها؛ خاصة إن كانت {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وهو ما يسميه الربويون بالفوائد المركبة؛ وهو أن يضم المرابي فوائد الدين إلى أصله، ويحتسب الدين وفوائده وفوائد الفوائد؛ وهكذا حتى يتضاعف الدين {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وليس معنى الآية: إباحة الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؛ بل هو حرام قل أو كثر، ضوعف أو لم يضاعف؛ ويأثم فاعله؛ ويكفر مستحله لقوله تعالى:(1/78)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الذين لا يطيعون الله فيما أمر، ولا يعبأون بتهديده ووعيده(1/78)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي بادروا لفعل ما يوصل إليها؛ من فعل الطيبات، واجتناب المحرمات سارعوا إلى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} هذا عرضها فكيف بطولها؟ والمراد بذلك وصفها بالسعة والبسط؛ فشبهها تعالى بأوسع ما علمه الناس وألفوه. أما وصفها الحقيقي: فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب شر {أُعِدَّتْ} هذه الجنة، التي هذا وصفها، وهذه سعتها {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يرجون رحمة ربهم، ويخافون عذابه ووصف الله تعالى المتقين بقوله:(1/78)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} مما آتيناهم {فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} في اليسر والعسر، في السعة والضيق، في السرور والحزن؛ لا يمنعهم مانع عن الإنفاق والإعطاء؛ أليس هذا أمر ربهم، وتوجيهه لهم؟ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} يقال: كظم غيظه: إذا حبسه ومنعه {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} إذا صدر منهم ما يستوجب المؤاخذة(1/78)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الفاحشة: الفعلة القبيحة، الخارجة عما أمر الله تعالى به. وقيل: الفاحشة: الزنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب {ذَكَرُواْ اللَّهَ} تذكروا أمره ونهيه، وثوابه وعقابه {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} طلبوا منه تعالى غفرانها، وعاهدوه على تركها وعدم العودة إليها {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا أحد يغفرها ويمحوها سواه تعالى؛ بشرط الاستغفار، وعدم الإصرار {وَلَمْ يُصِرُّواْ} أي لم يقيموا {عَلَى مَا فَعَلُواْ} من الذنوب التي استوجبت الاستغفار وإلا فالعائد إلى ذنبه، كالمستهزىء بربه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن ما يفعلونه من الآثام.(1/78)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} وقائع أو أمم(1/79)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{هَذَا} القرآن {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} يبين لهم ما خفي عليهم {وَهَدَى} هداية لهم يهديهم إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} يتعظون بما فيه من الآيات، ويعتبرون بما فيه من الحادثات(1/79)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{وَلاَ تَهِنُواْ} من الوهن أي لا تضعفوا {وَلاَ تَحْزَنُواْ} ف الله تعالى معكم {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} بالغلبة والنصر على الكافرين(1/79)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} القرح: واحد القروح؛ وهو كناية عن الغلب والهزيمة يوم أحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} أي مستهم هزيمة منكرة يوم بدر {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي نصرفها بينهم: فننصر هؤلاء يوماً، وننصر أولئك يوماً آخر. ونفقر هؤلاء، ونغني هؤلاء؛ ثم نغني من أفقرنا، ونفقر من أغنينا كل شيء عندنا بمقدار وتقدير، ونظام وتدبير {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور {الَّذِينَ آمَنُواْ} بصبرهم على بلواهم، وشكرهم على نعمائهم(1/79)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{وَلِيُمَحِّصَ} يبتلي ويختبر {وَيَمْحَقَ} يهلك(1/79)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أيها المؤمنون {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا} لم {يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} على ما أصابهم في سبيله(1/79)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} تتمنون {الْمَوْتُ} في الجهاد؛ عند ما فاتتكم وقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي رأيتم أسبابه؛ في الجهاد يوم أُحد؛ فلم جبنتم وانهزمتم؟ أليس هو الموت الذي تتمنونه والشهادة التي تنشدونها؟ (انظر آية 42 من سورة الزمر)(1/79)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} يعرض له ما عرض لسائر الرسل، ويجوز عليه ما جاز عليهم وهو كسائر البشر: يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. ويمرض، ويموت (انظر آية 4 من سورة القلم) {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وماتوا حين حان أجلهم {أَفإِنْ مَّاتَ} كباقي مخلوقات الله تعالى {أَوْ قُتِلَ} كسائر المستشهدين في سبيله {انْقَلَبْتُمْ} رجعتم {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والمراد: ارتددتم إلى الكفر بعد إيمانكم {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيكفر بعد إيمان، ويشك بعد إيقان {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} بل يضر نفسه، ويوردها مورد الهلكة(1/79)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} بإرادتها؛ بل تموت {بِإِذُنِ اللَّهِ} حين ينتهي أجلها المحدد لها فإذا جاء أجلها لا تستأخر ساعة ولا تستقدم {كِتَاباً} مكتوباً عند الله {مُّؤَجَّلاً} أي مؤقتاً بأجل معلوم؛ فلا ينفع الجبن، ولا تنجى الهزيمة {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} {وَمَن يُرِدِ}
بعمله {ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ} ما كتب له {مِنْهَآ} وليس له حظ في ثواب الآخرة {وَمَن يُرِدِ} بعمله {ثَوَابَ الآخِرَةِ} وما أعده الله للمتقين {نُؤْتِهِ مِنْهَا} ما يستحقه من النعيم المقيم(1/80)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{وَكَأَيِّن} وكم {مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} أي ربانيون؛ وهم العلماء العاملون، والمؤمنون الموحدون: حواريو الأنبياء وخاصتهم {فَمَا وَهَنُواْ} أي فما فتروا، وما انكسرت همتهم، أو ضعفت نفوسهم {وَمَا اسْتَكَانُواْ} وما خضعوا {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} في الحرب، وعلى البأساء والضراء، وعلى الطاعة، وعن المعصية(1/80)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} أي لم يكن قولهم هذراً ولا لغواً ولا شكاية، ولا تأففاً وتضجراً؛ وإنما طاعة وصبراً؛ ولم يكن قولهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} تجاوزنا الحد فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في الحرب؛ فلا تزول من مكانها إلا إلى النصر والظفر من هنا نعلم أن واجب الإنسان حين يدعو ربه لدفع ملمة، أو رفع كربة: أن يتجرد من دنياه، ويستغفر من خطاياه، ويتجه إلى مولاه؛ فيستجيب دعاه ألا ترى - هداك الله تعالى إلى مرضاته - إلى قول العزيز الجليل:(1/80)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} بالنصر والغنيمة والذكر الحسن {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} بالجنة والنعيم المخلد، ورضي عنهم وأرضاهم(1/80)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومتولي أموركم(1/80)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} منكم؛ فلا يستطيعون مقاتلتكم {بِمَآ أَشْرَكُواْ} أي بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو برهاناً {وَمَأْوَاهُمُ} مرجعهم.
[ص:81] {مَثْوَى} مقام(1/80)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تقتلونهم. والحس: القتل والاستئصال {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته وقدرته {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} جبنتم وضعفتم {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من النصر والظفر والغنيمة، وانهزام العدو في مواقع عدة {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} الغنيمة؛ فترك مراكز القتال؛ ليفوز بها {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} وثوابها؛ فثبت في مراكزه حتى قتل؛ وفاز بالأجر والشهادة؛ وأنعم بهما من سعادة
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} ردكم عن الكفار بالهزيمة {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليختبركم بالمصائب، وليظهر ثباتكم على الإيمان(1/81)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{إِذْ تُصْعِدُونَ} الإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض، أو الإبعاد فيه. والصعيد: ما على وجه الأرض من تراب وحجر ونحوهما. والمعنى: تستبقون إلى الهرب في مستوى الأرض، وفي بطون الأودية والشعاب. وقيل: هو من الصعود؛ وأنهم صعدوا هاربين في أُحد {وَلاَ تَلْوُونَ} لا تلتفتون {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} يناديكم وأنتم منهزمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله {فَأَثَابَكُمْ} جزاكم {غُمّاً} هزيمة {بِغَمٍّ} أي مقابل غمكم للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ومخالفتكم أمره. أو المعنى: غمكم بالهزيمة في أحد، مقابل غم الكافرين وهزيمتهم ببدر وهو كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(1/81)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ} والهزيمة {أَمَنَةً نُّعَاساً} أي أنزل تعالى على المؤمنين الأمن، وأزال عنهم الخوف حتى نعسوا {يَغْشَى} هذا النعاس {طَآئِفَةٌ} جماعة {مَّنكُمْ} وهم الذين كانوا مع الرسول في القتال، وعملوا بأمره، ولم تلههم الغنائم عن طاعته: فنعسوا من كثرة ما أمنوا. والنعاس في القتال: أمن من الله ورحمة، وفي الصلاة: من الشيطان {وَطَآئِفَةٌ} أخرى؛ وهم الذين خالفوا أمر الرسول، وانصرفوا إلى الغنائم؛ فتقدم المشركون وأثخنوا المؤمنين. وهذه الطائفة {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} والمحافظة على حياتهم؛ فهم من حذر الموت، وخشية القتل في شغل {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ} الظن {الْحَقِّ} ويتوهمون أنه تعالى لا ينصر محمداً {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} الأولى، الذين كانوا يشركون بالله، ولا يعرفون رباً يعتمدون عليه، ويكلون أمورهم إليه {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم} من النفاق {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} وذلك لأنهم كانوا يبدون للرسول الإسلام - وهم برآء منه - والحرص على الجهاد - وهم بعداء عنه ـ.
[ص:82] {لَبَرَزَ} خرج {الَّذِينَ كُتِبَ} قضى {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} مصارعهم {وَلِيَبْتَلِيَ} يختبر {مَا فِي صُدُورِكُمْ} من إيمان وإخلاص، أو كفر ونفاق {وَلِيُمَحِّصَ} يميز حقيقة {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من حب له، وتفان في سبيله، أو حب للذات، وتفان في الملذات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب(1/81)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} انهزموا {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الجيشان: جمع المسلمين، وجمع الكافرين؛ بأحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أوقعهم في الزلة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} عملوا من الذنوب.(1/82)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ} سافروا فيها، وتعرضوا للمتاعب والأخطار {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} جمع غاز {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} في ديارهم {مَا مَاتُواْ} في أسفارهم {وَمَا قُتِلُواْ} في غزواتهم. ونسوا أنهم لو كانوا في بيوتهم وكتب عليهم الموت؛ لسعى إليهم، أو سعوا إليه، وأن قضاء الله تعالى لا يدفع، وأمره لا يرد {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ} القول الذي يقولونه، والتفكير الذي يفكرونه {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} تحز في نفوسهم {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} فلا يمنع من الموت قعود، ولا يكون القعود سبباً في الخلود(1/82)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} لذنوبكم {وَرَحْمَةً} منه لكم {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من المال الفاني(1/82)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ} في فراشكم، أو أسفاركم {أَوْ قُتِلْتُمْ} في حربكم وجهادكم {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} فيجزيكم خير ما عملتم(1/82)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} أي فبرحمة عظيمة كائنة من الله تعالى لهم؛ عاملتهم بهذا الرفق والتلطف {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} جافياً {غَلِيظَ الْقَلْبِ} قاسيه {لاَنْفَضُّواْ} تفرقوا {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ما تقدم من ذنوبهم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} تكريماً لهم، وتطييباً لنفوسهم: يا لله؛ عفو ومغفرة، ورفعة تبلغ حد المشاورة يأمر المولى عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم في الأمر - وهو خير الأنام، وهاديهم ومرشدهم - وكل الناس مهما ارتقوا وعلوا فمن مدده يغترفون، ومن فيضه يستقون ولكن الله تعالى أراد بهذه الآية أن يعلمنا التدبر في الأمور، والتشاور فيها؛ وما المبادىء الديمقراطية، والنظم الدستورية، والمجالس النيابية؛ إلا نتيجة تعاليم هذا الكتاب الكريم؛ فله تعالى الحمد على ما منَّ به وأنعم
[ص:83] {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي إذا استقر رأيك على إمضاء أمر من الأمور، وطابت نفسك له، وشاورت إخوانك وأحباءك، واستخرت إلهك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} اعتمد على معونته ونصرته؛ فإنه لا شك معينك وناصرك(1/82)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} الصادقون في الإيمان (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/83)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أن يخون. يقال: غل من المغنم: إذا أخذ منه خفية {وَمَن يَغْلُلْ} منكم {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المعنى: أنه يأت حاملاً ذنب الغلول وإثمه {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} تعطى جزاء ما عملت وافياً؛ غير زائد ولا منقوص. قيل: نزلت حينما افتقدوا قطيفة من مغانم بدر؛ فقال بعضهم: لعل محمداً أخذها لنفسه. وقيل: {أَنْ يَغُلَّ} أي يكتم شيئاً مما أنزله الله تعالى عليه؛ رهبة من الناس أو رغبة(1/83)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} أطاعه واتبع أمره، ولم يغل من مغنم، ولم يكتم علماً {كَمَنْ} غل في المغنم، وعصى مولاه، و {بَآءَ} رجع {بِسَخْطٍ} غضب {مِنَ اللَّهِ} لا يستويان(1/83)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} فالمتبع لرضوانه في جنات النعيم، والذي باء بسخطه في العذاب الأليم(1/83)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} تفضل عليهم وأكرمهم وأعزهم {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} محمداً: خاتم الرسل وإمامهم؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي من جنسهم، ولسانهم {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} من القرآن الكريم {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةِ} العلم النافع(1/83)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ} أي أو حين أصابتكم {مُّصِيبَةٍ} يريد ما أصابهم يوم أُحد؛ من قتل وجراح {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} يوم بدر؛ فقد قتل من المسلمين بأحد سبعون رجلاً، وكان المسلمون قد قتلوا منهم ببدر سبعين وأسروا مثلهم {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} كيف يكون هذا؟ ومن أين أصابنا هذا ونحن مؤمنون وهم كافرون {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} لأنكم خذلتم الرسول، ولم تطيعوا أمره، وهرعتم إلى الغنائم، وتركتم مراكز القتال التي أمركم بالوقوف فيها؛ فكرَّ عليكم المشركون، ونالوا منكم ما نالوا؛ فلا تلوموا إلا أنفسكم(1/83)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن من دعي للجهاد فلم يلب؛ كان للكفر أقرب منه للإيمان وجدير بمن سمع نداء الدين والوطن والواجب؛ فلم يلب هذا النداء؛ أن يموت إن شاء يهودياً أو نصرانياً {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهو قولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}(1/84)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ} عن الجهاد؛ كفراً وجبناً {لَوْ أَطَاعُونَا} أي لو أطاعنا الذين خرجوا للقتال {مَا قُتِلُوا} ولكانوا سالمين مثلنا. قال الله تعالى لهم رداً عليهم {قُلْ فَادْرَءُوا} ادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} بقعودكم عن الجهاد {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولون(1/84)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} لا تظنن {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الجهاد؛ لإعلاء دينه، ونصرة نبيه. لا تحسبنهم {أَمْوَاتاً} كسائر الأموات؛ الذين لا يحيون، ولا يبعثون إلا يوم القيامة {بَلِ} هم {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} يأكلون ويشربون، ويتلذذون ويتنعمون، ويضحكون ويمرحون(1/84)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من نعيم مقيم، ورزق كريم {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي يستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بعد، وبما سيؤول إليه حالهم بعد موتهم؛ من إكرام كإكرامهم، ونعيم كنعيمهم(1/84)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الهزيمة بأحد.(1/84)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي قال لهم المنافقون {لِلَّهِ} الكفار {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} الجموع للقائكم ومحاربتكم {فَاخْشَوْهُمْ} خافوهم {فَزَادَهُمُ} هذا التخويف، وذلك القول. أو زادهم تجمع الأعداء عليهم {إِيمَاناً} بالله، ووثوقاً بنصره الذي وعد به {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا وناصرنا(1/85)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{فَانْقَلَبُواْ} رجعوا {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} نصر وغنيمة {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} لم يصبهم قتل أو هزيمة {وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ} ما يوجب رضاءه تعالى(1/85)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{إِنَّمَا ذلِكُمُ} الذي يلقي الرعب في قلوب المؤمنين، ويصرف النفوس عن الجهاد في سبيل الله، ويخوفهم من الكافرين {إِنَّمَا ذلِكُمُ} هو {الشَّيْطَانِ} اللعين: عدو المؤمنين، وولي الكافرين {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أتباعه من الكافرين(1/85)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أي نمهلهم بدون جزاء وعذاب {خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} أي ليس ذلك الإمهال خير لهم؛ بل هو شر كبير {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نؤخرهم {لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} على إثمهم(1/85)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} ليترك {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الفوضى والاضطراب؛ فبعضكم يؤمن ب الله تعالى إيماناً حقيقياً، وبعضكم ينافق، وبعضكم يعبد الله على حرف؛ فما كان الله ليترككم على هذه الصورة {حَتَّى يَمِيزَ} يفصل ويبين {الْخَبِيثَ} الكافر والمنافق {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن الصادق الإيمان {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي ما كان ليطلعكم على ضمائر الناس؛ فتعرفوا ما فيها من كفر ونفاق؛ ولكنه تعالى يختبرهم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والهجرة وأشباههما؛ فيميز المؤمن والطائع، من الكافر والمنافق.
[ص:86] {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} يختار {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيصطفيه فيطلعه على ما في ضمائر بعض الناس(1/85)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من الأموال والأرزاق، لا يحسبون أن بخلهم به {هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ} في الحقيقة {شَرٌّ لَّهُمْ} في الدنيا بالأمراض، وبغض الناس لهم. وفي الآخرة {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} هو كناية عن إحاطة إثم البخل بهم؛ كإحاطة الطوق بالعنق {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكهما، وما فيهما، ومن فيهما {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {خَبِيرٌ} فيثيبكم عليه(1/86)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} قاله اليهود لعنهم الله تعالى؛ حين نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} في صحائف أعمالهم؛ ليجازوا عليه يوم القيامة {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ} ونكتب أيضاً قتلهم الأنبياء: كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَنَقُولُ} لهم يوم القيامة {ذُوقُواْ} أيها الأغنياء الأغبياء {عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ} العذاب(1/86)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} من كفر ونكر ألم تقتلوا الأنبياء؟ ألم تقولوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}؟ وهم اليهود أيضاً(1/86)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أوصانا وأمرنا {أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} أي حتى يقدم هذا الرسول قرباناً؛ فتنزل نار من السماء فتأكله. وهذا افتراء منهم على الله حيث لم يعهد إليهم بذلك {قُلْ} لهم يا محمد
{قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرات {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي بالقرابين التي تأكلها النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} وقد جاءوا بما عهد إليكم به الله في زعمكم(1/86)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{فَإِن كَذَّبُوكَ} بعد أن أفحمتهم {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا} أقوامهم
[ص:87] {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج والمعجزات {وَالزُّبُرِ} الصحف. جمع زبور؛ من الزبر: وهو الكتابة {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الذي ينير العقول من ظلمات الجهل، والقلوب من ظلمات الكفر(1/86)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} حتماً ولا يبقى غير وجه الله تعالى. وهذه الدنيا - كما أنها ليست بدار خلود - فإنها ليست بدار جزاء؛ فقد يغني الله تعالى فيها الشقي، ويفقر التقي {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} كاملة {يَوْمُ الْقِيَامَةِ} فيدخل الجنة من ابتغاها وعمل لها، ويصلى النار من كفر بالله، ولم يعبأ بوعده ووعيده {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} بأمر الله {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} بفضله ورضاه {فَقَدْ فَازَ} فوزاً عظيماً {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} يتمتع بها من يغتر بزخرفها؛ وقد قلت فيها:
تعلموا أنما دنياكم عرض
ما لامرىء عاقل في جمعها غرض
دنيا تهم إذا ما أقبلت وإذا
ما أدبرت فهي في قلب الفتى مرض
فكم لفرقتها أشفى على تلف
صب بها مولع في حبها حرض
وهي الغرور فمن يبغ الركون لها
فإنه بين أهل الحق معترض
صلوا وصوموا وهشوا للزكاة إذا
ما كان مال، وقولوا: الحج مفترض
وارضوا بما قسم الرحمن بينكموا
فحسبكم أن تكونوا في الذين رضوا
ولا تظنوا دوام الحال، واعتبروا
بمن ترون عياناً، أو من انقرضوا(1/87)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن وتمتحنن {فِي أَمْوَالِكُمْ} بذهابها ونقصانها {وأَنْفُسَكُمْ} بالأمراض والأوبئة وفقد الأحبة {وَأَن تَصْبِرُواْ} على ذلك البلاء {وَتَتَّقُواْ} الله {فَإِنَّ ذلِكَ} الصبر والتقوى أي من الأمور الواجبة الاتباع؛ التي يحرص عليها، ويعزم على أدائها(1/87)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{فَنَبَذُوهُ} طرحوا هذا الميثاق، وذلك الكتاب {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} فلم يبينوه للناس، وكتموا ما فيه عنهم(1/87)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} من الأعمال، ويظنون أنهم من خيار الصلحاء الأتقياء {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أي يحبون أن يشتهر عنهم التقى وليسوا بالأتقياء، والصلاح؛ وليسوا بالصلحاء وهذا هو الرياء كل الرياء {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} بمنجاة {مِّنَ الْعَذَابِ} وذلك لأن أعمالهم مردودة عليهم، وعباداتهم غير مقبولة منهم؛ لأن الرياء يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جزاء مراءاتهم للناس، وتركهم الإخلاص(1/87)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأجرام {والأَرْضِ} وما عليها من دواب وحيوان وإنسان.(1/87)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيها من عجب عجاب {وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان، والنور والظلمة {لآيَاتٍ} لعبر {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} ذوي العقول(1/88)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} يتذكرونه {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} والمراد بذكر الله في هذه الحالات: هو خشيته ومراقبته في كل حالة؛ وليس كما يدعيه أرباب الطرق: من أن تأويله ما يفعلونه في مراقصهم مما يتنافى مع الدين وآدابه وقيل: المراد بالذكر: الصلاة؛ وليس بشيء. قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وكيف خلقهما الله تعالى، وكيف حفظهما، وكيف رزق من فيهما؟ قائلين في حال ذكرهم وتفكرهم {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا} الكون عبثاً و {بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} تنزهت وتعاليت عما يقوله الكافرون (أنظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)(1/88)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} هو الرسول أو القرآن الكريم {وَكَفِّرْ عَنَّا} استر وامح الاْبْرَارِ} جمع بر، أو بار؛ وهم المستمسكون بالشريعة، المحافظون على حدود الله تعالى(1/88)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} من الفضل والرحمة والمغفرة {عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك(1/88)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أجاب دعاءهم، قائلاً لهم {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} وسأجزي كلاً بما فعل {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} يستوي في الأعمال الذكور والإناث {لأُكَفِّرَنَّ} لأمحون
[ص:89] {ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ} وجزاء لأعمالهم(1/88)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{لاَ يَغُرَّنَّكَ} يا محمد، أو «لا يغرنك» أيها المؤمن {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} بالأموال والتجارة؛ فهذا(1/89)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في الدنيا {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مرجعهم {جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش(1/89)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{نُزُلاً} موضع إكرام. والنزل: ما يعد لنزول الضيف وإكرامه.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} المتقين {وَأَنْ} اليهود والنصارى(1/89)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ورسوله {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من التوراة والإنجيل.(1/89)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{وَصَابِرُواْ} أي غالبوا الأعداء في الصبر على أهوال القتال، وشدائد الحروب {وَرَابِطُواْ} أي لازموا حدود بلادكم وثغوركم؛ مستعدين للدفاع والكفاح والغزو.(1/89)
سورة النساء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/90)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} خافوه واخشوا عقابه {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم عليه السلام {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها حواء {وَبَثَّ} فرق ونشر {مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} كثيرة؛ هم سائر الخلق من بني الإنسان {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي يسأل بعضكم بعضاً ب الله استعطافاً كقولكم: أسألك ب الله أن تفعل كذا. ويسأل بعضكم بعضاً بالأرحام؛ يقول: بحق ما بيننا من الرحم افعل كذا «والأرحام» جمع رحم؛ وهو القرابة. أي واتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ بل صلوا أقرباءكم وبروهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي مراقباً لأعمالكم، فمجازيكم عليها؛ إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر(1/90)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أعطوهم أموالهم، ولا تأكلوها لعجزهم عن مطالبتكم بها {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ} الحرام؛ أي لا تستبدلوا الأمر الخبيث؛ وهو أكل مال اليتامى {بِالطَّيِّبِ} الحلال؛ وهو المحافظة عليه، ورده لأصحابه {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ} بأن تضموها {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وتزعمونها لكم} إثماً(1/90)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} ألا تعدلوا شأن {الْيَتَامَى فَانكِحُواْ} تزوجوا {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} انظر مبحث «تعدد الزوجات» بآخر الكتاب {ذلِكَ أَدْنَى} أقرب {أَلاَّ تَعُولُواْ} ألا تجوروا. من عال الحاكم في حكمه: إذا جار. أو {أَلاَّ تَعُولُواْ} بمعنى ألا تميلوا. من عال الميزان عولاً إذا مال. وقيل: المعنى: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم. يؤيده قراءة من قرأ «ألا تعيلوا»(1/90)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ} مهورهن.
[ص:91] {نِحْلَةً} النحلة: العطاء الذي لا يقابله عوض. أو «نحلة» أي عن طيب نفس. أو «نحلة» بمعنى: حقاً لهن، لا مراء فيه؛ لأن النحلة أحد معانيها الدعوى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ} أي من المهر بأن تنازلن لكم عن بعضه {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} حلالاً لا شبهة فيه؛ لأن كل حق تنازل عنه صاحبه - عن طيب نفس - فهو حلال طيب للمتنازل إليه(1/90)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ} المبذرون وعديمو الأهلية، أو هم النساء والصبيان أي لا تؤتي ابنك السفيه، ولا امرأتك السفيهة مالك؛ وكان أبو موسى الأشعري يقول: ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، ورجل كان له دين على آخر فلم يشهد عليه.
والآية في السفهاء عامة بدون تخصيص والسفيه: هو المستحق الحجر؛ لفساده وإفساده وسوء تدبيره؛ فلا تؤتوهم {أَمْوَالَكُمُ} فيتلفونها ويضيعونها؛ وهي {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} أي جعلها {قِيَاماً} قواماً لأبدانكم، وسبباً لمعاشكم ويدل على أن المراد بذلك الأبناء والزوجات قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} لأن الإنسان غير مكلف برزق وكسوة سائر السفهاء؛ وإن كان مكلفاً بأن يقول للجميع {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} والقول المعروف: أن يقول لهم: إن صلحتم ورشدتم أعطيناكم كذا، وسلمنا إليكم كذا وجعلناكم رؤساء آمرين، لا مرءوسين مأمورين؛ وأمثال ذلك. وقد يكون المراد بقوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ}: أموالهم؛ فيكون المراد سائر السفهاء كما قدمنا. وسمى مال السفهاء: أموال المخاطبين: لأن المال مشاع الانتفاع بين الناس، وتجب المحافظة عليه على كل واحد منهم(1/91)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروا صلاحهم ودينهم وعقلهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي سن الزواج؛ وهو بلوغ الحلم. هذا وقد قيدت القوانين الوضعية سن الزواج لمصالح ارتآها المقنن؛ وطاعة الحاكم واجبة ما لم تمس حرمات الله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ} وجدتم وعرفتم
{مِّنْهُمْ رُشْداً} عقلاً وصلاحاً في التصرفات {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ليتصرفوا فيها طبقاً لرغباتهم - في حدود ما أمر الله تعالى - وإلا فالحجر واجب على كل سفيه {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين أكل أموالهم قبل أن يكبروا ويتسلموها منكم {وَمَن كَانَ} منكم {غَنِيّاً} أيها الأوصياء فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي فلا يأخذ أجراً على وصايته {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} لا يزيد عن أجر إدارة أموال اليتيم فحسب(1/91)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} حظ مقدر {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} من ذلك أيضاً {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فرضه الله تعالى(1/91)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قسمة الميراث {أُوْلُواْ الْقُرْبَى} ذوو القربة؛ ممن لا يرث
[ص:92] حضر {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ} من الميراث بقدر ما تطيب به نفوسكم {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ترضية لنفوسهم، وتطييباً لقلوبهم. وهي وصية لأولي القربى: الذين يحزنون ولا يرثون. قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وقد ذهب بعضهم إلى نسخ ذلك الحكم؛ وهو محكم وليس بمنسوخ؛ وقد أجمع على ذلك الصدر الأول من الإسلام: فقد روي عن يحيىبن يعمر رضي الله تعالى عنه: ثلاث آيات محكمات مدنيات؛ تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وآية التعارف {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ} وقيل: على الوارث الإعطاء، وعلى المعطى له قول المعروف(1/91)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} بعد موتهم
{ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} نزلت هذه الآية في الأوصياء والمعنى: تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك؛ وكيف يكون حالهم بعد موتك؛ وعامل اليتامى الذين وكل إليك أمرهم وتربوا في حجرك؛ بمثل ما تريد أن يعامل أبناؤك بعد فقدك(1/92)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} أي ظالمين لهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} وهذا مشاهد في الدنيا: ترى آكل مال اليتيم؛ وقد انتابته الأمراض الفتاكة المهلكة؛ فهذه قرحة في المصارين تقضّ مضجعه، وهذا سرطان يسري في دمه ويأكل لحمه وهؤلاء أبناؤه وقد فسدوا خلقاً وخلقاً، وعاثوا فساداً وإفساداً، وأهلكوا ماله وأفسدوا حاله؛ جزاءً وفاقاً لما جنته يداه، وعصيانه لمولاه وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد بالنار التي يأكلونها في بطونهم: نار الآخرة؛ لأن مآلهم إليها. والقول الذي ذهبنا إليه أولى لما نشاهده، ولقوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في الآخرة(1/92)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أي يعهد إليكم، ويأمركم {فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} أي مثل نصيب الأنثيين. ولا توجد حالة يسوي فيها المشرع بين الذكر والأنثى في الميراث؛ سوى عند وجود الأبوين مع ابن أو بنتين فصاعداً؛ فإن نصيب الأم يكون مساوياً لنصيب الأب؛ فيأخذ كل منهما السدس. وعند وجود إخوة، وإخوة لأم؛ فإنهم جميعاً يستحقون ثلث التركة: يقسم بينهم بالتساوي، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم. ولا عبرة بما يدعو إليه غلاة الزنادقة، وأئمة الإلحاد؛ من مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ إذ أن ما يدعون إليه من أكبر الكبائر كيف لا وهو مخالف لما جاء به الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والميراث من الحقوق التي قررها الله تعالى، وجعلها فريضة محكمة، وتوعد مخالفها والخارج عليها بنار الجحيم؛ والعذاب
[ص:93] الأليم:(1/92)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فليس لإنسان - بالغ ما بلغ - أن يطمعه الشيطان؛ بأن هداه أهدى من هدى الله وليس لإنسان أن يحاول الخروج عما رسمه الله تعالى وأراده لعباده؛ وليس لهوى الإنسان، مكان مع صريح القرآن
{وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً *(1/93)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ} {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد يقول قائل: إن الله قد جعل الإنسان حراً فيما آتاه وهو وهم يلقيه الشيطان لأوليائه من بني الإنسان؛ فهي حرية مقيدة بما فرضه وقرره واهب المال وقد جعله تعالى فتنة للناس {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} باتباع أحكامه، والتزام أوامره، ومن شاء اتخذ إلهه هواه، وخرج من دنياه بسخط المخلوقين، وغضب رب العالمين وليس معنى ذلك أننا نحرم الوصية المشروعة؛ التي يجب وضعها حيث أمرالله؛ وما شرعها تعالى إلا لزيادة ثواب فاعلها وتنمية أعماله؛ وهي - في حدود الثلث - لذوي القربى من المعوزين، ولذوي الحاجات من الفقراء والعاجزين وقد جاء في الحديث الشريف: أن أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منح أحد أولاده بعض ماله، وجاء ليشهد الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه على ما منح؛ فسأله: «أله إخوة؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «أكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟» قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: «لا أشهد على جور؛ اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» وقد وضح من ذلك الحديث: أن محاباة بعض الأبناء ظلم وجور؛ وعن ذلك نهى الله تعالى ورسوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} في الدنيا والآخرة؛ ولكن الله يدري ذلك؛ فقسم حيث توجد المصلحة، وتتوفر المنفعة. وهذا يتنافى مع ما يعمله بعض الجهال؛ من إيثار بعض أبنائه بماله، وحرمان البعض الآخر؛ مما يوجب البغضاء والشحناء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم، ووخيم العواقب
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ} إلى بعض الأقرباء الفقراء؛ كما بينا في الآية السابقة {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} الكلالة: الذي لا ولد له ولا والد {غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي بشرط أن تكون تلك الوصية للمصلحة؛ لا بقصد الإضرار بالورثة {تِلْكَ} الفرائض التي بيّنها الله تعالى وشرعها {حُدُودُ اللَّهِ} فلا ينبغي تجاوزها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(1/93)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} هي المساحقة. وقال الأكثرون: هي الزنا، وإنها
[ص:94] نسخت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} وسندهم في ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} واشتراط الأربعة الشهداء؛ لم يرد إلا في الزنا {فَإِن شَهِدُواْ} بإتيانهن الفاحشة {فَأَمْسِكُوهُنَّ} احبسوهن {فِي الْبُيُوتِ} فلا يختلطن بأحد - رجالاً أو نساء - عقوبة لهن وحفظاً {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} طريقاً للخلاص؛ مما هن فيه من الحبس، ومما كن عليه من الإثم وذلك السبيل بالزواج. ويرد على قول من قال: إن هذه الآية نزلت في الزنا وإنها منسوخة؛ يرد على ذلك بقوله تعالى:(1/93)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} فخص في الأولى الإناث وحدهن، وفي الثانية الرجال وحدهم؛ فبان لنا من ذلك أنه تعالى إنما عنى في الأولى المساحقة، وفي الثانية اللواط {فَآذُوهُمَا} أي اللائط والملوط به: والإيذاء يكون بالضرب، والتوبيخ، والتشنيع، والتعبير، والهجران، وغير ذلك. وهو دليل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ في حد اللائط بالتعزير. والتعزير قد يصل إلى حد القتل؛ وقد قضوا في اللائط؛ بأن يلقى من حالق واللواط من الفواحش الذميمة التي يستحق مرتكبها أن يقطع إرباً، ويلقى للكلاب؛ جزاء فعلته التي قبحها الله وتوعد فاعلها عافانا الله تعالى من كل ما يغضبه بمنه وكرمه، وأنجانا من ذل المعصية، ووهبنا عز الطاعة؛ إنه سميع مجيب
{فَإِن تَابَا} عن اللواط {وَأَصْلَحَا} أعمالهما {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} توقفوا عن إذايتهما؛ ما داما قد تابا إلىالله، وأصلحا {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً} قابلاً لتوبة من تاب {رَّحِيماً} بعباده؛ إذا حسنت توبتهم: بدل سيئاتهم حسنات(1/94)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} يقبلها ويثيب فاعلها {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} بجهل منهم عاقبة أمرهم {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي يتوبون سريعاً، ويرجعون إلى مولاهم ومن علامة التوبة النصوح: عدم العود إلى الذنب؛ وإلا فالعائد لذنبه، كالمستهزىء بربه وهذه هي التوبة المتقبلة؛ التي تجعل صاحبها في عداد الطيبين الصالحين(1/94)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ولا يعبأون بفاطر الأرض والسموات وهم أهل الإصرار على المعاصي {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه ومقدماته، وأخذ في النزع {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فهذا الغر لا تقبل توبته، ولا ترد غربته، ولا تحمد أوبته فما أشبهه بفرعون - حين أدركه الغرق، وأخذ الموت بتلابيبه - قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ} فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (انظر آية 91 من سورة يونس) {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا {لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في جهنم وبئس المصير(1/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ
[ص:95] كَرْهاً} أي لا يحل لكم أن تأخذوا نساء مورثكم فتتزوجوهن كأنهن من الميراث المتروك لكم؛ وكان ذلك شأنهم في الجاهلية. وقد يكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن أحياء؛ فتأخذوا أموالهن كرهاً {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: الحبس والتضييق {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ}
من المهر ونحوه {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} هي الزنا. وقيل: ما تستحيل معه المعيشة: كالنشوز، وإيذاء الزوج وأهله؛ فهنا فقط يجوز للزوج أن يسترد ما آتاها {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بالمودة والرحمة اللتان فرضهما الله تعالى بين الأزواج {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وهو حث كريم على العطف وعدم التطليق إلا للضرورة القصوى التي تستحيل معها جنة الحياة الزوجية، إلى جحيم الشحناء والبغضاء(1/94)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} أيها الأزواج {اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} بتطليق وتزوج {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ} أي آتيتم الزوجة المرغوب عنها، المرغوب في تطليقها {قِنْطَاراً} كناية عن كثرة المعطى لها؛ من مهر وهدية ونحوهما {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وصف الله تعالى أخذ المطلق شيئاً مما آتاه لمطلقته بالبهتان - وهو الظلم - وبالإثم المبين - وهو الذنب البين الفادح. وهذا النهي في حالة واحدة: هي رغبة الرجل وحده في التطليق؛ ابتغاء «استبدال زوج مكان زوج» أما في حالة رغبتها هي في الانفصال؛ فيجوز له أخذ كل ما آتاها أو بعضه؛ لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها؛ لتخلص من هذا الزوج الذي لا ترغب في البقاء تحت إمرته (انظر آية 229 من سورة البقرة)(1/95)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} هو كناية عن الخلوة الصحيحة {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} الميثاق الغليظ: هو ما أمر الله تعالى به من إمساكهن بالمعروف، أو تسريحهن بإحسان، أو هو عقد الزواج، أو هو كناية عن الالتقاء والمجامعة. أو المراد بالإفضاء والميثاق: هو ما بينهما من المودة والمحبة، وما يجب عليهما من ستر المعايب، والمحافظة على السر(1/95)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
{وَمَقْتاً} وبغضاً عند الله تعالى:(1/95)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} أي بنات أزواجكم اللاتي ربيتموهن؛ وسميت ربيبة: لتربيته لها. والتحريم يتناول من تربت في الحجر ومن لم تترب فيه؛ لأن الزوجة المدخول بها: يحرم على الزوج أصولها وفروعها. وقد ذهب أهل الظاهر إلى أن الربيبة لا تحرم إلا بشرطين: الدخول بالأم، والتربية في الحجر؛ فإذا انعدم أحد الشرطين؛ لم يوجد التحريم {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج في تزوج الربيبة في حالة طلاق الزوجة، أو موتها قبل الدخول بها؛ والدخول: كناية عن الجماع {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ}
[ص:96] جمع حليلة؛ وهي الزوجة {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ} لما في الجمع بينهما من مضارة لهما؛ وإبدال ما بينهما من ود بالغ، إلى حقد شنيع ويحرم أيضاً الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، أو ابنة أخيها، أو ابنة أختها؛ لقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وعلى ابنة أخيها ولا على ابنة أختها»(1/95)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{وَالْمُحْصَنَاتُ} المتزوجات {مِّنَ النِّسَآءِ} أي وحرمت عليكم النساء المتزوجات؛ ويتناول التحريم: أن يتعرض لها بوعد، أو أن يعرض نفسه عليها {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} فهن غير محرمات. وهن اللائي سبين في الحرب، ولهن أزواج من الكفار المحاربين؛ فقد أصبحت - بالكفر والسبي - من ملك اليمين؛ حلالاً لمن أخذها؛ بشرط أن يستبرئها؛ وإذا باعها فقد طلقت منه بالبيع. وقيل: «المحصنات» العفائف {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} بالعقد. وقيل: هن نساء أهل الكتاب: لا تحل إلا إذا ملكت بالسبي وقت الحرب {كِتَابَ اللَّهِ} أي كتب الله تعالى تحريم ما حرم، وتحليل ما حلل من ذلك {عَلَيْكُمْ} فلا تحلوا ما حرم، أو تحرموا ما أحل {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ} الحلال {بِأَمْوَالِكُمْ} للمهر أو للثمن {مُّحْصِنِينَ} متزوجين. والإحصان: العفة، وتحصين النفس من الوقوع في الحرام {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غير زانين. والمسافحة: الزنا {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} بالزواج {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا إثم، ولا حرج {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي في إنقاص جزء من المهر المفروض؛ بشرط التراضي الكامل؛ الذي لا عسف فيه ولا إكراه غناء وسعة(1/96)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر العفيفات إمائكم {الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} أي ليتزوج أحدكم أمة أخيه أو صديقه - ما دامت قد أظهرت إيمانها - والله أعلم بسرائركم {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أي إنكم جميعاً بنو آدم؛ قد خلقتم من نفس واحدة؛ فلا داعي أن تستنكفوا من زواج الإماء المؤمنات؛ حيث إنكم في ضيق لا يمكنكم من زواج الحرائر؛ أليس الزواج بالأمة خير من الوقوع في الزنا؟ {فَانكِحُوهُنَّ} تزوجوا الإماء
{بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مواليهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ} على ما تراضيتم به؛ من غير مطل {مُحْصَنَاتٍ} عفيفات {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} زانيات {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} جمع خدن: وهو الخليل {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} زوجن {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي زنين {فَعَلَيْهِنَّ} أي على الإماء من الحد {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر {ذلِكَ} الذي أبحته لكم من زواج الإماء {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} الزنا. وأصل العنت: الضيق والضرر والمشقة
[ص:97] {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن المعاصي، وعلى الطاعات {خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ} لما فرط منكم؛ إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبينه {رَّحِيمٌ} بكم؛ لا ينهاكم إلا عما فيه الضرر المحيق بكم، ولا يأمركم إلا بما فيه المصلحة الدنيوية والأخروية لكم(1/96)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الشرائع السليمة {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} طرق من سبقكم من رسل الله تعالى وأنبيائه، وعباده المؤمنين الصالحين(1/97)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يغفر ذنوبكم، ويعفو عما سلف من آثامكم {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} من شياطين الإنس؛ الذين نسوا مولاهم، وجعلوا إلههم هواهم {أَن تَمِيلُواْ} عن الإيمان والحق(1/97)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} بما يسره وأباحه لكم؛ من زواج الأمة - عند تعذر زواج الحرة - وبما رخصه لكم {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} لا يستطيع الصبر عن النساء(1/97)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بما لم يبحه الشرع؛ كالغصب، والقمار، والربا، والسرقة، وما شاكل ذلك
{إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} تديرونها بينكم {عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} على أن يكون التراضي غير مشوب بإكراه؛ كمن يرى تاجراً في ضيق فينتهز فرصة ضيقه وإفلاسه، ويساومه في بضاعته، بدون ثمنها المعلوم، أو بأقل مما يشتري به مثلها؛ فيقبل البائع مضطراً؛ لحاجته. ويقول المشتري في نفسه: أليس البيع عن تراض؟ أليس من حقي أن أشتري بالثمن الذي أرتضيه؟ ويستحل بذلك ما حرم الله تعالى فليس هذا بالتراضي المطلوب الذي أراده الله تعالى؛ بل هو بالغصب أشبه. وإنما التراضي: أن تكون نفس البائع راضية؛ ونفسه لن تكون راضية وهو خاسر في بيع سلعته؛ أكرهته الظروف على هذا البيع، واضطرته مطامع المشتري إليه فليتق الله من يرغب في جنته، وليتجنب الشبهات في ماله وعرضه ودينه {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضاً، أو لا تفعلوا ما يوجب قتلها. أو هو على ظاهره بمعنى الانتحار(1/97)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} بأن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يشتري بغير تراض، أو يقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها {عُدْوَاناً} منه على الغير {وَظُلْماً} لهم {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} ندخله {نَاراً} جهنم وبئس المصير(1/97)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الكبائر: لا تعد، ولا تحد؛ وأكبرها: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، وشرب الخمر، وقول الزور، والفرار يوم الزحف. وقد قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار أي إن الصغائر إذا لازمها المذنب وأصر على إتيانها: فهي كبائر، والكبائر إذا ندم على ارتكابها، واستغفر ربه منها؛ قبله الله تعالى وغفرها له {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}
[ص:98] المراد بالسيئات: الصغائر(1/97)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ألزموا الطاعة، وتمسكوا بأهداب القناعة؛ ولا تطمحوا بأعينكم إلى ما خص الله تعالى به غيركم؛ فهو جل شأنه مالك الملك؛ يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء؛ بيده الخير كله وهو حث على عدم الحقد والحسد. وقيل: نزلت حين تمنت النساء مثل أجر الرجال {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} فإن آلاءه لا تعد، وفواضله لا تنفد؛ وهو وحده القادر على تحقيق أمانيكم، وبلوغ آمالكم(1/98)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وهم الأقرباء الذين ليست لهم فرائض مسماة؛ فيأخذون ما بقي - من الميراث - من أصحاب الفرائض(1/98)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} أي قائمون عليهن بالأمر والنهي والتوجيه، والزجر والتأديب، والإنفاق والرعاية؛ كما يقوم الولاة على الرعية.
وذلك لأن القوامة أحوج إلى الحزم والتدبير؛ منها إلى الحنان والوجدان فصفات الرياسة والقوامة متوافرة في الرجل توافراً كاملاً؛ لأنه خلق ليكون قائداً ورائداً؛ كما أن صفات الرقة والحنان، والرحمة والوجدان؛ متوافرة في المرأة؛ لأنها خلقت لتكون زوجاً وأماً {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي هذه القوامة بسبب تفضيل الله تعالى للرجال على النساء؛ لوفور علمهم، ومزيد قوتهم، واضطلاعهم بالأعباء الجسام {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لأن النفقة واجبة عليهم. وهذا هو سبب قوامة الرجل على المرأة، فإذا انعدمت هذه الأسباب؛ وكان الرجل خاملاً، ضعيفاً، جاهلاً، معدماً؛ فأي قوامة له على المرأة النابهة، القوية، العالمة، الغنية؟ {فَالصَّالِحَاتُ} من النساء {قَانِتَاتٌ} مطيعاتلله تعالى ولأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي حافظات لعرضه وماله - حال غيبته - بما أمر الله به أن يحفظ. أو حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه، ويجمل ستره. قال: «إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه؛ ثم ينشر أحدهما سر صاحبه» ولا يخفى ما يأتيه الآن سفهاء القوم؛ حين يصبح أحدهم فيقول: صنعت في ليلة أمس كيت وكيت، وتصبح زوجته أيضاً فتقول لجارتها: لقد صنع بي أمس كيت وكيت. فيتضاحكن لتلك السفاهة الشنيعة، والبذاءة الممقوتة {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} عصيانهن {فَعِظُوهُنَّ} أي مروهن بالطاعة {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} بأن لا تناموا معهن في فراش واحد. أو كناية عن عدم إتيانهن {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضرباً يسيراً غير مبرح؛ ولكنه يبلغ حد الإيلام، وإلا انتفت به حكمة التأديب. انظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف نؤدب نساءنا؟ وكيف نتدرج بهذا التأديب؛ فمن نصح يبلغ
[ص:99] حد اللطف، إلى هجر لا يبلغ حد العنف، إلى ضرب بعيد عن القسوة؛ فإذا نفع الوعظ: حرم الهجر. وإذا تم التأديب بالهجر: حرم الضرب {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي إن أطعنكم بالوعظ؛ فلا تبغوا عليهن بالهجر، وإن أطعنكم بالهجر؛ فلا تبغوا عليهن بالضرب(1/98)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي إن استحكم هذا الشقاق، وخشيتم عواقبه؛ ولم تتأدب بما أدبها الله تعالى به، أو تجاوز الزوج حدود الله في تأديبها {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} ليبحثا ما بين الزوجين من خلاف {إِن يُرِيدَآ} الحكمان {إِصْلاَحاً} بين الزوجين {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} أي بين الحكمين؛ فيزيلا ما بين الزوجين. أو «يوفق الله بينهما» أي بين الزوجين {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بما فعله الحكمان {خَبِيراً} بمكنون صدورهما {} حق عبادته(1/99)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قرن تعالى عبادته بالإحسان بالوالدين في غير موضع من كتابه الكريم؛ لما لهما على الابن من فضل يعجزه وفاؤه {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} القريب منك {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} البعيد عنك. أو المراد بها قرابة النسب؛ وعلى كلا المعنيين فقد أوصى الله تعالى بذي القربى - جاراً كان أو غير جار - وقد أوصى جبريل الأمين الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما بالجار حتى ظن النبي أنه سيورثه؛ ومن وصيته عليه الصلاة والسلام بالجار: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» {وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} وهو الذي رافقك في سفر، أو تعلم علم، أو جاورك في الصلاة. وقيل: هي امرأة الرجل تكون إلى جنبه {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر المنقطع {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} متكبراً {فَخُوراً} على الناس بجاهه وماله(1/99)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}
من مال كثير، ورزق وفير؛ فلا يعطون منه الفقير؛ فحسبهم جهنم وبئس المصير {وَأَعْتَدْنَا} هيأنا وأعددنا {لِلْكَافِرِينَ} الذين يبخلون بما آتاهم الله {عَذَاباً مُّهِيناً} هذا شأن الذين يبخلون؛ أما الذين يتظاهرون بالكرم والجود - رياء ونفاقاً - فهم أسوأ حالاً ومآلاً ممن يبخلون وقد وصفهم الله تعالى بقوله:(1/99)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ} أي مراءاة لهم {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} لأنهم لو آمنوا بربهم؛ لعملوا له لا لمخلوقاته
[ص:100] فهم في العطاء أسوأ من البخلاء؛ لأنهم قرناء الشيطان {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً} أي مصاحباً؛ يأمر فيطاع: يأمره بكل شر، وينهاه عن كل خير(1/99)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ} وزن. من الثقل {ذَرَّةٍ} وهي أصغر من النمل أو هو ما يذره الهواء من صغار المخلوقات؛ التي خلقها بارىء الأرض والسموات {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ينمها ويزدها(1/100)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} يوم القيامة {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} هو رسولها يشهد بما لها أو عليها {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {عَلَى هَؤُلاءِ} أي على قومك {شَهِيداً} بما عملوا من عناد وفساد(1/100)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} أي لو يدفنون وتسوى بهم الأرض كما يفعل بالموتى {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} أي ولا يستطيعون أن يكتموا الله تعالى ما فعلوا؛ وكيف يكتمونه وأعضاءهم وجوارحهم تشهد عليهم(1/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} قيل: نزلت هذه الآية في بدء تحريم الخمر؛ حين قرأ أحدهم في صلاته «قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون» فنهوا عن الصلاة وهم سكارى {وَلاَ جُنُباً} أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي إلا مسافرين؛ فقد أبيحت لكم الصلاة بغير وضوء - عن فقدان الماء - ويجزىء حينذاك التيمم {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} جامعتموهن {فَتَيَمَّمُواْ} اقصدوا {صَعِيداً} هو وجه الأرض؛ تراباً كان أو حجراً أو غيرهما {طَيِّباً} طاهراً {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً} كثير العفو {غَفُوراً} للمذنبين:
سبحان من نهفو ويعفو دائماً
ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطى؛ ولا يمنعه
جلاله من العطا لذي الخطا(1/100)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} هم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} يختارونها {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أي يريدون أن تكونوا مثلهم في الضلال، وتخطئوا طريق الحق(1/100)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} من اليهود قوم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يبدلون الكلام عن معناه. قال بعضهم: أريد بالكلم التوراة. وقد أخفوا فيها ذكر محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخفوا منها آية الرجم {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} المعنى: إنهم سمعوا قوله؛ فتلقوه بالعصيان. وقد عبر تعالى عن ذلك بالقول - مع أنهم لم يقولوه - كما جاء في قوله تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} هو دعاء بمعنى: اسمع لا سمعت {وَرَاعِنَا} هي كلمة سب بالعبرية أو السريانية {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي يلوون ألسنتهم بقوله {غَيْرَ مُسْمَعٍ} وقوله {رَاعِنَا} التي هي في الحقيقة سب ودعاء، ويقولونها في قالب
[ص:101] آخر، كقولهم: السام عليكم مكان «السلام عليكم» والسام: الموت(1/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} من القرآن، على رسولنا محمد {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة والإنجيل {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} نغيرها بالمسخ {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} نطردهم من رحمتنا أو نمسخهم قردة {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ} اليهود الذين خالفوا بالصيد يوم السبت؛ وقد نهوا عنه {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}(1/101)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}
يمدحونها ويصفونها بالطاعة والتقوى؛ وهو إثم. وأريد بهم اليهود؛ حيث قالوا {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وليست تزكية النفس بالقول {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يأجره ويجزيه {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} هو كناية عن القلة. والفتيل: الذي يفتل بين الأصابع؛ لتفاهته وقلته(1/101)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} اليهود {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} الصنم، أو الكاهن، أو الساحر {وَالطَّاغُوتِ} كل رأس في الضلال. وقيل: الجبت والطاغوت: صنمان كانوا يعبدونهما في الجاهلية {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ} أي هؤلاء الناس الذين وصفهم كتاب محمد بالكفر {أَهْدَى} سبيلاً {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد(1/101)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته(1/101)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{أَمْ لَهُمْ} أي أم لهؤلاء اليهود {نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} من ملك الله؛ يعطون من أرادوا ويمنعون من شاءوا {فَإِذَآ} إذا كان لهم نصيب من الملك {لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} النقير: النقرة في ظهر النواة؛ وهو مثل في القلة: ضربه الله تعالى لهم؛ إشارة لشدة بخلهم. وهذا كقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ}(1/101)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{أَمْ} بل {يَحْسُدُونَ النَّاسَ} المسلمين {عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهو بعث الرسول محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيهم، وإنزال القرآن الكريم إليهم {فَقَدْ آتَيْنَآ} من قبل محمد {آلَ إِبْرَاهِيمَ} إبراهيم وأبناءه عليهم السلام {الْكِتَابَ} الكتب التي أنزلت إليهم: كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود {وَالْحِكْمَةَ}
النبوة والعلم النافع {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} كملك سليمان - وهو من آل إبراهيم: وقيل: المراد بالملك: النبوة، والجاه، وكثرة الأتباع، والانتصار على الكفار. وذهب أكثر المفسرين - سامحهم الله - إلى أن المقصود بـ {النَّاسُ} في الآية: محمد، وبالفضل الذي آتاهالله: ما أباحه له من النسوة؛ ينكح منهن ما شاء بغير عد ولا حد. وقد وثقوا هذا التأويل الفاسد بعنعنة دونوها، وأسماء طنانة أوردوها، وألفاظ نمقوها، وهو قول فاسد يأثم قائله وراويه وناقله، ومعتقده فلا حول ولا قوة إلا ب الله(1/101)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{فَمِنْهُمْ} أي من الذين أوتوا الكتاب من يهود
[ص:102] بني إسرائيل {مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام. أو {مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي بالكتاب - أي كتاب منزل - وليس فيه. ما يؤمنون به من الجبت والطاغوت بل فيه نعت محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أعرض ومنع الناس عن الإيمان به(1/101)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} ندخلهم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي أحرقت {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وذلك لأن أشد العذاب والإيلام يكون عن طريق سطح الجلد؛ فإذا ما احترق الجلد: فتر الألم، وقل العذاب. أما وقد قضى ربك بتعذيبهم، والتشديد عليهم، وعدم النظر إليهم، وطردهم من رحمته وحرمانهم من عطفه لذا فإنه تعالى قدر أن تبدل جلودهم كلما نضجت {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} الذي كفروا به، وكذبوا بحدوثه(1/102)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله، وبعثه وجنته وناره {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي أمرهم الله تعالى بها وحضهم عليها؛ وماتوا على ذلك {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} مما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس والأنجاس {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي دائماً لا تنسخه شمس(1/102)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هي في ولاة الأمور؛ وتأدية الأمانة إلى أهلها: أن تضع ثقتك في محلها؛ فلا يحكمك إلا من هو أهل للحكم، ولا يليك إلا من هو أهل للولاية؛ فلا تلعب بك الأهواء، فتجعل ثقتك في غير موضعها؛ وتخون الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقك. والأمانات: كل ما ائتمنت عليه من مال، أو عهد، أو عقد، أو سر، أو شبه ذلك
{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم الشيء الذي يعظكم به؛ وهو تأدية الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل(1/102)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{أَطِيعُواْ اللَّهَ} أي أوامره ونواهيه الواردة في القرآن {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أي ما جاء عنه من القول السديد، والفعل الحميد {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} في هذه الآية دليل على أن أولي الأمر الواجبة طاعتهم على الأمة: يجب أن يكونوا منها - حساً ومعنى، ولحماً ودماً - {وَأُوْلِي الأَمْرِ} هم الولاة والسلاطين؛ ما داموا قائمين بأمر الله تعالى؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي إذا اختلفتم فيما بينكم وبين أنفسكم في أمر من الأمور أو إذا تنازعتم أنتم وأولوا الأمر {فَرُدُّوهُ} ارجعوا في حكم هذا النزاع {إِلَى اللَّهِ} إلى ما جاء في كتابه المستبين {وَالرَّسُولِ} وإلى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه حال حياته، وإلى سنته وهديه من بعده {ذلِكَ} الرجوع إلى الله ورسوله فيما شجر بينكم من خلاف {خَيْرٍ} من رد النزاع إلى النهور والتعصب الأعمى {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} مآلاً وعاقبة(1/102)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن؛ وهم بعض من آمن من اليهود {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من التوراة
[ص:103] والإنجيل. أو المراد بـ: {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ}: بعض المؤمنين أو المنافقين {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} بعض اليهود {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} وهو كل رأس في الضلال؛ من ساحر وكاهن ونحوهما {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أي أمروا بالتحاكم إلى الله ورسوله. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}(1/102)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} نحتكم {إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} في كتابه {وَإِلَى الرَّسُولِ} ليحكم في تنازعنا {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} يمنعون الناس من الاتصال بك، والإيمان بما أنزل عليك، والاحتكام إليك(1/103)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} نزلت بهم نازلة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما قدموه من كفران وعصيان {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ} ما أردنا في الاحتكام إلى غيرك {إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} بين الناس(1/103)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} ازجرهم في السر {قَوْلاً بَلِيغاً} زجراً عنيفاً؛ ليتعظوا ويؤمنوا، ويرجعوا عن نفاقهم. أو {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي فيما ارتكبته أنفسهم من آثام(1/103)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب الآثام، وتعريضها للعقاب {جَآءُوكَ} تائبين {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} مما فرط منهم {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} هو على طريقة الالتفات؛ أي واستغفرت لهم مستشفعاً {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً} أي قابلاً لتوبتهم واستغفارهم؛ كيف لا. وقد تابوا وأنابوا، واستشفع لهم شفيع الأمة ومنقذها صلوات الله تعالى وسلامه عليه(1/103)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{فَلاَ وَرَبِّكَ} أقسم تعالى بخاتم رسله وأنبيائه {لاَ يُؤْمِنُونَ} إيماناً حقيقياً {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلط عليهم، واختلفوا فيه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} أي المتحاكمون {فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} به بينهم {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} بظواهرهم وبواطنهم، بألسنتهم وقلوبهم(1/103)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فرضنا وقضينا {أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} أي عرضوها للقتل بالجهاد {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ} مهاجرين إلى الله {مَّا فَعَلُوهُ} لأن قلوبهم لم تطمئن بعد للجزاء الذي وعدتهم به {إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ممن أنار الله بصيرته، وأنقى سريرته {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من الإقدام والاستبسال {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأنهم سيفوزون بالنصر والغنيمة، أو بالأجر والشهادة {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لقلوبهم، وتحقيقاً لإيمانهم(1/103)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} طريقاً واضحاً قويماً(1/104)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الصديق: المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة ويطلق على خواص صحابة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام(1/104)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} من الأعداء {فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ} أي فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة: سرية بعد سرية؛ و «الثبات»: الجماعات؛ واحدها ثبة {أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً} مجتمعين؛ حسبما تقتضيه ظروف ملاقاة العدو، وأسباب الحرب وفنونه؛ من كر وفر، وإقدام وإحجام، وتظاهر بالكثرة الغالبة، أو بالقلة الضاربة(1/104)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} ليتثاقلن ويتخلفن عن الجهاد؛ ويثبطن همم المجاهدين {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} انتابتكم هزيمة {قَالَ} المنافق، الجبان، المتثاقل، المتخلف، المثبط {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} بالسلامة والنجاة {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} مشاهداً للقتال، وحاضراً فيه(1/104)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} نصر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ} متندماً على ما فاته من نصر وكسب {يلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} بما فازوا به(1/104)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
{فَلْيُقَاتِلْ} أمر صريح بالجهاد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ} يبيعون {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي يستبدلونها بها(1/104)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي وما لكم لا تقاتلون في سبيلالله، وفي سبيل خلاص المستضعفين؛ الذين أسرهم الكفار، أو المراد بالمستضعفين: النساء. أي في سبيل حماية نسائكم من الاعتداء، وأعراضكم من الضياع.
[ص:105] {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} هي مكة؛ إذ أنها كانت موطن الكفر، ولذا هاجر منها الرسول(1/104)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سبيل إعلاء كلمته، ونصرة دينه {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الطغيان، أو هو كل رأس في الضلال. {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} أنصاره {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} لأن كيده معلوم لأرباب القلوب، ويمكن لكل ذي لب أن يتحاشاه(1/105)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{أَلَمْ تَرَ} يا محمد {إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} عن القتال؛ قبل فرض الجهاد فرض {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أي يخشون لقاء الأعداء في الحرب؛ لجبنهم {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} وعذابه {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} منالله؛ وأمثال هؤلاء لا نقول بنفاقهم أو ضعف إيمانهم؛ بل هو الكفر بعينه (انظر آية 18 من سورة التوبة) {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} متاع الدنيا قليل زائل، ومتاع الآخرة كثير دائم؛ والكثير إذا كان مشرفاً على الزوال: فهو قليل؛ فكيف بالقليل الزائل؟ {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} هو مثل للقلة؛ وهو ما يفتله الإنسان بأصبعيه؛ ولقلته وحقارته(1/105)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{وَإِن تُصِبْهُمْ} أي اليهود، أو المنافقين {حَسَنَةٍ} خصب وسعة، وسلامة وأمن {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} جدب وفقر، ومرض وخوف {يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} أي بشؤمك علينا {قُلْ كُلٌّ} من الخصب والرخاء، والجدب والبلاء
[ص:106] {مِنْ عِندِ اللَّهِ} يمتحن بها من يشاء؛ ليعلم علم ظهور: أيشكرون على السراء أم يفجرون؟ ويصبرون على الضراء أم يكفرون؟(1/105)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
{مَّآ أَصَابَكَ} أيها الإنسان {مِنْ حَسَنَةٍ} نعمة وإحسان {فَمَنَّ اللَّهُ} بفضله ومنته {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} بلية ومصيبة {فَمِن نَّفْسِكَ} بذنب ارتكبته، وتقصير أتيته.
وقد ذهب بعض الجهال إلى أن المراد بالحسنة: الطاعة. وبالسيئة: المعصية؛ وبنوا على ذلك قصوراً من الآمال، على كثبان من الرمال ونسقوا على ذلك البطلان قول الحكم العدل اللطيف الخبير {قُلْ كُلٌّ} من الطاعة والمعصية {مِنْ عِندِ اللَّهِ} وهو قول هراء ينسب ظلم العالمين، لأحكم الحاكمين؛ وهو القائل في كتابه المبين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} {وَمَن تَوَلَّى} أعرض عن الإيمان(1/106)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أي أمرنا طاعة لك {فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} بيت الأمر: دبره ليلاً؛ وهي في الغالب تستعمل في الشر للمبيت له {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تعبأ بهم، فإن الله حافظك منهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} والتوكل على الله تعالى: هو الوثوق به عند الملمات، والاعتماد عليه في سائر الحالات وهي مرتبة سامية قلَّ أن يرتفع إليها إنسان؛ إلا من هدىالله، وقليل ما هم فقد اعتاد الغالبية العظمى أن يعتمدوا على المال - وهو عرض زائل - أو على بعض المخلوقين - وهو جسم فان - فالذي تعود الاتكال على ماله، أو على صديقه: يأتيه زمن تضيق به دنياه بل تضيق به نفسه؛ فلا يجد من ماله نفعاً، ولا من أصدقائه متنفساً، ولا يجد من دون الله ولياً يلي أمره، ولا نصيراً ينصره في نكبته، أو يعينه في محنته
أما إذا كان العبد متوكلاً على الله حق توكله؛ فهو تعالى كافيه من كل شر، وحافظه من كل سوء
وأين المال والصديق عند زلزلة العقائد، وعند الأزمات الحالكة، والأوقات العصيبة؟ أين المال والصديق ساعة الموت، وعند طلوع الروح، وفي ظلمة القبر ووحشته؟ بل أين المال والصديق عند الحساب؟ وعندما تتفتح أبواب النيران؛ ويقال لها {هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟ عند ذاك لا ينفع مال ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم وعرفه حق معرفته، وتوكل عليه حق توكله قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً» ولا شك أن فتنة المحيا والممات، ونسيان القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لا شك أن كل هذه البلايا
[ص:107] العظام، وهاتيك المصائب الجسام؛ لا سبب لها سوى ترك التوكل، والاعتماد على غير الله تعالى؛ فعود نفسك أيها المؤمن الركون إلى ربك لترشد، والتوكل عليه لتسعد؛ ولتلقى في دنياك غبطة وسروراً، وفي آخرتك جنة وحريراً
هذا وليس معنى التوكل على الله تعالى: غلق الأبواب، وترك الأسباب؛ فقد حث تعالى على السعي والعمل، وابتغاء الرزق. ألا ترى إلى قوله تعالى لمريم: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ولو شاء لأسقط عليها الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً: فجعل سبب الرزق: السعي والدأب.
وليس معنى ذلك إنكار الكرامات والمعجزات؛ فقد يسخر الله تعالى السموات والأرضين، في خدمة بعض المخلوقين ولكن ليس هذا من طبيعة الأشياء، فهو تعالى يختص من شاء بما شاء(1/106)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي أفلا يتأملون في معانيه ومراميه ومبانيه؛ فيعلمون أنه الحق من ربهم(1/107)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{وَإِذَا جَآءَهُمْ} أي جاء المسلمين، أو المنافقين {أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ} خبر يؤدي إلى النصر {أَوْ} أمر من {الْخَوْفِ} خبر يؤدي إلى الهزيمة {أَذَاعُواْ بِهِ} أفشوه؛ وفي هذا ما فيه من إذاعة الأسرار المتعلقة بالحروب، والتي قد تؤدي إلى أوخم العواقب {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ردوا هذا الأمر {إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} من الرؤساء والولاة والقادة؛ لأنهم وحدهم الذين يعلمون أين توجد المصلحة. ويعلمون ما يجب إذاعته وما يجب كتمانه {لَعَلِمَهُ} أي لعلم ذلك الأمر الخطير - الذي يعتبر سراً حربياً - {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يستخرجون من الأمر ما يذاع وما لا يذاع {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بإرسال الرسل، وإبداء النصح والإرشاد، والتوفيق إلى السداد لولا {رَحْمَتِهِ} بإنزال القرآن {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} الذي يوردكم موارد الخسران؛ مثل هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسولالله - إذا أمرهم بأمر ـ: «طاعة. فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي تقول» والخطاب للذين قال لهم جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً}
والاستثناء بقوله تعالى {إِلاَّ قَلِيلاً} ينصب على المستنبطين من أولي الأمر؛ الذي عناهم العليم الحكيم بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1/107)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حثهم على القتال {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ} يمنع بهذا التحريض، وهذا الاستعداد {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قوتهم
[ص:108] وسطوتهم؛ فأنتم تدعون إلى الحق، وهم يدعون إلى الباطل؛ وأنتم تدعون إلى الجنة، وهم يدعون إلى النار، وأنتم يدفعكم الرحمن، وهم يدفعهم الشيطان و {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أشد تعذيباً. ونكل به: جعله عبرة لغيره(1/107)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} هي الشفاعة في دفع الشر، أو جلب الخير {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} هي السعي في جلب الشر، أو منع الخير، أو هو كناية عن النميمة {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ} نصيب {مِنْهَآ} أي من شرها في الدنيا، ومن إثمها في الآخرة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} مقتدراً(1/108)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} التحية: أي تكريم يكون بالقول، أو بالعمل. فالقول الحسن: تحية. والدعاء: تحية. والهدية: تحية. والحب: من أجلّ التحايا {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} قولاً أو فعلاً فالسلام: يرد بأحسن منه. والتكريم: بأكرم منه. والدعاء: بأبلغ منه. والهدية: بخير منها. والحب؛ وناهيك بالحب: فهو خير الهدايا والتحايا، والأقوال والأفعال {أَوْ رُدُّوهَآ} أي أجيبوا في القول بمثله، وفي الفعل بمثله. أو المراد {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أهل الإسلام {أَوْ رُدُّوهَآ} فلا تزيدوا عليها؛ لأهل الكتاب، والتحية في الأصل: تطوع، وردها بأحسن منها أو مثلها: فريضة.
هذا ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، ورواية الحديث، ومذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. ولا يسلم على لاعب الملاهي، ولا على المغني، ولا على القاعد لحاجته(1/108)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} من قبوركم {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للحساب {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في ذلك الجمع، أو لا شك في ذلك اليوم(1/108)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{فَمَا لَكُمْ} أي ما شأنكم أيها المؤمنون {فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فرقتين مختلفتين؛ فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا نقتلهم. و «المنافقين» هم الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ولأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} ردهم مخذولين مقهورين. والركس: رد الشيء مقلوباً {بِمَا كَسَبُواْ} بما عملوا {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} طريقاً إلى النجاة(1/108)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
{وَدُّواْ} أي ود هؤلاء المنافقون الجبناء {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} وتجبنون كما جبنوا {فَتَكُونُونَ سَوَآءً} مستوين في الجبن والكفر {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء، أو خلصاء {حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيثبت بذلك إيمانهم وإقدامهم، ووثوقهم بما عند الله {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان والجهاد في سبيل الله {فَخُذُوهُمْ} الأخذ: العقوبة، والإيقاع بالشخص {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}
[ص:109] بلا شفقة ولا رحمة {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً} صديقاً؛ وكيف تصادقونهم بعد ظهور كفرهم وعداوتهم للمؤمنين؟ {وَلاَ} تتخذوا منهم {نَصِيراً} تنصرونه، أو تستنصرون به(1/108)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} يحتمون ويلجأون {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}
عهد {أَوْ جَآءُوكُمْ} مسالمين {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت. والحصر: الضيق والانقباض {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} الذين أسلموا وانضموا إلى زمرتكم {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} الانقياد والاستسلام {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} طريقاً للقتال؛ لأنهم لم يقاتلوكم وجاءوكم مسالمين(1/109)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ} أي كلما دعوا إلى الشرك {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} قلبوا فيها {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} صادفتموهم {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} تسلطاً قوياً، وحجة ظاهرة في قتلهم. وبعد أن أباح الله تعالى قتل الكافرين المحاربين المخادعين: نهى عن قتل المؤمنين. قال تعالى:(1/109)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{وَمَا كَانَ} ما صح وما جاز {لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} أي بغير تعمد {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة؛ لأنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء؛ لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار؛ إذ أن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها. وللرق حدود وواجبات مفصلة في كتب الحديث والفقه. وللعبد الرقيق في الإسلام من الحقوق ما ليس للأحرار في الأمم الأخرى؛ وليس أدل على ذلك من قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} وقول الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه في مرضه الذي مات فيه «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم؛ لا تكلفوهم ما لا يطيقون» ومن يطلع على معاملة الزنوج بأمريكا يتضح له جلياً صحة ما نقول. وها هي الأمم الغربية تحرم استرقاق العبيد؛ في حين أنها تسترق الأحرار. وتحرم استرقاق الأفراد، وتسترق الجماعات والأمم والشعوب؛ باسم الاستعمار، والانتداب، والاحتلال، ومناطق النفوذ (انظر آيتي 177 من سورة البقرة، و7صلى الله عليه وسلّم من سورة النحل)
{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي إلا أن يتصدق أهل القتيل بالدية للقاتل؛ فلا يطالبونه بها {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يملك رقبة، ولا ما يتوصل به إليها من مال ونحوه {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مكان الإعتاق {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} تجاوزاً منه للتخفيف عليكم(1/109)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قاصداً قتله {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} لا جزاء له غيرها {خَالِداً فِيهَا} خلوداً مؤبداً؛ يدل عليه ما بعده من غضب الله تعالى عليه ولعنه، وإعداد أشق العذاب وأعظمه له وقول الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم» وقال الأكثرون: المراد بالخلود
[ص:110] في سائر الآيات: طول المكث. وهو معنى لا يستقيم مع صريح لفظ الكتاب الكريم؛ فقد أخبرنا الله تعالى - بما يبلغ حد اليقين - بأن خلود الكافرين على وجه التأبيد؛ قال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (انظر آية 255 من سورة البقرة)(1/109)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي سرتم في طريق الغزو {فَتَبَيَّنُواْ} تثبتوا ممن تريدون قتله، ولاتأخذوا بالشك بل باليقين. فلا تقتلوا سوى من تيقنتم عداوته وإيذاءه {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ} الاستسلام أو كلمة الشهادة، وقيل: التسليم {لَسْتَ مُؤْمِناً} أي تقولون له: أنت لست مؤمناً؛ بل تظاهرت بالإيمان لتنجو من القتل {تَبْتَغُونَ} بذلك {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متاعها الزائل الفاني؛ وهو لباسه وسلاحه وماله {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تغنمونها في الدنيا برزقه، وفي الآخرة بفضله {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} مثل هؤلاء الكفار الذين تقتلونهم الآن أو «كذلك كنتم» تخفون دينكم تحرزاً منهم، كما أخفوا دينهم تحرزاً منكم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالإيمان والنصر والظفر {فَتَبَيَّنُواْ} كما أمرتكم(1/110)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} عن الجهاد في سبيل الله تعالى {} المرض، والعاهة: من عمى، أو عرج، ونحوهما {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} من أُولي الضرر؛ فضلهم عليهم {دَرَجَةً وَكُلاًّ} من المجاهدين والقاعدين بسبب ضرر لحقهم {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الجزاء الحسن في الآخرة {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} عن الجهاد بغير ضرر يمنعهم، أو سبب يعوقهم(1/110)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} التوفي: قبض الروح. و «الملائكة» ملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه. والمعنى: إن الذين تتوفاهم الملائكة؛ وهم ظالمون لأنفسهم بالجبن والخور، وفقدان الأمل؛ وضعف العزيمة، وعدم الهجرة {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} أي قال الملائكة للمتوفين: في أي شيء كنتم؟ وهو سؤال تقريع وتوبيخ؛ حيث إنه كان في مقدورهم أن يقووا عزائمهم، ويهاجروا من أوطانهم، ويتخلصوا من ذلهم وجبنهم، ولا يحيوا حياة السوائم والدين الإسلامي القويم: لم يرض لمعتنقيه الضعف والذل؛ بل أراد لهم وبهم العزة والرفعة والكرامة؛ وألا يحل مسلم في أرض إلا إذا كان عزيزاً مكرماً مرهوب الجانب؛ وإلا فأرض الله واسعة وأبواب رزقه ورحمته مفتوحة وربما أريد بظالمي أنفسهم: المنافقين؛ الذين بخلوا وتركوا الهجرة بدينهم مع الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَالُواْ} جواباً على سؤال ملائكة الموت {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} أي عاجزين عن القيام بأعباء العبادة بين كفار مكة وصناديد قريش {فِي الأَرْضِ} أرض مكة {قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ
[ص:111] أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أي قال لهم الملائكة: أليست أرض الله - على سعتها ورحبها - تسعكم إذا هاجرتم فيها، وفررتم بدينكم؛ كما فعل من هاجر إلى المدينة، وإلى الحبشة؟(1/110)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} لكبر، أو مرض، أو فقر ونحو ذلك {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} للقتال، أو للهجرة(1/111)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً} مذهباً ومكاناً للهرب {وَاسِعَةً} في الرزق(1/111)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} قصر الصلاة: هو تصيير الرباعية ثنائية في السفر وقد قال بعض الفقهاء: إن صلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة واحدة. وقال آخرون: إن القصر في السفر حال الخوف فحسب، وأما في الأمن فلا قصر في السفر. ورووا عن النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه القصر حال الخوف والأمن في السفر؛ وعلى ذلك الأكثرون {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ} يعذبكم {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بأن يؤذوكم وقت الصلاة ويقتلوكم(1/111)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} وقت القتال، وحان وقت الصلاة {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} صلاة الخوف؛ فلينقسموا فرقتين {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} فليصلوا {مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ} أي لتأخذ الطائفة الأخرى التي لم تقم للصلاة {أَسْلِحَتَهُمْ} استعداداً لملاقاة العدو؛ إذا غدر بكم، منتهزاً فرصة انشغالكم بالصلاة. وقيل: الأمر بأخذ السلاح للمصلين؛ فيأخذون سيوفهم ورماحهم وخناجرهم؛ استعداداً للدفاع إذا دهمهم العدو وقت الصلاة {فَإِذَا سَجَدُواْ} وأتموا سجودهم؛ فلينتقلوا من مكانهم في الصلاة {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} للمحافظة على من يصلي بعدهم؛ وهي الطائفة الأخرى - التي لم تصل، وكانت قائمة بالحراسة - {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ} بعد؛ لأنهم كانوا قائمين بحراسة المصلين {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} كما صلى أفراد الطائفة الأخرى {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} أي لتأخذ الطائفة التي صلت حذرها وأسلحتها؛ لتقوم بحراسة الطائفة التي قامت للصلاة. وقيل: إن الطائفة التي تأخذ حذرها وأسلحتها: هي الطائفة المصلية {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} يأخذونكم خدعة على غرة؛ وهذا هو سبب الأمر بالحيطة والحذر واتخاذ الأهبة {وَلاَ جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى} لا تستطيعون الاستمرار في حمل السلاح؛ فلا حرج عليكم في {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} أمامكم، ولا تحملوها {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إجعلوا الأسلحة قريبة منكم وفي متناول أيديكم {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} في الآخرة {عَذَاباً مُّهِيناً} عظيماً مؤلماً(1/111)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ}
فلا تقطعوا صلتكم بربكم، ولا تظنوا أنكم قد أديتم ما عليكم {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} تذكروه
[ص:112] وراقبوه {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي في سائر حالاتكم؛ ليعينكم على عدوكم {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} وزال خوفكم من أعدائكم {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} كاملة {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} فرضاً واجباً؛ محدوداً بأوقات معلومة(1/111)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{وَلاَ تَهِنُواْ} لا تضعفوا ولا تتوانوا {فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ} في طلبهم {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} أي إن كنتم تتألمون من القتال، وتخافون من الهلاك؛ فإنهم يتألمون أيضاً منه كما تتألمون، ولكنكم ترجون من الله الشهادة والمنزلة الرفيعة، حيث لا يرجونهما هم(1/112)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {بِالْحَقِّ} بالصدق {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} في القرآن؛ من الأحكام والأوامر والنواهي {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي لا تكن مدافعاً عنهم، ومخاصماً من أجلهم(1/112)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي يخونونها؛ بارتكاب المعاصي. وعبر بلفظ الخيانة: لأنهم كانوا(1/112)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} أي لا يحاولون الاستخفاء منه بترك معاصيه؛ وكيف يستخفون منه {وَهُوَ مَعَهُمْ} يعلم سرهم ونجواهم {إِذْ يُبَيِّتُونَ} يضمرون في أنفسهم {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} عالماً به؛ لا يخفى عليه منه شيء؛ فيجازي على الخير والشر(1/112)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} يرتكب ذنباً يسيء إلى غيره {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} يرتكب ذنباً يسيء إلى نفسه، ويعرضها للعقاب يوم القيامة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} ويتب عن ذنوبه وآثامه {يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً} لذنوبه {رَّحِيماً} به؛ فلا يؤاخذه ولا يعاقبه(1/112)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} أي ومن يقترف إثماً متعمداً؛ فإنما يعود وبال ذلك على نفسه. وعبر تعالى بلفظ الكسب للدلالة على العمد(1/112)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} الخطيئة: الذنب الذي يحتمل الخطأ أو العمد. والإثم: المعصية التي لا تتأتى إلا عن عمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} بالخطيئة أو الإثم {بَرِيئاً} كمن يقتل، أو يسرق، أو يزني؛ ثم يلصق التهمة بغيره.(1/112)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} النبوة، والعلم النافع(1/113)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} مسارَّتهم {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} في نجواه {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} فهذا الآمر بالخير والمعروف؛ تباح له النجوى والمسارة {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} التناجي بالحث على الصدقات، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس {ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يقصد بها رضاءه تعالى، ولا يقصد رياء، ولا ثناء بين الناس(1/113)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{وَمَن يُشَاقِقِ} يخالف ويعادي {الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وصار في متناول عقل العاقل، وسمع السامع، وبصر المبصر {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} بألا يؤمن ب الله تعالى، ولا يصدق برسوله عليه الصلاة والسلام {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} نتركه وشأنه؛ فلا نوليه عنايتنا وحفظنا، بل نجعل وليه وحافظه وهاديه: من تولاه واتخذه إلهاً؛ من صنم، أو نجم، أو نار، أو مال {وَنُصْلِهِ} ندخله(1/113)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} استدل بهذه الآية القائلون بأن الله تعالى يغفر سائر الكبائر {لِمَن يَشَآءُ} وهو جل شأنه لم يشأ غفران الكبائر للمصر عليها، المجاهر بها، الذي لم يتب عنها(1/113)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إِن يَدْعُونَ} ما يعبدون {إِلاَّ إِنَاثاً} كان كل حي من العرب له صنم يسمونه: أنثى بني فلان؛ وكانوا يقولون عنهن: هن بنات الله {وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون {إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} متمرداً، خارجاً عن الطاعة(1/113)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{وَقَالَ} الشيطان لربه {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ} أي الذين خلقتهم لعبادتك {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} مقطوعاً به(1/113)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{وَلأُضِلَّنَّهُمْ} عن طريق الحق {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} بطول الأمل، وامتداد الأجل؛ وألا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
[ص:114] {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ} البتك: القطع {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} كخصاء العبيد والحيوان. أو هو تغيير دينه. الذي خلقه وارتضاه، وتحريم ما أحله، وتحليل ما حرمه؛ وما أشبه ذلك {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً} يتولاه ويطيعه(1/113)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} خداعاً وباطلاً. والغرور: أن يرى الشيء على خلاف حقيقته(1/114)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} محيداً ومهرباً
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} أي قولاً(1/114)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أي ليس الأمر كما تشتهون وتتمنون، ولا كما يشتهي أهل الكتاب ويتمنون؛ بل الذي يعمل سوءاً يجزى به، وينال عقابه {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلِيّاً} يلي أمره {وَلاَ نَصِيراً} يمنعه من عذاب الله تعالى(1/114)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} مبالغة في القلة؛ وهو النقرة في ظهر النواة(1/114)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أي لا أحد أحسن ديناً {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} انقاد لأوامره، وتجنب نواهيه {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وهي ملة الإسلام {حَنِيفاً} مائلاً عن كل دين يخالف الإسلام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} لأنه صافي القلب، خالص الحب(1/114)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} بعلمه وقدرته وبأسه وسطوته(1/115)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ} أي يسألونك عن شأن النساء، وما الذي يجب لهن وعليهن: في الزواج والمهر والطلاق والمعاملة، وغير ذلك {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وهو ما تقدم من آيات الفرائض في أول هذه السورة {فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} ما فرض لهن من الميراث {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} تتزوجوهن {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} الصغار الضعفاء {مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} في شأن اليتامى، أو في أي شأن من الشؤون {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجازيكم عليه أحسن الجزاء(1/115)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} أي جفاء وأذى {أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يقل من مؤانستها؛ بسبب دمامة، أو كبر سن، أو تطلع إلى أخرى لا إثم ولا حرج {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} بأن يتصالحا على أن تنزل له عن نصيبها في القسم، أو النفقة، أو بعضهما {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لهما {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} أي وأحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن في القسم والنفقة. و «الشح»: الإفراط في الحرص(1/115)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} العدل المقصود في هذه الآية: هو العدل في المحبة القلبية فحسب؛ وإلا لو قلنا بأنه العدل المطلق؛ لكان ذلك تناقضاً مع قوله جل شأنه {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وقد كان يقسم بين نسائه فيعدل؛ ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني بذلك المحبة القلبية؛ ويؤيده ما بعده من قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا تميلوا عن المرغوب عنها فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بأيم، ولا ذات بعل. ولا عبرة بما يدعو إليه من يتسمون بالمجددين: من وجوب التزوج بواحدة فقط؛ مستدلين بهذه الآية. وهو قول باطل ترده الشريعة السمحة، والسنة الغراء فليحذر غضب الله من {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب(1/115)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{وَإِن يَتَفَرَّقَا} هذان الزوجان المتباغضان {يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ} منهما {مِّن سَعَتِهِ} وفضله فيرزقه خيراً منها خلقاً وخلقاً، ويرزقها خيراً منه رقة ولطفاً، وحناناً وعطفاً {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً} أي واسع الفضل والرحمة والرزق {حَكِيماً} في صنعه.
[ص:116] {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي متاعها الزائل وحطامها الفاني؛ كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة والفخر؛ لا الثواب والأجر والذي يريد بصلاته وحجه: الرياء والسمعة، ولا يبتغي بعباداته وجه الله تعالى؛ فقد أخطأوا جميعاً وجه الصواب؛ وآبوا شر مآب {فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يعطي من كليهما من شاء فقد يعطي أحد الناس الدنيا فحسب ويحرمه من الآخرة والعياذ ب الله وقد يعطي أحدهم الآخر فحسب؛ ويحرمه من الدنيا؛ وهو عنه راض وقد يعطي أحدهم الدنيا والآخرة {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأفعالكم(1/115)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قائمين بالعدل في كل شيء {شُهَدَآءِ للَّهِ} أي تقيمون الشهادة لا تبتغون بها سوى وجه الله بدون تحيز أو محاباة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم، أو على آبائكم، أو أقاربكم؛ فلا تعوقكم القرابة، ولا المنفعة عن أداء الشهادة على وجهها الأكمل ولا يحل كتمانها؛ لأن فيه من ضياع الدماء والأموال والحقوق ما فيه (انظر آية 283 من سورة البقرة) {إِن يَكُنْ} المشهود ضده فلا يمتنع عن أداء الشهادة عليه لغناه، طلبا لرضاه؛ فرضا الله تعالى أحق أن يطلب {أَوْ فَقَيراً} فلا يمتنع عنها عطفاً عليه، ورحمة به {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي حكمه تعالى وقضاؤه أولى بأن ينزل عليهما {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أي فلا تتبعوا هواكم بأن تعدلوا عن الحق؛ فتضيعوا حقوق الخلق {وَإِن تَلْوُواْ} أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرفوها {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن أدائها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيجازيكم عليه. وقيل نزلت الآية في الحكام؛ لا في الشهداء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} بالرسل السابقين؛ وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى: فاليهود آمنت بالتوراة وبمن جاء بها؛ وكذبت بالإنجيل والقرآن وبمن جاء بهما. والنصارى آمنت بالإنجيل وألهت من جاء به، وكذبت بالفرقان ومن جاء به صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وعلى سائر أنبيائه وملائكته فنزل الخطاب لهؤلاء:(1/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} {آمَنُواْ بِاللَّهِ} تعالى {وَرَسُولِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} وهو القرآن الكريم.
[ص:117] {الَّذِي} اسم جنس؛ أي وآمنوا بالكتب {الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} كالتوراة والإنجيل {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أو يؤمن ب الله وحده ويكفر بأحد هؤلاء {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} أي جار عن محجة الطريق القويم، إلى مهاوي المهالك، وبُعد عن الهدى والاستقامة(1/116)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} عبر تعالى بلفظ «بشر» تهكماً بهم. والتبشير: يجيء أيضاً بمعنى الإخبار(1/117)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء ونصراء {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} أي أيطلبون العزة والرفعة في الدنيا بصحبة الكافرين وصداقتهم، واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين الذين هم إخوانهم {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} لا يملكها أحد سواه؛ يهبها لمن يشاء من أوليائه وأحبائه(1/117)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} القرآن {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} أي لا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين بآيات الله {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فإن قعدتم معهم مع كفرهم بآيات الله تعالى، وخوضهم في الحق الذي أنزله {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} في الكفر. يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن السامع شريك للقائل؛ ما لم يرده قسراً، أو يمنعه جبراً؛ فإن لم يستطع فليفارق مجلسه من فوره {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} الذين يظهرون غير ما يبطنون {وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} للعذاب(1/117)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ} ينتظرون {بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} نصر وغنيمة {مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ} أي قال المنافقون للمؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} بالمساعدة والرأي {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} من النصر عليكم {قَالُواْ} أي قال المنافقون للكافرين
[ص:118] {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين؛ بعد أن ثبطناهم حتى هابوكم وخافوكم وقويناكم عليهم {وَنَمْنَعْكُمْ} نحمكم وندفع عنكم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} حجة، أو طريقاً للنيل منهم(1/117)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} وحالهم كما وصفنا {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يظهرون خلاف ما يبطنون {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} لأنه تعالى يبطن لهم في الآخرة خلاف ما ظهر لهم في الدنيا فقد أعطاهم فيها ما يؤملونه من صحة ومال؛ وبيت لهم في الآخرة من العذاب ما تشيب لهوله الوالدان، ويجعلهم سكارى وما هم بسكارى {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} متثاقلين يذهب الإنسان للقاء صديقه؛ فينشط لمقابلته، ويسرع لرؤيته؛ ويقوم الإنسان لمناجاة ربه، والوقوف بين يدي حبه: الخافض الرافع، المعطي المانع؛ متباطئاً متثاقلاً؛ كأنما يساق إلى أصعب الأفعال، وأشق الأعمال وقد فاته أن هذا التكاسل والتثاقل من صفات الكافرين، وسمات المنافقين؛ وهم رغم تثاقلهم وتكاسلهم {يُرَآءُونَ النَّاسَ} بصلاتهم(1/118)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{مُّذَبْذَبِينَ} مترددين {بَيْنَ ذلِكَ} بين الإيمان والكفر؛ ولم يراعوا الميثاق الذي واثقهم به ربهم، وهم في عالم الغيب؛ وأضاعوا الأمانة التي ائتمنهم عليها، وأساءوا إلى آدميتهم، وأهدروا عقولهم، ونزلوا من مصاف الإنسانية إلى درك الحيوانية؛ وأصبحوا {لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين؛ والتردد: أسوأ ما يوصف به مخلوق وهو إن دل على شيء؛ فإنما يدل على انعدام الشخصية، وفساد العقل
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} إلى الخير، أو إلى الجنة، أو إلى الصواب وذلك لأنه أرخى لشهواته العنان، واستمرأ ما يمليه عليه الشيطان فاستوجب الخذلان والحرمان؛ وتخلى عن حفظه الرحمن؛ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}(1/118)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء ونصراء؛ بعد أن بيّنا لكم شأنهم وعداوتهم {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجة واضحة على نفاقكم، وموالاتكم للكفار؛ تؤدي إلى عذابكم(1/118)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} دركات النار: منازل أهلها فيها. والنار دركات، والجنة درجات(1/118)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} من النفاق ومن التثاقل في العبادات {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} استعانوا به، ووثقوا بوعده ووعيده {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} أي أخلصوا له تعالى في العبادة (انظر آية 17 من سورة البقرة).(1/118)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً} يجازيكم على إخلاصكم وشكركم {عَلِيماً} بحالكم؛ ظاهراً وباطناً(1/119)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي لا يحب الله الفحش في القول، والإيذاء باللسان؛ إلا المظلوم فإنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه، وأن يذكره بما فيه من السوء(1/119)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أي إن تظهروا ما تعملونه من أعمال الخير والبر {أَوْ تُخْفُوهْ} تعملوه سراً {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ} تتجاوزوا عمن أساء إليكم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً} عن ذنوبكم - يحب العفو - ويجزيكم براً ببر، وعفواً بعفو {قَدِيراً} على ذلك بعد أن أباح تعالى لمن ظلم أن ينال من ظالمه بالجهر بالدعاء عليه: حث على العفو، وأشار إلى أنه تعالى عفو مع قدرته؛ فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا لله ـ} جميعاً(1/119)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} كأن يقول المسلم: لا أومن بموسى ولا بعيسى، أو أن يقول اليهودي: لا أومن بعيسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصراني: لا أومن بموسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصارى: إن عيسى لم يكن رسولاً من عند الله كموسى ومحمد؛ بل هو ابنه أرسله ليحمل عن الناس أوزارهم وخطاياهم(1/119)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} اليهود {أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ} يرونه بأعينهم نازلاً عليهم؛ فلا تعجب من ذلك {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ} جحوداً وكفراً {فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} نراه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وهي نار تنزل من السماء {بِظُلْمِهِمْ} بسبب ظلمهم؛ وأي ظلم أقبح، وأي كفر أفدح؛ من طلبهم رؤية من {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} {ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} عبدوه {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وتضافرت لهم الآيات والمعجزات
[ص:120] {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجة ظاهرة(1/119)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} الجبل؛ تهديداً لهم حينما امتنعوا عن العمل بما في التوراة {بِمِيثَاقِهِمْ} أي بسبب أخذ العهد عليهم بالإيمان بموسى، والعمل بما في التوراة {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين رؤوسكم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} لا تعتدوا بالصيد {فِي} يوم وقد نهيتم عن ذلك {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عهداً قوياً وثيقاً؛ فنقضوه(1/120)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فبسبب نقضهم {مَّيثَاقَهُمْ} الذي واثقناهم به {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ} تكذيبهم بكتبه ورسله، وآياته في الآفاق والأنفس {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ} كيحيى وزكريا {وَقَوْلِهِمْ} لنبيهم، أو للرسول {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي ذات غلاف لا تعي ما تقوله أنت {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} غطى وختم {عَلَيْهَا} فلا تفهم الرشد، ولا تعي الإيمان(1/120)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم؛ وما كان الله ليطبع على قلب مؤمن {وَقَوْلِهِمْ} أي وبسبب قولهم {عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً} يقال: بهته: إذا قال عليه ما لم يفعل. وقد بهتوها عليها السلام: بأن نسبوا إليها الزنا؛ وقد اصطفاها ربها وفضلها على نساء العالمين(1/120)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{وَقَوْلِهِمْ} أي وبسبب قولهم أيضاً {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} توهموا قتله وصلبه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ألقى الله تعالى شبهه على أحد حوارييه، وقيل: على أحد أعدائه. وذلك بعد أن أخذوه عليه الصلاة والسلام وعذبوه عذاباً شديداً، وجروه على الشوك، ولاقى منهم عنتاً لا حد له؛ كشأن سائر أنبياء الله تعالى وأصفيائه وهم اليهود لعنهم الله، اختلفوا فيمن قتلوه {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} لأنهم افتقدوا واحداً من عدة من يعرفون مع عيسى أو واحداً منهم هم {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي ما قتلوه مستيقنين بأنه عيسى(1/120)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وهو الذي افتقدوه من عدتهم(1/120)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت الكتابي - حين تحضره ملائكة الموت - فلا ينفعه الإيمان، أو قبل موت عيسى عليه السلام؛ حين ينزل قبيل الساعة لقتل الدجال، والحكم بشريعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؛ كما جاء في الآثار والأحاديث الشريفة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} عيسى {عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي شاهداً على أهل الكتاب؛ بتكذيب من كذبه منهم، وتصديق من صدقه. ومن كذب بمحمد: فقد كذب بعيسى، لأن عيسى بشر بمحمد ووصفه لقومه(1/120)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي فبسبب ظلم الذين هادوا ضيقنا عليهم، وحرمنا عليهم الطيبات. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ
[ص:121] إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} {وَبِصَدِّهِمْ} أي وذلك التضييق والتحريم بسبب صدهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه(1/120)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} (انظر آية 275 من سورة البقرة) {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وهو ما يأخذونه من الرشا في الحكم {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا(1/121)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي من اليهود {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من التوراة والإنجيل
{وَالأَسْبَاطِ} حفدة يعقوب عليه السلام(1/121)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} الزبور: الكتاب ويجمع على زبر(1/121)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} إشارة إلى أنه تعالى أرسل للناس رسلاً في كل زمان ومكان غير من ذكرهم في القرآن {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} لا يوصف، ولا يعلم له كنه فلا ينبغي لأمثالنا أن نبحث عن كيفيته، أو نحاول الوقوف على حقيقته؛ فليس بالصوت الحادث، ولا بالأحرف المعلومة؛ فقد كلم الله موسى، وسمع موسى كلام ربه؛ ولكن كيف كان ذلك الكلام؟ وكيف كان ذلك السماع؟ فهذا مما لا ينبغي الخوض فيه والبحث وراءه؛ لأن الكلام قد حصل من قبيل الوجدان والشعور النفسي؛ كالإحساس باللذة والسرور - وهما من الأشياء التي يتذوقها الإنسان تذوقاً كاملاً - غير أنهما لا يمكن وصفهما بما توصف به المحسوسات؛ وإلا لو قلنا بخلاف ذلك لجاز لموسى - وقد سمع كلام الله تعالى - أن يصف ذلك المتكلم بالسرعة أو بالبطء، ولجاز له أيضاً أن يصف الصوت المسموع بالجهورة أو الخفوت، وما شاكل ذلك؛ وقد تعالى الله عن قول القائلين، ووصف الواصفين وهؤلاء الرسل الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم قد أرسلناهم إلى أقوامهم(1/121)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{مُّبَشِّرِينَ} من أطاع بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من عصى بالنار {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي إنه بعد إرسال الرسل تنقطع حجة الناس، وتسقط معذرتهم؛ ويقال للكافرين عند دخول النار: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ} هذا وقد وفينا هذا البحث في كتابنا «الفرقان»(1/121)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
{لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي لا يحزنك يا محمد حسد الحاسدين، وتكذيب المكذبين؛ فإن الله تعالى يشهد بأنك صفوته من عباده، وخيرته من خليقته، وأن ما أنزل إليك هو كلامه القديم الكريم لأنه تعالى {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وإرادته {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} بذلك أيضاً(1/122)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه(1/122)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أنفسهم بكفرهم {لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} يوصلهم إلى الإيمان والجنة(1/122)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} الذي سلكوه واختاروه لأنفسهم(1/122)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} بالقرآن(1/122)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{يأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي لا تتجاوزوا الحد؛ حيث قالت اليهود عن عيسى: إنه ابن زنا. وقالت النصارى: إنه ابن الله {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} بأن توحدوه، وتمجدوه وتنزهوه عن الولد والصاحبة والشريك {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} كسائر الرسل الذين أرسلهم لهداية عباده {وَكَلِمَتُهُ} التي {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} على لسان ملائكته عليهم السلام؟ في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} يعني برسالة منه، وبشارة من عنده {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي رحمة منه على من اتبعه، أو وقوة منه؛ لإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص، وإتيانه بالمعجزات الظاهرات. قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي بقوة منه، أو برحمة منه {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} وهو ما يزعمه النصارى من أن الإله ذو ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس {انتَهُواْ} إرجعوا عن ذلك القول.
[ص:123] {خَيْراً لَّكُمْ} إذ أن فيه نجاتكم {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا ولد له ولا والد {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تنزه عن أن يكون له ولد؛ كما زعمت النصارى أن عيسى ابنه؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً(1/122)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يأنف {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} فكيف تستنكفون أنتم عن عبادته تعالى {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} مثلكم {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي يجمع سائر الخلائق يوم القيامة للحساب: مؤمنهم وكافرهم(1/123)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} من شرائط الإيمان: العمل الصالح {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} ثواب أعمالهم {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} فوق ما يستحقونه {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ} أنفوا من الإيمان، ومن عبادة الرحمن {وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً} جزاء كفرهم واستكبارهم {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً} يدفع عنهم عذابه {وَلاَ نَصِيراً} يمنعهم منه(1/123)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يحمل برهان صدقه، وبرهان وجوده تعالى {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} هو القرآن الكريم؛ وأنعم به من نور لأنه يهدي إلى الحق، وينجي من الضلال(1/123)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} أي بالله، أو بالقرآن؛ والاعتصام: الامتناع والوقاية {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ} خير ونعمة {وَفَضَّلَ} كبير {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} يوفقهم إلى طاعته ومحبته {صِرَاطاً} طريقاً {مُّسْتَقِيماً} موصلاً إلى مرضاته(1/123)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{يَسْتَفْتُونَكَ} يسألونك يا محمد عن الكلالة {قُلِ} لهم {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} يجيب على سؤالكم {فِي الْكَلاَلَةِ} وهي {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ} مات؛ و {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} يرثه {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وما بقي فلعصبته. و «الكلالة»: من لا ولد له ولا والد.
[ص:124] {وَهُوَ يَرِثُهَآ} أي يرث أخته إن ماتت قبله؛ لا ولد لها ولا والد {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} نصيب {الأُنْثَيَيْنِ} (انظر آية 11 من هذه السورة) {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} الأحكام {أَن تَضِلُّواْ} أي لئلا تضلوا.(1/123)
سورة المائدة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم(1/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} هو أمر بالوفاء بكل عقد. والعقد: كل اتفاق يتم بين اثنين فأكثر؛ مكتوباً كان أو غير مكتوب: فالزواج عقد، والوفاء به: حسن العشرة، وترك المضارة. والبيع عقد، والوفاء به: عدم الغش، وحسن المعاملة. والوعد - أياً كان - عقد، والوفاء به: إنجازه. ويقاس على ذلك سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقاً والتزامات (انظر آية 72 من سورة الأنفال) {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم؛ أو هي الأنعام الوحشية؛ من الظباء والبقر والحمر ونظائرها {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} غير مستحلي صيد ما يصاد منها، وأنتم محرمون. وقيل المراد بالإحلال: أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطونها عند ذبحها(1/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} شعائر الله: حدوده التي حددها لعباده - من إحلال الحلال، وتحريم الحرام - والمراد بها هنا: معالم الحج؛ كالطواف، والسعي، والحلق، والنحر، ونحوه. وإحلالها: تعدي حدود الله تعالى فيها، ومخالفة أوامره {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي ولا تنتهكوا حرمات الشهر الحرام، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؛ وانتهاك حرماتها: القتل فيها {وَلاَ الْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى {وَلاَ الْقَلائِدَ} جمع قلادة؛ وهو ما قلد به الهدي. أي لا تنتهكوا حرمات الهدي؛ سواء كان مقلداً أو غير مقلد. وقيل: إنهم كانوا في الجاهلية يتقلدون من لحاء شجر الحرم؛ فيأمنون على أنفسهم حتى يلحقوا بأهلهم؛ فنهى الله عن التقلد بشيء من شجر الحرم
{وَلا آمِّينَ} ولا قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي لا تمنعوا قاصدي البيت عن الوصول إليه، ولا تقاتلوهم؛ لأنهم {يَبْتَغُونَ} بذلك {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ} انتهيتم من أداء مناسك الحج، وحل لكم ما حرم
[ص:125] عليكم - بسبب الإحرام - كالصيد والحلق ونحوهما {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شَنَآنُ} بغض {قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ} أي من أجل أنهم منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ} عليهم {وَتَعَاوَنُواْ} جميعاً {عَلَى الْبرِّ} بالناس {وَالتَّقْوَى} وتقوى الله تعالى وخشيته {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ} أي ولا تتعاونوا على ارتكاب الذنوب {وَالْعُدْوَانِ} على الناس(1/124)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما سمي عليه بغير اسمه تعالى {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي ماتت من الضرب؛ من وقذه: إذا ضربه حتى استرخى وأشرف على الهلاك {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي تردت - أي سقطت - من مكان عال {وَالنَّطِيحَةُ} التي ماتت من نطح أخرى لها {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} أي ما بقي من أكله، أو ما أمسكه ليأكله {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي يستثنى من التحريم: ما ذكيتموه؛ أي طهرتموه بالذبح قبل أن يموت من الضرب، أو السقوط، أو النطح، أو أكل السبع {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي على الأصنام والأوثان {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} الاستقسام: طلب ما قسم في الغيب؛ و «الأزلام» قداح كانوا يستعملونها لذلك {ذلِكُمْ} الذي ذكرته لكم وحرمته عليكم خروج عن أمر الله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكل شيء {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل لذنب؛ وإنما ألجأته الضرورة القصوى(1/125)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} من المطاعم {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} التي تذكونها بأيديكم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ} أي وأحل لكم أيضاً صيد ما علمتموه {مِّنَ الْجَوَارِحِ} وهي سباع البهائم والطير: كالكلب، والفهد، والعقاب، والصقر، والبازي، ونحوها.
[ص:126] {مُكَلِّبِينَ} المكلب: مؤدب الجوارح، ومعلم الكلاب {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي مما أمسكن لكم من الصيد، ولم يأكلوا منه؛ أما إذا أكلت الجوارح من الصيد؛ فلا يحل أكله؛ بل يترك لهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى؛ الذين يدينون بما نزل عليهم، ويسمون الله تعالى على ذبائحهم(1/125)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذبائحكم تماماً؛ ولا يطلق الحل إلا على الذبائح فحسب - لا على سائر الأطعمة - ألا ترون أنهم يطعمون الخنزير؛ وهو حرام عندنا وإثم كبير {وَالْمُحْصَنَاتُ} الحرائر العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} حل لكم زواجهن {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} حل لكم أيضاً {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {مُحْصِنِينَ} متزوجين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} زانين. والسفاح: الزنا {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الخدن: الصديق {حَبِطَ} بطل(1/126)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ} أي أحدث؛ وذلك أنهم كانوا يذهبون إلى الغائط لقضاء حاجتهم. والغائط: الأرض المستوية الواسعة؛ ومنه غيط، وغيطان: لما يحرث ويزرع {أَوْ لاَمَسْتُمُ} أي جامعتم
[ص:127] {فَتَيَمَّمُواْ} اقصدوا {صَعِيداً} الصعيد: وجه الأرض؛ من تراب وغيره {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} ضيق {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يطهر أجسامكم من الأحداث والخبائث، وأرواحكم من دنس الشك والمعاصي ويؤخذ من التيمم أن الله تعالى لم يرد من الغسل والوضوء: مجرد النظافة الظاهرية - وإلا لما أجزأ التيمم: الذي هو في حقيقته يتنافى مع مظهر النظافة - وإنما أريد بذلك التطهر الباطني، والتطهر الروحي؛ وبهما يكون العبد أهلاً لمناجاة ربه وللوقوف بين يديه، وبذلك أيضاً ينظر الله تعالى إليه برحمته ومغفرته، وإنعامه وإحسانه فعلى المغتسل والمتوضىء أن ينوي تطهير روحه، قبل تطهير جوارحه؛ وأن يقصد بغسل يديه: محو ما ارتكبتا من آثام وذنوب. وبغسل وجهه: إزالة خائنة عينيه، وإثم أذنيه. وبمسح رأسه: إزاحة هواجسه ووساوسه، وطرد ما يلقي الشيطان في فكره، مما يكون سبباً في وبال أمره. وبغسل رجليه: إزالة ما علق بهما من آثار خطإ خطا إليه، وجرم مشى فيه وما أراد الله تعالى بالغسل والوضوء والتيمم: سوى تطهير ذاتكم وصفاتكم، ونقاء سركم وسريرتكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالوفاء والصفاء(1/126)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإيمان {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} بأن تسمعوا وتطيعوا؛ فإذا وفيتم بذلك: وفى لكم ما ضمن لكم الوفاء به: من إتمام نعمته، ودخول جنته، والتمتع بدار كرامته وقيل: الميثاق: هو الذي أخذ عليهم - وهم في صلب آدم - حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} والأول أولى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بما تخفي القلوب(1/127)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} قائمين في سبيل مرضاته: تقصدون وجهه في سائر أعمالكم، وتبتغون فضله في جميع أموركم
{شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي يجب أن يكون العدل في الحكم، والصدق في الشهادة؛ في المكان الأول من تقديركم، وألا تحيدوا عن ذلك أبداً مهما كان المحكوم عليه أو المشهود له {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ} بغض قوم {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بينهم؛ لعداوتكم لهم، وكراهتكم إياهم {اعْدِلُواْ} بين الجميع - أعداء وأحباء، بعداء وأقرباء - فذلك أزكى لكم، وأطهر لنفوسكم، وهذا {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي أقرب لخشية الله تعالى، ومخافة عقابه وأهل التقوى: هم أهل الخوف من الله تعالى، والحذر من أن يخالفوه(1/127)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} هم يهود بني النضير. وقيل: قريش بالإيذاء والقتال {فَكَفَّ} منع} أن تصل إليكم بسوء {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {} لا على غيره (انظر آية 81 من سورة النساء).(1/127)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} على الإيمان والطاعة {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} النقيب: هو الذي ينقب عن أفعال القوم ويفتش عنها {وَقَالَ اللَّهُ} لبني إسرائيل على لسان رسله {إِنِّي مَعَكُمْ} بالتوفيق والمعونة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ} وداومتم عليها {وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} أعطيتموها لمن أمرت باعطائها لهم {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي} جميعاً {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عظمتموهم ووقرتموهم {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقات التي يردها لكم في الدنيا أضعافاً مضاعفة، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت لئن فعلتم ذلك {لأُكَفِّرَنَّ} لأمحون {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التي ارتكبتموها {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
{فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} الميثاق {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الصواب والحق(1/128)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم عهدهم اللعنة من الله تعالى: الطرد والمقت؛ نعوذ به تعالى من غضبه {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} جافية عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وذلك بتحريفهم التوراة، وكتابة ما يرغبون فيها، ومحو ما لا يرغبون، أو تحريفهم معانيها بما يتفق وأهواءهم {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} الحظ: النصيب. أي تركوا نصيباً مما ذكروا به فلم يفعلوه {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ} على خيانة {مِنهُمُ} ومن ذلك همهم ببسط أيديهم إليكم بالإيذاء والقتال {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} استكانوا ولم يبسطوا أيديهم {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي عن الذين هموا بكم {وَاصْفَحْ} عن ذنبهم هذا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} خصوصاً من أحسن لمن أساء. وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هذا هو حال اليهود(1/128)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أيضاً؛ كما أخذنا ميثاق اليهود {فَنَسُواْ حَظّاً} نصيباً {مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} كما نسيت اليهود «تشابهت قلوبهم» {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود والنصارى، أو بين اليهود أنفسهم، أو بين النصارى بعضهم مع بعض. وعلى كلا الوجهين: فقد شاعت العداوة بين اليهود وبعضهم، وبين النصارى وبعضهم، وبين اليهود والنصارى؛ فترى اليهود وقد انقسموا إلى فرقتين متنافرتين: قرّايين وربانيين؛ وكلاهما له دين خاص، وشريعة خاصة، ونظام يخالف نظام الآخر - في العبادات والمعاملات - لا يجتمعان إلا في أمر واحد: هو كراهة المسلمين والنصارى. وترى النصارى وقد انقسموا إلى فرق متعددة: كاثوليك، وأرثوذكس، وبروتستانت؛ كل منها له شريعة خاصة ونظام خاص؛ وتراهم دائبي الخلاف في كل صغيرة وكبيرة. أما عداوة اليهود للنصارى، والنصارى لليهود، فأمر لا يحتاج إلى
[ص:129] برهان أو دليل؛ قال تعالى:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} وترى الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - وقد تفنن بعضهم في إهلاك البعض - هلاكاً تشيب لهوله الولدان - فمن مخترع للقنبلة الذرية إلى مخترع للهيدروجينية، إلى مصمم لقنبلة الكوبالت؛ إلى ما لا نهاية له من صنوف الإيذاء والبلاء الذي لا يوصف؛ وبذلك حق عليهم الإغراء؛ فهم أبد الدهر في شحناء وبغضاء(1/128)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} خطاب لليهود والنصارى في عهد النبي {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} اسم جنس. أي ما كنتم تخفونه من كتابيكم «التوراة والإنجيل» وكان مما أخفوه وبيّنه النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: رجم الزانيين المحصنين {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} موضح؛ وهو القرآن الكريم. اللهم أمدنا بنوره، واجعله حجة لنا لا علينا(1/129)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} طريق مرضاته {سُبُلَ السَّلاَمِ} طرق الأمن والسلامة؛ و {السَّلاَمِ}: يشمل كل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ زاخرة بأنبل الصفات والسمات؛ فالسلام: هو السلامة والسلم، والود والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والخير والبر {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ} وهي جمع ظلمة؛ وهي تقع على كل ضلال وخبال، وسوء وشر، وعصيان وفسوق أرأيت كيف يتعثر الإنسان في الظلمات: فلا يرى ما يعترضه من عقبات، ولا ما يصادفه من مهاوي ومهالك؟ فيقع في موارد التهلكة وسوء العاقبة. والمراد بالظلمات أيضاً: الجهل والكفر (انظر آية 17 من سورة البقرة) فمن أحبه الله تعالى: هداه إلى سبل السلام، وأخرجه من الظلمات {إِلَى النُّورِ} والنور: كل عمل يتسم بالنبل والفضل، والهدي والرشاد أرأيت كيف يهتدي الإنسان في النور إلى سلامته وأمنه، ويتوقى مواطن الخطل والزلل؛ وبالتالي يقي نفسه غضب الرب، وسوء المنقلب والمراد بالنور: الإيمان. أي يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} طريق النجاة، طريق الفلاح، طريق الجنة كأنّ سائلاً سأل: ما هو القرآن؟ وما فائدته؟ وما جدوى نزوله؟ فقيل له: هو {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو تعريف عرّف به القرآن منزله تعالى؛ العالم بأسراره وأنواره، الواضع لمعالمه وأحكامه
وهذا التعريف بالقرآن؛ خير مما عرفه به الأصوليون؛ من أن القرآن: هو اللفظ العربي، المنزل
[ص:130] على محمد للتدبر والتذكر، المنقول متواتراً؛ وهو ما بين دفتي المصحف؛ المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس.
وهو تعريف - كما ترى - جاف، خال من الروح والروعة الواجبة. وخير التعاريف به: تعريف منزله ومبدعه؛ تعالى شأنه، وعز سلطانه(1/129)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي فمن يملك أن يدفع شيئاً أراده الله تعالى {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الذي تزعمون ألوهيته، أو بنوتهلله أن يهلك {أُمُّهُ} مريم التي ولدته؛ ذكرها تعالى ليعرفهم أن الله الواجب الوجود: لا يلد ولا يولد؛ فكيف تقولون عمن ولدته مريم: إنهالله، أو ابنالله؟(1/130)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى} تبجحاً منهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قالوا ذلك حين دعاهم النبي للإيمان، وحذرهم غضب الله تعالى وعقابه {قُلْ} لهم يا محمد: إذا كنتم صادقين في أنكم أبناء الله وأحباؤه {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} وذلك أنهم قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} {بَلْ أَنتُمْ} في الحقيقة {بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر البشر {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} بأن يوفقه للإيمان والطاعة {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} بأن يتخلى عن هدايته؛ لتمسكه بالكفر وعناده(1/130)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ} طرق الهداية {عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ} أي على فتور من إرسال الرسل، وانقطاع الوحي {أَن تَقُولُواْ} أي أرسلناه لئلا تقولوا {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ} محمد {بَشِيرٍ} لمن آمن منكم وأطاع بالجنة {نَذِيرٍ} لمن كفر وعصى بالنار(1/130)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً}
أي مالكين؛ بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} خلصهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا كفراً وعتواً وأنجاهم من البلوى، وأطعمهم المن والسلوى؛ فأبوا الطعام الأعلى، وطلبوا الطعام الأدنى وأنزل عليهم مائدة من السماء؛ فكفروا بما هنالك، وأوقعوا أنفسهم في المهالك؛ فأعد لهم ربهم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين(1/130)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أرض بيت المقدس {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتب في لوحه المحفوظ أن تسكنوها وتقيموا فيها {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي لا ترجعوا مدبرين منهزمين(1/130)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} أقوياء أشداء شجعاناً. وقيل: سفلة لا خلاق لهم. وقال بعض المفسرين: إنهم من بقايا قوم عاد، وأنهم ضخام الأجسام، عظام الأجساد؛ حتى أن أحدهم ليحمل الإثني عشر نفساً في أحد أكمامه. وهو قول غير صحيح، وإنما قصه القصاصون الأفاكون؛ وزينوه بروايات
[ص:131] لا أصل لها، وعنعنات لا وجود لها(1/130)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى ويخشونه {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإيمان والشجاعة والإقدام {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} عليهم؛ وبدأتموهم بالهجوم والقتال {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أنظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى الخطط الحربية الحكيمة الموفقة: يعلمنا أن نتبع خطة الهجوم، خطة الاستبسال، خطة بيع النفس في سبيله جل شأنه وهي قاعدة معروفة متبعة؛ يعلمها كل ذي لب، ويتبعها كل ذي قلب: «اطلب الموت توهب لك الحياة» وإذا فكرت أيها المؤمن جلياً، ونظرت ملياً في هذه الخطة؛ لأنبأك التاريخ عن إصابتها وسدادها؛ فهناك سعدبن أبي وقاص، وقد قام بجيشه الصغير؛ فاكتسح به دولة الفرس اكتساحاً، وجعلها أثراً بعد عين؛ وقد كانت في أوج عظمتها وقوتها وهناك أيضاً طارقبن زياد؛ وقد فتح الأندلس فتحاً سجله له التاريخ بمداد الفخار والإكبار ولم تكن تلكم الفتوح والانتصارات: لكثرة في العدد، أو زيادة في المدد؛ وإنما هي الخطة التي وضعها القائد الأعلى، والمرشد الأعظم، وحث عليها عباده (انظر آية 251 من سورة البقرة)
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من هذا نعلم أن التوكل من لوازم الإيمان؛ وأن الإيمان بلا توكل: إيمان مشوب بالشك والشرك؛ إذ أن الإيمان به تعالى يستوجب حتماً الإيمان بقدرته وقوته، والوثوق بمعونته ومن آمن ب الله تعالى ولم يؤمن بصفاته العلية السنية؛ فهو من عداد الكافرين (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/131)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} فازدادوا بذلك جبناً على جبنهم، وخوراً على خورهم، ورفضوا التوكل علىالله، وأبوا الاستماع إلى نصح الناصحين؛ الذين يخافون ربهم، وقد أنعم الله عليهم {فَاذْهَبْ} يا موسى {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أضاف بنو إسرائيل إلى جبنهم وضعفهم وحقارتهم: كفراً بربهم لا يعدله كفر، وتحدياً يستأهل ما أعده الله تعالى لهم من عذاب بئيس إذ قالوا لنبيهم الكريم؛ الذي بعثه الله تعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}(1/131)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
{قَالَ} موسى {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ} من دنياي {إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} ولا نصلح أن نلقى بمفردنا الجبابرة فنخرجهم من بيت المقدس {فَافْرُقْ} فافصل واحكم {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين؛ الذين خرجوا عن طاعتك(1/131)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{قَالَ} الله تعالى لموسى {فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} لا يدخلونها ولا يتمتعون بخيراتها؛ بل {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} سائرين على وجوههم؛ لا يبلغون مقصداً، ولا يحوزون مأملاً؛ عقوبة لهم على عصيانهم وجبنهم، وعدم
[ص:132] استماعهم لكلام ربهم ونصح نبيهم {فَلاَ تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين العاصين(1/131)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{وَاتْلُ} يا محمد {عَلَيْهِمْ} على هؤلاء اليهود؛ الذين هموا أن يبسطوا إليكم أيديهم بالبطش والأذى {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} هابيل وقابيل {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} لله {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} هابيل {قَالَ} قابيل - الذي لم يتقبل قربانه - لهابيل الذي تقبل منه {لأَقْتُلَنَّكَ} حسداً منه له {قَالَ} هابيل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} الذين يخشونه(1/132)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
{لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} فلن أقابلك بمثل بغيك؛ و {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} لأني لست شريراً مثلك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *(1/132)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} ترجع {بِإِثْمِي} إثم قتلي {وَإِثْمِكَ} الذي ارتكبته من قبل؛ ولم يتقبل قربانك بسببه أو المراد «بإثمي»: آثامي تلقى عليك «وإثمك» الذي ارتكبته بقتلي.
قال «يؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف؛ فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» يعضده قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}(1/132)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} زينت له، وتابعته وطاوعته(1/132)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} يحفر فيها برجله ومنقاره {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} جسده؛ والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره(1/132)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} القتل الذي حصل بين ابني آدم {كَتَبْنَا} حكمنا وقضينا {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وعلى غيرهم أيضاً {للَّهِ} أي بغير أن يكون ذلك القتل قصاصاً من المقتول الذي قتل نفساً ظلماً {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي وبغير أن يكون القتل بسبب إفساد المقتول في الأرض، وقطعه للطريق، وسلبه أموال الناس وإفساده للأمن {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أي لأنه بفعلته هذه سن القتل، وجعل كل الناس عرضة له، ولأن عقوبته في الآخرة لا تنقص عن عقوبة من قتل الناس جميعاً؛ ألا ترى أن جزاءه جهنم، وأنه خالد فيها، وأن غضب الله تعالى محيط به، ولعنته منصبة عليه، وأنه تعالى أعد له عذاباً عظيماً مهيناً؟ فأي شقاء وأي عذاب بقي لمن قتل الناس جميعاً بعد هذا الشقاء، وفوق هذا العذاب؟ (انظر آية 93 من سورة النساء) {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي أنقذها من هلاك محدق: كغرق، أو حرق، أو دفع عدو ظالم، أو غير ذلك {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} لأنه سن بينهم النجدة، والتضحية، والأمن. وقيل: إن الكف عن القتل: هو الإحياء.
بعد ذلك بين الله تعالى لنا الأسباب الموجبة للقتل، والتي استثناها في الآية السابقة بقوله جل شأنه: {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} قال تعالى:(1/132)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بمحاربة المسلمين،
[ص:133] ومخالفة ما أمر الله تعالى به، وإتيان ما نهى عنه {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهم قطاع الطريق؛ الذين يعيثون في الأرض، وينتهكون الحرمات، ويفسدون الأمن؛ فجزاء أمثال هؤلاء {أَن يُقَتَّلُواْ} إن كان إثمهم القتل فقط {أَوْ يُصَلَّبُواْ} إن كان إثمهم القتل وسلب المال {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} إن كان إثمهم سلب المال «السرقة بالإكراه» وطريقة ذلك أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى - يده للسرقة، ورجله لإخافة الطريق - فإن لم يتب تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} إن كان إثمهم التخويف فقط؛ والنفي: أن يطرد من موطنه قسراً حتى يلحق بأرض العدو، أو هو نفيه من بلده إلى بلد آخر يسجن فيها حتى تبدو توبته، وتظهر إنابته؛ ويقلع عن معصية الله إيذاء عباده الآمنين (انظر آية 38 من هذه السورة) {ذلِكَ} الجزاء المتقدم {لَهُمْ خِزْيٌ} ذل وفضيحة {فِي الدُّنْيَا} يعلق بهم وبأبنائهم وذراريهم(1/132)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} عن محاربة الله تعالى ورسوله، وعادوا إلى حظيرة الإيمان {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فأولئك ليس لكم عليهم من سبيل؛ لأن الإيمان يجبُّ ما قبله. أما إذا كان الساعي في الأرض بالفساد من المؤمنين: فعليه القود والقصاص. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يعفى من حق الله تعالى، ويؤخذ بحق الناس(1/133)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة: هي القربة، والعمل الصالح(1/133)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} يسرق السارق - حين يسرق - وهو آمن مطمئن؛ لا يخشى شيئاً: اللهم سوى ذلك السجن الذي يطعم ويكسى ويعالج فيه؛ فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي، ويخرج من هذا السجن وهو إلى الإجرام أميل، وعلى الشر أقدر يدل على هذا أن تعداد الجرائم يزداد يوماً عن يوم، وعاماً عن عام، وذلك لقصور العقل البشري وعجزه عن الوصول للشفاء النافع، والدواء الناجع أما عقوبة قطع يد السارق فالذي وضعها الرحيم الرحمن، الذي هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ وها هي ذي بلاد الحجاز - رغم فقر أهلها وعوزهم - فلا تكاد تسمع بوقوع سرقة فيها؛ حتى أن الإنسان ليقع منه الدرهم فيتذكره فيعود إليه فيجده في موضعه بعد أيام؛ حيث لا يجسر أحد أن ينظر إليه، فضلاً عن أن يمد يده لأخذه وما ذلك إلا بفضل انتشار الأحكام الدينية؛ جزى الله تعالى القائمين بها خير الجزاء وها هي ذي أوروبا وأمريكا تناديان بوجوب تغيير هذه القوانين الوضعية؛ حيث لم تعد صالحة لردع النفوس الشريرة؛ بدليل ازدياد الجرائم؛ فللَّه ما أحلى هذا الدين، وأجمل تعاليمه وشرائعه {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} من إثم السرقة
[ص:134] {نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} النكال: العبرة للغير. أي ذلك القطع عبرة منالله: يعتبر بها الغير؛ فيتجنب أسبابها(1/133)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} رجع إلى الله من بعد ارتكاب السرقة، واعترف بها {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته؛ بعد توقيع الحد عليه(1/134)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ} خاطب الله تعالى سائر النبيين بأسمائهم؛ فقال: «يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى» ولم يخاطب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه إلا بقوله: «يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر» وفي هذا من رفعة شأنه عليه الصَّلاة والسَّلام ما لا يخفى(1/134)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الحرام والرشوة {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل(1/134)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{وَالرَّبَّانِيُّونَ} جمع رباني نسبة إلى الرب؛ وهم العلماء والحكماء. وقيل: هم الرهبان {وَالأَحْبَارُ} العلماء {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} حفظوا، واستودعوا علمه {مِن كِتَابِ اللَّهِ} وهو التوراة {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوهم خوفاً ينسيكم أوامري؛ فأنا أحق بالخشية منهم؛ لأني أنفع وأضر، وهم لا يستطيعون جلب نفع لأنفسهم، ولا دفع ضر عنها. وهذا نهي عن التزلف والتملق، ووجوب نهي العاصي عن عصيانه، والطاغي عن طغيانه(1/134)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} تقتل
[ص:135] {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} تفقأ {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} يجدع {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} تقطع {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} تقلع {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فيقتص لكل عضو بمثله إذا أمكن.
لو أن المجرم المعتاد للإجرام، والذي أشربت نفسه حب الأذى والضرر؛ علم أنه لو فقأ عيناً فقئت عينه، أو كسر سناً كسرت سنه؛ لما جسر على الأذى: ولا قوي على الفتك ولو أن أعصى العصاة، وأعتى العتاة؛ حينما يضع يده على عصاه؛ ليوقع الضرر بعبادالله: علم أنه إنما يضرب نفسه، ويقتطع من جوارحه: لانقلبت شروره خيرات، وسيئاته حسنات؛ ولكان مندفعاً إلى الخير - إن لم يكن بطبيعته وفطرته - فبرعبه ورهبته غير ما في هذه العقوبات الرادعة من شفاء للقلوب المكلومة، والنفوس الموتورة؛ التي يتولد منها - بسبب عدم إنزال العقاب الصارم، بالمجرم الظالم - سلسلة جرائم وأخذ ثارات؛ يتزلزل لها الأمن وتنزعج منها العدالة أرشد الله تعالى الناس، لما يصلح الناس {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المعتدي {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي إن ذلك التجاوز تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه، أو هو كفارة للمعتدي نفسه؛ لأن العفو كالاقتصاص؛ فلا يجوز للمعتدى عليه أن يطالبه بالقصاص بعد التصدق والعفو(1/134)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{وَقَفَّيْنَا} أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم} أي آثار النبيين الذين تقدموا عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه {مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى} من الله {وَنُورٌ} لمن اتبعه {وَمُصَدِّقاً} أي الإنجيل جاء مصدقاً {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} تقدمه(1/135)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ولكنهم لم يحكموا بما فيه؛ بل حكموا تبعاً لأهوائهم {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومن عجب أن تنزل التوراة لليهود فلا يعملون بها، ويحرفونها عن مواضعها، وينزل الإنجيل للنصارى فلا يعملون بما فيه، بل يكون دأبهم تغييره ومخالفته، وينزل القرآن الكريم على المسلمين فيجعلون ديدنهم التشدق بحروفه، ومراعاة وقوفه. والإفراط في الغن إفراطاً أخل بنطقه، والتزيد في المد تزيداً أخل بمعناه؛ وتركوا العمل بما فيه؛ ولم ينزله منزله تعالى إلا لذلك ولكنه الشيطان زيّن لهم تافه الأمور، وصرفهم عن لب القرآن(1/135)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابِ} القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه {مِنَ الْكِتَابِ} كالتوراة والإنجيل {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} رقيباً وحافظاً وأميناً {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الشرعة: الشريعة. والمنهاج: الطريق البيِّن الواضح {وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُم} من الشرائع والتكاليف؛ فيعلم - علم ظهور - المطيع منكم والعاصي، والبر والفاجر
[ص:136] {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} ابتدروها وسابقوا نحوها؛ قبل الفوات بالوفاة {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ويجزي كلاً بما عمل بين اليهود - وقد احتكموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض مجرميهم - وقيل: إن سادة اليهود وكبراءهم ذهبوا إليه وقالوا له: إنا إن أسلمنا أسلم سائر اليهود، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فاقض لنا عليهم ونحن نسلم لك ونؤمن بك. فأبى اتباعهم، وأنزل الله تعالى عليه هذه الآية {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} يضلوك {عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} من الأحكام في كتابه المبين {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عنك، وانصرفوا عن تصديقك(1/135)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم} بالعقوبة في الدنيا؛ كالجلاء، والجزية، والأسر، والقتل {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} التي أتوها؛ ومنها الإعراض والتولي وسيصيبهم في الآخرة بالعقوبة الكاملة المدمرة(1/136)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} أي أصدقاء توالونهم من دون المؤمنين {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يستدل من ذلك أن موالاة الكفار كفر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جنسهم، ومن جماعتهم فاحذر - يا رعاك الله - أن توالي الكافرين؛ فتكون من الظالمين (انظر آية 28 من سورة آل عمران)(1/136)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يسارعون في ولايتهم وصداقتهم {يَقُولُونَ} إنما نواليهم لأننا {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي مصيبة، أو حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} بالنصر {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} بنزول العذاب {فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ} من النفاق والمكر بالمؤمنين(1/136)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت(1/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} غيركم: مؤمنين، طائعين، صالحين {يُحِبُّهُمْ} لإيمانهم {وَيُحِبُّونَهُ} لمعرفتهم به، ومزيد فضله عليهم
وحب المؤمن لربه: يجب أن يكون متميزاً عن سائر الحب؛ فلا يجوز أن يكون كحب الولد؛ إذ هو كاسبه، ولا كحب الوالد؛ إذ هو واهبه، ولا كحب المال؛ إذ هو مكسبه، ولا كحب الزوج؛ إذ هو هاديها وراعيها، ولا كحب سائر الأهل - مهما كانوا نافعين قادرين، ومهما كانوا أحباء محبين - بل يجب ألا يشاركه تعالى في الحب مخلوق - مهما سما قدره، وعلت منزلته - ولا يجوز أن يتعلق حبه تعالى بسبب من الأسباب؛ لئلا يزول ذلك الحب بزوال هذا السبب بمعنى أنه يحبه لأنه يحفظ عليه أهله، أو ولده، أو ماله. بل يجب أن يكون حبهلله لذات الله فإنه تعالى إن شاء وهب، وإن شاء سلب؛ وإن شاء أعطى، وإن شاء منع؛ لا يسأل تعالى عما يفعل وهم يسألون
والحبلله إن كان مبنياً على خوف عذابه، أو رجاء ثوابه؛ فإنه لا يخالف الشرع؛ قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} لكنه على كل حال ليس بالحب الذي يناسب ذات الله المقدسة وقد ذهب بعض الصوفية إلى أكثر من هذا؛ فقال: إن حبه تعالى لا يجوز أن يكون رغبة في جنته، أو خوفاً من ناره؛ بل يجب أن يكون مجرداً عن كل غرض، أو شبهة الغرض؛ بل يكون حبه تعالى: هو الغاية، وهو الوسيلة، وهو المقصد، وهو المطلب فإذا ما وصل العبد إلى هذه المرتبة: كان صديقاً؛ بل وفوق مرتبة الصديقين واعلم أيها المؤمن - هديت وكفيت - أن محبة الله تعالى ورضاءه لا يتوافران إلا برضاء الناس ومحبتهم؛ فاحرص على رضاء مخلوقاته وحبهم - حتى العجماوات منها - فيرضى عنك الجميع ويحبونك، ويرضى عنك الله تعالى ويحبك
وما من إنسان يحبه مولاه: إلا أحبه كل مخلوق، وتيسر له كل صعب، وهان عليه كل عسير
واعلم أن مخلوقات الله تعالى بمثابة عياله؛ فمن أكرمهم: أكرمهالله، ومن أعزهم: أعزه، ومن غفر لهم: غفر له {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
واعلم - هداك الله وعافاك - أنه ما من لقمة تطعمها، ولا نفقة تنفقها؛ إلا كان لك بها أجر: لو علمته لأطعمت الفقراء سائر طعامك وما طعمته، ولو تحققته لأنفقت عليهم نفقة عيالك وما بخلت به
[ص:138] واعلم - علم اليقين - أن الله تعالى معطيك بذلك ما تريد فوق ما تريد - في الحياة الدنيا - ومعطيك في الآخرة ما لم تتوهمه، وما لم يخطر ببالك وأن عطاءه تعالى ليس كعطائك - مهما بذلت - وأن مثوبته ليست كمثوبتك - مهما بالغت - فاعمل بذلك لدنياك وآخرتك؛ إني لك من الناصحين (انظر آية 22 من سورة المجادلة) {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ} من علامة حب الله تعالى للمؤمن، وحب المؤمن لربه: أن يكون لين الجانب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، قوي الشكيمة متسربلاً بالعزة والكبرياء حيال الكافرين والمنافقين؛ لا يراعى أحداً لسعته أو لبطشه. أقدار الناس عنده تتسامى بإيمانهم وتقواهم، لا بقوتهم وغناهم من خلصائه وأوليائه(1/137)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} ناصركم {وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} جعل تعالى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: شرطاً من شرائط الإيمان؛ فلينظر هذا وليعتبر(1/138)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} أي أذن مؤذنكم بها {اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} هذه صفة الكافرين؛ وصفهم الله تعالى بها في كتابه الكريم؛ ومن عجب أن هذه الصفة قد أصبحت من سمات كثير ممن تسموا بالمؤمنين: يراك أحدهم وقد شرعت في طاعة مولاك بإقامة الصلاة - التي أمرك بأدائها - فيغرب في الضحك، ويمعن في السخرية، وي0جتمع حولك مع أمثاله من الفاسقين الضالين؛ فيجعلون من صلاتك سبباً للضحك عليك، والسخرية بك {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1/138)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ} هل تكرهون {مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ} على النبيين أي ثواباً. والمثوبة - وإن كانت مختصة بالإحسان - لكنها وضعت هنا موضع العقوبة؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(1/138)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
{مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وأي شر أشر من لعن الله تعالى وغضبه؟ بل أي درك ينحط فيه إنسان - بعد اللعن والغضب - أحط من المسخ؟
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} وأي حيوان أقبح شكلاً، وأخبث منظراً، وأكره رائحة، وأزرى خلقاً وهيئة من القردة والخنازير؟ هذا وصف بني إسرائيل من ناحية الخلق؛ أما وصفهم من ناحية الخلق: فشأنه لا يقل بحال عن الخلق؛ فقد وصفهم الله تعالى بقوله {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} والمراد بالطاغوت: الطغيان المادي أو هو كل رأس في الضلال؛ هذه الصفات، وتلك السمات؛ ساقها الله تعالى وصفاً لليهود {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} في الدنيا: بما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة، وفي الآخرة: بما أعده الله تعالى
[ص:139] لهم من عذاب النار وبئس المصير {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عن طريق الصواب والحق(1/138)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} الحرام والرشوة. والسحت: الحرام. أو هو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار {لَوْلاَ} هلا {يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} الزهاد فيهم {وَالأَحْبَارُ} العلماء {عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ} الكذب والزور(1/139)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي شحيحة بخيلة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بتقييد أيديهم عن عمل الخير؛ ليحرموا من ثوابه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} غل اليد وبسطها: كناية عن البخل والجود. قال تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ومن أكرم من الله؟ ومن أبسط يداً منه تعالى؟ {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي بين اليهود والنصارى وبين سائر المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبل ذلك: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} أو هو بين اليهود أنفسهم؛ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى؛ ولقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} فهم متباغضون أبد الدهر، متنافرون طول العمر؛ شتت الله تعالى شملهم، وفرق جمعهم
{لَكَفَّرْنَا} محونا(1/139)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الطاعات مفتاح لسائر السعادات، وأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ} طائفة {مُّقْتَصِدَةٌ} تعمل بالعدل والخير؛ ولا تقول إلا الحق. وأصل القصد: الاستقامة؛ وهو ضد الإفراط؛ والمقصود بهم الطائفة التي قالت في عيسى: إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ ولم تقل: إنه ابنالله، أو إنه ابن زنا؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي ساء الذي يعملونه؛ لأن أعمالهم كلها سيئة(1/139)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} يحفظك من مكرهم وكيدهم؛ فلا يتمكن أحد من قتلك أو خداعك؛ وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحرسون الرسول، فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال: «انصرفوا عني فقد عصمني الله من الجن والإنس؛ فلا أحتاج إلى من يحرسني» أما عصمته - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - من الشيطان: فهي عصمة مصاحبة له منذ ولد عندما تداعى إيوان كسرى، وخبت نيران الفرس؛ وعندما شق جبريل الأمين عن صدره الشريف؛ فنزع منه حظ الشيطان من بني الإنسان؛ فكان معجزة الله تعالى بين البشر، وسيد ولد آدم ولا فخر(1/139)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي لستم على دين، ولا على نظام، أو لستم على حق
[ص:140] {حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} بأن تعملوا بما فيها. وفي التوراة والإنجيل نعت محمد، والتبشير بمجيئه؛ فالإيمان به إذن: إقامة للتوراة والإنجيل، وعمل بما فيهما (انظر آية 157 من سورة الأعراف) {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم} أي من اليهود والنصارى {مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} من القرآن {طُغْيَاناً} على طغيانهم {وَكُفْراً} على كفرهم {فَلاَ تَأْسَ} لا تحزن(1/139)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى؛ وهم قوم محمد عليه الصَّلاة والسَّلام {وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود: قوم موسى عليه السلام {وَالصَّابِئُونَ} جنس من أهل الكتاب. وصبأ: إذا رجع. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون النجوم. وقيل: قوم كانوا على دين نوح عليه السلام؛ وأبوا اتباع دين آخر {وَالنَّصَارَى} قوم عيسى عليه السلام {مَنْ آمَنَ} من هؤلاء جميعاً {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من العذاب {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يوم القيامة؛ إذ هم ناجون بإيمانهم ب الله واليوم الآخر، وبالعمل الصالح
:(1/140)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{وَحَسِبُواْ} أي ظن بنو إسرائيل {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ألا يتنزل بهم عذاب بسبب تكذيبهم {فَعَمُواْ} عن رؤية الحق {وَصَمُّواْ} عن سماعه؛ وذلك لأنهم لم ينتفعوا بما رأوا ولا بما سمعوا؛ فكانوا كالأعمى والأصم {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} رفع عنهم العذاب، ومهد لهم سبيل المتاب، ولن يتوب إنسان، قبل أن يتوب عليه المنان قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} لكن بني إسرائيل هم هم؛ طول العمر، وأبد الدهر؛ فبعد أن عموا وصموا، وبعد أن رفع ربهم عنهم العذاب، {ثُمَّ} مهد لهم سبل المتاب {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فمجازيهم به(1/140)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وكيف يكون إلهاً من ولدته مريم؟ ومن صفاته تعالى أنه لا يلد ولا يولد {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} أن يدخلها، أو يشم ريحها {وَمَأْوَاهُ} مرجعه {النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ أَنصَارٍ} يمنعونهم من عذابالله، أو ينصرونهم من دونه؛ و(1/140)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{لَّقَدْ كَفَرَ} أيضاً {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وهم النصارى حيث يقولون: إن الله ذو ثلاثة أقانيم {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} يرجعوا
[ص:141] {عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} بهذا القول {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالنار(1/140)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الذي ألهته النصارى ورمته اليهود {إِلاَّ رَسُولٌ} من عند الله {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أمثاله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} مبالغة في الصدق {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} كما تأكل سائر المخلوقات؛ وفي هذا القول إشارة لطيفة إلى أن من يأكل الطعام؛ لا بد أن يكون في حاجة إلى إخراجه ومن يكن هذا حاله؛ فكيف يعبد؟ أو كيف يتوهم أنه إله؟ {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} الدالة على فساد حكمهم، وخطل رأيهم {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن عبادتي؛ رغم ظهور الآيات الدالة على وحدانيتي؟(1/141)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} الغلو: مجاوزة الحد؛ من إفراط. أو تفريط: فقد قالت النصارى عن عيسى: إنه إله، وإنه ابن الله. وقالت اليهود عنه: إنه ابن زنا قاتلهم الله أنى يؤفكون {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ} يعني بهم اليهود {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} بافترائهم على المسيح وأمه؛ وهو عبد الله وكلمته، وأمه صديقة {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} من الناس؛ بصرفهم عن الإيمان {وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عن الطريق المستوي الواضح المستقيم(1/141)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنوا على لسان داود في الزبور، وعلى لسان عيسى في الإنجيل(1/141)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} لا ينهى بعضهم بعضاً {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} بل تصيب الطائعين والعاصين معاً؛ لأن الطائعين لم يكونوا ينهون مرتكبي المنكر عن منكرهم؛ فيصيبهم ما يصيبهم(1/141)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ} أي من اليهود {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يصادقون مشركي العرب وعبدة الأوثان؛ ليستعينوا بهم على المسلمين {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لدنياهم وآخرتهم
[ص:142] {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بسبب مصاحبتهم للكافرين، وموالاتهم لهم، وعدائهم للمسلمين وعدم تناهيهم عما يعملونه من المنكر(1/141)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ} إذ أن موالاة الكافرين كفر(1/142)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{لَتَجِدَنَّ} يا محمد {للَّهِ} بك {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ب الله من عبدة الأوثان {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى}
قيل: نزلت في نفر من نصارى الحبشة؛ وفدوا على رسولالله فقرأ عليهم القرآن وآمنوا به؛ ولما رجعوا إلى الحبشة أخبروا النجاشي بذلك فآمن وظل على إيمانه حتى مات مسلماً. وقيل: إنهم قوم كانوا على ملة عيسى عليه السلام؛ فلما بعث محمد آمنوا به وصدقوه. والظاهر أن المراد: عموم النصارى {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة الله تعالى(1/142)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} خشوعاً وتأثراً {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} وذلك أنهم عرفوا من الإنجيل أن مجيء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام حق، وأن نزول القرآن عليه حق (انظر آية 158 من سورة الأعراف) {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع أمة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذين هم شهداء على سائر الأمم(1/142)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
{فَأَثَابَهُمُ} جزاهم(1/142)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} اليمين اللغو: أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك، وليس كما ظن، أو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وتحريرها: إعتاقها من الرق؛ كفارة لليمين (انظر آية 177 من سورة البقرة)(1/143)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} و «الخمر»: كل ما خامر العقل؛ وقد جاء في الحديث الشريف أنها أم الكبائر وقد تعددت في زماننا هذا أنواعها وألوانها؛ لشدة رغبة العصاة فيها، وانكبابهم عليها؛ قال: «يأتي على أمتي زمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» وقد صدق الحديث على هذه الفترة من الزمن؛ وها هم الآن يشربونها بأسماء عدة؛ ليس من بينها لفظ «الخمر» ويشربون بعضه للتداوي؛ وهو من أفتك أنواع الخمور وأفحشها؛ كأصناف حديد الكينا وغيرها؛ مما لا يتورع بعض العلماء والفقهاء عن شربه؛ متسترين بأنها تحمل اسماً غير اسم الخمر، وغاب عنهم أن الله تعالى مطلع على خفاياهم، وعالم سرهم ونجواهم
ومن دواعي الحسرة والأسف أننا نجد بعض الأمم الغربية - الغير الإسلامية - تحارب الخمور بكل الوسائل وكافة السبل؛ وتحظر صنعها وبيعها وحملها؛ في حين أننا في مصر لا نكون عصريين ومتحضرين إذا لم نشربها ونعرف سائر أنواعها وأصنافها.
ومن عجب أنها في مصر - زعيمة الدول العربية - تباع جهاراً وعلى مقربة من المساجد، وبتصريح رسمي من الحكومة المسلمة - التي دينها الرسمي الإسلام - فحتى متى نظل في هذه الأدران، راضين عن هذا الكفران؟
ونحن نرجو ونلحف في الرجاء: أن تقوم حكومتنا الرشيدة المسلمة برفع هذا الإصر، ومحو هذا العار؛ لنكون أهلاً لما بوأنا الله تعالى من زعامة، وما اختصنا به من كرامة
والخمر: يحد شاربها ويستتاب. وقد جاء في البخاري: «أن النبي حد شارب الخمر، وأمر أن يضربوه بالنعال» وهذا قاطع بوجوب امتهان شارب الخمر وتسفيهه والإزراء به
والخمر من أولى مهامها أن تجعل شاربها يحيا حياة هي دون مستوى الحياة الإنسانية المهذبة؛ فيتسلط عليه الجانب الحيواني، على الجانب العقلي والروحي، الكامن في أعماقه وهي فوق هذا تهبط بالقوى
[ص:144] العقلية إلى مستوى لا يرتضيه لنفسه إنسان يريد أن يعيش موقراً بين أقرانه؛ مكرماً بين أنداده؛ لأنها تؤثر تأثيراً مباشراً على جهازه العصبي؛ فتغير من إحساساته وانفعالاته تغييراً كبيراً يجعله أقل قدرة على ضبط أقواله وأفعاله؛ فيسهل انقياده إلى حيث يرضى الشيطان، ويغضب الرحمن «والميسر»: القمار؛ ويدخل تحته سائر ضروب اللعب وأوراق اليانصيب «اللوترية» و «الأنصاب»: الأصنام والأحجار التي كانوا ينصبونها للعبادة من دون الله تعالى «والأزلام»: قداح أو سهام؛ كان أهل الجاهلية يستقسمون بها؛ قال تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} والاستقسام بها: طلب معرفة ما قسم للإنسان في الغيب. والرجس: القذر؛ وهو كل ما يستوجب العذاب والعقاب(1/143)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} يدفعكم إلى شرب الخمر، وإغوائكم على لعب القمار {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} بعد أن ألف الله تعالى بين قلوبكم بالإيمان {وَالْبَغْضَآءَ} بعد أن جعلكم الله تعالى إخواناً أحباء ولكن الشيطان - ودأبه دائماً إذاية بني الإنسان - أراد بدفعكم إلى هذه المناكير أن يعادي بعضكم بعضاً، ويبغض بعضكم بعضاً، وكيف لا يتعادى من سلبت عقله الخمر، وأطاحت برشده ولبه؟ أو كيف لا يتعادى المقامرون؛ وقد سلب بعضهم مال البعض الآخر ظلماً وزوراً؟ قد أراد الشيطان بذلك أيضاً أن {يَصُدَّكُمْ} يمنعكم ويحول بينكم وبين {ذِكْرِ اللَّهِ} تذكره وعبادته {وَعَنِ الصَّلاَةِ} وكيف يذكر الله تعالى أو يصلي له من لا عقل له؟ أو كيف يعبد الله من شغله القمار عن أهله وولده، بل عن أكله وشربه؟ {فَهَلْ أَنْتُمْ} أيها المؤمنون {مُّنتَهُونَ} راجعون عن طاعة الشيطان، إلى طاعة الرحمن؟ ومنصرفون عن العصيان، وعائدون إلى حظيرة الإيمان؟ (انظر آية 219 من سورة البقرة)(1/144)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الطاعة {جُنَاحٌ} إثم {فِيمَا طَعِمُواْ} ذاقوا. قال أكثر المفسرين: إنها نزلت حين تحرج قوم عند نزول تحريم الخمر وهي لا تزال في بطونهم.
والذي أراه في معنى الآية:(1/144)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوا وشربوا من المباحات {إِذَا مَا اتَّقَواْ} الله تعالى وخافوه، وتناولوا هذا المطعوم من حله، وأدوا حق التنعم به، وأطعموا منه البائس والفقير؛ يدل عليه قوله جل شأنه {وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} وأي صالحات أسمى، ولا أنمى من إطعام الطعام؛ فبه يدخل المؤمن جنة ربه، ويحظى بقربه ومزيد حبه وليس للمانع سوى النيران وغضب الرحمن واذكر إن شئت قول الحكيم العليم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وقول الجبار القهار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}
[ص:145] {ثُمَّ اتَّقَواْ} ربهم؛ فلم ينالوا ما طعموه وأطعموه إلا من حله؛ لا يشوبه نهب ولا سلب، ولا خداع {ثُمَّ اتَّقَواْ} ربهم؛ فلم يدركهم العجب بكرمهم، ولم يراءوا بجودهم {وَّأَحْسَنُواْ} العمل خالصاً لوجهه الكريم؛ غير مبتغين أجراً ولا شكوراً {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}(1/144)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ} ليختبرنكم {اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} يسوقه إليكم؛ بحيث إنه {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} بالإمساك؛ كصغار الوحش، وضعاف الطير وفراخه وبيضه تناله {وَرِمَاحُكُمْ}؛ وذلك الابتلاء {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور؛ إذ هو جل شأنه عالم بما كان وسيكون {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي من يخشاه؛ مع أنه غائب عنه لا يراه {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ} فاصطاد {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لاستهانته بأوامر الله تعالى، وارتكابه ما نهى عنه، واستحلاله ما حرم والتكاليف: امتحان من الله تعالى لعبيده؛ وقد تكون المغفرة، وقد يكون التعذيب: بقدر تسلط الطبيعة البشرية على النفس وعدم تسلطها؛ فكلما كان تسلط الطبيعة قاسياً ومستحكماً على النفس؛ كانت مغفرة الله تعالى أدنى من المذنب - طالما أقلع عن ذنبه، ولجأ إلى ربه - وكلما كان ارتكاب الإثم واقعاً تحت الاختيار المحض، والرغبة المطلقة: كان الذنب أقبح، والجرم أفدح وكانت العقوبة أشد - لاستهانة النفس بوعد خالقها ووعيده - لذا توعد الله تعالى من اصطاد في الإحرام، بالتعذيب والإيلام وإلا فأي دافع يدفع المحرم إلى الصيد؟ وأي حافز له إلى ذلك غير المخالفة لأوامر الله تعالى، وعدم الاعتداد بنواهيه لذلك وجبت له الجحيم، وحق عليه العذاب الأليم(1/145)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} محرمون بالحج أو العمرة {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} قتله، ناسياً إحرامه، أما متعمد القتل مع تذكر الإحرام {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {فَجَزَآءٌ} أن جزاء على قتل الصيد {مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي يذبح ما يماثلها في الشكل والعد: نظيره في الخلق، وقدره في الجسم؛ فإن قتل نعامة: أهدى ناقة - للتماثل ولقرب الشبه بين الإثنين في الخلقة - وإن قتل حماراً وحشياً: أهدى بقرة، وإن قتل ظبياً: أهدى شاة، وهكذا. و {النَّعَمِ}: واحد الأنعام؛ وهو المال الراعية؛ وأكثر ما يقع على الإبل {هَدْياً} الهدي: ما يهدى إلى الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ} لمحو ما ارتكبه من قتل الصيد وهو محرم {طَعَامُ} إطعام {مَسَاكِينَ} وذلك يأن يقوم ثمن المثل؛ ويطعم به المساكين {أَو عَدْلُ ذلِكَ} أي ما يعادل ذلك الإطعام ويماثله من الأيام {صِيَاماً} يصومه قاتل الصيد المتعمد؛ عن كل صاع يومين {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ثقل جزائه {عَفَا اللَّهُ عَمَّا} عما مضى قبل التحريم
[ص:146] {وَمَنْ عَادَ} إلى ما نهى عنه {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرة(1/145)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما اصطدتموه من سمك وحيوان؛ محلين أو محرمين و {الْبَحْرِ}: سائر البحار والأنهار {وَطَعَامُهُ} ما قذفه على ساحله: حياً أو ميتاً؛ ما دام صالحاً للأكل {مَتَاعاً لَّكُمْ} تتمتعون بأكله {وَلِلسَّيَّارَةِ} السائرين من أرض إلى أرض(1/146)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} يقوم به أمر دينهم؛ بالحج إليه. ودنياهم؛ بأمن من يدخله. وهي قوام أن لا قوام لهم؛ من ملك يجمع كلمتهم، أو رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم جعل تعالى
{الشَّهْرَ الْحَرَامَ} كذلك؛ يمتنع فيه القتل والعدوان، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {وَالْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام {وَالْقَلاَئِدَ} جمع قلادة؛ وهي ما يعلق بأعناق الأنعام المهداة إلى الحرم؛ جميع ذلك جعله الله تعالى حراماً لا يعتدى عليه؛ وذلك لتهذيب النفوس التي أشربت حب الفتك والعدوان، ولتأهيلها لتلقي الأوامر والنواهي، وإعدادها لقبول الزجر عن المخالفات والعصيان؛ فكان جميع ذلك بمثابة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، وينتظم عقدهم، ويسلس قيادهم(1/146)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
{اعْلَمُواْ} أيها الناس {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ} لمن عصاه {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أطاعه(1/146)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فمحاسبكم عليه(1/146)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ} الحرام {وَالطَّيِّبُ} الحلال، وكيف يستويان و {الْخَبِيثُ} موصل إلى النار و {الطَّيِّبِ} موصل إلى الجنة؟ {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} واتركوا الحرام - مهما كثر - فإنه منعدم البركة، محقق المحق واحرصوا على الحلال - مهما قل - ففيه الخير كل الخير، وفيه النماء والبركة {يأُوْلِي الأَلْبَابِ} يا ذوي العقول(1/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ
[ص:147] عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وهي الأشياء التي لا يستفاد بها علم، ولا يبتغى من ورائها نفع. وقد كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام؛ مستهزئين به تارة، وممتحنين له أخرى. روى البخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهما في «صحيحيهما» قال رجل لرسول الله: يا نبي الله من أبي؟ قال: «أبوك فلان» فنزلت. والإساءة المتوقعة والمعنية بقوله جل شأنه {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هي أن يكون السائل ابن زنا، أو منتسباً لغير أبيه.
وروي أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ قال: «والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها لكفرتم» فأنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فالآية الكريمة نزلت للنهي عن كل سؤال لا فائدة من ورائه، ولا حاجة إلى استقصائه. وقد كان هدي الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: السؤال للفهم والعلم؛ فقد سألوه صلوات الله تعالى وسلامه عليه عما فيه خير دنياهم وآخرتهم رجاء النفع لا الضرر، والاستفادة لا التعنت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}.
وقيل: كان السؤال عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
وخير ما يقال في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالنهي: سؤال الآيات، واقتراح المعجزات؛ وفي إبدائها إساءة بالغة لمنكريها. قال تعالى عندما سأله بنو إسرائيل أن ينزل عليهم مائدة من السماء: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} أي عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي لا تسألوا معجزة، ولا تقترحوا آية؛ إلا إذا نزل القرآن؛ ففيه كل تبيان وبرهان، وفيه ما يغنيكم عن كل سؤال، وعن كل آية، وعن كل معجزة؛ قال الإمام البوصيري رضي الله تعالى عنه:
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
من النبيين إذ جاءت ولم تدم {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن المسألة التي سلفت منكم(1/146)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أي سأل قوم - ممن كان قبلكم - مثل سؤالكم هذه الآيات واقترحوا مثل ما اقترحتموه من المعجزات {ثُمَّ أَصْبَحُواْ} بعد إجابة سؤالهم {بِهَا كَافِرِينَ} وذلك كما فعل بنو إسرائيل عند اقتراحهم استبدال الطعام، وإنزال المائدة، أو كقوم صالح الذين سألوا الآية؛ فلما جاءتهم الناقة عقروها(1/147)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} وهي الناقة يبحر أذنها {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} وهي ابنة السائبة؛ وحكمها حكم أمها {وَلاَ سَآئِبَةٍ} كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت؛ فإذا ماتت: أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت أذن بنتها الأخيرة فصارت {بَحِيرَةٍ} {وَلاَ وَصِيلَةٍ} الوصيلة التي كانت في الجاهلية: هي الشاة تلد سبعة أبطن - عناقين عناقين - فإن ولدت في الثامنة جدياً ذبحوه لآلهتهم، وإن ولدت جدياً وعناقاً، قالوا: وصلت أخاها؛ فلا يذبحون أخاها من أجلها،
[ص:148] ولا تشرب لبنها النساء؛ وكان للرجال وحدهم، وجرت مجرى السائبة {وَلاَ حَامٍ} كانوا في الجاهلية إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن؛ قالوا: قد حمى ظهره. فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى(1/147)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{قَالُواْ حَسْبُنَا} كافينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} من عبادات وعادات(1/148)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقوموها على الإيمان، وروضوها على الطاعة، واعملوا على خلاصها من عقاب الله تعالى، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقد فعلتم ما أمرتم به، وقمتم بما وجب عليكم. وهو كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}(1/148)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}
أي ليشهد بينكم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه ومقدماته؛ كاشتداد المرض، والنزع {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} مشهود لهما بالتقى والورع والصلاح {مِّنْكُمْ} من دينكم وملتكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير دينكم وملتكم - إذا لم يوجد الأولان - وذلك لأن الوقت وقت ضرورة ملحة؛ وليس في الإمكان أن نطلب ممن يعالج سكرات الموت أن ينتظر حتى يعثر على المؤمنين الأتقياء الصلحاء وقالوا بعدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم؛ إلا في الوصية - بشرط أن تكون في حال السفر - وقيل: {مِّنْكُمْ} أي من أقاربكم؛ لأنهم أعلم بأحوال الميت {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من الأجانب المؤمنين {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} سافرتم فيها {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي فمتم بعد أن أديتم إلى الشاهدين ما تملكون، وأوصيتم بما تريدون؛ فإن قاما بما استودعاه، وأديا ما ائتمنا عليه، وارتاح ورثة المتوفى لتصرفهما؛ فقد تم أمر الله.
أما إذا توهم الورثة كذبهما أو خيانتهما؛ فما عليكم إلا أن {تَحْبِسُونَهُمَا} تمسكونهما {مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ} وقد كانوا يجلسون للحكومة بعد صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} يحلف الشاهدان به تعالى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إن شككتم فيهما؛ ويقولان: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} أي بالحق الذي استودعناه وائتمنا عليه، أو لا نشتري بالحلف ب الله {ثَمَناً} عوضاً؛ ولا نبيع أخرانا بدنيانا {وَلَوْ كَانَ} المتوفى، أو صاحب المصلحة المقسم له {ذَا قُرْبَى} يهمنا أمره {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الثِمِينَ} المستوجبين للعقاب إذا كتمنا الشهادة(1/148)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً} بأن كذبا في الشهادة، ولم يؤدياها على وجهها {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت؛ أو من الموصى إليهم {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} في الحلف {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي استحق عليهم الإثم؛ وهم المجنى عليهم من أهل الميت وعشيرته ووارثيه {الأَوْلَيَانِ} الأحقان بالشهادة لقرابتهما، أو لمعرفتهما {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} يحلفان به {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ}
[ص:149] أولى وأصدق {مِن شَهَادَتِهِمَا} وأنهما قد كذبا فيما قالا، وخانا الأمانة؛ وأن ما وجد لديهما هو من مال المتوفى لا من مالهما {وَمَا اعْتَدَيْنَآ} عليهما في ذلك {إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إن كنا معتدين، أو كاذبين(1/148)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ذلِكَ} الذي مر ذكره؛ من ترتيب الشهادة، ودفعها عند الارتياب ووقوع الإثم {أَدْنَى} أقرب {أَن يَأْتُواْ} أي الشهداء {بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} الصحيح؛ كما حملوها بلا خيانة فيها
{أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فيفتضحوا بظهور كذبهم الذين أرسلهم لهداية خلقه(1/149)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي بماذا أجابكم أقوامكم(1/149)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} بالإمامة والرسالة {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} بالطهارة، والاصطفاء على نساء العالمين {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قويتك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ} صغيراً {فِي الْمَهْدِ} المهد: فراش الطفل {وَكَهْلاً} الكهل: الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} الكتابة {وَالْحِكْمَةَ} العلم النافع {وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ} وهو الذي ولد أعمى {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى} من القبور أحياء {بِإِذْنِي} قيل: أخرج سامبن نوح، ورجلين، وامرأة، وجارية؛ وتكلم معهم خلق كثير. وقال بعض المحدثين: المراد بالموتى: موتى القلوب والنفوس. وهو قول هراء لا يلتفت إليه عاقل؛ وذلك لأن إحياء موتى القلوب متيسر لمن عنده أدنى معرفة ب الله تعالى؛ فكيف يكون معجزة لنبي؟ والمعجزة من صفاتها وخصائصها عدم توفرها لغير نبي مؤيد من الله تعالى {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعت {بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ} أي اليهود حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات والحجج الظاهرات(1/149)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} وحي إلهام. والحواريون: الخواص والأصفياء؛ وهم أنصار عيسى عليه السلام(1/149)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تمتحنوا ربكم باقتراح الآيات والمعجزات؛ خشية أن يصيبكم عذابه - إذا كذبتموني بعد نزولها - قال تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} (
انظر آية 10صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)(1/149)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بأنها منزلة من السماء، وليست من صنع البشر {وَنَعْلَمَ} بذلك {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في ادعائك النبوة(1/149)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{تَكُونُ لَنَا} يوم نزولها {عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً} علامة دالة على صدقي، وعلى وجودك(1/149)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} كما اقترحتم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي بعد نزولها(1/149)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{قَالَ سُبْحَانَكَ} أنزهك عما لا يليق بك (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {مَا يَكُونُ لِي} ما يصح لي ولا يجوز {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فكيف بادعاء الألوهية؟
[ص:150] وسؤاله تعالى لعيسى يوم القيامة ليس سؤال استفهام؛ بل هو لإقامة الحجة على هؤلاء الكفرة الفجرة الذين عبدوا من دون الله مخلوقات الله؛ واتخذوا عبيده آلهة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {إِن كُنتُ قُلْتُهُ} أي قلت للناس ذلك القول {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأنك علام الغيوب {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي ما أكنه في صدري؛ فكيف بالذي أقوله بلساني؟(1/149)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت مشاهداً لأعمالهم، مراقباً لأفعالهم؛ مدة إقامتي بينهم في هذه الحياة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أمتني، أو توفيت مدة إقامتي في الدنيا ورفعتني إليك {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} المراقب لأعمالهم وأفعالهم(1/150)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الدنيا؛ في عبادة الله تعالى والإنابة إليه {لَهُمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي خلوداً مؤبداً؛ لا غاية له، ولا انتهاء لأمده {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} فأرضاهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرضي عنهم (انظر آيتي 54 من هذه السورة، و22 من سورة المجادلة)(1/150)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{للَّهِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً؛ لم يشركه أحد في خلقهم، ولا يشركه أحد في عبادتهم {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} على فعله.(1/150)
سورة الأنعام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/150)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الليل والنهار؛ فإنهما آيتان من آيات الله تعالى. أو المراد كل ظلمة، وكل نور، أو هو ظلمة الكفر ونور الإيمان، وظلمة الجهل ونور العلم؛ جعل الظلمات ليستدل بها على ما عداها؛ فلولا ظلمة الليل ما عرفنا نور النهار، ولولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الجهل ما عرف العلم. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بعد هذه الدلالات على وجود الله تعالى ووحدانيته {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً؛ وهو المثل، والشبيه، والنظير؛ وهو تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(1/150)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أي خلق أصلكم آدم عليه السلام {مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} لكل مخلوق من مخلوقاته لا يتجاوزه {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} هو أجل القيامة ووقتها {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد كل ذلك {تَمْتَرُونَ} تشكون في القيامة، وتجادلون في الله(1/150)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{وَهُوَ اللَّهُ} الخالق البارىء المصور {فِي السَّمَاوَاتِ} وأين أنتم من السموات وما فيها؟ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا}؟ {وَفِي الأَرْضِ} وهو ذلك الكوكب الصغير الحقير؛ بالنسبة لملك الله تعالى وملكوته {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ما تسرونه في أنفسكم وتحتفظون به في صدوركم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ما تعملون(1/150)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} معجزة وبرهان
[ص:151] {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لا يأبهون بها، ولا يلتفتون إليها؛ وأي معجزة أكبر أو أجل من القرآن؟ وأي برهان أقوى من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟ ذلك اليتيم الذي آواه الله، والضال الذي هداه، والعائل الذي أغناه والأمي الذي أخرس بفصاحة ما جاء به البلغاء والفصحاء، وتحدى بآياته أساطين البيان(1/150)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن الكريم، أو محمد عليه أفضل الصلاة السلام {لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي سوف يأتيهم العذاب الذي يدلهم على صدق ما كذبوا به؛ وصحة ما سخروا منه(1/151)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} القرن: الأمة، أو أهل الزمان الواحد {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لهم مكانة فيها، وقوة وسعة {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} أي جعلنا السماء تدر عليهم بالمطر؛ وهو كناية عن بسط الرزق، وسعة القوت؛ لأن المطر مصدر الرخاء والنماء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} لكنهم طغوا وبغوا {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} أمة(1/151)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} أي لو أنزلنا عليك من السماء كلاماً مكتوباً في ورق {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ورأوه بأعينهم؛ لما آمنوا، والذي نراه ونلمسه {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} سحر واضح بيِّن(1/151)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{وَقَالُواْ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {مُلْكُ} من السماء؛ يمشي معه ويؤيده، ويصدق أمامنا بما جاء به {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} كما يقترحون {لَقُضِيَ الأَمْرُ} بهلاكهم واستئصالهم {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} لا يؤجلون، ولا يمهلون(1/151)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي الرسول إليهم {مَلَكاً} من السماء {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي جعلناه على صورة رجل؛ ليستطيعوا رؤيته، ويقووا على مواجهته؛ لأنه لا قوة ولا طاقة للبشر على رؤية الملك على حقيقته؛ ولأن كل نوع يميل إلى نوعه، وكل جنس يألف لجنسه؛ والإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس؛ والإنسان لا يقوى على رؤية عفريت أو شيطان، فكيف برؤية الملك الذي يهلك قرية بصيحة، ويفني أمة برجفة؟ وقد كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل لنبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه على صورة رجل؛ ليأنس إليه، ويطمئن إلى مخاطبته؛ ولم يره على صورته الحقيقية غير مرتين: مرة عند غار حراء؛ رآه ساداً للأفق، حاجباً للشمس؛ فغشي على النبي من عظمة ما رأى ورآه مرة أخرى عندما أسري به في السموات العلى
{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} فتعالى الخالق المبدع المصور؛ الذي هدانا برسول من أنفسنا، نأنس إليه، ونلتمس غنى الدارين من يديه {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم}
[ص:152] لخلطنا عليهم {مَّا يَلْبِسُونَ} على أنفسهم؛ بأن يقولوا على الملك الذي أنزلناه في صورة رجل {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(1/151)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} مثل ما استهزىء بك {فَحَاقَ} فنزل {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي جزاءه من العقاب والتعذيب {كِتَابَ} قضى ربكم(1/152)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تفضلاً منه على العباد؛ ومن دلائل رحمته تعالى: تلطفه بخلقه رغم تجبرهم، وإمدادهم رغم عصيانهم؛ وأي رحمة أبلغ من رزقه لمن يكفر به، وإمهاله لمن يعبد غيره؟ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حصول وقوعه {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} أضاعوها بكفرهم، وأعمالهم السيئة في الدنيا؛ فلا يقام لهم وزن في الآخرة، وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم(1/152)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي له تعالى كل شيء - هو خالقه ومالكه - من ساكن أو متحرك؛ لأن الذي يسكن لا بد أن يكون متحركاً. والآية الكريمة تنص على كل مخلوق من متحرك وساكن بطبعه، أو ساكن بعد تحرك {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم(1/152)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} ناصراً ومعيناً {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فاطر الشيء: خالقه ابتداء من غير مثال سبق {وَهُوَ يُطْعِمُ} سائر مخلوقاته ويتكفل بأرزاقهم وأقواتهم {وَلاَ يُطْعَمُ} لا يحتاج لأحد يرزقه أو يطعمه؛ شأن من عبدتم من المخلوقات كعيسى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة(1/152)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{وَهُوَ الْقَاهِرُ} الذي لا يعجزه شيء {فَوْقَ عِبَادِهِ} مستعلياً عليهم؛ فهم كلهم تحت رحمته؛ وقيد إرادته؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يسعد من يشاء بجنته ورحمته، ويشقي من يشاء بناره وغضبه، بيده الملك والملكوت، والعزة والجبروت؛ تفرد بالعظمة والسلطان {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في صنعه {الْخَبِيرُ} بخلقه(1/152)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} لي بالرسالة والنبوة {قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي أن دعوتي لتوحيده، وحثى على معرفته: شهادة على نبوتي، ودليل على صدقي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} وهو شهادة أخرى قاطعة ناصعة؛ فأي شهادة أكبر من هذا تطالبونني بها، وتلزمونني بإبدائها؟ {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي لأنذركم بهذا القرآن؛ ومن سيبلغه من بعد وفاتي؛ فكأنما أنذرته بنفسي وأبلغته. أو ومن بلغه القرآن: وجب عليه القيام بتبليغه أيضاً(1/152)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون محمداً؛ لنعته في كتبهم (انظر آية 157 من سورة الأعراف).
[ص:153] {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} بتعريضها للجحيم والعذاب الأليم {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بمحمد؛ رغم معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم(1/152)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن أشرك معه غيره من مخلوقاته(1/153)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم آلهة، وتشركونهم معي في العبادة(1/153)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الفتنة هنا بمعنى الاختبار؛ أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال. وقيل: «فتنتهم» معذرتهم(1/153)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{وَضَلَّ عَنْهُم} غاب(1/153)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} بأذنيه، وينصرف عنك بقلبه؛ ومثل هذا غير جدير بالاعتبار؛ وأولى بمثله أن يورده الله تعالى موارد الغواية، ويبعده عن مواطن الهداية أغطية؛ بسبب انصرافهم وعنادهم وكفرهم {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ثقلاً يمنع من السمع {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} منزلة عليك من القرآن الكريم {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} القرآن {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب(1/153)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن سماعه {وَيَنْأَوْنَ} يتباعدون {وَأَنْ} وما {يُهْلِكُونَ} بهذا النهي والنأي {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم يعرضونها للعذاب الشديد يوم القيامة(1/153)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ} حبسوا {عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ} نرجع إلى الدنيا.(1/153)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{وَلَوْ رُدُّواْ} إليها {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي لعادوا إلى كفرهم وعنادهم(1/154)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{وَقَالُواْ إِن} ما {هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} لا شيء غيرها ولا حياة بعدها {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} في الآخرة كما يزعم محمد.
هذا وقد ظهر في زماننا هذا قوم من غلاة الزنادقة ينكرون البعث، ويقولون بالتعطيل وفي الواقع أن عقولهم وقلوبهم هي المعطلة؛ وسيرون غداً حينما تلتهمهم النيران، ويحل بواديهم الخسران؛ من أضل سبيلاً، وأسوأ قيلا (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)(1/154)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} للحساب، ورأوا بأعينهم سوء المآب {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا} الذي ترونه وتلمسونه {بِالْحَقِّ} الذي أنذركم به محمد؛ فكذبتموه وكفرتم به {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجأة(1/154)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{قَالُواْ} وقتذاك {يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على ما قصرنا في الدنيا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم(1/154)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} مثلما كذبك قومك؛ وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام {فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} فاصبر كما صبروا {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بإهلاك المكذبين {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لأوامره وسنته، ومواعيده بنصر رسله(1/154)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ} عظم وشق {إِعْرَاضُهُمْ} عن الإيمان {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ} تطلب وتجد {نَفَقاً} سرباً {فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ} تصعد عليه {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} معجزة مما يقترحونه من غير إرادتنا(1/155)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} للدعوة إلى الإيمان
{الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وتفكر {وَالْمَوْتَى} الكفار؛ سماهم موتي: لأن حالهم كحالهم {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة، ويوقفهم على النار؛ فيقولون: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1/155)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{وَقَالُواْ لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} معجزة(1/155)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان أو حيوان. والمراد بها هنا الحيوان {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} تحتاج إلى تدبير رزقها ومعايشها، وتدل على خالقها المتكفل بأرزاقها؛ وفي الآية دليل على وجوب السير مع هذه الأمم بالحسنى، وعدم مجاوزة الحدود التي رسمها الله تعالى في معاملتها؛ ووجوب الرفق بها في سائر الحالات؛ أليست أمماً أمثالنا؟
وقد شغف أناس كثيرون من علماء الحيوان والنبات بدراسة هذه الأمم - من الحيوان والطير - فرأوا عجباً يضيق بصنعه بنو الإنسان فإنك لو أردت أن ترى آية في الاختراع، وغاية في الإبداع؛ لما وجدت أروع ولا أبدع من لوح الشمع الذي يصنعه النحل بنفسه؛ فإن الرسام المبدع لا يكاد يستطيع أن يرسم بأدواته وأقلامه ما رسمه النحل بتوفيق من ربه؛ وناهيك باختياره للورود والأزهار التي يرتشف منها الرحيق الذي يحوله - بقدرة ربه وإلهامه - إلى شراب مختلف الطعوم والألوان
هذا عدا النظام الدقيق الذي تسير عليه مملكة النحل؛ مما تعجز أساطين العقول البشرية عن الإتيان بمثله؛ فسبحان من خلقه وسخره، وأوحى إليه بأمره؛ فاستمع إلى وحي ربه؛ شأن فضلاء بني الإنسان
ولو تأملت إلى مملكة النمل، وما هي عليه من نظام محكم دقيق، لصغرت أمامك نفسك، وهانت عليك حكمتك وتدبيرك؛ فقد ثبت أنه من خير الأمم المنظمة؛ التي تدبر حيانها ومعيشتها، وتحفظ في يومها لغدها، وتثابر في عملها حتى تنال مرادها؛ وترى النمل إذا نزلت به نازلة، أو اجتاحته جائحة؛ لا تفتر عزيمته، ولا تنهار قوته؛ بل يعتبر النمل نفسه وحدة لا تتجزأ، وأنه يجب التضحية بالفرد لمصلحة المجموع؛ فكما يدفع الإنسان عن نفسه - ما يصيبه في هذه الحياة - بيده أو بأي عضو من أعضائه، ويضحي بزهرة أبنائه في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه؛ فكذلك النمل يضحي ببعضه في سبيل حياة باقية؛ فتراه إذا دهمه مطر أو سيل(1/155)
فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل
والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره
وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية 69 من سورة النحل) {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} ما تركنا في اللوح المحفوظ {مِن شَيْءٍ} لم نثبته ونبينه {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} يوم القيامة {يُحْشَرُونَ} يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية 40 من سورة النبأ)(1/156)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ} عن سماع الحق {وَبُكْمٌ} عن النطق به {فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة الكفر، وظلمة الضلال، وظلمة العصيان، وظلمة الجهل (انظر آية 17 من سورة البقرة) {مَن يَشَإِ اللَّهُ} أن يضلله {يُضْلِلْهُ} بما قدمت يداه، من عصيان مولاه؛ بأن كذب بآيات الله، وأصم أذنيه عن سماعها، وحبس لسانه عن النطق بها، وتمرغ في أوحال الجهل والخبال؛ فليس له جزاء سوى النردى في الضلال {وَمَن يَشَأْ} أن يهده {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم؛ هو الإيمان، الذي هو طريق الجنة
[ص:157] طريق النعيم المقيم(1/156)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} هي عند بعضهم بمعنى: أرأيتم.
وعند الآخرين بمعنى: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الذي توعدكم به في الدنيا {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ} القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ليكشف ما حل بكم. والمعنى: هل يوجد عندئذ من يستطيع أن يمنعكم من عذاب الله تعالى، أو أن يدفع عنكم بأسه(1/157)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} منه وحده تطلبون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} أي إن أراد أن يكشف ما نزل بكم {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} به في عبادته(1/157)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ} بالبؤس؛ وهو القحط والجوع {وَالضَّرَّآءِ} الضرر؛ وهو المرض، ونقصان الأنفس {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إلينا فنكشف ما بهم(1/157)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{فَلَوْلا} فهلا {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} عذابنا {تَضَرَّعُواْ} تذللوا إلينا لنكشف عنهم ما نزل بهم؛ كعادتنا دائماً(1/157)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي تركوه فلم يعملوا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قوينا جسومهم، ووسعنا أرزاقهم، وبذلنا لهم المزيد من الخيرات والنعم؛ استدراجاً لهم {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ} فرح بطر وكفران، لا فرح شكر وإيمان {أَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة. عن سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أي قانطون يائسون. يقال: أبلس من رحمة الله؛ إذا قنط؛ ومنه سمي إبليس. والإبلاس أيضاً: الانكسار والحزن(1/157)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} استؤصلوا عن آخرهم {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}
أي بما أخذه منكم {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون(1/157)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أرأيتم {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} فجأة؛ بغير مقدمات، أو دلائل تدل على مجيئه؛ فقد تأتي النقمة من جهة الرحمة، وقد يحل القحط من جهة الرخاء؛ فقد يمطر السحاب ناراً، وقد تقذف الأرض حمماً {أَوْ جَهْرَةً} ظاهراً بمقدمات تدل على إتيانه. أو المراد: {بَغْتَةً} ليلاً، و {جَهْرَةً} نهاراً {فَمَنْ آمَنَ} ب الله {وَأَصْلَحَ} عمله(1/157)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} فأملك التصرف فيها، والإعطاء منها {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأستكثر من الخير. وها هو الرسول الأعظم؛ سيد الخلق قاطبة يقول له ربه: أعلن على الملإ أنك لا تعلم الغيب؛ فا بال أقوام يدعون علم ما مضى، وما حضر، وما استقبل؟ وأعجب من ادعائهم هذا: أنهم يجدون من يصدقهم ويثق بأقوالهم؛ مع أنهم من كبار الدجاجلة، وقد جاء ذكرهم والتحذير منهم في شتى الأحاديث؛ فليحذر المؤمن من تمويههم وباطلهم؛ وليعلم أن الاستسلام لمثل أقوالهم ضرب من الكفر قال -صلى الله عليه وسلم-:
[ص:158] «من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ذهب بعضهم إلى تفضيل الملك على الرسول؛ بدليل هذه الآية. والآية الكريمة لا يؤخذ منها التفضيل؛ بل المراد نفي الأفعال الخارقة للعادة، والتي لا تتأتى إلا من الملائكة عليهم الصلاة والسلام {إِنْ أَتَّبِعُ} ما أتبع فيما أقول وأعمل {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} من ربي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى} الكافر {وَالْبَصِيرُ} المؤمن {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} في ذلك فتؤمنون(1/157)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{وَأَنذِرْ بِهِ} أي بالقرآن {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ} غيره {وَلِيُّ} ينصرهم(1/158)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}
يعبدونه ويتضرعون إليه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} أي صبحاً ومساءاً {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يطلبون مرضاته تعالى؛ ولا يبتغون شيئاً من أعراض الدنيا(1/158)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{وَكَذلِكَ فَتَنَّا} ابتلينا {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} ابتلينا الشريف بالوضيع، والقوي بالضعيف، والغني بالفقير، والسادة بالعبيد {لِّيَقُولواْ} أي ليقول الشرفاء، والأقوياء، والأغنياء؛ والسادة {أَهَؤُلاءِ} الوضعاء، والضعفاء، والفقراء والعبيد {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} بالعقل والإيمان والهداية؟ قال تعالى رداً على استفهامهم البادي على ألسنتهم تارة، وفي قلوبهم أخرى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فيوفقهم إلى مرضاته، ويسوقهم إلى جناته(1/158)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{كِتَابَ} قضى {رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تفضلاً منه على عبيده، وإحساناً منه لخلقه ومن رحمته تعالى {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد عمل السوء {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَإِنَّهُ} تعالى {غَفُورٌ} لذنبه به يؤخذ من هذه الآية أن جناية العالم أكبر من جناية الجاهل، وأن من لوازم التوبة: إصلاح العمل(1/158)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} نوضحها ونبينها {وَلِتَسْتَبِينَ} تظهر {سَبِيلٍ} طريق {الْمُجْرِمِينَ} الذين يصرون على ذنوبهم؛ فلا يتوبون منها، ولا يرجعون عنها(1/158)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي إني على حجة واضحة ظاهرة من ربي؛ وهي القرآن قد {وَكَذَّبْتُم بِهِ} و {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس عندي ما تطلبونه من العذاب؛ وذلك كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ}
أي يقوله، ويتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره وفي قراءة {يَقْضِي بِالْحَقِّ} {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} الحاكمين(1/158)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بتعجيله وإنزاله بكم؛ وقسركم على الإيمان، ولكن الله تعالى وحده يعلم متى يعذب عباده، ومتى يعفو عنهم، ومتى يرحمهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} فيعذبهم وقت إرادته؛ لا وقت طلبهم(1/158)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} من ورق الشجر يعلم شكلها وحجمها ومقدارها، ومتى تسقط،
[ص:159] وأين تسقط، وكم مرة تدور في الهواء، وكم مرة تتقلب على الأرض عند سقوطها {وَلاَ حَبَّةٍ} من الحبوب؛ كالبر والشعير والذرة والعدس ونحوه؛ إلا يعلم كيف تنبت، ومتى تنبت، ومن يجتنيها، ومن يأكلها؛ وقد تحمل الحبة من قطر إلى قطر، وتجوب البحار والأنهار؛ جرياً وراء آكلها؛ حتى تستقر في جوف من كتبت له، وزرعت من أجله؛ فتعالى الخالق الرازق، العليم الحكيم {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} مكتوب {مُّبِينٌ} بيّن واضح؛ وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه لتعلمه الملائكة الموكلون بانفاذ أوامره تعالى(1/158)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} يميتكم عند نومكم؛ وذلك لأن النوم قرين الموت؛ إذ فيه تقبض روح النائم، وتسبح في ملكوت ربها؛ كما تقبض روح الميت تماماً؛ غير أن النائم لا تنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً؛ بل لا تزال متصلة به. أما الميت فتنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً فيريها الله تعالى ما شاء من نعمة أو نقمة؛ حتى يقضي تعالى بالقيامة فتتصل كل روح بجسدها الذي يعيده الله تعالى لها؛ فيلقى المؤمن من كرم الله تعالى وحسن وفادته ما ينسيه البؤس الذي لقيه في دنياه ويلقى الكافر من الذل والهوان والعذاب ما ينسيه النعيم الذي كان فيه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} ما كسبتم فيه من الآثام. وجرح واجترح: بمعنى كسب؛ وذلك لأن الآثام لا ترتكب إلا بالجوارح {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار؛ برد أرواحكم
{لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى} وهو انقضاء آجالكم (انظر آية 42 من سورة الزمر) {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه(1/159)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{وَهُوَ الْقَاهِرُ} الذي لا يعجزه شيء {فَوْقَ عِبَادِهِ} بالاستعلاء؛ فكلهم مخلوق وفق إرادته، وكلهم تحت سلطانه ورحمته؛ يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل وهو اللطيف الخبير {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} ملائكة حافظين {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي جاء وقته وأوانه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} المكلفون بقبض أرواح الخلائق {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} فيما عهد إليهم به، فلا يتعجلون أحداً لم يحن حينه، ولا يتركون أحداً انقضى أجله(1/159)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ} سيدهم ومالكهم {الْحَقِّ أَلاَ لَهُ} وحده {الْحُكْمُ} بين عبيده؛ لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} قيل: يحاسب الناس جميعاً في مقدار حلب شاة(1/159)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} مخاوفهما وأهوالهما، أو ظلمات البر: الصواعق. وظلمات البحر: الأمواج؛ وكلاهما يشتد في الغيم والليل {تَدْعُونَهُ} عند الوقوع في المهالك {تَضَرُّعاً} ابتهالاً وتذللاً؛ معلنين الضراعة {وَخُفْيَةً} قائلين {لَّئِنْ أَنجَانَا} ربنا {مِنْ هَذِهِ} المهالك والأهوال {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} له،
[ص:160] المؤمنين به(1/159)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يخلطكم فرقاً؛ على أهواء شتى متباينة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} شدة بعض في القتال. لما نزل قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ}
قال «أعوذ بوجهك» فلما نزل {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» فلما نزل {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هذا أهون وأيسر». وقد ذهب بعض مفسري هذا العصر إلى أن قوله تعالى: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} هو ما يلقى من الطائرات، من قنابل ومهلكات، وقوله: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} هو الديناميت الذي يدسه الأعداء في باطن الأرض؛ يدل على ذلك ما بعده: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ولم يقل ويذيقكم بأسه. وهو قول ظاهر التكلف، بادي التعسف. والمعنى المراد من الآية: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} هو الصواعق - التي أهلك الله تعالى بها كثيراً من مكذبي الأمم قبلنا - وما تلقيه البراكين من الأحجار والحمم. وقوله: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} هو الخسف والزلازل؛ أعاذنا الله تعالى من نقمته، بمنه ورحمته(1/160)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{لِّكُلِّ نَبَإٍ} أنبأتكم به، وعذاب ذكرته لكم {مُّسْتَقِرٌّ} أي قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها؛ فيعلم صدق النبإ من كذبه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} صدق ما أنبأتكم به؛ حين ينزل بواديكم العذاب، وتندمون؛ ولات ساعة مندم(1/160)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} يتكلمون فيها بما لا يليق؛ من النقد، أو الطعن، أو التكذيب {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} تركهم عند خوضهم، والإعراض عنهم {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي بعد التذكر(1/160)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخوض مع الخائضين {مِنْ حِسَابِهِم} من آثام الخائضين {مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى} أي ولكن قيامهم وعدم القعود معهم لتذكيرهم بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض في آيات الله(1/160)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{وَذَرِ} اترك {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ} الذي دعوا إليه، وكلفوا باتباعه، وهو الإسلام
{لَعِباً وَلَهْواً} سخرية واستهزاء {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} خدعتهم بزخرفها وبهرجها؛ فانقادوا إليها، وتمسكوا بها؛ وتركوا الآخرة وما يوصل إليها وراء ظهورهم {وَذَكِّرْ بِهِ} عظ بالقرآن، أو بالدين {أَن تُبْسَلَ} مخافة أن تبسل. والبسل: الحبس، والفضيحة، والهلاك. والبسل: أيضاً الإعجال والشدة. وأصل الإبسال: المنع {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} وإن تقدم كل فداء؛ والعدل: المثل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} حبسوا، أو فضحوا، أو أهلكوا {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} ماء شديد الحرارة(1/160)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{قُلْ أَنَدْعُواْ} أنعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} نرجع كما كنا كفاراً {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} للإسلام وأنجانا من
[ص:161] عبادة الأصنام؛ ونكون {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} أضلته {الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ} بإغوائهم وتزيينهم؛ وصيرته {حَيْرَانَ} لا يدري ما هو فاعل، وماذا تكون عاقبته؟ {لَهُ أَصْحَابٌ} رفقة خيرون؛ يتمنون نجاته من زلته وتخليصه من سقطته {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} قائلين له {ائْتِنَا} أي ارجع عن غيك، وتعال في زمرتنا. فلا يجيبهم إلى ما يطلبونه، ولا يتبعهم إلى الهدى {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الإسلام، والتوفيق إليه {هُوَ الْهُدَى} وما عداه فهو ضلال ووبال(1/160)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{وَيَوْمَ يَقُولُ} الله تعالى يوم القيامة لما يريد {كُنْ فَيَكُونُ} ما أراده من فناء الدنيا، وموت الخلائق؛ ثم إحيائهم ثانية، ثم محاسبتهم على ما عملوا، ثم إدخال أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار كل هذا يتم من غير جهد، ولا عناء؛ بل بقوله تعالى {كُنَّ} كما قال للسموات والأرض؛ كونا؛ فكانتا. ولآدم: كن؛ فكان. ولفظ
{كُنَّ} هي في الواقع تقريب لأذهاننا؛ لنعلم أنه تعالى لا يعجزه مطلب، ولا يؤده شيء - مهما عظم - وفي الحقيقة أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير افتقار للفظ {كُنَّ} فتعالى القادر المقتدر {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. وقيل: «الصور» جمع صورة؛ كبسر وبسرة(1/161)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} أي مثل ما أريناه كفر قومه، وأطلعناه على فساد عبادتهم للأصنام: نريه {مَلَكُوتَ} ملك، وسلطان. قيل: الملك: السلطان الظاهر، والملكوت: السلطان الباطن؛ فهو الملك التام؛ ظاهره وباطنه {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما حوتا من عجائب المخلوقات، وغرائب المصنوعات؛ ليستدل بذلك على وجودنا ووحدانيتنا {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} عياناً، كما أيقن بياناً(1/161)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{فَلَمَّا جَنَّ} أظلم {عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً} قيل: هو الزهرة، أو المشتري، أو هو أي كوكب من كواكب السماء؛ وهي تبلغ ملايين الملايين؛ بل لا يحيط بها عد العادين، وإحصاء المحصين؛ فلما رأى هذا الكوكب {قَالَ هَذَا رَبِّي} لا يخفى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يؤمن بالكوكب وغيره إيماناً يقينياً؛ وما كان له أن يقر بالربوبية لغير الله - وقد اختاره للنبوة والرسالة والإمامة - وحاشا أن يتصف إبراهيم بمثل هذا وإنما قال ما قال، وفعل ما فعل: لفتاً لأنظار قومه إلى فساد ما يعبدونه، وتسفيهاً لأحلامهم {فَلَمَّآ أَفَلَ} غاب هذا الكوكب(1/161)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً} طالعاً، أو مبتدئاً في الطلوع(1/161)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} طالعة.
[ص:162] {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} من كل الكواكب التي ظننتها رباً {فَلَمَّآ أَفَلَتْ} غابت وامحى ضوؤها؛ وأثبت إبراهيم لقومه بذلك أن الله المعبود: يجب أن يكون أكبر من كل شيء، وأنه يجب ألا يطرأ عليه التغير، ولا يجوز له الأفول حينذاك انتقل إبراهيم من الاستدلال إلى التقرير، ومن الاستقراء إلى التوثيق والتثبت؛ وواجه قومه بما يجب أن يواجههم به؛ قائماً بالدعوة المطلوبة منه والمرسل بها {قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} به الله تعالى في العبادة(1/161)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} اتجهت بكليتي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} خلقهما؛ والفطر: الخلق من غير مثال سابق {حَنِيفاً} مائلا إلى الدين الحق؛ والحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام، الثابت عليه(1/162)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
{وَحَآجَّهُ} جادله {قَوْمِهِ} فيما قاله {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي} أتجادلونني {فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} إلى معرفته {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} في عبادته {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يبتليني بشيء من المكروه؛ فلا اعتراض لي عليه؛ إذ أنني ملكه وصنع يده؛ يفعل بي ما يشاء، ويحكم فيّ بما يريد(1/162)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} وهي لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع، ولا تعقل {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} وهو السميع البصير، اللطيف الخبير، المعطي المانع، النافع الضار {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أي ما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} والاطمئنان للمصير: نحن الذين عبدنا الإله الحق، القادر القاهر الرازق، المحيي المميت؛ ولم نخف آلهتكم وأصنامكم؛ أم أنتم وقد عبدتم ما صنعتم بأيديكم من جماد لا يقدر على حماية نفسه؛ ولم تخشوا ربنا الذي خلقنا وهدانا، ورزقنا وكفانا {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن أم أنتم {أَحَقُّ بِالأَمْنِ} والطمأنينة؟(1/162)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ} يخلطوا
{إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أو هو الظلم نفسه {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} من العذاب في الدنيا، والأمن بالنجاة من النار في الآخرة(1/162)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ} التي احتج بها إبراهيم على قومه بوجود الله تعالى ووحدانيته؛ بأن وجهنا نظره للكائنات، فرأى ما يحدث لها من تغيرات؛ وعلم أن الإله لا يتبدل، وأن الخالق لا يتغير؛ وتوصل بطريق الاستدلال العقلي إلى معرفة الله تعالى: الموجود في سائر الوجود {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا إبراهيم: رأس الملة الحنيفية، وإمام أهل الحق، وجد نبينا محمد {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} في العلم والحكمة، وسمو الروح، وعلو الهمة(1/162)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي من ذرية نوح عليه السلام.(1/162)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} اللذين قتلهما اليهود عليهم اللعنة {وَإِلْيَاسَ} وهو غير {إِلْيَاسَ} جد النبي عليه الصلاة والسلام - بسكون الهمز - لأنه أول من ابتلى باليأس، وهو السل؛ سمي بذلك لليأس من شفائه(1/163)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} اخترناهم واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ} طريق(1/163)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
{ذلِكَ} الهدى الذي أضفيناه على هؤلاء الأنبياء {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} المتقين {لَحَبِطَ} لبطل(1/163)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{أُوْلَئِكَ} الأنبياء المذكورون: هم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب التي أنزلت عليهم {وَالْحُكْمَ} العلم النافع، وحسن الفصل في الحكومة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بالكتب، أو بالكتاب والحكم والنبوة {هَؤُلاءِ} الفسقة الظلمة الكفرة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} من المؤمنين الطائعين المنيبين(1/163)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{أُوْلَئِكَ} الأنبياء الذين ذكرناهم: هم {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أي اقتد يا محمد بهم، واصبر كصبرهم، وتحمل أذى قومك كما تحملوا أذى أقوامهم؛ و {قُلْ} لقومك {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لا أسألكم على القرآن جعلاً {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} لسائر الجن والإنس(1/163)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما عبدوه حق عبادته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} كأنهم يريدون أن ينزل إليهم ربهم بنفسه، أو ينزل لهم بعض ملائكته؛ كسابقيهم في الكفر: الذين قالوا لرسولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} وقالوا {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} {قُلْ} لهم: كيف تقولون ذلك وقد تحققتم من نزول الكتاب على بشر من قبلي؛ وإلا فقولوا لي {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أوراقاً مفرقة؛ أي كسائر الأوراق، وهو ليس كسائرها
[ص:164] {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} تبدون منها ما يروق لكم من الأحكام، وتخفون كثيراً مما يثقل عليكم؛ وهو خطاب لليهود {قُلِ اللَّهُ} جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى} {ثُمَّ ذَرْهُمْ} دعهم واتركهم {فِي خَوْضِهِمْ} باطلهم الذي يخوضون فيه(1/163)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{وَهَذَا كِتَابٌ} القرآن {أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كثير المنافع والفوائد {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ما تقدمه من الكتب {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة شرفها الله تعالى، وزادها فضلاً وسميت «أم القرى» لأن الناس يؤمونها، وهي قبلة أهل القرى، وأعظمها شأناً {وَمَنْ حَوْلَهَا} كل الدنيا ومن فيها من العقلاء؛ وذلك لأن ما حول مكة: هي الجهات الأربع التي يتكون منها كل الأرض ومن عليها {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المحافظة على الصلاة: ملازمتها في أوقاتها(1/164)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الكافرون {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أهواله وسكراته {وَالْمَلائِكَةُ} الموكلون بقبض أرواحهم {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بالتعذيب؛ ويقولون لهم {أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ} أرواحكم، أي خلصوها من عذابنا إن أمكنكم، أو هو كناية عن صعوبة خروج أرواح الكافرين؛ وقد ورد أن أرواح الكافرين تنزع انتزاعاً شديداً، وتسل من جسومهم، كما يسل الحرير من الشوك؛ أما روح المؤمن فتنشط للخروج فرحاً بلقاء ربها أو يقال لهم هذا القول يوم القيامة: {أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ} من النار إن استطعتم؛ يدل عليه ما بعده {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الهوان(1/164)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} منفردين بلا مال ولا معين {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} ملكناكم في الدنيا: من الأموال والنعم.
[ص:165] {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} آلهتكم؛ وقد كنتم تقولون عنها: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ} أي في استحقاق عبادتكم {شُرَكَآءَ} لله {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي تشتت جمعكم {وَضَلَّ} غاب {عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا من شفاعتها لكم(1/164)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ} عن النبات {وَالنَّوَى} عن النخل {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي النبات الغض من الحب اليابس {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} الحب اليابس من النبات، أو الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون(1/165)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ} خالق نور النهار {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً} تسكن فيه سائر المخلوقات، وتهدأ مما أصابها من تعب النهار ووصبه جعل {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أي جعلهما تعالى - فضلاً عن كونهما للإنارة والنفع العام - فهما لمعرفة الحساب الزمني؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}(1/165)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} المستقر: رحم المرأة. والمستودع: صلب الرجل. أو المستقر: من خلق من الخلائق؛ فاستقر في الأرض، والمستودع: من لم يخلق بعد. وزعم بعضهم أن المستقر: الرحم. والمستودع: القبر. وهو ليس بشيء؛ إذ أن المقام مقام إنشاء: «إن الله فالق الحب والنوى. فالق الإصباح وهو الذي أنشأكم.(1/165)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه» {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} أي أخضر {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي من الخضر {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} متراكماً؛ بعضه فوق بعض؛ وهو السنبل وما يشبهه {قِنْوَانٌ} جمع قنو؛ وهو العذق؛ وهو من التمر: كالعنقود من العنب {دَانِيَةٌ} سهلة الجنى والمنال {وَجَنَّاتٍ} حدائق {مِّنْ أَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {مُشْتَبِهاً} في الشجر واللون {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم؛ فمنه الحلو والمز والحامض، وجميع ذلك {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} فجلَّ الصانع المبدع
[ص:166] {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} كيف يكون فجاً؛ لا طعم فيه، ولا لون له، ولا رائحة انظروا بعد ذلك إلى نضجه؛ بعد أن تتحول مرارة الثمرة إلى حلاوة، ويابسها إلى طراوة، وخضرتها إلى احمرار أو اصفرار؛ حتى تلذ في الطعم، وتلين في القضم، وتسهل في الهضم؛ وهذا كله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}(1/165)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} أي وجعلوا الجن شركاءلله في العبادة؛ وقد يراد بالجن: الشياطين. وذلك باتباعهم فيما يوحون به إليهم، ويوسوسون {وَخَلَقَهُمْ} أي وقد خلقهم {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي اختلقوا {بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بحقيقة ما يقولون. واختلاقهم البنين والبنات: قولهم: الملائكة بناتالله. وقول النصارى: عيسى ابن الله، وقول اليهود: عزير ابن الله {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس {وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)} مبدعهما(1/166)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{إِنِّي} كيف {يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} زوجة(1/166)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ذلِكُمْ} الموصوف بهذه الصفات {اللَّهُ رَبُّكُمُ} الذي خلقكم(1/166)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أي لا تراه الأبصار، ولا تحيط به {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} أي يرى أصحاب الأبصار، ويحيط بسائر المرئيات {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الْخَبِيرُ} بدقائق الأمور(1/166)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ} جمع بصيرة؛ وهي نور القلب. أي جاءكم من الوحي والآيات؛ ما هو للقلوب بمنزلة البصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ} آمن وانقى {فَلِنَفْسِهِ} لأن ثواب إيمانه وتقواه عائد إليها {وَمَنْ عَمِيَ} كفر {فَعَلَيْهَا} لأن إثم كفره عائد عليها أيضاً(1/166)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي قرأت الكتب السابقة ونقلت عنها ما تتلوه علينا اليوم. يقولون هذا وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسَّلام أمي لا يقرأ ولا يكتب
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}(1/166)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ} أي لو أراد تعالى أن يلزمهم بالإيمان ويجبرهم على الطاعة لفعل؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعلهم أحراراً مستقلين في اختيار ما يشاءون حتى يكونوا مسؤولين عن عملهم، مؤاخذين على جرمهم(1/166)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً} اعتداءً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بما يجبلله تعالى {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} من أمم الكفار {عَمَلَهُمْ} أي زيناه في زعمهم؛ حيث قالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} وهو كقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}(1/167)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غاية اجتهادهم في الأيمان {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} معجزة {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} لا ينزلها بإرادتكم أو إرادتي؛ بل ينزلها متى شاء، وحيث شاء {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فقد أنزل الله تعالى على الأمم الآيات تلو الآيات، والمعجزات تلو المعجزات؛ فلم يؤمنوا بها؛ بل ازدادوا كفراً وعناداً؛ وقالوا: هذا سحر مبين(1/167)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} قلوبهم؛ فلا يؤمنوا كما آمن الناس {وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يروا الحقائق التي يراها المؤمنون؛ وذلك عقوبة لهم {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين ظهرت آياته البينات، وحججه الظاهرات (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {وَنَذَرُهُمْ} ندعهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين(1/167)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ}
كما قالوا: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما قالوا {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا} {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} جمع قبيل؛ أي أفواجاً. كما قالوا {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} أي إنا لو أجبناهم لما سألوا، وحققنا لهم كل ما اقترحوا {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} إيمانهم؛ فليلجأوا إلى ساحته، وليهرعوا إلى طاعته(1/167)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{وَكَذلِكَ} كما أن لك أعداء من المشركين {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} ممن سبقك {عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يزين بعضهم إلى بعض: فتزين شياطين الجن لشياطين الإنس، وتزين شياطين الإنس للإنس بما يوحون به من شرور وفجور وقد قدم تعالى شياطين الإنس على شياطين الجن؛ لأنهم على الشر أقدر؛ وعلى ما يورد الجحيم أطوع؛ وشيطان الجن - مهما علت مرتبته؛ وسمت مكانته؛ في الشر والتزيين والتغرير - فإنك بالاستعاذة منه تمحقه، وبتلاوة القرآن تهلكه أما شيطان الإنس فإنك لو قرأت عليه ما بين دفتي المصحف؛ لما تخلصت منه، ولا ابتعدت عنه إلا إن أعاذك منه اللطيف الخبير، وأنجاك من كيده وشروره وقد قال: «قرناء السوء شر من شياطين الجن» {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ما زينوه من قولهم ووسوستهم في الشر، وإغرائهم على المعاصي {غُرُوراً} خداعاً وباطلاً {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله لمنعهم من الإيحاء والوسوسة؛ ولكن الله تركهم امتحاناً لعباده؛ ليعلم أصحاب الإيمان الراسخ؛ المقيمين على العهد، الحافظين للود {فَذَرْهُمْ} دعهم واتركهم(1/167)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{وَلِتَصْغَى} تميل وتتجه {إِلَيْهِ} إلى ما توحى به شياطين الإنس والجن {أَفْئِدَةُ} قلوب {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أما من آمن بها؛ فإنه لا يصغي قلبه، ولا يلتفت إلى ما توحي به الشياطين، ولا يرضاه، ولا يقترف ما يغضب مولاه
{وَلِيَرْضَوْهُ} يرضوا بما أوحت به الشياطين {وَلِيَقْتَرِفُواْ} ليكتسبوا. والاقتراف: ارتكاب الإثم(1/168)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} القرآن {مُفَصَّلاً} مبيناً محكماً {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} هم من آمن من اليهود والنصارى {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} وذلك لما لمسوه فيه من الصدق، ولما علموه عنه من كتبهم السابقة «التوراة والإنجيل» {فَلاَ تَكُونَنَّ} أيها السامع {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين(1/168)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} القرآن {صِدْقاً وَعَدْلاً} كل ما فيه من قصص وأخبار: مشتمل على الصدق، وكل ما فيه من أوامر ونواه، وقضاء وأحكام: مشتمل على العدل {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا أصدق مما جاء فيه فيتبع؛ ولا أعدل من أوامره فيطاع؛ بل كل ما فيه واجب الطاعة والاتباع عقلاً؛ فلا يصح تركه إلى أصدق منه، ولا يجوز تبديله بما هو أعدل منه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} وهو جل شأنه أصدق الصادقين وأعدل العادلين {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأحوالكم(1/168)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي يضلوك عن الطريق المستقيم؛ الموصل إليه تعالى. وهذه الآية دليل على ما نراه من ضلال الغالبية العظمى وإضلالها وقد ورد ذلك الخطاب موجهاً إلى الأمة الإسلامية؛ في شخص إمامها ورسولها صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ وقد علم تعالى أنه لن يطيع أحداً من الضالين المضلين، وأنه لا سبيل لأحد منهم عليه - وقد وقاه الله تعالى كيد الكائدين، ووسوسة الشياطين، وإضلال المضلين - {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبع هؤلاء المضلون {إِلاَّ الظَّنَّ} وهو ظنهم بأن آباءهم كانوا على حق، وهم على آثارهم مقتدون
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون. والخرص: الكذب، والتخمين(1/168)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ} بيَّن {لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهو قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} من ذلك المحرم؛ فهو حلال أيضاً عند المجاعة المتلفة؛ بشرط عدم البغي والاعتداء {وَإِنَّ كَثِيراً} من المضلين {لَّيُضِلُّونَ} الناس عن الحق، وعن كل ما هو حلال مباح {بِأَهْوَائِهِم} و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بصحة ما يقولون؛ بل يضلون بسبب هواهم وميلهم؛ بغير استناد منهم إلى علم صحيح: كمن يحل بعض الشراب المحرم لميله إليه، ويحل الحشيش لتعوده عليه، أو كمن يفتي بغير علم ولا سند من كتاب أو سنة(1/168)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{وَذَرُواْ} اتركوا {ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} علانيته: كالقتل والسب، وسره: كالزنا والغيبة {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يكتسبون من الإثم(1/169)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الفسق: العصيان والترك لأمر الله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} يوسوسون {إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} من المشركين {لِيُجَادِلُوكُمْ} فيما أحله الله تعالى وحرمه وذلك بقولهم - في حل الميتة - كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتلهالله؟(1/169)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي كافراً فهديناه للإيمان؛ الذي هو حياة القلوب والنفوس {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} هو نور الإيمان واليقين؛ يهدي به الله تعالى أولياءه الصالحين أو هو نور العلم والمعرفة {يَمْشِي بِهِ} أي بهذا النور {فِي النَّاسِ} يهديهم بهديه، ويرشدهم إلى ما ينجيهم في دنياهم وأخراهم {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}
ظلمات الكفر والجهل والخطيئة. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} أي من هذه الظلمات. وكيف يخرج منها وهو لم يحاول الخروج، ولم يسع إليه، ولم يفكر فيه؟ {كَذلِكَ} كما زين للمؤمنين إيمانهم {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقد زين الله تعالى للمؤمنين أعمالهم، وللكافرين أعمالهم؛ بعد عرض الإيمان عليهم جميعاً: فآمن المؤمنون، وكفر الكافرون يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} فترى أن التزيين قد حصل بعد عدم الإيمان(1/169)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{وَكَذلِكَ} كما جعلنا في مكة صناديد قريش يمكرون فيها {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} أي جعلنا أكابرها مجرمين {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} بالصد عن الإيمان، وإفشاء الفجور والفساد، والابتعاد عن طرق السداد والرشاد {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وبال مكرهم عائد عليهم(1/169)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} دالة على صدق الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} لك {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أرادوا لعنهم الله أن يكونوا مثل أنبياء الله تعالى ورسله؛ فيمدهم بالآيات، ويخصهم بالمعجزات ونظيره قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} وذلك لمزيد كفرهم، وبالغ كبرهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيختار لها الأبرار الأطهار، لا الكفار الفجار؛ ويعد لحمل شريعته، صفوة خليقته فكلهم - عليهم الصلاة والسلام - من خيرة الأنام فكيف يختار معهم بعض الكفرة اللئام؛ الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وعبدوا من دونه الطواغيت، واختاروا العصيان على الإيمان، وعصوا الرحمن وأطاعوا الشيطان فهيهات هيهات لما يقولون {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} ذل وهوان.(1/169)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ}
أي يزيده على ضلاله الذي اختاره لنفسه وارتضاه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الحرج: شدة الضيق والانقباض {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} أي يتصعد فيها؛ وهو كناية عن بعد منال الإيمان، وعن تكلفه ما لا يطيقه، أو هو كناية عن الضيق الذي يأخذ بتلابيبه من كل جانب {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} العقاب والغضب {عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بالله، ولا يصدقون برسله(1/170)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{وَهَذَا} الإيمان {صِرَاطُ رَبِّكَ} طريقه: الذي رسمه لعباده، وارتضاه لهم؛ فمن حاد عنه: حاد بإرادته واختياره، ومن سلكه: فقد سلكه بإرادته وتوفيق ربه له(1/170)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ} الجنة: دار الأمن والسعادة والسلامة(1/170)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} المراد بهم الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ} أي أضللتم كثيراً منهم بإغوائهم {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} الذين أطاعوهم {مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} في الدنيا: استمتع الجن بطاعة الإنس وانقيادهم لهم، واستمتع الإنس بالشهوات التي زينتها لهم الشياطين {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} القيامة التي جعلتها موعداً لنا، أو الموت الذي جعلته نهاية لحياتنا واستمتاعنا(1/170)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} أي نجعلهم أولياء بعض؛ عقوبة لهم على ظلمهم، أو نسلط بعضهم على بعض فيهلكه {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يفعلون من المعاصي(1/170)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{وَغَرَّتْهُمُ} خدعتهم(1/171)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} منه لها؛ فتعالى الله عن الظلم وإنما هم ظلموا أنفسهم باتباع الهوى والشيطان، وانشغالهم بالحياة الدنيا وزخرفها، عن الآخرة ونعيمها {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} بدون رسول أو نذير(1/171)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{وَلِكُلِّ} من الجن والإنس {دَرَجَاتٌ}
في الجنة، أو دركات في النار {مِّمَّا عَمِلُواْ} من خير أو شر (انظر آية 31 من سورة الأحقاف)(1/171)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} يعطي من يشاء إعطاءه، ويرزق من يشاء رزقه بغير حساب؛ ورزقه تعالى ما له من نفاد وهو جل شأنه {ذُو الرَّحْمَةِ} الواسعة قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} جعلنا الله تعالى ممن وسعته رحمته، وتناولته مغفرته، وشملته عنايته ورعايته {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإهلاك أو بالموت {وَيَسْتَخْلِفُ} يخلق من يخلفكم على هذه الأرض؛ خلفاً آخر أطوع منكم(1/171)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} به؛ من العذاب والقيامة {لآتٍ} لا محالة {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عذابنا إذا أنزلناه(1/171)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي اعملوا على تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم في الكفر {إِنَّي عَامِلٌ} ما في استطاعتي من طاعة لربي، وإيمان به {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} غداً يوم القيامة؛ عند نزول نقمة الله {مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الآخرة(1/171)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي مما خلق. ذرأ الله الخلق: خلقهم. وذرأ الشيء: كثره {مِنَ الْحَرْثِ} الزرع {وَالأَنْعَامُ} الإبل والشاء؛ وتطلق على الإبل خاصة {نَصِيباً} قسماً وجزءاً {فَقَالُواْ هَذَآ} النصيب {للَّهِ بِزَعْمِهِمْ} وجعلوا منها أيضاً نصيباً، وقالوا: {وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} يعنون الأصنام {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ} قيل: كان إذا اختلط ما جعلوه لله بما جعلوه لشركائهم: تركوه، وإذا اختلط ما جعلوه لشركائهم بما جعلوهلله: أخذوه. وقد يكون المعنى: أن الله تعالى لا يقبل منهم شيئاً؛ فما جعلوه له فهو مردود عليهم، وغير مقبول منهم، وواصل إلى شركائهم؛ فلينتظروا ثوابه منهم لا من الله(1/171)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{وَكَذلِكَ} كما زين لهؤلاء المشركين أن جعلو الله نصيباً ولأصنامهم نصيباً {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ} بالوأد: زين لهم ذلك {شُرَكَآؤُهُمْ} من الشياطين؛ وسماهم تعالى شركاء: لأنهم يتبعونهم ويستمعون إليهم؛ كطاعتهم واستماعهملله؛ فهم بذلك - في نظرهم - شركاءلله في العبادة؛ أو المراد بالشركاء: أصدقاء السوء؛ الذين يزينون الكفر والمعاصي؛ فمنهم من يزين الوأد خشية الفقر، ومنهم من يزينه خشية فضيحة الزنا وهوان السبي زينوا ذلك لهم
[ص:172] {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم بهذا الجرم والإثم {وَلِيَلْبِسُواْ} ليخلطوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} فلا يعرفون ما أحله الله تعالى مما حرمه {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} ولكنه تعالى تركهم وشأنهم: خلق لهم عقولاً يفكرون بها، وبعث لهم رسلاً يهدونهم إلى ما ينفعهم، وأنزل عليهم كتباً يستضيئون بنورها، ويسيرون على هديها، وأبان لهم فيها ما يضرهم وما ينفعهم {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَذَرْهُمْ} دعهم يا محمد واتركهم {وَمَا يَفْتَرُونَ} وما يختلقون من باطلهم من جملة افترائهم وكفرهم أن {الأَنْعَامِ} على الأنعام والحرث التي وهبها الله تعالى لهم، وأحلها لمن شاء من عباده(1/171)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حرام {لاَّ يَطْعَمُهَآ} لا يأكلها {إِلاَّ مَن نَّشَآءُ} من خدمة الأوثان؛ وسدنة الأصنام {بِزَعْمِهِمْ} بباطلهم وكذبهم. والزعم: القول الحق، أو الباطل والكذب. وأكثر ما يستعمل في الباطل وفيما يشك فيه {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} أي حرم ركوبها؛ كالسائبة والبحيرة والحامي {سَيَجْزِيهِم} ربهم {بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عليه من أحكام لم ينزلها، وشرائع لم يشرعها(1/172)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ}
من الأجنة والألبان {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قيل: هي البحائر والسوائب؛ كانوا يخصون الذكران وحدهم بشرب ألبانها وأكل أولادها {وَإِن يَكُنْ} الجنين {مَّيْتَةً فَهُمْ} نساءً ورجالاً {فِيهِ شُرَكَآءُ} يأكلونه جميعاً {سَيَجْزِيهِم} ربهم {وَصْفَهُمْ} أي سيجزيهم عقوبة كذبهم وافترائهم {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم} خلق لكم وأبدع {جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} حدائق ذات أفنان وظلال {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} أي ثمره الذي يؤكل؛ يختلف في الطعم؛ فهذا حلو، وهذا حامض، وهذا من {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً} في الخلقة والشكل والأغصان والأوراق {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ} أي زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ} بدون تأخير؛ فقد وجب حق الفقير بالحصاد. وقيل: المراد بحقه: التصدق من الحب والثمار على الفقراء؛ وهو حق ثابت: مأمور به، مثاب عليه، معاقب على تركه وهل يجوز لك - أيها المؤمن الكريم - أن تنعم وعيالك برزقالله؛ دون أن تؤتي منه عيال الله؟ وهل يجوز لك - أيها المؤمن الرحيم - أن تبيت مطمئن النفس، ممتلىء البطن؛ والفقير بجوارك طاوي الكشح، متطلع إليك، حانق عليك؟
وقد تغالى بعض الصوفية؛ فقال: إن لكل نعمة حقاً، وأن مرتب الموظف يستحق حقه يوم قبضه؛ الذي هو «يوم حصاده».
[ص:173] {وَلاَ تُسْرِفُواْ} في حبس الزكاة عن أربابها، والحقوق عن أصحابها؛ إذ أن هذا هو منتهى الإسراف في البخل أو أريد بالإسراف: الخطأ في العطية؛ بأن يعطي من لا يستحق. وزعم قوم من المفسرين - أثابهم الله تعالى - أن الإسراف: مجاوزة القدر في الإعطاء؛ حتى يجحف صاحب المال بنفسه. وهو قول غير مستساغ؛ إذ أنه لا سرف في الخير وقد فاتهم أن الله تعالى أعقب ذلك بقوله {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وما من أحد يؤمن ب الله واليوم الآخر يستطيع أن يقول: إن الباذل ماله في سبيل مرضاتالله؛ مستوجب لغضبالله، والحرمان من محبته؛ وهو جل شأنه القائل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}.
يقول الله تعالى:(1/172)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي هو الذي أنشأ كل هذا بقدرته وعظمته؛ لا أنتم بحرثكم الأرض، ووضعكم البذر؛ ولو شاء لما أنشأها، ولجعلها قاحلة مجدبة؛ فالفضل له وحده لا لكم وهو جل شأنه مالكها ومالككم فما لكم إذا قيل لكم: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} أكلتم. وإذا قيل لكم: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} تغاضيتم وأعرضتم؟ فلا تبكوا إذا انتزعها منكم واستخلف عليها قوماً غيركم؛ يطيعون أمره، ويجتنبون نهيه ولا تقولوا عند حضور آجالكم {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ولو أخركم لعدتم لما نهيتم عنه، ولبخلتم بالخيرات، وأسرفتم في الملذات {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
فانظر - يا رعاك الله - كيف عبر تعالى بقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وتأمل واعلم أن للمال حقاً في أعناقنا؛ يأمرنا الله تعالى بأدائه لأربابه وانظر لمبلغ هذا النظام، الذي وضعه خالق الأنام؛ ومدى إنصافه وحسنه، والفائدة التي تعود على المعطى قبل العاطي، وعلى المنفق قبل المنفق عليه: نتملك الأرض فتنبت لنا من خيراتها، بغير حول لنا ولا قوة؛ بل بقدرته تعالى وإرادته ويأمرنا الرزاق الوهاب لسائر هذه النعم أن نعطي الفقير حقه فيها - ولو شاء لجعله المالك لها، ونحن الفقراء إلى قليل العطاء - فنأبى إلا أن نشح ونبخل؛ فنورد أنفسنا النيران، ويحل بوادينا الخسران فانظر بربك أيها المنصف لو أن الخلائق عملت بإرشاد الخالق
[ص:174] وأخرجت ما في ذمتها من الصدقات والزكاة؛ لما بقي على ظهرها إنسان يشتكي الفقر والحرمان؛ ولحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق وإذا نظرت - بعين التدبر - إلى معظم الجرائم لوجدت أن السبب الأول؛ بل السبب الأوحد فيها هو المال والمال وحده: يتمتع الغني بسائر ضروب التمتع، ويكسر قلب الفقير بما يظهره من نفيس الملبس، ولذيذ المطعم، وفاره المركب فيدفعه الفقر، والحقد، والجوع إلى ارتكاب السرقة، والنهب، والسلب، والقتل ويعلم الله تعالى وحده أن تبعة هذه الآثام لا تقع على الجاني؛ بل على المجنى عليه فليبادر من يتقي الله ويخشاه، ويحذر عقاب آخرته وشقاء دنياه؛ وليخرج ما في عنقه من زكاة ماله، وصدقات أوجبها عليه ربه؛ عن طيب خاطر وصفاء نية؛ ففي هذا النعيم الأكبر، والخير الأوفر(1/173)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً} أي تتخذونها لحمل الأثقال أي تتخذون من أصوافها وأوبارها ما تفترشونه. وقيل: الحمولة: الأنعام الكبيرة التي يحمل عليها. والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد. وقيل: الحمولة: ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير وغير ذلك. والفرش: الغنم والمعز(1/174)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} هو بيان للحمولة والفرش؛ أي ومن الأنعام أنشأ تعالى لكم ثمانية أزواج {مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} زوجين اثنين؛ يريد الذكر والأنثى؛ فذلك أربعة أزواج؛ لأن كل واحد من الاثنين زوج للآخر؛ والواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه: سمي كل واحد منهما زوجاً، وهما معاً زوجان؛ يدل على ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما حرموا - من الحرث والأنعام - اتباعاً للشيطان {ءَآلذَّكَرَيْنِ} من الضأن والمعز {حَرَّمَ} ربكم {أَمِ الأُنثَيَيْنِ} منهما {مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} وذلك لأنهم - لعنهم الله تعالى - كانوا يحرمون الذكران تارة، والإناث تارة، وما اشتملت عليه أرحامهما تارة أخرى؛ وكذلك كان شأنهم بالنسبة للإبل والبقر(1/174)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} حضوراً مشاهدين {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} التحريم الذي تزعمونه(1/174)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي على آكل يأكله {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} قذر ونجس. والرجس: كل عمل يؤدي إلى العذاب والعقاب {أَوْ فِسْقاً} الفسق: الفجور، والخروج عن الطاعة {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
[ص:175] أي ذكر اسم غير الله تعالى عليه؛ وسمي «فسقاً» لأنه خروج عن طاعة الله تعالى، وإعلاء لاسم غير اسمه، في موضع يجب ذكر اسمه تعالى فيه؛ وقد كانوا في الجاهلية يذبحون على النصب، ويذكرون اسم آلهتهم. ويقاس عليه ما يفعله الآن جهلة العوام من تسمية الأولياء عند الذبح؛ خاصة في الموالد التي يقيمونها
{فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكل شيء من هذه المحرمات؛ كأن أوشك على الهلاك جوعاً، ولم يجد ما يتبلغ به سوى ميتة، أو لحم خنزير، أو دماً، أو ذبيحة أُهل لغير الله بها؛ فله أن يتناول منها القدر الذي يسد رمقه فحسب؛ ولا يزيد فيبلغ بما يأكل حد الشبع؛ وبشرط أن يكون {غَيْرَ بَاغٍ} على أحد من جماعة المسلمين: كأن يكون قاطعاً للطريق، أو مبتغياً لإثم؛ وأوشك من جوعه على التلف؛ فإنه ليس له أن يتمتع برخصة الله تعالى؛ إلا أن يتوب وينيب؛ كما أنه ليس له أن يأخذ برخصة الإفطار في رمضان وقصر الصلاة؛ في حالة السفر {وَلاَ عَادٍ} معتد على آخر؛ بأن يختطف قوته من هذا المأكول الحرام المحلل. أو هو {غَيْرَ بَاغٍ} متلذذ بما يأكل؛ بغير ضرورة ملحة {وَلاَ عَادٍ} متجاوز حاجته التي تدفع عنه الموت(1/174)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وهو كل ما لم يكن منفرج الأصابع من البهائم والطير: كالإبل، والأوز والبط، وأشباهها {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} ظاهر الآية يدل على أن التحريم تناول سائر شحومهما {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} من الشحم {أَوِ الْحَوَايَآ} الأمعاء؛ أي ما حملته الأمعاء من الشحم {أَوْ مَا اخْتَلَطَ} من الشحم {بِعَظْمٍ} فجميع ذلك مباح. وقيل: إنما حرم الله تعالى الثروب خاصة؛ وهي الشحم الرقيق يكون على الكرش والأمعاء {ذلِكَ} التحريم {جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} أي بسبب بغيهم وكفرهم(1/175)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} لا حد لها، تسع كل شيء {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه؛ رغم رحمته الواسعة {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فإن من تمام رحمته تعالى الانتصاف من المجرمين، والانتقام من الظالمين للمظلومين(1/175)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ}
أشرك فهو راض عن هذا الشرك؛ ولو لم يرضه {مَآ أَشْرَكْنَا} وهي حجة الكافرين والمعاندين في سائر العصور: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا} {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} يحاجون بذلك ربهم؛ وحجته تعالى قائمة عليهم؛ وله تعالى الحجة البالغة: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {كَذلِكَ} أي مثل ذلك التكذيب {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وقالوا مثل قولهم {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} عذابنا {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} بأن الله تعالى راضٍ عن
[ص:176] شرككم وشرك آبائكم؟ {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذبون(1/175)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} على الناس جميعاً؛ حيث لا حجة لأحد عليه؛ وحجته تعالى تقطع كل المعاذير، وتزيل سائر الشكوك: ألم يرسل لعباده الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ ويسلكها في قلوب الكافرين لعلهم يؤمنون؟ فأي عذر بعد ذلك للجاحد المعاند؟ ألم يبذل له خالقه كل السبل الموصلة إلى معرفته فأعرض عنها واتبع هواه؟ ألم يقم له الدليل تلو الدليل على قدرته ووحدانيته فأبى إلا ضلالاً وخبالاً؟ وهل بعد هذا تقوم له حجة بقوله {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ لقد قال العظيم الكريم {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} فكيف يريد ما لا يرضى؟ بل كيف يعذب على ما أراد؟ فيا أيها الكافر الفاجر؛ المشرك بربه، المجترىء على خالقه: لقد هداك ربك إلى معرفته فأنكرت، ودعاك إلى رحمته فأعرضت، وسلك الإيمان في قلبك فأبيت وبعد ذلك تريد أن تتستر وراء منطق الجهال، وقول الضلال: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} ونسيت قول الحكيم العليم: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} (
انظر آيتي 200 من سورة الشعراء، و28 من سورة التكوير)(1/176)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} أي هاتوا شهداءكم {فَإِن شَهِدُواْ} أي فإن شهد شهداؤهم زوراً بأن الله تعالى حرم ما حرموه من حرثهم وأنعامهم {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تجالسهم ولا تخاطبهم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} لأنهم تركوا الحق الذي أنزل إليك، واتبعوا أهواءهم {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً. والعدل: المثل(1/176)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} من فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وخوف الإملاق: كفر بالخلاق فقد خلق الله تعالى الخلق وتكفل بأرزاقهم - ولو كانوا في مهمه قفر - ألا ترى أنه تعالى يرزق الحشرة داخل الصخر الأصم؟ {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ} الكبائر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالقتل، والسب {وَمَا بَطَنَ} كالزنا والغيبة. وقيل: أريد به سر الزنا وعلانيته {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الذي يوجب قتلها؛ كقتل القاتل، أو القتل دفاعاً عن النفس، وأمثال ذلك(1/176)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهي أن تستثمروه له، وأن تؤدوا زكاته {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} بلوغ الأشد: هو قوة البدن، وزيادة المعرفة بالتجربة؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وهو أيضاً بلوغ الحلم {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا نكلفها إلا طاقتها - في إيفاء الكيل والوزن - وقد جاء ذلك الضابط خشية التحرج والتأثم؛ فيضطر البائع إلى زيادة المكيل والموزون، ويضطر المشتري بدوره إلى أخذ ما يقل عن استحقاقه
[ص:177] فيهما؛ وبذلك تضيق صدورهما؛ لذلك أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان في حدود الطاقة البشرية؛ بغير ما ظلم ولا غبن {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}
أي إذا حكمتم بين الناس، أو أديتم شهادة؛ فاحكموا بينهم وأدوا الشهادة بالعدل {وَلَوْ كَانَ} المحكوم عليه أو المشهود ضده {ذَا قُرْبَى} وذلك عهد الله تعالى عهد به إليكم {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} لتؤجروا، وتذوقوا حلاوة الطاعة وعزها، وتتجنبوا مرارة المعصية وذلها (انظر آية 14 من سورة لقمان)(1/176)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{وَأَنَّ هَذَا} الذي أمرتكم به، وعاهدتكم عليه؛ من عدم الإشراك بي، وبالإحسان إلى الوالدين، وبالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، وعن قربان الفواحش {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وعن قتل النفس {إِلاَّ بِالْحَقِّ} وعن قربان مال اليتيم {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وبالوفاء بالكيل والميزان، وبالعدل في الحكم والشهادة؛ فجميع ذلك {صِرَاطِي} أي طريقي {مُّسْتَقِيماً} واضحاً، موصلاً إلى خيري الدنيا والآخرة {فَاتَّبَعُوهُ} لتؤجروا {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} الطرق المختلفة، والأهواء المتباينة، والديانات المتعددة {فَتَفَرَّقَ} فتتفرق وتميل {بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} عن طريقه تعالى الذي وصفه بالاستقامة، وبالتالي يكون غيره مائلاً عن الحق معوجاً قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}(1/177)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي تماماً للنعمة على الذي أحسن الطاعة، وتجنب المعصية {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجون إليه(1/177)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} هو القرآن: كبير النفع، كثير الخير، عظيم البركة(1/177)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{أَن تَقُولُواْ} أي لئلا تقولوا إذا لم ننزل عليكم القرآن {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} هما اليهود والنصارى؛ وقد نزل عليهما أشهر كتابين - بعد القرآن - نزلا من عندالله: التوراة والإنجيل
{وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} أي عن دراسة هذه الأمم لكتابيها {لَغَافِلِينَ} لأنهما لم ينزلا بلساننا، ولا بلغتنا، ولم نؤمر باتباعهما. فأنزل الله القرآن قطعاً لهذه الحجة؛ ومنها يعلم أن الله تعالى لا يؤاخذ من لم يصلهم كتاب، ولم ينذرهم رسول؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(1/177)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ} الذي أنزل عليهم {لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} أي لكنا أشد استقامة، واتباعاً لما في الكتاب، وأطوعلله من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا؛ قال تعالى رداً على هذه الحجة المفترضة {فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} كتاب عربي بلسانكم، مبين لما تحتاجون إليه {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} لمن عمل به واتبعه {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} بعد إذ جاءته {وَصَدَفَ} أعرض وصد {عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
[ص:178] آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} أسوأه(1/177)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يوم القيامة للحساب والجزاء {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} علامات الساعة؛ كطلوع الشمس من مغربها؛ وحينئذٍ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} أي من قبل حضور الموت، وظهور علامات القيامة {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وهو الإخلاص في الإيمان(1/178)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} وهم اليهود والنصارى {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً متباينة {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي لست مسؤولاً عما فعلوا. وقيل: عنى بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً: أهل البدع والضلال من هذه الأمة؛ الذين اتبعوا ما تشابه من القرآن، وأولوه طبقاً لأهوائهم {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ} أي عاقبة أمرهم {إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فيجازيهم عليه {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}(1/178)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} المراد بالعشر: الكثرة دون العدد؛ فقد يبلغ الجزاء ما لا يحصره حد، ولا يحصيه عد واقرأ إن شئت قول المنان الوهاب، المعطي من يشاء بغير حساب: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (انظر آية 261 من سورة البقرة)(1/178)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{صِرَاطِ} طريق {دِيناً قِيَماً} مستقيماً لا عوج فيه؛ و {قَيِّماً} قيماً؛ وبه قرأ سائر القراء عدا الكوفيين وابن عامر {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مسلماً {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
بل كان أول الهادمين للشرك، المستدلين على الوحدانية بالعقل والمنطق والتدبر (انظر الآيات 76 وما بعدها من هذه السورة)(1/178)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} عباداتي(1/178)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{وَبِذلِكَ أُمِرْتُ} من ربي ومن عقلي الذي وهبنيه وأكرمني به(1/178)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} إثماً {إِلاَّ عَلَيْهَا} أي لا يقع وبال إثمها إلا عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الوزر: الإثم، والحمل الثقيل؛ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى(1/178)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ} جمع خليفة {الأَرْضِ} أي أهلك من سبقكم، واستخلفكم مكانهم {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في العلم والجاه والمال والسطوة {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُمْ} فيما أعطاكم من نعمه؛ وليعلم - علم ظهور - من أطاعه فيما آتاه، وأحسن فيما وهبه {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن عصاه وخالفه؛ فليبادر من ابتلى بالعصيان والحرمان إلى الرجوع إلى ربه، والمآب إلى خالقه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} لمن تاب وأناب {رَّحِيمٌ} به؛ فلا يؤاخذه بما سلف من أمره؛ تفضلاً منه تعالى ورحمة بخليقته(1/178)
سورة الأعراف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/179)
المص (1)
{المص} (انظر آية 1 من سورة البقرة)(1/179)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن الكريم {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ضيق {مِنْهُ} أي لا يكن في صدرك غم أو ضيق من عدم إيمانهم بما أبلغته إليهم من القرآن المنزل عليك؛ وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} {لِتُنذِرَ بِهِ} أي {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ} {وَذِكْرَى} تذكيراً {لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(1/179)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَاءَ} تطيعونهم في معصيته تعالى والكفر به(1/179)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} ظالمة {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتاً} ليلاً {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أي وقت القيلولة. والمعنى: فجاءها عذابنا ليلاً أو نهاراً؛ كما نريد(1/179)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم وتضرعهم {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} حين جاءهم عذابنا(1/179)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم عما فعلوه من عصيان رسلهم، وكفرهم بربهم {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عما أجيبوا به، وما لاقوه من عنت وتكذيب(1/179)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} لنخبرنهم بما فعلوه {بِعِلْمِ} منا؛ لأنا حاضرون معهم، مشاهدون لأعمالهم(1/179)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{وَالْوَزْنُ} للأعمال الحسنة أو السيئة {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {الْحَقِّ} العدل؛ لا زيادة في السيئات، ولا نقصان للحسنات (انظر آية 47 من سورة الأنبياء) {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي ما يوزن له من الحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
الفائزون(1/179)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} حرموها من النعيم، وأضاعوها في الجحيم {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} أي يجحدون(1/179)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلناكم متمكنين منها، قادرين عليها؛ ذوي مكانة فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا} أي في الأرض {مَعَايِشَ} أي أسباباً للمعيشة؛ من مطعم ومشرب وملبس؛ فضلاً من لدنه تعالى(1/179)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أصلكم وأباكم آدم من طين {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي صورنا آدم في صورته الإنسانية، ونفخنا فيه الروح. أو يكون معنى {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: إشارة إلى حكمه تعالى وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم - منذ بدايته حتى نهايته - وتصويره لهم على حقيقتهم التي علمها قبل أن يصورهم، وإثبات جميع ذلك في اللوح المحفوظ؛ الذي أثبت فيه تعالى كل ما هو كائن {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} كان الأمر بالسجود لما خلقه الله تعالى بيديه؛ لا لأن آدم مستوجب
[ص:180] للسجود مستحق له؛ قال تعالى: {يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقد ابتدأ اللعين، يحاجّ رب العالمين؛ فأهلك نفسه ومن اتبعه إلى يوم الدين(1/179)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ظناً منه أن النار جسم شفاف نوراني، والتراب جسم كثيف ظلماني؛ وهو أول من قال بالقياس؛ وفاته أن القياس لا يجوز مع صريح النص؛ فقد أمره تعالى بالسجود وهو عالم أنه مخلوق من نار، وأن آدم مخلوق من تراب؛ وهو جل شأنه {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ}(1/180)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} فانزل من الجنة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} دل ذلك على أن التفاخر بالأنساب من أشد الكبر {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي من أهل الصغار؛ وهو الذل والهوان؛ وهكذا كان الجزاء من جنس العمل: لما تكبر إبليس وتعالى على أمرالله: أذله الله تعالى، وألحق به الصغار والهوان؛ وطرده من جنته، وحرمه من رحمته(1/180)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قَالَ} إبليس لربه {أَنظِرْنِي} أي أمهلني(1/180)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أضللتني؛ أي بإغوائك لي؛ وهذه إحدى مكائد الشيطان اللعين؛ حيث ينسب الإضلال لرب العالمين إذ أنه تعالى لم يضله إلا بعد أن ضل بنفسه، وانحط إلى درك المخالفة، وجادل ربه تعالى مجادلة الند للند، وعاب خلقه وصنعه، وعصى أمره ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس، ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس وينسبون الأضلال لهادي الضلال، والإغواء لمن ينهى عن الغي ويعاقب عليه؛ ويقولون: إن إبليس أعلم ب الله ممن ينفي عن ربه الإضلال والإغواء (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي لبني آدم {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي أمنعهم عن الطريق القويم الموصل إليك(1/180)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي من قبل الآخرة؛ التي هي أمامهم وبين أيديهم؛ أشككهم فيها، وأزين لهم عدم مجيئها وأنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قبل الدنيا؛ لأنها وراءهم؛ أحببهم فيها، وأزيدهم تمسكاً بها {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق؛ لأنه يوصف باليمين؛ أزين لهم أكله، وأشبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من قبل الباطل؛ أشهي لهم المعاصي، وأدفعهم إلى ارتكابها
لقد جاءك إبليس يا ابن آدم من كل جانب، ومن كل وجهة؛ لكنه لم يأتك من فوقك؛ فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمته ورضوانه ومغفرته، فهلم إلى ربك، ادعه يستجب لك، واطلب منه أن ينجيك من إبليس ومن ترصده لك، وإيقاعه بك فهو وحده القادر على حمايتك وعصمتك عصمنا الله تعالى من المهالك، وأعاذنا ممن جعله فتنة للناس ولم يجعل له سلطاناً عليهم، وأذل جنده، وأضعف كيده {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(1/180)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً} معيباً محقراً {مَّدْحُوراً} مطروداً(1/180)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{وَيَا آدَمُ
[ص:181] اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} حواء {الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} فيها {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أيَّ شجرة؛ نهاهما ربهما عنها امتحاناً لهما وابتلاء؛ وليسجل عليهما ضعفهما، وليلجأ إليه بالاستغفار، ويجأرا إليه بالتضرع {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} لأنفسهم بالعصيان (انظر آية 35 من سورة البقرة)(1/180)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ} استتر واختفى {سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ} عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره كانت وسوسته بأن {قَالَ} لهما {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي كراهة أن تكونا ضمن الملائكة المقربين {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} الباقين أبداً(1/181)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وَقَاسَمَهُمَآ} حلف لهما على صحة ما يقول(1/181)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{فَدَلاَّهُمَا} أهبطهما من درجات الجنة الرفيعة العالية، إلى دركات الأرض الوضيعة السافلة {بِغُرُورٍ} أي غرر بهما وخدعهما؛ وما كانا يتوهمان أن مخلوقاً يقسم ب الله تعالى كاذباً {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} التي نهيا عن الأكل منها {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} جعلا يلزقان ويشدان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل: هو ورق التين.
هذا وقد زعم بعض من لاقيت من المتكلمين أن قصة الأكل من الشجرة ليس على حقيقته؛ بل هو عن طريق المجاز: وقد أريد به الالتقاء الذي يتم بين الرجل وزوجه، وأن قول إبليس {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} هو خلود آدم وحواء بأبنائهما إلى يوم القيامة وقوله: {وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} هو ملك الدنيا، والخلافة فيها؛ وأن الشجرة قد تكون على حقيقتها وأن ما تم بينهما كان تحتها وفي ظلها؛ واستدل على رأيه بما بدا لهما من سوءاتهما عند الالتقاء - المشار إليه بالأكل من الشجرة - وهو زعم مخالف لجميع ما بأيدينا من أقوال المفسرين؛ ولم يبلغ بعد حد الإقناع الذي يلزمنا بالقول به، والدعوة إليه(1/181)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} بعصيانك {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} خطيئتنا {وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الهالكين وقد أراد تعالى بإيراد تلك القصة على هذا الوجه: أن يعلمنا كيف يخسر المعاند «إبليس» نفسه، ويوردها موارد الهلكة، وكيف ينجو المعترف بذنبه، اللاجىء إلى ربه «آدم» فقد {اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}(1/181)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{قَالَ اهْبِطُواْ} انزلوا من الجنة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} المقصود: آدم وذريته، والشيطان وقبيله؛ أو بعض ذرية آدم لبعضها أعداء {وَلَكُمْ} جميعاً {فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} موضع قرار {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء الأجل(1/181)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{قَالَ فِيهَا} أي في الأرض {تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} تبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء(1/181)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} يستر عوراتكم التي أراد الشيطان إظهارها {وَرِيشاً}
[ص:182] لباساً للزينة {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الذي يقي الجسم مما يؤذيه من الحر والبرد، أو هو لباس الحرب وقيل: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}
الإيمان وخشية الله تعالى بدليل قوله تعالى {ذلِكَ خَيْرٌ} أي لباس التقوى - الذي يقي عذاب الله تعالى وغضبه - خير من كل لباس؛ و {ذلِكَ} اللباس الذي أنزلناه عليكم ليواري سوءاتكم {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وحدانيته؛ فمن المعلوم أن اللباس لا يعدو أنواعاً ثلاثة؛ كلها تدل على قدرته تعالى، ومزيد لطفه وإبداعه؛ فالصوف: من أشعار الأنعام وأوبارها، والقطن والكتان: مما تنتجه الأرض من خيراتها، والحرير: تنتجه وتنسجه حشرة من حشرات الأرض؛ بوحي من ربها، وإرشاد من خالقها؛ وجميع ذلك - من حيوان ونبات - مسخر من عند الله تعالى لو أراد منعه لامتنع؛ فتعالى المنعم المتفضل فما أروع عظاته، وما أبدع آياته(1/181)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} احذروا لئلا يضلنكم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} معشره وجنوده {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} لأنهم أجسام شفافة لا ترى {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي قرناء لهم وأعواناً(1/182)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
{وَإِذَا فَعَلُواْ} أي إذا فعل الذين لا يؤمنون {فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} في حين أن تقليد المذنب في ذنبه، والآثم في إثمه لا يقوم عذراً للمقلد {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} احتجوا بتقليد الجهال، وافتروا على ذي الجلال وظنوا أن علم الله تعالى بكفرهم أمر منه به، ورضا عنه(1/182)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بالعدل؛ فيجب اتباع أمره؛ لا معاندته {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي توجهوا بكليتكم إليه، وأخلصوا نفوسكم عند كل سجود. أو أقيموا وجوهكم بالدعاء له في مواطن الصلاة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وكان ذلك عند دخوله المحراب {وَادْعُوهُ} اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين له العبادة؛ لأن العبادة بلا إخلاص كلا عبادة (انظر آية 17 من سورة البقرة) {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}
أي كما بدأكم من العدم، يعيدكم بعد العدم(1/182)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{فَرِيقاً هَدَى} الله بهدايته {وَفَرِيقاً حَقَّ} وجب {عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} استوجبوها بانصرافهم عن نداء الحق؛ ونبذهم كلام ربهم وراء ظهورهم؛ ولم يوجب ربهم الضلالة عليهم ظلماً لهم؛ وكيف لا يستحقونها وقد وصفهم الله تعالى بقوله {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ} يوالونهم ويعبدونهم {مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} فحق عليهم غضب ربهم، ووجب انتقامه منهم؛ بتركهم في ضلالهم يعمهون(1/182)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها؛ قيل: إنهم كانوا يطوفون بالبيت عرايا فنزلت. {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} مما أحله الله {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتناول ما حرم. أو {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} ما يكفي لحفظ
[ص:183] أودكم، وبقاء حياتكم {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بالزيادة على ذلك؛ ولا يجوز لإنسان يؤمن ب الله واليوم الآخر أن يطعم هو وأولاده فاخر الطعام، وجاره يتضور جوعاً، ويفتقر إلى الخبز القفار؛ وكفى بالمرء سرفاً أن ينيل بطنه كل ما تشتهي وقد جرت عادة أفاضل القوم على أن يطعمون الغير ما يشتهونه هم، ويحرمون أنفسهم مما يبتغون؛ زجراً لها وتأديباً وهذا إذا جاز في شريعتهم فإنه غير ملزم لغيرهم؛ لأن الله تعالى لم يكلف الناس ما يشق عليهم(1/182)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وإنما هم حرموا على أنفسهم الطيبات، ليحظوا بالخيرات، ولم يطلقوا إسارها ليأمنوا عثارها وليصدق عليهم قول الحليم الكريم {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أن زينة الله والطيبات من الرزق ستكون يوم القيامة خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. كيف لا؛ وقد أطعموا الطعام على حبه، وجعلوا هواهم تحت أرجلهم ورضا ربهم نصب أعينهم؛ وآثروا غيرهم على أنفسهم فاحرص - هديت وكفيت - على الإيثار لا الأثرة، والإنفاق لا الجمع، واحذر البطنة؛ فإنها تذهب الفطنة قال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شر من بطنه» وقد جمع القرآن الكريم في قوله تعالى:
{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} أصول الطب وخلاصة تجارب الأولين، وحكمة علوم الآخرين ويعتبر من أعظم قواعد حفظ الصحة. وعدم الإسراف في الأكل والشرب: وقاية من كثير من الأمراض الفتاكة؛ كأمراض القلب، والكبد، والسكر، والضغط العالي وتصلب الشرايين(1/183)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} جمع فاحشة؛ وهي القبائح {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالقتل والسب {وَمَا بَطَنَ} كالزنا والغيبة والنميمة {وَالإِثْمَ} المعصية {وَالْبَغْيَ} الظلم والكبر {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو دليلاً(1/183)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السابقة المكذبة {أَجَلٌ} وقت لنزول العذاب الذي قدره الله تعالى عليها {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وقت نزول العذاب المعد لاستئصالهم(1/183)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أي إن يجئكم {فَمَنِ اتَّقَى} آمن {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة(1/183)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ؛ من الرزق والأجل {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} ملائكة الموت {} أي قال لهم ملائكة الموت {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره؛ أي أين هم؟ هل يستطيعون كشف الضر عنكم، أو دفع الموت، أو تخليصكم من أيدينا؟ {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي غابوا عنا(1/183)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{قَالَ} لهم ربهم {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} مضت {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ}
أي تداركوا وتلاحقوا
[ص:184] واجتمعوا {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} أي الأمم المتأخرة {لأُولاَهُمْ} لمن تقدمهم من الأمم {رَبَّنَا هَؤُلاءِ} المتقدمين {أَضَلُّونَا} لأنهم ضلوا قبلنا ابتداء فاتبعناهم في ضلالهم؛ ظناً منا أنهم مهتدون {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً {قَالَ لِكُلٍّ} منكما {ضِعْفَ} من العذاب: تابعاً ومتبوعاً، متقدماً ومتأخراً لأن الأولين أتتهم رسلنا فكذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، والآخرين أتتهم رسلنا فكذبوهم وآذوهم؛ فالأولين والآخرين في الكفر سواء فكما أن الخطأ لا يبرر الخطأ؛ كذلك كفر الأولين لا يصح أن يتخذ سبباً لكفر الآخرين و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(1/183)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{وَقَالَتْ أُولاَهُمْ} أي قالت الأمم المتقدمة {لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إذ أنكم كفرتم كما كفرنا؛ فلم يزد فضلكم علينا؛ لكنكم لو كنتم اعتبرتم بما حل بنا وآمنتم: كان ذلك فضلاً يميزكم علينا. وبذلك انقطعت حجة المتأخرين على المتقدمين، وتساووا في الكفر برب العالمين وحينئذ يقول رب العزة للفريقين {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تعملون(1/184)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} القرآن {وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ} فلم يؤمنوا بها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} أي لا يصعد لهم عمل صالح ولا يقبل منهم، أو لا تنزل لهم رحمة من السماء، أو لا تفتح لأرواحهم بعد الموت؛ بل يذهب بها إلى سجين؛ وما أدرك ما سجين {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} أبداً {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة؛ ويطلق الجمل أيضاً على حبل السفينة الغليظ، وعلى النخل؛ وقد علق الله تعالى دخولهم الجنة على مستحيل؛ فلن يدخل الجمل - سواء كان بعيراً، أو حبلا، أو نخلاً - في خرت الإبرة؛ كما علق تعالى رؤية موسى له؛ على استقرار الجبل فلم يستقر؛ بل جعله ربك دكاً وخرَّ موسى صعقاً(1/184)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أغطية؛ فكانت النار لهم وطاء وغطاء. وقد جعل الله تعالى العذاب مكان الأمن والدعة والراحة؛ عافانا الله تعالى برحمته من غضبه ونقمته(1/184)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي إن الإيمان والأعمال الصالحة في وسع كل إنسان؛ فلا حجة لمقصر، ولا عذر لمتخلف
وهل ترى من قصد إلى المسجد؛ فتوضأ وصلى وابتهل إلى ربه: خسر من ماله، أو من صحته، أو من عرضه؛ مثل من قصد إلى حانة أو ماخور؛ فخسر ماله وصحته وعرضه بل خسر أيضاً دنياه وآخرته وربما جره ذلك إلى أشد العقوبات، وأفتك الأمراض فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي الطريقين أهدى وأرخص وأيسر؟ طريق الجنة، أم طريق النار؟ وحقاً إن النار لتشرى بالنقود،
[ص:185] والجنة تنال بالمجان وقد تمت المنة، وكملت النعمة، وسقطت المعذرة، وقامت لله الحجة البالغة؛ بقوله {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1/184)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم} أي صدور أهل الجنة {مِّنْ غِلٍّ} حقد وعداوة، وذلك من تمام نعمته تعالى على عباده المؤمنين {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي هدانا لصالح العمل؛ الذي أدخلنا بسببه الجنة {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} إلى ذلك {لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قيل: إن أهل النار يرون مقاعدهم من الجنة لو كانوا مهتدين؛ فيكون ذلك حسرة عليهم، وتعذيباً لهم وإن أهل الجنة يرون مقاعدهم من النار لو لم يهتدوا؛ فيقولون {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {وَنُودُواْ} أي نادى الملائكة أصحاب الجنة
{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد {بَيْنَهُمْ} بين أهل النار {أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وتعريضها للعقاب(1/185)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه الحق {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يحاولون أن يجعلوا طريقه القويم ودينه المستقيم؛ معوجاً {وَهُمْ بِالآخِرَةِ} بالبعث والحساب والجزاء {كَافِرُونَ} لا يصدقون بمجيء القيامة(1/185)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{وَبَيْنَهُمَا} أي بين الجنة والنار، أو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار {حِجَابٍ} حاجز؛ وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو سور الأعراف المعني بقوله جل شأنه {وَعَلَى الأَعْرَافِ} جمع عرف؛ وهو كل مرتفع من الأرض، ومنه سمي عرف الديك: لارتفاعه. وقيل: سمي الأعراف: لأن أصحابه يعرفون الناس جميعاً: أهل الجنة وأهل النار {رِجَالٌ} هم أناس تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة؛ فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فجعلوا هنالك حتى يقضي الكريم فيهم بما يشاء؛ وسيدخلهم الجنة بفضله ومغفرته ورحمته وزعم بعضهم أن المقصود بأصحاب الأعراف: الملائكة؛ وأنهم يناقشون أهل النار بأمر ربهم؛ وهو قول يتجافى مع الصواب والمنطق؛ فقد عرفهم الله تعالى بقوله {رِجَالٌ} ولا يطلق هذا التعريف على ملائكة الرحمن وهؤلاء الرجال {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أصحاب الجنة وأصحاب النار {بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم؛ فأهل الجنة يعرفون ببياض الوجه ونضرته، وبالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأهل النار يعرفون بسواد وجوههم، وبالقترة التي ترهقهم {وَنَادَوْاْ} أي نادى أصحاب الأعراف {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} قائلين لهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا}
أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها(1/185)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أي إذا اتجهت أبصار أصحاب الأعراف {تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ} دعوا الله تعالى قائلين
[ص:186] {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} في هذه النار(1/185)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاٍ} من أصحاب النار {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} بهيئاتهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا، وبكفرهم وكبرهم {قَالُواْ} لهم {مَآ أَغْنَى عَنكُمْ} من النار {جَمْعُكُمْ} كثرتكم واجتماعكم في الدنيا {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان بالله، وتتعالون على مخلوقاته. ويشيرون إلى أهل الجنة؛ قائلين لأهل النار(1/186)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} في الدنيا أنهم {لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} منه، ولا يدخلهم جنته، وها هو قد قيل لهم {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وقيل: يقال {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} لأهل الأعراف(1/186)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} نتركهم في العذاب كالمنسيين {كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فلم يعملوا له {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا} كتبنا التي أنزلناها على رسلنا {يَجْحَدُونَ} ينكرون ويكذبون(1/186)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} هو القرآن الكريم {فَصَّلْنَاهُ} بيّناه؛ بالقصص والأخبار، والوعد، والوعيد، وفصلنا فيه بين الحق والباطل {عَلَى عِلْمٍ} منا بحق ما بيناه، وصحة ما فصلناه {هُدًى} لمن اتبعه {وَرَحْمَةً} لمن تمسك به(1/186)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي إلا أن يأتي ما وعدوا به في القرآن من البعث والحساب، وما يستتبعه من العذاب
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} يوم القيامة؛ وحينئذ {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي نسوا الوعد والوعيد في الدنيا {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فقد تحقق الآن ما أنذرونا به {أَوْ نُرَدُّ} إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ} فيها من الصالحات {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من السيئات {قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} بأن ألقوا بها في الجحيم والعذاب الأليم {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ما كانوا يعبدونه من الأصنام(1/186)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {أَيُّ} يغطيه بظلامه {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} سريعاً {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} سائرات بقدرته، منظمات للكون بارادته؛ كل منها يعمل في الحدود التي رسمها له خالقه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} جميعاً؛ من ملك، وإنسان، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد {وَالأَمْرُ} كله له لا يشاركه فيه أحد من خلقه {تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم(1/186)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
{ادْعُواْ رَبَّكُمْ} اعبدوه {تَضَرُّعاً} تذللاً واستكانة لطاعته {وَخُفْيَةً} بخشوع قلوبكم، وصحة يقينكم؛ لا مجاهرين بذلك؛ بقصد المراءاة؛ كشأن أهل النفاق ولقد كان من سبقنا من علية القوم ما من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، وكانوا لا يعملون في الجهر إلا ما قصد به وعظ الغير إلى ما اتعظوا به، وهدايتهم إلى ما اهتدوا أو أريد بالدعاء: السؤال والطلب؛ وقد كانوا يجهدون في الدعاء؛ فلا يسمع لهم صوت
[ص:187] إن كان فلا يكون إلا همساً بينهم وبين ربهم - هذا وقد ذكر الله عبداً صالحاً من عباده فرضي فعله؛ فقال {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
المتجاوزين للحد في رفع الصوت بالدعاء، أو المتجاوزين لحد الأدب في الدعاء؛ كمن يطلب رتبة النبيين، أو كمن يسأل ما لا يجوز عقلاً؛ ومن المعلوم أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بمستحيل، فلا يجوز أن يدعو إنسان ربه قائلاً: يا رب اجعل هذا النهر لبناً سائغاً، أو عسلاً صافياً؛ فهذا - ولو أنه غير مستحيل على قدرة الله تعالى - فإنه مستحيل عقلاً وعادة؛ ومثل هذا الداعي ساخر بدينه، مستهزىء بربه(1/186)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أي لا تكفروا بعد إذ أمركم بالإيمان وأقام على وحدانيته الدليل والبرهان، ولا تظلموا بعد إذ أمركم بالعدل، وأبان لكم مغبة الظلم، ولا تعصوا بعد إذ عرفكم جزاء الطائعين، وعاقبة المتقين وجماع القول أن الله تعالى أراد بما أمر به ونهى عنه: إصلاح العباد والبلاد؛ فمن ابتغى وراء ذلك: فقد بالغ في الفساد والإفساد {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته(1/187)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً} مبشرات {بَيْنَ يَدَيِ} أمام {رَحْمَتِهِ} المطر؛ وسماه رحمة لأنه سبب في الرخاء والخصب والنماء؛ وجميعها رحمة وأي رحمة {بُشْرىً} حملت الرياح {سَحَاباً ثِقَالاً} ممتلئاً ماءً {سُقْنَاهُ} أي سقنا السحاب بواسطة الرياح {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} جدب لا نبات فيه {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي بواسطة الرياح، أو بالسحاب {الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بالماء {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} التي يحتاجها الإنسان {كَذلِكَ} أي مثل إحياء الأرض بالثمار والنبات، وإخراجها للأرزاق والأقوات؛ بعد قحطها وموتها {نُخْرِجُ الْموْتَى} أحياء من قبورهم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون بهذه الأمثال التي نضربها لكم؛ فتؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء(1/187)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الذي طابت تربته، وعذبت مشاربه {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} ثمراته وخيراته
{بِإِذْنِ رَبِّهِ} بقدرته وحكمته، وفي هذا إشارة إلى أن إخراج النبات والثمرات - ولو أن سببه صنع البشر رأي العين - لا يكون إلا بإذن الحكيم العليم، الخالق القادر {وَالَّذِي خَبُثَ} أي والبلد الذي خبثت تربته، وأسنت مشاربه {لاَ يَخْرُجُ} نباته {إِلاَّ نَكِداً} رديئاً مصاباً بالعاهات والآفات؛ وهذا مشاهد في وقتنا الحاضر؛ إذ أصيب الثمار والنبات بسائر ضروب المعاطب؛ وما ذاك إلا بجناية الخلق على أنفسهم: بنسيانهم الأعز الأكرم، المتفضل بسائر النعم، وانصرافهم عن إلههم ومولاهم ويصح أن يكون ذلك مثالاً للمؤمن والكافر؛ ويكون معنى قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} أي أهله؛ وهو كقوله جل شأنه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الذي يعمل أهله بجد واجتهاد
[ص:188] في دينهم ودنياهم {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} أي ثواب إحسانهم وإيمانهم كثيراً غزيراً {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بتفضله وإحسانه؛ وهو الجنة، وأنعم بها من منة {وَالَّذِي خَبُثَ} أي الذي خبث أهله، وساءت أعمالهم، وكفروا بربهم؛ وركنوا إلى الكسل والخمول {لاَ يَخْرُجُ} نباته {إِلاَّ نَكِداً} أي ثواب أعمالهم النار وبئس القرار ويجوز أن يكون المراد بالبلد: الجسد.
وطيبه: أكل الحلال، والابتعاد عن كل ما هو حرام. ونباته: أعماله؛ تخرج كلها حسنة، مليئة بالطاعات، موصلة إلى الجنات والجسد الذي خبث بأكل الحرام، وارتكاب الآثام: لا يخرج عمله إلا سيئاً؛ موصلاً إلى النار، وغضب الجبار فكذلك بنو آدم: خلقوا من نفس واحدة - بل من طينة واحدة - فمنهم من آمن ب الله وكتبه ورسله؛ فطاب ومنهم من كفر ب الله وكتبه ورسله فخبث (انظر آية 172 من سورة البقرة) {كَذلِكَ} أي مثل هذه الأمثال التي نضربها، والآيات التي نسوقها {نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نوضحها ونبينها، ونكررها(1/187)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
{قَالَ الْمَلأُ} أي السادة والأشراف {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} السفينة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} أي عمي عن الحق {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي في خفة عقل(1/188)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} موعظة تذكركم {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} في الأرض؛ تملكونها، وتنتفعون بخيراتها {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وقد أهلكهم الله تعالى بكفرهم وذنوبهم {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} زيادة في الجسم والعزم {فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ} أنعمه(1/188)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
{وَنُذُرِ} ندع ونترك {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنام {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} به من العذاب(1/188)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} عذاب {وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ} يعني بها الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات، والعزى، ومناة؛ وما شاكلها {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} حجة وبرهان {فَانْتَظِرُواْ} العذاب الموعود الذي تستعجلون به {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} له؛ فنزل بهم العذاب، وأوقع الله تعالى عليهم العقاب(1/188)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{فأَنْجَيْناهُ} أي أنجينا هوداً {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} بأن حففناهم بلطفنا الخفي، وأنجيناهم من عذاب بئيس؛ لا ينزل إلا بأمرنا، ولا يدفع إلا برحمتنا {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} الدابر: الأصل؛ أي استأصلناهم فلم نبق منهم أحداً(1/189)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} عبر تعالى بالأخ - في مثل هذه المواضع - لأن كل نبي بعثه الله تعالى من قومه: زيادة في تألفهم {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} حجة واضحة {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} معجزته؛ أخرجها {لَكُمْ آيَةً} علامة على صدقي ووحدانيته {فَذَرُوهَا} دعوها واتركوها(1/189)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} أسكنكم {فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا} السهل: الأرض المستوية {فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ} نعمه {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} العثى: أشد الفساد(1/189)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
{قَالَ الْمَلأُ} السادة والأشراف {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} وهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام(1/189)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} الكافرون {إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي كفروا بأن صالحاً مرسل من ربه، وأن الناقة آية منه تعالى(1/189)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ} قتلوها
[ص:190] {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} استكبروا عن طاعته {وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب(1/189)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي متلبدين بالأرض باركين على الركب ميتين(1/190)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أعرض صالح عنهم {وَقَالَ} لقومه - بعد نزول العذاب بهم وموتهم - {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} التي كلفني بإبلاغها لكم، وأرسلني بها لهدايتكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} باتباعي والإيمان ب الله تعالى وطاعته؛ خشية أن ينزل بكم ما نزل، ويحل بكم ما حل {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فعصيتموني وكفرتم بربكم؛ فحل بكم عذابه الموعود الذي استعجلتموه، ويومه المشهود الذي عاينتموه وخطاب صالح عليه السلام لقومه بعد موتهم: تسجيل لأداء ما كلفه الله تعالى بأدائه، وتسجيل لتكذيبهم وكفرهم؛ ولا شك أنهم سامعون لقوله؛ بدليل مخاطبة الرسول لقتلى المشركين يوم بدر: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} وقال لمن حوله: {قَالُواْ نَعَمْ}(1/190)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الكبيرة؛ وقد كانوا يأتون الذكران {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان(1/190)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتنزهون عما نفعله من إتيان الرجال في الأدبار.
هذا وفعلة قوم لوط من أشنع الفواحش، وأبشع الجرائم، يأباها أحط الحيوانات، فما بالك بأكرم المخلوقات(1/190)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} جميع من آمن به {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب(1/190)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} عجيباً؛ ليس كسائر المطر، الذي يأتي بالثمر؛ بل أنزل عليهم من السماء ناراً تستعر ليس بالمطر الذي يبعث الرخاء والرحمة، والسعة والنعمة؛ بل أمطرتهم السماء ناراً وأحجاراً، وبعثت فيهم موتاً ودماراً ويقال «أمطر» في العذاب، و «مطر» في الرحمة {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ومآلهم؟ إذ دمرناهم وأحرقناهم وأهلكناهم(1/190)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} وهو صهر موسى عليهما السلام؛ الذي زوجه إحدى ابنتيه وقال له «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} حجة {مِّن رَّبِّكُمْ} تدل على صدقي {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} في معاملاتكم
[ص:191] {وَلاَ تَبْخَسُواْ} تنقصوا {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بالكفر والعصيان {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ببعث الرسل، وإنزال الكتب(1/190)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} طريق {تُوعَدُونَ} من التوعد؛ أي تهددون من آمن بشعيب. والتوعد: التهدد. ويقال في الخير: وعد. وفي الشر: أوعد. قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
{وَتَصُدُّونَ} تمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه القويم {وَتَبْغُونَهَا} تريدونها {عِوَجَا} معوجة؛ غير مستقيمة؛ لتمنعوا الناس عن سلوكها(1/191)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
{قَالَ الْمَلأُ} السادة والأشراف من قوم شعيب {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان به {لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ} جميعاً {فِي مِلَّتِنَا} التي نحن عليها {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي أتعيدوننا في ملتكم؛ ولو كنا كارهين لهذه الملة، ساخطين عليها(1/191)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{قَدِ افْتَرَيْنَا} اختلقنا {عَلَى اللَّهِ كَذِباً} آمنا بغيره، و {عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} بعنايته وتوفيقه، وهدايته إلى معرفته {وَمَا يَكُونُ} ما يجوز، وما يحق {لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا} أي إلا أن يكون قد سبق في علمه تعالى شقوتنا وانحرافنا عن الحق الذي أمرنا باتباعه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ} كان، أو هو كائن {عِلْماً} كيف لا؛ وهو جل شأنه خالق كل شيء، وهو السميع العليم
[ص:192] {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} ليهدينا سبلنا (انظر آية 81 من سورة النساء) {رَبَّنَا افْتَحْ} احكم {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} الحاكمين(1/191)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} متلبدين بالأرض، باركين على الركب ميتين(1/192)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأن لم يقيموا فيها. والمغنى: المسكن(1/192)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{فَتَوَلَّى} أعرض {عَنْهُمْ وَقَالَ} لهم {يقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} التي أرسلني بها إليكم؛ فكذبتموني {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فلم تستمعوا لنصحي {فَكَيْفَ آسَى} أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} بذلت لهم سبل الهداية؛ فازدادوا فجوراً وكفراً، وأسدي لهم النصح؛ فأبوا إلا عتواً وعناداً(1/192)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{أَخَذْنَا أَهْلَهَا} عاقبناهم {بِالْبَأْسَآءِ} الفقر {وَالضَّرَّآءِ} المرض {لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ} يتذللون(1/192)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} أبدلناهم مكان الفقر والمرض {الْحَسَنَةَ} الغنى والعافية {حَتَّى عَفَوْاْ} نمت أموالهم، وكثرت أولادهم؛ يقال: عفا الشعر والنبات: إذا كثر. وقد عرَّف تعالى أنه أخذهم بالشدة فلم تنجع، وأخذهم باللين فلم ينفع {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} كما مسنا؛ أرادوا أن ينسبوا ذلك إلى الدهر، وإن ما حاق بهم: حاق بمن كان قبلهم؛ وهذا ضرب من ضروب الكفر {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة؛ بعد أن بذلنا في إقناعهم كل الأسباب؛ من نعمة وعذاب، وإغناء وإقناء، وصحة وإعلال، ونوال ونكال؛ فاستحقوا بذلك الإهلاك والاستئصال(1/192)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} الذين كفروا ب الله تعالى، وجحدوا أنعمه، وكذبوا رسله؛ لو أنهم {آمَنُواْ} بربهم {وَاتَّقَواْ} بطشه وعذابه {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} بالمطر والنبات. فانظر - يا رعاك الله - إلى قول مولاك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} ولم يقل: {أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ} وقال: {بَرَكَاتٍ} ولم يقل: {رِزْقاً} وشتان بين الفتح والإنزال، البركات والأرزاق فالمطر وحده لا يكفل الخصب والإنبات أما البركات فهي وحدها كفيلة بكل شيء.
[ص:193] {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب(1/192)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا وانتقامنا {بَيَاتاً} ليلاً(1/193)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
{ضُحًى} نهاراً(1/193)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ} مكره بهم: أخذه إياهم من حيث لا يشعرون(1/193)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أَوَلَمْ يَهْدِ} أولم يتبين {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أهلكناهم بسببها {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} نغطي عليها {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} النصح؛ وذلك عقوبة لهم على انصرافهم عن آيات ربهم؛ وعدم اعتبارهم بما امتحنهم به من تعذيب، وما منحه لهم من نعيم(1/193)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{تِلْكَ الْقُرَى} التي ذكرناها، وذكرنا أنباءها، ومن أرسل إليها؛ والمقصود بالقرى: أصحابها وساكنيها؛ وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} أخبارها ما نثبت به فؤادك؛ وليتعظ بذلك قومك، وليعلموا أنهم إن بقوا على كفرهم؛ فسيكون حالهم مثل حالهم {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بالرسل ولا بالمعجزات {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي بما كذب به آباؤهم وأسلافهم، أو {بِمَا كَذَّبُواْ} به {مِن قَبْلُ} إتيان الرسل إليهم؛ أي إنهم ظلوا بكفرهم متمسكين، وعلى تكذيبهم ثابتين. وقيل: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} إذ ردوا بعد الموت {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} {كَذلِكَ} مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله تعالى على قلوب الكافرين والمكذبين {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} لأنهم كفروا ابتداء، وأصروا على الكفر انتهاء، وأصموا آذانهم عن الاستماع إلى النصح، وأغلقوا قلوبهم بأقفال من الغفلة والعناد فحق عليهم غضب ربهم، وتخليه عن هدايتهم ولا يخفى أن كفرهم سابق على تغطية الله تعالى قلوبهم؛ وأن طبع الحكم العدل على قلوبهم؛ كان عقوبة على عنادهم وتمسكهم بكفرهم(1/193)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} أي ليس لهم وفاء ولا أمانة(1/193)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
{فَظَلَمُواْ بِهَا} فكفروا بها.(1/193)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{حَقِيقٌ} جدير {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} بمعجزة ظاهرة(1/194)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
{قَالَ} فرعون {إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} معجزة(1/194)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} بين واضح؛ لا لبس فيه ولا إبهام، ولا تمويه ولا خداع(1/194)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرجها من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} مشرقة كإشراق الشمس، ولم يكن بياضاً معتاداً، كبياض البرص؛ وإلا لم تكن معجزة(1/194)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخرهما {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} جامعين(1/194)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
{وَجَآءَ السَّحَرَةُ} الذين جمعتهم رسل فرعون من المدائن(1/194)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
{قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} بسحرك أولاً(1/194)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{قَالَ} موسى {أَلْقَوْاْ} أنتم بسحركم أولاً {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ} بسحرهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} يؤخذ من هذا أن السحر إن هو إلا تمويه على العقول، وخدع للأبصار؛ وليس نقلاً للأشياء عن حقيقتها وطبيعتها؛ كشأن المعجزة التي تسندها قوة الخالق الأعظم تبارك وتعالى وذلك لأن الساحر لو أحال طبيعية الأشياء؛ لكان ما يأتي به معجزة أو هو كالمعجزة التي يأتي بها الأنبياء عليهم السلام، وكان لا فرق بينه وبين النبي؛ ولقام العذر لمن انخدع به {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} من الرهبة؛ أي أخافوهم وأزعجوهم.(1/194)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تتناول بسرعة؛ والمعنى أنها تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يكذبون؛ أي ما يموهون به على أعين الناس من سحرهم؛ والإفك: أسوإ الكذب(1/195)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{فَوَقَعَ الْحَقُّ} الذي أراده الله تعالى، وانتصر رسول رب العالمين، على رسول إبليس اللعين ولقفت عصا موسى حبال السحرة وعصيهم، وظهر أمر الله تعالى، وعلت كلمته، وانهار صرح الكفر ودالت دولته(1/195)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
{فَغُلِبُواْ} أي غلب فرعون وقومه {هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ} رجعوا {صَاغِرِينَ} ذليلين مقهورين ولما بان للسحرة شأن موسى وأحسوا بما أبداه وأظهره، وعلموا أن ذلك ليس من جنس السحر الذي يخدعون أعين الناس به؛ وأنه يستعين فيما يأتيه بقدرة خارقة لطبائع الأشياء، ويستمد بقوة إلهية محسوسة؛ ولو أنها غير منظورة حينئذ علموا أنه يدعو إلى الحق، وأن فرعون يدعو إلى الباطل؛ وخروا سجداً لله، و(1/195)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
{قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *(1/195)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *(1/195)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} استفهام؛ أي أآمنتم {بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} وهو إظهار الإيمان بموسى؛ ليؤمن به باقي الناس(1/195)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون(1/195)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} أي وما تعاقبنا؛ يقال نقم منه: إذا عاقبه {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} الدالة عليه؛ وهي ما رأيناه من معجزات ظاهرات {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} هب لنا من لدنك صبراً واسعاً، وأكثره علينا حتى يفيض ويغمرنا(1/195)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ} أتترك {مُوسَى وَقَوْمَهُ} ممن آمن به من بني إسرائيل {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ} يدعك ويتركك {وَآلِهَتَكَ} قيل: كان لعدو الله تعالى بقرة يعبدها؛ وقد قرأ مجاهد وابن عباس «وإلاهتك» وكان القائلون لذلك خاصة فرعون وبطانته؛ وهكذا شأن بطانة السوء في كل زمان ومكان: تدس للعاملين المصلحين؛ عند الملوك الجاهلين المستبدين؛ وتفهمهم أن في بقاء أمثال هؤلاء خطراً على عروشهم وهكذا أيضاً شأن الحمقى من الملوك والرؤساء: يحيطون ملكهم وجبروتهم بسياج من السطوة والبطش؛ لتتوفر لهم بذلك أسباب الاستقرار والانقياد ولذا كان جواب فرعون على تحريض ملئه له
{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
[ص:196] نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} عالون بالقدرة، والكثرة، والغلبة، والقهر. وهذا هو شأن المستبد الظالم الغاشم المبطل؛ الذي لا يعتمد إلا على ظلمه وقوته وقسوته أما الذي ينشد العدل، ويرغب في الحق؛ ويسعى إلى الإصلاح؛ فهو إذا غلب على أمره: لجأ إلى مولاه يستهديه ويستعينه ويسترشده؛ لذا(1/195)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} على أعدائكم {وَاصْبِرُواْ} على أذاهم؛ ف الله معكم، وهو ناصركم {إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا} يملكها {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الأتقياء {وَالْعَاقِبَةُ} النهاية الحسنة المحمودة {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(1/196)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{قَالُواْ} أي قال بنو إسرائيل - أصحاب موسى - حين سمعوا مقالته: لقد {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإيذاء فرعون لنا، ووعيده وتهديده {قَالَ} موسى لقومه {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون وملئه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} مكانهم {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أتحسنون هذه الخلافة، أم تكونون - كمن سبقكم - من المفسدين؟ وقد أهلك الله تعالى عدوهم، واستخلفهم في الأرض كما وعدهم؛ فكانوا أضل من فرعون وأطغى، وكانوا من أسوأ الأمم فساداً وإفساداً؛ لعنهم الله تعالى(1/196)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ} بالقحط؛ يقال: أسنت القوم؛ بمعنى أقحطوا(1/196)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} الخصب والغنى {قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} أي نستحقها بعملنا وعلمنا؛ ولم يشكروا الله تعالى عليها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قحط وبلاء {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ}
زاعمين أنهم سبب الشؤم الواقع بهم {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ} أي إنما سبب شؤمهم عند الله؛ وهو عملهم الذي يعملونه، والذي استوجبوا عليه ما أسموه طيرة وشؤماً هذا والتطير والتشاؤم من العادات التي ذمها القرآن الكريم، ونهى عنها الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» «إذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» وقال أيضاً: «من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» لقد تشاءم الكافرون من أنبيائهم، في حين أن الشؤم هم سببه ومصدره؛ فقد تشاءم قوم موسى بموسى، وتشاءم قوم صالح بصالح: {قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} وفي شتى العصور تشاءم الكافرون بالمرسلين وبالمؤمنين {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} هذا وقد جرى بعض المسلمين على نهج هؤلاء الكافرين؛ فتشاءموا من الأوقات، ومن الأيام، ومن الأشخاص؛ وهي عادة مرذولة يأباها الإسلام ويحض على نبذها ومنعها؛ ولا يقبلها دين سماوي، ولا عقل راجح؛ ومن عجب أنهم يستدلون ببعض آيات
[ص:197] الكتاب الكريم على ما يزعمونه؛ ويوردون قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ولا ندري أي من يوم من هذه الأيام الثمانية نختصه بالنحس دون الآخر - وقد شملت الآية الكريمة كل أيام الأسبوع ولياليه - فبان لنا من ذلك: أن النحس متعلق بذات الأشخاص الواقع عليهم النحس؛ وذلك بسبب شؤم معاصيهم، وبعدهم عن مرضات ربهم ولم يخلق الله تعالى الأيام نحساً كلها، أو سعادة كلها؛ فبعضها نحس على أناس، سعد على آخرين؛ ورب إنسان تصور نحسه في يوم من الأيام، فصار هذا اليوم مصدر سعادة له لا يترقبها ولا يتوهمها ونخرج من هذا البحث بنتيجة واحدة لا ثاني لها: هي أن {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} فسييسره ربه لليسرى؛ وأيامه كلها هناء، ولياليه كلها سعادة؛ غير ما أعده الله تعالى له من خير عميم، ونعيم مقيم أما {مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} فسييسره ربه للعسرى؛ وأيامه نحسات، ولياليه مدلهمات؛ غير ما أعده له ربه من جحيم، وعذاب أليم(1/196)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} كل ما طاف وغلب؛ من مطر، أو مرض، ونحوهما: فهو طوفان. ومنه قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} وورد: أنه الموت المتتابع الذريع؛ ولعله الطاعون. وقيل: هو طوفان من الماء؛ أحاط بهم، ودخل منازلهم، وعلا حتى وصل إلى حلوقهم سبعة أيام {وَالْجَرَادَ} سلطه الله تعالى عليهم؛ فلم يدع لهم طعاماً يأكلونه {وَالْقُمَّلَ} وهو السوس الذي يأكل الحنطة فلا يدع إلا قشرها؛ أفنى الجراد ما زرع ليؤكل، وأباد السوس ما أعد للأكل، وقيل: «القمل» صغار الجراد؛ الذي لا أجنحة له، أو هو قمل الرأس المعروف {وَالضَّفَادِعَ} امتلأت الدنيا بها من حولهم؛ حتى إن الرجل ليفتح فمه ليتكلم؛ فتثب واحدة منه فتدخل في فيه {وَالدَّمَ} قيل: صارت مياههم دماً.
وقيل: هو الرعاف. وقد أرسل الله تعالى عليهم هذه الآفات {آيَاتُ} عظات {مّفَصَّلاَتٍ} ظاهرات؛ لا يخفى على عاقل أنها من عند الله. أو {مّفَصَّلاَتٍ} بمعنى متفرقات {فَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان، ولم يجيبوا داعي الرحمن(1/197)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} العذاب المذكور. وقيل: هو عذاب آخر عذبوا به بعد إذ لم يؤمنوا بما مر من الآيات؛ وهو الطاعون {قَالُواْ يمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما اختصك به من إجابة الدعاء، وقبول الرجاء؛ و {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} تذهب بهم حيث تشاء(1/197)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} وهو انتهاء أعمارهم بالغرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون وعدهم وتوبتهم(1/197)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} في البحر الذي لا يدرك قعره(1/198)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} وهم بنو إسرائيل؛ رفعهم من حضيض الذل، إلى أوج العز {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} يبنون(1/198)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
{فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} يقبلون مواظبين {عَلَى} عبادة {أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ} أي قال بنو إسرائيل لموسى {يمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً} نعبده {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} يعبدونها {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عجباً لبني إسرائيل: رأوا ما حل بفرعون وقومه جزاء كفرهم ب الله وذاقوا حلاوة نصرهم على عدوهم - جزاء إيمانهم - وحينما يرون أناساً يعبدون الأصنام يقولون: كيف يكون لهم آلهة ولا يكون لنا إلهاً نعبده كما يعبدون؟ ونسوا أنعم الله تعالى عليهم(1/198)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{إِنَّ هَؤُلآءِ} الذين ترونهم يعبدون الأصنام {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}
أي إن ما هم فيه هلاك وخسران. و {مُتَبَّرٌ} مدمر مكسر(1/198)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ} الذي خلقكم، واصطفاكم، وأهلك عدوكم وأنجاكم؛ أغيره {أَبْغِيكُمْ} أبغي لكم {إِلَهاً} معبوداً {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فكيف تبتغون غيره، وتطلبون معبوداً سواه؛ وتقولون: {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}؟ اذكروا يا بني إسرائيل(1/198)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} الخطاب موجه لليهود الموجودين في عصر النبي؛ أي اذكروا إذ أنجينا آباءكم وأسلافكم؛ أو هو تذكير لمنته تعالى على بني إسرائيل {يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم {سُوءُ الْعَذَابِ} أشده وأسوأه {} يستبقونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء {وَفِي ذَلِكُمْ} العذاب والتقتيل {بَلاءً} ابتلاء ومحنة، أو {وَفِي ذَلِكُمْ} العذاب نعمة لكم؛ لأن سنته تعالى جرت على رفع درجات من ابتلى، وإعلاء شأن من امتحن(1/198)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى} بالمناجاة {ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فتكون أربعين؛ صامها موسى استعداداً لهذا اللقاء، وتأهباً لتلقي أوامر الله تعالى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} ما وقته له من الوقت {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم، وراعياً لهم(1/198)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (انظر آية 164 من سورة النساء) {قَالَ رَبِّ أَرِنِي} نفسك {أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي لأنظر إليك وأراك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} تجلى أمره بأن جعل الجبل لا يستقر، وتجلت قدرته بأن {جَعَلَهُ دَكّاً} أي مدكوكاً؛ وليس معنى التجلي: ظهور المولى - جل وعلا - للجبل، أو إبداء نوره؛ كما ذهب إليه أكثر المفسرين؛ والذي حصل: أن الجبل تزلزل واهتز، وانهارت أركانه، وتصدع بنيانه، ومادت أحجاره، وتساقطت صخوره
{وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} مصعوقاً؛ مغشياً عليه من هول ما رأى {فَلَمَّآ أَفَاقَ} من غشيته، اتجه بكليته و {قَالَ سُبْحَانَكَ} ربي؛ تقدست عن الرؤية، وتعاليت عن الوصف
[ص:199] (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {تُبْتُ إِلَيْكَ} من قولي: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بعظمتك، المصدقين بعلوك وتنزيهك فقبل الله تعالى توبته؛ و(1/198)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{قَالَ} له معدداً أفضاله عليه {يمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} اصطفيتك: اخترتك (انظر آية 164 من سورة النساء) {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} من التوراة، وبلغها لقومك {وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ} لي على هذا الاصطفاء(1/199)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} وذلك لأن التوراة كانت تنزل على موسى مكتوبة في الألواح، أو كان يكتبها - بأمر ربه - في الألواح؛ ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في صفة هذه الألواح؛ وهل كانت من ياقوت أو زبرجد، أو زمرد، أو من سدر الجنة؛ مما خاض فيه أكثر المفسرين، وأطنبوا في وصفه؛ حيث لا حاجة بنا إلى ذلك {مِن كُلِّ شَيْءٍ} من التنبيه إلى وجود الله تعالى والتذكير بعظمته {مَّوْعِظَةٌ} لهم {وَتَفْصِيلاً} تبييناً {لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجون إليه لمعاشهم ومعادهم {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} بجد وعزم واجتهاد {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} وذلك لأن في التوراة: الحسن والأحسن؛ كالاقتصاص والعفو، فإن العفو خير من القصاص، وكاتباع الأوامر واجتناب النواهي، فإن اتباع الأوامر خير من اجتناب النواهي {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي سأريكم ما حل بفرعون وقومه من عذاب وتشريد، وأورثكم أرضهم وديارهم؛ والمراد بدار الفاسقين: مصر(1/199)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} دلائل قدرتي وعظمتي
{الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ} فلا يؤمنون بي، ولا يصدقون رسلي {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} دالة على وحدانيتي {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق الهدى والصلاح {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ} طريق الفساد والضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} طريقاً لهم يتمسكون به، ويسيرون فيه {ذلِكَ} الصرف عن الآيات، والوقوع في الضلالات {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بعد ظهورها ووضوحها؛ فاستحقوا بذلك الصرف عما ينجي، والوقوع فيما يردي(1/199)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فلم يؤمنوا بها؛ واتخذوا لقدرة الله تعالى وآياته أسباباً؛ كقولهم: إن المطر بالنوء، وإن الزلازل من تفاعلات أرضية، وإن البراكين ترجع إلى أسباب طبيعية؛ كتسرب ماء البحار وتبخره من الحرارة ومحاولته الخروج، وإن الأرض والكواكب تدور في أفلاكها بقوى مغناطيسية، ودوافع جاذبية، وإن الأرض كانت قطعة من الشمس فزالت منها، وانفصلت عنها؛ وهم بهذه التعلات والأسباب يحاولون أن يسندوا كل كائن إلى أسباب طبيعة؛ يدفع بعضها بعضاً بغير حاجة إلى موجد أو إلى صانع؛ ناسين الخالق الرازق، القادر
[ص:200] القاهر، العظيم الجبار؛ فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وهؤلاء المكذبين: كذبوا بآيات الله تعالى {وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ} وهي القيامة، والبعث، والحساب، والجزاء {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها في الدنيا؛ فلا يقام لها وزن؛ فكم من عالم: ملأ علمه طباق الأرض؛ وسارت مخترعاته في طولها والعرض؛ وهو من أهل النار: لكفره بالله، وإيمانه بالقوى التي أوجدها الله بقدرته ومشيئته وكم من جاهل: صفت نيته، وحسنت عبادته؛ وآمن بمولاه؛ فكان من أهل النجاة {هَلْ يُجْزَوْنَ} أي هل يجزى هؤلاء المكذبون الغافلون؛ يوم القيامة من العذاب {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إلا جزاء ما عملوا في الدنيا(1/199)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ} أي بعد ذهابه لميقات ربه {مِنْ حُلِيِّهِمْ} أي مما يتحلون به من الذهب والفضة {عِجْلاً جَسَداً} أي عجلاً مجسماً {لَّهُ خُوَارٌ} له صوت؛ والخوار: صوت البقر؛ وقد كان إبليس اللعين يدخل في جسد العجل، ويخور كما يخور، وقيل: صنعوه بحيث إذا تعرض للهواء: خرج منه صوت يشبه خوار العجل {اتَّخَذُوهُ} عبدوه(1/200)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} هو كناية عن اشتداد الحسرة والندامة(1/200)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى} من ميقات ربه {إِلَى قَوْمِهِ} بعد أن تلقى أمر ربه ووحيه {غَضْبَانَ أَسِفاً} مما رآهم عليه من الإنصراف عن عبادة الله تعالى؛ - الخالق الرازق، الضار النافع، السميع العليم - إلى عبادة صنم أخرس؛ لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} تعجلتم سخطه وغضبه وعذابه {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} التي في يده، وفيها التوراة، التي تلقاها عن ربه ليبلغها لهم؛ وذلك ليتفرغ للنضال مع أخيه هارون؛ الذي استخلفه عليهم؛ وقد توهم أن هارون لم يقم بما استخلفه عليه، وأهمل في اتباع أوامره {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فهال ذلك هارون؛ وخشي على نفسه من أخيه موسى، ورأى وضوح عذر موسى في هذا الاعتداء - رغم أن هارون كان مضطراً ومغلوباً على أمره - {قَالَ} هارون لموسى معتذراً {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} بعد ذهابك {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ} بما تفعله الآن معي {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تجعلني - بعدائك لي - في مصاف الكافرين ويؤخذ من هذه الآية أن حالة الغضب لا يصح أن تقاوم بالشدة؛ بل باللين، خصوصاً بين متحابين فانظر كيف أن هارون عليه السلام حينما قابل غضب أخيه وبأسه بلينه وهدوئه: سكن موسى وطلب لنفسه ولأخيه الغفران(1/200)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}
[ص:201] التي وسعت كل شيء(1/200)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ} عبدوا {الْعِجْلَ} وهم اليهود {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} غير ما أعد لهم في الآخرة من عذاب أليم مقيم(1/201)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} أي سكن؛ وبه قرأ معاوية بن قرة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى عليه السلام كان من أشد الناس غضباً، وأنه من شدة غضبه صك ملك الموت ففقأ عينه، وهي فرية إسرائيلية؛ نعوذ ب الله من الوقوع فيها {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا} أي فيما نسخ فيها وكتب {هُدًى} من الله {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يخافون بطشه وعقابه(1/201)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه {لِّمِيقَاتِنَا} أي للوقت الذي ضربناه له للإتيان بهم ليعتذروا عن عبادة العجل، ويستغفروا مما جنت أيديهم {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة؛ وذلك لأنهم لم يفارقوا قومهم - حين عبدوا العجل - ولم ينهروهم على عبادته؛ وهم غير الذين سألوا الرؤية، وأخذتهم الصاعقة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} محنتك وابتلاؤك؛ حين كلمتني وسمعوا كلامك، فطمعوا في رؤيتك. أخذها موسى عليه السلام من قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} وقد فتنهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا، وزاغوا وأزاغوا {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(1/201)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} قرأ الحسن: «من أساء» من الإساءة {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} انظر كيف قيد الرحمة التي وسعت كل شيء بتقوى الله، وإيتاء الزكاة فاعلم أيها المؤمن أن أمامك طريقين؛ أيهما سلكت جوزيت من جنس عملك: فإما أن تشح بمالك وتضحي برحمة الرحيم الرحمن؛ الذي يطمع في رحمته كل إنسان، وإما أن تؤدي ما فرضه الله تعالى عليك من الزكاة؛ فتسعك رحمته، وتشملك مغفرته (انظر آية 14صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)(1/201)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} جاء في إنجيل برنابا - على لسان عيسى عليه السلام - ما نصه: «إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور، ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب، وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم، وإن مما يعزيني أن لا نهاية لدينه؛ لأن الله سيحفظه صحيحاً حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا ألله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم» إصحاح 97 {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم - في الجاهلية - من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} كلحم الخنزير والميتة
[ص:202] والدم، وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يضع عنهم القيود والتشديد الذي كان على بني إسرائيل؛ بسبب أعمال عملوها، وذنوب ارتكبوها {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ} أي بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَعَزَّرُوهُ} عظموه {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} وهو القرآن العظيم؛ وأكرم به من نور
رب إن الهدى هداك وآيا
تك نور تهدي بها من تشاء
نور القلوب، وشفاء الصدور، وكلام الحكيم العليم، العزيز الرحيم {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ وأتى بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء وقد أرسله الله تعالى أميّاً؛ ليكون ذلك أذهب للريبة، وأبعد للشبهة؛ أرسله أمياً وهو أعلم العلماء، وأحكم الحكماء
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية، والتأديب في اليتم(1/201)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} يعني بني إسرائيل {أُمَّةٍ} جماعة؛ آمنوا بمحمد {يَهْدُونَ} الناس {بِالْحَقِّ} الذي تمسكوا به {وَبِهِ} أي بالحق {يَعْدِلُونَ} في أحكامهم فيما بينهم؛ فبه يعطون، وبه يأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون. وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها أمة فيما وراء الصين؛ وهو ليس بشيء(1/202)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي فرقناهم {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} الأسباط: أولاد الولد؛ وكانوا اثنتي عشرة قبيلة؛ من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} طلبوا السقيا؛ لانعدام الماء في التيه {فَانبَجَسَتْ} فانفجرت {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} بعدد الأسباط؛ والسبط: القبيلة من اليهود {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} العين الخاصة بشربهم {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ} وهو كل ما منَّ الله تعالى به على عباده؛ من غير تعب ولا نصب {وَالسَّلْوَى} كل ما يتسلى به. وقيل: طائر، ويطلق أيضاً على العسل {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق السهل، الحلال الطيب المباح. (انظر آيتي 172 من سورة البقرة. و58 من هذه السورة)(1/202)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} بيت المقدس {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي أمرنا حطة. وهي بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة {وَادْخُلُواْ الْبَابَ} أي باب القرية {سُجَّداً} مطأطئين الرؤوس، خاضعين لله الذي تفضل عليكم(1/202)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فلم يقولوا «حطة» بل قالوا: حنطة في شعيرة. ولم يسجدوا؛ بل زحفوا على أستاههم؛ ولم يقصدوا من وراء ذلك سوى المخالفة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً}
عذاباً(1/202)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي قريبة منه، راكبة لشاطئه «ميناء» قيل: هي أيلة؛ بين مدين والطور، وقيل: هي ساحل مدين {إِذْ يَعْدُونَ} يعتدون ويتجاوزون حدود الله تعالى {فِي السَّبْتِ} في يوم السبت - وهو يومهم المعظم في ديانتهم - وقد أمروا بعدم العمل فيه {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} ظاهرة على وجه الماء؛ فتنة لهم وابتلاء؛ وإن الله تعالى ليبتلي المؤمن ليزداد أجراً بصبره، ويبتلي الكافر ليزداد عذاباً بكفره {كَذلِكَ} أي إتيان الحيتان وظهورها على وجه الماء في يوم السبت؛ الذي حرم فيه الصيد، وعدم إتيانها في الأيام الأخرى التي أبيح فيها؛ كذلك {نَبْلُوهُم} نشدد عليهم البلاء والاختبار والامتحان {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم، وتركهم لأمر ربهم(1/203)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ} طائفة {مِنْهُمْ} من بني إسرائيل؛ لطائفة أخرى كانت تعظ الذين اعتدوا في السبت، وتقول لهم: احذروا مخالفة ربكم، والزموا أوامره. فقالت الطائفة الضالة لهذه الطائفة الآمرة بالمعروف {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا بأعمالهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} يوم القيامة {عَذَاباً} إنما ننهاهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي نعظهم ليكون ذلك عذراً لنا عند ربنا؛ إذ قمنا بما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بسبب وعظنا لهم(1/203)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أهملوه وتركوه واستمرأوا الكفر والمخالفة {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ} وهي الطائفة التي كانت تعظهم وتنهاهم {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد البؤس {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بخروجهم من طاعة الله تعالى إلى معصيته(1/203)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{فَلَماَّ عَتَوْاْ} تكبروا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} أي كالقردة في المهانة أو «قردة» على الحقيقة {خَاسِئِينَ} صاغرين مطرودين(1/203)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أقسم وأعلم {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي على اليهود {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ} يقال: سامه خسفاً: إذا أولاه ذلاً {سُوءُ الْعَذَابِ} بالقتل، والأسر، وأخذ الجزية. فبعث الله تعالى عليهم سليمان، وبعده بختنصر؛ فأعمل فيهم القتل والسبي، وضرب الجزية على من بقي منهم؛ فكانوا يؤدونها إلى المجوس؛ حتى بعث الله تعالى نبينا محمداً فضربها عليهم؛ ثم بعث الله تعالى عليهم بعد ذلك أمة الألمان، فأرتهم من الذل والعذاب ألواناً لم يرها مخلوق من قبل؛ حتى أنهم ليجمعونهم بالآلاف ويطلقون عليهم الغاز الخانق، ويضعونهم في النيران أليس ذلك مما تأذن به المنتقم الجبار في سالف الأزمان؟
وسيظل اليهود طول العمر، وأبد الدهر؛ تحت نير الذل والعذاب {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}(1/203)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{وَقَطَّعْنَاهُمُ}
[ص:204] فرقناهم {فِي الأَرْضِ أُمَماً} فرقاً {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ} المؤمنون الذين آمنوا بمحمد وبما أنزل إليه {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} أي الكافرون {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أي امتحناهم بالنعم والنقم، والخصب والجدب، والغنى والفقر، والصحة والمرض {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى ربهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويؤمنون بعد كفرهم. لكنهم لم يفعلوا(1/203)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الخلف بالجزم: الأولاد الطالحون، وبفتح اللام: الصالحون {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} العرض: المتاع. والأدنى: القريب، أو الأخس الأحقر. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهكذا شأن الفجار الأشرار: يعملون كل ما يؤهلهم للنار، ويطمعون في المغفرة بلا عمل ولا استغفار {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ} أي مثل العرض الأدنى المذكور {يَأْخُذُوهُ} أيضاً؛ وهم في ذلك كمثل المذنب الذي يطمع في المغفرة، ولا يحاول ترك الذنوب؛ بل يصر عليها، ويداوم على فعلها. ومن المقطوع به: أنه «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» فكيف بالكبيرة مع الإصرار؟ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} وهو أخذ العهود عليهم بإقامة التوراة والعمل بما فيها، و {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} فلا ينسبوا إليه ما لم يقله، ولا يطمعوا في مغفرته بغير توبة ولا عمل {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي ما في الكتاب {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} وما فيها من نعيم مقيم {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الله ويخشون عقابه(1/204)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} يستمسكون {بِالْكِتَابِ} ويعملون بما فيه. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «والذين استمسكوا بالكتاب» {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} التي أمرناهم بإقامتها(1/204)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} قلعناه ورفعناه فوق رؤوسهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الظلة: كل ما أظلك من سقف، أو سحاب {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} لا محالة؛ حينئذٍ قلنا لهم {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} من الشرائع، والأوامر، والنواهي {بِقُوَّةٍ} بجد وعزم واهتمام {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} بالعمل(1/204)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} قائلاً لهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} بأنك ربنا.
وهذا من باب التمثيل والتخييل. والمعنى: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، والبراهين على وحدانيته، فشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله تعالى فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية فكأنه تعالى أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وكأنهم {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} وهذا التمثيل شائع سائغ في لغة العرب وأشعارهم {أَن تَقُولُواْ} أي أشهدناكم على أنفسكم؛ لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} الإيمان {غَافِلِينَ} فلم نعلم عنه شيئاً(1/204)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
{أَوْ تَقُولُواْ
[ص:205] إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} ب الله {مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} سرنا على سيرتهم، واتبعناهم في عباداتهم {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} من آبائنا(1/204)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} يا محمد {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} قيل: هو رجل من بني إسرائيل؛ أوتي علماً غزيراً، وقيل: هو أميةبن أبي الصلت. وأعجب الأقوال: قول بعض المفسرين: إنه نبي من أنبياءالله؛ يقال له: بلعم، أو بلعام، وقد أنزل عليه كتاباً. وهو قول باطل؛ يرده العقل والنقل؛ فإن الله تعالى ليس كأحدنا: فيخطىء في اصطفاء عباده، واختيار أنبيائه؛ و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي كفر بها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي إن الشيطان جعله تابعاً له {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الهالكين؛ من غوى الفصيل: إذا هلك(1/205)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي بهذه الآيات؛ ووفقناه للعمل بما فيها {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} سكن {إِلَى الأَرْضِ} أي إلى الدنيا، ورغب فيها، ومال إليها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} واتباع الهوى من أشد الموبقات المهلكات؛ وهو إحدى موارد النار؛ فقد خلق الله تعالى الإنسان مزيجاً بين الخير والشر؛ وأبان له عن كليهما حق التبيين قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ثم ميزه بالعقل الذي يعقله عن الفجور المؤدي إلى النار، ويمهد له سبيل التقوى المؤدي إلى الجنة وما من إنسان - كائن من كان - إلا ويميز في نفسه بين الخير والشر، والطيب والخبيث؛ وقد تقل قدرته على هذا التمييز، أو تنعدم أصلاً؛ إذا كان مصاباً بفساد عقله، أو بذهابه
غير أنه لا يمكن القول بأن ثمت مخلوقاً قد عدم التمييز بين الخير والشر انعداماً تاماً؛ وهو في تمام صحته، وكمال عقله. بل لا بد أن تكون لديه فكرة كاملة عن أن بعض الأعمال شر وبعضها خير؛ وإذا قلنا بغير ذلك فلماذا يستخفي عن الأعين حينما يتطلب هواه منه أمراً محذوراً غير مشروع؟
حتى الحيوان الأعجم فإنه يحس في قرارة نفسه ما هو شر، وما هو خير، وما هو مشروع، وما هو غير مشروع. أرأيت إلى القطة كيف استطاعت أن تميز بين ما هو مباح، وما ليس بمباح؛ فبينما هي تأكل ما تعطيه لها آمنة مطمئنة؛ إذا بها تفر فراراً بما تسرق أو تخطف، وتتوارى به عن الأعين؛ وتنظر إليك شزراً نظر الخائف المرتعب
فالإنسان إذا ما اتبع هواه، ولم يستطع أن يقاوم في نفسه قوى الشر: فقد انحط بإنسانيته إلى مرتبة هي دون مرتبة البهائم أما إذا قاوم هواه، وحارب نفسه، وألزمها الخير المحض، وجنبها الإثم والشر: فقد ترقى
[ص:206] بها إلى مراتب الأملاك، وصار أهلاً لخلافة الله تعالى في أرضه، وخليقاً بتبوء جنته، والتقلب في نعمته {فَمَثَلُهُ} أي مثل من أخلد إلى الأرض واتبع هواه {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} أو تتركه يلهث المعنى: أنه ضال سواء وعظته أم لم تعظه؛ كالكلب إن طردته فسعى لهث. وإن تركته على حاله آمناً هادئاً لهث. وهو تمثيل البلاغة، بادىء الروعة؛ يضرب لطالب الدنيا وحدها؛ فهو دائماً ذليل مهان؛ تابع لشهواته، عابد لملذاته {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} عليهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يتدبرون فيها؛ فيؤمنون(1/205)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي بئس المثل مثلهم {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} بالتكذيب، وتعريضها للعقاب الدنيوي، والعذاب الأخروي(1/206)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{مَن يَهْدِ اللَّهُ} إلى دينه {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} لأن الهداية جاءته تفضلاً من لدن العزيز الكريم {وَمَن يُضْلِلِ} يتركه بغير هداية {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد أضلهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا قال تعالى:
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ}(1/206)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} خلقناهم ليؤمنوا بي وبرسلي؛ فكفروا بي وكذبوا رسلي. ومهدنا لهم سبيل الهدى؛ فاتبعوا الهوى، وأبنا لهم طريق الرشد؛ فأبوا إلا طريق الغي {لَهُمْ قُلُوبٌ} كسائر قلوب الناس؛ خلقناها لهم ليفقهوا بها؛ ولكنهم وضعوا عليها أكنة وأقفالاً تمنعها من الفهم؛ فأضحوا {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ} خلقناها لهم للإبصار والاستبصار، وللتفرقة بين النافع والضار، وللنظر إلى دلائل قدرته تعالى بعين الاعتبار؛ لكنهم وضعوا عليها غشاوة فعموا عن رؤية الحق، وأصبحوا {لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ} خلقناها لهم للاستماع إلى النصح والرشد؛ لكنهم صموا عن سماع الهدى؛ فأمسوا {لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} فحق عليهم وصف ربهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} سبيلاً من الأنعام، و {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عما ينجيهم(1/206)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} سميت أسماؤه تعالى بالحسنى: لأنها حسنة اللفظ والمعنى، حسنة في القلب والسمع؛ كيف لا وهي تدل على اللطف والجود، والكرم، والرحمة، والرأفة، والود، والهداية {فَادْعُوهُ بِهَا} أي تقربوا إليه تعالى بها؛ واطلبوا منه ما تشاءون بأسمائه الكريمة: فيطلب الإنسان بكل اسم ما يليق به؛ كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا معز أعزني، يا غفار اغفر لي، يا رزاق ارزقني، يا قهار اقهر من ظلمني، يا تواب تب علي، يا هادي اهدني، وهكذا.
وهذه الأسماء: صفات لذاته تعالى؛ إذ أن اسمه العظيم الأعظم هو «الله» وعلى ذلك كبار القوم؛
[ص:207] ألا ترى إلى قوله جل شأنه «ولله» وهو المسمى «الأسماء» أي التسميات التي يتسمى بها، أو الصفات التي يتصف بها (انظر آية 110 من سورة الإسراء) {وَذَرُواْ} اتركوا {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون فيها، ويتركون القصد؛ كما فعل المشركون في تسمية أوثانهم: فاشتقوا اللات من «الله» والعزى من «العزيز»(1/206)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} جماعة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بالحق عدلاً(1/207)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{وَأَمْلَى لَهُمْ} أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي} الكيد: المكر. والمراد به: العذاب. أي إن عذابي {مَتِينٌ} قوي شديد(1/207)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ} أي ليس بصاحبهم محمد {مِّن جِنَّةٍ} جنون. وكانوا يقولون: شاعر مجنون {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بين الإنذار واضحه(1/207)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
{أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ} نظر اعتبار واستبصار {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكه تعالى {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} فيهما؛ وأن كل ذلك يدل على وجود الله تعالى ووحدانيته، ووجوب الإيمان به، والتصديق برسله {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيقبضوا على ما هم عليه من تكذيب وكفر؛ فليسارعوا في الإيمان، قبل فوات الأوان وإذا لم يؤمنوا بما سقناه لهم من الدلائل {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي فبأي تخويف وترهيب، وتبشير وترغيب؛ بعد الذي جاء به محمد لهدايتهم يهتدون؟(1/207)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} أي من يتركه ربه بغير هداية: فلن يستطيع أحد هدايته. وإضلاله تعالى لا يعدو أن يتركه في طغيانه؛ ما دامت أمامه سبل الهداية فلم يحاول سلوكها {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} العمه: التحير والتردد(1/207)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ}
متى {مُرْسَاهَا} إرساؤها؛ أي إثباتها وإقرارها ووقتها {لاَ يُجَلِّيهَا} لا يظهرها {لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} وحده لا يشركه أحد - من ملك أو رسول - في ذلك {ثَقُلَتْ} عظمت {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي على أهلهما؛ لما ينتظرانه فيها من أهوال {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فجأة {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي كأنك عالم بها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} وحده(1/207)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً} ألحقه بها {وَلاَ ضَرّاً} أدفعه عنها {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أي يقويني ويعينني عليه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي لو كنت أعلم الغيب لتحريت مواضع النجاح، ومواطن النجاة؛ ولما كنت غالباً تارة، ومغلوباً أخرى (انظر آية 50 من سورة الأنعام)(1/207)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جنسها {زَوْجَهَا} حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليستأنس بها، ويطمئن إليها {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} أي جامعها {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} ثقل حملها {دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} أي نسلاً صالحاً(1/207)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} المعنى:
[ص:208] إنه كان من نسل آدم عليه السلام من كفر ب الله تعالى، وجعل له شركاء في العبادة؛ والتثنية بالنسبة للذكر والأنثى(1/207)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
{أَيُشْرِكُونَ} به في العبادة {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يخلق الله تعالى الحجارة - التي هم من جنسها - ويخلق الإنسان منها الأصنام التي يعبدها(1/208)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي لا تستطيع الأصنام
{لَهُمْ} أي لعابديهم {نَصْراً} على عدوهم {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} لو أراد أحد الناس بهم سوءاً؛ وها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد حطمها تحطيماً، وتركها جذاذاً؛ وقال لعبدتهم {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}(1/208)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي وإن تدعوا هذه الآلهة {إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} لأنهم لا يسمعونكم، ولا يرونكم {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي سيان عندهم دعاؤكم وصمتكم؛ فكيف يهديكم إلى الرشاد؛ من إذا دعي إليه: استوى عنده دعاؤكم وصمتكم؛ لأنه لا يسمع ولا يعقل(1/208)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} مملوكون له؛ كما أنتم له مماليك {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} يجيبوكم لما دعوتموهم إليه. وإلا فكيف تعبدون ما لا يسمع ولا يعقل؟(1/208)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} كأرجلكم {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} كأيديكم {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} كأعينكم {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} كآذانكم؟ فإذا كانوا لم يبلغوا بعد حد العابدين المخلوقين؛ فكيف تسوونهم بأحسن الخالقين؟ {فَلاَ تُنظِرُونِ} تؤجلون وتمهلون(1/208)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{خُذِ الْعَفْوَ} العفو: ضد الجهد؛ أي تسهل في معاملة الناس من غير كلفة، ولا تطالبهم بما يشق عليهم، أو {خُذِ الْعَفْوَ} أي الزيادة. والمعنى: لا تأخذ للصدقات إلا مما زاد عن حاجتهم. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} وقيل: إنها نسخت بعد نزول آية الزكاة {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعروف والجميل من الأعمال. وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}:
هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك وحقاً إن من يرى ما فعله الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بأعدائه؛ بعد أن أوسعوا في الكيد له، وأفرطوا في إيذائه والنيل منه إن من يرى ذلك الإيذاء والبلاء، ويرى بعد ذلك معاملته لهم؛ بعد أن أمكنه الله تعالى منهم، ودخل مكة - فاتحاً ظافراً - بجيش عرمرم لجب؛ لم تر جزيرة العرب مثله من قبل؛ يكتسح مكة، وتطؤها خيله؛ والبلاد جميعاً في قبضته وتحت رحمته؛ وقد شملها - مع القدرة - عفوه، وعمها - مع القوة - عدله فلم تثره عليهم حفيظة، أو تحفزه على الفتك بهم ضغينة في حين أن مثلهم قليل عليه هلاك النفوس، وقطع الرؤوس
[ص:209] انظروا إلى أبي سفيانبن حرب؛ وقد فعل بالمؤمنين ما فعل، وآذاهم أبلغ الإيذاء، وأنزل بهم صنوف البلاء: فهو الذي نكل بهم أشد التنكيل في أحد، وزلزلهم في الخندق، وهاج عليهم القبائل، وحرض عليهم الكفار والمنافقين وانظروا عفو الرسول عنه، بعد أن أمكن الله منه: فإن عفوه عليه الصلاة والسلام لم يقف عند حد فك أسره وإنجائه من الموت فحسب؛ بل قد منَّ عليه بما أعظم شأنه، ورفع رأسه: فقد قال عند دخول مكة «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فأي معروف هذا، وأي فضل، وأي عفو؟ ورب قائل يقول: إن إكرام أبي سفيان وتكريمه، والعفو عنه: إنما كان لرفعته في قبيلته، وكرامته على قومه. فها هو ذا «وحشي» ذلك العبد الحبشي، الذي لا أهل له يدفعون عنه، ولا عشيرة تؤويه، ولا قبيلة تحميه؛ وهو الذي أدمى قلب المسلمين، بقتل إمام المجاهدين: عم الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام «حمزة» سيد الشهداء؛ وقد جيء بوحشي إلى رسولهالله؛ وقد أسلم - أو تظاهر بالإسلام وقتذاك خشية القتل - ولا شيء حينئذٍ أحب إلى سائر المسلمين من أن يروا دمه؛ كما رأوا أحشاء حمزة وقد طعنه وحشي بحربته خيانة وغدراً فلم يكن شأن الرسول معه سوى أن قال له: «غيب عني وجهك فلا أرينك»
فأي مثل هذا لضبط النفس، والعفو الجميل وإننا لو أردنا أن نورد طرفاً مما كان عليه من كريم الخصال، وحميد الفعال: لما وسعتنا الأسفار الضخام؛ فتبارك الذي خصه بمحاسن الأخلاق (انظر آية 4 من سورة القلم)(1/208)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى(1/209)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} الطائف: العسس. شبه به بدء وسوسة الشيطان؛ لأنه عليه اللعنة يأتي متلصصاً؛ وبعد أن يتمكن من ضحيته: يتحكم فيها بأمرها بالمنكر، ونهيها عن المعروف(1/209)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} أي يكونون مدداً لهم، ويعضدونهم(1/209)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} أي هلا اخترتها واختلقتها {هَذَا بَصَائِرُ} أي هذا القرآن بصائر: وهو جمع بصيرة؛ وهي الحجة الواضحة(1/209)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} حال قراءته في الجهر {وَأَنصِتُواْ} حال قراءته في السر. وهذا في غير الصلاة؛ إذ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وذهب بعضهم إلى أن الاستماع والإنصات واجبان على المأموم عند قراءة الإمام(1/209)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} حين استماعك للقرآن وما فيه من عظات {تَضَرُّعاً} تذللاً وتخشعاً وتواضعاً {وَخِيفَةً} من أن يعاقبك مولاك على تقصير
[ص:210] وقع منك {وَدُونَ الْجَهْرِ} أي أقل من الجهر؛ لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى حسن التفكر {بِالْغُدُوِّ} هو ما قبل طلوع الشمس {وَالآصَالِ} هو ما بعد العصر إلى المغرب. والمراد: واذكر ربك في كل وقت(1/209)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} هم الملائكة.(1/210)
سورة الأنفال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/210)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} الأنفال: الغنائم التي تزيد عن حصة المجاهدين - وهي الخمس من كل ما غنموه - وقيل: هو ما جاء من غير قتال؛ كفرس، أو عبد، أو سلاح. وقيل: هي زيادة كان يزيدها الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض المجاهدين: تشجيعاً لهم، وحثاً لغيرهم؛ فسألوا عن ذلك؛ فقيل لهم {قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} يضعها الرسول بأمر الله تعالى حيث يشاء {فَاتَّقُواْ} أي أصلحوا الأحوال التي بينكم. كقوله تعالى {بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بمضمراتها(1/210)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الكاملو الإيمان هم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فزعت لذكره؛ استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} على إيمانهم ويعتمدون، ويستعينون(1/210)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فلا يخافون فقراً، ولا يخشون فاقة؛ لأنهم {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(1/210)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} فتدبر أيها المؤمن الكريم هذه الآية، وسائل نفسك: هل أنت مؤمن حقاً؟ وهل إذا ذكر الله أمامك: وجل قلبك؟ وإذا تليت عليك آياته: زادتك إيماناً؟ وهل أنت تنفق مما رزقكالله، كما أمركالله؟ فإن كنت تفعل ذلك: فأنت من السعداء الناجين، فاهنأ بما آتاك الله تعالى من فضل، وما وهبك من خير وإن كنت في واد والمؤمنون في واد آخر؛ فالجأ إلى الرحيم الودود، واجأر إلى اللطيف الحميد؛ ليتم إيمانك، ويثبت يقينك، ويوفقك لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوثوق بما عندالله؛ فنعم القريب، ونعم المجيب {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} في جناته {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو ما أعده الله تعالى لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب، وهنيء العيش(1/210)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ}
بالمدينة إلى بدر {بِالْحَقِّ} الذي أمر به الله {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} ذلك الخروج. المعنى: إن إصلاح ذات البين، ووجل القلوب عند ذكر المحبوب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: خير لكم عند ربكم؛ كما أن إخراج محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من بيته كان خيراً له(1/210)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} مجاهدة العدو {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} لهم النصر؛ بوعد الله تعالى به. وذلك أنهم خيروا بين العير والنفير، فاختاروا العير {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ} حين تأمرهم بالقتال {إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} وكان ذلك في وقعة بدر(1/211)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ} وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام في تجارة عظيمة، وخرج أبو جهل بجميع أهل مكة لتلقي العير، والمحافظة عليها؛ ونزل جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما قريشاً. فاستشار الرسول أصحابه؛ فاختاروا العير لخفة الحرب، وكثرة الغنيمة. وهذا معنى قوله تعالى {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} والشوكة: السلاح. فقام عند ذلك أبو بكر، وعمر، وسعدبن عبادة، والمقدادبن عمرو، وسعدبن معاذ؛ رضي الله تعالى عنهم، وقالوا فأحسنوا القول، وكان مما قاله المقدادبن عمرو: يا رسول الله إمْضِ إلى حيث أمرك الله فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لئن سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ففرح رسولالله بذلك ودعا لهم بخير؛ وقال: «سيروا على بركة الله تعالى» وكان ما كان مما هو مدون في كتب السير.(1/211)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} يقال: ردفه: إذا تبعه. وأردفته إياه: إذا أتبعته(1/211)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي ما جعل ذلك الإمداد {إِلاَّ بُشْرَى} لكم {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ}
بالكثرة، ولا بالمعاونة؛ وإنما هو في الحقيقة لا يكون {إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} ينصر الأقل الأذل، على الأكثر الأعز - متى شاء - بإرادته وقوته {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} قوي غالب، لا يغلب أبداً {حَكِيمٌ} في سائر أموره وتقديراته؛ فإذا قدر النصر فلمنة، وإذا قدر الهزيمة فلحكمة(1/211)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} النوم {أَمَنَةً} أمناً لكم؛ إذ أنه من المعلوم أن الخائف لا ينام؛ ولكن الله تعالى ربط على قلوبهم، وحال بينهم وبينها؛ فأمنوا في موطن الخوف، وخاف الكافرون في موضع الأمن والنعاس في القتال: أمن منالله، وفي الصلاة: رجز من الشيطان {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} قيل: كانوا على غير ماء، وأصبحوا مجنبين؛ فنزل المطر كالسيل؛ فشربوا وتطهروا {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ
[ص:212] الشَّيْطَانِ} بعد أن وسوس إليهم في منامهم بما أصبحهم مجنبين {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} يقويها بالصبر؛ وأنهم قد أصبحوا متطهرين {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} عند لقاء العدو، قيل: كانوا يتنقلون في حربهم على كثبان من رمل تسوخ فيه الأقدام؛ فتلبد الرمل من الماء وتثبت عليه أقدامهم عند اللقيا(1/211)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} البنان: أطراف الأصابع، أو هي الأصابع كلها؛ وذلك لجعلهم عاجزين عن إمساك السيوف، ومقاتلة المسلمين مرة ثانية(1/212)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ} خالفوا وعادوا(1/212)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذلِكُمْ} القتل والأسر والذل {فَذُوقُوهُ} أيها الكافرون في الدنيا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} في الآخرة {عَذَابَ النَّارِ} وغضب الجبار(1/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
{زَحْفاً} مجتمعين مهاجمين(1/212)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي جاعلاً القتال حرفة له، متقناً لها؛ وقد فر ليكر، وتظاهر بالهزيمة، ليفوز بالغنيمة {فَقَدْ بَآءَ} رجع {بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} وشتان بين من رجع بالفوز والغنيمة، أو الأجر والشهادة؛ وبين من «باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»(1/212)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي لم تقتلوا من قتل من الأعداء بأيديكم ورماحكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بأيدي ملائكته {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وذلك حين رمى سيد الكونين صلوات الله تعالى وسلامه عليه جيوش المشركين بقبضة من تراب، وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه منها، ولم يستطع الإبصار؛ وتسبب من ذلك هزيمتهم ونصر المؤمنين
هذا وقد استدل كثير من الفضلاء بهذه الآية على أن سائر أفعال الخلق المكتسبة؛ هي من الله وحده؛ فقد نفي عنهم الفعل والإنجاز؛ ألا ترى إلى قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فنفى عنهم القتل، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام الرمي؛ وقد حصل كلاهما؛ فكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتساب بالقوى. وقد فاتهم أنه مما لا خلاف فيه أن سائر أعمال الخير مصدرها من الله تعالى، أما أعمال الشر فهي من الإنسان وحده؛ قال تعالى: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وقد نسب الله تعالى إلى نفسه قتل المشركين ورميهم بالحصباء؛ وهما خير وحسنة وإذا قلنا بغير ذلك: كانت أعمال الكفار أيضاً: من الله إنشاؤها وإنجازها؛ وهذا ما لم يقل به مؤمن {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} {وَلِيُبْلِيَ} ينعم ويعطي {الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} من فضله {بَلاءً حَسَناً} عطاءً كثيراً من الغنائم {ذلِكُمْ} النصر والغنيمة حق {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} مضعف(1/212)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أي إن تطلبوا القضاء أيها الكفار
[ص:213] {فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} القضاء بهلاككم {وَإِن تَنتَهُواْ} ترجعوا عن الكفر والحرب {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن تَعُودُواْ} إلى النفاق والشقاق {نَعُدْ} إلى قتلكم وتشريدكم(1/212)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم(1/213)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} أي إن شر المخلوقات التي تدب على وجه الأرض - ومنها الإنسان - {الصُّمُّ} عن سماع الحق {الْبُكْمُ} عن النطق بكلمة التوحيد. شبه تعالى الكفار بالبهائم، بل بشرّها وفي ذلك كل البلاعة، ونهاية الإعجاز: إذ أن الكافر لا يسمع الحق، والبهائم لا تسمعه، ولا ينطق بالخير، والبهائم لا تنطق به، ويأكل والبهائم تأكل؛ قال تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} بقي أن الإنسان يؤذي ويضر، والبهائم لا تؤذي ولا تضر فكيف لا يكون بعد هذا شراً من البهائم؟(1/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ} أجيبوه {وَلِلرَّسُولِ} محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ بأن تطيعوه {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي إذا دعاكم للإيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الباقية أو {إِذَا دَعَاكُم} للجهاد وفي الجهاد حياتكم؛ وإلا فالموت والويل لمن يمكن أعداءه من نفسه، ومن دينه، ومن وطنه {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قد أريد بالقلب هنا: العقل. قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} أي إن الله تعالى يحول بين المرء وعقله؛ فيعمل بغير ما يمليه عليه؛ وقد حال الله تعالى - في الجهاد - بين المؤمنين وعقولهم؛ وكذلك حال أيضاً بين المشركين وعقولهم؛ قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} فلو لم يحل تعالى بين المؤمنين وقلوبهم: لانهزموا رعباً لكثرة المشركين وقوتهم، ولو لم يحل أيضاً بين المشركين وقلوبهم: لما استهانوا بالمؤمنين وأمكنوهم من أنفسهم؛ وذلك {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} وقد ذهب كثير من المفسرين - أثابهم الله - إلى أن معنى هذه الآية: أن الله تعالى يحول بين الكافر والإيمان وهو قول ظاهر البطلان؛ لا يجوز نسبته إلى الله تعالى وإنما أريد بالقلب هنا العقل كما بينا (انظر آيتي 110 من سورة الأنعام، و200 من سورة الشعراء)(1/213)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} عذاباً {لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} وذلك لأن العذاب يصيب الذين ظلموا، والذين لم يظلموا؛ لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، والذي لم يظلم يهلك لعدم منعه الظالم من ظلمه، وتركه إقامة الحد عليه(1/213)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}
أي محنة من الله؛ ليختبركم كيف تحافظون فيهما على حدوده، وتتجنبون محارمه (انظر آية 11 من سورة النساء)(1/213)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} الفرقان:
[ص:214] النصر والبرهان، ولعل المراد بذلك: يجعل لكم عقلاً راجحاً تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وبين النفع والضر {وَيُكَفِّرْ} يمح(1/213)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يكيدوا لك {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك(1/214)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} قالوا هذه القالة؛ وحينما تحداهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} ركنوا إلى الفرار وولوا الأدبار(1/214)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لقد وصف الله تعالى هؤلاء البهم بأدق ما يوصف به أمثالهم: حيث قال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وكيف لا يكون كالأنعام - بل أسوأ حالاً من الأنعام - من يقول هذا القول؟ وكان الأليق بمن يتصف بالآدمية والإنسانية؛ أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ووفقنا إلى اتباعه(1/214)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} وقد جرت عادته تعالى ألا يعذب أمة إلا بعد إخراج نبيها والمؤمنين منها {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قيل: كان المشركون يقولون عند طوافهم بالبيت: غفرانك غفرانك. وقيل: أريد بالمستغفرين: المؤمنين المستضعفين؛ وهو كقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقد ذهب المفسرون إلى أنه كان فيهم أمانان: نبي الله تعالى والاستغفار؛ فذهب النبي بموته، وبقي الاستغفار. وقد فاتهم أن الذي ذهب من الأمانين هو الاستغفار؛ لا الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ إذ لم يبق الآن مستغفر؛ وإذا استغفر إنسان: فاستغفاره في حاجة إلى استغفار أما الرسول فهو بين ظهرانينا - بل بين جوانحنا - إلى يوم نلقى الله؛ ممتعين باستغفاره لذنوبنا، وشفاعته لنا إن شاء الله قال: «تعرض علي أعمالكم؛ فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم»(1/214)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} هو تأييد لما تقدم: أي لولا وجودك فيهم، ووجود المستغفرين بينهم: لعذبهم الله تعالى؛ لأنهم مستحقون للعذاب فعلاً؛ بسبب أنهم {يَصُدُّونَ} يمنعون المؤمنين {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يمنعونهم عن دخوله، والطواف به {وَمَا كَانُواْ} أي وما كان هؤلاء المشركون الصادون {أَوْلِيَآءَهُ} أي لا ولاية لهم على المسجد الحرام حتى يمنعوا الناس من الطواف به {إِنَّ} ما {أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب(1/214)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ} أي دعاؤهم {عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً} صفيراً {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً؛ وقد كانت قريش يطوفون بالبيت عراة؛ يصفقون ويصفرون؛ كما يفعل اليوم بعض من يدعون الولاية والجذب في كثير من مجالسهم
[ص:215] المختصة بذكر الله تعالى وعبادته(1/214)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لأنهم لن ينالوا ما يبتغونه؛ وسيتم الله تعالى نعمته بإكمال دينه {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا؛ بالقتل وذهاب الأموال، والخزي(1/215)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{لِيَمِيزَ} يفصل {الْخَبِيثَ} الكافر {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن؛ فيجعل الخبيث في نيران الجحيم والطيب في جنات النعيم أو هو عام في كل شيء: في العبادات، والمعاملات، والنفقات والصدقات، وفي سائر الأعمال التي يخبثها الرياء، والأذى، والمن. ويطيبها الإخلاص في الطاعات، وتطهير السر والعلن {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ} يجمعه ويجعله متراكماً(1/215)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ} يرجعوا عن الكفر {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ما قد مضى من ذنوبهم؛ لأن الإيمان يجب ما قبله {وَإِنْ يَعُودُواْ} إلى الكفر بعد انتهائهم عنه {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ}
أي طريقتنا في معاملة الكافرين؛ وهي إهلاكهم واستئصالهم؛ فكذا نفعل بهم(1/215)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يكون شرك {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم عليه(1/215)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان، وبان منهم العدوان {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومعينكم(1/215)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} من مال الكفار في القتال {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} يأمر فيه تعالى بما يشاء؛ وأربعة الأخماس للمحاربين الغانمين؛ وقد قسم الله تعالى الخمس على خمسة {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} قرابته {وَالْيَتَامَى} أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم {وَالْمَسَاكِينِ} ذوي الحاجة من المسلمين {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع به الطريق في السفر {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من الآيات والمعجزات، والملائكة الذين أنزلناهم لنصرته {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم النصر، وهو يوم بدر؛ وسمي «يوم الفرقان» لأنه يوم فرق الله تعالى به بين باطل المشركين، وحق المؤمنين(1/215)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} جانب الوادي القريب وهو من الدنو {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} جانب الوادي البعيد {وَالرَّكْبُ} أي ركب المشركين {أَسْفَلَ مِنكُمْ} في مكان منخفض؛ مما يلي البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم والأعداء، على هذا اللقاء {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن} تم هذا التوافق {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} وهو نصر الإسلام، ومحق الكفر، وإعلاء كلمة الله تعالى:
[ص:216] {لِّيَهْلِكَ} ليكفر {مَنْ هَلَكَ}
من كفر {عَن بَيِّنَةٍ} حجة واضحة؛ هي انخذالهم - وهم الأكثرون الأقوياء وانتصار المؤمنين عليهم - وهم الأقلون الضعفاء - {وَيَحْيَى} يؤمن {مَنْ حَيَّ} من آمن {عَن بَيِّنَةٍ} حجة ظاهرة. وأي حجة أَبين وأظهر من غلبة الضعيف للقوي وانهزام الجيش اللجب، ذي السطوة والقوة. أمام شرذمة لا حول لها ولا طول إلا ب الله ذي العزة والمنعة ولم تكن البينة في انتصار الضعفاء على الأقوياء فحسب؛ بل لقد رأى المسلمون - وهم الأقلون - الكافرين قليلاً - وهم الأكثرون - ورأى الكافرون المسلمين كثيراً؛ فانخلعت قلوبهم، وأمكن الله تعالى منهم ولم تكن بينة الله تعالى - التي جعلها فيصلاً بين الكفر والإيمان - قائمة على انتصار الضعفاء على الأقوياء، ورؤية الأقلين للأكثرين قليلاً، والأكثرين للأقلين كثيراً؛ لم يكن هذا وحده؛ بل رأى المسلمون والكافرون في هذه المعركة جنود الله تعالى من الملائكة جهاراً تنكل بالكافرين تنكيلاً، وتحصد عتاة المشركين وسراتهم حصداً؛ ولقد كان المؤمن يقصد الكافر بسيفه؛ فتطيح رأس الكافر قبل أن يصل سيف المؤمن إلى عنقه(1/215)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} أي يريك الكفار {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} فسررت واطمأننت لذلك، وأخبرت أصحابك فسروا واطمأنوا {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} جبنتم {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أي لترددتم بين الثبات والفرار {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} بما أراك في منامك؛ مما تقوى به قلوبكم، وتشتد به عزائمكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنونات القلوب وما خفي فيها(1/216)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ} في القتال {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} كما أراكهم في منامك {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} قلة تزيد عن قلتكم؛ ليطمعوا فيكم، ويقدموا على قتالكم، ولا يحجموا عن حربكم؛ وكان ذلك قبل الالتحام؛ فلما التحم الفريقان أراهم إياكم مثليهم؛ قال تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}(1/216)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{وَلاَ تَنَازَعُواْ} تتنازعوا {فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تضعفوا وتذهب قوتكم، وتدول دولتكم(1/216)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً} طغياناً {وَرِئَآءَ النَّاسِ} أي رياء وهم أهل مكة حين نفروا لحماية العير؛ فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدراً، وننحر بها الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان؛ ونطعم العرب - فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم - فوافوها: فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان؛ فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم: بطرين، طربين، مرائين {وَيَصُدُّونَ} يمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه(1/216)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها في معاداة الرسول {وَقَالَ} لهم الشيطان؛ تقوية لقلوبهم {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
[ص:217] مِنَ النَّاسِ} وقد ظهر لهم الشيطان على صورة سيد الناحية التي تم فيها القتال {وَإِنِّي جَارٌ} أي مجير {لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} تلاقى الجمعان {نَكَصَ} رجع الشيطان {عَلَى عَقِبَيْهِ} هارباً {وَقَالَ} وذلك حين رأى إبليس اللعين، الملائكة المقربين؛ يضربون الكفار مع المسلمين؛ فقال: {إِنَّي أَرَى} بعيني رأسي {مَا لاَ تَرَوْنَ} أنتم {إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ} كذب اللعين في هذا القول؛ ولكنه قاله حينما رأى ألا حول له ولا قوة في هذا اليوم: فركن إلى الفرار، وولى الأدبار(1/216)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} وهم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفران {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شرك ونفاق {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم؛ فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف ثم قال تعالى رداً عليهم
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يعتمد عليه، ويلجأ إليه {فَإِنَّ اللَّهَ} ناصره ومعينه؛ لأنه تعالى {عَزِيزٌ} غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} في صنعه (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/217)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ} يقبضون أرواحهم بأمر ربهم؛ فلا ينزعونها برفق؛ بل {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} بمقامع من حديد؛ تعذيباً لهم يقال لهم في الآخرة {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} جزاء كفركم وعنادكم(1/217)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{كَدَأْبِ} كشأن وعادة {آلِ فِرْعَوْنَ} في كفرهم وعنادهم، وتعذيبهم بعد موتهم {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أهلكهم في الدنيا بسببها(1/217)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
{ذلِكَ} العذاب والانتقام {بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي إنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم؛ إلا إذا استوجبوا بما ارتكبوه من إثم ونعمته تعالى التي أنعمها على قريش: هي بعثة الرسول إليهم؛ فلما غيروها بالإيذاء، والإخراج، والتكذيب، والمحاربة: غير الله تعالى نعمته عليهم بإهلاكهم يوم بدر؛ كما فعل بالأمم الماضية قبلهم؛ ممن عصى وطغى وبغى.(1/217)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} الدواب: كل ما يدب على وجه الأرض؛ وأكثر ما يطلق على العجماوات، وقد نزل الله تعالى بالإنسان الكافر إلى مصاف الحيوان؛ بل هو - في الحقيقة - شر من الحيوان(1/218)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} فإن تصادفنهم {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فاقتلهم شر قتلة، واضربهم الضربة القاضية؛ التي تجعل من وراءهم يفرون مشردين، ويتفرقون خائفين جزعين(1/218)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{وَإِمَّا} وإن {تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} بينك وبينهم عهد {خِيَانَةً} للعهد، ونقضاً للمواثيق التي بينكما {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أي اطرح إليهم عهدهم، وعرفهم أنك قد قابلت نقضهم للعهد، بنقضك له أيضاً {عَلَى سَوَآءٍ} لتكونوا مستوين في معرفة نقض العهد؛ وليكون ذلك بمثابة إعلان الحرب عليهم؛ فلا يؤخذون على غرة، ويكون ذلك منافياً لما عرف عن الإسلام والمسلمين من الفضائل والشمائل، وتوافر المروءة؛ حتى في عداوتهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} ولو مع أعدائهم ـ؛ فقد نال المسلمون بأخلاقهم - من أعدائهم - أكثر مما نالوه بسيوفهم؛ فتعالى المربي الأعظم(1/218)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أنهم {سَبَقُواْ} أي فاتوا الله تعالى، ونجوا من عقابه {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتونه؛ بل سيدركهم عقابه في الدنيا، وعذابه ومقته في الآخرة(1/218)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} من عجب أن يعد لنا العدو السيف والسنان، ونعد له أطراف اللسان؛ وهيهات هيهات أن يكسب اللسان حقاً أكسبه السنان؛ وها هي ذي تعاليم الرحمن، ومن هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ تقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} فليتنبه الغافل، وليتدبر العاقل {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} ربطها وحبسها للجهاد في سبيل الله تعالى. والرباط من الخيل: الخمس فما فوقها، وتجمع على «ربط» وبها قرأ الحسن وعمرو بن دينار وغيرهما {تُرْهِبُونَ بِهِ}
تخوفون برباط الخيل {عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهم اليهود وكفار مكة} أي وأعداء آخرين غير هؤلاء الأعداء؛ وهم المنافقون. وقيل: هم فارس والروم. وقيل: هم الجن؛ لقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} وهو ينطبق على المنافقين أيضاً؛ لأنهم غير معلومين؛ وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «إن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأنها تهرب من صهيل الخيل»(1/218)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{وَإِن جَنَحُواْ} مالوا {لِلسَّلْمِ} للمسالمة وعدم الحرب {فَاجْنَحْ لَهَا} فمل إليها؛ أي إلى السلم كما مالوا إليه {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وحده {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولك {الْعَلِيمُ} بحالك (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/218)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} يمكروا ويغدروا بك.
[ص:219] {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيك(1/218)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} التحريض: المبالغة في الحث على الأمر {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} على مرضات ربهم وطاعته، يجاهدون أعداء الله تعالى ابتغاء جنته {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} نتيجة العدد في الفرضين واحدة؛ وهو أن الواحد من المؤمنين الصابرين؛ يغلب العشرة من الكافرين؛ وإنما كررها تعالى ليبين لنا أن زيادة العدد أو نقصانه لا يؤثران في الغلبة: فسواء كان المجاهد واحداً أو ألفاً؛ فإن الواحد يغلب العشرة، والألف يغلب العشرة الآلاف؛ مع اشتراط الصبر في هذا، والكفر في ذاك {بِأَنَّهُمْ} أي تلك الغلبة بسبب أن الكافرين {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لأنهم يقاتلون بغير احتساب وطلب ثواب؛ فيقل ثباتهم، وتضعف عزيمتهم. وقد كان ذلك عند بدء الإسلام، وقلة معتنقيه، وكثرة أعدائه ومحاربيه؛ فلما نما الإسلام، وزاد المسلمون: خفف الله تعالى عنهم:(1/219)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}
بقوته ومعونته {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالعون والنصر، والإمداد(1/219)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} ما صح وما جاز {أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} الإثخان: كثرة القتل؛ وذلك حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام والمسلمين بالاستيلاء والقهر؛ ثم يكون بعد ذلك الأسر. وقد روي أن النبي أتى بسبعين أسيراً - فيهم العباس عمه وعقيل - فاستشار النبي أصحابه فيهم؛ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله قد أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان - لنسيب له - فلنضرب أعناقهم فقال عليه الصلاة والسلام: مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم؛ حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومثلك يا عمر كمثل نوح؛ حيث قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم؛ فقالوا: بل نأخذ الفداء - فاستشهدوا بأحد - فلما أخذوا الفداء نزلت هذه الآية {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي متاعها؛ ويعني به ما أخذ من فدية الأسرى {وَاللَّهُ يُرِيدُ} لكم {الآخِرَةَ} وما فيها من نعيم مقيم وفي هذه القصة من احترام الشورى، والنزول على رأي الأغلبية ما فيه؛ وليس من أحد أوسع حكمة، وأسدّ رأياً، وأهدى
[ص:220] رشداً؛ من الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ ولكنه استشار أصحابه، وأمضى رأي الجماعة؛ تنبيهاً لأمته، وتعليماً لهم؛ وإقراراً لنظم الشورى، وهذه هي الديمقراطية الحقة؛ التي يجب السير على نهجها {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في ملكه، غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} في صنعه(1/219)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ} أي لولا حكم منه تعالى {سَبَقَ} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ} لنالكم وأصابكم
{فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مما أعده الله تعالى لمن يخالفون أمره(1/220)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} إيماناً بالله، وإخلاصاً للمؤمنين {يُؤْتِكُمْ} في الدنيا {خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما تقدم من ذنوبكم(1/220)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{وَإِن يُرِيدُواْ} أي الأسرى {خِيَانَتَكَ} بأن يظهروا الإيمان، ويبطنوا الكفران {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ} بكفرهم {مِن قَبْلُ} أي قبل وقعة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي أظفرك بهم في بدر(1/220)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{وَالَّذِينَ آوَواْ} النبي {وَّنَصَرُواْ} المؤمنين وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} في المعونة والنصرة؛ ولا حجة لمن زعم أنهم أولياء في الإرث أيضاً(1/220)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} ليكونوا كالسابقين من المهاجرين؛ وليس معنى ذلك أن تعادوهم وتسووا بينهم وبين الكافرين أو المنافقين {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي طلبوا معاونتكم على أعدائهم من أجل الدين {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي فواجب عليكم نصرهم ومعاونتهم {إِلاَّ} إذا كان استنصارهم بكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} عهد و {مِّيثَاقٌ} فلا يجوز نقضه من أجلهم؛ إذ أن الوفاء بالمواثيق والعهود والعقود من أسس الإسلام؛ بل هو الإسلام نفسه فكل وعد وكل عقد، وكل عهد، وكل ميثاق؛ إنما هو عقد بين طرفين ثالثهما الله تعالى؛ فمن نقضه: فقد أخل بالوفاء مع ربه وخالقه ومالك أمره؛ قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} وقال أيضاً
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وقال جل شأنه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} وقال عز من قائل: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة) وهذه الآية تعتبر قانوناً سامياً، ودستوراً دولياً؛ تكتبه الأمم في معاهداتها، وينص عليه المشرعون والمقننون في كتبهم وقوانينهم؛ ولكن الكتابة والتقنين والتشريع - في عرف ساسة اليوم - شيء غير التنفيذ؛ وأصبح الجميع {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فكم من معاهدة، وكم من اتفاق، وكم من تحالف؛ ضرب به عرض الحائط؛ وصار المنطق للقوة وحدها، وصار من يملك أداة التخريب والدمار هو صاحب الحق، وهو الناطق بالصواب فانظر - يا رعاك الله
[ص:221] وهداك - إلى تشريع مولاك: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فتعالى الله الملك الحق؛ الهادي للرشاد والسداد {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ظاهر الآية: إثبات موالاة الكافرين لبعضهم؛ وحقيقتها طلب كف المؤمنين عن موالاتهم، وإيجاب مباعدتهم {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي إن لم تفعلوا ما أمرت به من نظام الحرب، والإثخان في الأرض قبل اتخاذ الأسرى، وولاية المهاجرين والمؤمنين، ونصرة من يستنصر من المسلمين - مع المحافظة على العهود والمواثيق - وعدم موالاة الكافرين؛ فإن لم تفعلوا ذلك {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} لأن ذلك مؤد إلى انهزامكم، واستيلاء العدو على بلادكم، وعدم الثقة في عهودكم ومواثيقكم(1/220)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ} أي ذووا القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في البر، والإنفاق والإحسان.
والرحم: وعاء الولد ومنبته. وأطلق على القرابات: لأنه أصلها وسببها.(1/221)
سورة التوبة(1/221)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
{بَرَآءَةٌ} اختلف في التسمية في ابتداء هذه السورة - كسائر سور القرآن الكريم - فعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: أن بسم الله الرحمن الرحيم: أمان، وبراءة نزلت لرفع الأمان. وهو قول غير جائز - ولعله قد دس على الراوين - ف الله جل شأنه: رحيم ورحمن؛ سواء أمر بالقتال، أو أمر بالسلم، أمر بالعذاب، أو أمر بالثواب وقال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة؛ نزلت في القتال. وهو قول خير من سابقه، ولا بأس به. و {بَرَآءَةٌ} أي تخلص وتبرؤ من المواثيق والعهود وهذا التبرؤ {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} أي عقدتم معهم مواثيق بعدم الاعتداء؛ فنقضوها(1/221)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{فَسِيحُواْ} فسيروا آمنين أيها المشركون. والسيح: السير على مهل {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وهي مدة الهدنة التي ضربها الله تعالى لهم للتوبة من الشرك {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي غير فائتي عذابه وانتقامه بل سيدرككم بالأخذ والعقوبة(1/221)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{وَأَذَانٌ} إيذان وإعلام {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً: من عاهد منهم ومن لم يعاهد، ومن نقض عهده ومن لم ينقض {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} يوم عرفة
[ص:222] {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ومن عهودهم {وَرَسُولُهُ} بريء منهم أيضاً. ومن بريء منه الله تعالى فإن رسوله بريء منه، ومن برىء منه الرسول فإن الله تعالى بريء منه {فَإِن تُبْتُمْ} أيها المشركون من كفركم ونقضكم للعهود {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنكم ضمنتم الأمان في الدنيا، والأمن في الآخرة {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن ذلك {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} غير فائتي عذابه(1/221)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} مما عاهدوكم عليه {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ}
لم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} التي ضربتموها في العهد. يؤخذ من ذلك أنه كانت تعقد بين المؤمنين والمشركين معاهدات ومحالفات، مؤقتة بمواقيت؛ كما يفعل كبار ساسة العالم اليوم؛ بغير فارق سوى أن هؤلاء ناقضون للعهد، صارمون للود؛ وأولئك لعهدهم راعون، ولأماناتهم حافظون(1/222)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{فَإِذَا انسَلَخَ} أي مضى {الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي ذي القعدة وذي الحجة والمحرم {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} ناكثي العهد {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في الحل أو الحرم، وفي الأشهر الحرم، أو غير الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} الأخذ: الانتقام والأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} حاصروهم؛ حتى يضطروا إلى الإسلام، أو الاستسلام {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} كل طريق؛ وترصدونهم به، وتترقبونهم فيه {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك وآمنوا {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} المفروضة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أطلقوا سراحهم من الأسر ولا تتعرضوا لهم بأذى(1/222)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرت بقتالهم {اسْتَجَارَكَ} أي استجار بك، وطلب منك الأمن {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} ومن هنا نعلم أن الإسلام لم ينتشر بالشدة والقسوة - كما يزعم بعض أعدائه وشانئيه - وإنما انتشر وشاع بالحجة والإقناع وباللطف لا العنف؛ ولم تكن مهمة المسلمين النيل من الكافرين؛ بل إقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه؛ وليس بعد ذلك مطعن لطاعن، أو مغمز لغامز؛ ممن طمس الله تعالى بصائرهم، وجعلهم من حزب الشيطان فهو يدعوهم دائماً إلى نار السعير {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} موضع أمنه؛ وهو المكان الذي يختاره لنفسه بنفسه. والمعنى: حافظ عليه حتى يصل إلى ديار قومه. وبعد ذلك يجوز قتاله إذا بدت منه إذاية للمسلمين، أو إضرار بمصالحهم(1/222)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} أي لا يجوز أن يكون لهم عهد؛ لأنهم قوم لا أمان لهم {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} منهم {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ولم ينكثوا بعهدهم {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} أي أقاموا على العهد.
[ص:223] {فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} على الوفاء بعهدهم(1/222)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{كَيْفَ} تكرار للتأكيد؛ أي «كيف يكون للمشركين عهد» هم {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي إن يظفروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ} لا يراعوا {فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} الإل: الحلف، والقرابة، والجوار و «الذمة»: العهد {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} رياء ونفاقاً {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} الإيمان(1/223)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{اشْتَرَوْاْ} استبدلوا {بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن {ثَمَناً قَلِيلاً} هو اتباع الشهوات {فَصَدُّواْ} منعوا {عَن سَبِيلِهِ} دين الله القويم(1/223)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{فَإِن تَابُواْ} عن الشرك {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} المفروضة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وأخوة الدين: تفضل أخوة النسب، وترتقي عنها في السبب(1/223)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{وَإِن نَّكَثُواْ} نقضوا {أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإن نكثوا عهدهم الموثق بالأيمان {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} القويم المستقيم؛ فهم من أئمة الفجرة الكفرة {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} رؤساءه؛ لأنه بقتل الرؤساء: يخضع المرءوسون ويذلوا ويستكينوا {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} يرجعون عما هم فيه(1/223)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} نقضوها {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} هموا بإخراجه عليه الصلاة والسلام من مكة؛ حين تشاورا بدار الندوة {وَهُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ببدر؛ حين قالوا: لن ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وتغنينا القيان، وننحر الجزور، ونشرب الخمور(1/223)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} بالقتل والجراح {وَيُخْزِهِمْ} أَن كُنتُم يَشَآء حَكِيمٌ وَاللَّهُ أَوَّلَ بَدَءوكُمْ يُعَذّبْهُمُ {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
[ص:224] وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} أَمْ بَدَءوكُمْ يَشَآء عَلَى حَكِيمٌ مُّؤُمِنِينَ.
{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بالنصر على الكافرين(1/223)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} مما نالهم من أذى المشركين(1/224)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أي هل ظننتم {أَن تُتْرَكُواْ} بغير امتحان وابتلاء {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} لم يعلم حتى الآن؛ بمعنى أنه تعالى لم يظهر ما يعلم؛ لأنه جل شأنه عالم بكل معلوم، محيط بكل موجود أي لم يعلم {الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} من الولوج؛ وهو الدخول. والمراد بها بطانة الرجل وخاصته؛ أي لم يتخذوا من الكفار والمنافقين أصدقاء وخلصاء. قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(1/224)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} لا يحق لهم {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} بأن يدخلوها؛ وقد كانوا يدخلون المسجد الحرام: حاجين أو طائفين؛ بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وقد كانت فيهم السدانة، والسقاية، والرفادة {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} بعبادتهم للأصنام، وسجودهم لها؛ مع معرفتهم وإقرارهم بأنها مخلوقة {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ} الحسنة التي يعملونها في الدنيا؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال(1/224)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يدخلها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} وخشيته تعالى: إحدى دعائم الإيمان؛ التي لا يتم إلا بها، ولا يقوم إلا عليها؛ إذ كيف يكون مؤمناً بالله، من لم يخشالله؟ أو كيف يكون مؤمناً باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب من يخشى مع الله غيره؟ ولو تأملت بعين الاستبصار والاعتبار؛ لوجدت أن كل الأعمال الموصلة إلى الجنة توصل إلى النار - إذا صحبتها خشية المخلوقين، دون خشية رب العالمين - فكم مصيب يدخل النار؛ لخبث نيته، وسوء طويته وكم من مخطىء يدخل الجنة لصدق نيته، ومزيد خشيته ومن هنا نعلم أن خشية الله تعالى هي الإيمان كله، وأنها موصلة لخيري الدارين، وأنها طاعة من أجلِّ الطاعات، وأن خشية ما سوى الله تعالى معصية من أقبح المعاصي ويندرج تحت ذلك سائر الطاعات؛ فالجهاد: خشيةلله تعالى، والإحجام عنه: خشية من الأعداء
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} والإنفاق: خشيةلله تعالى، والإمساك: خشية من الإملاق والفقر {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} وسائر العبادات - ما لم يشبها رياء أو نفاق - فهي خشية من الله تعالى؛ فإذا شابها شيء منهما فهي خشية لسواه(1/224)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
[ص:225] الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: افتخر العباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي رضي الله تعالى عنه بالإسلام والجهاد؛ فصدق الله تعالى علياً؛ لأن(1/224)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} والمؤمن المهاجر: أعظم درجة من المؤمن الذي لم يهاجر(1/225)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء وخلصاء {إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} وذلك لأن الكفر نهاية العداء، وغاية البغضاء(1/225)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{قُلْ} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة معك {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} والتمتع بصحبتهم {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها؛ وتريدون المحافظة عليها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ} تركها، وتخافون {كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} وترتاحون في الإقامة بها. إن كان ذلك {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعقوبته؛ يوم فتح مكة؛ و(1/225)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} بقدرته ومعونته؛ لا بقوتكم وكثرتكم؛ كوقعة بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. وقيل: إن المواطن التي نصر الله تعالى فيها الإسلام ثمانون موطناً {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وهو وادٍ بين مكة والطائف؛ دارت فيه رحى القتال بين المؤمنين والمشركين، وانتصر المشركون فترة من الزمن. والمعنى: «ويوم حنين» نصركم الله فيه أيضاً بعد أن أذاقكم مرارة الهزيمة؛ عقوبة على تقصيركم في الاعتماد عليه، وإعجابكم بكثرتكم {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وقلتم: لن نغلب اليوم عن قلة. وكانوا اثني عشر ألفاً؛ والكافرون أربعة آلاف {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ} هذه الكثرة {شَيْئاً} فالنصر يأتي به الله لمن شاء أنى شاء؛ ليس تبعاً لكثرة أو لقلة(1/225)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينته {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فنادى الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، يا أصحاب سورة البقرة فرجع المسلمون إليه {وَأَنزَلَ} الله تعالى {جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} من الملائكة (انظر آية 42 من سورة الأنفال) {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالقتل والأسر(1/226)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ} إسلامه وهدايته من المشركين، أو يتوب على من يشاء من المدبرين المنهزمين؛ لأن الواجب على المجاهد ألا يولي العدو دبره. قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(1/226)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لخبث باطنهم، وقذارة ظاهرهم؛ لأنهم لا يغتسلون، ولا يتطهرون، ولا يتجنبون النجاسات؛ فهي دائماً ملابسة لهم {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فقراً(1/226)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} سميت جزية: لأنها جزاء على الكفر {عَن يَدٍ} أي نقداً مقبوضة؛ غير نسيئة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار؛ وهو الذل والهوان(1/226)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهو أحد أنبياء بني إسرائيل؛ وربما قال هذا القول الأوائل منهم، أو قالوه في زمن الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام - عناداً له - لما رأوه منه من تقديس الإله، وتنزيهه عن الولد والوالد، أو نزلت هذه الآية بسبب أن اليهود سمعوا مقالة النصارى بمثل ذلك؛ فلم ينكروا عليهم، أو يردعوهم. وخلاصة القول: إنه لا يوجد الآن بين اليهود من يقول: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} فوجب أن نتأول ذلك بما قلناه. هذا ولو أنه من المعلوم أن اليهود يرتكبون ما هو أشد من نسبة الولد إلى الله
[ص:227] {يُضَاهِئُونَ} يشابهون بقولهم هذا {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ}
وهم الذين قالوا: الملائكة بناتالله. وقول المشركين: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق؛ مع قيام الدلائل الواضحة على صدقه(1/226)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ} علماءهم {وَرُهْبَانَهُمْ} نساكهم {أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} أي كالأرباب؛ حيث أطاعوهم في كل شيء. ومنه قوله تعالى: {انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي كالنار. وقد كان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام فيستحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} عطف على {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} أي اتخذواالمسيح ابن مريم رباً لهم {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن الولد، وعن الشبيه والنظير(1/227)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} شرعه وبراهينه، وأدلة توحيده {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ} يظهر {نُورَهُ} دينه وشرعه؛ ويعليه على سائر الأديان والشرائع(1/227)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} القرآن {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على سائر الأديان المخالفة(1/227)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{وَيَصُدُّونَ} يمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ولا يؤدون زكاتها، ولا يتصدقون منها {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ذهب أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته. والإجماع على غير ذلك؛ ما دام مؤدياً حق الله تعالى فيه. وقد زعم بعضهم أنها نزلت في أهل الكتاب فحسب؛ وهو زعم باطل(1/227)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي على الذهب والفضة
{فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وقد اختيرت الجباه والجنوب والظهور بالكي: لأن البخيل يرى الفقير قادماً عليه فيقطب جبهته، فإذا جاءه أعرض ونأى بجانبه، فإذا طالبه بإحسان ولاه ظهره؛ فوجب أن يكوى بما بخل به على جبهته وجنبه وظهره وقد يكون المراد بذلك كيّ سائر الجسم؛ فالجبهة تدل على الأمام، والجنوب والظهور على باقي الجسم. وقد يقال: كيف يحمى على أوراق العملة المتداولة الآن إن كانت مكتنزة؟ والجواب: إنه يحمى على ما يوازيها من الذهب والفضة؛ فتكوى بها الجباه والجنوب والظهور؛ وجميع ذلك على وجه التمثيل: فقد يحمى على أطنان كثيرة من الذهب والفضة؛ فتصب على البخلاء صباً؛ ويومئذٍ يتذكرون ما فعلوه في دنياهم {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} والمراد من الآية: أن الذهب والفضة اللذين هما موضع إعجابهم في الدنيا واهتمامهم وحرصهم؛ سيكونان في الآخرة موضع ألمهم وتعذيبهم نعوذ به تعالى من غضبه وعذابه {هَذَا مَا كَنَ
[ص:228] زْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي يقال لهم: إنكم لم تكنزوا خيراً لأنفسكم؛ بل كنزتم لها الشر المقيم، والعذاب الأليم {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي جزاءه وعقوبته(1/227)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} لوحه المحفوظ؛ الذي كتب فيه {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} كل ما هو كائن {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} يحرم القتال فيها وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {ذلِكَ} أي تحريم هذه الشهور؛ هو {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا أنفسكم في الأشهر الحرم؛ بارتكاب المعاصي؛ فإنها فيها أعظم إثماً، وأشد وزراً وقيل: الضمير في «فيهن» عائد على الأشهر كلها: الإثني عشر. أما الأشهر الحرم فإن الذنب فيهن أكبر، كما أن العمل الصالح والأجر فيهن أعظم. وقد اصطفى الله تعالى من خلقه صفايا: فاصطفى من الملائكة والناس رسلاً، واصطفى من الكلام القرآن، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر؛ فعظموا ما عظم الله تعالى واصطفاه: تفوزوا بجنته ورضاه {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} أي مجتمعين غير مفترقين، مؤتلفين غير مختلفين(1/228)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} النسيء: التأخير؛ وقد كانوا يؤخرون حرمة الأشهر الحرم لغيرها؛ طبقاً لأهوائهم ورغبتهم في القتال {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} وذلك بتحريم شهر حلال، مكان شهر حرام استحلوه؛ فكانوا يحرمون صفر عاماً - مكان المحرم - ويحرمون المحرم عاماً؛ وذلك معنى قوله جل شأنه {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بإحلالهم المحرم؛ الذي هو من الأشهر الحرم(1/228)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} أي اخرجوا للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد {إِلَى الأَرْضِ} أي ملتم إلى القعود {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي أرضيتم بما في الدنيا من متاع زائل، وراحة مؤقتة؛ عما في الآخرة من نعيم مقيم، وسعادة دائمة {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي} جنب متاع {الآخِرَةِ} ونعيمها الباقي الدائم {إِلاَّ قَلِيلٌ} حقير زائل(1/228)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{إِلاَّ} إن لم {تَنفِرُواْ} تخرجوا مع النبي للجهاد {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا؛ بالجدب والقحط {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يطيعونه إذا أمر، ويخرجون معه إذا استنفر {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} أي ولا تضروا الله شيئاً بترككم النفير وعصيانكم؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إليكم.(1/228)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي إن لم تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه سوى رجل واحد {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} والغار: نقب في الجبل؛ وقد كانا في غار بجبل ثور؛ وهو من جبال مكة المكرمة {إِذْ يَقُولُ} محمد {لِصَاحِبِهِ} أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى المشركين يجوبون الجبل بحثاً عن النبي ليقتلوه؛ فقال للنبي: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. فقال عليه أفضل الصَّلاة وأتم السلام {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بنصره وعونه وكلاءته {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} السكينة: الطمأنينة {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ملائكة يحفظونه من أن يراه الكفار، ومن أن ينال منه أحدهم لو رآه {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} دعوتهم إلى الشرك {السُّفْلَى} المنحطة المغلوبة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} دينه، والدعوة إلى توحيده {هِيَ الْعُلْيَا} الظاهرة الغالبة(1/229)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال ركباناً ومشاة، أو شباباً وشيوخاً، أو أغنياء وفقراء(1/229)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان ما دعوتهم إليه مغنماً سهل المأخذ {وَسَفَراً قَاصِداً} وسطاً، غير بعيد {لاَّتَّبَعُوكَ} جرياً وراء منافعهم الدنيوية {وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} المسافة الشاقة {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالكذب والنفاق، وتعريضها للعذاب الأليم(1/229)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ} هو من ألطف العتاب {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} في التخلف عن الجهاد؟
من هذه الآية نعلم مكانة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه عند ربه، وعلوّ قدره، وسمو منزلته؛ فقد بشره مولاه جل شأنه بالعفو قبل أن يخبره بالذنب؛ ولأنه لو قال له معاتباً: لم أذنت لهم؟ لخيف عليه أن ينشق قلبه حزناً وكمداً(1/229)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شكت في صحة الدين(1/230)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} كره نهوضهم للخروج للجهاد معك؛ على ما هم عليه من شك ونفاق؛ لا يتوفر معهما الإقدام، وصدق الدفاع {فَثَبَّطَهُمْ} الله عن الخروج؛ أي كسلهم عنه {وَقِيلَ} لهم {اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} مع المرضى والنساء والشيوخ والصبيان؛ الذين أقعدهم المرض والضعف والعجز والصغر؛ وهؤلاء الشاكون المرتابون(1/230)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} للقتال {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} الخبال: النقصان، والهلاك، والعناء، والكل؛ والمعنى: ما زادوكم إلا فساداً وتعويقاً {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} لمشوا بينكم بالدس والنميمة، وإفساد ذات البين {يَبْغُونَكُمُ} يطلبون لكم {الْفِتْنَةِ} الإفساد والعداوة، أو يبغون لكم الكفر، أو المراد بالفتنة: الدس والوقيعة؛ لقوله تعالى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي مصدقون لما يقولونه، أو {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي جواسيس من المنافقين: يسمعون أسراركم، ويبلغونها لهم(1/230)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ} طلبوا وأرادوا لك {الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} حين قدمت المدينة {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} دبروا لك الحيل والمكائد لإبطال دينك {حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ} النصر الذي وعدك الله تعالى به {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} فشا دينه، وسطع نوره(1/230)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} في القعود عن الجهاد {وَلاَ تَفْتِنِّي} أي لا توقعني في الفتنة؛ وهي الإثم. قال تعالى رداً على قولهم {أَلا فِي الْفِتْنَةِ} الكفر والعذاب والإثم {سَقَطُواْ} وقعوا؛ بسبب ما قالوا. وما فعلوا، وبسبب تخلفهم عن الجهاد {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لا ينجو منها أحد منهم(1/230)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ} لأنهم لا يبتغون لك الخير؛ لخبث باطنهم {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} شدة وهزيمة {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} من الحذر والتيقظ؛ ولم نقع فيما وقعوا فيه(1/230)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ} من خير أو شر {إِلاَّ مَا كَتَبَ} قدر وقضى {اللَّهُ لَنَا} فلا دافع له، ولا مناص من وقوعه.
[ص:231] {هُوَ مَوْلاَنَا} ناصرنا ومتولي أمورنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/230)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ} تنتظرون لنا {إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} النصر، أو الشهادة: وكلاهما حسن. بل الشهادة التي تتوقعونها لنا: أحسن وألذ من النصر {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} ننتظر لكم {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} بقارعة من السماء؛ كقارعة عاد وثمود {أَوْ بِأَيْدِينَا} بأن نقتلكم(1/231)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{قُلْ أَنفِقُواْ} في طاعة الله تعالى {طَوْعاً} بإرادتكم {أَوْ كَرْهاً} رغم أنوفكم {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ما تنفقونه {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} كافرين(1/231)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} بنفاقهم، ورغبتهم في إيصال السوء إليك {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} لأنهم لا يبتغون من أدائها ثواباً، ولا يخشون من تركها عقاباً وإنما يقومون بها اتقاء للمؤمنين، ومراءاة لهم(1/231)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} وكثرتها {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} ولا تظنن أن ذلك إنعام منا عليهم، أو رضاء عن أعمالهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بما يلقونه في سبيل تحصيل الأموال والحرص عليها، والكدر عند إنفاقها، وبما يلقونه من عنت الأولاد، ومرضهم وفقدهم؛ في حين أن المؤمن لا يحرص على الجمع، ولا يألم للإنفاق؛ ويكتب له بكل أذى يلقاه حسنة {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم؛ والزهوق: الخروج بصعوبة(1/231)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} جبناء؛ يخافون القتل إذا هم أظهروا ما يبطنون(1/231)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} يلجأون إليه خوفاً من القتال {أَوْ مَغَارَاتٍ} سراديب في الجبال {أَوْ مُدَّخَلاً} نفقاً {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون كالفرس الجموح الذي لا يرد(1/231)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} يعيبك {فِي الصَّدَقَاتِ} أي في توزيعها. والمراد بالصدقات الزكاة المفروضة؛ وقد كانت تجمع، وتوزع بمعرفة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي إن رضاهم وسخطهم للدنيا؛ لا للدين، ولأنفسهم لا للمسلمين.(1/231)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي بما آتاهم من الأموال والغنائم وطابت به نفوسهم، من غير تطلع إلى ما أوتي غيرهم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا(1/232)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ} الذين يسألون الناس لأنهم لا يجدون ما ينفقون {وَالْمَسَاكِينِ} الذين لا يسألون أحداً؛ لأن عندهم ما يكفيهم في الحال؛ كمن يملك قوت يومه، أو من لا يجد الكفاف الجباة الذين يحصلونها {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} قوم من أشراف العرب؛ كان الرسول يتألفهم ليسلموا، أو هم كل من أسلم من اليهود أو النصارى، أو غيرهم من المشركين: ليثبتوا على إيمانهم؛ وقد كان ذلك في صدر الإسلام {وَفِي الرِّقَابِ} أي المكاتبين. وهم الذين يكاتبون مواليهم بثمنهم؛ فإذا أدوه فهم أحرار. وقد أجاز الله تعالى عليهم الزكاة؛ ليعانوا على تحرير أنفسهم {وَالْغَارِمِينَ} المثقلين بالديون، أو الذين أصابهم اضطهاد وغرم في سبيل الدين والوطن؛ اللهم إلا من تداين في سفاهة أو محرم؛ فهو واجب المحاربة لا الإعانة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي للقائمين بالجهاد {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع به الطريق في السفر {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} أي فرض الله تعالى الزكاة لهؤلاء الأصناف فرضاً(1/232)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{وَمِنْهُمُ} أي من هؤلاء الجبناء والمنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بكلامهم {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي سماع لما يقال له من الشر {قُلْ} هو {أُذُنُ خَيْرٍ} أي سماع لكل خير {لَكُمْ} ولا يستمع للشر كما تزعمون(1/232)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ} يجاوز الحد. والمقصود أنه يحارب ويخالف {اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولا يطعهما(1/232)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{يَحْذَرُ} يخاف {الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} أي بما في قلوب المنافقين من تبييت العداوة والشر، والاستهزاء بالمؤمنين
[ص:233] {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} ما شئتم أن تستهزئوا {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق(1/232)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عن استهزائهم بك، وبما أنزل إليك من القرآن {لَيَقُولُنَّ} معتذرين عن استهزائهم {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديث {وَنَلْعَبُ} نلهو ونمزح {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} والاستهزاء والسخرية بالله، أو بآياته، أو بملائكته، أو برسله - ولو على سبيل المزاح - كفر لا يمحوه اعتذار(1/233)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
{لاَ تَعْتَذِرُواْ} وكيف يجدي الاعتذار، و {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وكم نرى بعض المتظرفين الثقلاء يقذف بالنكتة الوقحة، وبالمزحة السمجة؛ ينال بها من دينه وخالقه ومن عجب أن نرى أناساً يضحكون لنكتة هذا الفاجر الكافر؛ ولم يعلموا أنهم شركاء له في فجوره وكفره، قرناء له في جهنم وبئس المصير نعوذ ب الله الحليم، من الاستهانة بقدره العظيم، أو بكتابه الكريم أو برسله البررة، أو بملائكته الخيرة {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} لحسن نيتها، وصدق طويتها، ورجوعها إلى محجة الصواب {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصرين على كفرهم واستهزائهم(1/233)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الإنفاق في الطاعات {نَسُواْ اللَّهَ} تركوا طاعته، ونسوا أجره الذي وعد به؛ لأنه تعالى وعد المنفقين أجراً عظيماً؛ فقبضوا أيديهم؛ فكانوا بذلك مكذبين لوعده، ناسين لأجره
{فَنَسِيَهُمْ} تركهم من رحمته وفضله؛ وجعلهم كالمنسيين(1/233)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{هِيَ حَسْبُهُمْ} تكفيهم جزاءً وعقاباً(1/233)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} بنصيبهم من الدنيا {وَخُضْتُمْ} في الباطل والطعن في الرسول، وفي الكتاب المنزل عليه {كَالَّذِي خَاضُواْ} أي كالخوض الذي خاضوه
[ص:234] {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها {فِي الدنْيَا} لأن الكفر محبط لسائر الأعمال {وَالآخِرَةِ} لأنه لا جزاء لها(1/233)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء الخائضين {نَبَأُ الَّذِينَ} خاضوا {مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب؛ عليهم الصلاة والسلام {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قرى قوم لوط والمراد بها أهلها {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات؛ فاستهزأوا برسلهم؛ فعذبهم الله تعالى عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بالعذاب الذي أنزله بهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر وارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب. هذا حال الكافرين، والمنافقين، والخائضين؛ أما حال المؤمنين فقد أوضحه الله تعالى بقوله:(1/234)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم لبعض أنصار وأعوان؛ لأنهم {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان، والاستقامة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهو كل ما ينكره العرف والشرع {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المفروضة {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ} فيما أمر به، ونهى عنه {وَرَسُولُهُ} فيما سنه لأمته من كريم الفعال، وحميد الخصال {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
يا معشر المؤمنين: لقد جاءكم البشير النذير، بقول الرحمن الرحيم {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} فأي شيء تبتغون فوق رحمته؟ وأي شيء تطلبون بعد جنته؟ ولم يجعل جل شأنه سبب الوصول إلى رحمته عسيراً شاقاً؛ بل هو طلبة كل إنسان كامل، وبغية كل شخص عاقل وقد وصف الله تعالى أولئك الذين اصطفاهم لجنته، واختصهم برحمته بقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فهل ترى أيها المؤمن العاقل أن النهي عن المعروف، والأمر بالمنكر؛ أولى وأجدر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
ووصفهم تعالى أيضاً بإقامة الصلاة: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} وإقامتها - كما تعلم - قيام بشكره تعالى على ما وهب من واسع العطاء، وأنعم من مزيد النعم؛ وابتهال إليه تعالى ليمنّ بالهداية إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم
ووصفهم جل شأنه بإيتاء الزكاة: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فهل ترى أيها المتقلب في نعمة الله، المتمتع بهباته وفيوضاته؛ أن تأكل كما تأكل الأنعام فلا تلتفت إلى من هم دونك من الأنام؛ وتذرهم يموتون عرياً،
[ص:235] ويتضورون جوعاً؟ وهل هذا شأن بني الإنسان؛ الذين فضلهم ربهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وميزهم بالعقل الراجح، والقلب الرحيم.
ووصفهم تعالى أيضاً بأحسن ما يوصف به العباد المقربون؛ وهل يقرب الإنسان من ربه سوى طاعته؟ {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهل تجب على العاقل طاعة الشيطان، أم طاعة الرحمن؟ هل تجب طاعة من يدعوك إلى الجنة، أم من يدعوك إلى النار؟ إن الله تعالى قد ألبسك ثوب محبته ودعاك إلى جنته، ووعدك بمزيد رحمته فهلم - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة الله رحمنا الله تعالى وإياك، ووهبنا مزيد رضوانه ووفقنا لما يؤهلنا إلى فيض إحسانه(1/234)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} يطيب فيها العيش والإقامة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} وهي من عدن في المكان: إذا أقام فيه. والمعنى: جنات الإقامة {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أكبر من ذلك النعيم الموصوف {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز بعده و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}(1/235)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجة {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في القتال والمحاجة؛ فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة(1/235)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} قيل: نزلت في الجلاسبن سويد بن الصامت؛ وقد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء؛ على حمير لهم. فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً؛ لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها. فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله بما قلت؛ فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فلما أتيا النبي؛ قال مصعب: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا. فقال للجلاس: «أقلت الذي قال مصعب»؟ فحلف ما قال؛ فنزلت {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} {وَهَمُّواْ} بالفتك بالنبي {بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} لأن الله تعالى عصمه منهم؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} {وَمَآ} أي وما أنكروا، وما عابوا {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}
قيل: قتل مولى للجلاس؛ فقضى رسول الله له بديته؛ فكانت سبباً في غناه {فَإِن يَتُوبُواْ} عن النفاق، وعن كلمة الكفر {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن يَتَوَلَّوْا} يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا} بالقتل، والأسر، والذل {وَالآخِرَةِ} بالنار وبئس القرار(1/235)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَمِنْهُمُ} أي من المنافقين {مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} رزقه وسعته. قيل: هو ثعلبة بن حاطب(1/235)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي جعل عاقبتهم النفاق في القلب، وهو البخل لأن البخيل يخفي نعمة الله تعالى عليه
[ص:236] ولا يبديها. ونفاق القلب: أسوأ مراتب النفاق(1/235)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{وَنَجْوَاهُمْ} ما يتناجون به فيما بينهم؛ وهي المسارة(1/236)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{يَلْمِزُونَ} يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} المتطوعين، المتبرعين {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} إلا طاقتهم؛ فيقدمونه {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي فيسخر المنافقون من المتطوعين: إن أكثروا زعموا أنه رياء، وإن أقلوا قالوا: إن الله غني عن مثله.(1/236)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} نزلت في المنافقين وقيل: في عبد الله بن أُبي بن سلول حين صلى رسول الله على جنازته {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} المقصود من العدد التكثير، لا التحديد؛ إذ لو استغفر لهم طول حياته {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وهؤلاء هم أشقى الناس بلا مراء: فقد حرموا من قبول استغفار من لو استغفر لعصاة الجن والإنس: لغفر لهم(1/236)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلفوا عن الجهاد {بِمَقْعَدِهِمْ} أي بقعودهم {خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعد ذهابه للجهاد، أو قعدوا مخالفين له {وَقَالُواْ} لبعضهم، أو قالوا للمسلمين {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} أي لا تخرجوا للقتال في الحر لئلا يؤذيكم {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} فإن كنتم تخشون الجهاد في الحر الذي يطيقه ويتحمله كل مخلوق - والجهاد موصل إلى ظل الجنة الوارف، ونعيمها الدائم - فكيف بنار جهنم الذي لا يطيقه الصخر، ويذوب من حره صم الجلاميد؟ وهل الوصول إلى الجنة بطريق مشوب بالحر المحتمل أولى، أم الوصول إلى الجحيم بطريق ممتلىء بالهواء العليل، والجو الجميل؟(1/236)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فَلْيَضْحَكُواْ} أي فليضحك هؤلاء القاعدون في الدنيا {قَلِيلاً} حتى انتهاء آجالهم - وهو قليل وإن طال - {وَلْيَبْكُواْ} في الآخرة {كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في الدنيا من البخل، والنفاق، وعيب الكرماء والسخرية منهم، وتخلفهم عن الجهاد وكراهتهم له(1/236)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} ردك من الجهاد {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} أي من المنافقين {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي غزوة أخرى {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} المتخلفين: من الشيوخ، والصبيان والمرضى، والنساء(1/236)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} نهى تعالى عن الصلاة على موتى الكفار؛ وهي مفروضة على موتى المؤمنين - صالحين كانوا أو من أهل الكبائر - ما لم يكونوا من البغاة وأهل الضلالات؛ إلا الشهيد؛ فإنه لا يغسل، ولا يصلي عليه؛ وذلك لأن الغسل لمحو النجاسات والقاذورات؛ والشهيد يبعث يوم القيامة بدمه - تشريفاً له، وإشادة بموقفه المجيد - والصلاة على الميت دعاء له بالأجر وغفران الذنب؛ والشهيد مأجور مغفور
وصلاة الجنازة: أربع تكبيرات؛ يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب سراً، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثانية،
[ص:237] ثم يخلص الدعاء للميت بعد الثالثة، ثم يكبر الرابعة ويقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده؛ ثم يسلم. وليس في صلاة الجنازة ركوع ولا سجود. {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون(1/236)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} وكثرتها {وَأَوْلاَدُهُمْ} وشدتها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} يعذبهم بجمع الأموال والحرص عليها، وبعقوق الأولاد وجموحهم {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم وهي كارهة(1/237)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ} ذوو الغنى {وَقَالُواْ ذَرْنَا} دعنا واتركنا {نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ} عن الجهاد(1/237)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء {وَطَبَعَ} غطى {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بسبب كفرهم وجبنهم(1/237)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} لم يتخلفوا، و {جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} منافع الدارين. وقيل: المراد بالخيرات: النساء الحسان؛ لقوله تعالى: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1/237)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ} حدائق وبساتين(1/237)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} المعتذرون الذين انتحلوا الأعذار، ليتخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} في القعود. وقيل: المعتذرون بعذر حقيقي يمنعهم من الجهاد {وَقَعَدَ} عن الجهاد المشركون {الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ} أي كذبوا عليه؛ فادعوا الإيمان ونافقوا؛ فلم يجاهدوا مع المجاهدين، ولم يعتذروا مع المعتذرين؛ وقرأ أبيّ «كذبوا الله» فلم يصدقوا وعده بأجر المجاهدين؛ وما أعده لهم من خير عميم، ونعيم مقيم(1/237)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ} حرج في ترك الجهاد {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} لأنهما سيكونان عبئاً ثقيلاً على المجاهدين {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} في سبيل الله: من مال، أو سلاح، أو مركب {حَرَجٌ} إثم في التخلف {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} في حال تخلفهم؛ فلا يثبطون همم غيرهم، ولا يقعدونهم عن الجهاد.
والنصح: إخلاص العمل من الغش {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} لأعمالهم؛ الذين نصحوا لله ورسوله، ولم يمنعهم عن الجهاد إلا العذر الشديد {مِن سَبِيلٍ} يدعو إلى مؤاخذتهم أو لومهم.(1/237)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ} رغبوا في الجهاد رغبة صادقة، ولم يمنعهم عنه سوى أنهم {إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} أي لتعطيهم ما يركبون عليه للجهاد {قُلْتَ} لقلة ما عندك من المراكب؛ وكثرة المجاهدين الذين استنفدوا كل ما عندك من خيل وأبعرة أعددتها وجمعتها للجهاد؛ قلت لهم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وعند ذاك يظهر الأسى على وجوههم، والحسرة في قلوبهم - لمزيد إيمانهم وإخلاصهم - و {تَوَلَّوْاْ} انصرفوا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} في سبيل الله؛ فيشترون ما يركبونه - لهم ولأمثالهم ممن منعهم عن الجهاد قلة المراكب -(1/238)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{إِنَّمَا السَّبِيلُ} الطريق للمؤاخذة والعقوبة {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} أقوياء يستطيعون الجهاد في سبيله تعالى بالأنفس والأموال؛ لكنهم {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء؛ لأنهم خلف الرجال في البيوت {وَطَبَعَ} غطى {اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بسبب نفاقهم {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ينفعهم فيوصلهم إلى الجنة، وما يضرهم فيلقي بهم في الجحيم هذا وقد طبع الله تعالى على قلوبهم؛ بعد أن أنزل عليهم آياته البينات، وأراهم معجزاته الظاهرات؛ فأبوا طريق الهدى والفلاح، واتبعوا طريق الشيطان؛ فكان لزاماً أن يطبع الله تعالى على قلوبهم، ويختم على أبصارهم {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(1/238)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} أي رجعتم من الجهاد {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فلا تعاتبوهم على تخلفهم وقعودهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فلا تشيروا إلى تقصيرهم، ولا تعاتبوهم؛ وذلك لأن المعاتبة: تصفية للقلوب، وإبقاء للمودة؛ ألا ترى إلى وصفه تعالى لأهل النار: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} قذر لخبث باطنهم؛ فلا يطهرون بالعتاب والتوبيخ. والرجس: القذر المؤدي إلى العذاب والعقاب.(1/238)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{الأَعْرَابُ} أهل البدو {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} لجفائهم وقسوتهم، وغلظ طباعهم، وبعدهم عن العلم والعلماء، {وَأَجْدَرُ} أحق وأولى {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من شرائعه وفرائضه وأدلة توحيده؛ لقصر نظرهم، وقلة تبصرهم(1/239)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} في سبيل الله {مَغْرَماً} غرامة وخسراناً؛ لأنه ينفقه رياء وخوفاً {وَيَتَرَبَّصُ} ينتظر {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} دوائر الزمان: وهي أنكاده، وتقلباته، ومصائبه، وهزائمه {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} دعاء بنزول العذاب - الذي ينتظرونه لكم - بهم، وحلول الهلاك بساحتهم(1/239)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} إيماناً يقينياً {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وما فيه من ثواب وعقاب {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} تقربهم منه، وتدنيهم من رحمته {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} دعواته {أَلا إِنَّهَا} أي نفقاتهم، أو دعوات الرسول عليه الصلاة والسلام، واستغفاره لهم {قُرْبَةٌ} تقربهم من الله تعالى {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ} بسبب ذلك {فِي رَحْمَتِهِ} نعيمه ورضوانه وجنته(1/239)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} هم من شهد بدراً، أو بيعة الرضوان {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (انظر آية 22 من سورة المجادلة)(1/239)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يا أهل المدينة {مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} كقبائل أشجع وأسلم وغفار ومزينة وجهينة {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} منافقون أيضاً {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي لجوا واستمروا عليه {لاَ تَعْلَمُهُمْ} لتسترهم ونفاقهم وتظاهرهم بالإيمان {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} في الدنيا: بالقتل والأسر والخزي والهوان، أو بالأمراض والفضيحة {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة.(1/239)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{وَآخَرُونَ} من المنافقين {اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} بأن تابوا منها. وأقلعوا عنها(1/240)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} بها من دنس الشح، والبخل، والإثم {وَتُزَكِّيهِمْ} تنمي أعمالهم وحسناتهم {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ادع لهم {إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} رحمة وسلام وطمأنينة(1/240)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} يغفر لهم ذنوبهم {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} يتقبلها، ويجزي عليها(1/240)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} لأنه تعالى مطلع على السرائر {وَرَسُولُهُ} بإطلاع الله تعالى له على أعمالكم؛ قال: «تعرض عليَّ أعمالكم فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم» {وَالْمُؤْمِنُونَ} سيرون بفراستهم ما تنطوي عليه أفئدتكم، وما تنطق به ألسنتكم وتخفيه قلوبكم؛ فإن المؤمن يريه الله تعالى ببصيرته ما لا يراه المنافق ببصره وقد جرت عادة الله تعالى على فضح المنافق وانكشاف أمره؛ قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرىء من خليقةوإن خالها تخفي على الناس تعلم
{وَسَتُرَدُّونَ} ترجعون يوم القيامة {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما خفي وما ظهر {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يجازيكم عليه(1/240)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{وَآخَرُونَ} غير من ذكر من المتخلفين {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} مؤخرون إلى أن يظهر أمر الله تعالى فيهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} فلا يتوب عليهم، ويموتون بلا توبة؛ ويعرضهم للعذاب الأكبر يوم القيامة {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فيتوبون إلى ربهم، ويحسنون أعمالهم؛ قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه؛ فيعلم من يستحق منهم العفو، ممن لا يستحق(1/240)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً} مضارة. أي بقصد الإضرار بالمؤمنين. وهم أناس من المنافقين. قيل: كانوا اثني عشر رجلاً، وقصدوا ببنائه الإضرار بالذين بنوا مسجد قباء {وَإِرْصَاداً} إعداداً وترقباً {لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من الكفار والمنافقين {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} ما أردناه ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الْحُسْنَى} والتوسعة على المصلين.(1/240)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وهو مسجد قباء(1/241)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} وهو حافة الوادي المتصدع، المشرف على السقوط(1/241)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً} شكاً {فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} تتقطع {قُلُوبِهِمْ} بالموت؛ أو إلا أن يتوبوا(1/241)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} مثل تعالى إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله؛ بالشراء. عن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها
ومر أعرابي بالرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرؤها فقال: بيع والله مربح؛ لا نقيله ولا نستقيله؛ وخرج إلى الغزو فاستشهد {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ} أي يقتل بعضهم بعض الكفار {يُقَاتِلُونَ} يقتل بعض الكفار بعضهم {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي إن جزاء المؤمن على جهاده بالجنة: وعد من الله حق {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} ومن هنا يعلم أن فريضة الجهاد، ومقاومة الأعداء، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى: كان من أقدم العصور التي نزل فيها تشريع إلهي، ودين سماوي؛ وأنه قد نص على أجر المجاهدين وثوابهم {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} قبل أن ينزل به القرآن الكريم؛ الذي جاء مصدقاً لما تقدمه من الرسل والكتب {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أوفى منه تعالى {فَاسْتَبْشِرُواْ} أيها المجاهدون {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} الله {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وأي فوز أعظم من التمتع بالجنة، والفوز برضا الله تعالى؟ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ}(1/241)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{التَّائِبُونَ} عن المعاصي {الْحَامِدُونَ} لله تعالى في كل حالة.
[ص:242] {السَّائِحُونَ} المجاهدون، أو الصائمون. وذلك لأن الصائم تصفو روحه، وتضعف شهوته، وتنجلي قريحته، ويعتدل نظره، ويقل هواه؛ فيكون أقرب شبهاً بالملائكة؛ فيسيح في ملكوت الله تعالى، ويتفكر في خلق السموات والأرض؛ وقيل: هم طلبة العلم؛ لأنهم يسيحون في الأرض ابتغاء طلبه وتحصيله؛ أو هم الجائلون بأفكارهم في ملك ربهم وتوحيده {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أحكامه، والعمل بما فيها، والحض عليها {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين هذا حالهم بالجنة(1/241)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أي ما يجوز لهم ولا يحق {أَن يَسْتَغْفِرُواْ} يطلبوا من الله المغفرة {لِلْمُشْرِكِينَ} الذين يتخذون مع الله إلهاً آخر {وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى} أي ولو كان المشركون ذوي قرابة للنبي والذين آمنوا. قيل: نزلت حين استغفر لعمه أبي طالب، واستغفر بعض المؤمنين لآبائهم المشركين {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لأنهم ماتوا على الكفر؛ وليس بعد الكفر ذنب. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(1/242)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} حين استغفر له {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} وهي قوله لأبيه حال حياته {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} والمعنى: أنه لا يجوز لكم أيها المؤمنون المستغفرون للمشركين؛ أن تحتجوا باستغفار إبراهيم لأبيه؛ لأنه استغفر له عن موعدة وعدها إياه، ولأنه لم يتبين له بعد أنه من أعداء الله، وأنه من أصحاب الجحيم {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ} بإبائه الإيمان، وموته على الكفر {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وترك الاستغفار له {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} كثير التأوه من خشية الله تعالى(1/242)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما يضل من أصر على الكفر {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}(1/242)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} تاب عليهم: رزقهم الإنابة إلى أمره وطاعته {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} في غزوة تبوك: كان للعشرة رجال البعير الواحد، وكان زادهم التمر المدود، والشعير المسوس؛ وربما اقتسم اثنان منهم التمرة الواحدة.(1/242)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة؛ فلم يقبل رسول الله توبتهم وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وقيل {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} فلم يبق فيها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا لمقاطعتهم؛ فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم تيقنوا {أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} فأكثروا من الابتهال والاستغفار، إلى أن تاب عليهم العزيز الغفار {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} لما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم بما وسعت: لجأوا إلى اللطيف المنان، الرحيم الرحمن؛ فتاب عليهم ليتوبوا فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة مولاك يتوب عليك لتتوب {تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} ويحببك لتحبه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويرضى عنك لترضى عنه {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فاسأله أن يتوب عليك، وأن يحببك، وأن يرضى عنك تاب الله علينا فيمن تاب، وأحبنا فيمن أحب، ورضي عنا فيمن رضي(1/243)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ} مدينة الرسول {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} أي ما صح وما جاز لهم أن يقعدوا عن طاعته، ويتخلفوا عن الجهاد معه {وَلاَ يَرْغَبُواْ} لا يضنوا {بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي عما يصيب نفسه من أذى وغم؛ بل يجب عليهم أن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وأن يكونوا معه في الضراء قبل السراء، وفي الشدة قبل الرخاء {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلاَ نَصَبٌ} تعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} جوع {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ}
أي لا يحتلون بلداً، ولا يدوسون موضعاً {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وطؤهم له {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} منالاً. أي لا يقتلون منهم قتيلاً، أو يأسرون أسيراً، أو يجرحون جريحاً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ينالون أجره، ويكسبون ثوابه(1/243)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} أرضاً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أجرهم وجزاؤهم(1/243)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} ما صح، وما جاز لهم {لِيَنفِرُواْ} للحرب، أو لطلب العلم {كَآفَّةً} عامة؛ ويتركوا أهلهم بلا عائل، وأوطانهم بلا حافظ؛ بل ينفر بعضهم للجهاد، وبعضهم للتفقه في الدين، ويبقى باقيهم لحماية الذمار، وحفظ الديار
[ص:244] {فَلَوْلاَ} فهلا {نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} جماعة {مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} يتعلموا ويتبصروا {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} بما تعلموه وتفقهوا فيه {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الجهل فيتجنبونه.(1/243)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} أي القريبين منكم؛ لأنك لو قاتلت الأبعدين؛ لم تأمن غدر الأقربين. وذلك النظام من أدق فنون القتال؛ لتحمي ظهرك ممن يلونك من الأعداء {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} قسوة وشدة؛ ليكونوا عبرة لمن بعدوا عنكم من الكفار؛ وليتم أمر الله تعالى وإعلاء دينه(1/244)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {فَمِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَّن يَقُولُ} لأصحابه تعجباً {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السورة {إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} بالله؛ ويقيناً بوحدانيته، وتصديقاً برسوله {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر(1/244)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم(1/244)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} ما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم {أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} جعون {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون(1/244)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ} على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام {سُورَةٌ} من القرآن {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} قائلين {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين {ثُمَّ انصَرَفُواْ} من مجلس الرسول؛ معرضين عن سماع القرآن
{صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} بعد أن مهد لهم تعالى سبل الإيمان فأنكروها، وأبان لهم دواعي الحق فتنكروا لها، وأنزل عليهم آياته فانصرفوا عنها؛ بعد كل ذلك {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} جزاء لهم على انصرافهم؛ وهو كقوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقد يكون معنى قوله تعالى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم؛ كقوله {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} هذا شأن الزائغين المنصرفين؛ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فأولئك {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}(1/244)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{لَقَدْ جَآءَكُمْ} أيها الناس {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم، وقرىء {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بفتح الفاء؛ من النفاسة. أي من أشرفكم وأفضلكم، أو أكثركم طاعة وتقرباً إلى الله تعالى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} شاق على نفسه ارتكابكم الإثم، وتعرضكم للهلاك والتلف والخسران؛ وهو من العنت؛ أي المشقة والحرج {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على إيمانكم وهدايتكم ونجاتكم(1/244)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان {فَقُلْ حَسْبِيَ} كافيّ {اللَّهِ} وحده.(1/245)
سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/245)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} المحكم؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(1/245)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} استفهام للتقرير والتوبيخ؛ أي هل يجوز أن يعجب الناس {أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} وإنما العجب كل العجب: إذا لم نوحِ أصلاً، أو إذا أوحينا إلى رجل ليس منهم، أو إلى مخلوق ليس من جنسهم؛ فلا يسكنون إليه، أو يرتاحون لمخاطبته: كملك، أو جن، أو غيرهما {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقة فضل؛ تستتبع الأجر الحسن، أو هي شفاعة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ} أي ما هذا النبي إلا ساحر {مُّبِينٌ} بيّن السحر واضحه(1/245)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان، يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} بين الخلائق {ذلِكُمُ} الموصوف بهذه الصفات، المتسم بهذه السمات {اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وحده، ولا تشركوا به شيئاً(1/245)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فيجازي كل واحد بما عمل {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} إنه لا يخلف الميعاد {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} بالإنشاء {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالإحياء يوم القيامة {بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} الحميم: الماء المغلي الشديد الحرارة(1/246)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً} تضيء للكائنات {وَالْقَمَرَ نُوراً} ينير للموجودات {وَقَدَّرَهُ} أي قدر القمر من حيث سيره {مَنَازِلَ} ثمانية وعشرين منزلاً، لثمان وعشرين ليلة؛ ويستتر ليلة - إذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً - أو ليلتين - إذا كان ثلاثين يوماً
{لِتَعْلَمُواْ} بواسطة الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار؛ أو بواسطة تلك المنازل {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} حساب الشهور والأيام والأعوام {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ} الكون، وما فيه من آيات بينات {إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلا بالحكمة والصواب، وإظهار بدائع الصنع، ودلائل القدرة والعلم {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يبينها ويوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يتدبرون، ويتوصلون بعلمهم إلى ما في الكون من أسرار(1/246)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالذهاب والمجيء، والإظلام والإنارة، والنقصان والزيادة {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من بدائع صنعه، وعجائب مخلوقاته؛ إن في كل ذلك {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} الله؛ فيؤمنون به، ويتدبرون في مصنوعاته(1/246)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يؤمنون بالبعث (أنظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) {وَرَضُواْ} سكنوا إليها، ولم يعملوا للآخرة(1/246)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم مولاهم بسبب إيمانهم. لأنهم ليسوا كالذين انصرفوا فصرف قلوبهم، أو زاغوا فأزاغها(1/246)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا} دعاؤهم في الجنة
[ص:247] {سُبْحَانَكَ} تقدست وتعاليت. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} نهاية مطلبهم، أو خاتمة دعائهم، أو آخر قولهم؛ حينما تتحقق سعادتهم {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} «الذين هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» {أَيُّ} لو يعجل الله للناس الشر - الذي استحقوه بارتكاب المعاصي والآثام - بقدر استعجالهم للخير - الذي يظنون أنهم استوجبوه بأعمالهم - لأهلكهم جميعاً(1/246)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{فَنَذَرُ} نترك {الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يؤمنون بالبعث؛ ولا يرجون ثواباً ولا عقاباً وإنكار الآخرة وما فيها من بعث وحساب، وثواب وعقاب: يكون بلسان الحال، كما يكون بلسان المقال: فرب مؤمن بالآخرة بلسانه، وأعماله تبالغ في تكذيبه إذ أن الذي لا يقوم بما فرضه الله تعالى عليه من عبادات: غير مؤمن بالآخرة؛ ولو أقسم على إيمانه بها؛ فإن يمينه غموس، والذي يرتكب الموبقات، ولا يخشى رب الأرض والسموات: غير مؤمن بالآخرة؛ وإلا فكيف يكون مؤمناً بالآخرة من يخشى المخلوقين، ولا يخشى أحسن الخالقين؟ كيف يكون مؤمناً بلقاءالله: من يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية
إن من شرائط الإيمان بالآخرة أيها المؤمن: أن تخشى عقابها وتطمع في ثوابها، وأن تعلم أن ربك قد أحصى عليك عملك، وأنه محاسبك؛ فمجازيك عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين(1/247)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ} المرض، أو الفاقة {دَعَانَا لِجَنبِهِ} مريضاً: لا يمكنه الحركة {أَوْ قَاعِداً} متعباً: لا يمكنه القيام {أَوْ قَآئِماً} دائباً في طلب الرزق فلا يجد ما يسد الرمق. أو المراد أنه يدعو ربه على كل حالة هو عليها. ومن المعلوم أن حالة الإنسان وهيئته لا يعدوان ثلاث حالات: نائماً، أو قاعداً، أو قائماً {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي دعانا من أجله: شفينا مرضه، ومحونا بؤسه، وأزلنا فقره {مَرَّ} انصرف عنا، أو استمر على كفره {كَأَن لَّمْ} يحتج إلينا، ويفتقر إلى معونتنا، ولم {يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} فكشفناه عنه {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} الكافرين(1/247)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} الأمم {لَمَّا ظَلَمُواْ} كفروا {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الدالات على صدق رسالاتهم {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} لأن الله تعالى طبع على قلوبهم؛ جزاء على كفرهم(1/247)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ
[ص:248] خَلاَئِفَ} خلفاء؛ تخلفونهم في سكنى الأرض وعمارتها {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أتكفرون ككفرهم، وتنصرفون عن الإيمان كانصرافهم أم تؤمنون شأن سائر العقلاء(1/247)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا بالجزاء.(1/248)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ} أي لو شاء الله تعالى ما أرسلني به إليكم، و {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلمكم به الله تعالى على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} أي مكثت بينكم سنين طوالاً؛ فلم أحدثكم بشيء من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلي به، وكلفني بإبلاغه(1/248)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} اختلق قرآناً؛ كما تنسبون إلي {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} التي أنزلها؛ كما تفعلون أنتم الآن(1/248)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} أي لا يستطيع إيصال الضرر إليهم {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} لا يجلب لهم النفع؛ وذلك لأنه جماد لا يعقل {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} نتقرب بهم إليه {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك، أو أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)(1/248)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ هو الإسلام من لدن آدم إلى نوح عليهما السلام، أو المراد بالناس: نوح ومن نجا معه في سفينته {فَاخْتَلَفُواْ} فأرسل الله تعالى إليهم رسله وأنبياءه. وقيل: كانوا أمة واحدة على الكفر، فبعث الله النبيين لهدايتهم. أو المراد أنه يولد من يولد على الفطرة، ثم أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه «فاختلفوا» عند بلوغهم {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} هي تأخير الجزاء إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لعجل عقابهم في الدنيا(1/248)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{وَيَقُولُونَ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {آيَةٍ} معجزة {مِّن رَّبِّهِ} كعصا موسى، وناقة صالح، وأمثالهما {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ} لا يعلمه سواه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {فَانْتَظِرُواْ} ما يفعله الله بي وبكم لذلك(1/248)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} رزقاً وخيراً
[ص:249] {مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ} بؤس وجدب {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} بأن دفعوها وأنكروها بالاستهزاء والتكذيب {قُلْ} لهم {اللَّهُ أَسْرَعُ} منكم {مَكْراً} أي أسرع عقوبة لكم على مكركم {إِنَّ رُسُلَنَا} أي الحفظة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي يحصون في صحف أعمالكم ما تقومون به من سوء وشر؛ فنجزيكم به، ونؤاخذكم عليه(1/248)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} السفن {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدة الهبوب {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أهلكوا. وهو من إحاطة العدو المؤدية إلى الهلاك {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين في دعوته، صادقين في محبته(1/249)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ} يفسدون فيها {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي إنما إثم بغيكم واقع على أنفسكم {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تمتعوا متاع الحياة الدنيا؛ وليس لكم في الآخرة من نصيب {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فنجازيكم عليه(1/249)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفتها في زوالها وفنائها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي اختلط بالماء {نَبَاتُ الأَرْضِ} جميعاً؛ فأنبت {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوب والثمار وغيرهما {وَالأَنْعَامُ} أي ومما تأكل الأنعام؛ من الكلإ والتبن والشعير وغيره {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} استكملت زينتها وبهجتها؛ بالثمار والأزهار، والنبات والأقوات {وَظَنَّ} تيقن {أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي متمكنون منها، مالكون لها
[ص:250] {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} وذلك لأن الأمر - إذا أتى - يكون نهاراً في بقعة من الأرض، وليلاً في بقعة أخرى. والمقصود بأمر الله الذي يأتي ليلاً أو نهاراً: الأمر بزوال الأرض والسموات، وانقضاء الدنيا {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} خراباً يباباً؛ كالأرض المحصودة {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم تسكن إطلاقاً(1/249)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{وَاللَّهُ يَدْعُو} إلى الإيمان به، والعمل الصالح؛ وكلاهما موصل {إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} إلى الجنة؛ لأنها ممتلئة أمناً وخيراً، وسعادة وسلاماً؛ ولأنها هي «دار السلام» {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} ويقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} والمنعم بها تعالى اسمه «السلام»(1/250)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} في هذه الدنيا {الْحُسْنَى} الجنة؛ جزاء لإحسانهم {وَزِيَادَةٌ} هي مضاعفة حسناتهم إلى ما لا نهاية له وقد ورد في الحديث الشريف: أن الزيادة؛ هي النظر إلى وجه الله تعالى {وَلاَ يَرْهَقُ} لا يغشى {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} غبرة وسواد؛ كشأن أهل النار {وَلاَ ذِلَّةٌ} هوان وخزي؛ كالذلة والمهانة التي تعتري أهل الجحيم(1/250)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ} عملوها {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي بعقوبة تماثلها في الجرم {وَتَرْهَقُهُمْ} تغشاهم {ذِلَّةٌ} خزي وهوان وفضيحة {مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} مانع، وواق؛ يمنع عنهم عذابه، ويقيهم ناره {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} غطيت {وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً} أي صارت وجوههم سوداء كقطع الليل المظلم(1/250)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي ألزموا مكانكم لا تبرحوه؛ حتى تروا ما يحل بكم {أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} الذين كنتم تعبدونهم {فَزَيَّلْنَا} فرقنا وميزنا {بَيْنَهُمْ} وبين المؤمنين. وهو كقوله تعالى {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}(1/250)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{هُنَالِكَ} أي في ذلك اليوم {تَبْلُواْ} من الابتلاء، وقرىء «تتلو» من التلاوة {كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} ما قدمت من عمل
[ص:251] {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ} إلههم وسيدهم {الْحَقِّ} الذي لا إله غيره، ولا سيد سواه، ولا شريك له {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يزعمونها؛ فلم تشفع لهم عندالله، ولم تمنع عنهم عذابه(1/250)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ}
بإنزال المطر؛ المنبت للحب والثمر؛ وإن شاء تعالى منعه {وَالأَرْضِ} بإخراج النبات والأقوات؛ وإن شاء تعالى أجدبها؛ فمتم عند ذاك جوعاً وعطشاً {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ} يملك خلقها، وإن شاء أصمها {والأَبْصَارَ} أنارها، وإن شاء أعماها {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} المسلم من الكافر، والكافر من المسلم، والإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} في السماء والأرض؛ فينزل الماء، ويخرج النبات، وينشر الأقوات؛ ويهب لمن شاء البنين ولمن شاء البنات؛ بتدبير منظم حكيم {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(1/251)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
{فَأَنَّى} فكيف {تُصْرَفُونَ} عن الإيمان؛ وهذه دلائله وبراهينه(1/251)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{كَذَلِكَ حَقَّتْ} وجبت {كَلِمَةُ رَبِّكَ} عذابه {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} كفروا وتمردوا، وتجاوزوا الحد. وهي قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1/251)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} الذين تعبدونهم {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته؛ مع قيام هذه الأدلة؟(1/251)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} أي الأصنام التي تعبدونها {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} وهو الله جل شأنه {أَحَقُّ} وأجدر {أَن يُتَّبَعَ} ويعبد ويطاع {أَمَّن لاَّ يَهِدِّي} يهتدي {إِلاَّ أَن يُهْدَى} أي لا يهتدي إلى مكانه إلا إن هداه غيره إليه. والمعنى: أفمن يهدي الناس إلى الحق ويهديهم إلى ما يصلحهم، ويهديهم إلى ما فيه خيرهم - وهو الله تعالى - أحق بالعبادة والاتباع أمن لا يستطيع هداية نفسه إلى مكانه - وهم الأصنام - إلا أن يحمله حامل؛ فيضعه حيث شاء؛ لا حيث تريد الأصنام؛ التي لا إرادة لها
{فَمَا لَكُمْ} ما الذي أصابكم، وماذا دهاكم وأتلف عقولكم؟ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد؛ الذي لا يسنده عقل ولا منطق(1/251)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر الكفار {إِلاَّ ظَنّاً} حيث قلدوا آباءهم في عبادة الأصنام؛ ولم يحكموا عقولهم(1/251)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى} أي لا يجوز عقلاً، ولا يصح دراية أن يكون هذا القرآن مفترى. لأنه فوق طاقة البشر {وَلَكِنْ} أنزل {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل وغيرهما {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} تبيين ما كتبه الله تعالى، وأنزله على رسله {لاَ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *(1/252)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} استعينوا بمن شئتم {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره: هل يمكنكم أن تأتوا بسورة من مثله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(1/252)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} وهو القرآن الكريم؛ والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} لم يأتهم حتى الآن عاقبة ما في القرآن من الوعد والوعيد {وَمِنهُمْ} أي من أهل مكة {مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي من سيؤمن بهذا القرآن. علم الله تعالى ذلك عنهم(1/252)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أبد الدهر {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} وسيقتص منهم في الدنيا والآخرة(1/252)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي} ثواب عملي {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} إثمه وعقابه(1/252)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إذا قرأت القرآن، وإذا نصحت لهم بالإيمان؛ لكنهم لا يستمعون لك سماع تدبر أو تبصر(1/252)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} شبههم بالعمي: لتعاميهم عن الحق {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(1/252)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} عندما يعاقبهم {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكابهم المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب(1/253)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يجمعهم يوم القيامة {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} كأن لم يمكثوا في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضاً عند البعث: تعارف بغض وافتضاح؛ يقول هذا لذاك: أنت أضللتني، أنت أغويتني، أنت حملتني على الكفر. ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً وليس التعارف تعارف حب ومودة، وتراحم وشفقة؛ كتعارف المحبين في الدنيا {قَدْ خَسِرَ} يومئذ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ} وأنكروا البعث والحساب، والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)(1/253)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في الدنيا {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فننتقم منهم {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} مشاهد ومطلع(1/253)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم {رَّسُولٌ} يهديهم إلى طريق السداد والرشاد {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} إليهم فكذبوه {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل فأهلكنا المكذبين، وأنجينا المؤمنين(1/253)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي متى هذا العذاب الذي تهددنا به(1/253)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} وبالتالي لا أعلم ما يريده الله تعالى بي ولا بكم {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أن يطلعني عليه لحكمة خاصة {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}
موعد لتعذيبهم(1/253)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} ليلاً(1/253)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} العذاب {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بالعذاب الواقع وقيل لكم تؤمنون {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}
[ص:254] {وَقَدْ كُنتُم بِهِ} أي بهذا العذاب {تَسْتَعْجِلُونَ} لتشككم في وقوعه، وتكذيبكم لمن أنذر به(1/253)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} العذاب الدائم؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه (انظر آية 93 من سورة النساء)(1/254)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستخبرونك {أَحَقٌّ هُوَ} أي ما وعدتنا به من البعث والحساب والجزاء {قُلْ إِي وَرَبِّي} نعم والله {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بغالبين، أو بفائتين العذاب الذي أعده الله تعالى لكم(1/254)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} نفسها بالكفر والمعاصي، أو {ظَلَمَتْ} غيرها بالبغي والعدوان. لو أن لها {مَا فِي الأَرْضِ} جميعاً من مال ومتاع {لاَفْتَدَتْ بِهِ} نفسها من عذاب يومئذٍ {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} أظهروها {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} وبدت الندامة على أسارير وجوههم؛ ومنه قولهم: أسر إليه المودة وبها. أي أظهرها له {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل(1/254)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} القرآن الكريم {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} وأمراض الصدور: أخطر من أمراض الجسوم؛ لأن أمراض الصدور تؤدي إلى الجحيم، وأمراض الجسوم تؤدي إلى النعيم ولا شفاء للصدر إلا بالقرآن، ولا نجاة من النيران إلا به وشفاء الصدور: هو تخليصها من الشرور، وإرشادها إلى ما فيه الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية(1/254)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} عليهم {وَبِرَحْمَتِهِ} لهم {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة {فَلْيَفْرَحُواْ} لا بالمال والنسب، والجاه والحسب. وقد ورد أن المراد بفضل الله في هذه الآية: الإسلام. والمراد برحمته: القرآن. هذا وكل خير يصيب الإنسان: فمرده إلى فضل الله تعالى وحده، وكل بر وسعادة ونجاة: فمرده إلى رحمته جل شأنه ففضله تعالى ورحمته هما الموصلان إلى خيري الدنيا والآخرة منحنا الله تعالى فضله، ووهبنا رحمته؛ بفضله ورحمته {هُوَ} أي فضل الله ورحمته {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} في الدنيا من الأموال(1/254)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} طيب حلال {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} كالبحيرة والسائبة (انظر آية 103 من سورة المائدة) في تحريم ما حرمتم، وتحليل ما أحللتم
[ص:255] {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تكذبون عليه بنسبة ذلك إليه.(1/254)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} من الشؤون، أو أمر من الأمور {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} أي {مَا تَتْلُواْ} من أجل ذلك الشأن {مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} قل أو جل {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} مشاهدين ومراقبين لأعمالكم؛ نعلم ظواهركم وبواطنكم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تأخذون في عمله {وَمَا يَعْزُبُ} وما يبعد، ولا يغيب {عَن رَّبِّكَ} عن بصره وإرادته ومشيئته {مِن مِّثْقَالِ} وزن {ذَرَّةٍ} نملة صغيرة؛ تذروها الريح إذا هبت {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ؛ كتب فيه ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة(1/255)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ} خاصته وأحباءه {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة(1/255)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
{الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله تعالى وأحسنوا أعمالهم {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله، ويخشون غضبه وعذابه؛ فصدرت أعمالهم في حدود ما رسمه الله تعالى لعباده وأراده لهم فأولئك(1/255)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} يبشرون وقت النزع؛ بأن يرى المحتضر مكانه من الجنة رأى العين؛ فيتهلل ويستبشر. وهذا مشاهد متواتر في كل مؤمن معهود فيه التقوى، مشهود له بالصلاح {وَفِي الآخِرَةِ} {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فأمره نافذ، ووعده محقق؛ جعلنا الله تعالى من المستبشرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وفضله {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي قول المشركين لك: {لَسْتَ مُرْسَلاً} {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وأمثال ذلك {إِنَّ الْعِزَّةَ} القوة والغلبة {للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم؛ وسيجازيهم عليها؛ بعد أن ينصرك نصراً عزيزاً مؤزراً(1/255)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون
[ص:256] {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {شُرَكَآءَ} لله في ملكه كما يزعمون {إِن يَتَّبِعُونَ} ما يتبعون {إِلاَّ الظَّنَّ} الوهم والتخمين {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يختلقون ويفترون(1/255)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ} لتستريحوا {فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} مضيئاً؛ تبصرون فيه(1/256)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وهو أحد صمد؛ لم يلد ولم يولد ومن عجب أن هؤلاء الحمقى الجهال، ينسبون للعلي المتعال؛ ما ينزهون عنه رهبانهم؛ إذ أنهم لا يتزوجون ولا يلدون
{سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس أن يكون له ولد وكيف يكون له ولد؛ و {هُوَ الْغَنِيُّ} عن الولد، والوالد، والصاحبة؛ لأن الإنسان يحتاج للصاحبة: لتؤنسه وتخدمه. وللوالد: ليكلأه ويرعاه. وللولد: ليعينه ويستكثر به. والله تعالى ليس في حاجة إلى مؤنس، أو كالىء، أو مدبر، أو راع، أو معين. إذ هو وحده مؤنس الكائنات، وكالؤهم، ومدبر مصالحهم، وراعيهم، ومعينهم {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {إِنْ عِندَكُمْ} ما عندكم {مِّن سُلْطَانٍ} حجة {بِهَذَآ} الذي تقولونه(1/256)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} يختلقون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة الولد إليه(1/256)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي ليس لهم إلا تمتع قليل في الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فنحاسبهم حساباً عسيراً على ما عملوا في دنياهم
{يقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ} عظم وثقل {عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} إقامتي بينكم شق عليكم وعظي لكم(1/256)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} وحده {تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت عليه، واستعنت به. وليس أدل على صدق الإيمان، ومزيد الإيقان؛ من التوكل على الله تعالى. وقد قال نوح لقومه ما في نفسه ليشعرهم أنه - وقد استعان ب الله تعالى - لا يعبأ بكيدهم ولا بجمعهم، ولا يخشى من قوتهم وكثرة عددهم لذلك جابههم بقوله {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} اعزموا على أمر تفعلونه بي، وكيد تكيدونه لي {وَشُرَكَآءَكُمْ} أي وادعوا شركاءكم لنصرتكم {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ} الذي تعزمون عليه {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن مستوراً عليكم، بل واضحاً، تتمكنون منه، وتقدرون عليه؛ من غم الهلال: إذا استتر واحتجب. أو {لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا تكن نتيجة أمركم غماً عليكم {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ}
امضوا فيما أردتموه من النيل مني {وَلاَ تُنظِرُونَ} لا تمهلوني فانظر - يا هداك الله - إلى هذه القوة التي وهبها الله تعالى لنبيه نوح، والشجاعة التي بثها في روحه وما كان ذلك إلا وليد اعتماده على ربه سبحانه وتعالى وتوكله عليه (انظر آية 81 من سورة النساء)(1/256)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان الذي دعوتكم إليه، والتذكير الذي وعظتكم به {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} على ذلك(1/256)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ} في السفينة؛ ويطلق على الواحد والجمع {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} خلفاء؛ جمع خليفة(1/257)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي بعد نوح عليه السلام {رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} أي هوداً وصالحاً، وإبراهيم ولوطاً، وشعيباً {فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحة الدالة على صدق رسالتهم {فَمَا كَانُواْ} أي فما كان هؤلاء الأقوام {لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي بما كذب به آباؤهم {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} الذين اعتدوا على رسلهم وأنبيائهم، وكذبوا بما أرسلوا به؛ ولم تنفعهم العظات، ولم يؤمنوا بالآيات البينات(1/257)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} التوراة {قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح ظاهر(1/257)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ} هذا القول {لِلْحَقِّ} الواضح {لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} أي أيعقل أن يكون هذا سحراً، وهو واضح مبين؟(1/257)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ} أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر والتجبر(1/257)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} فائق في فن السحر؛ لنحارب موسى بسحر مثله(1/257)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} وذلك بعد أن قالوا له: «إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين» {حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} حبالهم وعصيهم(1/258)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
{قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي إن الذي جئتم به الآن هو السحر؛ لا ما اتهمتموني به؛ و {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} لأن سنته تعالى في خلقه: أنه {لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} يظهره ويعليه {بِكَلِمَاتِهِ} بأمره وقدرته(1/258)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} أي طائفة من أبناء قومه؛ أما كبارهم فاستكبروا وعتوا وهذه الطائفة التي آمنت؛ إنما آمنت {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أي رغم خوفهم من فرعون، وخوفهم من ملئهم؛ الذين هم أهلوهم وآباؤهم. أو على خوف من فرعون وشيعته {أَن يَفْتِنَهُمْ} أن يعذبهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} متكبر جبار {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين للحد: بكفره وادعائه الربوبية(1/258)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} وهو لا شك معيننا وناصرنا (انظر آية 81 من سورة النساء) {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي موضع فتنة {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بحيث يفتنوننا عن ديننا، ويضلوننا. والفاتن: المضل عن الحق. أو «فتنة» بمعنى عذاباً. أي لا تجعلنا موضع عذابهم وانتقامهم(1/258)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا} أي اتخذا. يقال: تبوأ المنزل: إذا نزله واتخذه سكناً {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي مساجد تصلون فيها سراً؛ خوفاً من أذى فرعون وملئه(1/258)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} فرشا وثيراً، وملبساً حسناً، ومسكناً فخماً، ومركباً فارهاً، وحلياً نفيسة {وَأَمْوَالاً} وفيرة
[ص:259] {لِيُضِلُّواْ} الناس {عَن سَبِيلِكَ} عن دينك الحق القويم {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها وأذهب آثارها {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} اطبع عليها؛ جزاء تمسكهم بكفرهم، واستهزائهم بنبيهم، وإيذائهم للمؤمنين {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} لك {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الذي تنزله بالمستهزئين، وتلحقه بالكافرين(1/258)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{قَالَ} الله تعالى {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} فلم يؤمن فرعون وقومه حتى أدركهم الغرق؛ فلم ينفعهم إيمانهم {فَاسْتَقِيمَا} اثبتا على ما أنتما عليه من نشر الدعوة {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} صدق الإجابة، وحكمة الإمهال(1/259)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} جعلناهم يسلكونه ويتجاوزونه؛ بأن فرق الله تعالى الماء: فمر بنو إسرائيل على اليابسة. قال تعالى: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} {فَأَتْبَعَهُمْ} لحقهم {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً} منهم على المؤمنين {وَعَدْواً} اعتداء وتطاولاً وظلماً {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ذهب بعضهم إلى أن فرعون قد آمن بقوله هذا؛ وأنه لا ينافي إيمانه ما جاء بعد ذلك في القرآن الكريم(1/259)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} لأن ذلك القول من قول الملك الموكل بالعذاب لا من قول الحكيم الخبير وهذ القول يرده قول العزيز العليم {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وحضور الموت - المعنى في هذه الآية - هو اليأس من الحياة؛ وقد قال فرعون ما قال وقت إطباق البحر عليه، ويأسه من النجاة، وسبب إهلاك فرعون بالإغراق: هو أنه ألجأ بني إسرائيل إلى البحر ليغرقهم أو يقتلهم؛ فكان جزاؤه من جنس عمله. وتأمل - يا رعاك الله - إلى قدرة الله؛ فقد جعل في لحظة واحدة العزيز ذليلاً، والذليل عزيزاً؛ إذ لم يكن أعز من فرعون وملئه، ولا أذل من موسى وقومه (انظر آية 18 من سورة النساء)(1/259)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} بجسمك؛ بعد إزهاق روحك {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ} أي لمن بعدك من الأمم {آيَةٍ} عبرة لهم؛ وها هي ذي جثته الآن تعرض في دار الآثار المصرية. {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} الكافرين {عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} لا يتعظون بها «وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها»(1/259)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلناهم منزل تكريم في مصر والشام، أو الشام وبيت المقدس {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الثمار وغيرها {فَمَا اخْتَلَفُواْ} في أمر محمد الذي بشر به كتابهم {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} القرآن.(1/259)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من أن ذكرك قد ورد في التوراة والإنجيل {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} المقصود بالكتاب: التوراة والإنجيل. قال حين نزلت: «لا أشك ولا أسأل» {لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ} القرآن {مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين(1/260)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ} وجبت {عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بالعذاب(1/260)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فَلَوْلاَ} فهلا؛ وقرأ بها أُبي وابن مسعود {كَانَتْ قَرْيَةٌ} واحدة؛ من القرى التي أهلكناها {آمَنتُ} أي تاب أهلها عن الكفر، وآمنوا بمحض إرادتهم؛ قبل أن ينزل بواديهم العذاب ويحل بساحتهم، كما حل بساحة فرعون وملئه {فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا} لأنها آمنت قبل اليأس من الحياة {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ} بعد نزول العذاب بهم {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ} الذي كان سيحل بهم {فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء آجالهم(1/260)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ولكنه تعالى تركهم لمحض إرادتهم واختيارهم؛ ليثيب الطائع، ويعاقب العاصي فإذا كان ربك يا محمد لم يشأ أن يؤمن الناس قسراً وجبراً {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ليس عليك هداهم، وما عليك إلا البلاغ المبين(1/260)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} العذاب {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} لا يتدبرون آيات الله تعالى؛ فلا يؤمنون بها(1/260)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من الدلالات القاطعة بوجود صانعها وبارئها ومدبرها {وَمَا تُغْنِي} ما تنفع.
[ص:261] {الآيَاتِ} المبينة الواضحة {وَالنُّذُرُ} الرسل {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} لا يفتحون أعينهم للآيات، ولا أسماعهم للعظات(1/260)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} بتكذيبك ومخالفتك {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ} أي الذين مضوا من الأمم الذين كذبوا؛ فنزل بهم العذاب {فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} يميتكم باستيفاء آجالكم في الدنيا(1/261)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} أي استقم واتجه بكليتك {لِلدِّينِ} الذي أمرت باتباعه؛ ولا تلتفت إلى ما عداه {حَنِيفاً} مائلاً إلى الإسلام(1/261)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{وَلاَ تَدْعُ} لا تعبد {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لاَ يَنفَعُكَ} إن دعوته وعبدته {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن كفرته وتركته {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} الخطاب للرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته؛ لأنه هو صاحب الدين الحنيف، الداعي إليه، الهادي له، وهو الآمر بالتوحيد، الحاث عليه، الناهي عن الشرك، المحطم له وفقنا الله تعالى إلى حسن اتباعه، وحشرنا في زمرته؛ بفضله ورحمته(1/261)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} مرض، وشدة {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} أي لا كاشف لهذا الضر {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} عافية ويسر {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ} أي بالخير، أو بكل ما أراد من خير وشر {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} جزاء، أو ابتلاء(1/261)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ} القرآن - الذي هو حق كله - {مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى} به
[ص:262] {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} لأن ثواب هدايته عائد إليها {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن إثم ضلاله واقع عليها {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فألزمكم بالإيمان، وأجبركم على الهدى.(1/261)
سورة هود
بسم اللَّه الرحمن الرحيم(1/262)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{الر} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة البقرة) {كِتَابٌ} قرآن {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بما احتوته من عجيب النظم، وبليغ اللفظ، وبديع المعاني؛ لا خلل فيها ولا خطل {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بينت بالأحكام، والمواعظ، والوعد، والوعيد، والثواب والعقاب، والقصص {مِن لَّدُنْ} من عند {حَكِيمٍ} محكم للأمور {خَبِيرٍ} بكل ما كان وما يكون(1/262)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ} بالعقاب {وَبَشِيرٌ} بالثواب(1/262)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من الشرك والكبائر {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من ذنوبكم. وقدم تعالى الأمر بالاستغفار: لأن المغفرة هي الغرض، والتوبة هي السبب المؤدي إلى المغفرة {يُمَتِّعْكُمْ} في الدنيا {مَّتَاعاً حَسَناً} بسعة الرزق، ورغد العيش؛ فإن لم يرزقهما التائب المستغفر رزق ما هو خير منهما: رزقه الله تعالى القناعة والرضا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
غنى بلا مال عن الناس كلهموليس الغنى إلا عن الشيء لا به
ورزقه الله تعالى أيضاً السرور والحبور؛ فتعالى الغني المغني، اللطيف الخبير وهذا المتاع الحسن {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انقضاء الأجل، وتحقيق الأمل؛ وكمال السعادة، وتمام السيادة، وتوفية الأجر الذي وعد به الكريم، وتفضل به على عباده المؤمنين التائبين {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي جزاء فضله {وَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا وتعرضوا.(1/262)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{أَلا إِنَّهُمْ} وصف للمنافقين {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوون قلوبهم على عداوة المؤمنين وبغضهم. أو المراد: ينصرفون ويعرضون عن سماع الحق {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي من الله؛ ظناً منهم أنه تعالى لا يرى سرائرهم، أو {لِيَسْتَخْفُواْ} من الرسول {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يتغطون بها؛ كراهة استماع كلام الله تعالى. وهذا كقول نوح عليه الصلاة والسلام {جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} والله تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما حوته القلوب(1/263)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان وطائر {إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} تكفل به تعالى لكل ذي روح؛ فانظر - يا رعاك الله - كيف يرزق مولاك الطير في الهواء، والسمك في الماء، والدودة في الصخرة الصماء وانظر إلى رزقه للإنسان، رغم أنه دائب العصيان، دائم الكفران فإن الأسماك في البحار لتكاد تلقي بنفسها بين يديه؛ ليملأ بها شدقيه والطير يهجر أوطانه، ويترك أخدانه، وينتقل من بلد فيه نشأ، وفي أرضه درج؛ فيسبح في الهواء آلاف الأميال؛ ليلقي عصا الترحال، على مائدة بني الإنسان؛ وبعد ذلك فإن هذا الإنسان - بعد موته - يكون طعاماً لغيره مما خلق الله تعالى من الدواب التي تكفل برزقها، وضمن حياتها حتى تنتهي آجالها. فأي نظام هذا الذي وضعه العلي القدير، ونظمه الحكيم الخبير؟ هو بعد ذلك {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي مستقر كل دابة خلقها {وَمُسْتَوْدَعَهَا} والمستقر: موضع القرار؛ من مكان، أو مسكن في الأرض. والمستودع: مكانها في الصلب والرحم، أو مكانها في الأرض حين تدفن بعد موتها {كُلِّ} من الدواب، والرزق، والمستقر، والمستودع {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بين وهو اللوح المحفوظ(1/263)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما {لِيَبْلُوَكُمْ}
ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجزي عليه الجزاء الأوفى {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ} ومجزيون على أعمالكم {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} أي ما هذا القرآن المحتوي على ذكر البعث {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} بيِّن السحر واضحه. وقرأ حمزة وعلي {سَاحِرٌ} ويكون المراد به الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والساحر: الكاذب المبطل(1/263)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} مدة من الزمن {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي ما يمنع العذاب من النزول؟ {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} من العذاب ويقولون: «ما يحبسه»(1/263)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} نعمة وفضلاً {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} امتحاناً له {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} قنوط من رحمة الله تعالى {كَفُورٌ} به(1/263)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
[ص:264] نَعْمَآءَ} غنى وسعة {بَعْدَ ضَرَّآءَ} فقر وشدة {مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي انقطع الفقر والضيق {إِنَّهُ} عندئذ {لَفَرِحٌ} فرح بطر وكبر؛ لا فرح نعمة وشكر {فَخُورٌ} على الناس، متكبر عليهم، مستهين بهم(1/263)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الضراء، وشكروا ربهم في سائر حالاتهم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في النعماء، ولم ينكروا أنعم الله تعالى عليهم، وفضله الواصل إليهم ولا يخفى أن أولى الأعمال الصالحة وأولاها: البذل والصدقة {(1/264)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا} وذلك لأنهم كانوا يتلقون الوحي - عند نزوله - بالطعن والاستهزاء؛ فنزلت هذه الآية لفتاً لأنظارهم؛ وليعلموا أنهم مهما سخروا، ومهما استهزؤا، فإن الله بالغ أمره، وإن رسوله مبلغ رسالته {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} كراهة استهزائهم، وكراهة {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يؤيده في رسالته؟ قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} منذر لهم بما أعددته للكافرين، من عذاب أليم(1/264)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} اختلق القرآن {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {مُفْتَرَيَاتٍ} مختلقات {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} لمعاونتكم {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره(1/264)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي لم يجبكم من استعنتم بهم للإتيان بمثل هذا القرآن؛ وبان لكم عجزكم جميعاً عن الإتيان بمثله {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ} هذا القرآن {بِعِلْمِ اللَّهِ} وإرادته؛ لا باختلاق مختلق، ولا بافتراء مفتر {وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} بعد ظهور هذه الدلالات والحجج القاطعة(1/264)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ويرغب في الحصول على المزيد من ملذاتها؛ ضارباً صفحاً عن الآخرة وما يوصل إليها من الإيمان وصالح الأعمال؛ فأولئك {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي نجزهم في الدنيا على ما عملوه فيها من عمل صالح: كبر الوالدين، وحسن المعاملة، وأمثال ذلك {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا ينقصون شيئاً مما عملوه؛ فيجزون بمزيد من المال والصحة(1/264)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ} بطل {مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي في الدنيا؛ لأن أعمالهم لم يقصد بها وجه الله تعالى؛ بل قصد بها التفاخر والاستكثار(1/264)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} على برهان من الله، وحجة بينة عقلية: أن دين الإسلام حق {وَيَتْلُوهُ} يتبعه {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من الله تعالى؛ يشهد بصدقه؛ وهو القرآن الكريم.
[ص:265] {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إَمَاماً} الإمام: الجامع للخير، المقيم على الحق {أُوْلَئِكَ} أي الذين هم على بينة من ربهم {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} من الكفار؛ وسموا أحزاباً: لأنهم تحزبوا على معاداة الرسول {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك(1/264)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} أي الشهود؛ الذين شاهدوا كفرهم: من الملائكة والنبيين {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} بنسبة الولد والشريك إليه(1/265)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن دينه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يصفونها بالاعوجاج، أو يتمنون أن تكون معوجة(1/265)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} فائتين أو غالبين {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِنْ أَوْلِيَآءَ} يمنعونهم من عذاب الله تعالى وينصرونهم؛ ولكنه تعالى أراد إنظارهم، وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} فيه {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لما كانوا - لانصرافهم عن استماع الحق، وتعاميهم عنه - كمن لا يسمع ولا يرى: عبر عنهم بعدم استطاعة السمع والإبصار(1/265)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} لأنهم أوقعوها في العذاب الدائم، والنار المؤبدة {وَضَلَّ عَنْهُمْ} غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون على الله تعالى من دعوى الشريك(1/265)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة(1/265)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} لأن الإيمان بغير عمل صالح: لا يعتد به.
[ص:266] {وَأَخْبَتُواْ} اطمأنوا {إِلَى رَبِّهِمْ} وانقطعوا إلى عبادته، ووثقوا بأجره وجزائه ورحمته(1/265)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} المؤمنين والكافرين: فمثل الكافر {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} لأنه لا يستفيد بما يرى، ولا بما يسمع {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} وهو مثل المؤمن؛ لأنه رأى بديع صنع الله تعالى وملكوته؛ فأقر بوحدانيته. وسمع آياته؛ فآمن به {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} وكيف يستوي الضدان؟ وقد اهتدى المؤمن بهدى الله، وآمن برسله وكتبه، وعمل بأمره، وانتهى بنهيه كيف يستوي هذا ومن تعامى عن الحق، وركب رأسه، واتبع هواه، وأكب على دنياه {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون بهذه الأمثلة ما يجب اتباعه وما لا يجب؟ وتعلمون الحق فتتبعونه(1/266)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} في الدنيا؛ أو أريد به يوم القيامة؛ أو هما معاً(1/266)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي أسافلنا؛ وغاب عنهم أنهم هم الأسافل ولكن لا يعلمون. وقد يقصد بالأراذل: الفقراء - رغم أنهم أحباء الله تعالى وأسباب جنته - فبإكرامهم تستمطر الرحمات، وبالإحسان إليهم تجتلب البركات وبارضائهم يرضى الغني على عباده؛ فيهبهم رحمته، ويدخلهم جنته
هذا والغنى من أهم أسباب البعد عن الله: إذا لم يكن مقروناً بالشكر والإنفاق؛ والفقر من أسباب القرب إلى الله: إذا كان مقروناً بالرضا والصبر؛ فإذا انعدما: كان الفقير مبعداً من الله تعالى؛ وبذلك يكون خاسراً لدنياه وآخرته و {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} جعلنا الله تعالى من الشاكرين في النعماء، الصابرين في الضراء {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي اتبعوك ابتداء من غير روية ولا تفكر {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فتستحقون به أن نتبعكم(1/266)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{قَالَ} نوح {يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة {مَنِ} هداية ونبوة خفيت {عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنجبركم على قبولها واتباعها قسراً(1/266)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} لفقرهم {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فآخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.(1/266)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
{مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون وتتعظون بذلك(1/267)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} فأعطيكم وأغنيكم {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم به قبل وقوعه (انظر آية 50 من سورة الأنعام) {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} بل أنا بشر مثلكم {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي} تحتقر لضعفهم وفقرهم {لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} لأنهم ضعفاء، أو لأنهم فقراء {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} من إيمان وخير؛ فيثيبهم عليه خيراً وبراً {إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إذا قلت ذلك(1/267)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ} به من العذاب.
ويا لها من حماقة وجهل (انظر آية 32 من سورة الأنفال)(1/267)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين الله، وناجين من عذابه(1/267)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} يهلككم؛ من غوى الفصيل: إذا بشم وهلك. أو المعنى: إن كان الله يريد أن يضلكم(1/267)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق محمد هذا القرآن {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} عقوبة إثمي وجرمي {وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ} في حقي؛ وتنسبونه إليّ من الكذب والاختلاق(1/267)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن ولا تتأسف(1/267)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا ورعايتنا {وَوَحْيِنَا} بأمرنا ومعونتنا؛ وما نوحيه إليك من هيأتها وصفتها {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} لا تراجعني، ولا تطلب مني العفو عنهم والمغفرة لهم؛ فإنهم قد استوجبوا العذاب بكفرهم؛ ولن تنفعهم شفاعة الشافعين(1/267)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} الآن {فَإِنَّا نَسْخَرُ} أي سنسخر {مِنكُمْ} حين ننجو في السفينة بأمر الله تعالى؛ ويدرككم الغرق(1/268)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} في القيامة {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يفضحه {وَيَحِلُّ} ينزل {عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائم(1/268)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب؛ قلبنا الأوضاع ومحونا طبائع الأشياء: فجعلنا الماء يخرج من مصدر النار، والأرض تمتنع عن شربه {وَفَارَ التَّنُّورُ} نبع الماء من التنور بغزارة؛ و «التنور» هو ما يصنع فيه الخبز - وقد صار مصدراً للماء، بعد أن كان مصدراً للنار - من باب خرق العوائد {قُلْنَا} لنوح {احْمِلْ فِيهَا} أي في السفينة {مِن كُلٍّ} أي من كل نوع من الأنواع، وجنس من أجناس المخلوقات {زَوْجَيْنِ} ذكر وأنثى؛ لحفظ النوع بعد الطوفان {وَأَهْلَكَ} أي واحمل أيضاً في السفينة أهلك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بالإهلاك؛ وهم زوجته وولده كنعان؛ الذي ناداه أبوه لينجيه من الهلاك المحقق(1/268)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وفي قراءة «ابنها» والضمير لامرأته، وأنه كان ربيبه لا ابنه(1/268)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ} أي إلا من رحمه الله تعالى بالإيمان، والحمل في السفينة.
فلما تم ما أراده الله تعالى؛ من نفاذ أمره، وهلاك أعدائه: أعاد طبائع الأشياء إلى ما كانت عليه، وتولى حفظها(1/268)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{وَقِيلَ يأَرْضُ} ارجعي سيرتك الأولى، و {ابْلَعِي مَآءَكِ} كطبيعتك التي أودعتها فيك
[ص:269] {وَيسَمَآءُ أَقْلِعِي} أمسكي عن المطر {وَغِيضَ الْمَآءُ} نقص ونضب {وَقُضِيَ الأَمْرُ} الذي أراده الله تعالى {وَاسْتَوَتْ} استقرت السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} جبل بأرض الجزيرة؛ قرب الموصل. وليس على جبال أرارات؛ كما يزعم الآن بعض المكتشفين - من أنهم رأوا هناك أجزاء من سفينة نوح عليه السلام - فما كل خشبة بسفينة، ولا كل سفينة بسفينة نوح {وَقِيلَ بُعْداً} أي هلاكاً وسحقاً {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين(1/268)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} مبتهلاً إليه {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي} الذي حال بيني وبينه الموج {مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} وقد وعدتني أن تنجي أهلي؛ فكيف بولدي؟(1/269)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{قَالَ ينُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} إشارة إلى أن الكفر يبعد القرباء، والإيمان يقرب البعداء ألا ترى إلى قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله عز وجل {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} وقوله جل شأنه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ولذا قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه كان ابن زنا؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أصلاً؛ لأنه نتيجة عمل غير صالح، وقوله جل شأنه عن زوجتي نوح ولوط عليهما السلام {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} وقد أورد هذا المعنى ابن جرير الطبري بأكثر من عشر طرق رواية؛ وقد حلف بعض التابعين أنه ليس بابنه.
واحتج على من قال ذلك بقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وبأنه لا يجوز أن يحدث زنا في بيت من بيوت النبوة؛ ولو أن الكفر حدث في بيوتهم، ومن المقطوع به أن الزنا من الذنوب التي يقلع عنها، ويستغفر منها؛ وهو دون الكفر(1/269)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} وإن لم تغفر لي(1/269)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{قِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا} انزل من السفينة. فقد زال الخوف، وحل الأمن، وطهرت البلاد من الفساد {وَبَركَاتٍ} خيرات ونعم {عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} في السفينة. أي من أولادهم وذرياتهم؛ وهم المؤمنون {أُمَمٍ} منهم سيكفرون ب الله تعالى؛ فأولئك {سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا قليلا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} في الآخرة {مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم دائم(1/269)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{تِلْكَ} القصة {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ} الذي غاب عنك فهمه وعلمه {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} الوقت، أو من قبل إيحائي لك بها {فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك؛ كما صبر نوح من قبلك على أذى قومه.(1/269)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
{وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ والإنذار {أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني(1/270)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{وَيقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} يؤخذ من هذه الآية؛ أن كثر الاستغفار: تزيد في الرزق، وتعين على الباه؛ بدليل قوله تعالى في هذه الآية {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وقوله جل شأنه: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} هذا غير الأجر الأخروي المستدل عليه بقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} وأقسم أنه ما اعتراني هم أو ضيق؛ ولجأت إلى الاستغفار: إلا وجدت من شدتي فرجاً، ومن ضيقي مخرجاً {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} برهان ومعجزة تدل على صدقك(1/270)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بمكروه؛ فاختلط عقلك. فتحداهم هود عليه السلام، وتحدى آلهتهم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ} الإله الحق {وَاشْهَدُواْ} أنتم أيضاً {أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} مع الله في العبادة؛ من آلهة لا تضر ولا تنفع(1/270)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أنتم وآلهتكم التي تزعمون أنها مستني بسوء {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} لا تمهلوني.
انظر بربك كيف جابه هود بمفرده جمعهم، وكيف استهان بكثرة عددهم وعدتهم وكيف سفه آلهتهم؛ وما ذاك إلا لشدة إيمانه بربه، ويقينه بنصرته، وعظم ثقته بمرسله تعالى وهي وحدها - لو تأملوها بعين الاعتبار - من أعظم البراهين الدالة على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام ولو كان مبطلاً: لمالأهم وداهنهم، وخطب ودهم؛ كما يفعل الدجالون المشعوذون(1/270)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} فهو وحده القادر على حفظي وكلاءتي (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَمَا مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان وطير {إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أي مالك أمرها، وقاهرها؛ فلا تتحرك إلا بإرادته، ولا نفع ولا ضر يقع منها أو عليها إلا بمشيئته وخص الناصية بالذكر: لأن من أخذ بناصيته: يكون في غاية الذلة، ونهاية الاستكانة؛ ولذا كانوا يجزون ناصية المذنب إمعاناً في إذلاله وتحقيره والناصية: شعر مقدم الرأس {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقضي بين عباده بالحق؛ فيثيب المحسن على إحسانه، ويجازي العاصي على عصيانه(1/270)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تعرضوا عن الإيمان.
[ص:271] {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب(1/270)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} هداية وتوفيق: هديناهم للإيمان، ووفقناهم للطاعة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} شديد(1/271)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{وَتِلْكَ عَادٌ} قوم هود {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كذبوا بالمعجزات وأنكروها {وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} كل عات متكبر، معاند للحق(1/271)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} من الناس. واللعنة: الإبعاد والطرد؛ المقترن بالسخط والغضب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} تدركهم اللعنة أيضاً {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} يقال: أبعده الله بعداً: نحاه عن الخير ولعنه(1/271)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} جعلكم عماراً لها: تسكنون فيها، وتتمتعون بخيراتها {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي قريب الرحمة، مجيب الدعاء(1/271)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} نرجو خيرك وعطفك وبرك؛ فما بالك تنهانا عما نعبد ويعبد آباؤنا؟ أو المراد «مرجواً» ذا عقل راجح، وذهن ثاقب(1/271)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة وحكمة وهداية {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي ضلال؛ لأن الضلال يعقبه الخسران. أو «فما تزيدونني» بتكذيبكم، والتمسك بآلهة آبائكم؛ غير زيادة ضلالكم وخسرانكم(1/271)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
{وَيقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} معجزة دالة على صدقي {فَذَرُوهَا} اتركوها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} سريع حال(1/272)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{فَعَقَرُوهَا} ذبحوها، أو قتلوها، وقيل: قطعوا قوائمها؛ عقرها واحد منهم؛ ورضوا جميعاً عن عمله؛ لذا عبر تعالى بجميعهم. ومن هنا يعلم أن الراضي عن المعصية: شريك في العصيان، وأن العذاب كما يصيب العاصي بعصيانه؛ فإنه يصيب الطائع بتركه النهي عن العصيان، قال تعالى:
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} بل تصيب الذين ظلموا، والذين لم يضربوا على أيديهم ليكفوا عن ظلمهم {فَقَالَ} لهم صالح؛ بعد عقرهم للناقة، واستهانتهم بأمر ربهم {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} بالأمن والسلامة {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} يحل بعدها عذاب الله تعالى بساحتكم {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} واقع لا محالة(1/272)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} وهي توفيقهم للإيمان؛ الذي كان سبباً في نجاتهم {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} وهو الخزي الذي لحق بالكافرين المعذبين؛ وأي خزي أخزى من غضب الله تعالى وعذابه {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ} القادر على نفاذ أمره {الْعَزِيزُ} القاهر، الذي لا يغلب(1/272)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل عليه السلام؛ فأهلكهم الله تعالى بصيحته؛ والصيحة: تطلق على العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين كأن لم يقيموا(1/272)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} أبعده الله بعداً: نحاه عن الخير ولعنه(1/272)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ} ملائكتنا {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} بشروه بإسحاق ويعقوب {قَالُواْ سَلاَماً} أي سلموا عليه سلاماً؛ أو قالوا قولاً طيباً يبعث على الأمن والراحة والسلام. قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} {قَالَ سَلاَمٌ} أي أمري سلام، ولا أريد غير السلام {فَمَا لَبِثَ} أي فما مكث {أَن جَآءَ} حتى جاء {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} مشوي؛ فوضعه أمامهم ليأكلوا منه؛ فلم يتقدم أحد منهم للأكل(1/272)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي لا تمتد إلى العجل المشوي الذي قدمه لإكرامهم؛ وقد كانوا جاءوه في صورة بني الإنسان {نَكِرَهُمْ} أنكرهم، وتوهمهم أعداء لا أحباء {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر في نفسه الخوف منهم؛ وذلك لأنه كان من عادة العرب أنهم إذا عادوا إنساناً، وأرادوه بسوء؛ لم يمسوا طعامه؛ ولا يزال ذلك فيهم حتى الآن {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب(1/272)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{وَامْرَأَتُهُ} أي امرأة إبراهيم عليه السلام {قَآئِمَةٌ} بخدمة الأضياف، أو {قَآئِمَةٌ} وراء الستر؛ تستمع لما يدور بينهم وبين زوجها. والأولى أولى: لكلام الملائكة لها، وتبشيرهم إياها
[ص:273] {فَضَحِكَتْ} فحاضت؛ تمهيداً لما سيلقى عليها من البشارة {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وقيل: {فَضَحِكَتْ} استبشاراً بما سمعته من إهلاك قوم لوط، أو سروراً بزوال الخوف عن زوجها(1/272)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{قَالَتْ يوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} ونسيت حيضها؛ الذي هو من علامات الاستعداد للحمل {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} أي عجوزاً؛ لا ينجب مثله الأبناء {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} قدرته؛ وهو إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون(1/273)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أهل بيت إبراهيم، بيت النبوة {إِنَّهُ حَمِيدٌ} محمود في كل ما يعمل {مَّجِيدٌ} كثير الخير والإحسان(1/273)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الخوف من الأضياف وعدم تناولهم طعامه، وعلم أنهم رسل ربه جل شأنه {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وذلك إنه لما علم من ملائكة الرحمن أنهم جاءوا لإهلاك قوم لوط: مسه الفزع والانزعاج؛ وقال لهم: أرأيتم لو كان في قرية لوط خمسون مؤمناً أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ العشرة؛ قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها مسلم واحد أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: إن فيها لوطاً. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله(1/273)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} كثير التأوه والخوف من الله تعالى {مُّنِيبٌ} راجع إليه تعالى(1/273)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ} الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} بإهلاك قوم لوط {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} بجدالك عنهم، أو بشفاعتك لهم(1/273)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} أي ساءه مجيؤهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} يقال: ضاق ذرعه بالأمر؛ إذا لم يطقه ولم يتحمله {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديد الشر والمكاره وذلك لأنه ظن رسل ربه أضيافاً؛ وخاف إذاية قومه لهم(1/273)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ} يسرعون {إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وهي إتيان الذكران في الأدبار؛ وقد انفرد بهذا الجرم من بني الإنسان: من انحط عن مرتبة الحيوان وحد هذا الجرم: الإلقاء من حالق، أو جبل شاهق؛ ليكون عبرة لغيره، ونكالاً لمثله
{قَالَ} لوط لقومه {يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي} أي بنات أمته - لأن كل نبي أب لأمته - لأنه لا يصح أن يتزوج الأشرار الأخيار؛ فما بالك ببنات الأنبياء {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} بالزواج {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ} لا تفضحوني {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} عاقل؛ يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر(1/273)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أستطيع أن أدفع أذاكم بها
[ص:274] {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عشيرة تنصرني عليكم، وتقيني شروركم وحين سمع ملائكة الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه(1/273)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{قَالُواْ} له {يلُوطُ} لا تخش بأساً؛ وإن ركنك لشديد {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} أي لن يستطيعوا الوصول إليك؛ لأننا أرسلنا لإهلاكهم، وقطع أدبارهم {فَأَسْرِ} الإسراء: السير ليلاً {بِقِطْعٍ} طائفة {مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} وراءه؛ خشية أن يرى ما حل بالقوم فيذهله ذلك ويؤلمه ويأخذ بلبه فانظر - يا رعاك الله - إلى عذاب رؤيته عذاب وقانا الله تعالى عذابه، وباعد بيننا وبين غضبه(1/274)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالإهلاك {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} رفع جبريل عليه الصلاة والسلام قرى قوم لوط، حتى عنان السماء، ثم قلبها بمن فيها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} من نار {مَّنْضُودٍ} متتابع(1/274)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{مُّسَوَّمَةً} معلمة. قيل: مكتوب على كل حجر منها اسم من يرجم به(1/274)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي في سعة تغنيكم عن نقص الكيل والميزان(1/274)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَلاَ تَبْخَسُواْ} لا تنقصوا {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد(1/274)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ما أبقاه الله تعالى لكم من الحلال: خير مما تجمعونه من الحرام، والحسنات التي يبقى ثوابها عند الله: خير لكم من البقية التي تبقونها من الكيل والميزان وهذا دستور من أعجب الدساتير: فكم قد رأينا من يطفف الميزان والمكيال: سعده في زوال، وحاله من أسوإ الأحوال ورأينا من يوفي الكيل والميزان: حاله دائماً في رجحان، ويحوطه رضا الناس والرب في كل مكان {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} برقيب أراقبكم؛ ولكنه تعالى هو المراقب لكم، المنزل العقاب بكم(1/274)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قولهم هذا إما أن يكون على سبيل التهكم والاستهزاء؛ وإما أن يكون بمعنى: كيف تقول ذلك وأنت المشتهر بالحلم والرشد(1/275)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} برهان وحجة {مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} النبوة والرسالة، أو {رِزْقاً حَسَناً} حلالاً، لا نقص فيه ولا بخس {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لا أريد بنهيكم هذا أن أسبقكم إلى شهواتكم وضلالاتكم التي أنهاكم عنها {إِنْ أُرِيدُ} ما أريد {إِلاَّ الإِصْلاَحَ} لكم {مَا اسْتَطَعْتُ} أي مدة استطاعتي وقدرتي على ذلك {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في سائر أموري. (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع(1/275)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم {شِقَاقِي} مخالفتي {أَن يُصِيبَكُم} العذاب {مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} وقد أهلكوا بالغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} وقد أهلكوا بالريح العقيم {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} وقد أهلكوا بالرجفة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} لقرب زمنهم من زمنكم، أو ديارهم من دياركم؛ وقد أهلكوا بالاستئصال، فجعل عالي قراهم سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل(1/275)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بمن يؤمن به {وَدُودٌ} كثير الود لمن والاه(1/275)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} عشيرتك(1/275)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{قَالَ يقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} أي اتخذتم الله وراء ظهوركم؛ فلم تتبعوا دينه، ولم تعبأوا بأوامره ونواهيه.
[ص:276] {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} علماً فمجازيكم عليه(1/275)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{وَيقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} حالكم وقدرتكم في الإيذاء {إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي في الإنذار والإصلاح؛ حسب ما يؤتيني الله تعالى من النصرة والتأييد؛ و {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يفضحه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ} انتظروا العذاب الموعود {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر ومرتقب(1/276)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل عليه الصلاة والسلام؛ فهلكوا. والصيحة: تطلق على العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين(1/276)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأن لم يقيموا في ديارهم {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ} يقال: أبعده الله تعالى؛ أي نحاه عن الخير، ولعنه وطرده {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} كما لعنت وطردت وأهلكت ثمود من قبل(1/276)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} بالمعجزات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} معجزة بينة قاهرة؛ ولعله أريد بها العصا؛ لأنها أظهر معجزات موسى عليه السلام(1/276)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
{وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} بذي رشد؛ إنما هو غي، ومحض ضلال(1/276)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يتقدمهم {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} الورد: مكان الشرب، أو هو الموضع المقصود(1/276)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ} الدنيا {لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة أيضاً {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الرفد: العطاء. أي بئس العطاء المعطى لهم(1/276)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ذلِكَ} القصص {مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى} التي كفرت بخالقها وبالمرسل إليها {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} يا محمد؛ تسلية لك {مِنْهَا} أي من هذه القرى {قَآئِمٌ} باق حتى الآن {وَحَصِيدٌ} فانٍ قد اندرس وامحى(1/276)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتعذيبهم وإهلاكهم {وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر، وتعريضها للعذاب والهلاك في الدنيا، والعذاب المقيم الدائم في الآخرة {فَمَا أَغْنَتْ} فما دفعت، ولا منعت {عَنْهُمْ} العذاب والهلاك {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} يعبدونها
[ص:277] {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} بالعذاب {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} هلاك وتخسير(1/276)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} عذابه {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} بالعذاب(1/277)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{إِنَّ فِي ذلِكَ} القصص الذي قصصناه عليك من أخبار الأمم الهالكة {لآيَةً} لعبرة وعظة {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} وما أعده الله تعالى فيها {ذلِكَ يَوْمٌ} يوم القيامة {مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} جميعاً: مؤمنهم وكافرهم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي يشهده كل المخلوقات، لا يغيب عنه أحد(1/277)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ} وقت {مَّعْدُودٍ} معلوم عند ربك(1/277)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{يَوْمَ يَأْتِ} ذلك اليوم {لاَ تَكَلَّمُ} لا تتكلم {نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} لا يشفع أحد إلا بإذنه تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} {فَمِنْهُمْ} أي من أهل الموقف {شَقِيٌّ} معذب في النار {وَسَعِيدٌ} ومنهم سعيد: منعم في الجنة(1/277)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير: خروج النفس بشدة.
والشهيق: رد النفس بشدة أيضاً. وقيل: رده بضعف شديد كالحشرجة. وهو إشارة إلى أنهم يكونون في شدة الكرب والضيق(1/277)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{خَالِدِينَ فِيهَا} أي في النار {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي مدة بقائهما؛ وهو على عادة العرب عند إخبارهم عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما غاب ليل وطلع نهار. فأخبر تعالى أنهم باقون في النار والعذاب أبد الآبدين، ودهر الداهرين {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} أن ينجيه من الخلود في النار، أو بالانتقال من النار إلى الزمهرير(1/277)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} أبداً {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} من إقامة بعض عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع(1/277)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك {مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} أي قل يا محمد لكل من شك في عبادة هؤلاء المشركين: «لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء» فلم يأمرهم الله تعالى بها. ولم ينزل عليهم سلطاناً بشأنها {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} أي أنهم إنما عبدوها كما كان آباؤهم يعبدونها. وقيل: هو نهي للرسول؛ والمقصود به أمته: تثبيتاً لهم، وتقوية لإيمانهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب، أو من الرزق؛ فلا تستعجل إهلاكهم.(1/277)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} تصديقاً وتكذيباً؛ كما اختلف في القرآن المنزل عليك {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا؛ ولنزل العذاب بكل مكذب وقت تكذيبه {وَإِنَّهُمْ} أي المكذبين بالقرآن {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي من القرآن، أو من العذاب(1/278)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{وَإِنَّ كُلاًّ} من المصدقين والمكذبين؛ من سائر الأمم السابقة واللاحقة {لَّمَّا} إلا {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها يوم القيامة {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بظواهرها وبواطنها(1/278)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} أي داوم على العمل بأمر ربك، والدعوة إليه {وَلاَ تَطْغَوْاْ} تتجاوزوا حدود الله {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {بَصِيرٌ} فيثيبكم على الخير، ويؤاخذكم على الشر(1/278)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} لا تميلوا إليهم بصحبة، أو ود، أو مداهنة، أو تأييد، أو بإبداء أي مظهر من مظاهر الرضا عن أعمالهم؛ فكل ذلك إثم منهي عنه، معاقب عليه {فَتَمَسَّكُمُ} تصيبكم؛ كقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِنْ أَوْلِيَآءَ} أحباء ونصراء(1/278)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية؛ والمراد جميع النهار: الصبح، والظهر، والعصر، {وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ} أي ساعات منه؛ قريبة من النهار؛ وهي المغرب والعشاء.
ولما كان الإنسان في هذه الحياة - مهما ارتقى واتقى - معرضاً لارتكاب صغائر الآثام والذنوب؛ خاصة في وقتنا هذا الذي اختلط فيه الحرام والحلال، وسار فيه النساء متبرجات، كاسيات عاريات، مائلات مميلات. فقد يفرط منه ما ينافي الدين القويم، والخلق المستقيم؛ فإذا ما تكررت هذه الصغائر: انقلبت إلى كبائر - بالتكرار والإصرار - وفي هذه الحال يكون في مسيس الحاجة إلى ما يخفف عنه عبء الذنوب، ويرفع عن كاهله أثقال المعاصي؛ وهنا يتدخل القرآن الكريم بمبضعه الكافي الشافي؛ فيجتث آثار العصيان، ويجعل مكانها الغفران يقول الحكيم العليم، الغفور القدير {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فهل من متذكر، وهل من معتبر؟ (انظر آية 17 من سورة التغابن)(1/278)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{فَلَوْلاَ} فهلا {كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} الأمم {مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أي أصحاب دين وفضل؛ قال تعالى: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} هم الذين نهوا عن الفساد في الأرض؛ فنجوا من الهلاك {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} يقال: أترفته النعمة: إذا أطغته(1/278)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} منه لها {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} بل يهلكها بذنوب أهلها وفجورهم وطغيانهم(1/278)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
[ص:279] النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ لكنه تعالى لم يرد إيمانهم قسراً وجبراً؛ بل اختياراً {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الكفر والإيمان(1/278)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} بتوفيقه إلى الإيمان {وَلِذلِكَ} الامتحان والاختبار {خَلَقَهُمْ} فيؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بقوله لملائكته {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} لعلمه تعالى بكثرة العصاة والكافرين(1/279)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{وَكُلاًّ} أي وكل الذي يحتاج إليه {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} {نَّقُصُّ عَلَيْكَ} ما نطمئنك به، و {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} نقويه بذكر ما نال الرسل الذين بعثوا قبلك من أذى قومهم، وتكذيبهم لهم، وصبرهم على ذلك الأذى والتكذيب {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ} الأنباء، أو في هذه الآيات، أو في هذه الدنيا {الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه {وَمَوْعِظَةٌ} يتعظ بها أولوا الألباب(1/279)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالكم، ووسع طاقتكم. وهو تهديد ووعيد للكافرين(1/279)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{وَانْتَظِرُواْ} عاقبة أمركم، وما سيحل بكم(1/279)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لا تخفى عليه خافية فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} أمرك وأمرهم؛ فيأخذ لك منهم، ويثبتك ويعاقبهم {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} جعل الله تعالى التوكل عليه قرين عبادته والإيمان به (انظر آية 81 من سورة النساء).(1/279)
سورة يوسف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/279)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة).(1/279)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أوثقه وأصدقه {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن عليك {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} عن هذا القصص وعن هذا الهدي وقد شرع تعالى في ذكر بعض هذا القصص؛ قال تعالى(1/280)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} يعقوب {يأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ} في المنام {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فعلم يعقوب أن لابنه يوسف شأناً كبيراً(1/280)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{قَالَ} له {يبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} هذه {عَلَى إِخْوَتِكَ} فتدركهم الغيرة منك، والحقد عليك، والحسد لك {فَيَكِيدُواْ لَكَ} بالدس والوقيعة والإذاية {كَيْداً} كبيراً {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بين العداوة لسائر بني الإنسان؛ فلا يفتأ يوقع العداوة بين الخلان، والبغضاء بين الإخوان(1/280)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{وَكَذلِكَ} كما أكرمك ربك وأعزك بهذه الرؤيا المحققة {يَجْتَبِيكَ} يختارك ويصطفيك {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أحاديث الأمم الغابرة، والكتب السابقة، واستنباط الحقيقة، وتحري أدلة التوحيد؛ وهذا جميعه من إرهاصات النبوة ومقدماتها. وقيل: «تأويل الأحاديث» تعبير الرؤيا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوة؛ وجميع ذلك من تأويل رؤيته التي رآها {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أولاده {كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ} جديك؛ لأن إبراهيم: أبو إسحاق، وإسحاق: أبو يعقوب والد يوسف عليهم الصلاة والسلام. وإتمام النعمة المقصود في هذه الآية: هو النبوة(1/280)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} عظات {لِّلسَّائِلِينَ} الذين يتحرون ما في القصص من عبر، وما في السير من عظات.
هذا وفي قصص القرآن الكريم ما فيه من بليغ الحكم، وروائع السير، ولفت الأنظار إلى ما فيه الاعتبار والاستبصار وفي قصة يوسف عليه السلام - وما كان من شأنه وشأن إخوته - آيات للمتوسمين(1/280)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{إِذْ قَالُواْ} أي قال بعض إخوة يوسف للبعض الآخر {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} الشقيق بنيامين {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جماعة قوية {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ} خطإ(1/280)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} بعيدة. قالوا ذلك القول حين رأوا استئثار أخويهما بحب أبيهما، وتفضيله لهما عليهم جميعاً؛ في حين أنهم يرون أنفسهم أجدر بذلك الحب، وأولى بهذا التفضيل؛ لأنهم الرجال الأشداء الأقوياء
ووجه العظة: أنه يجب على الآباء عدم إيثار بعض الأبناء على بعض في الحب والقرب؛ ففي ذاك إيغار الصدور، وإشاعة البغضاء: وداعية لوقوع بني الإنسان، بين براثن الشيطان.
[ص:281] {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} بأن يقبل عليكم، ولا يلتفت إلى غيركم(1/280)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} قعر البئر الخرب؛ الذي حفر ولم يبن بعد {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} السائرين(1/281)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
{قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} ذهب بعض القراء إلى أن لفظ {تَأْمَنَّا} يجب فيه الإشمام. والإشمام هذا - كما يزعمون - هو أن يشير الإنسان بشفتيه كأنه ينطق بضمة بحيث لا يظهر أثر ذلك في النطق وهو قول هراء لا يجب التعويل عليه بحال؛ انظر - إن شئت المزيد - كتابنا «الفرقان» {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي قائمون بمصالحه(1/281)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} لأني لا أطيق فراقه. وقد زاد ذلك من حنقهم على يوسف، وأسرّوها في أنفسهم {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وقد لقنهم بذلك الحجة التي يحتجون بها من حيث لا يشعر(1/281)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
{قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جماعة قوية {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ}
لأن الذئب إذا قدر على أكل أحدنا من بيننا؛ فهو على أكل مواشينا وأغنامنا أقدر. فأذن لهم بأخذ يوسف(1/281)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} عزموا أمرهم على ما اتفقوا عليه وو {أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} أي أوحينا إلى يوسف - بعد أن ألقوه في الجب - وحي إلهام. وقيل: نزل إليه جبريل عليه السلام قائلاً له {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} لتخبرنهم في مستقبل الأيام {بِأَمْرِهِمْ هَذَا} الذي صنعوه معك(1/281)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
{وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} يتباكون(1/281)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نتسابق في الجري أو الرمي {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} ثيابنا وطعامنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدق لمقالتنا(1/281)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب؛ ليس بدم يوسف كما زعموا
[ص:282] {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زينت وسهلت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} سيئاً اقترفتموه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} على فراق يوسف والصبر الجميل: ما لا شكوى فيه إلى الخلق {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} المطلوب منه العون {عَلَى مَا تَصِفُونَ} ما تذكرون من أمر يوسف(1/281)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} رفقة سائرون {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يبحث لهم عن الماء، ويرده ليستقي لهم ويدلهم عليه. فوجد الجب {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} فيه؛ فتعلق يوسف في الدلو {قَالَ} الوارد لما رأى يوسف في الدلو {يبُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} وذهب به إلى صحبه؛ ففرحوا به {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوه في متاعهم ليتاجروا فيه كالبضاعة(1/282)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{وَشَرَوْهُ} أي باعوه. يقال: شراه يشريه: إذا ملكه، أو باعه، كاشتراه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ}
قليل حقير(1/282)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أكرمي مقامه عندنا {وَكَذلِكَ} إشارة إلى إنجاء يوسف، وعطف قلب الذي اشتراه عليه {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} جعلنا له مكانة فيها، وسلطاناً عليها {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} تصديقاً لقول أبيه يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي على أمر نفسه؛ لا يعجزه شيء أراده؛ وإنما يقول له: كن؛ فيكون ويحتمل أن يعود الضمير إلى يوسف عليه السلام؛ أي والله غالب على أمر يوسف؛ يحوطه بعنايته وكلاءته وحفظه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك(1/282)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{وَلَمَّا بَلَغَ} يوسف {أَشُدَّهُ} كمال قوته وشدته؛ وهو من ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم. أو هو إلى الأربعين: حيث تكون النبوة؛ بدليل قوله تعالى: {حُكْماً وَعِلْماً} حكمة {وَعِلْماً} فقهاً في الدين {وَكَذلِكَ} مثل ما آتينا يوسف من الحكمة والعلم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون أعمالهم كما أحسن يوسف، ويعفون أنفسهم كما أعف(1/282)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} امرأة العزيز: والمراودة: الإرادة برفق ولين {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} عليه معها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلم؛ فلما رأى منها ما رأى {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أن أخون من أكرمني وآواني {إِنَّهُ رَبِّي} أي سيدي ومالكي، والمقصود به عزيز مصر، أو أراد به الله تعالى {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أحسن إقامتي؛ فلا أخونه في أهله، وإذا كان المراد به الله تعالى: كان معنى «أحسن مثواي» أي أحسن إقامتي في هذه الدنيا؛ إذ أنجاني من الهلاك المحقق، وأكرمني بحب مخلوقاته لي وعطفهم عليَّ؛ فلا أعصيه بأقبح ما يعصى به(1/282)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} همت بإمساكه وضمه المراد بهمه عليه السلام: ميل الطبع البشري، ومنازعة الشهوة الفطرية؛ لا القصد الاختياري. وهذا الهم مما يصح أن يكتب له به حسنة، لا أن تحسب عليه سيئة. وقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذا بما يتنافى وعصمة لأنبياء عليهم الصلاة والسلام {لَوْلا أَن رَّأَى} وبرهان ربه: عصمته من الوقوع فيما يقع فيه عامة البشر. ولما كان البرهان: هو الدليل؛ كان برهان الله تعالى: دليل وجوده وقدرته؛ فأثبت الله تعالى قدرته بمنعه، وأثبت وجوده بالحيلولة بينه وبين الوقوع في الخطيئة أرانا الله تعالى برهانه، وعصمنا بقدرته، وحال بيننا وبين معصيته، وهدانا برحمته {كَذلِكَ} أي أريناه برهان وجودنا {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ} الخيانة والزنا(1/283)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} جرى يوسف منها، وجرت وراءه لتمسكه؛ فأدركت ثيابه {وَقَدَّتْ} شقت {قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} من خلف {وَأَلْفَيَا} وجدا {سَيِّدَهَا} زوجها {لَدَى الْبَابِ} عند الباب؛ حينما أراد أن يفتحه هرباً منها. فلما رأت زوجها أسقط في يدها، وحاولت الدفاع عن نفسها أمامه {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} «ما» نافية؛ أي ليس له إلا أن يسجن. فلما رأى يوسف ما أحاطته به الآثمة من إثم؛ شرع في الدفاع المشروع عن نفسه(1/283)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{قَالَ} إنني لم أراودها؛ بل {هِيَ} التي {رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} قيل: تكلم صبي من أهلها؛ وكان في المهد، وقيل: هو ابن عم لها؛ كان وزيراً للملك، ومستشاراً له؛ قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} شق {مِن قَبْلُ} من أمام {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} من خلف(1/283)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ}
وهو مما يؤكد كذبها وصدقه: التفت إليها و {قَالَ} لها {إِنَّهُ} أي الذي حصل من المراودة، واتهام البريء {مِن كَيْدِكُنَّ} أيها النساء {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ثم التفت إلى يوسف، وقال له(1/283)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الأمر الذي حدث فلا تذكره لأحد. ثم التفت إلى امرأته قائلاً {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} وبذلك وضح أنه استقر في ذهن العزيز - بعد أن رأى بنفسه ما رأى، وسمع ما سمع - براءة يوسف وخطيئة امرأته. وكان أقل ما يجب عليه وقتذاك: أن يحول بين لقائها به، ورؤيتها له: لكنه لم يفعل؛ ليتم الله تعالى ما أراده بيوسف، وما أراده له؛ فسارت بذكر قصته مع امرأة العزيز الركبان، وتناقلوا حديثهما في كل مكان(1/283)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} يا للذل والعار {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} خادمها ومملوكها {عَن نَّفْسِهِ} لتنال غرضها منه {قَدْ شَغَفَهَا
[ص:284] حُبّاً} أي مس حبه شغاف قلبها. وشغاف القلب: غلافه، أو حجابه، أو حبته، أو سويداؤه بقولهن؛ وسمي حديثهن مكراً: لأنه تم في خفية؛ كما يخفي الماكر مكره(1/283)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن لمجلسها {وَأَعْتَدَتْ} أعدت {لَهُنَّ مُتَّكَئاً} مجلساً للطعام؛ أعدت فيه ما يتكأ عليه من الوسائد والنمارق، أو أعدت لهن فاكهة يتكأ عليها عند قطعها؛ كالأترج مثلاً {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ} ليوسف {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} فخرج {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه. وقيل: أكبرن: أي حضن، والهاء للسكت؛ وهو تأويل ليس بشيء {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} من شدة ذهولهن مما رأينه من جمال يوسف عليه السلام وصباحة وجهه؛ لم يشعرن بالسكاكين وقد جرحت أيديهن {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً لله؛ وهو لفظ خاص به تعالى: فلا يقال: حاش لك، بل حاشاك، وحاشا لك
{مَا هَذَا بَشَراً} كسائر البشر {إِنْ هَذَآ} ما هذا {إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وصفنه بالملكية؛ لأنه من المعلوم ألا شيء أجمل من الملك، ولا شيء أقبح من الشيطان(1/284)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{قَالَتْ فَذلِكُنَّ} أي فهذا هو {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ} من الإرادة؛ أي طلبته بنفسي لنفسي {فَاسَتَعْصَمَ} امتنع، وتحصن بالعصمة، ومنع نفسه من أن أناله {وَلَيَكُوناً مِّن الصَّاغِرِينَ} الذليلين. ووجه العظة مما مضى من هذه القصة: أنه لا يجوز لعاقل أن يضم في بيته شاباً ممتلئاً قوة وفتوة وجمالاً؛ ويدعه مع امرأته تجتاحها عواصف الشهوة، وتهتاجها أعاصير الخطيئة، ويدع للشيطان بينهما مجالاً وأي مجال، بل الواجب أن يلتزم حدود الدين الحنيف، وأوامر الخالق جل شأنه {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (انظر مبحث التبرج والسفور بآخر الكتاب)(1/284)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ} وإن لم تصرف {عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ} أمل {إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} المذنبين(1/284)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} أجاب دعوته، وصرف عنه كيدهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لمن يدعوه {الْعَلِيمُ} بحال خلقه(1/284)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} الدالة على براءته مما نسب إليه، وألصق به {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن ينقطع كلام الناس وينسون ما حصل بينه وبين امرأة العزيز؛ وأدخل يوسف السجن، مع من أدخل من العصاة والمجرمين(1/284)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ} بعد فترة من الزمن قضوها في السجن {إِنِّي أَرَانِي} أي أرى نفسي في المنام
{أَعْصِرُ خَمْراً} أي أعصر عنباً، فيصير خمراً(1/284)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منامكما كالعنب والخبز الذي رأيتماه {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا} أخبرتكما {بِتَأْوِيلِهِ} بما يؤول إليه رؤية ذلك. {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} تأويله. وقد يكون المعنى: «ترزقانه» أي تطعمانه «إلا نبأتكما بتأويله» أي بما يؤول إليه ذلك الطعام من عناصر وأخلاط. وأن يكون يوسف عليه السلام قد منحه الله تعالى - من جملة ما منحه - علم خواص الأغذية {ذلِكُمَا} العلم الذي ذكرته {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} وأفاضه عليَّ {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} لا يؤمنون بالبعث. قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قيل: إن يوسف عليه السلام علم مكروه الإجابة على أحدهما؛ فحاول أن يتكلم في موضوع آخر ليصرفهما عما طلباه من تأويل رؤياهما فلم يدعاه بل ألحا عليه؛ فعدل أيضاً عن إجابتهما قائلاً(1/285)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
{يصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *(1/285)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فلم يدعاه حتى يعبر لهما ما رأياه؛ فلم يستطع مخالفتهما.
وقد تدرج عليه السلام في دعوتهم وإلزامهم الحجة؛ بأن بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها: لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نص على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم؛ الذي لا يقبل العقل غيره، ولا يرتضي العلم سواه؛ ثم شرع في إجابتهما؛ فقال(1/285)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{يصَاحِبَيِ السِّجْنِ} أي يا صاحبي في السجن {أَمَّآ أَحَدُكُمَا} الذي رأى في منامه أنه يعصر خمراً {فَيَسْقِي رَبَّهُ} أي سيده {خَمْراً} في اليقظة؛ أي سيكون من خاصته الذين أعدهم لسقياه
[ص:286] {وَأَمَّا الآخَرُ} الذي رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه {فَيُصْلَبُ} في اليقظة {فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ} وكأنه عليه السلام قد تألم من ذكر ما يؤلم؛ فقال آسفاً {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} والذي حاولت جاهداً أن أستقيل من الإجابة عليه، فلم تمكناني.(1/285)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} تأكد {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} وهو الساقي؛ قال له: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي اذكرني عند سيدك الملك حين تلقاه {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي أنسى الشيطان يوسف من أن يطلب من ربه الخلاص من السجن؛ ولجأ - ناسياً - إلى العبد العاجز الفاني؛ فكان جزاءه أن لبث {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} البضع: بين الثلاث إلى التسع(1/286)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{وَقَالَ الْمَلِكُ} لجلسائه {إِنِّي أَرَى} أي رأيت في المنام {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي مهازيل(1/286)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{قَالُواْ أَضْغَاثُ} أي تخليط في الرؤيا؛ وهو ما لا تأويل له؛ لصدوره عن فساد المعدة وأبخرة الطعام(1/286)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} وهو الساقي: تذكر يوسف وتأويله للرؤيا {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي تذكر بعد مدة طويلة قول يوسف له: «اذكرني عند ربك» وقرأ ابن عباس «وادكر بعد أمه» والأمه: النسيان {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أدلكم على من يؤول هذا المنام لكم {فَأَرْسِلُونِ} أي أرسلوني إلى السجن لأحضره لكم. فأرسلوه فقال ليوسف(1/286)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} الكثير الصدق، الدائم عليه {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} فأخبرهم بما تذكره من تأويل هذه الرؤيا {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما ينفعهم من تأويلها، أو لعلهم يعلمون فضلك وعلمك؛ فيخرجونك مما أنت فيه من الضيق(1/286)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{قَالَ} تأويل ذلك: أنكم {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أي دائبين متوالين {فَمَا حَصَدتُّمْ} قطعتم من الأرض {فَذَرُوهُ} اتركوه {فِي سُنبُلِهِ} بغير دراس؛ ليحفظ ولا يتطرق إليه التلف. وبذلك يعلمنا الله تعالى في هذه القصة: الطريقة المثلى لتخزين الحبوب والمحاصيل لحفظها؛ إذ أن تركها بغير نزع سنابلها: أحفظ لها من التلف والفساد؛ وذلك بعكس منزوعة السنابل التي قد يدب فيها الفساد في عام واحد أو عامين
[ص:287] {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي إلا ما تحتاجون لأكله فادرسوه وانزعوه من سنابله(1/286)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبع سنين تقحطون فيها؛ فلا تخرج الأرض نباتاً {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما خزنتموه في السنين السبع التي زرعتموها دأباً {تُحْصِنُونَ} تدخرونه لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر: تحصين للأقوات؛ وإلا إذا أكلنا الجميع فماذا نزرع؟(1/287)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ينزل لهم الغيث، ويرزقون ما يعصر من الثمار؛ كالعنب، والزيتون، وغيرهما. وقيل: «يعصرون» ينجون؛ من العصرة: وهي المنجاة. ومنه العصر: وهو الملجأ(1/287)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} أي أرسل إليهن الملك، وقال لهن: ما شأنكن {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} هل وجدتن منه ميلاً إليكن؛ كالميل الذي بدا منكن إليه؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تعجباً من خلق إنسان كامل عفيف مثله {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} قط {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} التي كان يوسف في بيتها، وراودته عن نفسه، واتهمته بإرادة السوء بها؛ لما رأت قول النسوة: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} جاشت في صدرها عوامل الحب الدفين، مع الإكبار، ورغبت في الصدق الصراح؛ بعد أن ناءت بحمل الكذب المبين، طوال هذه السنين قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} وضح وظهر {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في دفاعه عن نفسه(1/287)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} أي لم أخن يوسف في غيبته، بعد أن خنته في حضوره؛ حين جابهته بقولي لزوجي «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً» {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا يسدد عملهم(1/287)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي} فأقول: إني لم أراوده {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
الذي أراه: أن جميع ذلك تتمة لكلام امرأة العزيز؛ لأن يوسف لم يأت بعد من السجن؛ ولقول الملك بعد ذلك «ائتوني به أستخلصه لنفسي» وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه من كلام يوسف عليه السلام؛ وزينوا ذلك بأقاويل تتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ منها: أنه حين قال: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» همس جبريل في أذنه قائلاً: ولا حين حللت تكة سراويلك وهممت بها؛ فقال: «وما أبرىء نفسي» وهو قول ظاهر القبح، بادي البطلان ومن عجب أن أمهات كتب التفسير تذكر هذا القول وأمثاله، وتنسبه إلى فضلاء الصحابة، وجلة التابعين؛ وهم براء من هذا الهراء وذهب بعضهم إلى أنه من كلام العزيز: أي لم أتحامل عليه وأخنه في غيبته؛ بل جازيته على أمانته، وملكته رقاب الناس وأموالهم(1/287)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{وَقَالَ الْمَلِكُ} حين وضح له علم يوسف، ورسوخ قدمه وفضله، وبراءته مما نسب إليه {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي أجعله من خلصائي وأصفيائي {فَلَمَّآ}
[ص:288] جاءوا بيوسف من السجن، و {كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة تؤتمن على كل شيء(1/287)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{قَالَ} يوسف {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} أي وزيراً للمالية، أو وزيراً للتموين {إِنِّي حَفِيظٌ} ذو محافظة على الأموال {عَلِيمٌ} بإدارتها وتنميتها. وقيل: «حفيظ عليم» أي كاتب حاسب(1/288)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَكَذلِكَ} كما أنعمنا عليه بالعلم، والصدق، والنبوة، والنجاة من السجن، والخلاص من كيد الشيطان، والقرب إلى قلب الملك؛ مثل هذا الإنعام والتفضل {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} جعلنا له مكانة فيها، وقدرة عليها. قيل: استخلفه الملك على مصر؛ فسار موكبه في طرقاتها؛ فرأته امرأة العزيز؛ فبكت وقالت: الحمدلله الذي صير الملوك عبيداً بالمعصية، والعبيد ملوكاً بالطاعة وقال بعضهم: إنه تزوجها بعد ذلك. والقول الراجح: إنه لم يتزوجها، بل تزوج راعيل زوجة اطفير، وولدت له غلامان {يَتَبَوَّأُ} ينزل ويسكن {مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} فقد ملك أموالها وأقواتها؛ واحتاج كل من فيها إليه، وليست به حاجة إلى أحد
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا وأنعمنا في الدنيا {مَّن نَّشَآءُ} من عبادنا {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فيها؛ بل ترزقهم منها جزاء إحسانهم(1/288)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} من أجر الدنيا وجزائها {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} بربهم {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله في أعمالهم(1/288)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} عدا بنيامين أخاه الشقيق؛ وهم الذين تآمروا على يوسف، وألقوه في غيابة الجب؛ جاءوا - كما جاء غيرهم - ليأخذوا حاجتهم من القوت الذي حفظه يوسف في خزائنه، لسني القحط - تأويلاً لرؤيا الملك - {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي لم يعرفوه(1/288)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أعطاهم حاجتهم من الأقوات التي جاءوا من أجلها؛ قيل: أعطى كل واحد منهم حمل بعير. وقد كان هاجه الشوق إلى أخيه؛ وأراد أن يحتال على مجيئه {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} لأعطيه مثل ما أعطيتكم
{أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} المضيفين، المكرمين(1/288)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} أي فلا أعطيكم طعاماً بعد ذلك(1/288)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنتحايل عليه في الإتيان به إليك(1/288)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} لغلمانه {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ} التي جاءوا بها ثمناً للطعام؛ دسوها {فِي رِحَالِهِمْ} خفية من حيث لا يشعرون {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ} رجعوا {إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلينا بها وبأخيهم؛ قيل: كان محرماً في شريعتهم أخذ شيء من غير ثمن له، أو «لعلهم يرجعون» لأخذ حمل بعير لأخيهم كما أخذوا(1/288)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لمن لم يحضر معنا {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا} بنيامين {نَكْتَلْ} له؛ كما اكتلنا لأنفسنا، وقرىء «يكتل»(1/288)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} ففجعتموني فيه {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يرحم ضعفي وذلتي، وحسرتي على مهجتي؛ فيحفظ لي ولدي، ويرده إليَّ(1/289)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} التي أمر يوسف بدسها في رحالهم {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} فعجبوا من ذلك، و {قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِي} أي أي شيء نطلب بعد ذلك؟ {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} تفضلاً وكرماً. أو «ما» نافية؛ أي لا نبغي شيئاً منك؛ بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} من الميرة؛ أي نجلب لهم الطعام {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} في رحلتنا هذه {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}
أي حمل بعير لأخينا بنيامين {ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} على الملك؛ لا يبخل به علينا؛ وقد رأينا من كرمه وسخائه ما رأينا(1/289)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ} عهداً وقسماً {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن يحيط بكم العدو، ويصير ليس في إمكانكم النجاة به {فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} حلفوا له على ذلك {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} رقيب مطلع(1/289)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{وَقَالَ} موصياً لهم {يبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ} المدينة {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} قيل: كانت وصية يعقوب: خشية من العين. والذي أراه أنه خشي أن يصيبهم مكروه مجتمعين؛ فيحل بهم جميعاً. وقيل: خشية أن يراهم الملك مجتمعين ويرى عددهم، واستواء أجسامهم، وقوتهم، فيبطش بهم: حسداً لهم، أو خوفاً منهم {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} لا أدفع عنكم شيئاً أراده الله تعالى بكم.(1/289)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضمه إليه، وأجلسه بجواره، و {قَالَ} له {إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بما عمل إخوتك معنا(1/290)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ} هي ما يسقى به؛ وكانت من ذهب {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} العير: الإبل. أي يا أهل هذه القافلة، يا أصحاب هذه الإبل {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} فدهش إخوة يوسف من توجيه هذه التهمة لهم على رؤوس الأشهاد؛ وهم منها براء قد {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أي على المنادين بالسرقة؛ متسائلين(1/290)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
{مَّاذَا تَفْقِدُونَ} وما الذي سرق منكم؟(1/290)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ} صاع {الْمَلِكُ} والصاع: مكيال يكال به. والمراد بالصواع هنا: الكأس الذي يشرب فيه؛ لأنه سمي في الآية المتقدمة بالسقاية «جعل السقاية في رحل أخيه» {وَلِمَن جَآءَ بِهِ} أي بالصواع المسروق {حِمْلُ بَعِيرٍ} مكافأة له على ضبط السارق {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل بأداء حمل البعير(1/290)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} وما جاء بنا إلا طلب القوت(1/290)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
{قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ} أي فما جزاء السارق {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم، وكان السارق من بينكم(1/290)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ} المسروق {فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي فهو عبد رق جزاء سرقته. وكان في شريعتهم استرقاق السارق(1/290)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{فَبَدَأَ} يوسف {بِأَوْعِيَتِهِمْ} أي بتفتيشها {قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} وذلك تمويهاً لهم، وتغطية عليهم؛ ليشعرهم بحقيقة ما يسفر عنه وعاء أخيه أي استخرج السقاية {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي علمناه ذلك الكيد؛ الذي استطاع به أن يأخذ أخاه، وليكون هذا سبباً في اجتماعه بأبويه.
ومن هذا يؤخذ جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بالحيل؛ ولو أدى ذلك إلى الكذب؛ ما توافرت المنفعة، بغير أن يترتب عليها إضرار بأحد، و {مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} رقيقاً بسبب سرقة لم يرتكبها {فِي دِينِ الْمَلِكِ} سلطانه وعادته وحكمه(1/290)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ} أخونا هذا
[ص:291] {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} يعنون يوسف عليه السلام؛ وكان قد سرق في صغره صنماً من ذهب لجده أبي أمه؛ فكسره {فَأَسَرَّهَا} أخفى هذه القالة {يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} ولم يظهر التضجر والتألم. ويجوز أن يكون المعنى: فأسر يوسف في نفسه قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} لسرقتكم إياي من أبيكم، وظلمكم الذي ظلمتموه لي وله {وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} بما تقولون، أو بما تكذبون(1/290)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ} يئسوا من قبول مطلبهم {خَلَصُواْ نَجِيّاً} انفردوا متناجين فيما بينهم {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي ألم تعلموا تفريطكم في يوسف من قبله؛ فكيف تفرطون في أخيه أيضاً {فَلَنْ أَبْرَحَ} لن أفارق {الأَرْضِ} أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الرجوع؛ راضياً عني، غير غاضب عليَّ {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بخلاص أخي بنيامين، وعودته معنا {قَالَ كَبِيرُهُمْ} وأخذ بجريرته(1/291)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} أي بما تيقنا؛ لأنا رأينا بأعيننا صاع الملك وهم يستخرجونه من رحله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} لما غاب عن أعيننا وأذهاننا {حَافِظِينَ} أي إن ما نذكره هو الظاهر لنا؛ المشاهد لأعيننا؛ ولا نعلم ما في الغيب: هل هو السارق للصواع حقيقة، أم أنه دس عليه؟(1/291)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهل القرية {وَالّعِيْرَ}
الإبل؛ والمقصود: واسأل أهل القافلة {الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} فقد رأوا بأعينهم ما رأينا بأعيننا. فذهبوا إلى أبيهم فقالوا له ما رسمه لهم أخوهم(1/291)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زينت وسهلت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} فعلتموه ببنيامين، كما فعلتم بيوسف أخيه من قبل
[ص:292] {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} يوسف وأخويه: بنيامين، والذي قال: «لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي» {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحالي {الْحَكِيمُ} في صنعه(1/291)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} انصرف وأعرض الأسف: شدة الحزن {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} وكثرة البكاء ممتلىء غيظاً وكرباً وغماً، ويكتم جميع ذلك في نفسه {فَهُوَ كَظِيمٌ} قسم فيه معنى التعجب(1/292)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{تَفْتَأُ} أي لا تفتأ، ولا تزال {تَذْكُرُ يُوسُفَ} دائماً وتذكر فقده {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} الحرض: الذي أذابه الهم والمرض، وأشرف على الهلاك وقد قلت في وصف الدنيا:
فكم لفرقتها أشفى على تلف
صب بها مولع في حبها حرض(1/292)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} حالي المؤلم {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وحده؛ فهو القادر على الذهاب به، أو بأسبابه {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من صحة رؤيا يوسف وتحققها، واطمئناني بأن الله تعالى سيجمعني به؛ عاجلاً أو آجلاً(1/292)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ} تجسسوا. والتحسس: في الخير، والتجسس: في الشر. وقيل: إذا تجسس لنفسه؛ يقال له: تحسس، وإذا تجسس لغيره يقال له: تجسس {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} من رحمته وفرجه فذهبوا إلى مصر(1/292)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف {قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} الشدة والجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} رديئة، أو قليلة {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} بالزيادة، أو برد أخينا. فأراد يوسف أن يكشف لهم عن حقيقته، وأن يعاتبهم على ما فعلوه عتاباً رقيقاً(1/292)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} إذ تآمرتم عليه، وألقيتموه في غيابة الجب، وزعمتم أن الذئب قد أكله {وَأَخِيهِ} وما فعلتم بأخيه بنيامين؛ إذ صدقتم أنه سرق، وأشعتم ذلك؛ وقلتم: «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» فلما رأوا فعله، وسمعوا كلامه علموا أنه أخوهم؛ فقالوا:(1/292)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ} نعم {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} بنيامين {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ} بإنجائي من الهلاك المحقق، وتملكي دماء الناس وأموالهم، وبتبرئة أخي من السرقة، واجتماعه بي
[ص:293] {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} الله، ويعمل لآخرته {وَيِصْبِرْ} على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى المكاره {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بل يجزيهم على صبرهم وإحسانهم خير الجزاء(1/292)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ}
أي فضلك {عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ *(1/293)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} لا لوم، ولا تقريع، ولا عتب {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} لإنابتكم، وندمكم على ما قدمتم، واعترافكم بخطئكم؛ وقال لهم(1/293)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} ألهمه الله تعالى أن قميصه إذا ألقي على وجه أبيه؛ يرتد بصره إليه بقدرته تعالى وقد أبى أخوهم يهوذا إلا أن يحمل القميص بنفسه؛ وقال: أنا حملت إليه قميص يوسف بدم كذب فأحزنته وأمرضته وأعميته، وأنا الذي أحمل إليه القميص الآن لأسره وأشفيه وقيل: إن هذا القميص كان قميص إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذي نجا به من النار، وأنه قد نسج من حرير الجنة، وأن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي. وهذا الكلام فيه نظر؛ فلو صدقنا أنه كان قميصاً لإبراهيم، وآمنا أن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي؛ فأين لنا بحرير الجنة الذي نسج منه القميص؟ وأين لنا بريح الجنة الذي يشفي كل مبتلي أو مريض؟ وهو كلام لا يعدو أن يكون من تخريف القصاص المولعين بكل غريب، الناشرين لكل عجيب فكم من كلام لا تستسيغه الأفهام، وكم من منقول لا يوافق العقول؛ وكتب التفسير ملأى بكل غريب وسقيم؛ فليحذره العاقل الحكيم {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} لأستمتع برؤيتهم، وأهنأ بقربهم(1/293)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي خرجت من مصر، وانفصلت عن عمرانها {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوب لجلسائه {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تنسبون إليَّ التخريف. وهو من الفند، أي الخرف(1/293)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} خطئك القديم؛ من حب يوسف، وأملك في حياته ولقائه؛ وقد أجمعوا على هلاكه وموته(1/293)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ} يهوذا بقميص يوسف {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} أي ألقى قميص يوسف على وجه أبيه {فَارْتَدَّ} عاد {بَصِيراً} كما كان {قَالَ} يعقوب {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} ومن كرمه وفضله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وحينئذٍ أدرك إخوة يوسف مبلغ ما ارتكبوه في حق أبيهم، ومدى الإيذاء الذي ألحقوه به، وخافوا غضب الله تعالى عليهم، وبطشه بهم(1/293)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
{قَالُواْ يأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} فيما فعلناه(1/293)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أطلب لكم الغفران منه {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} لكل مذنب {الرَّحِيمُ} بكل تائب ولما أبلغوا أباهم رغبة يوسف في اللحاق به: توجهوا جميعاً نحو مصر ولما استشعر يوسف بقدومهم: استقبلهم في خارج
[ص:294] العمران ودخلوا على يوسف(1/293)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{فَلَمَّا دَخَلُواْ} عليه {آوَى} ضم {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ} روي أن يعقوب حين لقى يوسف قال له: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
فرد يوسف على أبيه السلام؛ وقال: يا أبت تبكي عليَّ حتى يذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك؛ فيحال بيني وبينك(1/294)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أجلسهما بجواره على السرير {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أي خروا لأجله سجداًلله، أو الضميرلله تعالى، أو السجود كان ليوسف عليه السلام؛ وكان تحية عندهم، أو كان على هيئة الانحناء {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ} أفسد وحرش {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} أي رفيق بعباده؛ يسبب لهم مصالحهم من حيث لا يعلمون، ويرفعهم من ناحية المكاره التي تلحقهم إذ لولا تآمر إخوة يوسف عليه لما ألقي في الجب، ولولا إلقاءه في الجب ما أخذه السيارة، ولولا أخذ السيارة له وزهدهم فيه لما باعوه لحاكم مصر، ولولا بيعه كالعبيد لما راودته سيدة القصر عن نفسه، ولولا هذه المراودة لما دخل السجن، ولولا دخوله السجن لما اختلط بصاحبي السجن، ولولا تأويله لهما ما رأياه في منامهما لما اتصل أمره بالملك، ولولا اتصال أمره بالملك لما خرج من السجن، ولما وليَّ على خزائن الأرض
وهكذا أراد ربك أن يرفعه من طريق الضعة، ويغنيه من طريق الفقر، ويسعده من طريق الشقاء فقد كان الأقرب أن يموت محطماً مهشماً عند إلقائه في الجب، أو أن يموت جوعاً وعطشاً لو ترك، أو تتخذه السيارة خادماً؛ فيعيش طوال حياته ذليلاً مهاناً ولكنه تعالى «لطيف لما يشاء» {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الْحَكِيمُ} في صنعه وهنا يحس يوسف بمبلغ فضل الله تعالى عليه، ومدى لطفه به؛ فيقول مناجياً ربه، شاكراً نعماءه(1/294)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} ما آتيتني {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} ما علمتني {فَاطِرَ} خالق {أَنتَ وَلِيِّي} ناصري، ومتولي أموري في الدنيا والآخرة(1/294)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ذلِكَ} الذي ذكرناه لك، وقصصناه عليك يا محمد {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ} أخبار ما غاب عنك، ولم يصل إلى علمك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ليكون دليلاً على صدقك، وبرهاناً على نبوتك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي لم تكن لدى إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} عزموا عزماً أكيداً على الكيد ليوسف {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي لم تحضرهم وقتذاك؛ فتعلم ما دار بينهم؛ فيكون ذلك مثاراً للشبهة فيك، والتهمة لك؛ وإنما علمت ذلك عن طريق الوحي(1/294)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} إلا أن يشاء الله(1/294)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على القرآن {مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ ذِكْرٌ}
[ص:295] عظة {لِّلْعَالَمِينَ} الناس جميعاً(1/294)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{وَكَأَيِّن} وكم {مِّن آيَةٍ} دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعظمته {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يشاهدونها بأعينهم وألبابهم {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي معرضون عن دلالتها على خالقها إذ أن كل شيء في هذا الكون يشهد للمولى تعالى بالوجود والقدرة والحكمة والعظمة وليس الجبل بعظمته وضخامته بأكثر دلالة على وجوده تعالى من الحصاة الملقاة في الفلاة، وليس الغزال المستحسن بأدل على قدرته تعالى ووجوده من الخنزير المستهجن؛ بل إن النار والثلج - مع تفاوتهما واختلافهما في الطبائع: فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان على وجود مبدعهما ومودع خواصهما(1/295)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} ما يقرون بوجوده «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله» {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به غيره: يعبدون الأصنام؛ ويقولون: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»(1/295)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} عقوبة تغشاهم وتشملهم {بَغْتَةً} فجأة(1/295)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} طريقي {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} حجة واضحة {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزيهاً له تعالى عما يقولون، وعما يعبدون(1/295)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} من الرسل {إِلاَّ رِجَالاً} ليس من بينهم امرأة، ولا جني، ولا ملك؛ وهو رد على القائلين «لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً» وهؤلاء الرجال {نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي من أهل المدائن؛ ولم يرسل الله تعالى رسولاً من أهل البادية؛ لجفائهم وغلبة القسوة على طباعهم(1/295)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} يئسوا من إيمان قومهم؛ أو يئسوا من النصر على أقوامهم {وَظَنُّواْ} أي استيقن قومهم {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} أي أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر، أو ما وعدوا به من نزول العذاب بالمكذبين؛ وقرىء «كذبوا» بالتثقيل؛ أي وتأكد الرسل أنهم قد كذبوا من قومهم تكذيباً لا إيمان بعده. وقال بعضهم: إن المعنى: وظن الرسل أن الله أخلفهم ما وعدهم به؛ وهو كفر لا يجوز نسبته إلى عامة المؤمنين فما بالك بخاصتهم، وما بالك بالرسل؛ الذين هم صفوة عباد الله وخيرته من خليقته ومن عجب أنهم ينسبون هذا التأويل إلى حبر الأمة وترجمان القرآن: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والأعجب من ذلك أنهم يزعمون أن السامع ناقش ابن عباس في ذلك القول؛ فقال له: ألم يكونوا بشراً؟ وتلا قوله تعالى: «حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» فاحذر - هداك الله وعافاك - من هذه الدسائس فهي كثر {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} أي جاء الرسل نصرنا {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} وهم المؤمنون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين(1/295)