بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
أسماء القرآن
الفرقان: الفارق بين الحق والباطل.
الذكر: لأن الله - تعالى - ذكر به عباده وعرفهم فرائضه، أو لأنه شرف لمن آمن به.
القرآن: نصدر قرأت أي بينت {فإذا قرأناه} [القيامة: 18] بيناه، أو مصدر قرأت أي جمعت، إذ هو آيات مجموعة.
الكتاب: مصدر كتبت، والكتابة مأخوذة من الجمع، كتبت السقاء جمعته بالخرز.
التوراة: من روى الزند، إذا خرجت ناره، أي هي ضياء.
الزبور: من زبر الكتاب يزبره إذا كتبه.(1/81)
الإنجيل: من نجلت الشيء إذا أخرته، ونجل الرجل نسله كأنه أخرجهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني ربي بالمفصل ".
السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، على الأصح، لأنها أطول من باقي السور.
المئون: كل سورة هي مائة، أو تزيد شيئا أو تنقص شيئا.
المثاني: السور التي ثنيت فيها القصص والأمثال والفرائض والحدود، أو هي الفاتحة، أو هي ما ثنيت المائة فيها من السور فبلغت المائتين وما قاربها، كأن المئين لها أوائل، والمثاني ثواني.
المفصل: [سمي مفصلا] لكثرة فصوله بالبسملة، وآخره سورة الناس،(1/82)
وأوله سورة محمد صلى الله عليه وسلم قاله الأكثر وقاف، أو الضحى وكان ابن عباس يفصل من الضحى بين كل سورتين بالتكبير.
السورة: المنزلة الرفيعة، سميت بها سور القرآن لعلو قدرها فإن همزت فهي القطعة تفضل من القرآن، وتبقى منه، وبقية كل شيء سؤره.
والآية: العلامة على تمام ما قبلها، أو هي القصة والرسالة، كعب بن زهير:
(ألا أبلغا هذا المعرض آية ... أيقظان قال القول أم قال ذا حلم)
الأحرف السبعة: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليم حكيم غفور رحيم " قيل سبعة معاني، الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والأمثال، أو سبع لغات مما لا يغير حكم تحريم ولا تحليل، كهلم، وتعالى، وأقبل. خيروا في ذلك في صدر الإسلام، ثم وقع(1/83)
الإجماع على المنع منه، أو سبع لغات في صيغ الألفاظ، ووجوه إعرابها من غير أن تعدل من لفظ إلى غيره وإن وافقه في معناه كاختلاف القراءات.
الإعجاز: هو الإيجاز والبلاغة {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:، أو البيان والفصاحة {فاصدع بما تؤمر} [الحجر: 94] {فلما استيئسوا منه(1/84)
خلصوا نجيا} [يوسف: 80] ، أو هو رصفه الذي أخرجه عن عادتهم في النظم وفي النثر والخطب والشعر والرجز والسجع والمزدوج مع أن ألفاظه مستعملة في كلامهم، وهو ن قارئه لا يمله وازدياد حلاوته مع كثرة تلاوته بخلاف غيره فإنه يمل إذا أكثر منه، أو إخباره بما مضى كقصة أهل الكهف، وذي القرنين، وموسى والخضر، وجميع قصص الأنبياء. عليهم الصلاة والسلام -، أو هو إخباره عما يكون كقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24] {ولن يتمنوه أبدا} [البقرة: 95] ، أو اشتماله على العلوم التي لم يكن فيه آلتها [ولا] تعرفها العرب ولا يحيط بها أحد من الأمم، أو صرفهم عن القدرة على معارضته، أو صرفهم عن معارضته مع قدرتهم عليها وحرصهم على إبطاله، أو إعجازه بجميع ذلك لاشتماله على جميعه.(1/85)
(سورة الفاتحة)
{بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلّين (7) }
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني " سميت الفاتحة، لأنها يفتح بها القرآن تلاوة وخطاً [و] أم القرآن:(1/87)
لتقدمها عليه، وتبعه لها، كراية الحرب أم لتقدمها على الجيش، وما مضى من عمر الإنسان أم لتقدمه مكة أم القرى لتقدمها على سائر القرى، أو لأن الأرض دحيت عنها، وحدثت عنها كالولد يحدث عن أمه. وهي سبع آيات اتفاقاً.
[وسميت] المثاني [لأنها] تثنى في كل صلاة فرض أو تطوع.(1/88)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
1 - {بسمِ اللَّهِ} أبدأ بسم الله، أو بدأت بسم الله، الاسم صلة، أو ليس بصلة عند الجمهور، واشتق من السمة، وهي العلامة، أو من السمو.
{الله} أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] تسمى باسمه، أو شبيهاً. أبو حنيفة: " هو الاسم الأعظم " وهو علم إذ لا بد للذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد: أي يفزعون إليه في أمورهم، فالمألوه إليه إله، كما أن المأموم [به] إمام، أو اشتق من التأله وهو التعبد، تأله فلان: تعبد، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به أزلاً(1/88)
{الرَّحْمَن الرَّحِيمِ} الرحمن والرحيم الراحم، أو الرحمن أبلغ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى الشنفري:
(إلا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا هدر الرحمن ربي يمينها)
ولما سُمي مسيلمة بالرحمن قُرن لله تعالى الرحمن الرحيم، / لأن أحداً [2 / ب] لم يتسم بهما، واشتقا من رحمة واحدة، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق، والرحيم من رحمته لأهل طاعته، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا والرحيم من(1/89)
رحمته لأهل [الآخرة] ، أو الرحمن من الرحمة التي يختص بها، والرحيم من الرحمة التي يوجد في العباد مثلها.(1/90)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
2 - {الْحَمْدُ} {الثناء بجميل الصفات والأفعال والشكر والثناء بالإنعام، فالحمد أعم، الرب: المالك كرب الدار أو السيد، أو المدبر كربة البيت، الربانيون يدبرون الناس بعلمهم، أو المربى، ومنه الربيبة ابنة الزوجة، {العالمين} } جمع عالم لا واحد له من لفظه، كرهط وقوم، أُخذ من العلم، فيعبر به عمن يعقل من الجن والإنس والملائكة، أو من العلامة، فيكون لكل مخلوق، أو هو الدنيا وما فيها، أو كل ذي روح من عاقل وبهيم، وأهل كل زمان عالم.(1/90)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
4 - {مُلْكِ} { {مالك} } أُخذا من الشدة، ملكت العجين عجنته بشدة، أو من القدرة.
(ملكت بها كفي فأنهرت فتقها)(1/90)
فالمالك من اختص ملكه، والملك من عمَّ ملكه، وملك يختص بنفوذ الأمر، والمالك يختص بملك الملوك، والملك أبلغ لنفوذ أمره على المالك، ولأن كل ملك مالك ولا عكس، أو المالك أبلغ لأنه لا يكون إلا على ما يملكه، والملك يكون على من لا يملكه كملك الروم والعرب، ولأن الملك يكون على الناس وحدهم والمالك يكون مالكاً للناس وغيرهم، أو المالك أبلغ في حق الله تعالى من ملك، وملك أبلغ في الخلق من مالك، إذ المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك بخلاف الرب سبحانه وتعالى. {يَوْمَ} أوله الفجر، وآخره غروب الشمس، أو هو ضوء يدوم إلى انقضاء الحساب. {الدِّينِ} الجزاء أو الحساب، ويستعمل الدين في العادة والطاعة، وخص المُلْك بذلك اليوم إذ لا مَلِك فيه سواء، أو لأنه قصد ملكه للدنيا بقوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فذكر ملك الآخر ليجمع بينهما.(1/91)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
5 - {إِيَّاكَ} الخليل: إيا: اسم مضاف إلى الكاف، الأخفش إياك: كلمة واحدة، لأن الضمير لا يضاف. {نَعْبُدُ} العبادة: أعلى مراتب الخضوع تقرباً، ولا يستحقها إلا الله - تعالى -، لإنعامه بأعظم النعم، كالحياة والعقل(1/91)
والسمع والبصر، أو هي لزوم الطاعة، أو التقرب بالطاعة، أو المعنى " إياك نؤمل ونرجوا " مأثور والأول أظهر {نَسْتَعِينُ} على عبادتك أو هدايتك أمروا بذلك كما أمروا بالحمد له، أو أخبروا. [3 / أ](1/92)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
6 - / {اهْدِنَا} : دلنا، أو وفقنا {الصِّرَاطَ} السبيل المستقيم أو الطريق الواضح، مأخوذ من مسرط الطعام وهو ممره في الحلق، طلبوا دوام الهداية، أو زيادتها، أو الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة، أو طلبوها إخلاصاً للرغبة، ورجاء ثواب الدعاء، فالصراط: القرآن، أو الإسلام أو الطريق الهادي إلى دين الله، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر [رضي الله عنهما] أو طريق الحج أو طريق الحق. {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} : الملائكة أو الأنبياء، أو المؤمنون بالكتب السالفة أو المسلمون أو النبي ومن معه.(1/92)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
7 - {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : اليهود، والضالون: النصارى. اتفاقاً خُصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها، والغضب هو المعروف من العباد، أو إرادة الانتقام، أو ذمه لهم، أو نوع من العقاب سماه غضباً كما سمى نعمته رحمة.(1/92)
(سورة البقرة)
مدنية اتفاقاً إلا آية {واتقوا يوما ترجعون فيه} { [281] نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع. {بسم الله الرحمن الرحيم} } {الم} !(1/93)
الم (1)
1 - {الم} ! اسم من أسماء القرآن، كالذكر، والفرقان، أو اسم للسورة أو اسم الله الأعظم، أو اسم من أسماء الله أقسم به، وجوابه ذلك الكتاب، أو افتتاح للسورة يفصل به ما قبلها، لأنه يتقدمها ولا يدخل في أثنائها، أو هي حروف قطعت من أسماء، أفعال، الألف من أنا، اللام من الله، الميم من أعلم، معناه " أنا الله أعلم "، أو هي حروف لكل واحد منها معاني مختلفة، الألف مفتاح الله، أو آلاؤه، واللام مفتاح لطيف، والميم مجيد أو مجده، والألف سنة، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة، آجالا ذكرها، أو هي حروف من حساب الجُمَّل،
لما روى جابر قال: مر أبو ياسر بن(1/93)
أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {الم} ، فأتى أخاه حُيي بن أخطب. في نفر من اليهود، فقال: سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يتلو فيما أُنزل عليه {الم} ، قالوا: أنت سمعته قال: نعم، فمشى حُيي في أولئك النفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أُنزل عليك {الم} ، قال: بلى، فقال: أجاءك بها جبريل - عليه السلام - من عند الله - تعالى - قال: نعم، قالوا: لقد بعث قبلك أنبياء، ما نعلمه بُين لنبي منهم مدة ملكه، وأجل أمته غيرك. فقال حُيي لمن كان معه: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال: يا محمد هل كان مع هذا غيره [3 / ب] قال: نعم، قال: ماذا، قال: {المص} قال: هذه أثقل / وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، وهل مع هذا غيره قال: نعم فذكر {المر} فقال: هذه أثقل، وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة، ثم قال: لقد التبس علينا أمرك، ما ندري أقليلاً أُعطيت أم كثيراً: ثم قاموا عنه. فقال لهم أبو ياسر؟ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، قالوا: قد(1/94)
التبس علينا أمره. فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 7] أو أعلم الله تعالى العرب لما تحدوا بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أبلغ في د الحجة عليهم، أو الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم، أو افتتح به الكلام كما يفتتح بألا ... ... .(1/95)
أبجد: كلمات أبجد حروف أسماء من أسماء الله - تعالى - مأثور أو(1/96)
هي أسماء الأيام الستة التي خلق [الله تعالى] فيها الدنيا أو هي أسماء ملوك مدين قال:
(ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سَببْت بها عمرا وحي بني عمرو)
(ملوك بني حطي وهواز منهم ... وسعفص أصل في المكارم والفخر)
(هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر)
أو أول من وضع الكتاب العربي ستة أنفس " أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت "، فوضعوا الكتاب على أسمائهم، وبقي ستة أحرف لم تدخل في أسمائهم، وهي: الظاء، والذال، والشين، والغين، والثاء، والخاء، وهي الروادف التي تحسب بعد حساب الجُمَّل،
قاله عروة بن الزبير، ابن عباس: " أبجد " أبى آدم الطاعة، وجد في أكل الشجرة، " هوز " فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، " حطي "، فحطت عنه خطيئته، " كلمن " فأكل من(1/97)
الشجرة، ومَنَّ عليه بالتوبة " سعفص " فعصى آدم فأُخرج من النعيم إلى النكد " قرشت " فأقر بالذنب، وسلم من العقوبة. {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) }(1/98)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
2 - {ذّلِكَ الْكِتَابُ} {: إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة أو المدينة، أو إلى قوله {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} } [المزمل: 5] أو ذلك بمعنى هذا إشارة إلى حاضر، أو إشارة إلى التوراة والإنجيل، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم: أي الكتاب الذي ذكرته لك في التوراة والإنجيل هو الذي أنزلته عليك، أو خوطب به اليهود والنصارى: أي الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب الذي أنزلته على محمد، أو إلى قوله: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قولا ثقيلا} {، أو قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: الكتاب الذي ذكرته في التوراة والأنجيل هو هذا الذي أنزلته عليك [أو المراد] بالكتاب: اللوح [المحفوظ] {لا رَيْبَ فِيهِ} } : الريب(1/98)
التهمة أو الشك. / {لِلْمُتَّقِينَ} ! الذين أقاموا الفرائض واجتنبوا المحرمات، أو [4 / أ] الذين يخافون العقاب ويرجون الثواب، أو الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق.(1/99)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
3 - {يُؤْمِنُونَ} {يصدقون أو يخشون الغيب، أصل الإيمان التصديق {وما أنت بمؤمن لنا} } [يوسف: 17] أو الأمان، فالمؤمن يؤمن نفسه بإيمانه من العذاب، والله تعالى مؤمِّن لأوليائه من عذابه، أو الطمأنينة، فالمصدق بالخبر مطمئن إليه، ويُطلق الإيمان على اجتناب الكبائر، وعلى كل خَصلة من الفرائض، وعلى كل طاعة. {بِالْغَيْبِ} {بالله، أو ما جاء من عند الله، أو القرآن، أو البعث والجنة والنار، أو الوحي. {وَيُقِيمُونَ} } يديمون، كل شيء راتب قائم، وفاعله يقيم، ومنه فلان يقيم أرزاق الجند، أو يعبدون الله بها، إقامتها: أداؤها بفروضها، أو إتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها " ع "، سُمي ذلك إقامة لها من تقويم الشيء، قام بالأمر أحكمه، وحافظ عليه، أو سمى فعلها إقامة لها لاشتمالها على القيام. {رَزَقْنَاهُمْ} {أصل الرزق الحظ، فكان ما جعله حظاً من عطائه رزقاً. {يُنفِقُونَ} } وأصل الإنفاق الإخراج، نفقت الدابة خرجت روحها، والمراد الزكاة " ع "، أو نفقة الأهل، أو التطوع بالنفقة فيما يقرب إلى الله تعالى. نزلت هاتان الآيتان في مؤمني العرب خاصة، واللتان بعدهما في أهل الكتاب " ع "، أو نزلت الأربع في مؤمني أهل الكتاب، أو نزلت الأربع في جميع المؤمنين، فتكون الأربع في المؤمنين، وآيتان بعدهن في الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.(1/99)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
4 - {مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} {القرآن. {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} } : التوراة، والإنجيل(1/99)
وسائر الكتب. {وَبِالأَخِرَةِ} {: النشأة الآخرة، أو الدار الآخرة لتأخرها عن الدنيا، أو لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا لدنوها منهم {يُوقِنُونَ} } : يعلمون، أو يعلمون بموجب يقيني.(1/100)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
5 - {هُدىً} {بيان ورشد، {الْمُفْلِحُونَ} } الناجون من عذاب الله، والفلاح: النجاة أو الفائزون السعداء، أو الباقون في الثواب، الفلاح: البقاء، أو المقطوع لهم بالخير، الفلح: القطع، الأكَّار: فلاح لشقه الأرض، شعر:
(لقد علمت يا ابن أم صحصح ... أن الحديد بالحديد يفلح)
والمراد بهم جميع المؤمنين، أو مؤمنو العرب، أو المؤمنون من [4 / ب] " العرب " وغير العرب / ممن آمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى من قبله من الأنبياء.(1/100)
{إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7) }(1/101)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
6 - {الَّذِينَ كَفَرُواْ} ! : نزلت في قادة الأحزاب، أو في مشركي أهل الكتاب، أو في معينين من اليهود حول المدينة أو مشركو العرب، والكفر: التغطية، شعر:
( ... في ليلة كفرَ النجومَ غمامُها)
والزارع: كافر، لتغطيته البذر في الأرض، فالكافر مغطي نعم الله تعالى بجحوده.(1/101)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
7 - {خَتَمَ اللَّهُ} ! حفظ ما في قلوبهم ليجازيهم عنه، كأنه مأخوذ من ختم ما يُراد حفظه، الختم: الطبع، ختمت الكتاب. وذلك علامة تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين، أو القلب كالكف إذا أذنب العبد ذنباً ختم منه كالإصبع، فإذا أذنب آخر ختم منه كالإصبع الثانية حتى ينختم جميعه، ثم يطبع عليه بطابع، أو هو إخبار عن كفرهم، وإعراضهم عن سماع الحق شبهة بما سد وختم عليه فلا يدخله خير، أو شهادة من الله عليها أنها لا تعي الحق، وعلى(1/101)
) أسماعهم أنها لا تصغي إليه، كما يختم الشاهد على الكتاب {غِشَاوَةٌ} ! والغشاوة الغطاء الشامل، أراد بذلك تعاميهم عن الحق. وسمى القلب قلباً، لتقلبه بالخواطر.
(ما سمى القلب إلا من تقلبه ... والرأي يصرف والإنسان أطوار)
{ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلآ أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألآ إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ ءامن السفهآء ألآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى(1/102)
شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) }(1/103)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
9 - {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أصل الخدع: الإخفاء، مخدع البيت يخفي ما فيه، جعل خداع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خداعاً له، لأنه دعاهم برسالته. {وَمَا يَخْدَعُونَ} لما رجع وبال خداعهم عليهم قال ذلك. {وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يفطنون.(1/103)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
10 - {مَّرَضٌ} أصله الضعف أي شك، أو نفاق، أو غم بظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه. {فَزَادَهُمُ} دعاء، أو إخبار عن الزيادة عند نزول الفرائض والحدود {أَلِيمُ} مؤلم.(1/103)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
11 - {لاتفسدوا} بالكفر، أو بفعل ما نهيتم عنه، وتضييع ما أمرتم به، أو بممايلة الكفار. نزلت في المنافقين، أو في قوم لم يكونوا موجودين حينئذ بل جاءوا فيما بعد قاله سلمان: {مُصْلِحُونَ} ظنوا ممايلة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك، لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، أو مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه إنكاراً لممايلة الكفار، أو نريد بممايلتنا الكفار الإصلاح(1/103)
بينهم وبين المؤمنين، أو إن ممايلة الكفار صلاح وهدى ليست بفساد، عرَّضوا بهذا، أو قالوه لمن خلوا به من المسلمين.(1/104)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
13 - {كما آمن النَّاسُ} الناس: الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - {السفهاء} الصحابة عند عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنه -، [5 / أ] أو النساء والصبيان عند عامة المفسرين، والسفه خفة الأحلام / ثوب سفيه: خفيف النسج.(1/104)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
14 - {خَلَوْاْ إِلَى} إلى بمعنى " مع " أو خلوت إليه: إذا جعلته غايتك في حاجتك، أو صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم. {شياطينهم} رءوسهم في الكفر، أو اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب، شيطان: فيعال من شطن إذا بعد - نوىً شطون - سمى به لبعده عن الخير، أو لبعد مذهبه في الشر، نونه أصلية، أو من شاط يشيط إذا هلك زائد النون، أو من التشيط وهو الاحتراق سمى ما يؤول إليه أمره. {إِنَّا مَعَكُمْ} على التكذيب والعداوة. {مستهزئون} بإظهار التصديق.(1/104)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
15 - {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يجزيهم على استهزائهم، سمى الجزاء باسم الذنب {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عليه} [سورة البقرة: 194] .(1/104)
( ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا)
أو نجزيهم جزاء المستهزئين، أو إظهاره عليهم أحكام الإسلام مع ما أوجبه لهم من العقاب فاغتروا به كالأستهزاء بهم، أو هو كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] للاستهزاء به، أو يُفتح لهم باب جهنم فيريدون الخروج على رجاء فيزدحمون فإذا انتهوا إلى الباب ضُربوا بمقامع الحديد حتى يرجعوا، فهذا نوع من العذاب على صورة الاستهزاء. {وَيَمُدُّهُمْ} يملي لهم، أو يزيدهم، مددت وأمددت أو مددت في الشر وأمددت في الخير، أو مددت فيما زيادته منه، وأمددت فيما زيادته من غيره. {طُغْيَانِهِمْ} غلوهم في الكفر، الطغيان: مجاوزة القدر. {يَعْمَهُونَ} يترددون أو يتحيرون، أو يعمون عن الرشد. {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18)(1/105)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
16 - {اشْتَرَوُاْ} الكفر بالإيمان على حقيقة الشراء، أو استحبوا الكفر على الإيمان إذ المشتري محب لما يشتريه، إذ لم يكونوا قبل ذلك مؤمنين، أو(1/105)
أخذوا الكفر وتركوا الإيمان. {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} في اشتراء الضلالة، أو ما اهتدوا إلى تجارة المؤمنين، أو نفى عنهم الربح والاهتداء جميعاً، لأن التاجر قد لا يربح مع أنه على هدى في تجارته، فذلك أبلغ في ذمهم.(1/106)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
17 - {اسْتَوْقَدَ} أوقد، أو طلب ذلك من غيره للاستضاءة {أَضَآءَتْ} ضاءت النار في نفسها، وأضاءت ما حولها. قال:
(أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى الليل حتى نظَّمَ الجَزعَ ثاقبُه)
{بِنُورِهِمْ} أي المُستوقد، لأنه في معنى الجمع، أو بنور المنافق عند [5 / ب] الجمهور، فيذهب في الآخرة فيكون / ذهابه سمة يعرفون بها، أو ذهب ما أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام {فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} لم يأتهم بضياء يبصرون به، أو لم يخرجهم من الظلمات، وحصول الظلمة بعد الضياء أبلغ، لأن من صار في ظلمة بعد ضياء أقل إبصاراً ممن لم يزل فيها، ثم الضياء دخولهم في الإسلام، والظلمة خروجهم منه، أو الضياء تعززهم بأنهم في عداد(1/106)
المسلمين، والظلمة زواله عنهم في الآخرة.(1/107)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
18 - {صُمُّ} أصل الصم: الانسداد، قناة صماء أي غير مجوفة، وصممت القارورة سددتها، فالأصم: المنسد خروق المسامع. {بُكْمٌ} البكم: آفة في اللسان تمنع معها اعتماده على مواضع الحروف، أو الأبكم الذي يولد أخرس، أو المسلوب الفؤاد الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه، أو الذي جمع الخرس وذهاب الفؤاد، صموا عن سماع الحق، فلم يتكلموا به، ولم يبصروه، فهم لا يرجعون إلى الإسلام. {أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير (20)(1/107)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
19 - {كَصَيِّبٍ} الصيب: المطر، أو السحاب. {الرَّعْدُ} ملك ينعق بالغيث نعيق الراعي بالغنم، سمى ذلك الصوت باسمه، أو ريح تختنق تحت السماء
قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اصطكاك الأجرام. {الْبَرْقُ} ضرب الملك - الذي هو الرعد - السحاب بمخراق من حديد
قاله علي - رضي الله تعالى عنه -: أو ضربه بسوط من نور
قاله ابن عباس -(1/107)
رضي الله تعالى عنهما - أو ما ينقدح من اصطكاك الأجرام.
{الصَّاعِقَةُ} الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار. شبه المطر بالقرآن، وظلماته بالابتلاء الذي في القرآن، ورعده بزواجر القرآن، وبرقه ببيان القرآن، وصواعقه بوعيد القرآن في الآجل، ودعائه إلى الجهاد عاجلاً
قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو شبه المطر بما يخافونه من وعيد الآخرة، وبرقه بما في إظهارهم الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وإرثهم، وصواعقه بزواجر الإسلام بالعقاب عاجلاً وآجلاً، أو شبه المطر بظاهر إيمانهم، وظلمته بضلالهم، وبرقه بنور الإيمان، وصواعقه بهلاك النفاق.(1/108)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
20 - {يَكَادُ} يقارب، الخطف: الاستلاب بسرعة. {أَضَآءَ لَهُم} الحق. {مَّشَوْاْ فِيهِ} تبعوه {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} بالهوى تركوه، أو كلما غنموا وأصابوا خيراً تبعوا المسلمين، وإذا أظلم فلم يصيبوا خيراً قعدوا عن الجهاد. {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} أسماعهم.
(كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... )
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلك تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقاً(1/108)
لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون (22) وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24) }(1/109)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
22 - {أَندَاداً} أكفاء أو أشباهاً، أو أضداداً. {وَأَنتُمْ تعلمون} أن الله [6 / أ] خلقكم، أو لأنه لا ند له ولا ضد، أو وأنتم تعقلون.(1/109)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
23 - {عَبْدِنَا} العبد مأخوذ من التعبد، وهو التذلل، فسُمي به المملوك من جنس ما يعقل لتذلُلِه لمولاه. {مِّن مِّثْلِهِ} من مثل القرآن، أو من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بشر مثلكم. {شُهَدَآءَكُم} أعوانكم، أو آلهتكم، لاعتقادهم أنها تشهد لهم، أو ناساً يشهدون لكم.(1/109)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
24 - {وَقُودُهَا} الوقود: الحطب، والوُقود: التوقد. {وَالْحِجَارَةُ} من كبريت أسود، فالحجارة وقود للنار مع الناس. هول أمرها بإحراقها الأحجار كما تحرق الناس، أو أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار التي وقودها الناس. {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ} إعدادها - مع اتحادها - لا ينفي أن تعد لغيرهم من أهل الكبائر، أو هذه نار أعدت لهم خاصة، ولغيرهم نار أخرى. {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيهآ أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25) }(1/109)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
25 - {وَبَشِّرِ} البشارة: أول خبر يرد عليك بما يسرّ، أو هي أول خبر يسرّ أو يغم، وإن كثر استعمالها فيما يسرّ، أُخذت من البشرة، وهي ظاهر الجلد، لتغيرها بأول خبر. {جَنَّاتٍ} سمي البستان جنة لأن شجره يستره، المفضل:(1/109)
الجنة: كل بستان فيه نخل وإن لم يكن فيه شجر غيره، فإن كان فيه كَرْم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غير الكَرْم، أو لم يكن. {مِن تَحْتِهَا} من تحت الأشجار، قيل تجري أنهارها في غير أخدود. {رُزِقُواْ مِنْهَا} أي من ثمر أشجارها. {هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا} أي الذي رزقنا من ثمار الجنة كالذي رزقنا من ثمار الدنيا، أو إذا استخلف مكان جَنى الجنة مثله فرأوه فاشتبه عليهم بالذي جنوه قبله فقالوا هذا الذي رزقنا من قبل. {مُتَشَابِهاً} بشبه بعضه بعضاً في الجودة لا رديء فيه، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون دون الطعم، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون والطعم، أو يشبهها في الأسم دون اللون والطعم، وليس بشيء {مُّطَهَّرَةٌ} في الأبدان، والأخلاق، والأفعال، فلا حيض، ولا ولاد، ولا غائط، ولا بول، إجماعاً. {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراُ ويهدي به كثيراُ وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) }(1/110)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
26 - {لايستحي} لا يترك، أو لا يخشى، أو لا يمنع، أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح.(1/110)
{بَعُوضَةً} صغار البق لأنها كبعض بقة كبيرة {فَمَا فَوْقَهَا} ما: صلة، أو بمعنى الذي، أو ما بين بعوضة إلى ما فوقها {فَوْقَهَا} في الكبر، أو في الصغر. نزلت في المنافقين لما ضرب لهم المثل بالمُستوقد والصيب قالوا: الله أعلى أن يضرب هذه / الأمثال، أو ضربت مثلاً للدنيا وأهلها فإن البقة تحيا ما جاعت [6 / ب] فإذا شبعت ماتت، فكذا أهل الدنيا إذا امتلئوا منا أُخذوا. أو نزلت في أهل الضلالة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قالوا ما بالهما يذكران فنزلت. {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} بالمثل كثيراً {وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً} أو يضل بالتكذيب بالأمثال المضروبة كثيراً، ويهدي بالتصديق بها كثيراً، أو حكاه عمن ضل منهم، ومن هتدى.(1/111)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
27 - {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} النقض: ضد الإبرام، والميثاق: ما وقع التوثق به، والعهد: الوصية، أو الموثق، فعهده: ما أنزله في الكتب من الأمر والنهي، ونقض ذلك، مخالفته، أو العهد: ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب، ونقضه: جحودهم له بعد إعطائهم ميثاقهم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:(1/111)
187 -] ، أو العهد: ما جعل في العقول من حجج التوحيد، وتصديق الرسل - صلوات الله تعالى عليهم وسلامه - بالمعجزات، أو العهد: الذي أُخذ عليهم يوم الذر إذ أخرجوا من صلب آدم - عليه الصلاة والسلام -، والضمير في ميثاقه عائد على اسم الله تعالى، أو على العهد. عُني بهؤلاء المنافقين، أو أهل الكتاب، أو جميع الكفار. {مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} هو الرسول، قطعوه بالتكذيب والعصيان، أو الرحم والقرابة، أو هو عام في كل ما أمر بوصله. {وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ} بإخافة السبيل، وقطع الطريق، أو بدعائهم إلى الكفر. {الْخَاسِرُونَ} الخسار: النقصان، نقصوا حظوظهم وشرفهم، أو الخسار: الهلاك، أو كل ما نسب إلى غير المسلم من الخسار فالمراد به الكفر، وما نسب إلى المسلم فالمراد به الذنب. {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السمآء فسوّاهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم (29) }(1/112)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
28 - {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} توبيخ، أو تعجب، عجَّبَ المؤمنين من كفرهم {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} أمواتاً: عَدَماً، فأحياكم: خلقكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند الأجل {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في القيامة، أو أمواتاً في القبور، فأحياكم فيها للمساءلة، ثم يميتكم فيها، ثم يحييكم للبعث، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياة، أو أمواتاً في الأصلاب، فأحياكم أخرجكم من بطون الأمهات، ثم يميتكم في الأجل، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة، أو كنتم أمواتاً بعد أخذ الميثاق يوم الذر، فأحياكم خلقكم في بطون أمهاتكم، ثم يميتكم عند الأجل، ثم يحييكم يوم القيامة، أو أمواتاً نطفاً، فأحياكم بنفخ الروح، ثم يميتكم في [7 / أ] الأجل، ثم يحييكم يوم القيامة، أو كنتم أمواتاً خاملي الذكر، فأحياكم / بالظهور(1/112)
والذكر، ثم يميتكم في الأجل، ثم يحييكم يوم القيامة. {تُرْجَعُونَ} إلى مجازاته على أعمالكم، أو إلى الموضع الذي يتولى الله تعالى فيه الحكم بينكم.(1/113)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
29 - {اسْتَوَى إِلىَ السَّمَآءِ} أقبل عليها، أو قصد إلى خلقها، أو تحول فعله إليها، أو استوى أمره وصنعه الذي صنع به الأشياء إليها، أو استوت به السماء، أو علا عليها وارتفع، أو استوى الدخان الذي خلقت منه السماء وارتفع. {وإذ قال ربك للملآئكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون (30) }(1/113)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
30 - {وَإِذْ قَالَ} " إذ " صلة، أو أصلية مقصودة، لما ذكر نعمه لخلقه بما خلق لهم في الأرض ذكَّرهم نعمه على أبيهم آدم صلى الله عليه وسلم أو أنه ذكر ابتداء الخلق كأنه قال وابتدأ خلقكم إذ قال ربك. {لِلْملآئِكَةِ} الملك مأخوذ من ألك(1/113)
يألك إذا أرسل [والألوك: الرسالة] سميت بذلك، لأنها تولك في الفم، يقال: الفرس يألك اللجام ويعلكه، ألكنى إليها: أرسلني إليها، والملك: أفضل الحيوان، وأعقل الخلق، لا يأكل، ولا يشرب ولا ينكح، ولا ينسل، وهو رسول لا يعصي الله - تعالى - في قليل ولا كثير، له جسم لطيف لا يرى إلا إذا قوى الله - تعالى - أبصارنا. {جَاعِلٌ} خالق، أو فاعل. {فِى الأَرْضِ} قيل إنها مكة. {خَلِيفَةً} الخليفة من قام مقام غيره، خليفة: يخلفني في الحكم بين الخلق، هو آدم صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ذريته، أو بنو آدم يخلفون آدم، ويخلف بعضهم بعضاً في العمل بالحق، وعمارة الأرض، أو آدم وذريته خلفاء من الذين كانوا فيها فأفسدوا، وسفكوا الدماء. {أَتَجْعَلُ} استفهام لم يجبهم عنه، أو إيجاب قالوه ظناً لما رأوا الجن قد أفسدوا في الأرض ألحقوا الإنس بهم في(1/114)
ذلك، أو قالوه عن إخبار الله تعالى لهم بذلك، فذكروا ذلك استعظاماً لفعلهم مع إنعامه عليهم، أو قالوه تعجباً من استخلاقه لهم مع إفسادهم. {وَيَسْفِكُ} السفك: صب الدم خاصة، والسفح: مثله إلا أنه يستعمل في كل مائع على وجه التضييع ولذلك قيل للزنا سفاح. {نسح} التسبيح: التنزيه من السوء على وجه التعظيم، فلا يُسبَّح غير الله - تعالى -، لأنه قد صار مستعملاً في أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه، نسبح لك نصلي لك، أو نعظمك، أو التسبيح المعروف، أو هو رفع الصوت بالذكر. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} التقديس: التطهير، الأرض المقدسة: المطهرة. نقدس: نصلي لك، أو نطهرك من الأدناس، أو التقديس المعروف. {مَا لا تعلمون} / ما أضمره إبليس من [7 / ب] المعصية، أو من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصلحين، أو ما اختص بعلمه من تدبير المصالح. {وعلّم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملآئكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلآء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علّمتنآ إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا ءادم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (32) }(1/115)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
31 - {آدم} سُمي به، لأنه خلق من أديم الأرض: " وهو وجهها الظاهر "، أو أُخذ من الأُدمة. {الأسماء} أسماء الملائكة، أو أسماء ذريته أو أسماء كل شيء، عُلم الأسماء وحدها، أو الأسماء والمسميات، وعلى الأول علمها بلغته التي كان يتكلم بها، أو علمها بجميع اللغات، وعلمها آدم صلى الله عليه وسلم ولده فلما تفرقوا تكلمت كل طائفة بلسان ألفوه منها، ثم نسوا الباقي(1/115)
بتطاول الزمان، أو أصبحوا وقد تكلمت كل طائفة بلغة، ونسوا غيرها في ليلة واحدة، وهذا خارق. {عَرَضَهُمْ} الأسماء، أو المسمين على الأصح، وعرضهم بعد أن خلقهم، أو صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم قبل خلقهم. {أَنبِئُونِى} أخبروني، مأخوذة من الإنباء، وهو الإخبار على الأظهر، أو الإعلام. {صَادِقِينَ} أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه، لأنه وقع لهم ذلك، أو فيما زعمتم أن الخليفة يفسد في الأرض، أو أني إن استخلفتكم سبحتم، وقدستم، وإن أستخلف غيركم عصى، أو أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه، أو صادقين: عالمين.(1/116)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
32 - {الْعَلِيمُ} العالم من غير تعليم {الْحَكِيمُ} المحكم لأفعاله، أو المصيب للحق، ومنه الحاكم لإصابته، أو المانع من الفساد، وحكمة اللجام تمنع الفرس من شدة الجري. قال:
(أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا)(1/116)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
33 - {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ما تبدون من قولكم {أتجعل فيها} والمكتوم: ما أسرَّه إبليس من الكِبْرِ، والعصيان، أو ما أضمروه من أن الله - تعالى - لا يخلق خلقاً إلا كانوا أكرم عليه منهم.
{وإذ قلنا للملآئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلآ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) }(1/116)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
43 - {اسْجُدُواْ} أصل السجود: الخضوع، والتطامن، أُمروا بذلك تكريماً لآدم صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه، أو جُعل قِبلة لهم، وأُمروا بالسجود إليه. {إِلآ(1/116)
إِبْلِيسَ} امتنع حسداً، وتكبراً، وكان أبا الجن كما آدم صلى الله عليه وسلم أبو البشر، أو كان من الملائكة فيكون قوله تعالى {كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] وهم حي من الملائكة يسمون جِنّاً، أو كان من خزان الجنة، فاشتق اسمه منها، أو لانه جن عن الطاعة، أو الجن اسم لكل مستتر مجتنن. قال:
(براه إلهي واصطفاه لدينه ... وملكه ما بين توما إلى مصر)
(وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا آجر)
واشتق من الإبلاس، وهو اليأس من الخير، أو هو اسم أعجمي لا اشتقاق له.
{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} / صار منهم، أو كان قبله كفار هو منهم، أو كان من [8 / أ] الجن وإن لم يكن قبله جن، كما كان آدم صلى الله عليه وسلم من الإنس وليس قبله إنس.
{وقلنا يآ ءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة(1/117)
فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36) }(1/118)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
35 - {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} خلقت حواء من ضلع آدم صلى الله عليه وسلم وهو نائم، ولهذا يقال لها ضلع أعوج، وسميت امرأة لأنها خلقت من المرء، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، أو لأنها أم كل حي، وخلقت قبل دخوله الجنة، أو بعد دخوله إليها. {الْجَنَّةَ} جنة الخلد، أو جنة أعدها الله - تعالى - لهما. {رَغَداً} الرغد: العيش الهنيء، أو الواسع، أو الحلال الذي لا حساب فيه. {الشَّجَرَةَ} البر، أو الكرم، أو التين، أو شجرة الخلد التي كانت الملائكة تَحنَك منها. {الظَّالِمِينَ} لأنفسهما، أو المعتدين بأكل ما لم يبح، وأكلها ناسياً فحكم عليه بالمعصية، لترك التحرز، لأنه يلزم الأنبياء - صلوات الله تعالى عليهم وسلامه - من التحرز ما لا يلزم غيرهم أو أكل منها وهو سكران، قاله ابن المسيب: أو أكل عالماً متعمداً، أو تأول النهي على التنزيه دون التحريم، أو على عين الشجرة دون جنسها، أو على قوله تعالى {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ(1/118)
هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] .(1/119)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
36 - {فَأَزَلَّهُمَا} أزالهما: نَحَّاهما، وأزلهما: من الزلل وهو الزوال عن الحق. والشيطان: إبليس، وسوس لهما من غير مشاهدة، ولا خلوص إليهما، أو خلص إليهما وشافههما بالخطاب، وهو الأظهر، وقول الأكثر. {فَأَخْرَجَهُمَا} نسب الخروج إليه، لأنه سببه. {اهْبِطُواْ} الهُبوط: الزوال، والهبوط: موضع الهَبوط، المأمور به آدم، وحواء، وإبليس، والحية، أو آدم، وإبليس، وذريتهما، أو آدم، وحواء والوسوسة. {عَدُوٌّ} بنو آدم وبنو إبليس أعداء، أو الذين أُمروا بالهبوط بعضهم لبعض أعداء. {مُسْتَقَرٌّ} مقامهم عليها، أو قبورهم. {وَمَتَاعٌ} كل ما انتفع به فهو متاع. {إِلَى حِينٍ} الموت، أو قيام الساعة، أو أجل.
{فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما(1/119)
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) }(1/120)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
37 - {كَلِمَاتٍ} الكلام من التأثير، لتأثيره في النفس بما يدل عليه من المعاني، والجرح كلم لتأثيره في الجسد. الكلمات قوله - تعالى -: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ} الآية [الأعراف: 23] أو قول آدم صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى " أرأيت إن تبت وأصلحت " فقال: إني راجعك إلى الجنة، أو قوله: " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم [8 / ب] لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب / إني ظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم " {فَتَابَ عَلَيْهِ} توبة العبد الرجوع عن المعصية، وتوبة الرب عليه قبول ذلك، ورجوعه له إلى ما كان عليه، والتوبة واجبة عليه وعلى حواء، وأفرد بالذكر، لقوله تعالى: {فتلقى آدم} أفرده بالذكر فرد الإضمار إليه، أو استغنى بذكر أحدهما عن الآخر لاشتراكهما في حكم واحد {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [النور: 62] {انفَضُّوَاْ إِلَيْهَا} {التَّوَّابُ} الكثير القبول للتوبة. {الرَّحِيمُ} الذي لا يخلي عباده من نعمه. ولم يهبط عقوبة، لأن ذنبه صغير، وهبوطه وقع بعد قبول توبته، وإنما أُهبط تأديباً. أو تغليظاً للمحنة. الحسن " خلق آدم للأرض، فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال " أو يجوز أن يخلق لها إن عصى ولغيرها إن لم يعص.(1/120)
{يا بني إسرآءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40) وءامنوا بمآ أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بئاياتي ثمناً قليلاُ وإياي فاتقون (41) ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) }(1/121)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
40 - {إسرائيل} يعقوب، إسرا - بالعبرانية - عبد، وإيل هو الله - تعالى - فهو عبد الله /. {أذْكُرُواْ} الذّكِر باللسان وبالقلب، والذكر بالشرف بصم الذال وكسرها في القلب واللسان. أو بالضم في القلب وبالكسر في اللسان، ومراد الآية ذكر القلب، يقول: لا تتناسوا نعمتي. {نِعْمَتىَ} إنعامي العام على خلقي، أو أنعامي على آبائكم بما ذكر في هذه السورة، فالإنعام على الآباء شرف للأبناء. {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} أوفوا بما أمرتكم به {أوف} بما وعدتكم، أو أوفوا بما أنزلته في كتابكم، " أن تؤمنوا بي وبرسلي " أوف لكم بالجنة، سماه عهداً، لأنه عهد به إليهم في الكتب السالفة، أو جعل الأمر كالعهد الذي هو يمين لاشتراكهما في لزوم الوفاء بهما.(1/121)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
41 - {بما أنزلت} على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة في التوحيد ولزوم الطاعة، أو مصدقاً لما فيها من أنها من عند الله، أو لما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {أَوَّلَ كَافِرِ} بالقرآن من أهل الكتاب، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {ثَمَناً قَلِيلاً} لا تأخذوا عليه أجراً، وفي كتابهم " يا ابن آدم عَلم مجاناً كما عُلمت مجاناً "، أو لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً، أو لا تأخذوا ثمناً على كتم ما فيه من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.(1/121)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
42 - {ولا تلبسوا} ولا تكتموا الصدق بالكذب، اللبس: الخلط، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، أو التوراة المنزلة بما كتبوه بأيديهم(1/121)
الحق} نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {وأنتم تعلمون} أنه في كتبكم.
{وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون (46) } [9 / أ](1/122)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
43 - {الزَّكَاةَ} من النماء والزيادة /، لأنها تثمر المال، أو من الطهارة بأدائها يطهر المال فيصير حلالاً، أو تطهر المالك من إثم المنع. {الرَّاكِعِينَ} الركوع من التطامن والانحناء، أو من الذل والخضوع، عُبِّر عن الصلاة بالركوع، أو أراد ركوعها إذ لا ركوع في صلاتهم.(1/122)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
44 - {بِالْبِرِّ} بالطاعة، أُمروا بها وعصوا، أو أُمروا بالتمسك بكتابهم، وتركوه بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أُمروا بالصدقة وضنوا بها.(1/122)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
45 - {بِالصَّبْرِ} على الطاعة، وعن المعصية، أو بالصوم، ويسمى صبراً لأنه يحبس نفسه عن الطعام والشراب، والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه. " كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر استعان بالصلاة والصوم " {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين، أو إن الصبر والصلاة - أرادهما وأعاد الضمير إلى أحدهما، أو أن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم لشديدة {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} الخشوع(1/122)
والخضوع: التواضع، أو الخضوع في البدن، والخشوع في الصوت والبصر.(1/123)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
46 - {يظنون أنهم ملاقو رَبِّهِمْ} بذنوبهم لإشفاقهم منها أو يتيقنون عند الجمهور. {رَاجِعُونَ} بالموت، أو بالإعادة، أو إلى أن لا يملك لهم أحد غيره ضراً ولا نفعاً كما كانوا في بدو الخلق.
{يا بني إسرآءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48) }(1/123)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
48 - {لاَّ تَجْزِى} لا تغني، أو لا تقضي، جزاه الله خيراً: قضاه. {شَفَاعَةٌ} لا يقدر على شفيع تقبل شفاعته، أو لا يجيبه الشفيع إلى الشفاعة، وإن كان مشفعاً لو شفع. {عَدْلٌ} فدية، وعِدْل: مثل " لا يقبل منه صرف ولا عدل " الصرف: العمل، والعدل: الفدية. أو الصرف: الدية، والعدل: رجل(1/123)
مكانه. أو الصرف: التطوع، والعدل: الفرض أو الصرف: الحيلة، والعدل: الفدية، قاله أبو عبيدة.
{وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذالكم بلآء من ربكم عظيم (49) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنآ ءال فرعون وأنتم تنظرون (50) }(1/124)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
49 - {آل فرعون} آل الرجل: هم الذين تؤول أمورهم إليه في نسب أو صحبة، والآل والأهل سواء [أ] والآل يضاف إلى المُظهر دون المضمر(1/124)
والأهل يضاف إليهما، أهل العلم وأهل البصرة ولا يقال آل العلم ولا آل البصرة. {فِرعَوْنَ} اسم رجل معين، أو فرعون لملوك العمالقة، كقيصر للروم وكسرى للفرس، واسم فرعون " الوليد بن مصعب " {يَسُومُونَكُمْ} يولونكم " سامه خطة خسفٍ ": أولاه، أو يجشمونكم الأعمال الشاقة، أو يزيدونكم على ذلك سوء العذاب ومساومة البيع: مزايدة كل واحد من العاقدين. {يستحيون نِسَآءَكُمْ} يبقونهم أحياء للاسترقاق والخدمة فلذلك كان من سوء [9 / ب] العذاب. والنساء يقع على الكبار والصغار، أو تسمى به الصغار، اعتباراُ بما يصرن إليه {وَفِى ذَلِكُم} إنجائكم، أو في سومهم إياكم سوء العذاب. والذبح والإبقاء، والبلاء: يستعمل في الاختبار بالخير والشر. والأكثر في الخير: أبليته أبليه إبلاء، وفي الشر: بلوته أبلوه بلاء.(1/125)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
50 - {فَرَقْنَا} فصلنا " أو ميزنا " وسمى البحر بحراً لسعته وانبساطه، تبحر في العلم اتسع فيه. {تُنظُرُونِ} إلى سلوكهم البحر، وانطباقه عليهم.
{وَإِذْ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53) }(1/125)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
51 -[ {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} ] ووجد موسى [عليه السلام] في اليم بين الماء والشجر فسمى لذلك موسى، مو: هو الماء، وسا: هو الشجر. {الْعِجْلَ} قال الحسن: صار لحماً ودماً له خوار ومنع غيره ذلك لما فيه من الخرق المختص بالأنبياء، وإنما جعل فيه خروقاً تدخلها الريح فتصوت كالخوار. وعلى طريق الحسن فالخرق يقع لغير الأنبياء في زمن الأنبياء، لانهم يبطلونه. وقد قال السامري: {هذا إلهكم وإله موسى} [طه: 88] فأبطل أن يدعي بذلك أعجاز الأنبياء، وسمي عجلاً، لأنه عجل بأن صار له خوار، أو(1/125)
لانهم عجلوا بعبادته قبل رجوع موسى.(1/126)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
53 - {الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الكتاب: التوراة، وهي الفرقان، أو الفرقان ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل، أو فرقة - سبحانه وتعالى - بين موسى وفرعون بالنصر، أو انفراق البحر.
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوآ أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) }(1/126)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
54 - {بَارِئِكُمْ} خالقكم والبرية: الخلق متروك همزها من برأ الله الخلق، أو من البري وهو التراب، أو من بريت العود، أو من تبرى شيء من غيره إذا انفصل منه، كالبراءة من الدَّيْن والمرض. {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} مكنوا من قتلها، أو ليقتل بعضكم بعضاً. والقتل إماتة الحركة قتلت الخمر بالماء إذا مزجتها به، فسكنت حركتها، ابن جريج، جُعلت توبتهم بالقتل، لأن الذين(1/126)
لم ينكروا خافوا القتل فجعلت توبتهم به.
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوآ أنفسهم يظلمون (57) }(1/127)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
55 - {جَهْرَةً} علانية، أو عياناً، وأصل الجهر: الظهور، ومنه جهر بالقراءة، وجاهر بالمعاصي. {الصَّاعِقَةُ} الموت.(1/127)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
56 - {بعثناكم} أحييناكم، أو سألوا أن يبعثوا بعد الإحياء أنبياء. والبعث هو الإرسال، أو إثارة الشيء من محله، وهؤلاء هم السبعون المختارون للميقات.(1/127)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
57 - {الْغَمَامَ} ما غطى السماء من السحاب، غُم الهلال: غطاه السحاب، وكل مُغطى مغموم. وهذا الغمام هو السحاب، أو الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر. {الْمَنَّ} ما سقط على الشجر فأكله الناس / أو صمغة، أو [10 / أ] شراب كانوا يشربونه ممزوجاً بالماء. أو عسل ينزل عليهم أو الخبز الرقاق، أو الزنجبيل. أو الترنجبين. {السلوى} السماني أو طائر يشبهه. كانت تحشره عليهم ريح الجنوب. {طيبات} اللذيذة، أو الحلال.
{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدّل الذين ظلموا قولاً غير(1/127)
{الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السمآء بما كانوا يفسقون (59) }(1/128)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
58 - {الْقَرْيَةَ} بيت المقدس، أو قرية بيت المقدس، أو أريحيا. {الْبَابَ} باب القرية المأمور بدخولها، أو باب حِطة، وهو الثامن من بيت المقدس. {سُجَّداً} ركعاً، أو متواضعين خاضعين، أصل: السجود الانحناء تعظيماً وخضوعاً. {حِطَّةٌ} لا إله إلا الله، أو أُمروا بالاستغفار أو حط عنا خطايانا، أو قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم. [ {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ] نغفرها بسترها عليكم فلا نفضحكم، من الغفر وهو الستر، ومنه بيضة الحديد: مغفر.(1/128)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
59 - {فَبَدَّلَ} دخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا حنطة في شعيرة استهزاء منهم. {رِجْزاً} عذاب، أو غضب أو طاعون أهلكهم كلهم، وبقي الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه.
{وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60) }(1/128)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
60 - {اسْتَسْقَى} طلب السقيا، سقيته وأسقيته، أو سقيته بسقى شفته، وأسقيته دللته على الماء. {فَانفَجَرَتْ} الانفجار: الانشقاق، والانبجاس أضيق منه. {عَيْناً} شبهت بعين الحيوان، لخروج الماء منها كما يخرج الدمع. {كُلُّ أُنَاسٍ} لكل سبط عين عرفها لا يشرب من غيرها. {تَعْثَوْاْ} تطغوا، أو تسعوا " العيث ": شدة الفساد. .(1/128)
{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بئايات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61) }(1/129)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
61 - {وَفُومِهَا} الحنطة، أو الخبز، أو الثوم. {مِصْراً} مبهماً، أو مصر فرعون، والمصر من القطع لانقطاعه بالعمارة، أو من الفصل، قال:
(" وجاعل الشمس مصراً لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا " ... )
{الذِّلَّةُ} الصغار، أو ضرب الجزية. {والمسكنة} الفقر، أو الفاقة. {وباءوا} نزلوا من المنزلة، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا قاتل أخي [قال] : فهو بواء به: أي ينزل منزلته في القتل، أو أصله التسوية أي تساووا في الغضب: عبادة بن الصامت: جعل الله - تعالى - الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقسمها(1/129)
بينهم على بواء: أي سواءَ، أو رجعوا. والبواء الرجوع لا يكون إلا بشر أو خير. {ويقتلون النبيين} مكنهم من قتل الأنبياء - صلوات الله تعالى عليهم وسلامه - ليرفع درجاتهم، أو كل نبي أمره بالحرب نصره، ولم يمكن من قتله قال الحسن: والنبي من النبأ، وهو الخبر / لإنبائه عن الله - تعالى - أو من النبوة المكان المرتفع، لارتفاع منزلته، أو من النبي وهو الطريق، لأنه طريق إلى الله - تعالى -.
{إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) }(1/130)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
62 - {هَادُواْ} من هاد يهود هودا وهيادة إذا تاب. أو من قولهم {هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أو نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب - عليه الصلاة والسلام - فعربته العرب بالدال. {وَالنَّصَارَى} جمع نصراني، أو نصرانِ عند سيبويه وعند الخليل نصري. لنصرة بعضهم لبعض، أو لقوله تعالى: {مَنْ أنصارى إِلَى الله} [آل عمران: 52] أو كان يقال لعيسى - عليه الصلاة والسلام - الناصري لنزوله الناصرة فنُسب إليه النصارى. {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ، من(1/130)
الطلوع والظهور، صبأ ناب البعير: طلع، أو من الخروج من شيء إلى آخر، لخروجهم من اليهودية إلى النصرانية، أو من صبا يصبو إذا مال إلى شيء وأحبه على قراءة نافع بغير الهمز، ثم هم قوم بين اليهود والمجوس، أو قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور، أو دينهم شبيه بدين النصارى، قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح - عليه الصلاة والسلام - {من الأمن} نزلت في سلمان، والذين نَصَّروه وأخبروه بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم أو هي منسوخة بقوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} [آل عمران: 85] والمراد بالنسخ التخصيص.
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه(1/131)
لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين (65) فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتقين (66) }(1/132)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
63 - {الطُّورَ} جبل التكليم، وإنزال التوراة، أو ما أنبت من الجبال دون ما لم ينبت، أو اسم كل جبل بالسرياني، أو بالعربي، قال:
(داني جناحيه من الطور فمرَّ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كسر)(1/132)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
64 - {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد، أو بطاعة الله - تعالى -، أو بالعمل بما فيه.(1/132)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
65 - {اعتدوا} بأخذ الحيتان ااستحلالاً، أو حبسوها يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد. {السَّبْتِ} من القطع، فهو القطعة من الدهر، أو سبت فيه خلق كل شيء: قطع وفرغ منه، أو تسبت فيه اليهود عن العمل، أو من الهدوء والسكون، لأنهم يستريحون فيه {نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} [النبأ: 9] والنائم مسبوت. {قِرَدَةً} صاروا في صورها، أو لم يمسخوا بل مثلوا بالقردة، كقوله {كَمَثَلِ الحمار} [الجمعة: 5] قاله مجاهد. {خَاسِئِينَ} مطرودين مبعدين. أو أذلاء.(1/132)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
66 - {فَجَعَلْنَاهَا} العقوبة، أو القرية، أو الأمة، أو الحيتان، أو القردة الممسوخ على صورهم.
{نَكَالاً} عقوبة، أو عبرة يَنْكُل بها من رآها، أو النكال / الاشتهار بالفضيحة. {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} من القرى، أو ما بين يديها من يأتي بعدهم، وما خلفها الذين عاصروهم. أو ما بين يديها من الذنوب، وما خلفها عبرة لمن يأتي بعدهم. أو ما بين يديها ذنوبهم، وما خلفها للحيتان التي أصابوها، أو ما بين يديها ما مضى من ذنوبهم، وما خلفها ذنوبهم التي أهلكوا بها.
{وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا الئان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) }(1/133)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
67 - {هُزُواً} اللعب والسخرية، قالوه استبعاداً لما بين السؤال والجواب.(1/133)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
68 - {بَقَرَةً} من البَقْرِ وهو الشق، لأنها تشق الأرض، والذكر: ثور. {فَارِضٌ} ولدت بطوناً كثيرة فاتسع جوفها، لأن الفارض في اللغة: الواسع، أو الكبيرة الهرمة عند الجمهور. {بِكْرٌ} صغيرة لم تحمل، البكر من البهائم(1/133)
والناس: ما لم يفتحله الفحل، والبكر بفتح الباء: فتى الإبل. {عَوَانٌ} النَّصَف، قد ولدت بطناً أو بطنين.(1/134)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
69 - {صَفْرَآءُ} اللون المعروف لقوله - تعالى - {فَاقِعٌ} [يقال] أسود حالك، وأحمر قاني، وأبيض ناصع، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، وقال الحسن وحده: سوداء شديدة السواد، كما قالوا: ناقة صفراء أي سوداء، قال:
(تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيبِ)
وأُريد بالصفرة قرنها وظلفها، أو جميع لونها. {فَاقِعٌ} شديد الصفرة، أو خالصها، أو صافيها.(1/134)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
71 - {ذَلُولٌ} أذلها العمل. {تُثِيرُ الأَرْضَ} والإثارة تفريق الشيء {مُسَلَّمَةٌ} من العيوب، أو من الشية: وهي لون يخالف لونها من سواد أو بياض من وشي الثوب: وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة، الواشي: الذي يحسِّن كذبه عند السلطان ليقبله. {جِئْتَ بِالْحَقِّ} بينت الحق، أو قالوا: هذه بقرة فلان جئت بالحق فيها. {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها، لأنه كان بملء(1/134)
مَسْكها ذهباً أو بوزنها عشر مرات، أو خوفاً من الفضيحة بمعرفة القاتل، وكان ثمنها ثلاثة دنانير.
{وإذ قتلتم نفساً فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم ءاياته لعلكم تعقلون (73) }(1/135)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
72 - {فادارأتم} تدافعتم واختلفتم. {تَكْتُمُونَ} تسرون من القتل.(1/135)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
73 - {بِبَعْضِهَا} بفخذها، أو ذنبها، أو عظم من عظامها، أو بعض آرابها، أو البضعة التي بين الكتفين. فلما حيي القتيل قال: قتلني ابن(1/135)
أخي، ثم مات فحلف بنو أخيه بالله ما قتلناه.
{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منا المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74) }(1/136)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
74 - {قَسَتْ قُلُوبُكُم} في ابن أخي الميت لما أنكر قتله بعد سماعه منه، أو في جملة بني إسرائيل قست قلوبهم من بعد جميع الآيات التي أظهرها الله - تعالى - على موسى. {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أو ها هنا وفيما أشبهه للإبهام على المخاطب. أبو الأسود الدؤلي:
(أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة أو علياً)
فلما قيل له في ذلك استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً} ، أو تكون بمعنى " الواو " قال جرير:(1/136)
(نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر)
أو تكون بمعنى " بل "، أو تكون لإباحة التشبيه بكل واحد منهما. أو هي كالحجارة أو أشد قسوة عندكم. {يَهْبِطُ} هبوطه تفيؤ ظلاله أو هو(1/137)
لجلالة الله سبحانه أو [يُرى] كأنه هابط خاشع لعظم أمر الله تعالى
(لما أتى خبرُ الزبير تواضعت ... سورُ المدينة والجبالُ الخشعُ)
أو كل حجر تردى من رأس جبل فمن خشية الله تعالى، أو يعطي بعض الجبال المعرفة [فيعقل طاعة الله - تعالى -] وقد حن الجذع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه حجر بمكة.(1/138)
{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) }(1/139)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
75 - {يحرفون} نزلت فيمن حرّف التوراة فحرّم حلالها وأحل حرامها. أو في السبعين سمعوا كلام الله - تعالى - ثم حرّفوه لقومهم.(1/139)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
76 - {فَتَحَ اللَّهُ} ذكركم الله - تعالى - به، أو أنزله في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو قول بني قريظة للرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: " يا إخوة القردة " - من حدثك بهذا، أو أسلم منهم ناس، ثم نافقوا وحدثوا العرب بما عُذبوا به، فقال بعضهم لبعض {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي بما قضى وحكم، والفتح: القضاء والحكم.
{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلآ أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) }(1/139)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
78 - {أُمِّيُّونَ} قوم لم يصدقوا رسولاً، ولا كُتباً وكتبوا كتاباً بأيديهم وقالوا لجهالهم هذا من عند الله، والأظهر أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا(1/139)
يكتب، نسب إلى أصل ما عليه الأمَّة من أنها لا تكتب ابتداء، أو أنه على ما ولدته أمه، أو نسب إلى أمه، لأن المرأة لا تكتب غالباً. {أمَانِىَّ} تلاوة، أو كذباً، أو أحاديث، أو يتمنون على الله - تعالى - ما ليس لهم.(1/140)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
79 - {فَوَيْلٌ} عذاب، أو تقبيح، أو حزن، أو وادٍ في النار، أو جبل فيها، أو وادٍ من صديد في أصلها. {يَكْتُبُونَ} يغيرون ما في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم {بِأَيْدِيهِمْ} تحقيق للإضافة إليهم، أو من تلقاء أنفسهم. {ثَمَناً قَلِيلاً} حراماً، أو {مَتَاعُ الدنيا قليل} [النساء: 77] .
{وقالوا لن تمسنا النار إلآ أياماً معدودةُ قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) وإذ أخذنا مثاق بني إسرآءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83) }(1/140)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
80 - {مَّعْدُودَةً} سبعة أيام، زعموا أن عمر الدنيا سبعة آلاف وأنهم يعذبون على كل ألف يوماً واحداً من أيام الآخرة، وهو ألف سنة من أيام الدنيا، أو أربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل، أو زعموا أن في التوراة أن مسيرة ما بين طرفي [جهنم] أربعون سنة يسيرون كل سنة في يوم فإذا انقطع السير(1/140)
هلكت النار وانقطع عذابهم فتلك أربعون.(1/141)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
81 - {بَلَى} إيجاب للنفي: إذا قال مالي عليك شيء فقال بلى [كان رداً لقوله، وتقديره " بلى لي عليك "] . {سَيِّئَةً} شركاً، أو ذنوباً وعد عليها بالنار. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} مات عليها، أو سدت / عليه مسالك النجاة.
{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلآء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86) }(1/141)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
84 -[ {لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} ] لا تقتلون أنفسكم لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا تقتلوا أحداً فيقتص منكم به، فتكونوا قاتلين لأنفسكم بالتسبب، والنفس من النفاسة، لأنها أنفس ما في الإنسان. {دِيَارِكُمْ} الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار وإن لم يكن فيه أبنية، أو الدار موضع فيه أبنية المقام.(1/141)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
85 - {تَظَاهَرُونَ} تتعاونون. {الإِثْمِ} الفعل الذي يستحق عليه الذم. {العدوان} مجاوزة الحق، أو الإفراط في الظلم. {أُسَارَى} أَسري جمع أسير، وأُساري جمع أَسرى، أو الأُساري: الذين في الوثاق، والأَسرى: الذين في اليد وإن لم يكونوا في وثاق، قاله ابن العلاء:
{ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) }(1/142)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
87 - {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا، التقفية: الإتباع. {الْبَيِّنَاتِ} الحجج، أو الإنجيل أو إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأسقام. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} الاسم الذي كان يحيي به الموتى، أو جبريل عليه السلام - على الأظهر - سمي به، لأنه كالروح للبدن يحيا بما يأتي به من الوحي، أو لأن الغالب على جسده الروحانية، أو لأنه وجد بقوله {كن} من غير ولادة، القدس: البركة، أو الطهر لبراءته من الذنوب، والقدس والقدوس واحد.(1/142)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
88 - {غُلْفُ} في أغطية لا تفقه، أو هي أوعية للعلم. {لعنهم}(1/142)
طردهم وأبعدهم. {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} قليلاً من يؤمن منهم، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من أهل الكتاب، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من كتابهم، و " ما " صلة.
{ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90) }(1/143)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
89 - {كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} القرآن. {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والإنجيل أنه من عند الله تعالى، أو مصدق لما فيهما من الأخبار {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون.(1/143)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
90 - {اشْتَرَوُاْ} باعوا {بَغْياً} حسداً، والبغي: شدة الطلب للتطاول، أصله الطلب، الزانية بغي، لطلبها الزنا. {بغضب على غضب} الأول: كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أو الأول: قولهم: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وتبديلهم الكتاب، والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو عبّر بذلك عن لزوم الغضب لهم. {مَهِينٌ} مذل، عذاب الكافر مهين، لأنه لا يمحص دينه بخلاف عذاب المؤمن، لأنه ممحص لدينه.
{وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم(1/143)
مؤمنين (91) ولقد جآءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) }(1/144)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
91 - {بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ) {القرآن} (بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا) {التوراة} (بِمَا وَرَآءَهُ} بما بعده. {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة، وكتب الله - تعالى - يصدق بعضها بعضاً. {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} فَلِمَ قتلتم، أو فَلِمَ ترضون بقتلهم.
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93) }(1/144)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
93 - {وَاسْمَعُواْ} اعملوا بما سمعتم، أو اقبلوا ما سمعتم، سمع الله لمن حمده قبل حمده. {سَمِعْنَا) {قولك} (وَعَصَيْنَا} أمرك، قالوه سراً، أو فعلوا ما دل عليه، ولم يقولوه / فقام فعلهم مقام قولهم:
(امتلأ الحوض وقال: قطني ... مهلاً رويداً قد ملأتُ بطني)
{وَأُشْرِبُواْ فِى قلوبهم} حب العجل. أو برده موسى - عليه الصلاة والسلام - وألقاه في اليم فمن شرب ممن أحب العجل ظهرت سحالة الذهب على شفتيه.(1/144)
{قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصةً من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96) }(1/145)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
94 - {من دون الناس} كلهم، أو محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله تعالى عليهم -، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لو تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار فلم يتمنوه علماً منهم أنهم لو تمنوه لماتوا كما قال: أو صرفوا عن إظهار تمنيه آية للرسول صلى الله عليه وسلم.(1/145)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
96 - {ولتجدنهم} اليهود. {الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} المجوس. {يَوَدُّ} أحد المجوس {لَوْ يعمر ألف سنة} {بمزحزحه} بمباعده.
{قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (98) }(1/145)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
97 - {عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} نزلت لما قال ابن صوريا للرسول صلى الله عليه وسلم: أي(1/145)
ملك يأتيك بما يقول الله تعالى قال: جبريل - عليه السلام - قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة، وميكائيل يأتي باليسر والرخاء. فلو كان هو الذي يأتيك آمناً بك فنزلت. وجبر: عبد، وميكا: عُبيد، وأيل: هو الله - تعالى -، وهما عبد الله وعُبيد الله، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: ولم يخالف فيه أحد، وخُصا بالذكر وإن دخلا في عموم الملائكة تشريفاً وتكريماً، أو نص عليهما لأنهم يزعمون أنهم ليسوا بأعداء لله - تعالى - ولملائكته أجمع بل هم أعداء لجبريل وحده، فأبطل مثل هذا التأويل بذكر جبريل - عليه السلام -.(1/146)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
98 - {عَدُوٌ لِّلْكَافِرِينَ} لم يقل عدو لهم لجواز انتقالهم عن العداوة بالإيمان.
{ولقد أنزلنآ إليك ءايات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون (99) أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ورآء(1/146)
ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) }(1/147)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
102 - {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} نزلت، لأن كاتب سليمان " آصف بن برخيا " واطأ نفراً من الجن على أن دفنوا كتاب سحر تحت كرسي سليمان - عليه الصلاة والسلام - ثم أخرجوه بعد موت سليمان - عليه الصلاة والسلام - وقالوا: هذا سحر سليمان، فبرأه الله - تعالى - من ذلك، أو استرقت الشياطين السمع، واستخرجت السحر، فاطلع عليه سليمان - عليه الصلاة والسلام - فنزعه منهم ودفنه تحت كرسيه، فلم يقدر الشياطين أن يدنوا إلى الكرسي في حياته، فلما مات قالت: للإنس: إن العلم الذي سخر به سليمان الريح والجن تحت كرسيه فأخرجوه، وقالوا: كان ساحراً، ولم يكن نبياً، فتعلموه وعلموه، فبرأه الله - تعالى - من ذلك. {ولكن الشياطين كفروا} بنسبتهم سليمان - عليه الصلاة والسلام - إلى السحر " أو بما استخرجوه من السحر " {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} بإلقائه في قلوبهم " أو(1/147)
بدلالتهم عليه حتى أخرجوه ". {وَمَآ أُنزِلَ} " ما " بمعنى الذي، أو نافيه. {الْمَلَكَيْنِ} بالكسر علجان من علوج بابل، والقراءة المشهورة بالفتح. زعمت سحرة اليهود / أن جبريل وميكائيل أُنزل السحر على لسانهما إلى سليمان - عليه الصلاة والسلام - فأكذبهم الله، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس {ببابل هاروت وماروت} وهما رجلان ببابل، أو هاروت وماروت ملكان أُهبطا إلى الأرض في زمن إدريس - عليه الصلاة والسلام - فلما عصيل لم يقدرا على الرقي إلى السماء فكانا يعلمان السحر. {السحر} خدع ومان تحول الإنسان حماراً وتُقلَب بها الأعيان وتنشأ بها الأجسام، أو هو تخييل ولا يقدر الساحر على قلب الأعيان ولا إنشاء الأجسام، قال الله تعالى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن(1/148)
سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] ، ولما سحر الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله
قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - " الساحر يوسوس ويمرض ويقتل "، إذ التخيل بدو الوسوسة، والوسوسة بدو المرض، والمرض بدو التلف. {بِبَابِلَ} الكوفة وسوادها، سميت بذلك لتبلبل الألسن بها، أو من نصيبين إلى رأس عين، أو جبل نهاوند. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} على هاروت وماروت أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر بما تتعلمه من السحر. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} من هاروت وماروت، أو من السحر والكفر أو من الشياطين والملكين - السحر من الشياطين، وما يفرق بين الزوجين من الملكين. {بِإِذْنِ} ما يضرون بالسحر أحداً {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره، أو بعلمه. {مَا يَضُرُّهُمْ) {في الآخرة} (وَلا يَنفَعُهُمْ) {في الدنيا} (مِنْ خَلاقٍ} لا نصيب لمن اشترى السحر، أو لا جهة له، أو الخلاق: الدين. {شَرَوْاْ} باعوا {بِهِ أَنفُسَهُمْ} من السحر والكفر بفعله وتعليمه، أو من إضافتهم السحر إلى سليمان - عليه الصلاة والسلام -.(1/149)
{يآ أيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم (105) }(1/150)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
104 - {رَاعِنَا} لا تقولوا: خلافاً، أو أرعنا سمعك أي اسمع منا ونسمع منك. كانت الأنصار تقولها في الجاهلية فنهوا عنها في الإسلام، أو قالتها اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب، أو قالها رفاعة بن زيد وحده - فنهي المسلمون عنها. {انظُرْنَا} أفهمنا وبيّن لنا، أو أمهلنا، أو أقبل علينا وانظر إلينا، {وَاسْمَعُواْ} ما تؤمرون به.
{ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منهآ أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107) أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سوآء السبيل (108) }(1/150)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
106 - {مَا نَنسَخْ} نسخها: قبضها، أو تبديلها، أو تبديل حكمها مع بقاء رسمها. {أَوْ نُنسِهَا} ننسكها، كان يقرأ الآية ثم ينسى وترفع، أو يريد به الترك: أي ما نرفع من آية، أو نتركها فلا نرفعها
قاله ابن عباس - رضي الله تعالى(1/150)
عنهما -، " قلت: وفيه إشكال ظاهر "، أو يريد به نمحها / {نَنْسَأَها} نؤخرها أنسأت أخرت، ومنه بيع النسيئة. {بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} أنفع، وأرفق، وأخف، فيكون الناسخ أكثر ثواباً آجلاً، كنسخ صوم أيام معدودات برمضان، أو أخف عاجلاً، كنسخ قيام الليل. {أَوْ مِثْلِهَا} مثل حكمها في الخفة والثقل والثواب، كنسخ التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة، فإنه مثله في المشقة والثواب. {أَلَمْ تَعْلَمْ} بمعنى أما علمت، أو هو تقرير وليس باستفهام، أو خوطب به والمراد أمته، ولذلك أردفه بقوله: {وَمَا لَكُم من دون الله} } .
{ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110) وقالوا لن يدخل الجنة إلا(1/151)
من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113) }(1/152)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
109 - {وَدَّ كَثِيرٌ} دعا فنحاص وزيد بن قيس - حذيفة وعمارا إلى دينهما فأبيا عليهما فنزلت. {تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} صحة الإسلام، ونبوة(1/152)
محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. {فَاعْفُواْ} اتركوا اليهود، {وَاصْفَحُواْ} عن قولهم. {بِأَمْرِهِ} بإجلاء بني النضير. وقتل بني قريظة وسبيهم. .
{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابهآ أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115) }(1/153)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
114 - {مساجد الله} المساجد المعروفة، أو جميع الأرض التي تقام فيها العبادة " جعلت لي الأرض مسجدا ". أُنزلت في بختنصر وأصحابه المجوس خربوا بيت المقدس، أو في النصارى الذين أعانوا بختنصر على خرابه، أو(1/153)
في قريش لصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكعبة عام الحديبية، أو عامة في كل مشرك منع من مسجد. {خَرَابِهَآ} هدمها، أو منعها من ذكر الله - تعالى - فيها. {خَآئِفِينَ} من الرعب إن قُدِرَ عليهم عوقبوا. {خِزْىٌ} الجزية، أو فتح مدائنهم، عمورية، وقسطنطينية، ورومية.(1/154)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
115 - {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ} لما حولت [القبلة إلى] الكعبة تكلمت اليهود فيها فنزلت، أو أذن لهم قبل فرض الاستقبال أن يتوجهوا حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، أو في صلاة التطزوع في(1/154)
السفر، وللخائف - أيضاً -، أو في قوم من الصحابة خفيت عليهم القبلة فصلوا على جهات مختلفة ثم أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت، أو في النجاشي فإنه كان يصلي إلى غير القبلة، أو قالوا لما نزل قوله تعالى: {ادعوني(1/155)
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت، أو أين ما كنتم من شرق أو غرب فلكم قبلة هي الكعبة. {فَثَمَّ} إشارة إلى المكان البعيد. {وَجْهُ اللَّهِ} قبلته، أو فثم الله كقوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] .
{وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (117) وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ ءاية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118) }(1/156)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
116 - {وَلَداً} نزلت في النصارى، لقولهم في المسيح صلى الله عليه وسلم، أو في العرب، قالوا: الملائكة بنات الله. {قَانِتُونَ} مطيعون أو مقرون بالعبودية، أو قائمون يوم القيامة، والقنوت: القيام.(1/156)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
117 - {بَدِيعُ} منشئهما على غير مثال سبق، وكل منشئ ما لم يسبق إليه فهو مبدع. {قَضَى} أحكم وفرغ.
(/ وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صَنَعُ السَّوابغ تُبعُ)
{كُن} هذا أمر للموجودات بالتحول من حال إلى أخرى كقوله - تعالى: - {كونوا قردة} [65] وليس إنشاء للمعدوم، أو هو لإنشاء المعدوم، لأنه لما علم بها جاز أن يقول لها: " كن " لتحققها في علمه، أو عبر عن نفوذ قدرته وإرادته في كل شيء بالقول ولا قول.
(قد قالت الأنساع للبطن الحق ... )(1/157)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
118 - {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} اليهود، أو النصارى، أو مشركو العرب {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} اليهود، أو اليهود والنصارى. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} شابهت قلوب النصارى قلوب اليهود، أو قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى.
{إنآ أرسلناك بالحق بشيراً ونديراً ولا تسئل عن أصحاب الجحيم (119) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120) الذين ءاتنياهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121) يا بني إسرآءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123) }(1/158)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
119 - {بَشِيراً} لمن أطاع بالجنة، {وَنَذِيراً} لمن عصى بالنار. {ولا تسأل} لا تؤاخذ بكفرهم {ولا تسأل} نزلت لما قال: " ليت شعري ما فعل أبواي ".(1/158)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
121 - {الذين آتيناهم الكتاب} المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن، أو علماء اليهود، والكتاب: التوراة، {يتلونه} يقرءونه حق قراءته، أو يتبعونه حق اتباعه بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، قاله الجمهور. {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124) }(1/159)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
124 - {ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} بالسريانية آب رحيم. {بِكَلمَاتٍ} شرائع الإسلام، ما ابتلى أحد بهذا الدين فقام به كله سواه، فكتب الله - تعالى - له البراءة، فقال - تعالى -: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وهي ثلاثون سهماً، عشر في براءة {التائبون العابدون} [112] وعشر في " الأحزاب " {إن المسلمين والمسلمات} [35] وعشر في المؤمنين [1 - 9] ، {وسأل سائل} [22 - 34] إلى قوله {على صلاتهم يحافظون] ، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو هي عشر من سنن الإسلام: خمس في الرأس، قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء، أو هي عشر: ست في الإنسان، حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الإظفار، وقص الشارب، وغسل الجمعة، وأربع في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة، أو مناسك الحج خاصة، أو الكوكب، والقمر، والشمس؛ والنار والهجرة والختان، ابتُلي بهن فصبر،
أو ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم لم سمى الله - تعالى - إبراهيم خليله {الذي وفى} ؟ [النجم: 37] لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحين تصبحون} [الروم: 17] إلى(1/159)
قوله تعالى {تظهرون} ، أو قول الرسول / صلى الله عليه وسلم " أتدرون ما {وَفَّيَ} ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفيَّ عمل يومه أربع ركعات في النهار "، أو قال له ربه: " إني مبتليك، قال: أتجعلني للناس إماماً، قال: نعم: قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس قال: نعم، قال: وأمنا قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا قال: نعم، قال: وتجعل هذا البيت آمناً، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات، قال: نعم، فهذه الكلمات التي أبتُلى بها. {إمَاماً} متبوعاً. {عَهْدِى} النبوة، أو الإمامة، أو دين الله، أو الأمان، أو الثواب، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.(1/160)
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطآئفين والعاكفين والركع السجود (125) وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً ءامناً وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) }(1/161)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
125 - {مَثَابَةً} مجمعاً يجتمعون عليه في النسكين، أو مرجعاً، ثابت العلة: رجَعَت. أي يرجعون إليه مرة بعد أخرى، أو يرجعون إليه في كلا النسكين من حل إلى حرم. {وَأَمْناً} لأهله في الجاهلية، أو للجاني من إقامة الحد عليه فيه. {مَّقامِ إِبْرَاهِيمَ} عرفة ومزدلفة والجمار، أو الحرم كله، أو الحج كله. أو الحجر الذي في المسجد على الأصح. {مُصَلَّى} مُدَّعَى يُدْعَى فيه، أو الصلاة المعروفة وهو أظهر {وَعَهِدْنَآ} أمرنا، أو أوحينا. {طَهِّرَا بَيْتِيَ} من الأصنام، أو الكفار، أو الأنجاس، أُمرا ببنائه مطهراً، أو يُطهرا مكانه. {لِلطَّآئِفِينَ} الغرباء الذين يأتونه من غربة، أو الذين يطوفون به. {وَالْعَاكِفِينَ} أهل البلد الحرام، أو المصلون، أو المعتكفون، أو مجاورو البيت بغير طواف ولا اعتكاف ولا صلاة. {والركع السجود} المصلون.(1/161)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
126 - {من آمن} إخبار من الله - تعالى -، أو من دعاء إبراهيم، ولم تزل مكة حرماً آمناً من الجبابرة والخوف والزلازل، فسأل إبراهيم أن يجعله آمناً من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم مكة يوم خلق الله السموات والأرض "، أو كانت حلالاً قبل دعوة(1/161)
إبراهيم، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم عليه - الصلاة والسلام -، كما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: " وإن إبراهيم قد حرم مكة وإني قد حرمت المدينة ".
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءاياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129) }(1/162)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
127 - {الْقَوَاعِدَ} جمع قاعدة وهي كالأساس لما فوقها. {إِسَمَاعِيلَ} معناه أسمع يا إيل أي اسمع يا الله، لما دعا بالولد فأجيب سُمي الولد بما دعا به.(1/162)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
128 - {أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} المسلم: الذي استسلم لأمر الله وخضع له. {وَأَرِنَا} عرفنا {مَنَاسِكَنَا} مناسك الحج، أو الذبائح / والنسك: العبادة، والناسك: العابد، أو من قولهم لفلان منسك أي مكان يعتاد التردد إليه بخير أو(1/162)
شر، فسميت مناسك، لأنه يتردد إليها في الحج والعمرة.(1/163)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
129 - {رسولا منهم} محمداً صلى الله عليه وسلم {آياتك} الحجج، أو يبيّن لهم دينك. {الْكِتَابُ} القرآن. {وَالْحِكْمَةَ} السنة، أو معرفة الدين، والتفقه فيه، والعمل به. {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، أو يزكيهم بدينه إذا تابعوه، فيكونون عند الله - تعالى - أزكياء.
{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإلاه ءابآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134) }(1/163)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
130 - {سَفِهَ نَفْسَهُ} فعل بها ما صار به سفيهاً، أو سفه في نفسه فحذف الجار كقوله تعالى {ولا تعزموا عقدة النكاح} [235] أو أهلك نفسه وأوبقها،(1/163)
قال المبرد وثعلب: سفه بالكسر يتعدى وبالضم لا يتعدى. {اصْطَفَيْنَاهُ} من الصفوة، اخترناه للرسالة.(1/164)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
132 - {وَوَصَّى بِهَآ} بالملة لتقدم ذكرها. {إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي لا تفارقوا الإسلام عند الموت.
{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (135) قولوآ ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتي موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138) }(1/164)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
135 - {كُونُواْ هُوداً} قالت اليهود: " كونوا هوداً "، وقالت النصارى: كونوا نصارى. {بَلْ مِلَّةَ} بل نتبع ملة، أو نهتدي بملة. أو الملة من الإملال يُملونها من كتبهم. {حَنِيفاً} مخلصاً، أو متبعاً، أو حاجاً، أو مستقيماً، أخذ الحنيف، من الميل، رجل أحنف: مالت كل واحدة من قدميه إلى الأخرى، سمى به إبراهيم، لأنه مال إلى الإسلام أو أخذ من الاستقامة، وقيل للرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، وتطيراً من الميل، كالسليم للديغ، والمفازة للمهلكة.(1/165)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
137 - {بمثل ما آمنتم} بما آمنتم به. {شِقَاقٍ} عداوة من البعد، أخذ فلان في شق، وفلان في شق تباعدا وشق فلان عصا المسلمين: خرج عليهم وتباعد منهم.(1/165)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
138 - {صبغة الله} دين الله لظهوره كظهور الصبغ على الثوب، وكانت النصارى يصبغون أولادهم في مائهم تطهيراً لهم كالختان، فرد الله - تعالى - عليهم بأن الإسلام أحسن، أو صبغة الله - تعالى - خلقة الله لإحداثها كحدوث اللون على الثوب.
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنآ اعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141) }(1/165)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
140 - {الأسباط} الجماعة الذين يرجعون إلى آب واحد، من السبط وهو الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض. {شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ} هم اليهود كتموا ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{سيقول السفهآء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق(1/165)
والمغرب يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم (142) }(1/166)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
142 - {السُّفَهَآءُ} اليهود، أو المنافقون، أو كفار قريش. {وَلاهُمْ} صرفهم، والقبلة التي كانوا عليها بيت المقدس " صلى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً " أو ثلاثة عشر، أو تسعة(1/166)
أشهر، أو عشرة " ثم نسخت بالكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة قد صلى من الظهر ركعتين فانصرف بوجهه إلى الكعبة ". وقال البراء: " كان في صلاة العصر بقباء، فمر رجل على أهل المسجد فقال: أشهد لقد صليت مع الرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت " وقبلة / كل شيء ما قابل وجهه، واستقبل بيت المقدس بأمر الله - تعالى - ووحيه لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} ، أو استقبله برأيه واجتهاده تأليفاً لأهل الكتاب، أو أراد [الله تعالى] أن يمتحن العرب بصرفهم عن البيت الذي ألفوه للحج - إلى بيت المقدس.(1/167)
{لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ} فحيثما أمر باستقباله فهو له.
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلاّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143) }(1/168)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
143 - {وَسَطاً} خياراً، رجل واسط الحسب رفيعه قال:
(هم وسَطٌ يرضى الإله بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم)
أو لتوسطهم بين اليهود والنصارى في الدين، غَلَتْ النصارى في المسيح وترهبوا، وقصرت اليهود بتبديل الكتاب، وقتل الأنبياء - صلوات الله تعالى عليهم وسلامه - والكذب على الله تعالى، أو عدلاً بين الزيادة والنقصان. {شهداء على الناس} بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم الرسالة، أو تشهدون على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالة اعتماداً على إخبار الله - تعالى - وهذا مروي عن(1/168)
الرسول صلى الله عليه وسلم أو محتجين فعبّر عن الاحتجاج بالشهادة. {شَهِيداً} لكم بالإيمان فتكون " على " بمعنى " اللام "، أو يشهد أنه بلغكم الرسالة. أو محتجاً. {لِنَعْلَمَ} ليعلم رسولي وحزبي، والعرب تضيف فعل الأتباع إلى الرئيس والسيد، فتح عمر - رضي الله تعالى عنه - سواد العراق، وجبى خراجها أي أتباعه أو لنرى بوضع الرؤية موضع العلم وبالعكس، أو لنميز أهل اليقين من أهل الشك، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو ليعلموا أننا نعلم. {يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} لما حولت ارتد جماعة من المسلمين. {وَإِن كَانَتْ} التولية لكبيرة، أو القبلة التي هي بيت المقدس، أو الصلاة إلى بيت المقدس. {إِيمَانَكُمْ} صلاتكم إلى بيت المقدس، سماها إيماناً، لاشتمالها على نية وقول وعمل. نزلت لما سألوا عمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس {لَرَءُوفٌ}(1/169)
الرأفة: أشد الرحمة، قال أبو عمرو بن العلا: الرأفة أكثر من الرحمة.
{قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك ومآ أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوآءهم من بعد ما جآءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين (145) }(1/170)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
144 - {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تحول وجهك نحو السماء، أو تقلب عينيك في النظر إليها. {تَرْضَاهَا} تختارها وتحبها، لأنها قبلة إبراهيم، أو كراهة لموافقة اليهود لما قالوا: " يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا " {شَطْرَ المَسْجِدِ} نحوه، والشطر في الأضداد، شطر إلى كذا أقبل نحوه، وشطر عنه أعرض عنه وبَعُدَ، رجل شاطر، لأخذه في نحو غير الاستواء. والمسجد الحرام: الكعبة، أمر بالتوجه إلى حيال الميزاب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - " البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب " {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} من الأرض، واجه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الأول وواجه الأمة / بالأمر الثاني، وكلاهما يعم. {أُوتُواْ الكِتَابَ} اليهود والنصارى {لَيَعلَمُونَ أَنَّهُ} تحويل القبلة إلى الكعبة.(1/170)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
145 - {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} خوطب به والمراد أمته، أو بيّن حكم ذلك لو وقع وإن كان غير واقع.
{الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم(1/170)
يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ (148) }(1/171)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
146 - {الذين آتيناهم الْكِتَابَ) {اليهود والنصارى} (يَعرِفُونَهُ} يعرفون التحويل، أو يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة. {فَرِيقاً} علماءهم وخواصهم. {الحَقَّ} استقبال الكعبة، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/171)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
147 - {الحَقُّ مِن رَّبِّكَ} استقبال الكعبة، لا ما ذكرته اليهود من قبلتهم {المُمْتَرِينَ} الشاكِّين، خوطب به والمراد أمته، امترى بكذا: اعترضه اليقين تارة والشك أخرى يدافع أحدهما بالآخر.(1/171)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
148 - {وَلِكُلٍّ} أهل ملة {وِجْهَةُ} قبلة، أو صلاة {هُوَ مُوَلّيهَا} أي المصلي، أو الله يوليه إليها، ويأمره باستقبالها. {فَاسْتَبِقُواْ الخَيرَاتِ} سارعوا إلى الأعمال الصالحة، أو لا تغلبكم اليهود على قبلتكم بقولهم: " إن اتبعتم قبلتنا اتبعناكم ". {يَأتِ بِكُمُ} يوم القيامة جميعاً. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ} من إعادتكم بعد الموت والبلى.
{ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كمآ أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم ءاياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152) }(1/171)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
149 - {وَمِن حَيْثُ} لما حرضت اليهود وقالوا: " ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتابعك، أكد الله - تعالى - الأمر باستقبالها بقوله: ثانياً {وَمِن حَيْثُ خَرَجتَ} ، ثم أكده - ثالثاً - ليخرج من قلوبهم ما أنكروه من التحويل فالأوامر الثلاثة ملزمة للتوجه إلى الكعبة إلا أن الأول: أفاد النسخ، والثاني: أفاد التحويل إلى الكعبة لا ينسخ بقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} والثالث: أفاد أنه لا حجة لأحد عليهم.(1/172)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
150 - {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فإنهم يحتجون بحجة باطلة كقوله - تعالى - {حجتهم دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] فسماها حجة، أو إلاَّ بمعنى " بعد " كقوله: {إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] وكقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] بمعنى " بَعْد فيهما "، والذين ظلموا: قريش واليهود، قالت قريش بعد التحويل: " قد علم أنا على الهدى "، وقالت اليهود: " إن يرجع عنها تابعناه ". {فَلاَ تخشوهم} في المباينة، {واخشوني} في المخالفة.(1/172)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
151 - {آياتنا} القرآن. {وَيُزَكِّيكُمْ} يطهركم من الشرك، أو يأمركم بما تصيرون به عند الله - تعالى - أزكياء. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} القرآن، أو ما في الكتب السالفة من أخبار القرون. {وَالْحِكْمَةَ} السنة، أو مواعظ القرآن. {مَّا لَمْ تَكُونُوا} تعلمون من أمر الدين والدنيا.(1/172)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
152 - {فَاذْكُرُونِى} بالشكر. {أَذكُرْكُمْ} بالنعمة، أو {اذكروني} بالقبول {أذكركم} بالجزاء.
{يآ أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحيآء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوآ إنا لله وإنآ إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157))(1/172)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
153 - {بِالصَّبْرِ} على أوامر الله تعالى " أو الصوم ".(1/173)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
154 - {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ} النفوس عند الله - تعالى - منعمو الأجسام وإن كانت أجسامهم كأجسام الموتى أو ليسوا أمواتاً بالضلال بل أحياء بالهدى. نزلت لما قالوا في قتلى بدر / وأُحُد مات فلان وفلان.(1/173)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
155 - {ولنبلونكم} لما دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف - عليه الصلاة والسلام - أجابه بقوله {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} يا أهل مكة. {الْخَوْفِ} الفزع في القتال. {وَالْجُوعِ} والجدب، ونقص الأنفس: بالقتل والموت.(1/173)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
156 - {وإذا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} في نفس، أو أهل، أو مال. {إِنَا لِلَّهِ} ملكه فلا يظلمنا بما يصنع بنا. {رَاجِعُونَ} بالبعث.(1/173)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
157 - {صَلَوَاتٌ} يتلو بعضها بعضا، والصلاة من الله - تعالى - الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء وعطف الرحمة على الصلوات(1/173)
لاختلاف اللفظ.
{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوف بهما ومن تطوّع خيراً فإنّ الله شاكر عليم (158) }(1/174)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
158 - {الصَّفَا} جمع صفاة، وهي الحجارة البيض. {وَالْمَرْوَةَ} حجارة سود، والأظهر أن الصفا: الحجارة الصلبة التي لا تنبت والمروة: الحجارة الرخوة، وقد قيل ذُكِّر الصفا باسم إساف، وأُنثت المروة بنائلة. {شَعَآئِرِ اللَّهِ} التي جعلها لعبادته معلماً، أو أنه أشعر عباده وأخبرهم بما عليهم من الطواف بهما. {حَجَّ} الحج: القصد، أو العود مرة بعد أخرى، لأنهم يأتون البيت قبل عرفة وبعدها للإفاضة، ثم يرجعون إلى منى، ثم يعودون إليه لطواف الصَّدَر، والعمرة: القصد، أو الزيارة. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أّن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية تعظيماً لإساف ونائلة تحرجوا بعد الإسلام أن يضاهوا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية فنزلت. وقرأ ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - {فلا جناح عليه أن لا(1/174)
يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فلذلك أسقط أبو حنيفة - رحمة الله تعالى - السعي، ولا حجة في ذلك، لأن " لا " صلة مؤكدة ك {ما منعك أن لا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] {وَمَن تَطَوَّعَ} بالسعي بينهما عند من لم يوجبه، أو من تطوع بالزيادة على الواجب، أو من تطوع بالحج والعمرة بعد أدائهما.
{إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّنّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }(1/175)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
159 - {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وابن(1/175)
صوريا، وزيد بن التابوه. {الْبَيِّنَاتِ} الحجج الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. {وَالْهُدَى} الأمر باتباعه، أو كلاهما واحد يراد بهما ما أبان نبوته وهدى إلى اتباعه. {بيناه للناس في الكتاب} أي القرآن. {الللاعنون} ما في الأرض من جماد وحيوان إلاَّ الثقلين، أو المتلاعنان إذا لم يستحق اللعنة واحد منهما رجعت على اليهود، وإن استحقها أحدهما رجعت عليه، أو البهائم إذا يبست الأرض قالوا: هذا بمعاصي بني آدم. أو المؤمنون من الثقلين والملائكة فإنهم يلعنون الكفرة.(1/176)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
160 - {تابوا} أسلموا. {وبينوا} نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أقبل توبتهم.(1/176)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
161 - {لَعْنَةُ اللَّهِ} عذابه، واللعنة من العباد: الطرد. {وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أراد به / غالب الناس، لأن قومهم لا يلعنونهم، أو أراد يوم القيامة إذ يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً.
{وَإِِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لآ إله إلاّ هو الرحمان الرحيم (163) إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الّيل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164) }(1/176)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
163 - {وَإِِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا ثاني له ولا نظير، أو إله جميع الخلق واحد بخلاف ما فعلته عبدة الأصنام فإنهم جعلوا لكل قوم إلهاً غير إله الآخرين. {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} رَغَّبهم بذكر ذلك في طاعته وعبادته.(1/176)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
164 - {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} بغير عمد ولا عَلاَّقة، وشمسها وقمرها(1/176)
ونجومها. {وَالأَرْضِ} بسهلها، وجبلها، وبحارها، وأنهارها، ومعادنها، وأشجارها {واختلاف الليل وَالنَّهَارِ} بإقبال أحدهما، وإدبار الآخر. {وَالْفُلْكِ} باستقلالها وبلوغها إلى مقصدها، وجمع الفلك ومفردها بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنَّث. {مِن مَّآءٍ} مطر يجيء [غالباً] عند الحاجة إليه، وينقطع إذا استُغني عنه. {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ} بإنبات أشجارها وزروعها، أو بإجراء أنهارها وعيونها، فيحيا بذلك الحيوان الذي عليها. {دَآبَّةٍ} سمي الحيوان بذلك لدبيبه على وجهها، والآية - بعد القدرة على إنشائها - فيها تباين خلقها، واختلاف منافعها، ومعرفتها بمصالحها. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} جمع ريح أصلها " أرواح ".
(إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به آلُ مي هاج شوقي هبوبُها)
وتصريفها: انتقال الشمال جنوباً، والصبا دَبورا، أو ما فيها من الضر والنفع، شريح: ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح، أو شفاء سقيم. {الْمُسَخَّرِ} المذلل. وآيته ابتداء نشوءه وتلاشيه، وثبوته بين السماء والأرض، وسيره إلى حيث أراده منه.
{ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءامنوآ أشدّ(1/177)
حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوة لله جميعاً وأنّ الله شديد العذاب (165) إذ تبرّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتَّبعوا لو انَّ لنا كرةٍ فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار (167) }(1/178)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
165 - { {أَندَاداً} أمثالاً يراد بها الأصنام. {يُحِبُّونَهُمْ} مع عجزهم كحبهم لله مع قدرته. {والذين آمنوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} من حب أهل الأوثان لأوثانهم.(1/178)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
166 - {تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ} وهم السادة والرؤساء من تابعيهم على الكفر، أو الذين اتبعوا: الشياطين، وتابعوهم الإنس، ورأى التابع والمتبوع العذاب. {الأَسْبَابُ} تواصلهم في الدنيا، أو الأرحام، أو الحلف الذي كان بينهم في الدنيا، أو أعمالهم التي عملوها فيها، أو المنازل التي كانت لهم فيها.(1/178)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
176 - {كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا. {أَعْمَالَهُمْ} التي أحبطها كفرهم، أو ما انقضت به أعمارهم من المعاصي أن لا يكون مصروفاً إلى الطاعة. الحسرة: شدة الندامة على فائت. {يآ أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تَتَّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبينٌ (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وَأّن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }(1/178)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
168 - {كُلُواْ} نزلت في خزاعة وثقيف وبني مدلج لما حرموه من الأنعام والحرث. {خُطُوَاتِ} جمع خطوة؛ أعماله، أو خطاياه، أو طاعته، أو النذر في المعاصي.(1/178)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
169 - {بِالسُّوءِ} بالمعاصي لمساءة عاقبتها. {وَالْفَحْشَآءِ} الزنا، أو(1/178)
المعاصي، أو كل ما فيه حد لفحشه / وقبحه. {وَأّن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تعلمون} من تحريم ما لم يحرمه، أو أن له شريكاً. {وإذا قيل لهم اتَّبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتَّبع مآ ألفينا عليه ءابآءنا أولو كان ءابآؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعآءً وندآءً صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون (171) }(1/179)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
170 - {اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} في تحليل ما حرمتموه {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ} آباءنا في تحريمه.(1/179)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
171 - {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيما يوعظون به كمثل البهيمة التي تنقع فتسمع الصوت ولا تفهم معناه، أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل راعي البهيمة تسمع صوته ولا تفهمه. {صُمُّ} عن الوعظ. {بُكْمٌ} عن الحق. {عُمْىٌ} عن الرشد، والعرب تسمي من سمع ما لم يعمل به أصم، قال:
(أصم عما ساءه سميع ... )
{يآ أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أُهل به لغير الله فمن اضطرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فلآ إثم عليه إنًّ الله غفور رحيم (173) }(1/179)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
173 - {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} قصّر داود بن علي(1/179)
التحريم على اللحم، وعداه الجمهور إلى سائر أجزائه. {أهل به} سمى الذبح إهلالاً، لأنهم كانوا يجهرون عليه بأسماء آلهتهم، فسمي كل ذبح إهلالاً، كما سمي الإحرام إهلالاً للجهر للتلبية وإن لم يجهر بها {لِغَيْرِ اللَّهِ} ذبح لغيره من الأصنام. أو ذكر عليه اسم غيره. {اضْطُرَّ} أكره، أو خاف على نفسه لضرورة دعته إلى أكله قاله الجمهور. {غَيْرَ بَاغٍ} على الإمام {وَلاَ عَادٍ} على الناس بقطع الطريق، أو {غَيْرَ بَاغٍ} بأكله فوق حاجته. أو بأكله مع وجود غيره، أو {غَيْرَ بَاغٍ} بأكله تلذذاً {وَلاَ عَادٍ} بالشبع، وأصل(1/180)
البغي طلب الفساد، ومنه البغي للزانية. {إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاُ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النار ولا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيد (176) }(1/181)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
174 - {الِّذِينَ يَكْتُمُونَ} علماء اليهود، كتموا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوته. {ثَمَناً} الرشا التي أخذوها على كتم رسالته، وتغيير صفته، وسماه قليلاً، لانقطاع مدته، وسوء عاقبته، أو لقلته في نفسه. {إِلاَّ النَّارَ} سمى مأكولهم ناراً، لأنه سبب عذابهم بالنار، أو لأنه يصير يوم القيامة في بطونهم ناراً، فسماه بما يؤول إليه. {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} ولا يُسمعهم كلامه، أو لا يُرسل إليهم بالتحية مع الملائكة، أو عبَّر بذلك عن غضبه عليهم، فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه {وَلا يُزَكِّيهِمْ} لا يثني عليهم، أو لا يصلح أعمالهم الخبيثة /.(1/181)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
175 - {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} فما أجرأهم عليها، أو على عمل يؤدي إليها، أو أي شيء أصبرهم عليها، أو ما أبقاهم عليها، ما أصبر فلاناً على الحبس ما أبقاه فيه.(1/181)
{ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنًّ البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبِّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وءاتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177) }(1/182)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
177 - {لَّيْسَ الْبِرَّ} الصلاة وحدها، أو خاطب به اليهود والنصارى، لصلاة اليهود إلى الغرب، والنصارى إلى الشرق. (وَلكِنَّ الْبِرَّ} إيمان من آمن، أو برّ من آمن بالله، فأقر بوحدانيته {وَالْمَلآئِكَةِ} بما أُمروا به من كَتْب الأعمال. {والكتاب) {القرآن} (والنبيين} فلا يكفر ببعضهم ويؤمن ببعض. {عَلَى حُبِّهِ} حب المال فيكون صحيحاً شحيحاً. ذهب الشعبي والسدي إلى وجوب(1/182)
ذلك خارجاً عن الزكاة، فروى الشعبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية "، والجمهور / على ان الآية محمولة على الزكاة، أو على التطوع، وأنه لا حق في المال سوى الزكاة {ذَوِى الْقُرْبَى} إن حُمل على الزكاة شَرَط فيهم الأوصاف المعتبرة في الزكاة وإن حُمل على التطوع فلا. {وَالْيَتَامَى} كل صغير لا أب له، وفي اعتبار فقرهم قولان. {وَالْمَسَاكِينَ} مَنْ عُدِم قدر الكفاية. وفي اعتبار إسلامهم قولان. {وَابْنَ(1/183)
السبيل} فقراء المسافرين. {والسائلين} الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال. {وَفِى الرِّقَابِ} المكاتبون أو عبيد يُعتقون. {وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} إلى الكعبة بواجباتها في أوقاتها. {وآتى الزَّكاةَ} لمستحقها. {بِعَهْدِهِمْ} بنذرهم لله تعالى، أو العقود التي بينهم وبين الناس. {الْبَأْسَآءِ) {الفقر} (وَالضَّرَّآءِ} السقم. {وَحِينَ الْبأْسِ} القتال. وهذه الأوصاف مخصوصة بالأنبياء لتعذرها فيمن سواهم. أو هي عامة في الناس كلهم. {يآ أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم (178) ولكم في القصاص حياةٌ يآ أولي الألباب لعلَّكم تتقون (179) }
178 - {كُتِبَ} فرض.
(يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا)
{الْقِصَاصُ} مقابلة الفعل بمثله من قص الأثر. نزلت في قبيلة من العرب أعزاء لا يقتلون بالعبد منهم إلا السيد، وبالمرأة إلا الرجل، أو في فريقين اقتتلا فقتل منهما جماعة، فقاصص الرسول صلى الله عليه وسلم دية الرجل بدية الرجل، ودية(1/184)
المرأة بدية المرأة، ودية العبد بدية العبد، أو فرض في ابتداء الإسلام قتل الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، ثم نسخ بقوله تعالى: {النفس بالنفس} [المائدة: 45] قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو هو أمر بمقاصة دية الجاني من دية المُجنى عليه، فإذا قتل الحر عبداً فلسيده القصاص، ثم يقاصص بقيمة العبد من دية الحر ويدفع إلى ولي الحر باقي ديته، وإن قتل العبد حراً فقتل به قاصص ولي الحر بقيمة العبد وأخذ باقي دية الحر، وإن قتل الرجل امرأة فلوليها قتله ويدفع نصف الدية إلى ولي الرجل، وإن قتلت المرأة رجلاً فقتلت به أخذ ولي الرجل نصف الدية قاله علي - رضي الله تعالى عنه - {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} هو أن يطلب الولي الدية بالمعروف، ويؤديها القاتل بإحسان {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} أي فضل. إذا قلنا نزلت في فريقين اقتتلا، وتقاصا ديات القتلى، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف وليؤد من عليه بإحسان،
وعلى قول علي - رضي الله تعالى عنه - يؤدي الفاضل بعد مقاصصة الديات بمعروف، فالاتباع بمعروف عائد إلى ولي القتيل، والأداء بإحسان عائد إلى الجاني، أو كلاهما عائد إلى الجاني يؤدي الدية بمعروف وإحسان. {تَخْفِيفٌ} تخير ولي / الدم بين القود والدية والعفو، ولم يكن ذلك لأحد قبلنا، كان على أهل التوراة القصاص أو العفو ولا أرش، وعلى أهل الإنجيل الأرش أو العفو ولا قود. {فَمَنِ اعْتَدَى} فقتل بعد أخذ الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالقصاص، أو يقتله الإمام حتماً، أو يعاقبه السلطان، أو باسترجاع الدية منه ولا قود عليه.(1/185)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
179 - {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إذا ذكره الظالم كف عن القتل، أو وجوب القصاص على القاتل وحده حياة له وللمعزوم على قتله فيحييان جميعاً وهذا أعم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أن تقتلوا فيقتص منكم. {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين(1/185)
بالمعروف حقاً على المتقين (180) فمن بدّله بعد ما سمعه فإنمآ إثمه على الذين يبدّلونه إن الله سميعٌ عليم (181) فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلآ إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم (182) }(1/186)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
180 - {خَيْراً} مالاً اتفاقاً ها هنا، قال مجاهد: " الخير المال في جميع القرآن {إنه لحب الخير} [العاديات: 8] {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ص: 32] {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] أراد المال في ذلك {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] بغنى ومال ". كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة قبل نزول المواريث، فلما نزلت المواريث نسخ وجوبها عند الجمهور، أو نسخ منها الوصية لكل وارث وبقي الوجوب فيمن لا يرث من الأقارب. والمال الذي يجب عليه أو أن يوصي منه ألف درهم، أو من ألف إلى خمسمائة، أو يجب في كل قليل وكثير، فلو أوصى بثلثه لغير قرابته رُد الثلث على قرابته، أو يُرد ثلث الثلث على القرابة وثلثا الثلث للمُوصى له، أو ثلثاه للقرابة وثلثه للمُوصى له. {عَلَى الْمُتَّقِينَ} التقوى في أن يقدم الأحوج فالأحوج من أقاربه.(1/186)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
181 - {فَمَن بَدَّلَهُ} غَيَّرَ الوصية بعد ما سمعها. إنما ذكِّر، لأن الوصية قول.(1/187)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
182 - {جَنَفاً أَوْ إِثْماً} الجنف الخطأ، والإثم: العمد، أو الجنف: الميل، والإثم: أَثَرة بعضهم على بعض، أصل الجنف الجور والعدول عن الحق {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} فمن حضر موصياً يجور في وصيته خطأ أو عمداً فأصلح بينه وبين ورثته بإرشاده إلى الحق فلا إثم عليه، أو خاف الوصي جنف المُوصي فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى له بردّ الوصية إلى العدل، أو من خاف من جنف الموصي على ورثته بإعطاء بعض ومنع بعض في مرض موته فأصلح بين ورثته، أو من خاف جنفه فيما أوصى به لآبائه وأقاربه على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والقرابة، أو من خاف جنفه في وصيته لغير وارثه بما يرجع نفعه إلى وارثه فأصلح بين ورثته فلا إثم. {يآ أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أيّاماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (184) }(1/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
183 - {الصِّيَامُ} الصوم عن كل شيء الإمساك عنه، ويقال عند الظهيرة صام النهار، لإبطاء سير الشمس حتى كأنها أمسكت عنه. {كَمَا كُتِبَ} شبّه صومنا بصومهم في حكمه وصفته دون قدره، كانوا يصومون من العتمة إلى(1/187)
العتمة ولا يأكلون بعد النوم شيئاً، وكذا / كان في الإسلام حتى نسخ، أو في شبه عدده، فرض على النصارى شهر مثلنا فربما وقع في القيظ فأخروه إلى الربيع وكفروه بعشرين يوماً زائدة، أو شبّه بعدد صوم اليهود ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء، فصامهن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سبعة عشر شهراً ثم نسخن برمضان. {الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ} جميع الناس، أو اليهود، أو أهل الكتاب. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} محظورات الصوم، أو الصوم سبب التقوى لكسره الشهوات.(1/188)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
184 - {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} هي شهر رمضان عند الجمهور، أو الأيام البيض عند ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ثم نسخت برمضان، وهي الثاني عشر وما يليه، أو الثالث عشر وما يليه على الأظهر. {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يجب القضاء عند داود على المسافر والمريض سواء صاما أو أفطرا، وعند الجمهور لا يجب القضاء إلا على من أفطر. {يُطِيقُونَهُ} كانوا مخيّرين بين الصوم والفطر مع الإطعام بدلاً من الصوم، ثم نسخ بقوله تعالى {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} ، أو بقوله تعالى {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أو وعلى الذين كانوا يطيقونه شباباً ثم عجزوا بالكبر أن يفطروا ويفتدوا، وقرأ ابن عباس - رضي الله(1/188)
تعالى عنهما - {يطوقونه} يُكلفونه فلا يقدرون عليه كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع - الفدية ولا قضاء عليهم لعجزهم. {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} بالصوم مع الفدية، أو بالزيادة على مسكين واحد. {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدَّةٌ من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185) }(1/189)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
185 - {شَهْرُ رَمَضَانَ} الشهر من الشهرة، شهر سيفه أخرجه. {رَمَضَانَ} قيل أُخذ من الرمضاء لما كان يوجد فيه من الحر حتى يرمض الفصال، وكره مجاهد أن يقال " رمضان "، قائلاً لعله من أسماء الله - تعالى - {أُنزِلَ فِيهِ(1/189)
القرآن} في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نَزَلَ منجماً بعد ذلك، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " نزلت صحف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أول ليلة من رمضان، والتوراة لست مضين منه والإنجيل لتسع عشرة خلت منه، والفرقان لأربع وعشرين منه " أو {أُنزِلَ فِيهِ} في فرض صومه. {هُدىً لِّلنَّاسِ} رشاداً. {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى} بينات من الحلال والحرام، وفرقان بين الحق والباطل. {فَمَن شَهِدَ} أول الشهر مقيماً لزمه صومه وليس له أن يفطر في بقيته، أو فمن شهده مقيماً فليصم ما شهد منه دون ما لم يشهده إلا في السفر، أو فمن شهده / عاقلاً مكلفاً فليصمه ولا يسقط صوم بقيته بالجنون. {مَرِيضاً} مرضاً لا يطيق الصلاة معه قائماً، أو ما يقع عليه أسم المرض، أو ما يزيد بسبب الصوم زيادة غير متحملة {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يبلغ يوماً وليلة، أو ثلاثة أيام، أو ما يقع عليه الإسم، والفطر مباح عند الجمهور، وواجب عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال: " اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصوم(1/190)
فيه " {وَلِتُكْمِلُواْ} عدة ما أفطرتم منه بالقضاء من غيره. {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ} تكبير الفطر حين يهل شوال. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} من صوم الشهر. {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (186) }(1/191)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
186 - {وإذا سألك عبادي} قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: " أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه " أو سئل عن أي ساعة يدعون فيها، أو سئل كيف ندعوا، أو قال قوم: لما نزل: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] إلى أين ندعوا فنزلت. {قَرِيبٌ} الإجابة، أو من سماع الدعاء. {أجيب دعوة الداعي} اسمع فعبّر عن السماع بالإجابة، أو أُجيبه إلى ما سأل إذا كان مصلحة مستكملاً لشروط الطلب، وتجب إجابته كثواب الأعمال، فالدعاء عبادة ثوابها الإجابة، أو لا تجب. وإن قصّر في شروط الطلب فلا تجب إجابته وفي جوازها قولان، وإن كان سؤاله مفسدة لم تجز إجابته. {فَلْيَسْتَجِيبُواْ} فليجيبوني، أو الاستجابة(1/191)
طلب الموافقة للإجابة، أو فليستجيبوا لي بالطاعة، أو فليدعوني. {أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالئان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الّيل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله ءاياته للناس لعلهم يتقون (187) }(1/192)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
187 - {الرَّفَثُ} من فاحش القول،
(عن اللغا ورفث التكلم ... )
عبّر به عن الجماع اتفاقاً لأن ذكره في غير موضعه فحش. {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد منهما ببشرته إلى صاحبه، أو لاستتار أحدهما بالآخر، أو سكن {الليل لِبَاساً} [النبأ: 10] سكناً. {تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} بالجماع والأكل والشرب، أُبيحا قبل النوم وحرِّما بعده. فطلب عمر زوجته فقالت: قد نمت فظنها تعتل فواقعها، وجاء قيس بن صرمة من عمله في أرضه فطلب الأكل فقالت زوجته نسخن لك شيئاً فغلبته عيناه، ثم قدمت إليه الطعام فامتنع، فلما أصبح لاقى جهداً وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى لهما فنزلت ... . {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} لما كان في مخالفتكم. {وَعَفَا} عن ذنوبكم، أو عن تحريم ذلك بعد النوم. {بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن. {مَا كَتَبَ الله لكم}(1/192)
الولد، أو ليلة القدر، أو ما رخص فيه. {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} قال علي - رضي الله تعالى عنه -: " الخيط الأبيض الشمس ". قال حذيفة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل. فقيل لحذيفة بعد الصبح فقال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع / الشمس " والإجماع على خلاف هذا، أو الأبيض الفجر الثاني والأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني، كان عدي يراعي خيطاً(1/193)
أبيض وخيطاً أسود جعلهما تحت وسادته فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " إنك لعريض الوساد، إنما هو بياض النهار وسواد الليل، أو كان بعضهم يربط في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود ولا يزال يأكل حتى يتبينا له فأنزل الله عز وجل {مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار " {الْفَجْرِ} لانبعاث ضوئه: من فجر الماء يفجر فجراً: انبعث وجرى {تُبَاشِرُوهُنَّ} بالقبل واللمس، أو بالجماع عند الأكثرين. {ولا تأكلوآ اموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بهآ إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (188) }(1/194)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
188 - {بِالْبَاطِلِ} بالغصب والظلم، أو القمار والملاهي. {وَتُدْلُواْ} تصيروا، أدليت الدلو أرسلته. {أَمْوَالَكُم} أموال اليتامى، أو الأمانات والحقوق(1/194)
التي إذا جحدها قبل قوله فيها. {يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرّ من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189) }(1/195)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
189 - {الأَهِلَّةِ} من الاستهلال برفع الصوت عند رؤيته. " وهو هلال إلى ليلتين، أو إلى ثلاث، أو إلى أن يحجر بخطة دقيقة، أو إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل فيسمى حينئذ قمراً ". {مَوَاقِيتُ} مقادير لأوقات الديون، والحج. {تَأْتُواْ البيوت من ظهورها} كنى به عن إتيان النساء في أدبارهن، لأن المرأة يأوى إليها كما يأوى إلى البيت، أو هو مثل لإتيان البيوت من وجهها ولا يأتونها من غير وجهها، أو كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار رفاعة الأنصاري فجاء فتسور الحائط على الرسول صلى الله عليه وسلم فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الباب خرج معه رفاعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" ما حملك على هذا " فقال: " رأيتك خرجت منه "، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(1/195)
" إني رجل أحمس " فقال رفاعة: " إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد فنزلت ... . "، وقريش يُسمون الحمس لتحمسهم في دينهم، والحماسة: الشدة. {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وَلا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزآء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين (193) }(1/196)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
190 - {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} هذه أول آية نزلت بالمدينة في قتال من قاتل خاصة {وَلا تَعْتَدُوَاْ} بقتال من لم يقاتل. ثم نسخت ب {بَرَآءَةٌ} أو نزلت في قتال المشركين كافة {وَلا تَعْتَدُواْ} بقتل النساء والصبيان، أو لا تعتدوا بالقتال على غير الدين.(1/196)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
191 - {ثَقِفْتُمُوهُمْ} ظفرتم بهم. {وَالْفِتْنَةُ} الكفر ها هنا اتفاقاً لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة. {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} نهوا عن قتال(1/196)
أهل الحرم إلا أن يبدءوا بالقتال ثم نسخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فتنة} [193] ، أو هي محكمة فلا يُقَاتل أهل الحرم ما لم يبدءوا بالقتال. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194) }(1/197)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
194 - {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} لما / اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فَصُدًّ، فصالح على القضاء في العام المقبل، فقضى في ذي القعدة نزل {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} وهو ذي القعدة المقضي فيه {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} المصدود فيه، أُخذ ذو القعدة من قعودهم عن القتال فيه لحرمته. {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} لما فخرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم حين صدته اقتص الله - تعالى - له، أو نزلت لما قال المشركون: " أَنُهِيتَ عن قتالنا في الشهر الحرام، فقال: نعم. فأرادوا قتاله في الشهر الحرام فقيل له: إن قاتلوك في الشهر الحرام فاستحل منهم ما استحلوا منك. {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين(1/197)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
195 - {سبيل الله} الجهاد. {ولا تلقوا بأيديكم} الباء زائدة، أو غير(1/197)
زائدة أي لا تُلقوا أنفسكم بأيديكم. {التَّهْلُكَةِ} الهلاك لا تتركوا النفقة في الجهاد فتهلكوا بالإثم، أو لا تخرجوا بغير زاد فتهلكوا بالضعف، أو لا تيأسوا من المغفرة عن المعصية فلا تتوبوا، ولا تتركوا الجهاد فتهلكوا، أو لا تقتحموا القتال من غير نكاية في العدو، أو هو عام محمول على ذلك كله. {وَأَحْسِنُواْ} الظن بالقدر، أو بأداء الفرائض أو عودوا بالإحسان على المعدم. {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196) }(1/198)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
196 - {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} أتموا كل واحد منهما بمناسكه وسننه، أو الإحرام بهما إفراد من دويرة الاهل، أو أن يخرج من دويرة أهله لأجلهما لا يريد غيرهما من كسب ولا تجارة، أو إتمامهما واجب بالدخول فيهما، أو إتمام العمرة الإحرام بها في غير أشهر الحج، وإتمام الحج الإتيان بمناسكه بحيث لا يلزمه دم جبران نقص. {أُحْصِرْتُمْ} بالعدو دون المرض، أو كل حابس من عدو أو مرض أو عذر {فَمَا اسْتَيْسَرَ} بدنة صغيرة أو كبيرة، أو هو شاة عند الأكثرين. {الْهَدْى} من الهدية، أو من هديته إذا سقته إلى الرشاد. {مَحِلَّهُ} محل الحصر حيث أُحصر من حل أو حرم، أو الحرم، أو مَحِله: تحلله بأداء نسكه، فليس لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحلل من إحرامه فإن كان إحرامه عمرة لم يفت، وإن كان حجاً ففاته قضاه بالفوات بعد تحلله منه. {صٍيَامٍ أَوْ صدقة}(1/198)
صيام ثلاثة أيام، صدقة: إطعام ستة مساكين، أو صيام عشرة أيام، والصدقة أطعام عشرة، والنسك شاة. {أَمِنتُمْ} من الخوف، أو المرض. {تَمَتَّعَ} بفسخ الحج، أو فعل العمرة في أشهر الحج ثم حج في عامه، أو إذا تحلل الحاج بالإحصار ثم عاد إلى بلده متمتعاً ثم قضى الحج من قابل فقد صار متمتعاً بإحلاله بين الإحرامين. {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} شاة أو بدنة. {ثلاَثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ} بعد الأحرام به وقبل يوم النحر، أو في أيام التشريق. ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج / أو يجوز في عشر ذي الحجة ولا يجوز قبله، أو يجوز في أشهر الحج ولا يجوز قبلها. {رَجَعْتُمْ} من حجكم، أو إلى أهلكم في أمصاركم. {كَامِلَةٌ} تأكيد، أو كاملة من الهدي، أو كملت أجره كمن أقام على الإحرام فلم يتحلل منه ولم يتمتع، أو هو خبر بمعنى الأمر أي أكملوا صيامها. {حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أهل الحرم، أو من بين مكة والمواقيت، أو أهل الحرم ومن قرب منه كأهل عُرنة وعَرفة والرجيع، أو من كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله وتزوّدوا فإن خير الزّاد التقوى واتقون يآ أولي الألباب (197) }(1/199)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
197 - {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} شوال وذو القعدة وذو الحجة، أو شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، أو شوال وذو القعدة وعشر ليالي من ذي الحجة إلى طلوع الفجر يوم النحر. {فَرَضَ} أحرم، أو أهلَّ بالتلبية. {رَفَثَ} الجماع، أو الجماع والتعرض له بمواعدة ومداعبة أو الإفحاش بالكلام كقوله: " إذا حللت فعلت بكِ كذا من غير كناية ". {وَلا فُسُوقَ} منهيات الإحرام، أو السباب، أو الذبح للأصنام، أو التنابز بالألقاب أو المعاصي كلها. {وَلا جِدَالَ} السباب، أو المِراء والاختلاف أيهم أتم حجاً، أو أن يجادل(1/199)
صاحبه حتى يغضبه، أو اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم، أو اختلافهم في موافق الحج أيهم أصاب موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو لا جدال في وقته لاستقراره وبطلان النسيء الذي كانوا ينسونه فربما حجوا في صفر أو ذي القعدة. {وَتَزَوَّدُوأ} الأعمال الصالحة، أو نزلت في قوم من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد، ويقولون نحن المتوكلون، فنزل {وَتَزَوَّدُواْ} الطعام فإن خيراً منه التقوى. {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضآلين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) }(1/200)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
198 - {فَضْلاً} كانت ذو المجاز وعكاظ متجراً في الجاهلية فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} . {أَفَضْتُم} أسرعتم، أو رجعتم من حيث بدأتم. {عَرَفَاتٍ} جمع عرفة، أو اسم واحد وإن كان بلفظ(1/200)
جمع، قاله الزجاج سميت به، لأن آدم - عليه الصلاة والسلام - عرف بها حواء بعد هبوطهما، أو عرفها عند رؤيتها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما تقدم له من وصفها، أو لتعريف جبريل - عليه الصلاة والسلام - الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مناسكهم، أو لعلو الناس على جبالها، لأن ما علا عرفة وعرفات، ومنه عرف الديك. {الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} سمي به لأن الدعاء فيه والمقام من معالم الحج.(1/201)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
199 - {أفاض الناس} إبراهيم عليه الصلاة والسلام - عبّر عن الواحد بلفظ الجمع، كقوله {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نُعيم بن مسعود، أو أمر قريشا أن يفيضوا / من حيث أفاض الناس وهم العرب - كانوا يقفون بعرفة، لأن قريشاً كانوا يقفون بمزدلفة، ويقولون نحن أهل الحرم فلا نخرج منه فنزلت {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} من ذنوبكم، أو من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة.(1/201)
{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكراً فمن الناس من يقول ربنآ ءاتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنآ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (203) }(1/202)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
200 - {مَّنَاسِكَكُمْ} الذبائح، أو ما أُمرتم به في الحج، والمناسك المتعبدات. {فاذْكُرُواْ اللَّهَ} بالتكبير أيام منى، أو بجميع ما سُّن من الأدعية بمواطن الحج كلها. {كذكركم آباءكم} كانوا إذا فرغوا من الحج جلسوا بمنى وافتخروا بمناقب آباءهم فنزلت، أو كذكر: الصغير لأبيه إذا قال: يا بابا، أو كان أحدهم يقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال فاعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه.(1/202)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
201 - {حسنة} العافية في الدنيا والآخرة، أو نعيمهما قاله: الأكثر، أو المال في الدنيا والجنة في الآخرة، أو العلم والعمل في الدنيا والجنة في الآخرة. {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجَّل في يومين فلآ إثم عليه ومن تأخَّر فلآ إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموآ أنكم إليه تحشرون (203) }(1/202)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
203 - {مَّعْدُودَاتٍ} أيام منى إجماعاً وإن شرك بعضهم بين بعضا وبين الأيام المعلومات. {تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ} النَّفر الأول. {وَمَن تَأَخَّرَ} النَّفر الثاني. {فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ} في تعجله ولا تأخره، أو يغفر لكل واحد منهما، أو لا إثم عليه إن أتقى فيما بقي من عمره، أو لا إثم عليه إن اتقى قتل الصيد في الثالث من أيام التشريق، أو إن اتقى ما نُهِي عنه غُفر له ما تقدم من ذنبه.(1/202)
{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} بالتكبير في الأيام المعدودات من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق، أو من الفجر يوم عرفة إلى العصر يوم النحر، أو من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق، أو بعد صلاة الصبح من آخر التشريق. {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام (204) وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207) }(1/203)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
204 - {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} من الجميل والخير، أو من حب الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في دينه. {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ} يقول اللهم اشهد عليَّ به، أو في قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه، أو يستشهد الله على صحة ما في قلبه والله يعلم أنه بخلافه. {أَلَدُّ} الألد: الشديد الخصومة. {الْخِصَامِ} مصدر، أو جمع خصيم أي ذو جدال، أو كذاب، أو شديد القسوة في المعصية، أو غير مستقيم الخصومة. نزلت في الأخنس بن شَرِيق، أو هي صفة للمنافقين.(1/203)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
205 - {تَوَلَّى} تصرف، أو غضب. {لِيُفْسِدَ فِيهَا} بالكفر، أو الظلم. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} بالقتل والسبي، أو بالإضلال المفضي إلى القتل والسبي.(1/204)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
206 - {أَخَذتْهُ الْعِزَّةُ} دعته إلى فعل الإثم، أو يعز نفسه أن يقولها للإثم المانع منها.(1/204)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
207 - {يَشْرِى} يبتع، نزلت فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر فقتل أو في صهيب اشترى نفسه من المشركين بجميع ماله ولحق بالمسلمين، وقال / الحسن: العمل الذي باع به نفسه الجهاد. {يآ أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين (208) فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيزٌ حكيم (209) هل ينظرون إلآ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملآئكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور (210) } .(1/204)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
208 - {السِّلْمِ} والسَّلم واحد أو بالكسر الإسلام، وبالفتح المسالمة. ادخلوا في الإسلام، أو الطاعة. {كَآفَّةً} عائد إلى الطاعة، أو إلى تأكد الداخل فيها. {مبين} أبان عدواته بامتناعه من السجود، أو بقوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] أُمر بها المسلمون أن يدخلوا في شرائع الإسلام كلها، أو في أهل الكتاب آمنوا بمن سلف من الأنبياء، فأُمروا بالدخول في الإسلام، أو نزلت في ابن سلام وجماعة من اليهود لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم " السبت يوم كنا نعظمه ونسيت فيه، والتوراة كتاب الله - تعالى - فدعنا فلنقم بها بالليل ".(1/205)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
209 - {زَلَلْتُم} عصيتم أو كفرتم، أو ضللتم. {الْبَيِّنَاتِ} القرآن أو الحجج، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو الإسلام.(1/205)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
210 - {في ظلل} بظلل، أو أمر الله تعالى في ظلل. {سَلْ بَنِى إِسْرَآءِيلَ كم ءاتيناهم من ءاية بينة ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جآءته فإنَّ الله شديد العقاب (211) زيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين(1/205)
اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشآء بغير حساب (212) }(1/206)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
211 - {سل بني إسرائيل} توبيخاً لهم، أراد علماءهم، أو أنبياءهم، أو جميعهم. {آية بَيِّنَةٍ} فلق البحر، وتظليل الغمام وغيرهما. {نِعْمَةَ الله} العلم / برسوله صلى الله عليه وسلم.(1/206)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
212 - {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} زينها الله بخلق الشهوات فيها، أو زينها الشيطان، أو المُغوي من الثقلين. {وَيَسْخَرُونَ} من ضعفاء المسلمين، يوهمونهم أنهم على حق، والمراد بذلك علماء اليهود، أو مشركو العرب. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ} فوق الكفار. {بِغَيْرِ حِسَابٍ} عبّر بذلك عن سعة ملكه الذي لا يفنيه عطاء ولا يقدر بحساب، أو هو دائم لا يفنى، أو رزق الدنيا بغير حساب لأنه يعم المؤمن والكافر، ولا يُعطى المؤمن على قدر إيمانه، أو رزق المؤمن في الآخرة لا يحاسب عليه، أو التفضل بغير حساب، والجزاء بالحساب، أو كفايتهم بغير حساب ولا تضييق. {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوافيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جآءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألآ إن نصر الله قريب (214) }(1/206)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
213 - {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الكفر، أو على الحق، أو آدم - عليه الصلاة والسلام - كان إمام ذريته فبعث الله - تعالى - النبيين في ولده. أو يوم الذر لما خرجوا من صلب آدم أقروا بالعبودية ثم اختلفوا، وهم عشرة قرون كانوا بين آدم ونوح على الحق ثم اختلفوا.(1/206)
{يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليم (215) }(1/207)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
215 - {مَاذَا يُنفِقُونَ} سألوا عن أموالهم اين يضعونها فنزلت أو نزلت في إيجاب نفقة الأهل والصدقة ثم نسخت بالزكاة. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216) }(1/207)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
216 - {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أراد به الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - خاصة، أو الناس عامة إلى حصول الكفاية، أو هو فرض متعين على كل مسلم أبداً، قاله ابن المسيب. {كُرْهٌ لَّكُمْ} الكُره: إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد، والكَره: إدخال المشقة بإكراه غيره، كره: ذو كره، أو مكروه لكم فأقام المصدر مقامه. مكروه قبل الأمر به وأما بعده فلا، أو كره / في الطباع قبل الأمر وبعده. {وَعَسَى} بمعنى " قد "، أو طمع المشفق مع دخول الشك، {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} من القتال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} بالظفر والغنيمة والأجر والثواب، {وَعَسَى أَن تُحِبًّواْ شَيْئاً} من [ترك] القتال، {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} بظهور عدوكم، ونقصان أجوركم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} مصلحتكم، {وأنتم لا تعلمون} .(1/207)
{يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218) }(1/208)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
217 - {يسألونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} خرج عبد الله بن جحش بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر فلقوا ابن الحضرمي في عِير فَقُتل ابنُ الحضرمي وأسروا آخر، وغنموا العير، وذلك أول ليلة من رجب، فلامه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فنزلت فسأله المشركون عن ذلك ليعيّروه ويستحلوا قتاله فيه، قاله الأكثرون. أو سأله المسلمون ليعرفوا حكمه، سألوا عن القتال في الشهر(1/208)
الحرام، فأخبرهم أن الصد عن سبيله وإخراج أهل الحرم والفتنة أكبر من القتل في الشهر، أو سألوا عن القتل في الحرم والشهر الحرام فأخبرهم بأن الصد والإخراج والفتنة أكبر من القتل في الحرم والشهر الحرام. وتحريم ذلك محكم عند عطاء، منسوخ على الأصح، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيفاً، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس في بعض الأشهر الحرم، وبايع على قتال قريش بيعة الرضوان في ذي القعدة. {حَبِطَتْ} أصل الحبوط: الفساد، فإذا بطل العمل قيل حبط لفساده.(1/209)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
218 - {إن الذين آمنوا} قال قوم من المسلمين في سرية أبن جحش: " إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم في سفرهم أجر "، فنزلت {هَاجَرُواْ} دورهم كراهة المقام مع المشركين. {وَجَاهَدُواْ} جهد فلاناً كذا: إذا أكربه وشق عليه {سَبِيلِ اللَّهِ} طريقه وهي دينه. {يرجون رحمة اللَّهِ} إنما رجوها لأنهم لا يدرون الخواتيم، أو لأنهم لم يتيقنوا آداء كل ما وجب عليهم. {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219) في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شآء الله لأعنتكم إن الله عزيزٌ حكيمٌ (220) }(1/210)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
219 - {يسألونك عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الخمر: ما خامر العقل فيستره، والميسر: القمار. {إِثْمٌ كَبِيرٌ} سكر الشارب وإيذاؤه الناس؛ وإثم الميسر بالظلم ومنع الحق، أو إثم الخمر: زوال العقل حتى لا يعرف خالقه، وإثم الميسر: صده عن ذكر الله وعن الصلاة، وإيقاع العداوة والبغضاء. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} منافع أثمانها، وربح تجارتها، والالتذاذ بشربها.
(ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأُسداً ما ينهنهنا اللقاء)(1/210)
ومنافع الميسر: كسب المال بغير كد، أو ما كانوا يصيبون به من أنصباء الجزور. {وَإِثْمُهُمَآ} بعد التحريم {أُكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قبل التحريم، أو كلاهما قبل التحريم. {الْعَفْوَ) ما فضل عن الأهل، أو ما لا يبين على من أنفقه / أو تصدق به، أو الوسط من غير إسراف ولا إقتار، أو أخذ ما آتوه من قليل أو كثير، أو الصدقة عن ظهر غنى، أو الصدقة المفروضة، وهي محكمة، أو نُسخت بالزكاة، وحُرمت الخمر بهذه الآية، أو بآية " المائدة " على قول الأكثر.(1/211)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
220 - {ويسألونك عَنِ الْيَتَامَى} لما نزل {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأسراء: 34] و {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] تحرجوا من خلط طعامهم بأطعمة اليتامى فعزلوا أطعمة اليتامى حتى ربما فسدت عليهم، فنزلت {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} في الطعام والشراب، والسكنى، والدابة، واستخدام العبيد. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} الذي يخلط ماله بمال اليتيم، ليفسد مال اليتيم. والمصلح: الذي يريد بذلك إصلاح مال اليتيم. {لأَعْنَتَكُمْ} لشدد عليكم، أو يجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً {عَزيزٌ} في سلطانه قادر على الإعنات. {حَكِيمٌ} في تدبيره بترك الإعنات. {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا(1/211)
تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبيّن ءاياته للناس لعلهم يتذكرون (221) }(1/212)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
221 - {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} محكم في كل مشركة كتابية، أو غير كتابية، أو خُصِّصَ منه أهل الكتاب، أو كانت عامة في كل مشركة فنسخ منها أهل الكتاب، ومراده التزويج، والنكاح: حقيقة في العقد مجاز في الوطء. {مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن) {حرة} (مُّشْرِكَةٍ} وإن شرف نسبها، أو نزلت في عبد الله ابن رواحة، كانت له أَمَة، فخطب عليه حرة مشركة شريفة فلم يتزوجها فأعتق(1/212)
أمته وتزوجها، فطعن عليه ناس من المسلمين فنزلت {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} بجمالها وحسبها ومالها. {وَلا تنكحوا المشركين} هذا على عمومه إجماعاً. {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدِّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223) }(1/213)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
222 - {ويسألونك عَنِ الْمَحِيضِ} كانوا يجتنبون مساكنة الحائض والأكل والشرب معها، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت، أو سأله ثابت بن الدحداح(1/213)
الأنصاري، أو كانوا يعتزلون الوطء في الفرج ويأتونهن في أدبارهن مدة الحيض فنزلت، قاله مجاهد: {أَذىً} بِنَتَنِه وقذره ونجاسته. {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ} فلا تباشروهن بشيء من أبدانكم، أو ما بين السرة والركبة، أو الفرج وحده. {يَطْهُرْنَ} ينقطع دمهن. {تَطَهَّرْنَ} اغتسلن بالماء: بالوضوء وبالغسل، أو بغسل الفرج وحده. {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} في القُبُل، أو بالنكاح دون السفاح، أو من قُبُل الطهر لا من قُبُل الحيض، أو لا تقربوها صائمة ولا(1/214)
محرمة ولا معتكفة {الْمُتَطَهِّرينَ} بالماء، أو من أدبار النساء، أو من الذنوب بالتوبة.(1/215)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
223 - {حَرْثٌ لَّكُمْ} مزدرع لنسلكم {أَنَّى شِئْتُمْ} زعمت اليهود أن من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأكذبهم الله / تعالى بقوله {أَنَّى شِئْتُمْ} أو كيف شئتم عازلين أو غير عازلين، أو حيث شئتم من قُبُل أو دُبُر روي ذلك عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - وبه قال ابن أبي مليكة،(1/215)
ويروى عن مالك - رحمه الله تعالى - وقد أُنكرت هذه عن ابن عمر، أو من أي وجه شئتم من دبرها في قبلها، أو من قبلها،
أو قال بعض الصحابة:(1/216)
إني لآتي امرأتي مضطجعة، وقال آخر: إني لآتيها قائمة، وقال آخر: إني لآتيها على جنبها، وقال آخر: إني لآتيها باركة، فقال يهودي بقربهم: ما أنتم إلا أمثال البهائم، ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة فنزلت ... . {وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ} الخير، أو ذكر الله - تعالى - عند الجماع قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفورٌ حليم (225) }(1/217)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
224 - {عُرْضَةً} من القوة والشدة، فالعرضة أن يحلف في كل حق وباطل فيبتذل اسم الله - تعالى - ويجعله عرضة، أو العرضة: علة يعتل بها فيمتنع من فعل الخير، والإصلاح معتلاً بأن حلفت، أو يحلف في الحال فيعتل بيمينه في ترك الخير أو يحلف ليفعلن البر والخير فيقصد بفعله برّ يمينه دون الرغبة في فعل الخير. {أَن تَبَرُّواْ} في أيمانكم، أو تبروا أرحامكم {وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} . {سَمِيعٌ} لأيمانكم {عَلِيمٌ} باعتقادكم.(1/217)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
225 - {بِاللَّغْوِ} كل كلام مذموم، لغا فلان: قال قبيحاً، فلغو اليمين: ما سبق إليه اللسان من غير قصد، كلا والله، وبلى والله، مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يتناضلون فرمى رجل فقال: اصبت والله، أخطأت والله، فقال رجل مع الرسول صلى الله عليه وسلم حنث الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " كلا إن أيمان الرماة [لغو] لا كفارة ولا عقوبة " أو الحلف على شيء ظاناً ثم تبين بخلافه، أو الحلف في حال(1/217)
الغضب من غير عقد ولا عزم بل صلة في الكلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يمين في غضب "، أو الحلف على معصية فلا يؤاخذ بترك المعصية ويكفِّر، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم " من حلف على معصية فلا يمين له " أو دعاء الحالف على نفسه، كقوله " إن لم أفعل فأعمى الله بصري، او أخرجني من مالي، أو أنا كافر بالله، قاله زيد بن أسلم " أو اللغو: الأيمان المكفَّرة، أو ما حنث فيه ناسياً {كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} عمدتم، أو الحلف كاذباً، أو على باطل، أو اعتقاد الشرك بالله - تعالى - والكفر، عند زيد بن أسلم. {غَفُورٌ} للغو {حَلِيمٌ} بترك معاجلة العصاة.(1/218)
{للذين يؤلون من نسآءهم تربص أربعة أشهر فإن فآءو فإن الله غفورٌ رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميعٌ عليم (227) }(1/219)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
226 - {يُؤْلُونَ} يقسمون، والأليَّة: القسم، يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم فترك لدلالة الكلام عليه، ويختص باليمين بالله - تعالى -، أو يعم في كل ما يُلزم الحانث ما لم يكن يلزمه. يختص بالجماع وبحال الغضب وقصد الإضرار ولا يجري / في حال الرضا وبغير قصد الإضرار، أو يعم الأحوال إذا حلف على الجماع، أو يعم فيما يسوء به زوجته من جماع أو غيره، كقوله: لأسوأنك أو لأغيظنك، قاله الشعبي وابن المسيب والحكم. {فاءوا} رجعوا إلى الجماع، أو الجماع لغير المعذور، والفيئة باللسان للمعذور، أو الفيئة باللسان وحده عند من جعله عاماً في غير الجماع. {غَفُورٌ} بإسقاط الكفارة، أو بإسقاط الإثم دون الكفارة.(1/219)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
227 - {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ} بأن لا يطلقوا حتى تمضي الأشهر الأربعة فتطلق بائنة، أو رجعية، أو يوقف بعد مضي الأشهر، فإن فاء وإلا طلق قاله: اثنا عشر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، أو الإيلاء ليس بشيء قاله ابن المسيب: {سَمِيعٌ} لإيلائه، أو لطلاقه، {عَلِيمٌ} بنيته، أو بضره. {وَالْمُطَلَّقَاتُ يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في(1/219)
أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228) }(1/220)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
228 - {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الطلاق: التخلية، النعجة المهملة بغير راعٍ طالق وبه سميت المرأة. {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} مدة ثلاثة قروء، وهي الحيض، أو الأطهار، أخذ من الاجتماع، لاجتماع الدم في الرحم عند من رآها الحيض، أو لاجتماعه في البدن عند من رأها الأطهار، قرأ الطعام في شدقه والماء في حوضه جمعهما، أو القَرء: الوقت لمجىء ما يعتاد مجيئه، أو لإدباره، أقرأ النجم جاء وقت طلوعه أو أفوله. قال:
(إذا ما الثريا وقد أقرأت ... أحس السِّما كان منها أفولاً)
( ... هبت لقارئها الرياح)
فالقرء: وقت لخروج الدم، أو لاحتباسه. {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} الحيض أو الحمل، أو كلاهما، توعدها لأنها تمنع بالكتمان رجعة الزوج، أو لإلحاق نسب الولد بغيره كفِعل الجاهلية. {بعولتهن} سموا بذلك لعلوهم عليهن، بعلا: ربًّا، لعلوه بالربوبية. {بِرَدِّهِنَّ} برجعهن. {وَلَهُنَّ} من حسن الصحبة مثل الذي للرجال عليهن من حسن الصحبة، أو لهن على الأزواج من(1/220)
التصنع مثل ما لأزواجهن عليهن قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو لهن من ترك المضارة مثل ما عليهن. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} بالميراث والجهاد، أو بالإمرة والطاعة، أو إعطاء الصداق والملاعنة إذا قذفها، أو بالإفضال عليها وأداء حقها والصفح عن حقوقه عليها، أو بأن جعل له لحية قاله حميد. {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ ءاتيتموهن شيئاً إلآ أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) }(1/221)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
229 - {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قرء طلقة، أو بيان لعدد ما ثبت فيه الرجعة، ولتقديره بالثلاث كان أحدهم يطلق ما شاء ثم يراجع، فأراد رجل المضارة بزوجته / بطلاقها ثم ارتجاعها كلما قرب انقضاء عدتها ولا يقربها فشكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ... ... .(1/221)
{فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} الرجعة بعد الثانية، والتسريح بالإحسان الطلقة الثالثة. قيل للرسول صلى الله عليه وسلم الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: " إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان "، أو التسريح بإحسان: ترك الرجعة حتى تنقضي العدة، والإحسان: أداء حقها وكف الأذى عنها. {يَخَافَآ} يظنا. {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بظهور نشوزها وسوء الخلق، أو لا تطيع أمره ولا تبر قسمه، أو تصرح بكراهتها له، أو يكره كل واحد منهما صاحبه فلا يؤدي حقه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " المختلعات هن المنافقات " وهي التي تختلع لميلها إلى غير زوجها. {ما افْتَدَتْ بِهِ} من(1/222)
الصداق من غير زيادة، أو يجوز أن تفتدي بالصداق وبجميع مالها. وجواز الخلع محكم عند الجمهور، ومنسوخ عند بكر بن عبد الله. بقوله - تعالى -: {وآتيتم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] .(1/223)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
230 - {فَإِن طَلَّقَهَا} الثالثة، أو هو تفسير لقوله - تعالى - {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} {تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} الدخول شرط عند الجمهور خلافاً لابن المسيب. {وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا ءايات الله هزواً واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231) }(1/223)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
231 - {بلغن أَجَلهُنَّ} قاربن انقضاء العدة، بلغ البلد إذا قاربه {فَأَمْسِكُوهُنَ} ارتجعوهن. {سَرِّحُوهُنَّ} بتركهن حتى تنقضي العدة {ولا(1/223)
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} بالارتجاع كلما طلق ليطول العدة، {ولا تتخذوا آيات اللَّهِ هُزُوًا} كان أحدهم يطلق، أو يعتق ثم يقول " كنت لاعباً "
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم من طلق لاعباً، أو أعتق لاعباً فقد جاز عليه "، ونزلت {ولا تتخذوا) {} (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذالكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232) }(1/224)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
232 - {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بانقضاء العدة. {تَعْضُلُوهُنَّ} العضل المنع، داء عضال: ممتنع أن يداوي، فلان عضلة: داهية، لامتناعه بدهائه، أو العضل: التضييق، أعضل بالجيش الفضاء،
وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: " أعضل رأيي في أهل العراق لا يرضون عن والٍ ولا يرضى عنهم والٍ ". نزلت في معقل بن يسار لما طُلقت أخته، رغب مطلقها في نكاحها فعضلها، أو(1/224)
نزلت في جابر بن عبد الله طُلقت بنت عم له ثم رغب زوجها في نكاحها فعضلها، أو تعم كل ولي عاضل. {تَرَاضَواْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} بالزوج الكافي، أو بالمهر. {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموآ أن الله بما تعملون بصير (233) }(1/225)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
233 - {حَوْلَيْنِ} من حال الشيء إذا انقلب، لانقلابه عن الوقت الأول واستحالة الكلام انقلابه عن الصواب، أو من التحول عن المكان، لانتقاله من الزمن الأول. {كَامِلَيْنِ} قيدهما بالكمال، لأنهم يطلقون الحولين / يريدون(1/225)
أحدهما وبعض الآخر، ومنه {فَمَن تَعَجَّلَ فَي يومين} [203] ، أَمرٌ بإكمالها لمن كان حملها ستة أشهر لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ، فإن كان حملها تسعاً أرضعت إحدى وعشرين شهراً، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أو هو عام في كل مولود طالت مدة حمله، أو قصرت. {الْمَوْلُودِ لَهُ} الأب، عليه رزق الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها ومؤنتها {بِالْمَعْرُوفِ} بأجرة مثلها، أو رزق الأم المنكوحة وكسوتها بالمعروف لمثلها على مثله من يسار، أو إعسار. {لا تُضَآرَّ وَالدِةٌ} لا تمتنع من الإرضاع إضراراً بالأب عند الجمهور، أو الوالدة هي الظئر، ولا ينتزع الأب المولود له الولد من أمه إضراراً {وَعَلَى الْوَارِثِ} وهو المولود، أو الباقي من أبويه بعد موت الآخر، أو وارث الوالد، أو وارث الابن من عصبته كالعم وابنه، والأخ وابنه دون الوارث من النساء، أو ذوي الرحم المَحْرم من الورثة، أو الأجداد ثم الأمهات. {مِثْلُ ذَلِكَ} ما كان على الأب من أجرة رضاعه ونفقته، أو من أن لا تضار والدة بولدها {فِصَالاً} فطاماً بفصل الولد من ثدي أمه، فاصلت: فلاناً فارقته [ {وَتَشَاوُرٍ} ] التشاور: استخراج الرأي بالمشاورة. والفصال بالتراضي قبل الحولين، أو قبلهما وبعدهما. {تَسْتَرْضِعُواْ} لأولادكم بحذف [اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون إلا للولد] وهذا عند امتناع الأم من رضاعه {سَلَّمْتُم} إلى الأمهات أجر رضاعهن قبل امتناعهن، أو سلمتم الأولاد إلى المرضعة يرضى الأبوين، أو سلمتم إلى الظئر أجرها. {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملونه خبير (234) }(1/226)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
234 - {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} زيدت العشر لأن الروح تنفخ فيها قاله ابن(1/226)
المسيب، وأبو العالية، وفي وجوب الإحداد فيها قولان: قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس لما أصيب جعفر بن أبي طالب: " تسلبي ثلاثاُ ثم أصنعي ما شئت " {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} أي في تزوجكم بهن، أو(1/227)
سقط عنكم الإنكار عليهن إذا تزوجن بعد الأجل. {بِالْمَعْرُوفِ} بالنكاح المباح، أو بالطيب والزينة والانتقال من المسكن نَسخت هذه لقوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ} [240] وتقدم الناسخ على المنسوخ، لأن القارئ إذا وصل إلى الناسخ واقتصر عليه أجزأه. {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراً إلآ أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموآ أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفورٌ حليم (235) }(1/228)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
235 - {عَرَّضْتُم} الإشارة بالكلام إلى ما ليس له فيه ذكر، كقوله ما عليكِ أيمة، ورغب راغب فيك، ولعل الله أن يسوق إليكِ خيراً {خِطْبَةِ} طلب النكاح، والخُطْبة: الكلام الذي يتضمن الوعظ الإبلاغ {أكننتم} سترتم.(1/228)
{سِرّاً} زنا، أو الجماع، أو قوله: " لا تفوتيني نفسك " / أو نكاحها في العدة سِراً، أو أخذه ميثاقها أن لا تنكح غيره. {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} هو التعريض. {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ} على عقدة يريد التصريح {الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فرض الكتاب، أو أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب الدين. {لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلآ أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237) }(1/229)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
236 - {أَوْ تَفْرِضُواْ} بمعنى " ولم تفرضوا " أو " فرضتم أو لم تفرضوا " فحذف فرضتم. {فَرِيضَةً} صداقاً، سمي بذلك، لأنه أوجبه على نفسه، وأصل الفرض الواجب {وَمَتِّعُوهُنَّ} بمال ينتفعن به بقدر نصف صداق المثل، أو يقدرها الحاكم باجتهاده، أو خادم ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة وهي(1/229)
واجبة لكل مطلقة، أو لغير المدخول بها إذا لم يسمِّ لها صداقاً، أو لكل مطلقة إلا غير المدخول بها، أو هي مندوب إليها.(1/230)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
237 - {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فلكم استرجاعه، أو فهو لهن ليس عليكم غيره. {إِلآ أَن يَعْفُونَ} ليكون مرغباً للأزواج في خطبتها. {الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِكَاحِ} الولي، أو الزوج، أو أبو البكر. {وَأَن تَعْفُواْ} أيها الأزواج أو الأزواج والزوجات. {لِلتَّقْوَى} إلى اتقاء المعاصي، أو إلى أن يتقي كل واحد منهما ظلم الآخر. {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239) }(1/230)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
238 - {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} بذكرها، أو تعجيلها. {الْوُسْطَى} خُصت بالذكر لانفرادها بالفضل، وهي العصر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " حبسونا عن الصلاة الوسطى. صلاة العصر "، أو الظهر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصليها.(1/230)
بالهاجرة فلم يكن على الصحابة أشد منها فنزلت، لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين، أو المغرب لتوسط عددها، وأنها لا تقصر، أو الصبح، لقوله - تعالى - {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} ولا قنوت في غيرها، أو هي مبهمة في الخمس غير معينة ليكون أبلغ في المحافظة على جميعها {قَانِتِينَ} القنوت من الدوام على أمر واحد، أو من الطاعة، أو من الدعاء يريد طائعين، أو ساكتين عن منهي الكلام، أو خاشعين عن العبث والتلفت، أو داعين، أو طول القيام، أو القراءة.(1/231)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
239 - {رجالا} جمع راجل كقائم وقيام، ولا يغير الخوف عدد الصلاة عند الجمهور، وقال الحسن: " صلاة الخوف ركعة " وفي وجوب قضائها مذهبان {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} فصلوا كما علمكم، أو فاذكروه بحمده، والثناء عليه {كَمَا عَلَّمَكُم} من أمر دينكم {ما لم تكونوا تعلمون} . {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240) وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين (241) كذلك بين الله لكم ءاياته لعلكم تعقلون (242) }(1/231)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
240 - {وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ} نسخت الوصية بآية المواريث، والحول بأربعة(1/231)
أشهر وعشر.(1/232)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
241 - {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعُ} كل مطلقة، أو الثيب المجامعة، أو لما نزل {حقا على المحسنين} [236] قال رجل: " إن أحسنت فعلت / وإن لم أرَ ذلك لم أفعل فنزل {حَقّاً عَلَى المتقين} وخصوا بالذكر تشريفا. {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245) }(1/232)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
243 - {أُلوُفٌ} مؤتلفو القلوب، أو ألوف في عددهم أربعة آلاف أو ثمانية آلاف أو بضعة وثلاثون ألفاً، أو أربعون ألفاً، والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف. {حَذَرَ الْمَوْتِ} فروا من الجهاد، أو من الطاعون إلى أرض لا طاعون بها فلما خرجوا ماتوا، فمر بهم نبي فدعا أن يُحيوا فأُجيب. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ} عبّر عن الإماتة بالقول، كما يقال: قالت السماء فمطرت، أو قال قولاً سمعته الملائكة، وإحياؤهم معجزة لذلك النبي.(1/232)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
245 - {قَرْضاً حَسَناً} في الجهاد، أو أبواب البر. {أَضْعَافًا كَثِيرةً} سبعمائة ضعف، أو ما لا يعلمه إلا الله. {يقبض ويبسط} في الرزق، أو(1/232)
{يقبض} الصدقات {ويبسط} الجزاء. {ألم تر إلى الملإ من بني إسرآءيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا فلما كتب عليهم القتال تولّوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين (246) }(1/233)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
246 - {الْمَلإِ} الأشراف. {لِنَبِىٍّ لَّهُمُ} سمويل، أو يوشع بن نون، أو سمعون، سمته أمه بذلك لأن الله - تعالى - سمع دعاءها فيه، طلبوا ذلك لقتال العمالقة، أو الجبارين الذين استذلوهم. {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من(1/233)
يشآء والله واسع عليم (247) }(1/234)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
247 - {طَالُوتَ} لم يكن من سبط النبوة ولا المملكة. {بَسْطَةً} زيادة في العلم، وعظماً في الجسم، كانا قبل الملك، أو زاده ذلك بعد الملك. {وَاسِعٌ} الفضل، أو موسع على خلقه، أو ذو سعة. {وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون تحمله الملآئكة إن في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين (248) }(1/234)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
248 - {سكينة} ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، أو طست ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، أو روح من الله تتكلم، أو ما تعرفونه من الآيات فتسكنون إليه، أو الرحمة، أو الوقار. {وبقية} عصا موسى عليه الصلاة والسلام، ورضاض الألواح، أو العلم، أو التوراة، أو الجهاد في سبيل الله - تعالى -، أو التوراة وشيء من ثياب موسى عليه الصلاة والسلام، كان قدر(1/234)
التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} بين السماء والأرض يرونه عياناً، ويقال نزل آدم - عليه الصلاة والسلام - بالتابوت والركن. وكان التابوت بأيدي العمالقة غلبوا عليه بني إسرائيل، أو كان ببرية التيه خلفه بها يُوشع بن نون، وقيل إن التابوت وعصا موسى - عليه الصلاة والسلام - في بحيرة الطبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلآ من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249) }(1/235)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
249 - {بِنَهَرْ} نهر بين الأردن وفلسطين، أو نهر فلسطين ابتلوا به لشكايتهم قلة الماء وخوف العطش. {مِنِّى} من أهل ولايتي. {غُرْفَةَ} الفعل والغُرفة اسم المغروف. {قَليلآً} ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر، ومن استكثر منه عطش. {جَاوَزَهُ} مع المؤمنين والكافرين ثم انخزلوا عن المؤمنين، وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت /، أو لم يجاوزه إلا مؤمن. {قَالُواْ لا طَاقَةَ} قاله الكفار المنخزلون، أو من قلّت نصرته من المؤمنين. {يَظُنُّونَ} يوقنون، أو يتوقعون {أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللَّهِ}(1/235)
بالقتل في تلك الواقعة. {مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصر والمعونة. {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وءاتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251) تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252) تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253) يآ أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254) }(1/236)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
251 - {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} بنصر الله، أضاف الهزيمة إليهم تجوزاً لأنهم بالإلجاء إليها صاروا سبباً لها. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} رماه بحجر بين عينيه فخرج من قفاه فقتل جماعة من عسكره، وكان نبياً قبل قتله لوقوع هذا الخارق على يديه، أو لم يكن نبياً، لأنه لا يجوز أن يولى على النبي من ليس بنبي. {الْمُلْكَ} السلطان. {وَالْحِكْمَةَ} النبوة. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} قيل صنعة الدروع، والتقدير في السرد. {دفع الله} الهلاك عن البر بالفاجر، أو يدفع(1/236)
باللطف للمؤمن وبالرعب في قلب الكافر. {لَّفَسَدَتِ الأرض} لعم فسادها. {الله لآ إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شآء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255) }(1/237)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
255 - {الْحَىُّ} ذو الحياة، أو تسمى به لتصريفه الأمور وتقديره الأشياء، أو اسم تسمى به فيقبل تسليماً لأمره. {الْقَيُّومُ} القائم بتدبير الخلق، أو القائم على كل نفس بما كسبت فيجزيها بما علمه منها، أو القائم الموجود، أو العالم بالأمور، قام فلان بالكتاب إذا كان عالماً به، أو أخذ من الاستقامة. {سِنَةٌ} نعاس، والنعاس ما كان في العين، فإذا صار في القلب صار نوماً. {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة. {كُرْسِيُّهُ} علمه، أو العرش، أو سرير دون العرش، أو موضع القدمين، أو الملك، وأصل الكرسي: العلم ومنه الكراسة، والعلماء كراسٍ، لأنه يُعْتَمد عليهم كما قيل: أوتاد الأرض. {ولا يؤوده} لا يثقله إجماعاً، والضمير عائد إلى الله تعالى أو إلى الكرسي. {الْعَلِىُّ} بالاقتدار، ونفوذ السلطان، أو العلي: عن الأشباه والأمثال. {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256) }(1/237)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
256 - {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في الكتابي إذا بذل الجزية، أو نسخت(1/237)
بفرض القتال، أو كانت المقلاة - من الأنصار - تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده رجاءً لطول عمره، وذلك قبل الإسلام، فلما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير وفيهم أولاد الأنصار، قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {بِالطَّاغُوتِ} الشيطان، أو الساحر، أو الكاهن، أو الأصنام، أو مردة الإنس والجن، أو كل ذي طغيان على الله - تعالى - عبده مَنْ دُونه بقهر منه أو بطا [عة] إنساناً كان أو صنماً. {بِالْعُرْوَةِ} الإيمان بالله تعالى. {لا انفِصَامَ} لا انقطاع، أو لا انكسار، أصل الفصم الكسر. {الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257) }(1/238)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
257 - {مِّنَ الظُّلُمَاتِ} الضلالة إلى الهدى. {مِّنَ النُّورِ إِلى الظُّلُمَاتِ} / نزلت في مرتدين، أو في كافر أصلي، لأنهم بمنعهم من الإيمان كأنهم أخرجوهم منه. {ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن ءاتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من(1/238)
المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258) }(1/239)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
258 - {الذي حاج إبراهيم} - عليه الصلاة والسلام -: النمروذ بن كنعان أول من تجبر في الأرض وادعى الربوبية. {آتاه الله الملك} الضمير لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، أو لنمروذ. {أحيي وَأُمِيتُ} أترك من لزمه القتل، وأقتل بغير سبب يوجب القتل. عارض اللفظ بمثله، وعدل عن اختلاف الفعلين، فلذلك عدل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى حجة أخرى لظهور فساد ما عارض به، أو عدل عما شغب به إلى ما لا إشغاب فيه، استظهاراً عليه. {فَأًتِ بها من المغرب} لم يعارضه نمروذ بأن يأتي بها ربه، لأن [الله] خذله بالصَّرفة عن ذلك، أو علم أنه لو طلب ذلك لفعل لما رآه من الآيات فخاف ازدياد الفضيحة. {فَبُهِتَ} تحيّر، أو انقطع. {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259) }(1/239)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
259 - {كالذي مر} عزيز، أو أرميا، أو الخضر. {قَرْيَةٍ} بيت المقدس لما خربه بختنصر، أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت. {خَاوِيَةٌ} خراب، أو خالية من الخواء وهو الخلو، ومنه خوت الدار، والخواء الجوع(1/239)
لخلو البطن. {عروشها} العروش البناء. {يحيي هَذِهِ اللَّهُ} بالعمارة {بَعْدَ مَوْتِهَا} بالخراب. {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال ذلك، لأنه مات أول النهار، وعاش بعد المائة آخر النهار فقال: يوماً، ثم رأى بقية الشمس فقال: أو بعض يوم. {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يأتِ عليه السنون فيتغير، أو لم يتغير بالأسن. {ننشرها} نحييها، من نشر الثوب، لأن الميت كالثوب المطوي، لانقباضه عن التصرف فإذا عاش فقد انتشر بالتصرف. {نُنِشزُهَا} نرفع بعضها إلى بعض، النشز المكان المرتفع، نشزت المرأة لارتفاعها عن طاعة زوجها، قاله ملك، أو نبي، أو بعض المعمرين ممن شاهد موته وحياته. {وَإِذْ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله غزيز حكيم (260) }(1/240)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
260 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنىِ} لما حاجه نمروذ في الإحياء، أو رأى جيفة تمزقها السباع. {أو لم تُؤْمِن} ألف إيجاب.
(ألستم خير من ركب المطايا ... )(1/240)
{ليطمئه قلبي} بعلم المشاهدة بعد علم الاستدلال من غير شك. {أَرْبَعَةً} ديك، وطاووس، وغراب، وحمام. {صرهن} بالضم والكسر واحد ضمهن إليك، أو قطعهن فيتعلق إليك بخذ. {عَلَى كُلِّ جَبَلٍ} أربعة أجبال، أو سبعة، أو كل جبل. {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم (261) }(1/241)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
261 - {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الجهاد، أو أبواب البر كلها، فالنفقة في الجهاد بسبعمائة ضعف، وفي غيره بعشرة أمثاله، أو تجوز مضاعفتها / بسبعمائة. {وَاسِعٌ} لا يضيق عن الزيادة {عَلِيمٌ} بمستحقها، أو {وَاسِعٌ} الرحمة لا يضيق عن المضاعفة {عليم} بالنفقة. {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا مناً ولآ أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غني حليم (263) يآ أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264) }(1/241)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
262 - {مَنّاً} كقوله: أحسنت إليك ونعشتك. {أَذىً} كقوله: من أبلاني بك وأنت أبداً فقير. {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في ثواب الآخرة، أو من أهوالها.(1/241)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
263 - {قَوْلٌ مَّعْروفٌ} حسن {وَمَغْفِرَةٌ} وعفو عن أذى السائل، أو سلامة عن المعصية.(1/242)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
264 - {لا تُبْطِلُواْ} فضل صدقاتكم دون ثوابها، بخلاف المرائي فإنه لا ثواب له، لانه لم يقصد وجه الله تعالى. {صَفْوَانٍ} جمع صفوانة وهي حجر أملس. والوابل: المطر الشديد الواقع. والصلد: من الحجارة ما صلب، ومن الأرض: ما لم ينبت تشبيهاً بالحجر. {شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} أنفقوا، لما طلبوا بها الكسب سميت كسباً، وهو مثل المرائي في بطلان ثوابه، والمانِّ في بطلان فضله. {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فئاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265) }(1/242)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
265 - {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أين يضعون الصدقة، أو توطيناً لها بالثبوت على الطاعة، أو بقوة اليقين، ونصرة الدين. {بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع، نبتها أحسن، وريعها أكثر. {أُكُلَهَا} الأكل للطعام. {ضِعْفَيْنِ} مثلين، ضعف الشيء: مثله زائداً عليه، وضعفاه: مثلاه زائداً عليه عند الجمهور، أو ضعف الشيء: مثلاه. {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفآء فأصابهآ إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266) }(1/242)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
266 - {إِعْصَارٌ} ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، لأنها تلتف كالتفاف الثوب المعصور، وتسميها العامة " الزوبعة " قال:(1/242)
(إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ... )
مثل لانقطاع أجر المرائي عند حاجته، أو مثل للمفرط في الطاعة بملاذ الدنيا، أو للذي يختم عمله بفساد. قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {يآ أيها الذين ءامنوآ أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بئاخذيه إلآ أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (267) الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم (268) يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلآ أولوا الألباب (269) }(1/243)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
267 - {أنفقوا} الزكاة المفروضة، أو التطوع. {كَسَبْتُمْ} من الذهب والفضة، أو من التجارة. {أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} من الزروع والثمار {وَلا تَيَمَّمُواْ} الخليل: " أممته: قصدت أمامه، ويممته: تعمدته من أي جهة كان "، أو هما سواء. {الْخَبِيثَ} حشف كانوا يجعلونه في تمر الصدقة، أو الحرام، والخبيث: الرديء من كل شيء. {تُغْمِضُواْ} تتساهلوا، أو تحطوا في الثمن أو إلاَّ أن يُوكَسَ.(1/243)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
269 - {الْحِكْمَةَ} الفقه في القرآن، أو العلم بالدين، أو الفهم أو النبوة،(1/243)
أو الخشية، أو الإصابة، أو الكتابة. {ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير (271) }(1/244)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
271 - {فَنِعِمَّا هِىَ} ليس في إبدائها كراهة. {وَإِن تخفوا} صدقة التطوع، أو الفرض والتطوع. {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} من " زائدة " أو للتبعيض، لأن الطاعة بغير التوبة لا تكفر إلا الصغائر. {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوّف إليكم وأنتم لا تظلمون (272) للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274) }(1/244)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
273 - {لِلْفُقَرَآءِ} فقراء المهاجرين. {أُحْصِرُواْ} امتنعوا من المعاش خوف الكفار، أو منعهم الكفار بخوفهم منهم. {ضَرْباً} تصرفاً أو تجارة. {بِسِيمَاهُمْ} بخشوعهم، أو فقرهم، {إِلْحَافاً} / إلحاحاً في السؤال.(1/244)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
274 - {الذين ينفقون} نزلت في علي - رضي الله تعالى عنه - كان معه أربعة دنانير فأنفقها على هذا الوجه، أو في النفقة على خيل الجهاد، أو في كل نفقة طاعة. {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوآ إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276) إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277) }(1/245)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
275 - {يَأْكُلُونَ} يأخذون، عبّر به عن الأخذ، لانه الأغلب والربا: الزيادة على الدَّيْن لمكان الأجل، رَبَا السويق زاد. {لا يَقُومُونَ} من قبورهم يوم القيامة. {يَتَخَبَّطُهُ} يتخنقه الشيطان في الدنيا. {مِنَ الْمَسِّ} وهو الجنون، وذلك لغلبة السوداء، فنسب إلى الشيطان تشبيهاً بما يفعله من إغوائه به، أو هو فعل للشيطان، لجوازه عقلاً، وهو ظاهر القرآن. {إِنَّمَا الْبَيْعُ} قالته ثقيف، وكانوا من أكثر العرب رِباً. {مَا سَلَفَ} ما أَكل من الربا لا يلزمه رده.(1/245)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
276 - {يمحق الله الربا} ينقصه شيئاً بعد شيء، من محاق الشهر،(1/245)
لنقصان الهلال فيه. {وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ} يضاعف أجرها وعداً منه واجباً، أو ينمي المال الذي أخرجت منه {يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281) }(1/246)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
278 - {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ} نزلت في بقية من الربا للعباس ومسعود وعبد يا ليل وحبيب وربيعة. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} على ظاهره، أو من كان مؤمناً فهذا حكمه.(1/246)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
279 - {لا تَظْلِمُونَ} بأخذ زيادة على رأس المال. {وَلا تُظْلَمُونَ} بنقص رأس المال.(1/247)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
280 - {فَنَظِرَةٌ} يجب الإنظار في دَين الربا خاصة، أو في كل دَين، أو الإنظار في دَين الربا بالنص وفي غيره بالقياس. {مَيْسَرَةٍ} أن يوسر عند الأكثر، أو الموت - عند إبراهيم {وَأَن تَصَدَّقُواْ} على المعسر بالإبراء خير من الإنظار.(1/247)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
281 - {إِلَى اللَّهِ} إلى جزائه، أو ملكه. {مَّا كَسَبَتْ} من الأعمال، أو الثواب والعقاب. {لا يُظْلَمُونَ} بنقص ما يستحقونه من الثواب، ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب، هذه آخر آية نزلت، وقال ابن جريج: " مكث الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليال ". {يآ أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم(1/247)
كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تسئموآ أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذالكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلآ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282) }(1/248)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
282 - {تَدَايَنتُم} تجازيتم، أو تعاملتم، {فاكْتُبُوهُ} ندب، أو فرض. {فَلْيَكْتُبْ} فرض كفاية على الكاتب، أو واجب في حال فراغه، أو ندب، أو نُسِخَ بقوله - تعالى - {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ} {وَلا يَبْخَسْ) {لا ينقص} (سَفِيهاً} لا يعرف الصواب في إملاء ما عليه، أو الطفل، أو المرأة والصبي، أو المبذر لماله المفسد لدينه. {ضَعِيفاً} أحمق، أو عاجزاً عن الإملاء، لِعَيٍّ، أو خرس. {لايستطيع} لِعَيِّه وخرسه، أو لجنونه، أو لحبسه، أو غيبته. {وَلِيُّهُ} ولي الحق، أو ولي من عليه الدَّيْن. {وَاسْتَشْهِدُواْ} ندب، أو فرض كفاية. {تَرْضَوْنَ} الأحرار المسلمون العدول، أو المسلمون العدول وإن كانوا أرقاء. {فَتُذَكِّرَ} / من الذكر، أو بجعلها كَذَكَر من الرجال {دُعُواْ} لتحملها وكتابتها، أو لأدائها، أولهما وذلك ندب، أو(1/248)
فرض كفاية، أو فرض عين. {ولا تسأموا} لا تملوا {صَغِيراً} لا يراد به التافه الحقير كالدانق لخروجه عن العرف. {أَقْسَطُ} أعدل. {وَأَقْوَمُ} وأصح من الاستقامة. {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فرض، أو ندب. {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ} بأن يكتب ما لم يُمل عليه، ولا يشهد الشاهد بما لم يُستشهد، أو يمنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد، أو يدعيان وهما مشغولان. {فسوق} معصية، أو كذب. {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم (283) }(1/249)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
283 - { {آثم قَلْبُهُ} فاجر، أو مكتسب لإثم الكتمان. {لِّلَّهِ ما في السماوات وما في الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذّب من يشآء والله على كل شيء قدير (284) }(1/249)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
284 - {لله ما في السموات} له تدبير ذلك، أو ملكه. {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} كتمان الشهادة، أو ما حَدَّث به نفسه من سوء أو معصية، فنسخت بقوله تعالى {رَبَّنَا لا تؤاخذنا) {إلى} (الْكَافِرِينَ} ، أو هي محكمة فيؤاخذ الإنسان بما أضمره إلا أن [الله] يغفره للمؤمن فيؤاخذ به الكافر، أو هي عامة في المؤاخذة بما أضمره، أو هي عامة ومؤاخذة المسلم بمصائب الدنيا.(1/249)
{ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)(1/250)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
285 - {وكتابه} القرآن، أو جنس الكتب. {لا نُفَرّقُ} لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. {غُفْرَانَكَ} نسألك غفرانك، وإلى جزائك المصير.(1/250)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
286 - {وُسْعَهَا} طاقتها {كَسَبَتْ} من الحسنات {اكْتَسَبَتْ} من السيئات. {نَسِينَآ} أمرك أو تركناه {أَخْطَأْنَا} أصبنا من المعاصي بالشبهات، أو تعمدنا. {إِصْراً} عهداً نعجز عن القيام به، أو لا تمسخنا قردة وخنازير، أو أو الذنب الذي لا توبة له ولا كفارة، أو الثقل العظيم. {الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} بنو إسرائيل فيما حُمِّلوه من قتل أنفسهم. {لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من العذاب، أو مما كُلِّفته بنو إسرائيل. {مَوْلانَا} وليّنا وناصرنا.(1/250)
(سورة آل عمران)
(مدنية اتفاقا)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6)(1/251)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
3 - {بِالْحَقِّ) {بالصدق} (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يخبر عما قبله خبر صدق دال على إعجازه، أو يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به. {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9) }(1/251)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
37 - {مًّحْكَمَاتٌ} المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، أو(1/251)
المحكم: ما أحكم بيان حلاله وحرامه فلم يشتبه، والمتشابه: ما اشتبهت معانيه، أو المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه: ما احتمل أوجهاً، أو المحكم: ما لم يتكرر لفظه، المتشابه ما تكرر لفظه، أو المحكم: ما فهمه العلماء، والمتشابه ما لا طريق لهم إلى فهمه، كقيام الساعة، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وجعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر. / {أُمُّ الْكِتَابِ} آيات الفرائض والحدود، أو فواتح السور التي يستخرج منها القرآن. {زَيْغٌ} ميل عن الحق، أو شك. {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} الأجل الذي أرادت اليهود [أن] تعرفه من حساب الجُمَّل، أو معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته، أو نزلت في وفد نجران حاجوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسيح عليه الصلاة والسلام فقالوا للرسول: أليس هو كلمة الله - تعالى - وروحه، فقال: بلى، فقالوا: حسبنا. {الْفِتْنَةٍ} الشرك، أو اللبس، أو الشبهة التي حاج بها وفد نجران. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} تأويل جميع المتشابه، لأن في الناس من يعلم تأويل بعضه، أو يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد. {الراسخون} الثابتون العاملون. {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً واولئك هم وقود(1/252)
النار (10) كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بئاياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) }(1/253)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
11 - {كدأب آل فِرْعَوْنَ} كعادتهم في تكذيب الحق، أو في العقوبة على ذنوبهم. {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13) }(1/253)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
12 - {سَتُغْلَبُونَ} نزلت في قريش قبل بدر بسنة فأنجز الله - تعالى - وعده بمن قُتل ببدر، أو في يهود بني قينقاع لما حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما نزل بأهل بدر، قالوا: لسنا بقريش الأغمار، أو نزلت في عامة الكفار. {الْمِهَادُ} ما مهدوه لأنفسهم، أو القرار.(1/253)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
13 - {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ} المؤمنون ببدر. {وأخرى كافرة}(1/253)
قريش. {يَرَوْنَهُم} كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر، والكفار ألف، أو ما بين تسعمائة إلى ألف، فرأى المؤمنون الكافرين مثلي عدد المؤمنين تقوية من الله - لقلوبهم، أو رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم إضعافاً من الله - تعالى - لقلوبهم. {زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) }(1/254)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
14 - {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} حُسِّن. والشهوة: من خلق الله - تعالى - ضرورية لا يقدر العبد على دفعها، زينها الشيطان، لأن الله - تعالى - ذمها، أو زينها الرب بما جعله في الطبع من المنازعة إليها، أو زين الله - تعالى - ما حسن وزين الشيطان ما قبح. {القناطير} القنطار: ألف ومائتا أوقية وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الف دينار ومائتا دينار،
عن(1/254)
الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، أو اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، أو ثمانون ألفاً، من الدراهم، أو مائة رطل من الذهب، أو سبعون ألفاً، أو ملء مسك ثور ذهباً، أو المال الكثير. {الْمُقَنطَرَةِ} المقنطرة: المضاعفة، أو تسعة قناطر، أو المضروبة دراهم أو دنانير، أو المجعولة كذلك، لقولهم: " دراهم مدرهمة ". {الْمُسَوَّمَةِ} الراعية، أو الحسنة، أو المعلمة، أو المعدة للجهاد، أو من السيما مقصور وممدود. {وَالأَنْعَامِ} الإبل، والبقر / والغنم، ولا يفرد بعضها باسم النعم إلا الإبل. {والحرث} الزرع. {الذين يقولون ربنآ إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17) }(1/255)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
17 - {الصَّابِرِينَ} عن المعاصي، أو الصائمين. {وَالْقَانِتِينَ} المطيعون، أو القائمون على العبادة. {والمنفقين} في الجهاد، أو في جميع البر. {والمستغفرين} المصلون، أو سائلو المغفرة بقولهم، أو الذين يشهدون الصبح في جماعة، والسحر من الليل: قبل الفجر. {شَهِدَ الله أنه لآ إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قآئماً بالقسط لآ إله إلاّ هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بئايات الله فإن الله سريع(1/255)
الحساب (19) فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20) }(1/256)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
18 - {شَهِدَ اللَّهُ} أخبر، أو فعل ما يقوم مقام الشهادة. وشهادة الملائكة، وأولو العلم بما شاهدوه من دلائل الوحدانية {بِالْقِسْطِ} العدل.(1/256)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
19 - {الدِّينَ} هنا الطاعة أي طاعته هي الإسلام، من السلامة، لأنه يقود إليها، أو من التسليم، لأمره في العمل بطاعته. {الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود، أو النصارى، أو أهل الكتب كلها. {بَغْيَا} عدول عن الحق بغير عناد.(1/256)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
20 - {أَسْلَمْتُ} انقدت. {وَجْهِىَ} نفسي، انقدت بإخلاص التوحيد. {الأميين} الذين لا كتاب لهم، من الأمي الذي لا يكتب،
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - " هم مشركو العرب ". {أأسلمتم} أمر ليس باستفهام. {إن الذين يكفرون بئايات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22) }(1/256)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
21 - {يقتلون النبيين}
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عُبَّادهم(1/256)
فأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً آخر ذلك اليوم. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلآ أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25) }(1/257)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
23 - {نَصِيباً} حظاً، لأنهم لم يعلموا الكل. {إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} التوراة، أو القرآن لموافقته التوراة. {ليحكم بينهم} في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إن الإسلام دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو في حد من الحدود.(1/257)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
24 - {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} الأربعون التي عبدوا فيها العجل، أو سبعة أيام، أو أيام منقطعة لانقضاء العذاب فيها. {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أو قولهم: {لن تمسنا النار} . {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء(1/257)
وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشآء بغير حساب (27) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلآ أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28) قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير (29) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد (30) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32) }(1/258)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
26 - {مَالِكَ} مالك الدنيا والآخرة، أو مالك العباد وما ملكوه، أو مالك النبوة {تُؤْتِى الْمُلْكَ} النبوة، أو السلطان. دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجعل الله - تعالى - ملك فارس والروم في أمته فنزلت {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} خص بالذكر، لأنه المعروف من فعله.(1/258)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
27 - {تولج الليل فِى النَّهَارِ} تجعل كل واحد منهما بدلاًَ من الآخر، أو تدخل نقصان كل واحد منهما في زيادة الآخر. {وَتُخْرِجُ الْحَىَّ} الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، الميْت(1/258)
والميّت واحد، أو الميْت الذي مات وبالتشديد الذي لم يمت. {إن الله اصطفىءادم ونوحاً وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34) }(1/259)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
33 - {آل عِمْرَانَ} موسى وهارون، أو المسيح - عليهم الصلاة والسلام لأن أمه بنت عمران، اصطفاهم بالنبوة، أو بتفضيلهم على أهل زمانهم، أو باختيار دينهم لهم.(1/259)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
34 - {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} بالتناصر دون النسب، أو بالنسب، لأنهم من ذرية آدم ثم من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام -. {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) }(1/259)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
35 - {مُحَرَّرًا} مُخلَصاً للعبادة، أو خادماً للبيعة، أو عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله - تعالى -.(1/259)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
36 - {وَضَعْتُهَا أُنثَى} اعتذرت بذلك لعدوله عن نذرها. {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} إذ لا تصلح لخدمة بيت المقدس، ولصيانتها عن التبرج. {وَإِنِّى أُعِيذُهَا} من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود، أو من إغوائه {الرَّجِيمِ} المرجوم بالشهب. {فَتَقَبَّلَهَا ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلّها زكريا كلما دخل عليها زكريا(1/259)
المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب (37) }(1/260)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
37 - {فَتَقَبَّلَهَا} رضيها في النذر. {وَأَنبَتَهَا} أنشأها إنشاء حسناً في غذائها وحسن تربيتها. {الْمِحْرَابَ} أكرم موضع في المجلس. {رِزْقًا} فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، أو لم تُلقم ثدياً حتى تكلمت في المهد، وكان يأتيها رزقها من الجنة، وكان ذلك بدعوة زكريا - عليه الصلاة والسلام -. أو توطئة لنبوة المسيح عليه الصلاة والسلام {مِنْ عِندِ اللَّهِ} يأتيها الله - تعالى - به أو بعض الأولياء، بتسخير الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من قول الله تعالى، أو من قول مريم - عليها السلام -. {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء (38) فنادته الملآئكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء (40) قال رب اجعل لي ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (41) }(1/260)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
38 - {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} بإذنه له في ذلك، لأنه معجز فلا يطلب إلا بإذن، أو لما رأى خرق العادة في رزق مريم طمع في الولد من عاقر فدعا {طَيِّبةَ) {مباركة} (سَمِيعُ الدُّعَآءِ} مجيب الدعاء، لأن الإجابة بعد السماع.(1/260)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
39 - {الْمَلائِكَةُ} جبريل - عليه السلام -، أو جماعة من الملائكة.(1/260)
{يحيي} سماه الله - تعالى - " يحيى " قبل ولادته، قيل: لأنه حَيَا بالإيمان {بِكَلِمَةٍ} كتاب، أو بالمسيح، سمي بالكلمة، لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله - تعالى -، أو لأنه خلق بالكلمة من غير أب. {وَسَيِّدًا} حليماً، أو تقياً، أو شريفاً، أو فقيهاً عالماً، أو رئيساً على المؤمنين. {وَحَصُورًا} عنينا لا ماء له، أو لا يأتي النساء، أو لم يكن له ما يأتي به النساء لأنه كان كالنواة.(1/261)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
40 - {بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ} ، لأنه بمنزلة الطالب له. {عَاقِرٌ} لا تلد، وإنما قال ذلك بعد البشارة تعجباً من قدرة الله - تعالى - وتعظيماً لأمره، أو أراد [أن] يعلم على أي حال يكون؟ بأن يردا إلى شبابهما، أو على حال الكبر.(1/261)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
41 - {أيه} علامة لوقت الحمل لتعجيل السرور به. {رَمْزًا} تحريك الشفتين، أو الإشارة أو الإيماء. {وَاذْكُر رَّبَّكَ} منع من الكلام ولم يمنع من الذكر. {بِالْعَشِيَ} أصله الظلمة فسمي ما بعد الزوال عشياً لاتصاله بالظلام. / والعشا: ضعف البصر. {الإبكار} من الفجر إلى الضحى أصله التعجيل، لأنه تعجيل للضياء. {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسآء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) }(1/261)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
42 - {اصْطَفَاكِ} لولادة المسيح، أو على عالمي زمانك. {وطهرك} من الكفر، أو من أدناس الحيض والنفاس. {وَاصْطَفَاكِ} تأكيد للأصطفاء [أو](1/261)
الأول للعبادة، والثاني لولادة المسيح عليه الصلاة والسلام.(1/262)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
43 - {اقْنُتِى} أَخلصي لربك، أو أديمي طاعته، أو أطيلي القيام في الصلاة. {وَاسْجُدِى} كان السجود في شرعهم مقدماً على الركوع، أو " الواو " لا ترتيب فيها، فكلمتها الملائكة معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، أو توكيداً لنبوة المسيح - عليه الصلاة والسلام -، أصل السجود: الانخفاض الشديد، والركوع: دونه. {مَعَ الرَّاكعِينَ} افعلي كفعلهم، أو صلي في جماعة.(1/262)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
44 - {أنباء الغيب} البشارة بالمسيح - عليه الصلاة والسلام - أصل الوحي: إلقاء المعنى إلى صاحبه، فيلقى إلى الرسل بالإنزال، وإلى النحل بالإلهام، ومن بعض إلى بعض بالإشارة {فأوحى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] .
( ... ... ... ... . . ... أوحى لها القرار فاستقرت)
{يلقون أقلامهم} قالو نحن أحق بكفالتها، لأنها ابنة إمامنا وعالمنا وقال زكريا: " أنا أحق لأن خالتها عندي "، فاقترعوا على ذلك بأقلامهم وهي القداح - فأُصعد قلم زكريا في جرية الماء، وانحدرت أقلامهم مع الجرية، فقرعهم فكفلها، أو كفلها زكريا بغير قرعة، ثم أصابتهم أزمة ضعف بها عن مؤنتها فقال: ليأخذها أحدكم فتدافعوها فاقترعوا فقرعهم زكريا عليه الصلاة والسلام.(1/262)
{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقّربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولاً إلى بني إسرآءيل أني قد جئتكم بئاية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بئاية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51) }(1/263)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
45 - {الْمَسِيحُ} ، لأنه مسح بالبركة، أو مسح بالتطهير من الذنوب.(1/263)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
46 - {الْمَهْدِ} من التمهيد، تكلم فيه تبرئة لأمه، أو لظهور معجزته، وكان في المهد نبياً، لظهور المعجزة، أو لم يكن حينئذ نبياً وكان كلامه تأسيساً لنبوته. {وَكَهْلاً} حليماً، أو كهلاً في السن، والكهولة أربع وثلاثون سنة، أو فوق حال الغلام ودون حال الشيخ، أخذ من القوة، اكتهل النبت إذا طال وقوي، يريد يكلمهم كهلاً بالوحي، أو يتكلم صغيراً بكلام الكهل في السن. {فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنآ ءامنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير(1/263)
الماكرين (54) }(1/264)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
52 - {أَنصَارِى إِلَى اللهِ} مع الله، أو في السبيل إلى الله، أو من ينصرني إلى نصر الله. {الْحَوَارِيُّونَ} لبياض ثيابهم، أو كانوا قَصَّارين يبيّضون الثياب، أو هم خواص الأنبياء، لنقاء قلوبهم من الحور، وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام، استنصرهم ليمنعوه من قتل الذين أرادوا قتله، أو ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق، أو ليميز المؤمن من الكافر.(1/264)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
53 - {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ثبت أسماءنا مع أسمائهم لننال مثل كرامتهم، أو صل ما بيننا وبينهم بالإخلاص على التقوى.(1/264)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
54 - {ومكروا} بالمسيح - عليه الصلاة والسلام -، ليقتلوه فمكر الله - تعالى - بهم بالخيبة بإلقاء شَبَهه / على غيره، أو مكروا بإضمار الكفر ومكر الله لمجازاتهم بالعقوبة، وذكر ذلك للازدواج، كقوله - تعالى - {فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] وأصل المكر الالتفاف، الشجر المتلف مكر، فالمكر احتيال على الإنسان، لإلقاء المكروه به، والفرق بينه وبين الحيلة أنه لا يكون إلا لقصد الإضرار، والحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إضرار. {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين (57) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58) }(1/264)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
55 - {متوفيك} قابضك إلى السماء من غير وفاة بموت، أو وفاة نوم(1/264)
للرفع إلى السماء، أو مميتك، أو فيه تقديم معناه: رافعك ومتوفيك بعد ذلك. {الي} إلى سمائي، أو كرامتي. {ومطهرك} بإخراجك من بينهم، أو بمنعهم من قتلك. {فوق الذين كفروا} بالحجة، أو بالعز والغلبة.
{الذين اتبعوك} الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا عليك، أو النصارى فوق، إذ النصارى أعز من اليهود فلا مملكة لليهود بخلاف الروم. {إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61) إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63) }(1/265)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
61 - {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام، أو للحق [ {فَقُلْ تَعَالَوْاْ} ] المدعو للمباهلة نصارى نجران. {نَبْتَهِلْ} نلتعن، أو ندعو بالهلاك.
( ... ... ... ... . . ... نظر الدهر إليهم فابتهل)
أي دعا عليهم بالهلاك، لما نزلت أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة وولديها - رضي الله تعالى عنهم - ثم دعاهم إلى المباهلة فقال بعضهم لبعض:(1/265)
" إن باهلتموه اضطرم عليكم الوادي ناراً فامتنعوا ". {قل يآ أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) }(1/266)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
64 - {تَعَالَوْاْ} خطاب لنصارى نجران، أو ليهود المدينة، {أرْبَابًا} هو سجود بعضهم لبعض، أو طاعة الأتباع للرؤساء. {يآ أهل الكتاب لم تحآجون في إبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) هآأنتم هؤلآء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما(1/266)
ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولي المؤمنين (68) }(1/267)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
67 - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ} لما اجتمعت اليهود والنصارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت النصارى: لم يكن إبراهيم إلا نصرانياً، وقالت اليهود: لم يكن إلا يهودياً فنزلت ... .(1/267)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
66 - {حاججتم} فيما وجدتموه في كتبكم، {فَلِمَ تُحَآجُّونَ} في شأن إبراهيم {والله يعلم} شأنه وأنتم لا تعلمونه. {ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلآ أنفسهم وما يشعرون (69) يآ أهل الكتاب لم تكفرون بئايات الله وأنتم تشهدون (70) يآ أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71) وقالت طآئفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآ(1/267)
أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم (74) }(1/268)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
710 - {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} بما يدل على صحة الآيات من كتابكم المبشر بها، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء، أو تشهدون بما عليكم فيه الحجة.(1/268)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
71 - {تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد - عليه الصلاة والسلام -، أو تحريف التوراة والأنجيل، أو الدعاء إلى إظهار الإسلام أول النهار والكفر آخره، طلباً لتشكيك الناس فيه. {وتكتمون} صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمونها من كتبكم.(1/268)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
73 - {وَلا تُؤْمِنُوَاْ إِلآَّ} قاله اليهود بعضهم لبعض، أو قاله يهود خيبر ليهود المدينة، نهوا عن ذلك لئلا يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه، أو لئلا يعرفوا به فيلزمهم الدخول فيه. {الْهُدَى هُدَى اللهِ} أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون فحذف: لا "، أو {الْهُدَىَ هُدَى اللهِ} / فلا تجحدوا أ [ن] يؤتى {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} ولا تؤمنوا أن يحاجوكم إذ لا حجة لهم، أو يكون " أو " بمعنى حتى تبعيداً كقولك " لا يلقاه أو تقوم الساعة "(1/268)
قاله الكسائي والفراء.(1/269)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
74 - {بِرَحْمَتِهِ} النبوة، أو القرآن والإسلام، وهل تكون النبوة جزاء على عمل، أو تفضلاً؟ فيه مذهبان. {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلاّ ما دمت عليه قآئماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76) }(1/269)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
75 - {بِقِنطَارٍ} " الباء " فيه، وفي الدينار لإلصاق الأمانة به، أو بمعنى " على " {قَآئِمًا} بالاقتضاء، أو ملازماً، أو قائماً على رأسه. {الأميين} العرب، قالوا لا سبيل علينا في أموالهم لإشراكهم، أو لتحولهم عن الدين الذي عاملناهم عليه، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " كذب أعداء الله ما شيء كان في الجاهلية(1/269)
إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ". {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77) وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78) }(1/270)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
77 - {بِعَهْدِ اللَّهِ} أمره ونهيه، أو ما جعل في العقل من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق. {لا خَلاقَ} من الخَلْق وهو التقدير أي لا نصيب، أو من الخُلُق أي لا نصيب لهم مما يوجبه الخلق الكريم. {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} بما يسرهم بل بما يسوؤهم عند الحساب، لقوله تعالى: {عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] أو لا يكلمهم أصلاً بل يكل حسابهم إلى الملائكة. {وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} لا يراهم، أو لا يمن عليهم. {وَلا يُزَكِّيهِمْ} لا يقضي بزكاتهم، نزلت فيمن حلف يميناً فاجرة لينفق بيع سلعته، أو في(1/270)
الأشعث نازع خصماً في أرض فقام ليحلف فنزلت فنكل الأشعث واعترف بالحق، أو في أربعة من أحبار اليهود، كتبوا كتاباً وحلفوا أنه من عند الله فيما ادّعوا أنه ليس عليهم في الأميين سبيل.(1/271)
{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) }(1/272)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
79 - {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} قالت طائفة من اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى؟ فنزلت {ربانيين} فقهاء علماء، أو حكماء أتقياء، أو الولاة الذين يربون أمور الناس، أخذ الرباني ممن يرب الأمور بتدبيره ولذلك قيل للعالم رباني، لأنه يدبر الأمور بعلمه، أو الرباني مضاف إلى علم الرب. {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) }(1/272)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
81 - {ميثاق النبيين} أن يؤمنوا بالآخرة، أو يأخذوا على قومهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم {ثم جاءكم رسول} محمد صلى الله عليه وسلم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة(1/272)
والإنجيل. {وَأَخَذْتُمْ عَلَى} قبلتم عهدي، [أ] ووأخذتم على متبعكم عهدي {فَاشْهَدُواْ} على أممكم، وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون (83) قل ءامنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجآءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89) }(1/273)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
83 - {وَلَهُ أَسْلَمَ} أسلم المؤمن طوعاً، والكافر عند الموت كرهاً، أو أقروا بالعبودية وإن كان فيهم المشرك فيها، أو سجود المؤمن طوعاً وسجود ظل الكافر كرهاً، أو طوعاً بالرغبة في الثواب، وكرهاً لخوف السيف، أو إسلام الكاره يوم أخرج الذر من ظهر آدم، أو استسلم بالانقياد والذلة. {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم(1/273)
الضآلون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91) }(1/274)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
90 - {الَّذِينَ كَفَرُواْ} اليهود كفروا بالمسيح. {ثُمَّ ازْدَادُواْ كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم /. {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند الموت، أو أهل الكتاب لا تقبل توبتهم من ذنوبهم مع إصرارهم على كفرهم، أو هم مرتدون عزموا على إظهار التوبة تورية فأطلع الله - تعالى - الرسول صلى الله عليه وسلم على سرهم أو اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل بعثه، ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم. {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (92) }(1/274)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
92 - {الْبِرَّ} ثواب الله - تعالى -، أو فعل الخير الذي يستحق به الثواب، أو الجنة. {تُنفِقُواْ} الصدقة المفروضة، أو الفرض والتطوع، أو الصدقة وغيرها من وجوه البر. {كُلًّ الطَّعَامِ كَانَ حلاً لبني إسرآءيل إلا ما حرم إسرآءيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوهآ إن كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94) قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (95) }(1/274)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
93 - {كُلًّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ} لما أنكرت اليهود تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل أخبر الله - تعالى - أنه أحلها إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه، لما(1/274)
أصابه وجع النسا نذر تحريم العروق على نفسه وأحب الطعام إليه، وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه، ونذر ذلك بإذن الله - تعالى -، أو باجتهاده، فحرمت اليهود ذلك اتباعاً لإسرائيل على الأصح، أو نزلت التوراة بتحريمها. {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97) }(1/275)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
96 - {أُوَّلَ بَيْتٍ} اتفقوا أنه أول بيت وضع للعبادة، وهل كانت قبله بيوت؟ أو لم تكن قبله؟ مذهبان. {بِبَكَّةَ} ومكة واحد، أو بكة المسجد، ومكة الحرم كله، أو بكة بطن مكة، أخذت بكة من الزحمة، تَبَاكَّ القوم ازدحموا، أو تَبُك أعناق الجبابرة، إذا ظلموا فيها لم يمهلوا. {مُّبَارَكاً} بحصول الثواب لقاصده، أو يأمن داخله حتى الوحش.(1/275)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
97 - {آيات بينات} أثر قدمي إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في المقام: وهو حجر صلد وفي غير المقام أمن الخائف، وهيبة البيت، وتعجيل عقوبة من عتا فيه وقصة أصحاب الفيل. {وَمَن دَخَلَهُ} في الجاهلية من الجناة أمن، وفي الإسلام يأمن من النار، أو من القتال، فإنه محظور على داخليه، ويقام الحد على من جنى [فيه] وإن دخله الجاني ففي إقامة الحد عليه مذهبان؟ {مَنِ اسْتَطَاعَ} بالزاد والراحلة، أو بالبدن وحده، أو بالمال والبدن. {وَمَن كَفَرَ} بفرض الحج، أو لم يَرَ حَجَّهُ بِراً وتركه [إثماً] ، أو نزلت في(1/275)
اليهود لما نزل قوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [85] قالوا نحن مسلمون، فأُمروا بالحج فامتنعوا فنزلت ... . {قل يآ أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يآ أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهدآء وما الله بغافل عما تعملون (99) }(1/276)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
99 - {تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} هم اليهود أغَروْا بين الأوس والخزرج بتذكيرهم حروباً كانت بينهم في الجاهلية، ليفترقوا بذلك، أو هم اليهود والنصارى صدوا الناس بإنكارهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. {شُهَدَآءُ} على صدكم، أو على عنادكم، أو عقلاء. {يآ أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (101) }(1/276)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
100 - {يا أيها الذين آمنوا} الأوس والخزرج. {إِن تُطِيعُواْ} اليهود. {يَرُدُّوكُم} إلى الكفر بإغرائهم بينكم. {يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم.(1/276)
فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) }(1/277)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
102 - {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يُعصى، ويُذكر ولا يُنسى، ويشكر ولا يكفر، أو اتقاء جميع المعاصي، أو الاعتراف بالحق في الأمن والخوف، أو طاعته / فلا يُتَّقَى في تركها أحد سواه، وهي محكمة، أو منسوخة بقوله تعالى {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] .(1/277)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
103 - {بِحَبْلِ اللَّهِ} القرآن، أو الإسلام، أو العهد، أو الإخلاص له بالتوحيد، أو الجماعة، سمي ذلك حبلاً؛ لنجاة المتمسك به كما ينجو المتمسك بالحبل من بئر أو نحوها. {وَلا تَفَرَّقُواْ} عن دين الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم {كُنتُمْ أَعْدَآءً} للأوس والخزرج لحروب تطاولت بهم مائة وعشرين سنة إلى أن تآلفوا بالإسلام، أو لمشركي العرب لما كان بينهم من الطوائل. {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109)(1/277)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
106 - {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} المؤمنين لإسفارها بالثواب. {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أهل النار لانكسافها بالحزن. {أَكَفَرْتُم بَعْدَ} إظهار الإيمان بالنفاق، أو الذين ارتدوا بعد الإسلام، أو الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثه، وكانوا قبل ذلك به مؤمنين، أو جميع من كفر بعد الإيمان يوم الذر. {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112) }(1/278)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
110 - {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ} أي كنتم في اللوح المحفوظ أوخلقتم، أو أراد التأكيد لأن المتقدم مستصحب بخلاف المستأنف، أو أشار إلى ما قدمه من البشارة بأنهم خير أمة , {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله ءاناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم(1/278)
ولآ أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون (116) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117) }(1/279)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
113 - {لَيْسُواْ سَوَآءً} لما أسلم عبد الله بن سلام مع جماعة قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا فنزلت {قَآئِمَةٌ} عادلة أو قائمة بطاعة الله، أو ثابتة على أمره. {آناء الليل} ساعاته، أو جوفه، يريد صلاة العتمة، أو الصلاة بين المغرب والعشاء. {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} في الصلاة أو عبّر عن الصلاة بالسجود، أو أراد وهم مع ذلك يسجدون.(1/279)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
117 - {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ} نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر، أو في نفقة المنافقين في الجهاد رياء وسمعة. {صِرٌّ} برد شديد، أو صوت لهيب النار التي تكون في الريح قاله الزجاج، وأصل الصِّر: الصوت من الصرير. {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بزرعهم في غير موضع الزرع، وفي غير وقته، أو أهلك ظلمهم زرعهم. {يآ أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد(1/279)
بدت البغضآء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) هآ أنتم أولآء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119) إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط (120) }(1/280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
118 - {بِطَانَةً} نزلت في بعض المسلمين صَافَوا بعض اليهود والمنافقين لصحبة كانت بينهم في الجاهلية، فنهوا عن ذلك، والبطانة: خاصتك الذين يستبطنون أمرك من البطن، وبطانة الثوب، لأنها تلي البطن. {لا يَأْلُونَكُمْ} لا يقصرون في أمركم. {خَبَالاً} أصله الفساد، ومنه الخبل للجنون، {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي ضلالكم عن دينكم، أو أن تعنتوا في دينكم فتحملوا فيه على المشقة، وأصل العنت: المشقة. {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بدا منها ما يدل على البغضاء. {وإِذْ غَدَوْتَ من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122) ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) }(1/280)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
121 - {وإِذْ غَدَوْتَ} يوم أُحُد، أو يوم الأحزاب. {تبوىء} تتخذ منزلاً ترتبهم في مواضعهم. {سَمِيعٌ} لقول المنافقين. {عَلِيمٌ} بما أضمروه من(1/280)
التهديد أو {سَمِيعٌ} لقول المؤمنين {عَلِيمٌ} بإخلاص نياتهم، أو {سَمِيعٌ} لقول المشيرين {عَلِيمٌ} بنصح المؤمن وغش الغاوي.(1/281)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
122 - {طَّآئِفَتَانِ} بنو سَلَمة، وبنو حارثة /، أو قوم من المهاجرين والأنصار همتا بذلك، لان ابن أُبي دعاهما إلى الرجوع عن القتال، أو اختلفوا في المقام والخروج إلى العدو حتى هموا بالفشل والجبن.(1/281)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
123 - {بِبَدْرٍ} اسم ماء سمي باسم صاحبه ((بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة)) ، أو سمي بذلك من غير إضافة إلى صاحب. {أَذِلَّةٌ} ضعفاء عن مقاومة العدو، أو قليل عددكم ضعيف حالكم، كان المهاجرون يومئذ سبعة وسبعين، وكانت الأنصار مائتين وستة وثلاثين، والمشركون ما بين تسعمائة وألف. {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا(1/281)
من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)(1/282)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
124 - {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يوم بدر. {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} الكفاية: قدر سد الخَلَّة، والاكتفاء: الاقتصار عليه. {يُمِدَّكُمْ} الإمداد: إعطاء الشيء حالاً بعد حال، من الإمداد: وهو الزيادة، ومنه مد الماء.(1/282)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
125 - {فَوْرِهِمْ} وجههم، أو غضبهم من فور القِدْر وهو غليانها، ومنه فور الغضب. {مُسَوِّمِينَ} بالفتح أرسلوا خيلهم في المرعى، وبالكسر سوموها بعلائم في نواصيها وأذنابها، أو نزلوا على خير بلق وعليهم عمائم صفر. وكانوا خمسة آلاف عند الحسن، وعند غيره ثمانية آلاف قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.(1/282)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
127 - {لِيَقْطَعَ} يوم بدر {طَرَفاً} منهم بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر، أو يوم أُحد قُتل منهم ثمانية عشر رجلاً، وقال: {طَرَفاً} ، لأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين من الوسط. {يَكْبِتَهُمْ} يخزيهم، أو الكبت: الصرع على الوجه قاله الخليل {خَآئِبِينَ} الخيبة لا تكون إلا بعد أمل، واليأس قد يكون قبل الأمل.(1/282)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
128 - {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} في عقابهم واستصلاحهم، او فيما نفعله في أصحابك وفيهم، بل إلى الله - تعالى - التوبة عليهم، أو الانتقام منهم، أو قال قوم بعد كسر رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يفلح من فعل هذا(1/282)
بالرسول صلى الله عليه وسلم مع حرصه على هدايتهم فنزلت أو استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء عليهم فنزلت يمنعه، لان في علمه - سبحانه وتعالى - أن فيهم من يؤمن. {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو(1/283)
ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)(1/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
130 - {أَضْعَافًا مًّضَاعَفَةً} أن يقول عند الأجل (إما أن تعطي، وإما أن تُربي)) فإن لم يعطه ضاعف عليه، ثم يفعل ذلك عند حلول أجله من بعد فيتضاعف بذلك.(1/284)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
131 - {النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} نار آكل الربا كنار الكفرة عملاً بالظاهر، أو نار الربا والفجرة أخف من نار الكفرة لتفاوتهم في المعاصي.(1/284)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
135 - {فَاحِشَةً} الكبائر، أو الزنا. {ظَلَمُوَاْ} بالصغائر. {ذَكَرُواْ الله} بقلوبهم فحملهم ذكره على التوبة والا استغفار، أو ذكروه بقولهم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا. {يُصِرُّواْ} الثبوت على المعصية، أو مواقعتها إذا هَمَّ بها /، أو ترك الاستغفار منها. {وَهُمْ يعلمون} أنهم قد أتوا معصيته، أو يعملون الحجة في أنها معصية. {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم(1/284)
الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (140) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)(1/285)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
137 - {سُنَنٌ} من الله بإهلاك من سلف، أو أهل سنن في الخير والشر، وأصل السُّنة: الطريقة المتبعة في الخير والشر، ومنه سُّنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/285)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
138 - {هَذَا} القرآن {بَيَانٌ} ، أو المذكور من قوله {قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} نور وأدب.(1/285)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
140 - {إِن يَمْسَسْكُمْ} يوم أُحُد {قَرْحٌ} فقد مسهم يوم بدر مثله، واللمس: مباشرة وإحساس، والمس: مباشرة بغير إحساس. {قَرْحٌ} وقَرح: واحد، أو بالفتح الجراح، وبالضم: ألم الجراح قاله الأكثر {نُدَاوِلُهَا} مرة لقوم، ومرة لآخرين، والدولة: الكرة، أدال الله فلاناً من فلان جعل له الكرة عليه.(1/285)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
141 - {وَلِيُمَحِّصَ} وليبتلي، أو يخلصهم من الذنوب، وأصل التمحيص: التخليص، أو وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا {وَيَمْحَقَ} ينتقص.(1/285)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
143 - {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} تمنى الجهاد من لم يحضر بدراً ثم أعرض كثير(1/285)
منهم عنه يوم أحد فعوتبوا. (رَأَيْتُمُوهُ} علمتموه، أو رأيتم أسبابه. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148) }(1/286)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
144 - {وما محمد إلا سول} لما شاع يوم أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قُتل قال أناس: لو كان نبياً ما قُتل، وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به. {انقَلَبْتُمْ} رجعتم كفاراً.(1/286)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
145 - {وَمَن يُرِدْ} بجهاده {ثَوَابَ الدُّنْيَا} الغنيمة، أو من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له منها من غير حظ في الآخرة، أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا دون الآخرة.(1/286)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
146 - {رِبِّيُّونَ} يعبدون الرب واحدهم رِبَّي، أو جماعات كثيرة، أو(1/286)
علماء كثيرون، أو الرِّبيون: الأتباع والرعية والرَّبانيون: الولاة، قال الحسن: ما قتل نبي قط في المعركة. {فَمَا وَهَنُواْ} الوهن: الانكسار بالخوف، والضعف: نقص القوة، والاستكانة: الخضوع ((لم يهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم)) ، قاله أبن إسحاق.(1/287)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
148 - {ثَوَابَ الدُّنْيَا} النصر على العدو، أو الغنيمة. {ثواب الآخرة) الجنة إجماعا. {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين (151) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153)(1/287)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
152 - {تَحُسُّونَهُم} تقتلونهم اتفاقاً، حسه يحسه حساً: قتله لأنه أبطل حسه. {بِإِذْنِهِ} بلطفه، أو بمعونته.(1/288)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
153 - {تُصْعِدُونَ} الإصعاد يكون في مستوىً من الأرض، والصعود في ارتفاع، وروي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم صعدوا إلى الجبل فراراً. {يَدْعُوكُمْ} يقول يا عباد الله أرجعوا. {غَمَّا بِغَمٍ} على غم، أو مع غم، الغم الأول: القتل والجرح، والثاني: الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غم يوم أُحد بغم يوم بدر. {مَا فَاتَكُمْ} من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة. {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155) يآ أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون(1/288)
بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون (158) }(1/289)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
154 - {أَمَنَةً / نُعَاسًا} لما توعد الكفار المؤمنين يوم أُحُد بالرجوع تأهب للقتال أبو طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم تحت حُجَفهم فناموا حتى أخذتهم الأَمنة. {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُم} بالخوف فلم يناموا، لظنهم {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} في التكذيب بوعد الله. {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} ما خرجنا أي أُخرجنا كَرْهاً، أو الأمر: النصر أي ليس لنا من الظفر شيء كما وعدنا تكذيباً منهم بذلك. {لَبَرَزَ) {لخرج} (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} منكم ولم ينجهم قعودهم، أو لو تخلفتم لخرج المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم. {وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ} يعاملكم معاملة المبتلي، أو ليبتلي أولياؤه فأضافه إليه تفخيماً.(1/289)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
155 - {تَوَلَّوْاْ} عن المشركين بأُحد، أو من قرب من المدينة وقت الهزيمة. {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} محبة الغنائم والحرص على الحياة، أو استزلهم بذكر خطايا أسلفوها فكرهوا القتل قبل أن يتوبوا منها. {عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} لم يعاجلهم بالعقوبة، أو غفر خطيئتهم ليدل على إخلاصهم التوبة، وقيل الذين بقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهزموا ثلاثة عشر. {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (162) هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164) }(1/290)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
159 - {فَظًّا} الفظ: الجافي، والغليظ: القاسي القلب، معناهما واحد، فجمع بينهما تأكيداً. {وَشَاوِرْهُمْ} في الحرب، لتسفر عن الرأي الصحيح فيه، أو أمر بالمشاورة تأليفاً لقلوبهم، أو أَمَره بها لما علم فيها من الفضل، أو أُمر بها ليقتدي به المؤمنون، وكان غنياً عن المشاورة.(1/290)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
161 - {يَغُلَّ} فقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال قوم: أخذها الرسول(1/290)
فنزلت، أو وجه الرسول صلى الله عليه وسلم طلائع في جهة ثم غنم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع فنزل ما كان لنبي أن يخون في القسم فيعطي فرقة ويدع أخرى، أو ما كان لنبي أن يكتم الناس ما أرسل به لرغبة أو رهبة قاله ابن إسحاق. {يَغُلَّ} يتهمه أصحابه ويُخَوِّنونه، أو أن يغله أصحابه ويَخُونُونه، والغلول من الغلل، وهو دخول الماء خلال الشجر فسميت الخيانة غلولاً لوقوعها خفية، والغِل: الحقد، لجريانه في النفس مجرى الغلل.(1/291)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
164 - {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمؤْمِنِينَ} بكون الرسول صلى الله عليه وسلم {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} لما فيه من شرفهم، أو لتسهيل تعلم الحكمة عليهم لأنه بلسانهم، أو ليظهر لهم علم أحواله بالصدق والأمانة والعفة والطهارة. {ويُزَكِّيهِمْ} يشهد بأنهم أزكياء(1/291)
في الدين، أو يدعوهم إلى ما يتزكون به، أو يأخذ زكاتهم التي تطهرهم. {أو لمآ أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165) ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168) }(1/292)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
165 - {مُّصِيبَةٌ} التي أصابتهم يوم أُحُد، والتي أصابوها يوم بدر. {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} بخلافكم في الخروج يوم أحد " لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحصنوا بالمدينة "، أو بأختياركم / الفداء يوم بدر، وقد قيل لكم إن فعلتم ذلك قتل منكم مثلهم، أو مخالفة الرماة للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ملازمة موضعهم.(1/292)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
166 - {بإذن اللَّهِ} بتمكينه، أو بعلمه. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} ليراهم، أو ليميزهم من المنافقين.(1/292)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
167 - {أَوِ ادْفَعُواْ} بتكثير السواد إن لم تقاتلوا، أو بالمرابطة على الخيل إن لم تقاتلوا. {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} قال عبد الله بن عمرو بن حرام علام نقتل(1/292)
أنفسنا ارجعوا بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} يظهرون من الإسلام ما ليس في قلوبهم، {بِأَفْوَاهِهِم} تأكيد، أو لأن القول ينسب إلى الساكت تجوزاً إذا رضي به.(1/293)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
168 - {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ} لما انخذل ابن أُبي وأصحابه - وهم نحو من ثلاثمائة - وتخلف عنهم من قُتل منهم قالوا لو أطاعونا وقعدوا معنا ما قُتلوا. {صَادِقِينَ} في أنهم لو أطاعوكم ما قُتلوا، أو محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل. {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحيآء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بمآ ءاتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171) الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) إنما ذالكم الشيطان يخوف أوليآءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) }(1/293)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
196 - {أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَآءٌ} أحياء في البرزخ، وأما في الجنة فإن حالهم(1/293)
معلومة لجميع المؤمنين. {عِندَ رَبِّهِمْ} بحيث لا يملك أحد لهم ضراً ولا نفعاً سوى ربهم، أو يعلم أنهم أحياء دون غيره.(1/294)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
170 - {وَيَسْتَبْشِرُونَ} يقولون إِخواننا يُقتلون كما قُتلنا فيُكرمون بما أُكرمنا، أو يؤتى الشهيد بكتاب يذكر فيه من يقدم عليه من إخوانه بشارة فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه.(1/294)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
173 - {النَّاسُ} الأول: أعرابي جعل له على ذلك جُعْل، أو نعيم بن مسعود الأشجعي، {النَّاسَ} الثاني: أبو سفيان وأصحابه أراد ذلك بعد رجوعه من أُحد سنة ثلاث فوقع في قلوبهم الرعب فكفوا، أو في بدر الصغرى سنة أربع بعد أُحد بسنة.(1/294)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
175 - {يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ} يخوف المؤمنين من أوليائه الكفار، أو يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن الجهاد. {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين (178) ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179) ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون(1/294)
ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) الذين قالوا إن الله عهد إلينآ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جآءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جآءو بالبينات والزبر والكتاب المنير (184) }(1/295)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
176 - {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فَى الْكُفْرِ} المنافقون، أو قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام. {يُرِيدُ اللَّهُ أن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًا} أي يحكم، أو سيريد في الآخرة أن يحرمهم الثواب لكفرهم، أو يريد إحباط أعمالهم بذنوبهم.(1/295)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
179 - {يَمِيزَ الْخَبِيثَ} المنافق، أو الكافر، و {الطَّيِّبِ} المؤمن غير المنافق بتكليف الجهاد، والكافر بالدلالات التي يستدل بها عليهم. {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قال قوم من المشركين: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت، السدي: ما أَطلع الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم على الغيب، ولكن اجتباه فجعله رسولاً.(1/295)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
180 - {الذين يبخلون} ما نعو الزكاة، أو أهل الكتاب بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم. {سَيُطَوَّقُونَ} بطوق من نار، أو شجاعاً أقرع.(1/295)
{كل نفس ذآئفة الموت وإنما توفون إجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيآ إلا متاع الغرور (185) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتو الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186) }(1/296)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
186 - {لَتُبْلَوُنَ فِى أَمْوَالِكُمْ} بالزكاة والنفقة في الطاعة {وَأَنفُسِكُمْ} بالجهاد والقتل. {أَذًى كَثِيرًا} الكفر كقولهم / عُزير ابن الله، والمسيح ابن الله، أو هجو كعب بن الأشرف للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتحريضه عليهم للمشركين، أو قول فنحاص اليهودي لما سئل الإمداد قال: احتاج ربكم إلى أن نمده. {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون (187) لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير (189) }(1/296)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
187 - {مِيثَاقَ} هو اليمين. {الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود، أو اليهود والنصارى، أو كل من أوتي علم شيء من الكتب، أخذ أنبياؤهم ميثاقهم لتبيننه للناس. {لتبيننه} لتبين الكتاب الذي فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، أو لتبينن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/296)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
188 - {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ} اليهود فرحوا باتفاقهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإخفاء أمره، وأحبوا {أن يُحْمَدُواْ} بأنهم أهل علم ونسك، أو(1/296)
المنافقون فرحوا بقعودهم عن الجهاد، وأحبوا {أَن يُحْمَدُواْ} بما ليس فيهم من الإيمان به. {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) ربنآ إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فئامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194) }(1/297)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
193 - {مناديا} النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، لأن كل الناس لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم {لِلإِيمَانِ} إلى الإيمان {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقال:
(أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت)(1/297)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
194 - {وآتنا مَا وَعَدتَّنَا} المقصود منه - مع العلم بأنه لا يخلف وعده - الخضوع بالدعاء والطلب، أو طلبوا التمسك بالعمل الصالح، أو طلبوا تعجيل النصر وإنجاز الوعد، أو معناه اجعلنا ممن وعدته ثوابك.(1/297)
{فاستجاب لهم ربهم أني لآ أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب (195) }(1/298)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
195 - {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} قالت أم سلمة: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء فنزلت {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} الإناث من الذكور والذكور من الإناث. {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً(1/298)
من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198) }(1/299)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
196 - {لا يَغُرَّنَّكَ} تأديباً له وتحذيراً، أو هو خطاب لكل من سمعه أي لا يغرنك أيها السامع. {تَقَلُّبُ} تقلبهم في نعم البلاد، أو تقلبهم غير مأخوذين. {وَإِنَّ مِنْ أهْلِ الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بئايات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199) يآ أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200) }(1/299)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
199 - {وَإِنَّ مِنْ أهْلِ} عبد الله بن سلام ومسلمي أهل الكتاب أو نزلت في النجاشي لما صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط.(1/299)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
200 - {اصْبِرُواْ} على طاعة الله تعالى {وَصَابِرُواْ} أعداءه {وَرَابِطُواْ} في سبيله، أو {اصْبِرُواْ} على دينكم {وَصَابِرُواْ} الوعد الذي وعدتكم {وَرَابِطُواْ} عدوكم، أو {اصبروا} على الجهاد {وصابروا} العدو {رابطوا} بملازمة الثغر، من ربط النفس، ومنه ربط الله على قلبه بالصبر، أو {رابطوا} بانتظار الصلوات الخمس واحدة بعد واحدة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ".(1/300)
(سورة النساء)
مدنية إلا آية {إن الله يأمركم أن تؤدوا} [58] فإنها نزلت بمكة لما أراد الرسول / صلى الله عليه وسلم أن يأخذ مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة فيسلمها إلى العباس.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{يآ أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (1) }(1/301)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
1 - {نفس واحدة} آدم عليه الصلاة والسلام. {زَوْجَهَا} حواء، خلقت من ضلعه الأيسر، ولذا قيل للمرأة: " ضلع أعوج "،
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت: " خلقت المرأة من الرجل فهمها الرجل، وخلق الرجل من التراب فهمه في التراب ". {تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} كقوله: أسألك بالله وبالرحم،(1/301)
[أو] والأرحام صلوها ولا تقطعوها، أخبر أنه خلقهم من نفس واحدة ليتواصلوا ويعلموا أنهم إخوة. {رقيبا} حفيظاً، أو عليماً. {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً (2) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) وءاتوا النسآء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً (4) }(1/302)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
2 - {وَلا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} الحرام بالحلال، أو أن تجعل الزايف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، وتقول: درهم بدرهم، وشاة بشاة، أو استعجال أكل الحرام قبل مجيء الحلال، أو كانوا لا يورثون الصغار والنساء ويأخذ الرجل الأكبر فيتبدل نصيبه الطيب من الميراث بأخذه الكل وهو خبيث. {إِلَىَ أَمْوَالكُِمْ} مع أموالكم، وهو أن يخلطوها بأموالهم فتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها. {حُوبًا} إثماً، تحوب من كذا توقى إثمه.(1/302)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
3 - {وَإِنّ خِفْتُمْ} أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى {فَانكِحُواْ} ما حل لكم من غيرهن، أو كانوا يخافون ألا يعدلوا في أموالهم، ولا يخافون أن لا يعدلوا(1/302)
في النساء فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في أموال اليتامى فكذلك خافوا أن لا تعدلوا في النساء، أو كانوا يتوقون أموال اليتامى ولا يتوقون الزنا فأُمروا أن يخافوا الزنا كخوف أموال اليتامى فيتركوا الزنا وينكحوا ما طاب، أو كانت قريش في الجاهلية تكثر التزوج بلا حصر فإذا كثرت عليهم المؤن وقل ما بأيديهم أكلوا ما عندهم من أموال اليتامى فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلى الأربع حصراً لعددهن. {مَا طَابَ} من طاب، أو انكحوا نكاحاً طيباً. {فَإِنْ خِفْتُمْ أن لا تَعدِلُواْ} في الأربع. {تَعُولُواْ} تكثر عيالكم، أو تضلوا، أو تجوروا والعول: من الخروج عن الحق، عالت الفريضة لخروجها عن السهام المسماة، وعابت أهل الكوفة عثمان - رضي الله تعالى عنه - في شيء فكتب إليهم " إني لست بميزان قسط لا أعول ".(1/303)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
4 - {وآتوا النِّسآءَ} أيها الأزواج عند الأكثرين، أو أيها الأولياء، لأن الولي في الجاهلية كان يتملك صداق المرأة. {نِحْلَةً} النحلة: العطية بغير بدل، الدِّين نحلة، لأنه عطية من الله تعالى ومنه النَّحْل لإعطائه العسل، أو لأن الله - تعالى - نحله عباده، [الصداق] أي نحلة من الله - تعالى - لهن بعد أن كان ملكاً لآبائهن، أو فريضة مسماة، أو نهى عما كانوا عليه من خطبة الشغار والنكاح بغير صداق، أو أراد طيب نفوسهم بدفعه / إليهم كما يطيبون نفساً بالهبة. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} أيها الأزواج عند من جعله للأزواج، أو أيها الأولياء عند من رآه لهم. {هَنِيئًا} الهني: ما أعقب نفعاً وشفاء منه هنأ البعير لشفائه. {ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً(1/303)
معروقاً (5) وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوآ إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً قليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً (6) }(1/304)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
5 - {السُّفَهَآءَ} النساء، أو الصبيان، أو كل مستحق للحَجْر، أو الأولاد المفسدين، نهى أن يقسم ماله بينهم ثم يصير عيالاً عليهم، والسَّفَه: خِفَّة الحُلم، ولذا وصف به الناقص العقل، والمفسد للمال لنقصان تدبيره، والفاسق لنقصانه عند أهل الدين. {أَمْوَالَكُمُ} أيها الأولياء، أو أموال السفهاء. {قيماً} و {قياماً} قوام معايشكم. {وَارْزُقُوهُمْ} أنفقوا من أموالكم على سفهائكم، أو لينفق الولي مال السفيه عليه. {قَوْلاً مَّعْرُوفًا} وعداً جميلاً، أو دعاء كقوله: " بارك الله فيك ".(1/304)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
6 - {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم. {النكاح} الحلم اتفاقاً. {آنستم) {علمتم} (رُشْدًا} عقلاً، أو عقلاً وصلاحاً في الدين، أو صلاحاً في الدين والمال، أو صلاحاً وعلماً بما يصلح. {إِسْرَافاً} تجاوز المباح، فإن كان إفراطاً قيل أسرف إسرافاً، وإن كان تقصيراً قيل سرف يسرف. {وَبِدَارًا} هو أن يأكله مبادرة أن يكبر فيحول بينه وبين ماله. {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قرضاً ثم يرد بدله، أو سد جوعه وستر عورته ولا بدل عليه، أو يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشيته ولا يتعرض لما سوى ذلك من أمواله، أو يأخذ أجره بقدر خدمته، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم كُلْ من مالِ يتيمك(1/304)
غير مسرف ولا متأثل مالك بماله " {حَسِيبًا} شهيداً، أو كافياً من الشهود. {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدن والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً (7) وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً (8) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً (9) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً (10) }(1/305)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
7 - {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} نزلت بسبب أن الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث.(1/305)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
8 - {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} منسوخة بآية المواريث، أو محمولة على وصية الميت لمن ذكر في الآية وفيمن حضر، أو محكمة فلو كان الوارث صغيراً فهل يجب على وَليِّه الإخراج من نصيبه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب، ويقول الولي لهم قولاً معروفاً. {وَقُولُواْ} أمر الآخذ أن يدعو للدافع بالغنى والرزق، أو أمر الوارث والولي أن يقول للآخذين عند إعطائهم المال قولاً معروفاً.(1/305)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
9 - {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ} يحضرون الموصي أن يأمروه بالوصية بماله فيمن لا يرثه بل يأمرونه بإبقاء ماله لورثته كما يؤثرون ذلك لأنفسهم، أو أمر بذلك الأوصياء أن يحسنوا إلى الموصى عليه كما يؤثرون ذلك في أولادهم، أو من خاف الأذى على ذريته بعده وأحب أن يكف الله - تعالى - عنهم الأذى فليتق الله - تعالى - في قوله وفعله، أو أمر به الذين ينهون الموصي عن الوصية لأقاربه ليبقى ماله لولده، وهم لو كانوا أقرباء الموصي لآثروا أن يوصي لهم.(1/306)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
10 - {نَارًا} / يصيرون به إلى النار، أو تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار، وعَبَّر عن الأخذ بالأكل، لأنه المقصود الأغلب منه، والصلا: لزوم النار. {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين ءابآؤكم وأبنآؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) }(1/306)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
11 - {يُوصِيكُمُ} كانوا لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، ولا يورث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الله أخو حسان الشاعر وترك خمس أخوات فأخذ ورثته ماله فشكت زوجته ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فرض الاثنتين الثلثان كالأختين، وخالف(1/306)
فيه ابن عباس فجعل لهما النصف، {وَلأَبَوَيْهِ لكل واحد منهما السُّدُسُ} نسخت كان [المال] للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ من ذلك فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكل واحد من الأبوين السدس، واتفقوا على أن ثلاثة من الإخوة يحجبون الأم إلى السدس، والباقي للأب، وقال طاوس يأخذ الإخوة ما حجبوها عنه وهو السدس، والأخوان يحجبانها إلى السدس خلافاً لابن عباس. وقدّم الدَّيْن والوصية على الإرث، لأن الدِّيْن حق على الميت، والوصية حق له فقدما، وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بتقديم الدَّيْن على الوصية إذ لا ترتيب(1/307)
في " أو " {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ} أنفع لكم في الدين أو الدنيا. {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في الثلث من بعد وصية يوصي بهآ أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم (12) }(1/308)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
12 - {كَلالَةً} الكلالة: من عدا الولد، أو من عدا الوالد، أو من عداهما، والمسمى بالكلالة هو الميت، أو وارثه، أو كلاهما، والكلالة من الإحاطة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس. {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن(1/308)
يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين (14) }(1/309)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
13 - {حُدُودُ اللَّهِ} شروطه، أو طاعته، أو سننه وأمره، أو فرائضه التي حدها للعباد، أو تفصيله لفرائضه. {والاتي يأتين الفاحشة من نسآئكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً (15) والذان يأتيانها منكم فئاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ إن الله كان تواباً رحيماً (16) }(1/309)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
15 - {الْفَاحِشَةَ} الزنا. {فَأَمْسِكُوهُنَ} إمساكهن في البيوت حد منسوخ بآية النور، أو وعد بالحد لقوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَ سَبِيلاً} وهو الحد،
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " فنسخ جلد الثيب عند الجمهور خلافاً لقتادة وداود.(1/309)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
16 - {واللذان} في الأبكار، أو في الثيب والأبكار، والمراد باللذين الرجل والمرأة، أو البكران من الرجال والنساء. {فَأَذُوهُمَا} بالتعيير والتوبيخ، أو بالتعيير والضرب بالنعال، وكلاهما منسوخ، أو الأذى مجمل فسره آية النور في الأبكار، والسنة في الثيب. ونزلت هذه الآية قبل الأولى فيكون الأذى أولاً ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم، أو الأذى للأبكار والحبس للثيب. {تَابَا} من الفاحشة. {وَأَصْلَحَا} دينهما. {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} بالصفح والكف عن الأذى. {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الئن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليما (18) }(1/310)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
17 - {بِجَهَالَةٍ} كل عاص جاهل، أو الجهالة: العمد، أو عمل السوء في / الدنيا {قَرِيبٍ} في صحته قبل مرضه، أو قبل موته، أو قبل معاينة ملك الموت. والدنيا كلها قريب.(1/310)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
18 - {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} عصاة المسلمين عند الجمهور أو المنافقون، سَوَّى بين من لم يتب وبين التائب عند حضور الموت. {يآ أيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا(1/310)
ببعض مآ ءاتيتموهن إلآ أن يأتين بفاحشة مبيّنة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً (19) وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وَءَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً (21) ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم من النسآء إلاّ ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا (22) }(1/311)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
19 - {تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهًا} كان أهل المدينة في الجاهلية إذا مات [أحدهم] عن زوجه كان ابنه وقريبه أولى بها من نفسها ومن غيرها، إن شاء نكحها بالصداق الأول، وإن شاء زوجها وملك صداقها، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها، أو تفتدي منه بصداقها، فمات أبو القيس بن الأسلت عن زوجته " كبشة " فأراد ابنه أن يتزوجها فأتت للرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت ... . {وَلا(1/311)
تَعْضُلُوهُنَّ} نهى ورثة الزوج أن يمنعوهن من التزوج كما ذكرنا، أو نهى الأزواج أن يعضلوهن بعد الظلاق كما كانت قريش تفعله في الجاهلية، أو نهى الأزواج عن حبسهن كرهاً ليفتدين أو يمتن فيرثوهن، أو نهى الأولياء عن العضل. {بِفَاحِشَةٍ} بزنا، أو نشوز، أو أذىً وبذاءة. {خَيْرًا كَثِيرًا} الولد الصالح.(1/312)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
20 - {بُهْتَانًا} ظلماً بالبهتان، أو يبهتها أنه جعل ذلك لها ليستوجبه منها.(1/312)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
21 - {أَفْضَى} بالجماع، أو الخلوة. {ميثاقاُ} عقد النكاح، أو إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، أو
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أخذتموهن بأمانة الله تعالى -، واستحللتم فروجهن بكلمة الله "، وهي محكمة، أو منسوخة بآية الخلع، أو محكمة إلا عند خوف النشوز.(1/312)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
22 - {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} كانوا يخلفون الآباء على النساء فحرمه الإسلام، وعفا عما كان منهم في الجاهلية إذا اجتنبوه في الإسلام، أو لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد إلا ما سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز تقريره، أو لا تنكحوا ما نكح آباؤكم بالنكاح الجائز إلا ما سلف منهم بالسفاح فإنهن حلال لكم لأنهن غير حلائل وإنما كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا، أو إلا ما قد سلف فاتركوه فإنكم مؤاخذون به، والاستثناء منقطع، أو بمعنى " لكن " {مقتا} المقت شدة البغض لارتكاب قبيح، وكان يقال للولد من زوجة الأب " المقتي ". {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربآئبكم اللاتي في حجوركم من نسآئكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلآئل أبنآئكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلآ ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً (23) والمحصنات من النسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما ورآء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيماً (24) }(1/313)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
24 - {وَالْمُحْصَنَاتُ} ذوات الأزواج. {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بالسبي، لما سبى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس، قالوا: كيف نقع على نساء قد عرفنا أزواجهن فنزلت أو {المحصنات} ذوات الأزواج {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ(1/313)
أَيْمَانُكُمْ} إذا اشترى الأمة بطل نكاحها وحلت للمشتري قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو المحصنات العفائف، {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} بعقد نكاح، أوملك، أو نزلت في مهاجرات تزوجهن المسلمون، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي المسلمون عن نكاحهن، والإحصان: من المنع، حصن البلد لمنعه من العدو، ودرع حصينة: منيعة، وفرس حصان: لامتناع راكبه من الهلاك، وامرأة حصان: لامتناعها عن الفاحشة. {كِتَابَ اللَّهِ} الزموا كتاب الله، أو حرم ذلك كتاباً من الله، أو كتاب الله قيم عليكم فيما تحرمونه وتحلونه. {مَّا وراء ذلكم} ما دون الخمس، أو ما دون ذوات المحارم، أو مما وراءه مما ملكت أيمانكم. {أَن تَبْتَغُواْ} تلتمسوا بأموالكم بشراء، أو صداق. {مُسَافِحِينَ} زناة، السفح: من الصب، سفح الدمع: صبه، وسفح الجبل: أسفله لانصباب الماء فيه. {فما(1/314)
اسْتَمْتَعْتُم} قلت تكون " ما " ها هنا بمعنى " من "، فما نكحتم منهن فجامعتموهن، أو المتعة المؤجلة، كان أُبَي وابن عباس يقرآن {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى} . {أُجُورَهُنَّ} الصداق. {فَرِيضَةً} أي معلومة.
{فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ} من تنقيص أو إبراء عند إعسار الزوج، أو فيما زدتموه في أجل المتعة بعد انقضاء مدتها وفي أجرتها قبل استبرائهن أرحامهن، أو لا جناح عليكم فيما دفعتموه وتراضيتم به أن يعود إليكم تراضياً. {كَانَ عَلِيمًا} ، بالأشياء قبل خلقها. {حَكِيماً} في تدبيره لها، قال سيبويه: " لما شاهدوا علماً وحكمة قيل لهم: إنه كان كذلك لم يزل، أو الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل قاله الكوفيون. {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25) }(1/315)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
25 - {طَوْلاً} سعة موصلة إلى نكاح الحرة، أو يكون تحته حرة، أو أن(1/315)
يهوي أمة فيجوز له تزوجها إن كان ذا يسار وكان تحته حرة قاله جابر وجماعة، والطَّوْل: من الطُّول، لأن الغنى ينال به معالي الأمور، ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد، وإيمان الأمة شرط، أو ندب. {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} محصنات عفائف، والمسافحات: المعلنات بالزنا، ومتخذات الأخدان: أن تتخذ صديقاً تزني به دون غيره، وكانوا يحرمون ما ظهر من الزنا ويحلون ما بطن فنزل {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] . {أَحْصَنَّ} أسلمن، و {أُحْصِنَّ} تزوجن، ونصف عذاب الحرة: نصف حدها.
{الْعَنَتَ} الزنا، أو الإثم، أو الحد، أو الضرب الشديد في دين أو دنيا. {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن نكاح الأمة خير من إرقاق الولد. {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً (28) }(1/316)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
27 - {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} الزناة، أو اليهود والنصارى أو كل متبع شهوة غير مباحة.(1/316)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
28 - {يُخَفِّفَ عَنكُمْ} في نكاح الإماء، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضعيفا} عن الصبر عن الجماع. {يآ أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلآ أن تكون(1/316)
تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30) إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31) }(1/317)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
29 - {بِالْبَاطِلِ} القمار والربا والبخس والظلم، أو العقود الفاسدة، أو نُهوا عن أكل الطعام / قِرىً وأُمروا بأكله شراء ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} الآية [النور: 61] {تَرَاضٍ} تخاير للعقد، أو تخاير بعد العقد. {أَنفُسَكُمْ} بعضكم بعضاً، جُعلوا كنفس واحدة لاتحاد دينهم، أو نُهوا عن قتل أنفسهم في حال الضجر والغضب.(1/317)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
30 - {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أكل المال وقتل النفس، أو كل ما نهوا عنه من أول هذه السورة، أو وراثتهم النساء كَرْهاً. {عُدْوَانًا وَظُلْمًا} جمع بينهما تأكيداً لتقارب معناهما، أو فعلاً واستحلالاً.(1/317)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
31 - {كَبَآئِرَ} ما نهيتم عنه من أول هذه السورة إلى رأس الثلاثين منها، أو هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس المحرمة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة أو تسع:(1/317)
الشرك، والقذف، وقتل المؤمن، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، وإلحاد بالبيت الحرام. أو السبعة المذكورة مع العقوق والزنا والسرقة وسب أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - أو الإشراك بالله، والقنوط من رحمته، واليأس من روحه، والأمن من مكره، أو كل ما وعد الله - تعالى - عليه النار، أو كل ما لا تصلح معه الأعمال. {سَيّئَاتِكُمْ} مكفرة إذا تركتم الكبائر فإن لم تتركوها أخذتم بالصغائر والكبائر. {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً (32) }(1/318)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
32 - {وَلا تَتَمَنَّوْاْ} كقوله: " ليت لي مال فلان "، نهوا عنه نهي تحريم، أو كراهية، وله أن يقول: " ليت لي مثله " والأشهر أنها نزلت في نساء تمنين أن يكن كالرجال في الفضل والمال، أو قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا وإنما لنا نصف الميراث فنزلت ... . . {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مما(1/318)
اكْتَسَبُواْ} من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وكذلك النساء، الحسنة لهما بعشر أمثالها، أو للرجال نصيب من الميراث وللنساء نصيب منه، لأنهم كانوا لا يورثون النساء. {فَضْلِهِ} نعم الدنيا، أو العبادة المكسبة لثواب الآخرة. {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا (33)(1/319)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
33 - {مَوَالِىَ} عصبة، أو ورثة وهو أشبه كقوله تعالى {خِفْتُ الموالى} [مريم: 5] {عاقدت} مفاعلة من عقد الحلف حلف الجاهلية توارثوا به في الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، أو الأخوة التي آخاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار توارثوا بها ثم نسخت بقوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} ، أو نزلت في أهل العقد بالحلف يؤتون نصيبهم من النصر والنصيحة دون الإرث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا حلف في الإسلام وما كان من حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة)) أو نزلت في(1/319)
ابن التبني، أمروا أن يوصوا لهم عند الموت، أو فيمن أوصي لهم بشيء ثم هلكوا فأمروا أن / يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم. {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) }(1/320)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
34 - {قوامون} عليهم بالتأديب، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن الله - تعالى - ولأزواجهن. {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} الرجال عليهن في العقل والرأي. {وَبِمَآ أَنفَقُواْ} من الصداق والقيام بالكفاية، أو لطم رجل امرأته فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن} [طه: 114] ونزلت هذه الآية، قال الزهري لا قصاص بين الزوجين فيما دون النفس.(1/320)
{فَالصَّالِحَاتُ} في دينهن {قَانِتَاتٌ} مطيعات لربهن وأزواجهن {حَافِظَاتٌ} لأنفسهن في غيبة أزواجهن، ولحق الله عليهن {بما حفظ الله} يحفظه إياهن صرن كذلك، أو بما أوجبه لهن من مهر ونفقة فصرن بذلك محفوظات. {تَخَافُونَ} تعلمون.
( ... ... ... ... ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها)
أو تظنون.
(أتاني عن نُصَيْب كلام يقوله ... وما خفت يا سلام أنكِ عائبي)
يريد الاستدلال على النشوز بما تبديه من سوء فعلها، والنشوز من الارتفاع لترفعها عن طاعة زوجها. {فَعِظُوهُنَّ} بالأمر بالتقوى، والتخويف من الضرب الذي أذن الله - تعالى - فيه. {وَاهْجُرُوهُنَّ} بترك الجماع، أو لا يكملها ويوليها ظهره في المضجع، أو يهجر مضاجعتها، أو يقول لها في المضجع هُجراً وهو الإغلاظ في القول، أو يربطها بالهجار - وهو حبل يربط به البعير - قاله الطبري، أصل الهجر: الترك عن قلى، وقبيح الكلام هجر، لأنه مهجور،(1/321)
فإذا خاف نشوزها وعظها وهجرها فإن أقامت عليه ضربها، أو إذا خافه وعظها فإن أظهرته هجرها فإن أقامت عليه ضربها ضرباً يزجرها عن النشوز غير مبرح ولا منهك. {سَبِيلاً} أذى، أو يقول لها: " لست محبة لي وأنت تبغضني فيضربها " على ذلك مع طاعتها له. {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلهآ إن يريدآ إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيرا (35) }(1/322)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
35 - {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} بنشوزها وترك حقه، وبعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والشقاق: مصدر شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما ما يشق على الآخر، أو لأنه صار في شق بالعداوة والمباعدة. {فَابْعَثُواْ حَكَمًا} خطاب للسلطان إذا ترافعا إليه، أو خطاب للزوجين، أو لأحدهما. {إِن يُرِيدَآ} الحكمان، فإن رأى الحكمان الفرقة بغير إذن الزوجين فهل لهما ذلك؟ فيه قولان. {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً (36) }(1/322)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
36 - {وَبِذِى الْقُرْبَى} المناسب، {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، والمسكين: الذي ركبه ذل الفاقة حتى سكن لذلك، {وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَىَ} المناسب، أو القريب في الدين أراد به المسلم {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الأجنبي لا نسب بينك وبينه، أو البعيد في دينه، والجنب في كلامهم: البعيد، ومنه الجنب لبعده عن الصلاة.(1/322)
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} رفيق السفر، أو زوجة الرجل تكون إلى جنبه، أو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك. {وَابْنِ السَّبِيلِ} / المسافر المجتاز، أو الذي يريد السفر ولا يجد نفقة، أو
الضيف، والسبيل: الطريق فقيل لصاحب الطريق: ابن السبيل كما قيل لطير الماء: " ابن ماء ". {مُخْتَالاً} من الخيلاء خال يخول خالاً وخولاً. {فَخُورًا} يفتخر على العباد بما أنعم الله به عليه من رزق وغيره. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ ءاتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً (37) والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فسآء قريناً (38) وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليماً (39) }(1/323)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
37 - {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بالإنفاق في الطاعة {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ} بمثل ذلك، أو نزلت في اليهود بخلوا بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها، وأمروا الناس بذلك، والبخل: أن يبخل بما في يده، والشح: أن يشح بما في يد غيره يحب أن يكون له.(1/323)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
38 - {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ} اليهود، أو المنافقون. {قَرِينًا} والمراد به الشيطان يقرن به في النار، أو يصاحبه في فعله، والقرين: الصاحب المؤالف من الاقتران، القِرن: المثل لاقترانه في الصفة، والقَرن: أهل العصر، لاقترانهم في الزمان، وقرن البهيم لاقترانه بمثله. {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما (40) } .(1/323)
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلآء شهيداً (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً (42) }(1/324)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
40 - {مِثْقَالَ} الشيء: مقداره في الثقل، والذرة: دودة حمراء قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -: ويقال: إن هذه الدودة لا وزن لها.(1/324)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
41 - {بِشَهِيدٍ} يشهد أنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها، أو يشهد بعملها.(1/324)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
42 - {تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} يُجعلون مثلها، كقوله تعالى {ليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] أو تمنوا أن يدخلوا فيها حتى تعلوهم. {يآ أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً (43) }(1/324)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
43 - {سُكَارَى} من النوم، أو من الخمر، " ثمل جماعة عند عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - فقدموا من صلى بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين فنزلت " والسَّكر يسد مجرى الماء فأخذ منه السكر(1/324)
لسده طرق المعرفة، وخطابه للسكران نهي عن التعرض للسُّكر، لأن السكران لا يفهم، أو قد يقع السكر بحيث لا يخرج عن الفهم. {عَابِرِى سَبِيلٍ} أراد المسافر الجنب لا يصلي حتى يتيمم، أو أراد مواضع الصلاة لا يقربها إلا ماراً. {مَّرْضَى} بما ينطلق عليه اسم مرض وإن لم يضر معه استعمال الماء، أو بشرط أن يَضُر به استعمال الماء، أو ما خيف فيه من استعمال الماء التلف. {سَفَرٍ} ما وقع عليه الاسم، أو يوم وليلة، أو ثلاثة أيام , {الْغَآئِطِ} الموضع المطمئن كُني به عن الفضلة، لأنهم كانوا يأتونه لأجلها. الملامسة: الجماع، أو باليد والإفضاء بالجسد، ولامستم أبلغ من لمستم، أو لامستم يوجب الوضوء على اللامس والملموس ولمستم يوجبه على اللامس وحده. {فَتَيَمَّمَوُاْ} تعمدوا وتحروا، أو اقصدوا، وقرأ ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - فأتوا صعيداً. {صَعِيداً} أرض ملساء لا نبات بها / ولا غرس، أو أرض مستوية، أو التراب، أو وجه الأرض ذات التراب والغبار. {طّيِّبًا} حلالاً، أو طاهراً، أو تراب الحرث، أو مكان جَرْد غير بَطِح. {وَأَيْدِيكُمْ} إلى الزندين، أو المرفقين، أو الإبطين: ويجوز التيمم للجنابة عند الجمهور ومنعه عمر وابن مسعود والنخعي. وسبب نزولها قوم من الصحابة أصابتهم جراح، أو نزلت في إعواز الماء في(1/325)
السفر. {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا}(1/326)
السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46) }(1/327)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
44 - {يشترون الضلالة} كأنهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم اشتروا الضلالة بالهدى، أو أعطوا أحبارهم [أموالهم] على ما صنعوا من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو كانوا يأخذون الرشا.(1/327)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
46 - {غَيْرَ مُسْمَعٍ} غير مقبول منك، أو اسمع لا سمعت. {وَرَاعِنَا} كانت سبّاً في لغتهم، أو أجروها مجرى الهزء. أو مجرى الكبر. {يا أيها الذين أوتو الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) }(1/327)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
47 - {أُوتُواْ الْكِتَابَ) {اليهود والنصارى} (نَّطْمِسَ وُجُوهًا) نمحو آثارها فتصير كالأقفاء ونجعل أعينها في أقفائها فتمشي القهقرى، أو نطمسها عن الهدى فنردها في الضلالة فلا تفلح أبداً {نَلْعَنَهُمْ} نمسخهم قردة. {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من(1/327)
{الكتب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً}(1/328)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
49 - {يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم} اليهود قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، أو قدموا أطفالهم
لإمامتهم زعماً أنه لا ذنوب لهم، أو قالوا: آباؤنا يستغفرون لنا ويزكوننا، أو زكى بعضهم بعضاً، لينالوا شيئاً من الدنيا. {فَتِيلاً} ما انفتل بين الأصابع من الوسخ، أو الفتيل الذي في شق النواة، والنقير ما في ظهرها، والقطمير قشرها.(1/328)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
51 - {بِالْجِبْتِ وَالْطَّاغُوتِ} صنمان كان المشركون يعبدونهما، أو الجبت: الأصنام والطاغوت ((تراجمة)) الأصنام، أو الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، أو الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن، أو الجبت: حيي بن أخطب والطاغوت: كعب بن الأشرف. {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)(1/328)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
53 - {نَقِيراً} الذي في ظهر النواة، أو الخيط الذي يكون في وسط النواة، أو نَقْرُك الشيء بطرف إبهامك.(1/328)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
54 - {يَحْسُدُونَ النَّاسَ} اليهود حسدت العرب، أو محمداً صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالناس، أو محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله تعالى عليهم - أجمعين. {فَضْلِهِ} النبوة كيف جعلت في العرب، أو ما أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم من النكاح بغير حصر ولا عد قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {مًّلْكاً عظيما} ملك سليمان عليه الصلاة والسلام، أو النبوة، أو ما أيدو به الملائكة. أو ما أبيح لداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام من النكاح، فنكح سليمان مائة، وداود تسعاً وتسعين. {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) }(1/329)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
65 - {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، لان المقصود إيلام الأرواح بواسطة الجلود واللحم فتحرق / الجلود لإيلام الأرواح واللحم والجلد لا يألمان فإذا احترق الجلد فسواء أُعيد بعينه أو أُعيد غيره، أو تعاد تلك الجلود الأول جديدة غير محترقة، أو الجلود المعادة هي سرابيل القطران سميت جلوداً لكونها لباساً لهم، لأنها لو فنيت ثم أُعيدت لكان ذلك تخفيفاً للعذاب فيما بين فنائها وإعادتها، وقد قال [تعالى] : {لا يخفف عنهم العذاب} [البقرة:(1/329)
162 - وآل عمران: 88] {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58) }(1/330)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
58 - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} في ولاة أمور المسلمين، أو السطان أن يعظ النساء أو للرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد مفاتيح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، أو لكل مؤتمن على شيء. {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) }(1/330)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
59 - {أَطِيعُواْ اللَّهَ} في أمره ونهيه. {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في حياته، أو(1/330)
باتباع سنته. {وَأُوْلِى الأَمْرِ} نزلت في الأمراء بسبب عبد الله بن حذافة بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية أو في عمار بن ياسر بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، أو نزلت في العلماء والفقهاء، أو في الصحابة، أو في أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وإنما طاعة الولاة في المعروف. {إِلَى اللَّهِ} كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {تَأْوِيلاً} أحمد عاقبة، أو أبيّن صواباً، وأظهر حقاً، أو أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل، ولا يفضي إلى حق. {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلال بعيدا (60) , إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) أولائك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في(1/331)
أنفسهم قولا بليغا}(1/332)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
260 - {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ} نزلت في يهودي وأنصاري منافق اختصما فطلب اليهودي المحاكمة إلى أهل الإسلام، لعلمه أنهم لا يرتشون وطلب المنافق المحاكمة إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة {يَزْعُمُونَ أنهم آمنوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي المنافق، {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} اليهودي. أو نزلت في اليهود، تحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن. {آمنوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} في الحال {وَمَآ أُنزِلَ من قبلك} حين كانوا يهودا {والطاغوت} الكاهن.(1/332)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
62 - {مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لما قتل عمر - رضي الله تعالى عنه - منافقاً لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إخوانه المنافقون يطلبون دمه، يقولون ما أردنا بطلب دمه إلا أحساناً إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا، فنزلت، أو(1/332)
اعتذروا في عدولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم أرادوا التوفيق بين الخصوم بتقريب في الحكم دون الحمل على مُر الحق. فنزلت ...
63 - = {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق {فأعرض عنهم} بالعداوة {وعظم} فيما أبدوه، أو {أعرض} عن عقابهم {وعظهم} أو {أعرض} عن قبول عذرهم {وَعِظْهُمْ} . {قَوْلاً بَلِيغاً} أزجرهم أبلغ زجر، أو قل إن أظهرتم ما في قلوبهم قتلتكم، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ. {وما أرسلنا من رسول إلى ليطاع بإذن الله لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(1/333)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
65 - {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} المشاجرة: المنازعة، والاختلاف لتداخل الكلام بعضه في بعض كتداخل الشجر بالتفافها. {حَرَجًا} شكاً، أو إثماً. نزلت في المنافق واليهودي / اللذين
إحتكما إلى الطاغوت، أو في الزبير والأنصاري لما اختصما في شراج الحرة. {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68) ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (7) }(1/334)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
69 - {الصديقين} أتباع الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه، [والصديق] ((فعيل)) من الصدق، أو من الصدقة، والشهيد لقيامه بشهادة الحق حتى قُتل أو لأنه من شهيد الآخرة، والصالح: من صلح عمله، أو من صلحته سريرته وعلانيته، والرفيق: من الرفق في العمل أو من الرفق في السير. توهم قوم أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة، لأنهم في أعلى عليين فحزنوا وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أن أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74)(1/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
71 - {حِذْرَكُمْ} احذروا عدوكم، أو خذوا سلاحكم، سماه حذراً لأنه يُتقى به الحذر {ثُبَاتٍ} جمع ثُبَة، وهي العصبة، قال:(1/335)
(لقد أغدو على ثُبَةٍ كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء)
{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنسآء والوالدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً (75) الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أوليآء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً (76) }(1/336)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
75 - {القرية الظالم أهلها} مكة إجماعاً. {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوآ أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولآ أخرتنآ إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلآء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً (79) }(1/336)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
77 - {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} نزلت في قوم من الصحابة، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة أن يأذن لهم في القتال فيقاتلون فلما فرض القتال بالمدينة(1/336)
قالوا ما ذكر الله في هذه الآية، أو في اليهود أو المنافقين، أو هي صفة المؤمنين لما طبع عليه البشر من الخوف.(1/337)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
78 - {بُرُوجٍ} قصور في السماء معينة، أو القصور [أو] البيوت التي في الحصون، أخذ البروج من الظهور، تبرجت المرأة: أظهرت نفسها.
{مًّشَيَّدَةٍ} مجصصة، والشيد: الجص، أو مطولة، شاد بناءه وأشاده رفعه، أشدت بذكر الرجل: رفعت منه، أو المشيد " بالتشديد " المطول، ((وبالتخفيف)) المجصص. {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ} أراد اليهود، أو المنافقين، والحسنة والسيئة: البؤس، والرخاء، أو الخصب والجدب، أو النصر والهزيمة. {مِنْ عِندِكَ} بسوء تدبيرك، أو قالوه على جهة التطير به، كقوله [تعالى] {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 132] .(1/337)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
79 - {مَّآ أَصَابَكَ} أيها الإنسان، أو أيها النبي، أو خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. الحسنة النعمة في الدين والدنيا. والسيئة المصيبة فيهما، أو الحسنة ما أصابه يوم بدر والسيئة ما أصابه بأُحد من شج وجهه، وكسر رباعيته، أو الحسنة: الطاعة والسيئة: المعصية قاله أبو العالية ز {فمن نفسك} فبذنبك، أو بفعلك. {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) ويقولون(1/337)
طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طآئفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81) }(1/338)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
80 - {حَفِيظًا} حافظاً لهم من المعاصي، أو حافظاً لأعمالهم التي يجازون بها.(1/338)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
81 - {طَاعَةٌ} أَمْرنا لَطَاعة. {بَيَّتَ} التبييت: كل عمل دبر بليل لأن الليل وقت المبيت، أو وقت البيوت وتبييتهم إضمارهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه، أو تقديرهم غير ما قال على جهة التكذيب. {يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه، أو يكتبه بأن ينزله عليك / في الكتاب. {أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (82) وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83) }(1/338)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
82 - {يَتَدَبَّرُونَ} من الدبور لأنه النظر في عواقب الأمور. {اخْتِلافًا} تناقضاً من جهة حق وباطل، أو من جهة بليغ ومرذول. أو اختلافاً في تخبر الأخبار عما يسرون.(1/338)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
83 - {وَإِذاَ جَآءَهُمْ} أراد المنافقين، أو ضعفة المسلمين. {أُوْلِى الأَمْرِ} العلماء، أو الأمراء، أو أمراء السرايا. {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أولو الأمر، أو المنافقون، أو ضعفة المسلمين. {يَسْتَنبِطُونَهُ} يستخرجونه من استنباط الماء،(1/338)
والنبط، لاستنباطهم العيون. {فضل الله} الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن العزيز، أو اللطف. {إِلاَّ قَلِيلاً} من الأتباع، أو لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً، أو أذاعوا به إلا قليلاً قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلا (84) من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا (86) الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87)(1/339)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
85 - {شَفاعَةً حَسَنَةً} الدعاء للمؤمنين والسيئة: الدعاء عليهم كانت اليهود تفعله فتوعدهم الله - تعالى - عليه، أو هو سؤال الرجل لأخيه أن ينال خيراً أو شراً بمسألته. {كِفْلٌ} وزر وإثم، أو نصيب {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] {مُّقِيتاً} مقتدراً، أو حفيظاً، أو شهيداً، أو حسيباً، أو مجازياً أخذ المقيت من القوت فسمي به المقتدر لقدرته على إعطاء القوت وصار لكل قادر على قوت أو غيره. وقال:
(وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتاً)(1/339)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
86 - {بِتَحِيَّةٍ} الدعاء بطول الحياة، أو السلام، ورده فرض عام المسلم(1/339)
والكافر، أو يختص به المسلم. {بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} الزيادة في الدعاء {أَوْ رُدُّوهَآ} بمثلها، أو {بِأَحْسَنَ} منها على المسلم، وبمثلها على الكافر قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {حَسِيباً} حفيظاً، أو محاسباً على العمل ليجزي عليه، أو كافياً.(1/340)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
87 - {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لقيام الناس فيه من قبورهم، أو لقيامهم فيه للحساب. {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (8) ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)(1/340)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
88 - {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} نزلت فيمن تخلف بأُحُد وقال: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَبَعْنَاكُمْ} ، أو في قوم قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم(1/340)
رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، أو فيمن أظهر الإسلام بمكة، وأعان المشركين على المسلمين، أو في قوم من أهل المدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقاً، أو في قوم من أهل الإفك. {أَرْكَسَهُم} ردهم، أو أوقعهم، أو أهلكهم، أو أضلهم، أو نكسهم. {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ} تريدون أن تسموهم بالهدى، وقد سماهم الله - تعالى - بالضلال أو تهدوهم إلى الثواب بمدحهم، وقد أضلهم الله - تعالى - بذمهم.(1/341)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
90 - {يَصِلُونَ} يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان، نزلت في بني مدلج كان بينهم وبين قريش عقد فحرم الله - تعالى - من بني مدلج ما حرم من قريش. {حَصِرَتْ} ضاقت، وحصر العدو، تضييقه، وهو خبر، أو دعاء.(1/341)
{لَسَلَّطَهُمْ} بتقوية قلوبهم، أو أذن لهم في القتال ليدفعوا عن أنفسهم. {السَّلَمَ} الصلح، أو الإسلام، نسختها آية السيف.(1/342)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
91 - {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} قوم أظهروا الإسلام، ليأمنوا المسلمين وأظهروا موافقة قومهم، ليأمنوهم، وهم من أهل مكة، أو من أهل تهامة، أو من المنافقين، أو نعيم بن مسعود الأشجعي {الْفِتْنَةِ} كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه. {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلآ أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيماً (92) ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزآؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً (93) }(1/342)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
92 - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} نزلت في عياش بن أبي ربيعة قتل(1/342)
الحارث بن يزيد وكان يعذب عياشاً ثم أسلم الحارث وهاجر فقتله عياش بالحرة وهو لا يعلم بإسلامه، أو قتله يوم الفتح خارج مكة، وهو لا يعلم إسلامه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي ما أذن الله له لمؤمن {إلا خطأ} استثناء منقطع. {رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} بالغة قد صَلَّت وصامت، لا يجزي غيرها، أو تجزى الصغيرة المتولدة من مسلمين. {وَدِيَةٌ} كانت معلومة معهودة، أو هي مجملة أخذ بيانها من السنة. {مِن قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ} كان قومه كفاراً فلا دية فيه، أو كان في أهل الحرب فقتله من لا يعلم إيمانه فلا دية فيه مسلماً كان وارثه أو كافراً فيكون " مِنْ " بمعنى " في " قاله الشافعي - رضي الله تعالى عنه - {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أهل الذمة من أهل الكتاب، فيهم الدية والكفارة، أو أهل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة، أو كل من له أمان بذمة أو عهد ففيه الدية والكفارة. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة، صام بدلاً من الرقبة وحدها عند الجمهور، أو الصوم عند العدم بدل من الدية والرقبة قاله مسروق.(1/343)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
93 - {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} نزلت في مقيس بن صبابة قتل أخاه رجل فهري فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ديته، وضربها على بني النجار، فقبلها مقيس ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع الفهري لحاجة فاحتمل الفهري وضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، فأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه، فقُتل عام الفتح، قال زيد بن ثابت: نزلت الشديدة بعد الهيّنة بستة أشهر، الشديدة {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} ، والهيّنة: {والذين لاَ يَدْعُونَ} [الفرقان: 68] ، وقيل للرسول في الشديدة: " وإن تاب وآمن وعمل صالحاً " فقال: وأنى له التوبة، رواه ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.(1/344)
صفحة فارغة.(1/345)
{يآ أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً (94) لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً (96) }(1/346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
94 - {إذا ضربتم} لقيت سرية للرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً معه غنيمات، فسلم عليهم، وآتى بالشهادتين، فقتله أحدهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لم قتلته، وقد أسلم؟ فقال: إنما قالها متعوذاً، قال: هلا شققت عن قلبه؟ ثم وداه الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على أهله غنمه، قتله أُسامة بن زيد، أو المقداد، أو(1/346)
أبو الدرداء / أو عامر بن الأضبط، أو محلم بن جثامة، ويقال: لفظت الأرض قاتله ثلاث مرات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله - تعالى - جعله لكم عبرة، وأمر أن تُلقى عليه الحجارة {كَذَلِكَ كُنتمُ} كفاراً فمن الله - تعالى - عليكم بالإسلام. {إن الذين توفاهم الملآئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسآءت مصيراً (97) إلاّ(1/347)
المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً (99) ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً (100) }(1/348)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
100 - {مُرَاغَمًا} مُتحولاً من أرض إلى أرض، أو مَطلباً للمعيشة، أو مُهَاجَراً، أو مندوحة عما يكره، أو ما يرغم به قومه، لأن من هاجر راغباً عن قومه، فقد راغمهم، أخذ ذلك من الرغم وهو الذل، والتراب رَغام لذلته، والرَّغام ما يسيل من الأنف.
{وَسَعَةً} في الرزق، أو في إظهار الدين، أو من الضلالة إلى الهدي، ومن العيلة إلى الغنى. {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً (101) }(1/348)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
101 - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سرتم، لضربهم الأرض بأرجلهم في السير. {أَن تَقْصُرُواْ} الأركان بالإيماء عند التحام القتال مع بقاء عدد الصلاة، أو تقصروا من أربع إلى اثنتين في الخوف دون الأمن، أو تقصروا في الخوف إلى ركعة وفي الأمن إلى ركعتين، أو في الأمن والخوف إلى ركعتين لا غير. {وَإِذَا كُنتَ فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً (102) }(1/349)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
102 - {وإذا كنت فيهم} أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف، وهي خاصة به أو عامة لأمته عند الجمهور. {وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ} يعني المصلين، قاله الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أو الحارسين. {فَإِذَا سَجَدُواْ} المصلون ركعة واحدة عند من رأى صلاة ركعة فليكن المصلون من ورائكم بإزاء العدو، أو إذا صلوا بعد مفارقة الإمام ركعة أخرى فليكونوا من ورائكم، أو لا يتمون الركعة الثانية إلا بعد وقوفهم بإزاء العدو، {وَلْتَأْتِ طائفة أخرى} وهم الذين كانوا بإزاء العدو فيصلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية عليه، ثم يسلمون معه عند من جعلها ركعة، أو تتم الركعتين وتفارقه قبل التشهد، أو بعده وتركع الركعة الثانية قبل وقوفها بإزاء العدو، أو تقف بإزائه وتنصرف الطائفة الأولى، فتأتي بركعة ثم ترجع إلى مواجهة العدو، ثم تخرج الثانية فتكمل صلاتها، وهذه الصلاة نحو(1/349)
صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع. {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً (103) ولا تهنوا في ابتغآء القوم إن تكونوا تالمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليماً حكيماً (104) }(1/350)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
103 - {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} في خوف، أو أمنٍ {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} تعالى عقبها بالتعظيم والتسبيح والتقديس. {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} أقمتم فأتموها من غير قصر، وإذا أمنتم من الخوف فأتموا الركوع والسجود بغير إيماء. {مَّوْقُوتًا} فرضاً واجباً، أو مؤقَتة بنجومها كلما مضى نجم جاء نجم.(1/350)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
104 - {وَلا تَهِنُواْ} لا تضعفوا في طلبهم للحرب. {وَتَرْجُونَ} من نصر الله ما لا يرجون، أو من ثوابه ما لا يرجون، أو تخافون منه ما لا يخافون {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] .(1/350)
{إنا أنزلنآ إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخآئنين خصيماً (105) واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) ، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، هاأنتم هؤلاء جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا}(1/351)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
105 - {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} نزلت في طعمة بن أُبيرق / أُودع درعاً وطعاماً فجحد ولم تقم عليه بينة، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفع عنه، فبين الله - تعالى - أمره، أو سرق درعاً وطعاماً، فأنكره واتهم به أنصارياً، أو يهودياً، وألقاه في منزله. {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً (110) ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً (111) ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً (112) ولولا فضل الله عليك ورحمته(1/351)
لهمت طآئفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلآ أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً (113) لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً (114) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا (115) }(1/352)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
112 - {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} أراد الذي اتهمه طعمة فلما نزلت فيه الآية، ارتد طعمة، ولحق بمشركي مكة، فنزلت، {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [115] . {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد ضل(1/352)
ضلالاً بعيداً (116) إن يدعون من دونه إلآ إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً (117) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن ءاذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً (119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (121) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً (122) }(1/353)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
117 - {إِنَاثاً} اللات والعزى ومناة، أو الأوثان، وفي مصحف عائشة - رضي الله تعالى عنها وعن أبيها - " إلاَّ أوثاناً "، أو الملائكة، لزعمهم أنهم بنات الله تعالى، أو موات لا روح فيه، لأن إناث كل شيء أرذله، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ,(1/353)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
119 - {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} عن الإيمان، {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} بطول الأمل، ليؤثروا الدنيا على الآخرة. {فليبتكن آذان الانْعَامِ} ليقطعنها نسكاً لآلهتهم كالبحيرة والسائبة. {خَلْقَ اللَّهِ} دينه، أو أراد خصاء البهائم، أو الوشم.(1/353)
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا (126)(1/354)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
123 - {لَّيْسَ) {الثواب} (بِأَمَانِيِّكُمْ} يا أهل الإسلام، أو يا عبدة الأوثان، {وَلآ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} لا يستحق بالأماني بل بالأعمال الصالحة. {سُوَءًا} شركاً، أو الكبائر، أو ما ينال المسلم من الأحزان والمصائب في الدنيا فهو جزاء عن سيئاته، ولما نزلت شقت على المسلمين فشكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها)) وقال أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -: ما أشد هذه،(1/354)
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر إن المصيبة في الدنيا جزاء)) . {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الوالدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127) }(1/355)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
127 - {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ} كانوا لا يورثون النساء ولا الأطفال فلما نزلت المواريث شق عليهم فسألوا فنزلت {ولا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} من الميراث، او كانوا لا يأتون النساء صدقاتهن بل يتملكه الأولياء فلما نزل {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [4] سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت فقوله {لا تُؤُتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أراد به ((الصداق)) {وَتَرْغَبُونَ} عن نكاحهن لقبحهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن، أو {ترغبون} في نكاحهن رغبة في أموالهن، أو جمالهن.(1/355)
{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128) ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129) وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعا حكيما (130) }(1/356)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
128 - {نشوزا} ترفعا عنها لبغضها {أَوْ إِعْرَاضًا} انصرافاً عن الميل إليها لموجدة أو أثرة، لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاق سودة جعلت يومها لعائشة - رضي الله تعالى عنها وعن أبيها - على أن لا يطلقها، فنزلت، أو هي عامة في كل أمرأة خافت النشوز أو الإعراض. {صُلْحًا} بترك مهر، أو إسقاط قسم.(1/356)
{والصلح خير} من الفرقة، أومن النشوز / والإعراض. {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} أنفس النساء عن حقوقهن على الأزواج وعن أموالهن، أو نفس كل واحد من الزوجين بحقه على صاحبه.(1/357)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
129 - {تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ} في المحبة. {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أن تعدلوا في المحبة، أو لو حرصتم في الجماع، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {كُلَّ الْمَيْلِ} أن يميل بفعله كما مال بقلبه. {كَالْمُعَلَّقَةِ} لا أيِّماً ولا ذات بعل. {ولله ما في السماوات ومافي الأرض ولقد وصينا الذين أوتو الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والأخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)(1/357)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
133 - {ويأت بآخرين} لما نزلت ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان، فقال ((قوم هذا)) يعني عجم الفرس.(1/357)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
134 - {ثواب الدنيا} الغنيمة، وثواب {الآخرة) {الجنة} (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين(1/357)
والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)(1/358)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
135 - {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} بالعدل. {شُهَدَآءَ لِلَّهِ} بالحق {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} بالإقرار. {فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى) اختصم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غني وفقير فكان ضَلْعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فنزلت، أو نزلت في الشهادة لهم وعليهم. {وإن تلوا} أمور الناس، أو تتركوا، خطاب للولاة والحكام. {تلووا} كم لي اللسان بالشهادة، فيكون الخطاب للشهود قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -. {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136) }
1360 - {يا أيها الذين آمنوا} بمن تقدم من الأنبياء. {آمنوا بالله ورسوله} خطاب لليهود، أو المنافقين، يا أيها الذين آمنوا بأفواههم آمنوا بقلوبكم، أو للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا دوموا على إيمانكم.(1/358)
{إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137) بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139) وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140)(1/359)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
137 - {آمنوا) {بموسى} (ثم كفروا} بعبادة العجل {ثم آمنوا} بموسى بعد عوده {ثُمَّ كَفَرُواْ) {بعيسى} (ثُمَّ ازدادوا كفرا} بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين - أو المنافقون آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا، ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم، أو قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين فأظهروا الإيمان ثم الكفر ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم عليه فيستتاب المرتد ثلاث مرات فإن عاد قُتل بغير استتابة، لأجل هذه الآية قاله علي - رضي الله تعالى عنه -، أو يستتاب كلما ارتد عند الجمهور. {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141) }(1/359)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
141 - {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} فأعطونا من الغنيمة. {نَسْتَحْوِذْ} نستولي عليكم بالنصر والمعونة. {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالتخذيل عنكم، أو ألم نبيّن لكم أنا على دينكم، أو ألم نغلب عليكم، أصل الاستحواذ: الغلبة. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} في الآخرة، أو حجة.(1/359)
{إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً (144) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكراً عليماً (147) }(1/360)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
142 - {يخادعون الله} جعل خداعهم للرسول صلى الله عليه وسلم بما أظهروه من الإيمان خداعاً له {خَادِعُهُمْ} يجزيهم على خداعهم، سمي الجزاء باسم الذنب، أو أمر فيهم كعمل الخادع؛ بأمره بقبول إيمانهم، أو ما يعطيهم في الآخرة من نور يمشون به مع المؤمنين ثم يطفأ عند الصراط فذلك خدعه إياهم. {إِلاَّ قَلِيلاً} أي ذكر الرياء حقيراً يسيراً /، لاقتصارهم على ما يظهر من التكبير دون ما يخفى من القراءة والتسبيح. {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً (148) إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً (149) إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض(1/360)
ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً (150) أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً (151) والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً (152) }(1/361)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
148 - {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فيدعو على ظالمه، أو يخبر بظلمه إياه، أو فينتصر منه، أو ينزل برجل فلا يحسن ضيافته فله أن يجهر بذمه.(1/361)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
149 - {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا} بدلاً من السوء، أو تخفوا السوء وإن لم تبدوا خيراً {عَفُوًّا} عن السوء، كان أولى، وإن كان ترك العفو جائزا. - {يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ، ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعتدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154) }(1/361)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
153 - {كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ} سأله اليهود أن ينزل كتاباً مكتوباً، كما نزلت الألواح على موسى صلى الله عليه وسلم، أو سألوه نزول ذلك عليهم خاصاً تحكماً في طلب الآيات، أو(1/361)
سألوه أن ينزل على طائفة من رؤسائهم كتاباً بتصديقه {جَهْرَةً} معاينة، أو قالوا جهرة أرنا الله، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، {بِظُلْمِهِمْ} لأنفسهم، أو بظلمهم في سؤالهم.(1/362)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
154 - {الْبَابَ} باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل، وهو باب من أبواب بيت المقدس، أو باب حطة. {لا تَعدَّوا} بارتكاب المحظورات، {لا تَعْدُواْ} الواجب. {مِّيثَاقَاً غَلِيظًا} هو ميثاق آخر غير الميثاق الأول، {غَلِيظاً} العهد بعد اليمين، أو بعض العهد ميثاق غليظ. {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بئايات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً (158) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً (159) فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً (160) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً (161) لكن(1/362)
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً (162) إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبوراً (163) ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً (164) رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما (165) لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملآئكة يشهدون وكفى بالله شهيداً (166) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً (168) إلاّ طريق جهنم خالدين فيهآ أبداً وكان ذلك على الله يسيراً (169) يآ أيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم فئامنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً (170) }(1/363)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
155 - {غُلْفٌ} أوعية للعلم، ومع ذلك فلا تفهم حجتك ولا إعجازك، أو محجوبة عن فهم دلائل صدقك كالمحجوب في غلافه. {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها فلا تفهم أبداً، أو جعل عليها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع. {إِلاَّ قَلِيلاً} منهم، أو إلاَّ بقليل وهو(1/363)
إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض.(1/364)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
157 - {رَسُولَ اللَّهِ} في زعمه، من قول اليهود، أو هو من قول الله - تعالى - لا على جهة الحكاية. {شُبِّهَ لَهُمْ} كانوا يعرفونه، فَأُلقي شَبَهه على غيره فقتلوه، أو لم يكونوا يعرفونه بعينه، وإن كان مشهوراً بينهم بالذكر فارتشى منهم مرتشي ثلاثين درهماً وَدَلَّهم على غيره، أو كانوا يعرفونه فخاف الرؤساء فتنة العوام بأن الله منعهم فقتلوا غيره إيهاماً أنه المسيح ليزول افتتانهم به. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ} قبل القتل فقال بعضهم: هو إله، وقال آخرون: هو ولد وقال آخرون: ساحر. {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف، أو ما لهم بحاله من علم هل كان رسولاً، أو غير رسول؟ إلا اتباع الظن. {يَقِيناً} وما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك: ما قتلته علماً، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو ما قتلوا أمره يقيناً، إن الرجل هو المسيح أو غيره، أو ما قتلوه حقاً.(1/364)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
158 - {رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إلى سمائه /، أو إلى موضع لا يجري فيه حكم أحد من العباد.(1/364)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
159 - {إلا ليؤمنن به} بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي، أو بالمسيح قبل موت المسيح إذا نزل من السماء، أو قبل موت الكتابي يؤمن بما نزل من الحق وبالمسيح. {شَهِيداً} على نفسه بالعبودية وتبليغ الرسالة، أو بتكذيب المكذب وتصديق المصدق من أهل عصره. {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا(1/364)
الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173)(1/365)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
171 - {لا تَغْلُواْ} لليهود أو لليهود والنصارى غلوا في المسيح، فقالت النصارى هو الرب، وقالت اليهود لغير رِشدة، والغلو: مجاوزة الحد، غلا السعر: جاوز الحد في الزيادة، وغلا في الدين: أفرط في مجاوزة الحق. {إِلاَّ الْحَقَّ} لا تقولوا المسيح إلاه ولا لغير رشدة. {وَكَلِمَتُهُ} ، لأن الله - تعالى - كلمه حين قال له: ((كن)) ، أو لأنه بشارة بشر الله بها، أو لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله. {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أضافه إليه تشريفاً، أو لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح، أو لأن جبريل - عليه السلام - نفخ فيه الروح بإذن الله - تعالى - والنفخ في اللغة: يسمى روحاً. {ثَلاثَةٌ} أب وابن وروح القدس، أو قول من قال: آلهتنا ثلاثة. يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)(1/365)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
174 - {برهان} النبي صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجز. {نُوراً} القرآن، لإظهاره للحق كما تظهر المرئيات بالنور.(1/365)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
175 - {وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} بالقرآن، أو بالله تعالى. {وَيَهْدِيهِمْ} يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة، أو يأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة.(1/365)
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم (176) }(1/366)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
176 - {يَسْتَفْتُونَكَ} آخر سورة أُنزلت كاملة سورة براءة، , وآخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم جابراً - رضي الله تعالى عنه - في مرضه، سأله كيف يصنع بماله، وكان له تسع أخوات فنزلت.(1/366)
(سورة المائدة)
(مدنية)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{يآ أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1) يآ أيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلآئد ولآ ءآمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) }(1/367)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
1 - {بِالْعُقُودِ} عهود الله التي أخذ بها الإيمان على عباده فيما أحلّ وحرّم، أو ما أخذ على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة والإنجيل من [تصديق] صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو العهد والحلف الذي كان في الجاهلية أو عهود الدِّين كلها، أو عقود الناس كالبيع والإجارة وما يعقده على نفسه من نذر أو يمين. {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ(1/367)
الإبل والبقر والغنم، أو أجنة الأنعام إذا ذكيت فوجد الجنين ميتاً، أو بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه مأخوذ من نَعمة الوطء.(1/368)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
2 - {شَعَآئِرَ اللَّهِ} معالم الله من الإشعار وهو الإعلام: مناسك الحج، أو محرمات الإحرام، أو حَرَم الله، أو حدوده في الحلال والحرام والمباح، أو دينه كله {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} [الحج: 32] أي دين الله. {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} لا تقاتلوا فيه وهو رجب أو ذو القعدة أو الأشهر الحرم. {الْهَدْىَ} كل ما يهدى إلى البيت من شيء، أو ما لم يقلد من النعم وقد / جعل على نفسه أن يهديه ويقلده. {الْقلآئِدَ} قلائد الهدى، أو كانوا إذا حجوا تقلّدوا من لحاء الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابهم، أو كانوا يأخذون لحاء شجر الحرم إذا خرجوا منه فيتقلدون ليأمنوا فنهوا عن نزع شجر الحرم. {امين} : قاصدين أممت كذا قصدته. {فَضْلاً} أجراً، أو ربح تجارة {رضوانا} من الله تعالى عنهم بنسكهم. {يَجْرِمَنَّكُمْ} : يحملنكم، جرمني فلان على بغضك حملني، أو يكسبنكم، جرمت على أهلي: كسبت لهم. {شنآن} : بغض، أو عداوة.
أتى الحُطم بن هند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو؟ فأخبره، فخرج فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه، ثم أقبل من العام المقبل حاجّاْ مقلداً الهدى فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزلت فقال ناس من الصحابة - يا رسول الله خَلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا فنزلت. ثم نسخ جميعها، أو نسخ منها ولا الشهر(1/368)
الحرام، ولا آمين البيت الحرام، أو نسخ التقلد بلحاء الشجر فاتفقوا على نسخ بعضها. {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3) }(1/369)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
3 - {الميت} كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، أوكل ما فارقته الحياة من دواب البرّ وطيره. {والدم} محرم إذا كان مسفوحاً، فلا يحرم دم السمك، [أو] المسفوح وغيره حرام إلا ما خصّته السنّة من الكبد(1/369)
والطحال فحرم دم السمك. {لحم الْخِنزِيرِ} يخصّه التحريم عند داود ويعم باقي أجزائه عند الجمهور، ولا فرق بين الأهلي والوحشي. {وَمَآ أُهِلَّ} ذبح لغير الله من صنم أو وثن، استهل الصبي صاح، ومنه إهلال الحج. {المنخنقة} بحبل الصائد وغيره حتى تموت، أو التي توثق فيقتلها خناقها. {وَالْمَوْقُوذَةُ} المضروبة بالخشب حتى تموت. وقذه وقذاً: ضربه حتى أشفى على الهلاك. {المتردية} من رأس جبل أو بئر. {النطيحة} التي تنطحها أخرى فتموت. {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} من المنخنقة، وما بعدها عند الجمهور أو مما أكل السبع خاصة، والأكيلة التي تحلها الذكاة هي التي فيها حياة قوية لا كحركة المذبوح، أو يكون لها عين تطرف وذنب يتحرك. {تَسْتَقْسِمُواْ} تطلبوا علم ما قسم لكم من رزق أو حاجة. {بِالأَزْلامِ} قداح مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والآخر غُفل، كانوا إذا أرادوا أمراً ضربوا بها، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني تركوه، وإن خرج الغفل أعادوه، سمي ذلك استقساماً لطلبهم علم ما قسم لهم، أخذ من قسم اليمين لأنهم التزموا بالقداح ما يلتزمونه باليمين. {ذَلِكُمْ} الذي نهيتم عنه فسق وخروج عن الطاعة. {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من دينكم أن ترتدوا عنه، أو أن يبطلوه أو يقدحوا في صحته، وكان ذلك يوم عرفة في حجة الوداع بعد دخول العرب في الإسلام حين لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم مشركاً {فَلا تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم واخشوا مخالفتي {الْيَوْمَ اكْمَلْتُ} يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش بعد ذلك إلا أحدى وثمانين ليلة، أو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كله إلى أن نزل ذلك يوم عرفة وأكماله بإكمال فرائضه وحلاله وحرامه فلم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها شيء من الفرائض من تحليل ولا تحريم، أو بإكمال الحج فلا يحج معكم مشرك. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} بإكمال الدين {وَرَضِيتُ لَكُمُ} الاستسلام لأمري {دِيناً} أي طاعة. {فَمَنِ اضْطُرَّ} أصابه ضر من الجوع. {مَخْمَصَةٍ} مفعلة كمبخلة ومجبنة ومجهلة ومحزنة، من الخمص وهو اضطمار البطن من الجوع {مُتَجَانِفٍ} متعمد أو مائل. جنف القوم مالوا، وكل أعوج فهو أجنف. نزلت(1/370)
هذه السورة والرسول صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، أو في مسير له من حجة الوداع، أو يوم الإثنين بالمدينة. {يسئلونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4) }(1/371)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
4 - {الطَّيِّبَاتُ} : الحلال وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بالمستلذ، قلت وهو بعيد إذ لا جواب فيه. {وَمَا عَلَّمْتُم} وصيد ما عَلَّمتم {الْجَوَارِحِ} الكواسب، فلان جارحة أهله أي كاسبهم {مُكَلِّبِينَ} بالكلاب وحدها فلا يحل إلا صيد الكلب، أو بالكلاب وغيرها أي مُضَرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب، أو التكليب من صفة الجارح المعلَّم {تُعَلِّمُونَهُنَّ} من طلب الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من تأديبه فإن أَكَلَ الجارحة من الصيد فيحل، أو لا يحل، أو يحل في جوارح الطير دون السباع. لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا(1/371)
يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت فنزلت، أو سأله زيد الخير فقال يا رسول الله فينا رجلان يقال لأحدهما ذَريح والآخر يكنى أبا دجانة لهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها؟ فنزلت. {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5) }(1/372)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
5 - {طعام الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} ذبائحهم وطعامهم. {وَالْمُحْصَنَاتُ} حرائر الفريقين عفيفات أو فاجرات، أو العفائف من الحرائر والإماء، ومحصنات أهل الكتاب المعاهدات دون الحربيات، أو المعاهدات والحربيات عند الجمهور. {مُحْصِنِينَ} أعفّاء {مُسَافِحِينَ} زناة {مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} : ذات خليل تقيم معه على السفاح. {يآ أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6) }(1/373)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
6 - {إِذَا قُمْتُمْ} إذا أردتم القيام إلى الصلاة مُحدِثين، أو يجب على كل قائم إلى الصلاة أن يتوضأ ولا يجوز أن يجمع فريضتين بوضوء واحد يروى عن عمر وعلي رضي الله - تعالى - عنهما، أو كان واجباً على كل قائم إلى الصلاة فنسخ إلاَّ عن المحدث " وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ثم جمع الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ". وكان قد أُمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه(1/373)
أمر بالسواك ورفع الوضوء. {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7) يآ أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10) يآ أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) }(1/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
8 - {بِالْقِسْطِ} بالعدل شهداء لحقوق الناس / أو بما يكون من معاصيهم، أو شهداء لأمر الله بأنه حق.(1/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
11 - {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله - تعالى - على ذلك فنزلت هاتان الآيتان أو خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير(1/374)
يستعين بهم في دية فهمّوا بقتله فنزلت تذكرهم نعمته عليهم بخلاص نبيهم صلى الله عليه وسلم. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وءاتيتم الزكاة وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سوآء السبيل (12) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13) ومن الذين قالوآ إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا(1/375)
حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14) }(1/376)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
12 - {ميثاق بني إسرائيل} : بإخلاص العبادة ولزوم الطاعة {نَقِيباً} أخذ من كل سبط منهم نقيب وهو الضمين، أو الأمين، أو الشهيد على قومه، والنقب في اللغة الواسع. فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم، بُعثوا ضمناء لقومهم بما أخذ به ميثاقهم، أو بُعثوا إلى الجبارين ليقفوا على أحوالهم، فرجعوا ينهون عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأسهم وعظم خلقهم إلا اثنين منهم. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} نصرتموهم، أو عظمتموهم، مأخوذ من المنع عزرته عزراً رددته عن الظلم.(1/376)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
13 - {قاسية} من القسوة وهو الصلابة و {قَسِيَّة} أبلغ من قاسية، او بمعنى فاسدة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} بالتغيير والتبديل وسوء التأويل {حَظّاً} نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. {خَآئِنَةٍ} خيانة، أو فرقة خائنة {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) {نسختها} (قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] أو {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] أو هي محكمة في العفو والصفح إذا رآه. {يآ أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام(1/376)
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) }(1/377)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
15 - {تخفون} من نبوة - محمد صلى الله عليه وسلم ورجم الزانيين. {نور} محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العزيز.(1/377)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
16 - {السَّلامِ} : هو الله، أو السلامة من المخاوف {الظُّلُمَاتِ) {الكفر و} (النُّورِ) {الإيمان} (صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق الحق ودين الحق، أو طريق الجنة في الآخرة. {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شيء قدير (17) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) يآ أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جآءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19) }(1/377)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
18 - {أبناء الله} خوف الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقالوا: لا تخوفنا نحن أبناء الله وأحباؤه " أو قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد، أو(1/377)
زعمت اليهود أنّ الله - تعالى - أوحى إلى إسرائيل [أنّ ولدك بِكْري من الولد] فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وقالته النصارى لما رأوا في الإنجيل من قوله: " أذهب إلى أبي وأبيكم " أو لأجل قولهم: " المسيح ابن الله " وهم يرجعون إليه فجعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، فردّ عليهم بقوله {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} لأن الأب المشفق لا يعذب ولده ولا المحب حبيبه. {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكاً وءاتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين (20) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوآ إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يا موسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلآ إنا هاهنا قاعدون (24) قال رب إني لآ أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26) }(1/378)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
20 - {أنبياء} الذين جاءوا بعد موسى صلى الله عليه وسلم أو السبعون الذين اختارهم(1/378)
موسى صلى الله عليه وسلم. {ملوكا} لأنفسكم بالتخليص من استعباد القبط، أو كل واحد ملك لنفسه وأهله وماله، أو كانوا أول من ملك الخَدم من بني آدم، أو جُعلوا ملوكاً بالمنّ والسلوى والحجر، أو كل من ملك داراً وزوجة وخادماً فهو ملك من سائر الناس. {مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً} / المنّ والسلوى والغمام والحجر، أو كثرة الأنبياء والآيات التي جاءتهم.(1/379)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
21 - {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} بيت المقدس، أو الشام، أو دمشق وفلسطين وبعض الأردن. المقدسة: المطهرة. {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} هبة منه ثم حَرَّمها عليهم بعصيانهم {وَلا تَرْتَدُّواْ} عن طاعة الله - تعالى - أو عن الأرض التي أُمِرتم بدخولها.(1/379)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
22 - {جَبَّارِينَ} الجبار الذي يجبر الناس على ما يريد، وجبر العظم لأنه كالإكراه له على الصلاح، نخلة جبارة: فاتت اليد طُولاً لامتناعها كامتناع الجبار من الناس.(1/379)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
23 - {الذين يخافون} الله، أو يخافون الجبارين فلم يمنعهم خوفهم من قول الحق. {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإسلام، أو بالتوفيق للطاعة، كانا من الجبارين فأسلما قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو كانا في مدينة الجبارين على دين موسى صلى الله عليه وسلم، أو كانا من النقباء يُوشع بن نون وكلاب بن يوقنا. {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} قالوا ذلك لعلمهم أنّ الله - تعالى - كتبها لهم، أو لعلمهم أنّ الله - تعالى - ينصرهم على أعدائه. {واتل عليهم نبأ ابنىءادم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوأ(1/379)
بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (31) }(1/380)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
27 - {ابني آدم} رجلان من بني إسرائيل قاله الحسن، أو قابيل وهابيل ابنا آدم - عليه الصلاة والسلام - لصلبه. {قُرْبَاناً} بِراً يقصد به التقرب من رحمة الله - تعالى - قرباه لغير سبب، أو لسبب على الأشهر، كانت حواء تضع في كل عام غلاماً وجارية فيتزوج الغلام بالجارية من البطن الآخر، ولم يزل بنو آدم في نكاح الأخوات حتى مضت أربعة آباء فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات، فلما أراد هابيل أن يتزج بتوأمة قابيل منعه لأنه وتوأمته أحسن من هابيل وتوأمته، أو لأنهما من ولادة الجنة وهابيل وتوأمته من ولادة الأرض، فكان هابيل راعياً فقرب سخلة سمينة من خيار ماله، وكان قابيل حراثاً فقرب جُرْزَة سنبل من شر ماله فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل علامة لقبوله وتركت قربان قابيل ولم يكن
لهم مسكين يتصدّق عليه وتقبل قربان هابيل لتقربه بخيار ماله قاله الأكثرون، أو لأنه أتْقَى من قابيل ولذلك قال {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} والتقوى ها هنا الصلاة وكانت السخلة المذكورة ترعى في الجنة حتى فدي بها إسحق أو إسماعيل، وقربا ذلك بأمر آدم - عليه الصلاة والسلام - لما اختصما إليه، أو من قبل أنفسهما، وكان آدم - عليه الصلاة والسلام - قد توجه إلى مكة - بإذن ربه - زائراً، فلما رجع وَجَده قد(1/380)
قتله، وكان عند قتله كافراً، أو فاسقاً.(1/381)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
28 - {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ} كان قادراً على دفعه مع إباحته له، أو لم يكن له الامتناع ممن أراد قتله.(1/381)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
29 - {تبوء} ترجع {بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} بإثم قتلي، وإثم ذنوبك التي عليك، أو بإثمي بخطاياي وإثمك قتلك لي.(1/381)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
30 - {فَطَوَّعَتْ} فعلت من الطاعة فزينت، أو فشجعت، أو فساعدت، ولم يدرِ كيف يقتله فظهر له / إبليس فعلمه فقتله غيلة، فألقى عليه وهو نائم صخرة فشدخه بها، فكان أول قتيل في الأرض.(1/381)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
31 - {غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأَرْضِ} على غراب آخر، أو مَلَكاً على صورة غراب يبحث على سوأة أخيه ليعرف كيف يدفنه. {سوأة أَخِيهِ} عورته أو جيفته لأنه تركه حتى أنتن {ويلتى} الويل: الهلكة {النَّادِمِينَ} قيل: لو ندم على الوجه المعتبر لقبلت توبته لكنه ندم على غير الوجه. {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرآءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32) }
{مِنْ أَجْلِ} قتله أخاه كتبنا {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قَوَد {أَوْ فَسَادٍ} كحرب لله ورسوله وأخافة للسبيل. {قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس، ومن شدّ على يد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو كأنما قتل الناس عند المقتول. ومن استنقذها من(1/381)
هلكة فكأنما أحيا الناس عند المستنقذ، أو يصلَى النار بقتل الواحد كما يصلاها بقتل الكل، وإن سَلِم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً، أو يجب بقتل الواحد من القصاص ما يجب بقتل الكل. ومن أحيا القاتل بالعفو عنه فله مثل أجر من أحيا الناس جميعاً، أو على الناس ذم القاتل كما لو قتلهم جميعاً ومن أحياها بإنجائها من سبب مهلك فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً، أو عظم الله - تعالى - أجرها ووزرها فأحْيِها بمالك أو بعفوك. {إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوآ أو يصلبوآ أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموآ أن الله غفور رحيم (34) يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوآ إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37) }(1/382)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
33 - {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهداً كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فأفسدوا في الأرض، أو في العرنيين المرتدّين، أو فيمن حارب وسعى بالفساد. والمحاربة: الزنا والقتل والسرقة،(1/382)
أو المجاهرة بقطع الطريق. والمكابرة باللصوصية في المصر وغيره، أو المجاهرة بقطع الطريق دون المكابر في المصر فيتخير الإمام فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي، أو يعاقبهم على قدر جناياتهم، فيقتل إن قتلوا، أو يصلب إن(1/383)
قتلوا وأخذوا المال، ويقطع من خلاف إذا اقتصروا على أخذ المال قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وعن الرسول صلى الله عليه وسلم " إنه سأل جبريل - عليه السلام - عن قصاص المحارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه " {أَوْ يُنفَوْاْ} من بلاد الإسلام إلى أرض الشرك أو من مدينة إلى مدينة، أو بالحبس، أو بطلبهم لإقامة الحد حتى يبعدوا.(1/384)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
34 - {تَابُواْ} من الشرك والفساد بإسلامهم، ولا يسقط حد المسلم بالتوبة قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أو التائب من المسلمين من المحاربين بأمان الإمام دون التائب بغير أمان، أو من لحق بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه / أو من كان في دار الإسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها قبلت توبته قبل القدرة وإن لم يكن له فئة فلا تضع توبته شيئاً من عقوبته، أو تسقط عنه حدود الله - تعالى - دون حقوق العباد، أو تسقط عنه سائر الحدود والحقوق سوى الدماء. {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشآء ويغفر لمن(1/384)
يشآء والله على كل شيء قدير (40)(1/385)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
38 - {وَالسَّارِقُ} قدم السارق على السارقة والزانية على الزاني لان الرجل أحرص على المال من المرأة والمرأة أحرص على الاستمتاع منه، وقطعت يد السارق لوقوع السرقة بها، ولم يقطع الذكر وإن وقعت الخيانة به لأن في قطعه فوات النسل، أو لأن الزجر لا يحصل به لخفائه بخلاف اليد فإنها ظاهرة، أو لأن السارق إذ اانزجر بقي له مثل يده بخلاف الزاني إذا انزجر فإنه لا يبقى له ذكر آخر. قيل نزلت في طعمة بن أبيرق وفي وجوب الغرم مع القطع مذهبان(1/385)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
39 - {فَمَن تَابَ} التوبة الشرعية أو بقطع اليد(1/385)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
40 - {يُعَذِّبُ} من مات كافراً {وَيَغْفِرُ} لمن تاب من كفره، أو يعذب في الدنيا على الذنوب بالقتل والآلام والخسف وغير ذلك من العذاب، ويغفر لمن شاء في الدنيا بالتوبة. {يآ أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوآ ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41) سماعون للكذب أكالون للسحت فإن(1/385)
جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك ومآ أولئك بالمؤمنين (43) }(1/386)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
41 - {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ) {المنافقون} (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يسمعون كلامك ليكذبوا عليك {سماعون لقوم آخرين} ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا بعدهم، أو قابلون الكذب عليك {سماعون لقوم آخرين} في قصة الزاني المحصن من اليهود، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه فأنكروه. {يحرفون} كلام محمد صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه غيَّروه أو تغيير حكم الزاني وإسقاط القَوَد عند وجوبه. {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي الجلد، أرسلت اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بزانيين منهم، وقالوا: إن حكم بالجلد فاقبلوه، وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه. فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا هل في التوراة الرجم؟ فأمسك فلم يزل به حتى اعترف، فرجمهما الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أنكر ابن صوريا بعد ذلك فنزلت فيه هذه الآية، أو إن أوتيتم(1/386)
الدية، قتلت بنو النضير رجلاً من قريظة وكانوا يمتنعون من القَوَد بالدية إذا جنى النضيري، وإذا جنى القرظي لم يقنع النضيري إلاَّ بالقود، فقالت النضير: إن أفتاكم الرسول بالدية فاقبلوها وإن أفتى بالقود فردوه {فِتْنَتَهُ} عذابه، أو ضلاله، أو فضيحته. {يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} من الكفر، أو من الضيق والحرج عقوبة لهم.(1/387)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
42 - {لِلسُّحْتِ} الرشوة، أو رشوة الحكم، أو الاستعجال على المعاصي، أو ما فيه العار من الأثمان المحرمة كثمن الكلب والخنزير والخمر وعَسْب الفحل وحلوان الكاهن. والسحت من الاستئصال /، لأنه(1/387)
يستأصل الدين والمروءة. {فإن جاءوك} اليهوديان الزانيان، خير الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم بينهما بالرجم، أو يدع، أو قرظي ونضيري قتل أحدهما الآخر فخير في الحكم بينهما بالقود والتخيير محكم، أو منسوخ بقوله - تعالى -: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أنزل الله} [49] قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما.(1/388)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
43 - {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} بالرجم، أو بالقَوَد. {مِن بَعْدِ ذَلِكَ} بعد حكم التوراة، أو بعد حكمك. {وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} في تحكيمك أنه من عند الله - تعالى - مع جحدهم نبوتك، أو في توليهم عن حكم الله غير راضين به. {إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئاياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) }(1/388)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
44 - {هُدىً} دليل} . {وَنُورٌ) {بيان} (النَّبِيُّونَ} جماعة أنبياء منهم محمد، أو محمد وحده صلى الله عليه وسلم وإن ذكر بلفظ الجمع، والذي حكم به رجم الزاني، أو القود، أو الحكم بكل ما فيها ما لم يرد نسخ، أو تخصيص.(1/388)
{لِلَّذِينَ هَادُواْ} اللام بمعنى " على "، وفي الحكم بها على غير اليهود خلاف. {الأحبار} العلماء واحدهم، " حبر " بالكسر والفتح من التحبير وهو التحسين، لأن العالم يحسن الحسن، ويقبح القبيح، أو يحسن العلم. {اسْتُحْفِظُواْ} استودعوا، أو حفظوا. {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} على حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة. فلا تخشوهم في كتمان ما أُنزلت أو في الحكم به. {ثَمَناً قَلِيلاً} أجراً على كتمانها، أو أجراً على تعليمها. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} نزلت والآيتان التي بعدها في اليهود دون المسلمين، أو نزلت في أهل الكتاب، وهي عامة في سائر الناس، أو أراد بالكافرين المسلمين، وبالظالمين: اليهود، وبالفاسقين: النصارى، أو من لم يحكم به جاحداً كفر، وإن كان غير جاحد ظلم وفسق.(1/389)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
45 - {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} نزلت في القرظي والنضيري قتل أحدهما الآخر. {كفارة} للمجروح، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " من جرح في جسده جراحة فتصدّق بها كفّر عنه من ذنوبه بمثل ما تصدّق به " أو للجارح لقيامه مقام أخذ الحق، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.(1/389)
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48} وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50) }(1/390)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
48 - {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن. {مُصَدِّقاً} بما قبله من الكتب، أو موافقاً لها. {وَمُهَيْمِناً} أميناً، أو شاهداً، أو حفيظاً. {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أنزل الله} فيه دليل على وجوب الحكم بالقرآن دون التوراة والإنجيل. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} يا أمة محمد، أو جميع الأمم {شِرْعَةً} طريقة ظاهرة، ومنه شريعة الماء، لأنها أظهر طرقه إليه وأشرعت الأسنة أظهرت، والمنهاج الطريق الواضح فمعنى قوله - تعالى - {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} سنّةً وسبيلاً. {أُمَّةً وَاحِدَةً} جمعكم على ملة واحدة، أو على حق. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه(1/390)
منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهاؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}(1/391)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
51 - {لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} لما ظهرت عداوة اليهود تبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله، وقال عبد الله بن أُبي: لا أتبرأ من حلفهم / أخاف الدوائر، وأنزلت في أبي لبابة [بن] عبد المنذر لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقد نزلوا على حكم سعد(1/391)
فنصح لهم، وأشار إلى أنه الذبح، أو في أنصاريين خافا من وقعة أحدٍ فأراد أحدهما التهود، والآخر التنصر ليكون لهما أماناً، حذراً من إدالة الكفار. {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} مثلهم في الكفر، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما.(1/392)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
52 - {مَّرَضٌ} شك، أو نفاق، نزلت في ابن أُبي، وعبادة، أو في قوم منافقين. {فِيهِمْ} في موالاتهم. {دَآئِرَةٌ} هي الدولة ترجع عمّن انتقلت إليه إلى من كانت له سميت بذلك، لأنها تدور إليه إلى بعد زوالها عنه. {بِالْفَتْحِ} فتح مكة، او فتح بلاد المشركين، أو الحكم والقضاء. {أَوْ أمْرٍ} دون الفتح الأعظم، أو موت من تقدّم ذكره من المنافقين أو إظهار نفاقهم، والأمر بقتلهم، أو الجزية. {يآ أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم (54) إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56) يآ أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً(1/392)
ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58) }(1/393)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
54 - {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} أبو بكر وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردة، أو قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن فكان لهم في نصرة الإسلام أثر حسن، ولما نزلت ((أومأ الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء في يده إلى أبي موسى، وقال: هم قوم هذا)) ، أو هم الأنصار. {أَذِلَّةٍ} ذوي رقة. {أَعِزَّةٍ) ذوي غلظة.(1/393)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
55 - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} نزلت في عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أو في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه شكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أظهرته اليهود من عداوتهم. {وَهُمْ رَاكِعُونَ} نزلت في علي - رضي الله تعالى عنه - تصدق،(1/393)
وهو راكع، أو عامة في المؤمنين {وَهُمْ رَاكِعُونَ} نزلت فيهم، وهم ركوع، أو فعلوا ذلك في ركوعهم، أو أراد بالركوع النافلة / وبإقامة الصلاة الفريضة. {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم(1/394)
فاسقون (59) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سوآء السبيل (60) وإذا جآءوكم قالوآ ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63) }(1/395)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
62 - {فِى الإثْمِ} معصية الله. {وَالْعُدْوَانِ) {ظلم الناس} (السُّحْتَ} الرشا، أو الربا.(1/395)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
63 - {لَوْلا} هلاَّ {الرَّبَّانِيُّونَ} علماء الإنجيل {وَالأَحْبَارُ} علماء التوراة {لَبِئْسَ} ما كان العلماء يصنعون من ترك النكير، ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية. {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيراً منهم مآ انزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة كلمآ أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين (64) ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون (66) }(1/395)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
64 - {مَغْلُولَةٌ} عن عذابهم، أو مقبوضة عن العطاء على جهة البخل. {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} الزموا البخل ليتطابق الكلام، أو {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} في النار حقيقة. {ولعنوا} بتعذيبهم بالجزية قاله الكلبي. {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نعمة الدنيا ونعمة الدِّين، لفلان عندي يد أي نعمة، أو قوتاه بالثواب والعقاب، واليد القوة {أُوْلِى الأيدى والأبصار} [ص: 45] أو ملك الدنيا والآخرة، واليد الملك، من قولهم عنده ملك يمينه، أو التثنية للمبالغة في صفة النعمة، كلبيك وسعديك، قال:
(يداك يدا مجد وكف مفيدة ... ... ... ...)
{طُغْيَاناً وَكُفْراً} بحسدهم وعنادهم. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} يريد ما بين اليهود من الخلاف، أو ما بين اليهود والنصارى /، لتباين قولهم في المسيح.(1/396)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
66 - {أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} بالعمل بما فيهما من غير تحريف ولا تبديل، أو أقاموهما نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من حكم الله - تعالى - لم يزلوا. {مِن فَوْقِهِمْ} بالمطر، ومن تحتهم بإنبات الثمر، أو عَبَّر به عن التوسعة كما يقال: فلان في الخير من قَرنه إلى قدمه. {مُّقْتَصِدَةٌ} على أمر الله - تعالى - أو عادلة. {يآ أيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله(1/396)
يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67) قل يآ أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم مآ أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين (68) إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69) }(1/397)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
67 - {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ} ألزمه أن يبلغ ما أنزل من القرآن أحكامه وجدله، وقصصه، ولا يلزمه تبليغ غيره من الوحي إلا ما تعلق بالأحكام. {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} إن كتمت أية {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . {يَعْصِمُكَ} أستظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم بشجرة في سفره، فأتاه أعرابي، فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني، فقال: الله، فرعدت يده وسقط السيف وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فنزلت، أو " كان يهاب قريشاً فنزلت، وكان يُحرس فلما نزلت أخرج رأسه من القبة، وقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله - تعالى " {لا يَهْدِى(1/397)
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} إلى بلوغ غرضهم، أو إلى الجنة. {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون (70) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (71) }(1/398)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
70 - {ميثاق} أيمان أخذها عليهم أنبياؤهم أن يعملوا بها، وأُمروا بتصديق الرسل، أو آيات ظاهرة تقرّر بها علم ذلك عندهم. {وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ} بعد أخذ الميثاق {رُسُلاً} . {تَهْوَى} أخذ الهوى من هواء الجو لاستمتاع النفس بكل واحد منهما. {فريقاً كذبوا} اقتصروا على تكذيبه. {وفريقاً} كذبوه وقتلوه.(1/398)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
71 - {فِتْنَةٌ} عقوبة من السماء، أو ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم، أو ما ابتلوا به ممن تغلب عليهم من الكفار. {فَعَمُواْ} عن الرشد {وَصَمُّواْ} عن الوعظ حتى قتلوا الأنبياء ظناً أن لا تكون فتنة. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ} - تعالى - عليهم بعد معاينة الفتنة. {ثُمَّ عَمُواْ} عادوا إلى ما كانوا عليه قبل التوبة وكان العود من أكثرهم. {لقد كفر الذين قالوآ إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني(1/398)
إسرآءيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله هو السميع العليم (76) قل يآ أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل (77) لعن الذين كفروا من بني إسرآءيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا ووكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي ومآ أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ولكن كثيراً منهم فاسقون (81) }(1/399)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
75 - {إلا رسول} رد على اليهود قولهم إنه لغير رشدة وتكذيبهم إياه،(1/399)
وعلى النصارى قولهم إنه ابن الله. {وأمه صديقة} رد على اليهود نسبتها إلى الفاحشة {صديقة} مبالغة في صدقها ونفي الفاحشة عنها، أو مصدقة بآيات ربها. {يأكلان الطعام} لحاجتهما إليه، والإله غير محتاج، أو كنى بذلك عن الغائط فإنه لا يليق بالإله. {الآيات} الحجج والبراهين. {يؤفكون} يصرفون، أفكت الأرض صرف عنها المطر، أو يقلبون المؤتفكات: المنقلبات، أو يكذبون من الإفك. {لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ ءامنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولئك أصحاب الجحيم (86) }(1/400)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
82 - {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى} خاص بالنجاشي وأصحابه الذين أسلموا، أو بقوم كانوا على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به.(1/400)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
83 - {الشَّاهِدِينَ} الذين يشهدون بالإيمان، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] . {يا أيها الذين آمنوا لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) ، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيباً واتقوا الله الذي أنتم به(1/400)
مؤمنون (88) } .(1/401)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
87 - {لا تحرموا} الأموال بالغصب فتصير حراماً، أو نزلت.(1/401)
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوآ أيمانكم كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تشكرون (89) }(1/402)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
89 - قوله عزّ وجلّ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ} قد ذكرنا خلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين {وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأيمان} اختلف في سبب نزولها على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في عثمان بن مظعون حين حرّم على نفسه الطعام والنساء بيمين حلفها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث فيها قاله السدي،
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة وكان عنده ضيف فأخرت زوجته قِراه فحلف لا يأكل من الطعام شيئاً، وحلفت الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل، وحلف الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا، فأكل عبد الله وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: أحسنت ونزلت فيه هذه الآية قاله ابن زيد.(1/402)
.. ... ... ... ... ... ...
قوله {وَلكِن يؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب لأن ما لم يقصده من أيمانه فهو لغو لا يؤاخذ به ثم في عقدها قولان:
أحدهما: أن / تكون على فعل مستقبل ولا تكون على خبر ماض، والفعل المستقبل نوعان: نفي وإثبات، فالنفي أن يقول: " والله لا فعلت كذا " والإثبات أن يقول: " والله لأفعلن " أما الخبر الماضي فهو أن يقول: " والله ما فعلت " وقد فعل ويقول: " والله لقد فعلت كذا " وما فعل فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه. وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان أحدهما: أنها لا تنعقد بالخبر الماضي قاله أبو حنيفة وأهل العراق،
والقول الثاني: أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماضٍ يتعلق الحنث بهما قاله الشافعي وأهل الحجاز.
ثم قال {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فيه قولان:
أحدهما: أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان قالته عائشة والحسن والشعبي وقتادة،
والثاني: أنها كفارة الحنث فيما عقدوه منها وهذا أشبه أن يكون قول ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم. والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون عقدها طاعة وحَلها معصية كقوله: " والله لا قتلت نفساً ولا شربت خمراً " فإذا حنث بقتل النفس وشرب الخمر كانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين،
الحال الثاني: أن يكون عقدها معصية وحلها طاعة كقوله " والله لا صليت ولا صمت " فإذا حنث بالصلاة والصوم كانت الكفارة لتكفير مأثم العقد دون الحنث
والحال الثالث: أن يكون عقدها مباحاً وحلها مباحاً كقوله: " والله لا لبست هذا الثوب " فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص.
ثم قال {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ} فيه قولان، أحدهما: من أوسط أجناس الطعام قاله ابن عمر والحسن وابن سيرين ... ... ... . .(1/403)
.. ... ... ... ... ... ... . . (والأسود / وعبيدة السلماني، والثاني / من أوسطه في القدر قاله علي وعمر وابن عباس) ومجاهد، وقرأ سعيد بن جبير (من وسط ما تطعمون أهليكم) ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل: أحدها: أنه نصف صاع من سائر الأجناس قاله ((علي وعمر وهو مذهب أبي حنيفة، والثاني: مد واحد من سائر الأجناس قاله)) ابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء وقتادة وهو مذهب الشافعي، والثالث: أنه غداء وعشاء قاله(1/404)
.. ... ... ... ... ... ... . . علي في رواية الحارث عنه وقول محمد بن كعب القرظي والحسن البصري، والرابع: أنه على ما جرت به عادة المكفر في عياله إن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والخامس: أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء قاله بعض البصريين. ثم قال {أَو كِسْوَتُهُمْ} وفيها خمسة أقاويل: أحدها: كسوة ثوب واحد قاله ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء [الخراساني] والشافعي. والثاني: كسوة ثوبين قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب والحسن وابن سيرين، والثالث: كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء قاله إبراهيم، والرابع: كسوة إزار ورداء وقميص قاله ابن عمر ((والخامس)) : كسوة ما تجزئ فيه الصلاة قاله بعض البصريين. ثم قال {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعني او فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير(1/405)
.. ... ... ... ... ... ... . . والفك: العتق، قال الفرزدق:
(أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال)
وتجزىء صغيرها وكبيرها وذكرها وأنثاها وفي استحقاق إيمانها قولان:
أحدهما: أنه مستحق ولا تجزىء الكافرة قاله الشافعي،
والثاني: أنه غير مستحق قاله أبو حينفة. ثم قال {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} فجعل الله الصوم [له] بدلاً من المال عند العجز عنه وجعله مع اليسار / مخيراً بين التكفير بالإطعام والكسوة والعتق، وفيها قولان:
أحدهما: أنّ الواجب منها أحدها لا بعينه عند جمهور الفقهاء
والثاني: أن جميعها واجب وله الاقتصار على أحدها قاله بعض المتكلمين وشاذ من الفقهاء وهذا إذا حُقّق خلف في العبارة دون المعنى واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل:
أحدها: إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت [صام] قاله الشافعي،
والثاني: إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام قاله سعيد بن جبير،
والثالث: إذا لم يجد درهمين صام قاله الحسن،
والرابع: إذا لم يجد مائتي درهم صام قاله أبو حنيفة،
والخامس: إذا لم يجد ذلك فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف به لمعاشه صام. وفي تتابع صيامه قولان:
أحدهما: يلزمه قاله مجاهد وإبراهيم وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود(1/406)
.. ... ... ... ... ... ... . . يقرءان فصيام ثلاثة أيام متتابعات،
والثاني: إن صامها متفرقاً جاز. قاله مالك وأحد قولي الشافعي {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يعني وحنثتم، فإن قيل: فلم لم يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل: لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم وترك العزم [على المعاودة] {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني احفظوها أن تحلفوا
والثاني: احفظوها أن تحنثوا. {يآ أيها الذين ءامنوآ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (92) ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93) }(1/407)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
90 - قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما روى ابن إسحق عن أبي ميسرة قال: قال عمر بن الخطاب: اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في البقرة {يسألونك عن الخمر والميسر} [219] فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وأنتم سكارى} [43] وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربنّ الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في المائدة {إِنَّمَا(1/407)
.. ... ... ... ... ... ... . . الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية إلى قوله {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا والثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقّاص وقد لاحى رجلاً على شراب فضربه الرجل بلحي جمل ففزر أنفه قاله مصعب بن سعد والثالث: أنها نزلت في قبيلتين(1/408)
.. ... ... ... ... ... ... . . من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض فأنزل الله فيهم هذه الآية قاله ابن عباس فلما حرمت الخمر قال المسلمون ((يا رسول الله كيف بأخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها فأنزل الله - تعالى - {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طمعوا} [93] يعني من الخمر قبل التحريم {إِذَا مَا اتقوا} يعني في أداء(1/409)
.. ... ... ... ... ... ... . . الفرائض {وآمنوا} يعني بالله ورسوله، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} يعني البرّ والمعروف، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُواْ} يعني بعمل النوافل فالتقوى الأول عمل الفرائض، والتقوى الثاني عمل النوافل، فأما الميسر: فهو القمار، وأما الأنصاب ففيها وجهان:
أحدهما: أنها الأصنام تعبد قاله الجمهور،
والثاني: أنها أحجار [حول] الكعبة يذبحون لها قاله مقاتل وأما الأزلام فهي قداح من خشب يستقسم بها على ما قدّمناه وقوله {رِجْسٌ} يعني حراماً، وأصل الرجس: المستقذر الممنوع منه فعبّر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه ثم قال {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه [لا] يأمر إلا بالمعاصي ولا ينهي إلا عن الطاعات. {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94) يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام(1/410)
.. ... ... ... ... ... ... . .(1/411)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
94 - قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} في قوله ليبلونكم تأويلان:
أحدهما: معناه ليكلفنكم،
والثاني: ليختبرنكم قاله قطرب والكلبي. وقي قوله {مِّنَ الصَّيْدِ} قولان:
أحدهما: أن " من " للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم يتعلق بصيد / البر دون البحر، وبصيد الحرم والإحرام دون الحل والإحلال،
والثاني: أن " من " في هذا الموضع داخلة للتجنيس نحو قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] قاله الزجاج. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فيه تأويلان،
أحدهما: ما تناله [أيدينا] البيض، ورماحنا الصيد قاله مجاهد،
والثاني: ما تناله أيدينا الصغار ورماحنا الكبار قاله ابن عباس. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فيه أربعة تأويلات
أحدها: أنّ معنى ليعلم ليرى فعبّر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه قاله الكلبي،
والثاني: معناه ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب، " والثالث: معناه ليعلموا أنّ الله يعلم من يخافه بالغيب "
والرابع: معناه ليخافوا الله بالغيب والعلم مجاز.
وقوله {بالغيب} يعني في السر كما يخافونه في العلانية، {فمن اعتدى بعد ذلك} يعنى فمن اعتدى في قتل الصيد بعد ورود النهي {فله عذاب أليم} أي مؤلم قال الكلبي نزلت يوم الحديبية وقد غشى الصيد الناس وهم محرمون بعمرة.(1/411)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
95 - قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} فيه ثلاثة أقاويل
أحدها: يعني الإحرام بحج أو عمرة قاله الأكثرون،
والثاني: بالمحرم الداخل إلى(1/411)
الحرم، يقال أحرم إذا دخل الحرم، (وأتهم إذا دخل تهامة، وأنجد إذا دخل نجدا، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم قاله بعض أهل البصرة،
والثالث: أنّ اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم وحكم قتل الصيد فيهما على [حد] سواء بظاهر الآية قاله أبو علي بن أبي هريرة {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} فيه قولان: أحدهما: متعمدا لقتله ناسياً لإحرامه قال مجاهد وإبراهيم وابن جريج، والثاني: متعمداً لقتله ذاكراً لإحرامه قاله ابن عباس وعطاء
والزهري واختلفوا في الخاطىء في قتله / الناسي لإحرامه على قولين:
أحدهما: لا جزاء عليه قاله داود،
والثاني: عليه الجزاء قاله [مالك و] أبو حنيفة والشافعي. {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يعني أنّ جزاء القتل في الحرم أو الإحرام مثل ما قتل من النعم، وفي مثله قولان:
أحدهما: أنّ قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم قاله أبو حنيفة
والثاني: أنّ عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي. {يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} يعني بالمثل من النعم لا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما {هَدْيَاً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يريد أي مثل الصيد من النعم يلزمه إيصاله إلى الكعبة وعني بالكعبة جميع الحرم لأنها في الحرم، واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الجزاء ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين:
أحدهما: لا يجوز قاله أبو حنيفة،
والثاني: يجوز قاله الشافعي.
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فيه قولان:
أحدهما: أنه يُقَوَّمُ المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً قاله عطاء والشافعي،
والثاني: يُقَوَّم الصيد ويشتري بقيمة الصيد طعاماً قاله قتادة وأبو حنيفة. {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} يعني عدل الطعام صياماً، وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه يصوم عن كل مد يوماً قاله عطاء والشافعي،
والثاني: يصوم عن كل مد ثلاثة أيام [إلى عشرة(1/412)
.. ... ... ... ... ... ... . . أيام] قاله سعيد بن جبير
والثالث: يصوم عن كل صاع يومين قاله ابن عباس. واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين:
أحدهما: أنه على الترتيب إن لم يجد المثل فالإطعام فإن لم يجد الطعام فالصيام قاله ابن عباس ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي،
والثاني: أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء قاله عطاء وأحد قولي ابن عباس وهو مذهب الشافعي. {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يعني في التزام الكفارة / ووجوب التوبة {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يعني قبل نزول التحريم.
{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فيه قولان:
أحدهما: يعني ومن عاد بعد التحريم فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً وعقوبة [المعصية] آجلاً،
والثاني: ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله. {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} " فيه على هذا التأويل قولان، أحدهما: فينتقم الله منه " بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء قاله ابن عباس وداود، والثاني بالجزاء مع العقوبة قاله الشافعي والجمهور. {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96) }(1/413)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
96 - قوله عزّ وجلّ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل. {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} في طعامه قولان:
أحدهما: طافيه وما لفظه البحر قاله أبو بكر وقتادة،
والثاني: مملوحه قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقوله {مَتَاعاً لكم(1/413)
.. ... ... ... ... ... ... . . وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني منفعة المسافر والمقيم وحكى الكلبي: أنّ هذه الآية نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون بأسياف البحر سألوا عمّا نضب عنه الماء من السمك فنزلت هذه الآية فيهم. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ والشهر الحرام والهدي والقلآئد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم (97) اعلموآ أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98) ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99) }(1/414)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
97 - قوله عزّ وجلّ {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} في تسميتها كعبة قولان:
أحدهما: سميت بذلك لتربيعها قاله مجاهد،
والثاني: سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ وهو قول الجمهور، وسميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرآة إذا علا ونتأ وهو قول الجمهور، وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله - تعالى - لها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها. وفي قوله {قِيَاماً لِّلنَّاسِ} ثلاثة تأويلات،
أحدها: يعني صلاحاً لهم قاله سعيد بن جبير
والثاني: تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم،
والثالث: قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم. {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يآ أولي الألباب لعلكم تفلحون (100) }(1/414)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
100 - قوله عزّ وجلّ {قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالْطَّيِّبُ} / فيه ثلاثة تأويلات
أحدها: يعني الحلال والحرام قاله الحسن،
والثاني: المؤمن والكافر قاله السدي،
والثالث: الرديء والجيد(1/414)
/ أو المؤمن والكافر ...(1/415)
100 - {وَلَوْ أعْجَبَكَ} الحلال والجيد مع القلّة خير من الحرام والرديء مع الكثرة قيل لما هم المسلمون بأخذ حجاج اليمامة نزلت. {يآ أيها الذين ءامنوا لا تسئلوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102) }(1/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
101 - {لا تسألوا عن أشياء} لما أحفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسألة صعد المنبر يوماً فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته فلف كل أنسان منهم ثوبه في رأسه يبكي، فقال رجل كان يدعى إذا لاحى لغير أبيه: يا رسول الله من أبي قال: أبوك حذافة فأنزل الله {لا تسألوا} ، أو لما قال: كتب الله(1/415)
عليكم الحج فقيل له أفي كل عام؟ فقال: لو قلت نعم لوجبت، اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، أو في قوم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي. {وإن تسألوا} نزول القرآن عند السؤال موجب لتعجيل الجواب(1/416)
{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} المسألة، أو الأشياء التي سألوا عنها.(1/417)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
102 - {قوم من قبلكم} قوم عيسى - عليه الصلاة والسلام - سألوا المائدة ثم كفروا بها، أو قوم صالح - عليه الصلاة والسلام - سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها، أو قريش سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل لهم الصفا ذهباً، أو الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ أَبِي ونحوه فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به.(1/417)
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان ءابآؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون (104) يآ أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون (105) }(1/418)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
103 - {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} ما بحر، ولا سيَّب ولا وصل، ولا حمى حامياً. {بَحِيرَةٍ} الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان رُبَعة بتكوا أذنيها فلم يشرب لبنها ولم يوقر ظهرها، أو إذا ولدت خمسة أبطن، وكان أخرها ذكراً شقوا إذن الناقة وخلوها فلا تُحلب ولا تُركب، أو البحيرة: بنت السائبة. {سَآئِبَةٍ} مسيبة، كعيشة راضية أي مرضية، كانت تفعله العرب ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها تقرباً إلى الله - تعالى -، وكان بعض أهل الإسلام يعتق العبد سائبة لا ينتفع به ولا بولائه، كان أبو العالية سائبة فمات فلم يأخذ مولاه ميراثه، وقال: هو سائبة، فإذا تابعت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب، ولم يُجَز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى بُحرت أذنها وسميت بحيرة وسيبت مع أمها، أو كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب البعير فلا يركب ولا يجلأ عن ماء. {وَصِيلَةٍ} الوصيلة من الغنم اتفاقاً إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذبحوه وأحلوه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فسميت وصيلة، او كانت الشاة إذا(1/418)
أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن لا ذكر فيهن جعلت وصيلة / وكان ما تلده بعد ذلك للذكور دون الإناث. أو كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم قرباناً، وإن ولدت أنثى قالوا: هذه لنا، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لأجلها. {وَلا حَامٍ} إذا نتج البعير من ظهره عشرة أبطن قالوا: حمى ظهره ويخلى، أجمعوا على هذا. {يآ ايها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الأثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقآ إثماً فئاخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينآ إنآ إذاً لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوآ أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (108) }(1/419)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
106 - {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الشهادة بالحقوق عند الحكام، أو شهادة الحضور للوصية، أوأيمان عبر عنها بلفظ الشهادة كما في اللعان {عَدْلٍ مِّنكُمْ} أيها المسلمون، أو من حي الموصي، وهما وصيان أو شاهدان يشهدان على وصيته. {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير أهل ملتكم من أهل الكتاب، أو من غير قبيلتكم. {أو آخران} " أو " هنا للتخيير في المسلم والكتابي، أو الكتابي مرتب على [عدم](1/419)
المسلم، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {تحبسونهما} توقفونها للأيمان، خطاب للورثة. {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} تقديره فأصابتكم مصيبة وقد أوصيتم إليهما. {الصَّلاةِ} العصر، أو الظهر، والعصر، أو صلاة أهل دينهما من أهل الذمّة قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {إِنِ ارْتَبْتُمْ} بالوصيين في الخيانة، أحلفهما الورثة، أو إن ارتبتم بعدالة الشاهدين أحلفهما الحاكم لتزول ريبته، وهذا إنما يجوز في السفر دون الحضر. {ثَمَناً} رشوة أو لا نعتاض عليه بحقير.(1/420)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
107 - {عُثِرَ} اطلع على أنهما كذبا وخانا، عبّر عنهما بالإثم لحدوثه عنهما. {اسْتَحَقَّآ} الشاهدان، أو الوصيان. {فَآخَرَانِ} من الورثة. {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} في اليمين. {الأَوْلَيَانِ} بالميت من الورثة، أو الأوليان بالشهادة من المسلمين. نزلت بسبب خروج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء فمات السهمي بأرض لا مسلم بها فلما قدما تركته فقدوا جام فضة مخوص بالذهب، فأحلفهما الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وُجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت الآيتان، وهما منسوختان عند ابن(1/420)
عباس - رضي الله تعالى عنهما -، قال ابن زيد: لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب واليوم طبق الإسلام الأرض، أو محكمة عند الحسن. {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب (109) }(1/421)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
109 - {لا عِلْمَ لَنَآ} ذهلوا عن الجواب للهول ثم أجابوا لما ثابت عقولهم، أو لا علم لنا إلا ما علمتنا، أو لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، أو لا علم لنا ببواطن أُممنا فإن الجزاء على ذلك يقع قاله الحسن، أو {ماذا أجبتم} بمعنى ماذا عملوا بعدكم. {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} للمبالغة، أو لتكثير المعلوم، وسؤاله بذلك مع علمه إنما كان ليعلمهم ما لم يعلموه من كفر أممهم، ونفاقهم، وكذبهم / عليهم من بعدهم أو ليفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد {إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهل وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طير بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذآ إلا سحر مبين (110) وإذ أوحيت إلى الحوارين أن ءامنوا بي وبرسولي قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون (111) }(1/421)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
110 - {اذْكُرْ نِعْمَتِى} ذكره بها وإن كان لها ذاكراً ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامات والمعجزات، أو ليؤكد حجته، ويرد به جاحده. {أَيَّدتُّكَ} قويتك من الأيد، ليدفع عنه ظلم اليهود والكافرين به، أو قوّاه على أمر دينه. {روح الْقُدُسِ} جبريل - عليه السلام - والقدس هو الله - تعالى - {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ} تعرفهم بنبوتك، ولم يتكلم في المهد من الأنبياء غيره، وبعث إليهم لما ولد وكان كلامه معجزة له، وكلمهم كهلاً بالدعاء إلى الله - تعالى - وإلى الصلاة، والزكاة، وذلك لما صار ابن ثلاثين سنة ثم رفع. {الْكِتَابَ} الخط، أو جنس الكتب. {وَالْحِكْمَةَ} العلم بما في تلك الكتب، أو جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه {تَخْلُقُ} تصور. {فَتَنفُخُ فِيهَا} الروح، والروح: جسم تولى نفخها في الجسم المسيح، أو جبريل - عليهما السلام - {فَتَكُونُ طَيْراً} تصير بعد النفخ لحماً ودماً، ويحيا بإذن الله لا بفعل المسيح. {وتبرؤء الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ} تدعو بإبرائهما، وبإحياء الموتى فأُجيب دعاءك، نسبه إليه لحصوله بدعائه، ويجوز أن يكون إخراجهم من قبورهم فعلاً للمسيح - عليه الصلاة والسلام - بعد إحياء الله - تعالى - لهم، قال ابن الكلبي: والذين أحياهم رجلان وامرأة.(1/422)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
111 - {أوحيت إلى الحواريين} ألهمتهم كالوحي إلى النحل، أو ألقيت إليهم بما أريتهم من آياتي أن يؤمنوا بي وبك فكان إيمانهم إنعاماً عليهم وعليه لكونهم أنصاره. {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن(1/422)
قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيداً لأولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لآ أعذبه أحداً من العالمين (115) }(1/423)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
112 - {يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله أو هل تستطيع سؤال ربك {يَسْتَطِيعُ} يقدر، أو يفعل، أو يجيبك ويطيعك. المائدة: ما عليها طعام فإن لم يكن فهي خوان سميت مائدة، لأنها تميد ما عليها أي تعطيه. {اتَّقُواْ اللَّهَ} معاصيه، أو أن تسألوا الأنبياء الآيات عنتاً، أو طلباً لاستزادتها. {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي مصدقين بهم أغناكم دلائل صدقهم عن آيات أُخر.(1/423)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
113 - {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} لعلهم طلبوا ذلك لحاجة بهم، أو لأجل البركة. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} تحتمل بإرسالك، أو بأنه قد جعلنا من أعوانك. {وَنَعْلَمَ} علماً لم يكن لنا بناء على أنّ سؤالهم كان قبل استحكام معرفتهم، أو نزداد علماً ويقيناً إلى علمنا ويقيننا.(1/423)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
114 - {الَّلهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ} سأل ذلك لإظهار صدقه عند من جعله قبل استحكام المعرفة، أو تفضل بالسؤال بعد معرفتهم. {عِيداً} نتخذ يوم أنزالها عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، أو عائدة من الله - تعالى - علينا وبرهاناً لنا ولمن بعدنا، أو نأكل منها أوَّلنا وآخرنا / {وآية مِّنكَ} على صدق أنبيائك، أو على توحيدك. {وَارْزُقْنَا} ذلك من عندك، أو الشكر على إجابة دعوتنا.(1/423)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
115 - {إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} لما شرط عليهم العذاب إن كفروا بها(1/423)
استعفوا منها فلم تنزل، قاله الحسن - أو نزلت تحقيقاً للوعد، وكان عليها ثمار الجنة، أو خبز ولحم، أو سبعة أرغفة، وسبع جفان، أو سمكة فيها طعم كل طعام، أو كل طعام إلاّ اللحم، أُمروا أن يأكلوا ولا يخونوا ولا يدخروا فخانوا وادهروا فرُفعت، قال مجاهد: ضُربت مثلاً للناس لئلا يقترحوا الآيات على الأنبياء. {عَذَاباً} بالمسخ، أو عذاباً لا يعذب به غيرهم، لأنهم رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم، وذلك العذاب في الدنيا، أو في الآخرة. {الْعَالَمِينَ} عالمي زمانهم، أو جميع الخلق، فيعذبون بجنس لا يعذب به غيرهم. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلاهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولآ أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار حالدين فيهآ أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير (120) }(1/424)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
116 - {وإذ قال الله يا عيسى} قاله لما رفعه إلى السماء في الدنيا، أو يقوله يوم القيامة فيكون {إذ} بمعنى {إذا} وهذا أصح لقوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صدقهم} [119] {أأنت قُلْتَ} سؤال توبيخ لقومه، أو ليعرف المسيح - عليه الصلاة والسلام - أنهم غيروا وقالوا عليه ما لم يقل. {إِلهَيْنِ} لما قالوا إنها ولدت الإله لزمهم أن يقولوا بإلاهيتها للبعضية فصاروا بمثابة القائل بإلاهيتها.(1/425)
(سورة الأنعام)
مكية إلا ثلاث آيات {قل تعالوا} [151] إلى آخر الثلاث، أو مكية إلا آيتين {وما قدروا الله حق قدره} [91] نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف والأخرى {وهو الذي أنشأ جنات} [141] نزلت في معاذ بن جبل، أو ثابت بن قيس، قاله ابن عباس - رضي الله - تعالى عنهما - أو(1/426)
كلها مكية نزلت جملة واحدة معها سبعون ألف ملك، قال(1/427)
وهب: " فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود ".
(بسم الله الرحمن الرحيم) {} (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2) وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنبآء ما كانوا به يستهزءون (5) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين (6) }(1/428)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ} خبر بمعنى الأمر، وهو أولى من قوله {احمدوا} لما فيه من تعليم اللفظ، ولان البرهان يشهد للخبر دون الأمر. {السموات} جمعها تفخيماً لها، لن الجمع يقتضي التفخيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] قدّم السموات والظلمات في الذكر لتقدم خلقهما على خلق الأرض والنور.(1/428)
{يَعْدِلُونَ} به الأصنام، أو إلهاً لم يخلق كخلقه.(1/429)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
2 - {من طين} لما كانوا فرعاً لما خلق من الطين جاز أن يقول: {خلقكم من طين} {أجلا} للحياة إلى الموت، والمسمى: أجل الموت إلى البعث، أو الأول أجل الدنيا، والمسمى: ابتداء ألاخرة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو الأول: الذي قضاه يوم الذر، والمسمى: حياة الدنيا. {تمترون} تشكون.(1/429)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
3 - {وهو الله} المدبر في السموات، أو هو يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض لأن الملائكة في السماء، والثقلين في الأرض. {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروآ إن هذآ إلا سحر مبين (7) وقالوا لولآ أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون (9) ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (10) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11) }(1/429)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
8 - {لقضي الأمر} لقامت الساعة، أو لاستؤصلوا بالعذاب، / لأن من مضى كانوا إذا اقترحوا آية فجاءت فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب.(1/429)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
9 - {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} لصورناه بصورة رجل، لأنهم لا يقدرون على رؤية الملك على صورته. {مَّا يَلْبِسُونَ} ما يخلطون، أو يشبهون، قال الزجاج: كما يشبهون على ضعفائهم.(1/429)
{قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) وله ما سكن في اليل والنهار وهو السميع العليم (13) قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16) }(1/430)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
13 - {سَكَنَ} من السكنى، أو السكون خص السكون لأن الإنعام به أبلغ من الإنعام بالحركة.(1/430)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
14 - {فَاطِرِ} خالق ومبتدىء، ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - " كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها " أصل الفَطر: الشق، {مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] شقوق. {يُطْعِمُ} يَرْزُق ولا يُرزق. {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} من هذه الأمة. {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (17) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18) قل أي شيء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلي هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لآ أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (19) الذين ءاتيناهم(1/430)
الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم الذين خسروآ أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بئاياته إنه لا يفلح الظالمون (21) }(1/431)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
18 - {فَوْقَ عِبَادِهِ} أي القاهر لعباده، وفوق: صله، أو علا على عباده بقهره لهم {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] أعلى من أيديهم قوة.(1/431)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
19 - {أي شيء} نزلت لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من يشهد لك بالنبوّة فشهد الله - تعالى - له بالنبوّة، أو أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، فقال لهم ذلك ليشهده عليهم.(1/431)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
20 - {الذين آتيناهم الْكِتَابَ} القرآن، أو التوراة، والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ} محمداً صلى الله عليه وسلم بصفته في كتبهم، أو يعرفون القرآن الدال على صحة نبوّته. {خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} غبنوها وأهلكوها بالكفر، أو خسروا منازلهم وأزواجهم في الجنة، إذ لكلٍّ منازل وأزواج في الجنة، فإن آمن فهي له، وإن كفر فهي لمن آمن من أهلهم، وهذا معنى {الذين يَرِثُونَ الفردوس} [المؤمنون: 11] . {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلآ أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24) ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قولهم أكنة أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقراً وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجادلونك يقول الذين كفروآ إن هذآ إلآ أساطير الأولين (25) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلآ أنفسهم وما يشعرون(1/431)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
23 - {فِتْنَتُهُمْ} معذرتهم سماها بذلك لحدوثها عن الفتنة، أو عاقبة فتنتهم وهي الشرك، أو بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة. وزادتهم لائمة.(1/432)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
25 -[ {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ليلاً، ليعرفوا مكانه فيؤذوه، فصُرفوا عنه بالنوم وإلقاء الوقر، والأكنة: الأغطية، واحدها كنان، كننت الشيء غطيته، وأكننته في نفسي أخفيته، والوقر: الثقل. {كل آية} كل علامة معجزة لا يؤمنوا بها لحسدهم.
وبغضهم. {يُجَادِلُونَكَ} بقولهم أساطير الأولين التي سطروها في كتبهم، أو قالوا: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، قاله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.(1/432)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
26 - {ينهون} عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون فراراً منه، أو ينهون عن العمل بالقرآن ويتباعدون عن سماعه لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته، أو ينهون عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عن اتباعه، قال ابن عباس - رضي الله - تعالى - عنهما - نزلت في أبي طالب نهى عن(1/432)
أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعد عن الإيمان به مع علمه بصحته، قال:
(ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت ثم أمينا)
(وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا)
(لولا الذمامة أو أحاذر سُبَّةً ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا)(1/433)
{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بئايات ربنا ونكن من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28) وقالوآ إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى إذ قفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) }(1/434)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
27 - {وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} عاينوها ومن عاين الشيء وقف عليه، أو وقفوا فوقها، أو عرفوها بدخولها ومن عرف شيءاً وقف عليه، أو حبسوا عليها.(1/434)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
28 - {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} وبال ما أخفوه، أو ما أخفاه بعضهم من بعض، أو بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء. {لَكَاذِبُونَ} فيما أخبروا به من الإيمان لو ردوا، أو خبر مستأنف يعود إلى ما تقدم. {قد خسر الذين كذبوا بلقآء اله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون (31) وما الحياة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32) }(1/434)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
32 - {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو بخلاف العمل للآخرة، أو ما أهل الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها، أو هم كأهل اللعب لانقطاع لذتهم وفنائها بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة. {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بئايات الله(1/434)
يجحدون (33) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإى المرسلين (34) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السمآء فتأتيهم بئاية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36) }(1/435)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
33 - {لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ} من تكذيبك والكفر بي. {لا يُكَذِّبُونَكَ} بحجة بل بهتاً وعناداً لا يضرك، [أو] لا يكذبونك لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به، أو لا يكذبونك سراً بل علانية لعداوتهم لك، أو لا يكذبونك لأنك مبلغ وإنما يكذبون ما جئت به.(1/435)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
34 - {نبأ الْمُرْسَلِينَ} في صبرهم ونصرهم.(1/435)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
35 - {إِعْرَاضُهُمْ} عن سماع القرآن، أو عن اتباعك. {نَفَقاً} سَرَباً، وهو المسلك النافذ مأخوذ من نافقاء اليربوع {سُلَّماً} مصعداً، أو درجاً، أو سبباً. {فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} أفضل من آيتك فافعل فحذف الجواب. {مِنَ الْجَاهِلِينَ} لا تجزع في مواطن الصبر فتشبه الجاهلين.(1/435)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
36 - {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} طلباً للحق، أو يعقلون، والاستجابة القبول والجواب يكون قبولاً وغير قبول. {وَالْمَوْتَى} الكفار، أو الذين فقدوا الحياة. {وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا(1/435)
يعلمون (37) وما من دآبة في الأرض ولا طآئر يطير بجناحيه إلآ أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38) والذين كذبوا بئاياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39) }(1/436)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
38 - {أمم} جماعات، أو أجناس. {أمثالكم} في أنها مخلوقة لا تظلم، ومرزوقة لا تحرم. {ما فرطنا في الكتاب من شيء} من أمور الدين مفصلاً، أو مجملاً جعل إلى بيانه سبيلا. {يحشرون} يموتون، أو يجمون لبعث الساعة. {قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو اتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون (41) ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون (42) فلولآ إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوآ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فعطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45) }(1/436)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
44 - {أبواب كل شيء} من الرزق والنعم. {مبلسون} هو الإياس، أو الحزن والندم، أو الخشوع، أو الخذلان، أو السكوت وانقطاع الحجة. {قل لآ أقول لكم عندي خزآئن الله ولآ أعلم الغيب ولآ أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا(1/436)
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلآء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين (53) وإذا جآءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54) }(1/437)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
50 - {خَزَآئِنَ اللَّهِ} من الرزق فلا أقدر على إغناء ولا إفقار، أو خزائن العذاب، أنه لما خوّفهم به استعجلوه استهزاء. {وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} في نزول العذاب أو جميع الغيوب. {إِنِّى مَلَكٌ} تفضيل للملك، أي لا أدّعي منزلة ليست لي، أو لست ملكاً في السماء فأعلم الغيب الذي تشاهده الملائكة ولا يعلمه البشر، فلا تفضيل فيه للملك على النبي.(1/437)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
52 - {وَلا تَطْرُدِ} نزلت لما جاء الملأ من قريش فوجدوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم عماراً وصهيباً وخباباً وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - فقالوا اطرد عنا موالينا وحلفاءنا، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك،(1/437)
فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما يصيرون، فَهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزل في الملأ {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ ببعض} [53] فاعتذر عمر - رضي الله تعالى عنه - عن مقالته، فأنزل {وإذا جاءك الذين يؤمنون} [54] . {يَدْعُونَ} الصلوات الخمس، أو ذكر الله - تعالى - أو عبادته، أو تعلم القرآن. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يريدون طاعته بقصدهم الوجه الذي وجههم إليه، أو يريدونه بدعائهم، وقد يعبّر عن الشيء بالوجه كقولهم: " هذا وجه الصواب ". {حِسَابِهِم} حساب عملهم بالثواب والعقاب، وما من حساب عملك عليهم شيء، كل مؤاخذ بحساب عمله دون غيره، أو ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء.(1/438)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
53 - {فَتَنَّا} اختبرناهم باختلاف في الأرزاق والأخلاق، أو بتكليف ما فيه مشقة على النفس مع قدرتها عليه. {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم} باللطف في إيمانهم، أو بما ذكره من شكرهم على طاعته.(1/438)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
54 - {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ضعفاء المسلمين، وما كان من شأن عمر - رضي الله تعالى عنه - {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} مني، أو من الله - تعالى - قاله الحسن والسلام: جمع السلامة، أو هو الله ذو السلام. {كَتَبَ} أوجب، أو(1/438)
كتب في اللوح المحفوظ. {بِجَهَالَةٍ} بخطيئة، أو ما جهل كراهة عاقبته. {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لآ اتبع أهوآءكم قد ضللت إذا ومآ أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) }(1/439)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
57 - {بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} معجز القرآن، أو الحق الذي بانَ له. {وَكَذَّبْتُم بِهِ} بربكم، أو بالبينة. {تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب، أو من اقتراح الآيات، لأنه طلب الشيء في غير وقته. {الْحُكْمُ} في الثواب والعقاب، أو في تمييز الحق من الباطل. {يقضي الحق} يتممه. {يقص} يخبر. {وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون (61) ثم(1/439)
ردوا إلى مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62) }(1/440)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
60 - {يَتَوَفَّاكُم} بالنوم. {جَرَحْتُم} كسبتم بجواركم، جوارح الطير: كواسبها. {يَبْعَثُكُمْ} في النهار باليقظة. {أَجَلٌ مُّسَمّىً} استكمال العمر. {مَرْجِعُكُمْ} بالبعث.(1/440)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
61 - {الْقَاهِرُ} الأقدر، فوقهم: في القهر كما يقال فوقه في العلم إذا كان أعلم، أو علا بقهره. {حَفَظَةً) {الملائكة} (لا يُفَرِّطُونَ} لا يؤخرون، أو لا يضيعون.(1/440)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
62 - {رُدُّواْ} ردتهم الملائكة الذين يتوفونهم، أو ردّهم الله بالبعث والنشور، أي ردّهم إلى تدبيره وحده، لأنه دبرهم عند النشأة وحده، ثم مكنهم من التصرف فدبروا أنفسهم، ثم ردّهم إلى تدبيره وحده بموتهم، فكان ذلك ردّاً إلى الحالة الأولى، أو ردّوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله. {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} بين عباده يوم القيامة وحده، أو له الحكم مطلقاً لأن من سواه يحكم بأمره فصار حكماً له. {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65) }(1/440)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
65 - {مِّن فَوْقِكُمْ} أئمة السوء {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} عبيد السوء قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو من فوقهم: الرجم، ومن تحتهم: الخسف، أو من فوقهم: الطوفان، ومن تحتهم: الريح. {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} الأهواء المختلفة، أو الفتن والاختلاف. {بَأْسَ بَعْضٍ} بالحروب والقتل، نزلت في المشركين، أو في المسلمين وشق نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إني سألت ربي أن يجيرني من أربع فأجارني من خصلتين، ولم يجرني من خصلتين، / سألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من فوقهم كما فعل بقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - وبقوم لوط، فأجابني، وسألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من تحت أرجلهم كما فعل بقارون فأجابني، وسألته أن لا يفرقهم شيعاً فلم يجبني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبني، ونزل {الم أَحَسِبَ الناس أن يتركوا} [العنكبوت / 1، 2] . {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (67) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون من(1/441)
حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون}(1/442)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
66 - {وَكَذَّبَ بِهِ} بالقرآن، أو بتصريف الآيات. {وَهُوَ الْحَقُّ} أي ما كذبوا به، والفرق بينه وبين الصواب: أنّ الصواب لا يدرك إلا بطلب، والحق قد يدرك بغير طلب. {بِوَكِيلٍ} بحفيظ أمنعكم من الكفر، أو بحفيظ لأعمالكم حتى أجازيكم عليها، أو لا آخذكم بالإيمان، إجباراً كما يأخذ الوكيل بالشيء.(1/442)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
67 - {لِّكُلِّ نَبَإٍ} أخبر الله - تعالى - به من وعد أو وعيد مستقر في المستقبل أو الماضي أو الحاضر، أو مستقر في الدنيا أو الآخرة، أو هو وعيد للكفار بما ينزل بهم في الآخرة، أو وعيد بما يحلّ بهم في الدنيا.(1/442)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
69 - {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الله في أمره ونهيه من حساب استهزاء الكفار وتكذيبهم مأثم لكن عليهم تذكرهم بالله وآياته لعلهم يتقون الاستهزاء والتكذيب، أو ما على الذين يتّقون من تشديد الحساب والغلظة ما على الكفار، لأن محاسبتهم ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار غلظة وتشديد، لعلهم يتقون إذا علموا ذلك، أو ما على الذين يتّقون فيما فعلوه من ردّ وصد حساب ولكن اعدلوا إلى تذكيرهم بالقول قبل الفعل لعلهم يتقون. {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)(1/442)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
70 - {وَذَرِ الَّذِينَ} منسوخة، أو محكمة على جهة التهديد، كقوله {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ} [المدثر: 11] . {دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً] استهزاؤهم بالقرآن إذا سمعوه، أو لكل قوم عيد يلهون فيه إلا المسلمون فإن أعيادهم صلاة وتكبير(1/442)
وبرّ وخير. {أَن تُبْسَلَ} تُسْلَم، أو تُحبس، أو تُفضح، أو تؤخذ بما كسبت أو تجزى، أو ترتهن، أسد باسل: يرتهن الفريسة بحيث لا تفلت، وأصل الإبسال: التحريم، شراب بسيل: حرام. قال:
(بَكَرت تلومك بَعْدَ وَهنٍ في الندى ... بَسْلٌ عليكِ ملامتي وعتابي)
{وَإِن تَعْدِلْ} تفتدِ بكل مال، أو بالإسلام والتوبة. {قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (73) }(1/443)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
71 - {أَنَدْعُواْ} أنطلب النجاح، أو أنعبد. , {اسْتَهْوَتْهُ} دعته إلى قصدها واتباعها، كقوله {تهوى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] أي تقصدهم وتتبعهم، أو تأمره بالهوى، قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - نزلت في أبي بكر وامرأته(1/443)
لما دعوا ابنهما " عبد الرحمن " أن يأتيهما إلى الإسلام.(1/444)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
73 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِ} بالحكمة، أو الإحسان إلى العباد، أو بكلمة الحق، أو نفس خلقهما حق. {كُن فَيَكُونُ} يقول ليوم القيامة كن فيكون لا يثني إليه القول مرة أخرى، أو يقول للسماوات كوني قرناً ينفخ فيه لقيام الساعة فتكون صوراً كالقرن وتبدل سماء أخرى. {الصُّورِ} قرن ينفخ فيه للإفناء والإعادة، أو جمع صورة ينفخ فيها أرواحها. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} / أي الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أو الذي ينفخ في الصور عالم الغيب. {وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناماً ءالهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) }(1/444)
فلما جن عليه اليل رءا كوكباً قال هذا ربي فلمآ أقل قال لآ أحب الأفلين (76) فلما رءا القمر بازغاً قال هذا ربي فلمآ افل قال لئي لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضآلين (77) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذآ أكبر فلمآ أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ومآ أنا من المشركين (79) }(1/445)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
74 - {آزر} اسم أبي إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان من أهل " كوثى " قرية من سواد الكوفة، أو آزر ليس باسم بل سب وعيب معناه: " معوج "، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق، وضاع حق أبوته بتضييعه حق الله - تعالى -، أو آزر اسم صنم وكان اسم أبيه " تارح ".(1/445)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
75 - {وَكَذَلِكَ} " ذا " إشارة لما قرب، و " ذاك " لما بعد، و " ذلك " لتفخيم شأن ما بعد. {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} آياتهما، أو خلقهما، أو ملكها، والملكوت: الملك نبطي، أو عربي، ملك وملكوت: كرهبة ورهبوت، ورحمة ورحموت، وقالوا: رهبوت خير من رحموت أي ترهب خير من أن ترحم، أو الشمس والقمر والنجوم، أو {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ} الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والثمار والشجر.(1/446)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
76 - {جن عليه الليل} ستره، الجِن والجَنين لاستتارهما، والجنة والجنون والمجن لسترها. {رأى كَوْكَباً} قيل هو الزهرة طلعت عشاء. {هَذَا رَبِّى} في ظني، قاله حال استدلاله، أو اعتقد أنه ربه، أو قال ذلك وهو طفل، لأن أمه جعلته في غار حذراً عليه من نمروذ فلما خرج قال: ذلك قبل قيام الحجة عليه، لأنه في حال لا يصح منه كفر ولا إيمان، ولا يجوز أن يقع من الأنبياء - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين - شرك بعد البلوغ، أو قاله على وجه التوبيخ والإنكار الذي يكون مع ألف الاستفهام أو أنكر بذلك عبادته [الأصنام] إذ كانت الكواكب لم تضعها يد بشر ولم تعبد لزوالها(1/446)
فالأصنام التي هي دونها أجدر. {لآ أُحِبُّ الأَفِلِينَ} حب الربّ المعبود، أفل: غاب.(1/447)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
77 - {بازغا} طالعاً بزغ: طلع. {وحآجه قومه قال أتحآجوني في الله وقد هدان ولآ أخاف ما تشركون به إلآ أن يشآء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82) وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم (83) }(1/447)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
82 - {الذين آمنوا وَلَمْ يَلْبِسُواْ} من قول الله - تعالى -، أو من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، أو من قول قومه قامت به الحجة عليهم {بِظُلْمٍ) بشرك لما نزلت شق على المسلمين، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليس كما تظنون، وإنما هو كقول " لقمان " لابنه {لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أو المراد جميع أنواع الظلم فعلى هذا هي عامة، أو خاصة بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وحده، قاله علي - رضي(1/447)
الله تعالى عنه -، أو خاصة فيمن هاجر إلى المدينة.(1/448)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
83 - {حُجَّتُنَآ} قوله فأي الفريقين أحقّ بالأمن؟ عبادة إله واحد أو آلهة شتى، فقالوا: عبادة إله واحد فأقرّوا على أنفسهم، أو قالوا له: [ألا] تخاف [أن] تخبلك آلهتنا؟ فقال: أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة؟ أو قال لهم: أتعبدون ما لا يملك لكم ضراً لا نفعاً أم من يملك الضرّ والنفع؟ ، فقالوا: ما لك الضرّ والنفع أحق. وهذه الحجة استنبطها بفكره، أو أمره / بها ربه. { {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84} وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين (86) ومن ءابآئهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلآء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين (89) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لآ أسئلكم عليه اجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين (90) }(1/448)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
89 - {فَإِنَ يَكْفُرْ بِهَا) {قريش} (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} الأنصار، أو إن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا أهل المدينة، أو إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، أو الأنبياء الثمانية عشر المذكورين من قبل {وَوَهَبْنَا له إسحاق} [84] ، أو جميع المؤمنين. {وَكَّلْنَا بِهَا} أقمنا لحفظها ونصرها يعني الكتب والشرائع.(1/448)
{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء قل مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولآ ءابآؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91) وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92) }(1/449)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
91 - {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عظموه حقّ عظمته، أو ما عرفوه حقّ معرفته، أو ما آمنوا أنه على كلّ شيء قدير. {إِذْ قَالُواْ} قريش، أو اليهود فردّ عليهم بقول {مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى} لاعترافهم به. {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/449)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
92 - {مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، أو من البعث. {أُمَّ الْقُرَى} أهل أم القرى - مكة - لاجتماع الناس إليها كاجتماع الأولاد إلى الأم، أو لانها أول بيت وضع فكأن القرى نشأت عنها، أو لأنها معظمة كالأم قاله الزجاج. {وَمَنْ حَوْلَهَا} أهل الأرض كلها قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {يُؤْمِنُونَ به} بالكتاب، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن لا يؤمن به من أهل الكتاب فلا يعتد بإيمانه بالآخرة. {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوآ أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون (93) ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم ورآء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد(1/449)
تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94) }(1/450)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
93 - {مِمَّنِ افْتَرَى} نزلت في مسيلمة، أو فيه وفي العَنْسي {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ} مسيلمة، أو مسيلمة والعنسي، أو عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قال له: غفور رحيم، كتب سميع عليم، أو عزيز حليم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم هما سواء حتى أملى عليه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان من سلالة} إلى قوله {خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14] ، فقال ابن أبي السرح: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجباً من تفصيل خلق الإنسان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا أُنزلت، فشك وارتدّ. {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بالعذاب، أو(1/450)
لقبض الرواح. {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} من العذاب، أو من الأجساد {الْهُونِ} الهوان، والهَوْن: الرفق.(1/451)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
94 - {خَوَّلْنَاكُمْ} التخويل: تمليك المال. {شُفَعَآءَكُمُ} آلهتكم، أو الملائكة الذين اعتقدتم شفاعتهم. {فيكم شركاء} شفعاء، أو يتحملون عنكم تحمل الشريك عن شريكه. {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذالكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل اليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97) }(1/451)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
95 - {فَالِقُ} الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، أو خالق أو هو الشقاق الدائر فيها. {يُخْرِجُ الْحَىَّ} السنبلة الحية من الحبة الميتة والنخلة الحية من النواة الميتة، والحبة والنواة الميتتين من السنبلة والنخلة الحيتين، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان، قاله ابن عباس - رضي الله - تعالى - عنهما - أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. {تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن الحق.(1/451)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
96 - {الإصْبَاحِ} الصبح، أو إضاءة الفجر، أو خالق نور النهار، أو ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - / {سَكَناً} يسكن فيه كل متحرك بالنهار، أو لأن كل حي يأوي إلى مسكنه {حُسْبَاناً} يجريان بحساب أدوار يرجعان بها إلى زيادة ونقصان، أو جعلهما ضياء قاله قتادة، كأنه أخذه من قوله - تعالى - {حُسْبَاناً من السماء} [الكهف: 40] قال: نارا. {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) وهو الذي أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون (99) }(1/452)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
98 - {فَمُسْتَقَرٌّ} في الأرض، {وَمُسْتَوْدَعٌ} في الأصلاب، أو مستقر في الرحم، ومستودع في القبر، أو مستقر في الرحم، ومستودع في صلب الرجل، أو مستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة، أو مستقر في الأرض ومستودع في الذر، أو المستقر ما خلق، والمستودع ما لم يخلق، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.(1/452)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
99 - {نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ} رزق كل شيء من الحيوان، أو نبات كل شيء من الثمار. {خَضِراً} زرعاً خضراً. {مُّتَرَاكِباً} سنبلاً تراكب حبه. {قِنْوَانٌ} جمع قنو وهو الطلع، أو العذق. {دَانِيَةٌ} من مجتنيها لقصرها، أو قرب بعضها من بعض. {مُشْتَبِهاً} ورقه مختلفاً ثمره، أو {مُشْتَبِهاً} لونه، مختلفاً طعمه. {ثَمَرِهِ} الثُّمر جمع ثمار، والثَّمر جمع ثمرة، أو الثُّمُر المال، والثمر ثمر(1/452)
النخل، قرىء بهما. {وينعه} نضجه وبلوغه. {وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (100) بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم (101) }(1/453)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
100 - {شُرَكَآءَ الْجِنَّ} قولهم: " الملائكة بنات الله " سماهم الله جناً، لاستتارهم، أو أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان حتى جعلوهم شركاء لله في العبادة. {خرقوا} كذبوا، أو خلقوا، الخرق والخلق واحد. {بَنِينَ} المسيح وعزير. {وَبَنَاتٍ} الملائكة جعلهم مشركو العرب بنات الله. {ذكلم الله ربكم لآ إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (102) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103) قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ (104) وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105) }(1/453)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
103 - {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لا تحيط به، أو لا تراه، أو لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة، أو لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، أو لا تدركه بهذه الأبصار بل لا بدّ من خلق حاسّة سادسة لأوليائه يدركونه بها.(1/453)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
105 - {نُصَرِّف الأَيَاتِ} بتصريف الآية في معانٍ متغايرة مبالغة في الإعجاز ومباينة لكلام البشر، أو بأن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل، أو اختلاف ما نضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي. {وَلِيَقُولُواْ} ولئلا يقولوا {دَرَسْتَ} قرأت وتعلمت، قالته قريش، ودارستَ: ذاكرت وقارأت، ودرستْ: انمحت وتقادمت، ودُرستْ تُليت، وقُرئت ودَرَسَ محمد صلى الله عليه وسلم وتلا، فهذه خمس قراءات. {اتبع مآ أوحي إليك من ربك لآ إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً ومآ أنت عليهم بوكيل (107) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108) }(1/454)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
108 - {وَلا تَسُبُّواْ} الأصنام فيسبوا من أمركم بسبها، أو يحملهم الغيظ على سبّ معبودكم كما سببتم معبودهم. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا} كما زينا لكم الطاعة كذلك زينا لمن تقدمكم من المؤمنين الطاعة، أو كما أوضحنا لكم الحجج(1/454)
كذلك أوضحناها لمن تقدّم، أو شبهنا لأهل كل دين عملهم بالشبهات ابتلاء حين عموا عن الرشد. {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون (109) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110) ولو أننا نزلنآ إليهم الملآئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلآ أن يشآء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111) }(1/455)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
109 - {لَئِن جَآءَتْهُمْ} لما نزل {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً} [الشعراء: 4] قالوا: / للرسول صلى الله عليه وسلم أنزلها حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين، فقال المؤمنون: أنزلها عليهم يا رسول الله ليؤمنوا، فنزلت هذه، أو أقسم المستهزئون إن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها وهي أن يحول الصفا ذهباً، أو قولهم {لَن نؤمن لك حتى تفجر} إلى قوله: {نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93] ولا يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم إذا علم أنهم لا يؤمنون، وإن علم ففي الوجوب قولان.(1/455)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
110 - {وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُمْ} في النار في الآخرة، أو في الدنيا بالحيرة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} جاءتهم الآيات، أو أول أحوالهم في الدنيا كلها.(1/456)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
111 - {قِبَلاً} جهرة ومعاينة، {قُبُلاً} : جمع قبيل وهو الكفيل أي كفلاء، أو قبيلة قبيلة وصنفاً صنفاً، أو مقابلة. {إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن يعينهم، أو يجبرهم. {يَجْهَلُونَ} في اقتراحهم الآيات، أو يجهلون أن المقترح لو جاء لم يؤمنوا به. {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113) }(1/456)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
112 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا} لمن قبلك من الأنبياء أعداء كما جعلنا لك أعداء، أو جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء، جعلنا: حكمنا بأنهم أعداء، أو مكنّاهم من العداوة فلم نمنعهم منها. {شَيَاطِينَ(1/456)
الإِنسِ وَالْجِنِّ} مردتهم، أو شياطين الإنس الذين مع الإنس وشياطين الجن الذين مع الجنّ، أو شياطين الإنس كفارهم، وشياطين الجن كفارهم. {يُوحِى بَعْضُهُمْ} يوسوس، أو يشر، {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} [مريم: 11] أشار {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ما زينوه من شبه الكفر، وارتكاب المعاصي. @ 113 - {وَلِتَصْغَى} تميل تقديره " ليغرُّوهم غروراً ولتصغى "، أو اللام للأمر، ومعناها الخبر، قلت للتهديد أحسن. {أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117) }(1/457)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
114 - {أَبْتَغِى حَكَماً} لا يجوز لأحد أن يعدل عن حكمه حتى أعدل عنه، أو لا يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحاكم إليه، والحكم من له أهلية الحكم ولا يحكم إلاَّ بالحق، والحاكم قد يكون من غير أهله فيحكم بغير الحق. {مُفَصَّلاً} تفصيل آياته لتمتاز معانيه، أو تفصيل الصادق من الكاذب، أو تفصيل الحق من الباطل والهدى من الضلال، أو تفصيل الأمر من النهي، أو المستحب من المحظور والحلال من الحرام.(1/457)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
115 - {وتمت كلمات رَبِّكَ} القرآن تمت حججه ودلائله، أو تمام أحكامه وأوامره، أو تمام إنذاره بالوعد والوعيد، أو تمام كلامه واستكمال سوره. {صِدْقاً} فيما أخبر به {وعدلا} فيما قضاه. {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليضلون بأهوآئهم بغيرعلم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119) وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) }(1/458)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
120 - {ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} سره وعلانيته، أو ظاهره: ما حرم من نكاح ذوات المحارم، وباطنه: الزنا، أو ظاهره: ذوات الرايات من الزواني، وباطنه: ذوات الأخذان، كانوا يستحلون الزنا سراً، أو ظاهره: الطواف بالبيت عراة، وباطنه: الزنا.(1/458)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
121 - {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الميتة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو ذبائح كانوا يذبحونها لأوثانهم، أو ما لم يسم الله عليه / عند ذبحه، ولا يحرم أكله بتركها، أو يحرم، أو إن تركها عامداً حرم وإن تركها ناسياً فلا يحرم. {لَفِسْقٌ} معصية، أو كفر. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ} قوم من أهل فارس بعثوا إلى قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - يزعمون أنهم يتبعون أمر الله - تعالى - ولا يأكلون ما ذبح الله يعنون الميتة ويأكلون ما ذبحوه(1/458)
لأنفسهم، أو الشياطين قالوا ذلك لقريش، أو اليهود قالوا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم. {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلال الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122) }(1/459)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
122 - {مَيْتاً} كافراً {فَأَحْيَيْنَاهُ} بالإيمان. {نُوراً يَمْشِى بِهِ} القرآن، أو العلم الهادي إلى الرشد. {الظُّلُمَاتِ} الكفر، أو الجهل شبه بالظلمة لتحيّر الجاهل كتحيّر ذي الظلمة، وهي عامة في كل مؤمن وكافر، أو نزلت في عمر وأبي جهل، أو في عمار(1/459)
وأبي جهل. {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123) وإذا جآءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124) }(1/460)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
124 - {صَغَارٌ} ذل، لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه عند الله في الآخرة فحذف أو أنفتهم من الحق صغار عند الله وإن كان عندهم عزاً وتكبراً. {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) }(1/460)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
125 - {أَن يَهْدِيَهُ} إلى أدلَة الحق، أو إلى نيل الثواب والكرامة {يَشْرَحْ} يوسع. {ضَيِّقاً} لا يتسع لدخول الإسلام إليه {حَرَجاً} شديداً لا يثبت فيه. {أَن يُضِلَّهُ} عن أدلة الحق، أو عن نيل الثواب والكرامة. {يَصَّعَّدُ} كأنما كلف صعود السماء لامتناعه عليه وبعده منه أو لا يجد مسلكاً لضيق(1/460)
المسالك عليه إلا صعوداً إلى السماء يعجز عنه، أو كأن قلبه يصعد إلى السماء لمشقته عليه وصعوبته، أو كأن قلبه بالنفور عنه صاعداً إلى السماء. {الرِّجْسَ} العذاب، أو الشيطان، أو ما لا خير فيه، أو النجس. {وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127) .(1/461)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
126 - {صِرَاطُ رَبِّكَ} الإسلام، أو بيان القرآن.(1/461)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
127 - {دَارُ السَّلامِ} الجنة دار السلامة من الآفات، أو السلام اسم الله - تعالى - فالجنة داره. {عِندَ ربهم} في الآخرة، لأنها أخص به، أو لهم عنده أن ينزلهم دار السلام. {ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله إن ربك حكيم عليم (128) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129) }(1/461)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
128 - {اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ} بإغوائكم لهم، أو استكثرتم من إغواء الإنس. {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} في التعاون والتعاضد، أو فيما زينوه من اتباع الهوى وارتكاب المعاصي، أو التعوّذ بهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ} [الجن: 6] {أَجَلَنَا} الموت، أو الحشر. {مَثْوَاكُمْ} منزل إقامتكم. {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} من بعثهم في القبور إلى مصيرهم إلى النار، أو إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم وتصريفهم في أنواع العذاب وتركهم على حالهم الأول فيكون استثناء في صفة العذاب لا في الخلود، أو جعل مدّة عذابهم إلى مشيئته ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله - تعالى - في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.(1/461)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
129 - {نُوَلِّى} نكل بعضهم إلى بعض فلا نعينهم فيهلكوا، أو يتولى بعضهم بعضاً على الكفر، أو يتولى بعضهم عذاب بعض في النار، أو يتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة / بمعنى المتابعة، أو تسلط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي. {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130) }(1/462)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
130 - {رُسُلٌ} الجن من الجن، قاله الضحاك، أو لم يبعث رسول من الجن وإنما جاءهم رسل الإنس، فقوله {مِّنكُمْ} كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن: 22] يريد من أحدهما، أو رسل الجن هم الذين لما سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (132) }(1/462)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
131 - {بِظُلْمٍ} في إهلاكهم، أو لا يهلكهم بظلمهم إلا أن يخرجهم عن الغفلة بالإنذار.(1/462)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
132 - {وَلِكُلٍّ} لكل عامل بطاعة أو معصية منازل سميت {دَرَجَاتٌ} لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع يريد به الأعمال المتفاضلة، أو الجزاء المتفاضل.(1/462)
{وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن ما توعدون لآت ومآ أنتم بمعجزين (134) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (135) }(1/463)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
135 - {مَكَانَتِكُمْ} طريقتكم، أو حالتكم، أو ناحيتكم، أو تمكنكم، أو منازلكم. {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم سآء ما يحكمون (136) }(1/463)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
136 - {ذَرَأَ} خلق، من الظهور، ملح ذرآني لبياضه، وظهور الشيب ذرأة. {الحرث} الزرع {الأنعام} الإبل والبقر والغنم من نعمة الوطء. كان كفار قريش ومتابعوهم يجعلون لله - تعالى - في زرعهم ومواشيهم نصيباً، ولأوثانهم نصيباً، يصرفون نصيبها من الزرع إلى خدامها وفي الإنفاق عليها، وكذلك نصيبهم من الأنعام، أو يتقربون بذبح الأنعام للأوثان، أو البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ} سماهم شركاءهم، لأنهم أشركوهم في أموالهم، كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما للأوثان ردّوه، وإن اختلط بها ما جعلوه لله لم يردّوه، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو إذا هلك ما لأوثانهم غرموه وإذا هلك ما لله - تعالى - لم يغرموه، أو صرفوا بعض ما لله - تعالى - على أوثانهم ولا عكس، أو ما جعلوه لله - تعالى - من ذبائحهم لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الأوثان ولا عكس.(1/463)
{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137) }(1/464)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
137 - {شُرَكَآؤُهُمْ} الشياطين، أو خدّام الأوثان، أو شركاؤهم في الشرك، أو غواة الناس، {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ} وأد البنات، أو كان أحدهم يحلف إن وُلد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله. {لِيُرْدُوهُمْ} لامها لام " كي "، لأنهم قصدوا إرداءهم وهو الهلاك أو لام " العاقبة " لأنهم لم يقصدوه. {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138) وقالوا مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ومحرم على(1/464)
أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140) }(1/465)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
138 - {هَذِهِ أَنْعَامٌ} ذبائح الأوثان، أو البحيرة، والحام خاصة. {وَحَرْثٌ} ما جعلوه لأوثانهم. {حِجْرٌ} حرام، قال:
(فبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي على الليل محجور)
{حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} السائبة، أو التي لا يحجون عليها. {لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} قربان أوثانهم. {افْتِرَآءً عَلَيْهِ} بإضافة تحريمها إليه، أو بذكر أسمائها عند الذبح بدلاً من أسمه.(1/465)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
139 - {مَا فِى بُطُونِ [هَذِهِ] الأَنْعَامِ} الأجنة، أو الألبان، أو الأجنة والألبان. خصوا به الذكور، لأنهم خدم الأوثان، أو لفضلهم على الإناث، والذَّكَر مأخوذ من الشرف، لأنه أشرف من الأنثى، أو من الذّكِر، لأنه أذكر وأبين في الناس. {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ اثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141) ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142) }(1/465)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
141 - / {مَّعْرُوشَاتٍ} تعريش الكروم وغيرها برفع أغصانها أو برفع حظارها وحيطانها، أو المرتفعة لعلو شجرها فلا يقع ثمرها على الأرض مأخوذ من الارتفاع، السرير: عرش لارتفاعه {على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] على أعاليها. {كُلُواْ} قدم الأكل تغليباً لحقهم وافتتاحاً لنفعهم بأموالهم، أو تسهيلاً لإيتاء حقه. {حَقَّهُ} الزكاة المفروضة عند الجمهور، أو صدقة غير الزكاة، إطعام من حضر، وترك ما تساقط من الزرع والثمر، أو كان هذا فرضاً ثم نسخ بالزكاة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {وَلا تُسْرِفُواْ} بإخراج زيادة على المفروض تجحف بكم، أو لا تدفعوا دون الواجب، أو أن يأخذ السلطان فوق الواجب، أو يراد به ما أشركوا آلهتهم فيه من الحرث والأنعام.(1/466)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
142 - {حَمُولَةً وَفَرْشاً} الحمولة: ما حُمِل عليه من الإبل، والفرش: ما لم يحمل عليه من الإبل لصغره لافتراش الأرض بها على استواء كالفرش، أو الفرش: الغنم، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} طريقه في الكفر، أو في تحليل الحرام وتحريم الحلال. {مُّبِينٌ} يريد ما بان من عداوته لآدم - عليه الصلاة والسلام -، أو لأوليائه من الشياطين. {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه ارحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي(1/466)
القوم الظالمين (144) }(1/467)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
143 - {من الضأن اثنين) {ذكر وأنثى} (ءَآلذَّكَرَيْنِ} إبطال لما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين قولهم: {مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لذكورنا} [139] لما جاء عوف بن مالك فقال للرسول صلى الله عليه وسلم أحللت ما حرّمه آباؤنا - يعني - البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فنزلت، فسكت عوف لظهور الحجة عليه. {قل لآ أجد في مآ أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلآ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145) }(1/467)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
145 - {مَيْتَةً} زهقت نفسها بغير ذكاة فتدخل فيها الموقوذة والمتردية وغيرها. {مَّسْفُوحاً} مهراقاً مصبوباً، وأما غير المسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال، وإن لم يكن له عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم فلا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح. قالته عائشة وقتادة، قال عكرمة لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود،(1/467)
وقيل يحرم لأنه بعض من المسفوح وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. {رِجْسٌ} نجس {أَوْ فِسْقاً} ما ذبح للأوثان سماه فسقا لخروجه عن أمر الله - تعالى -. {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147) سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولآ ءابآؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين (149) قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150) }(1/468)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
146 - {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} ما ليس بمنفرج الأصابع كالنعام والأوز والبط قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو كل ما يصطاد بظفره من الطير. {شُحُومَهُمَآ} الثروب خاصة، أو كل شحم لم يختلط بعظم ولا على عظم أو الثروب وشحم الكلى. {مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ} شحم الجنب وما علق بالظهر / {الْحَوَايَآ} المباعر، أو بنات اللبن، أو الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها، أو كل ما تَحوَّى في البطن فاجتمع واستدار. {مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} شحم الجنب،(1/468)
أو شحم الجنب والإلية، لأنها على العصعص. {قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151) }(1/469)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
151 - {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أداء الحقوق وترك العقوق {إِمْلاقٍ} الفقر أو الفلس من الملق، لأن المفلس يتملق للغني طمعاً في نَائِلِه. {الْفَوَاحِشَ} عموماً، أو خاص بالزنا فما ظهر ذوات الحوانيت وما بطن ذوات الاستسرار، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو ما ظهر نكاح المحرمات وما بطن الزنا، أو ما ظهر الخمر وما بطن الزنا. {الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ} المسلم، أو المعاهد. {بِالْحَقِّ} كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس. {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}(1/469)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
152 - {بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} حفظه ماله [إلى] أن يكبر فيسلم إليه، أو التجارة به، أو لا يأخذ من ربح التجارة به شيئاً، أو الأكل إذا كان فقيراً والترك إن كان غنياً ولا يتعدى من الأكل إلى لباس ولا غيره، وخصّ مال اليتيم بالذكر وإن كان غيره محرماً لوقوع الطمع فيه إذ لا حافظ له ولا مراعي. {أَشُدَّهُ} الأشد: استحكام قوّة الشباب عند نشوئه وحَدُّه بالاحتلام، أو بثلاثين(1/469)
سنة، ثم أنزل بعده {حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} [النساء: 6] ، أو لثماني عشرة سنة. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} عفا عما لا يدخل تحت الوسع من إيفاء الكيل والوزن، و {بعهد اللَّهِ} كل ما ألزمه الإنسان نفسه لله من نذر أو غيره، أو الحلف بالله - تعالى - يجب الوفاء به إلا في المعاصي. {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(1/470)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
153 - {صِرَاطِى} شرعي سماه صراطاً، لأنه طريق يؤدي إلى الجنة. {السُّبُلَ} البدع والشبهات. {عَن سَبِيلِهِ} عن طريق دينه. {ثم أتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون، وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ فاتبعوا واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين}(1/470)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
154 - {تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ} تماماً على إحسان موسى - عليه الصلاة والسلام - بطاعته، أو تماماً على المحسنين، أو تماماً على إحسان الله - تعالى - إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أو تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا. {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا}(1/470)
إنا منتظرون (158) }(1/471)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
158 - {تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} لقبض أرواحهم، أو تأتيهم رسلاً لأنهم لم يؤمنوا مع ظهور الدلائل. {يَأْتِىَ رَبُّكَ} أمره بالعذاب، أو قضاؤه في القيامة. {بعض آيات رَبِّكَ} طلوع الشمس من مغربها، أو طلوعها والدجال والدابة. {أَوْ كَسَبَتْ} يعتد بالإيمان قبل هذه الآيات، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً فلا يعتدّ به وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان، وظاهر الآية أنه يعتد به، ومن قال: لا يعتدّ به كان المعنى لم تكن آمنت وكسبت قاله السدي. {خَيْراً} أداء الفروض على أكمل الأحوال، أو التنفل بعد الفروض. {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159) من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160) }(1/471)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
159 - {الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} اليهود، أو النصارى واليهود / أو جميع المشركين، أو أهل الضلالة من هذه الأمة. {دِينَهُمْ} الذي أمروا به فرقوه بالاختلاف، أو الكفر الذي اعتقدوه ديناً. {شِيَعاً} فرقاً يتمالؤون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره من الظهور، شاع الخبر: ظهر، أو من الاتباع، شايعه على الأمر: تابعه عليه. {لَّسْتَ مِنْهُمْ} من قتالهم ثم نسخ بآية السيف، أو لست من مخالطتهم، أمَرَه بالتباعد منهم.(1/471)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
160 - {بِالْحَسَنَةِ} بالإيمان، والسيئة: الكفر، أو عامة في الحسنات(1/471)
والسيئات. {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} عام في جميع الناس، أو خاص بالأعراب لهم عشر ولغيرهم من المهاجرين سبعمائة، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنهما -، ولما فرض عشر أموالهم، وكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر كان العشر كأخذ جميع المال، والثلاثة كصوم الشهر، والسبعمائة من سنبلة أنبتت سبع سنابل. {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164) }(1/472)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
162 - {صَلاتِى} ذات الركوع لله - تعالى - دون غيره من وثن أو بشر. {وَنُسُكِى} ذبح الحج والعمرة، أو ديني، أو عبادتي، والناسك: العابد.(1/472)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
164 - {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ} لا يحمل أحد ذنب غيره، أخذ الوزر من الثقل، وزير الملك يتحمل الثقل، أو من الملجأ {كل لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] ،(1/472)
وزير الملك لإلجاء أموره إليه. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165) }(1/473)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
165 - {خَلآئِفَ الأَرْضِ} أهل كل عصر يخلفون من تقدمهم (وَرَفعَ بَعْضَكُمْ} بالغنى والشرف في النسب وقوّة الأجساد. (سَرِيعُ الْعِقَابِ} كل آتٍ قريب، أو لمن استحقّ تعجيل العقاب في الدنيا.(1/473)
(سورة الأعراف)
مكية كلها، أو مكية إلا خمس آيات {واسئلهم عن القرية} إلى آخر الخمس [163 - 167] .
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)(1/474)
المص (1)
1 - {المص} أنا الله أفصل، أو هجاء ((المصور)) ، أو اسم للقرآن، أو للسورة أو اختصار كلام يفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو حروف الاسم الأعظم، أو حروف هجاء مقطعة، أو من حساب الجُمَّل، أو حروف تحوي معاني كثيرة دلّ الله - تعالى - خلقه بها على مراده من كل ذلك.(1/474)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
2 - {حَرَجٌ} ضيق، أو شك، أو لا يضيق صدرك بتكذيبهم.(1/474)
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قاءلون (4) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5) فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7)(1/475)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
4 - { (أَهْلَكْنَاهَا} حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا، أو أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا بوقوع العذاب بهم، أو أهلكناها بالخذلان عن الطاعة فجاءتهم العقوبة، أو وقوع الهلاك والبأس معاً فتكون الفاء بمعنى ((الواو)) كقوله: ((أعطيت فأحسنت)) وكان الإحسان مع العطاء لا بعده. البَأس: شدة العذاب، والبُؤْس: شدة الفقر. {بَيَاتاً} في نوم الليل. {قَآئِلُونَ} نوم النهار ووقت القائلة لأن وقوع العذاب في وقت الراحة أفظع. {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9) }(1/475)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
8 - / {وَالْوَزْنُ} القضاء بالعدل، أو موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفَّتان توضع الحسنات في إحداهما والسيئات في الأخرى أو توزن صحائف الأعمال إذ لا يمكن وزن الأعمال وهي أعراض قاله ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، أو يوزن الإنسان فيؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح(1/475)
بعوضة قاله عبيد بن عمير - رضي الله تعالى عنهما - {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قضي له بالطاعة، أو زادت حسناته على سيئاته، أو ثقلت كفة حسناته. {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11) }(1/476)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
11 - {وَلَقَدْ خَلَقَناكُمْ} في أصلاب الرجال {ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ} في أرحام النساء، أو خلقناكم ((إدم)) ثم صورناكم في ظهره، أو خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صورناكم في ارحام، أو خلقناكم في الأرحام ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر. {ثُمَّ قُلْنَا} صورناكم في صلبه ثم قلنا، أو صورناكم ثم أخبرناكم بأنا قلنا، أو فيه تقديم وتأخير تقديره ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم أو يكون ثم بمعنى ((الواو)) قاله(1/476)
الأخفش، وأنكره بعض النحويين. {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15)(1/477)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
13 - {فَأْهْبِطْ مِنْهَا} من السماء، أو من الجنة، قاله ربه له على لسان بعض الملائكة أو أراه آية دلَّته على ذلك.(1/477)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
14 - {أَنظِرْنِى} طلب الإنظار بالعقوبة إلى يوم القيامة فأنظر بها إلى يوم القيامة، أو طلب الإنظار بالحياة إلى القيامة فأنظره إلى النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين، وهوأربعون سنة، ولا يصح أجابة العصاة لأنها تكرمة ولا يستحقونها فقوله: {إنك من المنظرين} [15] ابتداء عطاء جعل عقيب سؤاله، أو يصح إجابتهم ابتلاء وتأكيدا للحجة. {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17) قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)(1/477)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
16 - {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الباء للقسم، أو للمجازاة، أو التسبب. {أغويتيني} أضللتني، أو خيبتني من جنتك، أو أهلكتني باللعن، غوى الفصيل: أشفى على الهلاك. {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} على صراطك: طريق الحق / ليصدهم عنه، أو طريق مكة ليمنع من الحج والعمرة.(1/477)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
17 - {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من بين أيديهم: أشككهم في الآخرة {وَمِنْ خَلفِهِمْ} أرغبهم في الدنيا {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} حسناتهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}(1/477)
سيئاتهم قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أو ((من بين أيديهم)) الدنيا ((وخلفهم)) الآخرة، ((وأيمانهم)) : الحق يشككهم فيه، وشمائلهم ((الباطل يرغبهم فيه، أو ((بين أيديهم وعن أيمانهم)) من حيث يبصرون، ((ومن خلفهم وعن شمائلهم)) من حيث لا يبصرون، أو أراد من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم منها {شَاكِرينَ} ظنَّ أنهم لا يشكرون فصدق ظنه، أو يمكن أن علمه من بعض الملائكة بإخبار الله - تعالى -.(1/478)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
18 - {مَذْءُوماً} مذموماً، أو أسواْ حالاً من المذموم، أو لئيما، أومقيتا /، أو منفيا. {مدحورا} مدفوعا، أو مطرودا. {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وروي عنهما من سوءاتهما وقال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21) }(1/478)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
20 - {فَوَسْوَسَ) الوسوسة: إخفاء الصوت بالدعاء، وسوس له: أوهمه النصح، ووسوس إليه: ألقى إليه المعنى، كان في الأرض وهما في الجنة في السماء فوصلت وسوسته إليهما بقوة أعطيها قاله الحسن، أوكان في السماء، وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك أو خاطبهما من باب الجنة وهما فيها. {مَا نَهَاكُمَا} هذه وسوسته: رغَّبهما في الخلود وشرف المنزلة، وأوهمهما أنهما يتحولان في صور الملائكة، أو أنهما يصيران بمنزلة الملك في علو منزلته مع علمهما أن صورهما لا تتحول. {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشطان لكما عدو مبين (22) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) }(1/478)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
22 - {فَدَلاَّهُمَا} حطهما من منزلة الطاعة إلى منزلة المعصية. {وطفقا} جعلا {يخصفان} يطعان من ورق التين. {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25) }(1/479)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
24 - {اهْبِطُواْ} آدم وحواء وإبليس، أخبر أنه أمرهم وإن وقع أمره في زمانين لأن إبليس أخرج قبلهما. {مُسْتَقَرٌّ} استقرار، أو موضع استقرار {وَمَتَاعٌ} ما انتفع به من عروض الدنيا. (حِينٍ) انقضاء الدنيا. {يا يني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكما وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ءايات الله لعلهم يذكرون (26) يايني آدم لا يفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}(1/479)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
26 - {قَدْ أَنزَلْنَا} لما كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرونه أبلغ في التعظيم بنزع ثياب عصوا فيها، أو للتفاؤل بالتعري من من الذنوب نزلت وجُعل اللباس(1/479)
مُنزلاً، لنباته بالمطر المنزَل، أو لأنه من بركات الله - تعالى - والبركة تنسب إلى النزول من السماء {وأنزلنا الحديد} [الحديد: 25] {سوآتكم} عوراتكم، لأنه يسوء صاحبها انكشافها. {وَرِيشاً} المعاش، أو اللباس والعيش والنعيم، أو الجمال، أو المال.
(فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما)
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الإيمان، أو الحياء، أو العمل الصالح، أو السمت الحسن، أو خشية الله - تعالى - أو ستر العورة. {ذَلِكَ خَيْرٌ} لباس التقوى خير من الرياش واللباس، أويريد أن ما ذكره من اللباس والرياش ولباس التقوى ذلك خير كله فلا يكون خير للتفضيل.(1/480)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
27 - {لِبَاسَهُمَا} من التقوى والطاعة، أو كان لباسهما نوراً، أو أظفاراً تستر البدن فنُزعت عنهما وتُركت زينة وتذكرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءابآءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشآء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودودن (29) فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم(1/480)
الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30) }(1/481)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
28 - {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} توجَّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، أو اجعلوا سجودكم خالصاً لله - تعالى - دون الأصنام. {كَمَا بَدَأَكُمْ} شقياً وسعيداً كذلك تبعثون يوم القيامة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو كما قدر على الابتداء يقدر على الإعادة، أو كما بدأكم لا تملكون شيئاً كذلك تبعثون، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " يُحشر الناس حفاة عراة غُرلاً " ثم قرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] . {يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وَأّن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) ولكل أمة أجل فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34) يا بني ءادم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم(1/481)
آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنهآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36) }(1/482)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
31 - {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} ستر العورة في الطواف، أو في الصلاة أو التزين باجمل اللباس في الجمع والإعياد، أو أراد المشط لتسريح اللحية وهو شاذ. {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} ما أحلَّ لكم {وَلا تُسْرِفُواْ} في التحريم، أو لا تأكلوا حراماً، أو لا تأكلوا ما زاد على الشبع.(1/482)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
32 - {زينة الله} ستر العورة في الطواف. {الطيبات} الحلال، أو المستلذ كانوا يحرِّمون السمن والألبان في الإحرام، أو البحيرة والسائبة. {خَالِصَةً} لهم دون الكفر، أو خالصة من مأثم أو مضرة. {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلآء أضلونا فئاتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39) }(1/482)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
37 - {نَصِيبُهُم} العذاب، أو الشقاء والسعادة، أو ما كتب عليهم مما عملوه في الدنيا، أو ما وُعدوا في الكتاب من خير أو شر، أو ما كتب لهم من الأجل والرزق والعمل. {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} بالموت، أو بالحشر إلى النار. {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى(1/482)
يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41) }(1/483)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
40 - {لا تُفَتَّحُ} لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين، أو لدعائهم وأعمالهم أو لا تفتح لهم لدخول الجنة لأنها في السماء. {الْجَمَلُ} البعير، وسم الخياط: ثقب الإبرة، أو السم القاتل الداخل في مسام الجسد الخفية.(1/483)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
41 - {مِهَادٌ} المهاد: الوطاء، ومنه مهد الصبي. {غَوَاشٍ} لحف، أو لباس، أو ظلل. {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعهآ أولئك أصحاب الجنة هم فيها جالدون (42) ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (43) }(1/483)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
43 - {وَنَزَعْنَا} الحقد من صدورهم لطفاً بهم أو انتزاعه من لوازم الإيمان الذي هدوا إليه، وهو أحقاد الجاهلية، أو لا تحاقد ولا عداوة بعد الإيمان. {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرى كافرون (45) وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون (46) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء(1/483)
أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (47) }(1/484)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
46 - {الأَعْرَافِ} جمع ((عرف)) ، وهو سور بين الجنة والنار، مأخوذ من الارتفاع، منه عرف الديك، وأصحابه فضلاء المؤمنين، قاله الحسن ومجاهد، أو ملائكة في صورة الرجال، أو قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس، أو قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضي الله - تعالى - فيهم ما شاء الله ثم يدخلون الجنة، قاله ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أو قوم قُتلوا في سبيل الله - تعالى - عصاة لآبائهم، سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال ((قوم قُتلوا في سبيل الله - تعالى - بمعصية آبائهم أن يدخلوا الجنة)) . {بِسِيمَاهُمْ} علامات في وجوههم وأعينهم، سواد الوجه(1/484)
وزرقة العين لأهل النار، وبياضه وحسن العين لأهل الجنة. ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون (48) أهؤلآء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولآ أنتم تحزنون (49) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50) الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون (51) }(1/485)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
48 - {وَنَادَى} وينادي، أو تقديره: إذا كان يوم القيامة نادى. {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تاويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروآ أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53) }(1/485)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
53 - {تَأْوِيلَهُ} تأويل القرآن: عاقبته من الجزاء، أو البعث والحساب. {نَسُوهُ} أعرضوا عنه فصار كالمنسِي، أو تركوا العمل به. {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) }(1/485)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
54 - {سِتَّةِ أَيَّامٍ} من الأحد إلى الجمعة. {اسْتَوَى} أمره على العرش(1/485)
قاله الحسن، أو استولى. {الْعَرْشِ} عبَّر به عن الملك لعادة الملوك الجلوس على الأَسرَّة، أو السموات كلها، لأنها سقف / وكل سقف عرش {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259، الكهف: 42] سقوفها أو موضع هو أعلى ما في السماء وأشرفه محجوب عن الملائكة. {يُغْشِى} ظلمة الليل ضوء النهار. {يَطْلُبُهُ} عبَّر عن سرعة التعاقب بالطلب. {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56) }(1/486)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
55 - {تضرعا وخفية} رغبة ورهبة، أو التضرع: التذلل، والخفية: الإسرار. {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء برفع الصوت، أو بطلب ما لا يستحقه من منازل الأنبياء، أو باللعنة والهلاك على من لا يستحقهما.(1/486)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
56 - {وَلا تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها] بالإيمان، أو بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة، أو بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي، أو بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه. {رحمة اللَّهِ} أتت على المعنى لأنها " إنعام "، أو " مكان رحمة الله ". {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذآ أقلت سحاباً ثقالاً(1/486)
سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (58) }(1/487)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
58 - {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} القلب النقي {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} من الإيمان والطاعات {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بما أمر به ذلك {وَالَّذِى خَبُثَ} من القلوب {لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} بالكفر والمعاصي، قاله بعض أرباب القلوب، والجمهور على أنه من بلاد الأرض الطيِّب التربة والرخيص السعر، أو الكثير العلماء، أو العادل سلطانه. ضرب الله - تعالى - الأرض الطيبة مثلاً للمؤمن والخبيثة السبخة مثلاُ للكافر {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} زرعه وثماره {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بلا كد على قول التربة، أو صلاح أهله على قول الطيب بالعلماء {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بدين ربه أو كثرة أمواله وحسن أحواله على قول عدل السلطان {بِإِذْنِ رَبِّهِ) {بأمر ربه} (وَالَّذِى خَبُثَ} في تربته، أو بغلاء أسعاره. أو بجور سلطانه، أو قلّة علمائه. {نَكِداً} بالكد والتعب، أو قليلاً لا ينتفع به، أو عسراً لشدته مانعا من خيره. {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59) قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62) أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك(1/487)
وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ إنهم كانوا قوما عمين (64) وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال الملآ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (67) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (68) أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون (69) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين (70) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين (71) فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (72) }(1/488)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
69 - {بَسطَةً} قوة، أو بسط اليدين وطول الجسد، كان أقصرهم طوله اثنا عشر دراعاً. {آلاء اللَّهِ} نعمه، أو عهوده.
(أبيض لا يرهب الهزال ... ولا يقطع رحماً ولا يخون إلاَّ)(1/488)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
71 - {رِجْسٌ} عذاب، أو سخط، أو هو الرجز أًبدلت زايه سيناً. {سَمَّيْتُمُوهَآ} آلهة، أو سموا بعضاً بأن يسقيهم المطر والآخر أن يأتيهم بالرزق والآخر أن يشفي المرضى والآخر أن يصحبهم في السفر، قيل ما أمرهم هود إلا بالتوحيد والكف عن ظلم الناس فأبوا {وقالوا من أشد منا قوة} [فصلت: 15] . {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالآء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74) قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون (76) فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (78) قتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم(1/489)
رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79) }(1/490)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
73 - {آية) {فريضة} (وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] فروضاً، فرض عليهم أن لا يعقروها ولا يمسوها بسوء، أو علامة على قدرته، لأنها تمخَّضت بها صخرة ملساء كما تتمخَّض المرأة فانفلقت عنها على الصفة التي طلبوها، وكانت تشرب في يومها ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله، ولهم يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم.(1/490)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
74 - {بوأكم} أنزلكم، أو مكَّنكم فيها من منازل تأوون إليها. {الأَرْضِ} / أرض الحجر بين الشام والمدينة. {قصوراً} تصيفون فيها، وتشتُّون في بيوت الجبال لأنها أحصن وأبقى وأدفأ، وكانوا طوال الأعمار والآمال، والقصر: ما شيد وعلا من المنازل. {آلاء اللَّهِ} تعالى نعمه، أو عهوده. {تَعْثُوْاْ} العيث: السعي في الباطل، أو الفعل المؤذي لغير فاعله. {مُفْسِدِينَ} بالمعاصي، أو بالدعاء أو عبادة غير الله - تعالى -.(1/490)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
78 - {الرَّجْفَةُ} زلزلة الأرض، أو الصيحة، قال السدي: " كل ما في القرآن من دارهم فالمراد به مدينتهم، وكل ما فيه من ديارهم فالمراد به عساكرهم ". {جَاثِمِينَ} أصبحوا كالرماد الجاثم، لاحتراقهم بالصاعقة أو الجاثم: البارك على ركبتيه، قيل: كان ذلك بعد العصر.(1/490)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
79 - {فَتَوَلَّىَ عَنْهُمْ} خرج عن أرضهم بمن آمن معه وهم مائة وعشرة، قيل خرج [إلى] فلسطين، وقيل: لم تهلك أمة ونبيهم بين أظهرهم. {ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80)(1/490)
إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه إلآ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84) }(1/491)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
82 - {يَتَطَهَّرُونَ} من إتيان الأدبار، أو بإتيان النساء في الأطهار.(1/491)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
83 - {فأنجيناه} خلصناه، أو أبعدناه على نجوة من الأرض. {وأهله} ابنتيه ريثا ورعثا. {الغابرين} الباقين في الهلاك، أو الغائبين عن النجاة، غبر عنا فلان زماناً: إذا غاب، أو الغابرين في العمر لأنها لقيت هلاك قومها. {وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذالكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجاً واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86) وإن كان طآئفة منكم ءامنوا بالذي أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87) }(1/491)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
86 - {ولا تقعدوا} كانوا يقعدون على طريق شعيب يؤذون من قصده للإيمان ويخوفونه بالقتل، أو نهاهم عن قطع الطريق، أو عن تعشير أموال الناس. {عوجاً} يبغون السبيل عوجاً عن الحق، العوج في الدين وما لا(1/491)
يرى والعوج في العود وما يرى. {فكثركم} بالغنى بعد الفقر، أو بالقوة بعد الضعف، أو بطول الأعمار بعد قصرها، او كثرة عددهم لأن مدين بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تزوج ريثا بنت لوط فولدت آل مدين منها. {قال الملآ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلآ أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنآ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89) }(1/492)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
89 - {نَّعُودَ فِيهَآ} حكاية عن أتباع شعيب الذين كانوا قبل اتباعه على الكفر، أو قاله تنزُّلاً لو كان عليها لم يعد إليها، إأو يطلق لفظ العود على منشىء الفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله {فِيهَآ} في القرية، أو ملّة الكفر عند الجمهور. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} علّق العود على المشيئة تبعيداً كقوله: {حتى يلج الجمل} [40] ، أو لو شاء الله - تعالى - عبادة الوثن كانت طاعة لأنه شاءها كتعظيم الحجر الأسود. {افْتَحْ} اكشف؛ أو احكم، وأهل عُمان يسمون الحاكم، " الفاتح " و " الفتاح " ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: " كنت لا أدري ما معنى قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول: تعالَ أفاتحك، تعني أقاضيك. وسمي بذلك، لأنه يفتح باب العلم المنغلق على غيره، وحكم الله - تعالى - لا يكون إلا بالحق، فقوله بالحق أخرجه مخرج الصفة / لا أنه طلبه، أو طلب أن يكشف الله - تعالى - لمخالفه أنه على الحق، أو طلب الحكم في الدنيا بنصر المحق /. {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون (90) فأخذتهم(1/492)
الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين (92) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين (93) }(1/493)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
92 - {يَغْنَواْ} يقيموا، أو يعيشوا، أو ينعموا، أو يعمرو، {هم الخاسرين} بالكفر، أو بالهلاك. {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95) }(1/493)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
94 -(1/493)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{بِالْبَأْسَآءِ} بالقحط {وَالضَّرَّآءِ} الأمراض والشدائد، أو البأساء: الجوع، والضراء: الفقر، أو البأساء: البلاء، والضراء: الزمانة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو البأساء: الشدائد في أنفسهم، والضراء / الشدائد في أموالهم.(1/493)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
95 -(1/493)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{بِالْبَأْسَآءِ} بالقحط {وَالضَّرَّآءِ} الأمراض والشدائد، أو البأساء: الجوع، والضراء: الفقر، أو البأساء: البلاء، والضراء: الزمانة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو البأساء: الشدائد في أنفسهم، والضراء: الشدائد في أموالهم.(1/493)
95 - {السيئة} الشدة و {الحسنة} الرخاء، أو السيبئة: الشر والحسنة: الخير {عَفَواْ} كثروا، أو أعرضوا، أو سمنوا، أو سروا. {مس آباءنا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ) يريدون ليس عقوبة على التكذيب بل ذلك عادة الله - تعالى - في خلقه. {ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99) }(1/493)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
96 - {لَفَتَحْنَا} لرزقنا أو لوسعنا. {بَرَكَاتٍ} السماء القطر، وبركات الأرض النبات والثمار. {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع عل قلوبهم فهم لا يسمعون (100) تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين (101) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102) }(1/494)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
100 - {لا يَسْمَعُونَ} لا يقبلون / ومنه سمع الله لمن حمده.(1/494)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
101 - {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} وقت أخذ الميثاق يوم الذر أو لم يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق عليهم أنهم يكذبون به يوم الذر، أو لو أحييناهم بعد هلاكهم لم يؤمنوا بما كذبوا قبل هلاكهم كقوله - تعالى - {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الأنعام: 28] .(1/494)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
102 - {مِّنْ عَهْدٍ} من طاعة للأنبياء، أو من وفاء بعهد عهده إليهم مع الرسل أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أو عهد يوم الذر، أو ما ركز في عقولهم من معرفته ووجوب شكره. {لَفَاسِقِينَ} الفسق: الخروج عن الطاعة، أو خيانة العهد. {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنآ إلى فرعون ملإئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق(1/494)
على أن لآ أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرآءيل (105) قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين (108) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدآئن حاشرين (111) يأتوك بكل ساحر عليم (112) }(1/495)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
105 - {حَقِيقٌ} حريص، أو واجب، أخذ من وجوب الحق. {إِلاَّ الْحَقَّ} الصدق، أو ما فرضه عليَّ من الرسالة.(1/495)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
111 - {أَرْجِهْ} أخره، أو احبسه. {حَاشِرِينَ} أصحاب الشُّرَط، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {وجآء السحرة فرعو قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114) قالوا يا موسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم (116) وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا ءامنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122) }(1/495)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
117 - {عصاك} هي أول آيات موسى - عليه الصلاة والسلام - من آس الجنة، طولها عشرة أذرع بطول موسى عليه الصلاة والسلام، فضرب بها باب فرعون ففزع فشاب فخضب بالسواد حياء من قومه، وكان أول خضب بالسواد قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {تَلْقَفُ} التلقُف: التناول(1/495)
بسرعة، يريد ابتلاعها بسرعة. {يَأْفِكُونَ} يقلبون، المؤتفكات: المنقلبات، أو يكذبون من الإفك.
{ألْقُواْ} تقديره " إن كنتم محقين "، أو أَلقوا على ما يصح ويجوز دون ما لا يصح.(1/496)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
118 - {فَوَقَعَ الْحَقُّ} ظهرت العصا على حبال السحرة، أو ظهرت نبوة موسى - عليه الصلاة والسلام - على ربوبية فرعون.(1/496)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
120 - {ساجدين} لله إيماناً بربوبيته، أو لموسى - عليه الصلاة والسلام - تسليماً له وإيماناً بنبوّته، أُلهموا السجود لله - تعالى - أو رأوا موسى عليه الصلاة والسلام - وهارون سجدا / شكراً عند الغلبة فاقتتدوا بهما. {قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون (123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124) قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منآ إلآ أن ءامنا بآيات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين (126) وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحي نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون (127) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض(1/496)
فينظر كيف تعملون (129) }(1/497)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
127 - {الْمَلأُ} الأشراف، أو الرؤساء، أو الرهط، والنفر: " الرجال الذين لا نساء معهم "، والرهط أقوى من النفر وأكبر، والملأ: المليئون بما يراد منهم، أو تملأ النفوس هيبتهم، أو يملؤون صدور المجالس، وإنما أنكروا على فرعون، لأنهم رأوا منه خلاف عادة الملوك في السطوة بمن أظهر مخالفتهم، وكان ذلك لطفاً من الله - تعالى - بموسى - عليه الصلاة والسلام -. {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بعبادة غيرك، أو بالغلبة عليها وأخذ قومه منها. {وآلهتك} كان يعبد الأصنام وقومه يعبدونه، أو كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري العجل وكان معبوداً في قومه، أو أصنام كان يعبدها قومه تقرباً إليه، قاله الزجاج، قرأ ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {وإلهتك} أي وعبادتك وقال: كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد. {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ} عدل عن قتل موسى إلى قتلهم، لأنه علم أنه لا يقدر على قتل موسى - عليه الصلاة والسلام - إما لقوته، أو لأنه مصروف عن قتله فأراد استئصال بني إسرائيل ليضعف عنه موسى. {وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ} نفتش حياءهن عن الولد، والحياء: الفرج والأظهر أنه نبقهن أحياء لضعفهن عن المنازعة والمحاربة.(1/497)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
128 - {يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ} أعلمهم أن الله - تعالى - يورثهم أرض فرعون، أو سلاهم بأن الأرض لا تبقى على أحد حتى تبقى لفرعون.(1/497)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
129 - {أوذينا من قبل أن تأتينا} بالاستعباد وقتل الأبناء {وَمِن بَعْدِ} بالوعيد بإعادة ذلك عليهم أو بالجزية من قبل مجيئه وبعده، أو كانوا يضربون اللَّبِنَ ويُعطون التبن فلما جاء صاروا يضربون اللَّبِنَ وعليهم التبن أو كانوا(1/497)
يسخرون في الأعمال نصف النهار ويكسبون لأنفسهم في النصف الآخر فلما جاء سخَّرهم جميع النهار بغير طعام ولا شراب {مِن قَبْلِ أَن تَأَتِيَنَا} بالرسالة {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بها، أو من قبل أن تأتينا بعهد الله - تعالى - أنه يخلِّصنا، ومن بعد ما جئتنا به شكوا ذلك استغاثة منهم بموسى - عليه الصلاة والسلام - أو استبطاء لوعده. {عَسَى} في اللغة طمع وإشفاق. وهي من الله - تعالى - إيجاب ويقين ويحتمل أن يكون رجاهم ذلك. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ} يجعلكم خلفاً من فرعون، أو يجعلكم خلفاً لنفسه لأنكم أولياؤه. {الأَرْضِ} أرض مصر، أو الشام. {فَيَنظُرَ} فيرى، أو فيعلم أولياؤه. وعدهم بالنصر، أو حذّرهم من الفساد، لأن الله - تعالى - ينظر كيف تعملون في طاعته أو خلافته. {ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون (130) فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألآ إنما طآئرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131) }(1/498)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
130 - {بِالسِّنِينَ} الجوع، أو الجدوب، أخذتهم السنة: قحطوا، قال الفراء: بالسنين: القحط عاماً بعد عام، قيل قحطوا سبع سنين.(1/498)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
131 - {الْحَسنَةُ} / الخصب، والسيئة: الجدب، أو الحسنة: السلامة والأمن، والسيئة: الأمراض والخوف. {لَنَا هَذِهِ} أي كانت هذه حالنا في أوطاننا قبل اتباعنا لك. {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا، يقولون: هذه بطاعتنا لك. {طَآئِرُهُمْ} حظهم من العقاب، أو طائر البركة، والشؤم من الخير والشر والنفع والضر من عند الله - تعالى - لا صنع فيه لمخلوق. {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم(1/498)
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون (135) }(1/499)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
133 - {الطُّوفَانَ} الغرق بالماء الزائد، أو الطاعون، أو الموت، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الطوفان: الموت)) أو أمر من الله - تعالى - طاف بهم، أو المطر والريح، أو عذاب، ((قيل: دام بهم ثمانية أيام من السبت إلى السبت، قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: فما زال الطوفان حتى خرج زرعهم حسناً، فقالوا: هذه نعمة فأرسل الله - تعالى - عليهم الجراد بعد شهر فأكل جميع نبات الأرض وبقي من السبت إلى السبت، ثم طلع بهد الشهر من الزرع ما قالوا هذا يكفينا فأرسل الله - تعالى - عليهم القُمَّل فسحقها)) ، وهو الدبا صغار الجراد لا أجنحة له، أو سوس الحنطة، أو البراغيث، أو القردان، أو ذوات سود صغار. {وَالدَّمَ} الرعاف، أو صار ماء شربهم دماً عبيطاً. {مُّفَصَّلاتٍ} مبينات لنبوة موسى - عليه الصلاة والسلام - أو انفصل بعضها عن بعض فكان بين كل آيتين شهر. {فَأسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان بموسى - عليه الصلاة واسلام -، أو عن الاتعاظ بالآيات.(1/499)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
134 - {الرجز} العذاب، أوطاعون أهلك من القبط سبعين ألفاً {بِمَا(1/499)
عَهِدَ عِندَكَ} الباء للقسم، أو بما أوصاك أن تفعله في قومك، أو بما عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك. {فانتقمنا منهم فأعرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بئاياتنا وكانوا عنها غافلين (136) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرآءيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137) }(1/500)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
137 - {مَشَارِقَ الأَرْضِ} الشرق والغرب، أو أرض الشام ومصر، أو الشام وحدها شرقها وغربها. {بَارَكْنَا فِيهَا} بالخصب، أو بكثرة الثمار والأشجار والأنهار. {وتمت كلمة رَبِّكَ} بإهلاك عدوهم واستخلافهم او بما وعدهم به بقوله - تعالى - {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} الآيتين [القصص: 5، 6] {الحسنى} لأنها وعد بما يحيون. {بِمَا صَبَرُواْ} على طاعة الله - تعالى - أو على أذى فرعون. {وجاوزنا ببني إسرآءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنآ إلهاً كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلآء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139) قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين (140) وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذلكم بلآء من ربكم عظيم (141) }(1/500)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
139 - {مُتَبَّرٌ} باطل، أو ضلال، أو مُهلك، والتبر: الذهب، لأن معدنه مهلك، أو لكسره، وكل إناء مكسور متبر، قاله الزجاج.(1/500)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
141 - {بَلآءٌ} في خلاصكم، أو فيما فعلوه بكم، والبلاء: الاختبار بالنعم، أو النقم. {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142) }(1/501)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
142 - {ثَلاثِينَ لَيْلَةً} أمر بصيامها، والعشر بعدها أجل المناجاة، أو الأربعون كلها أجل الميقات للمناجاة، قيل ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. تأخر عنه قومه في الأجل الأول فزادهم الله - تعالى - العشر ليحضروه، أو لأنهم عبدوا العجل بعده فزاد الله - تعالى - العشر عقوبة لهم، {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} تأكيد /، أو لبيان أن العشر ليالي وليست بساعات، أو لبيان أن العشر زائد على الثلاثين غير داخل فيها، لأن تمام الشيء يكون بعضه. {ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (143) }(1/501)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
143 - {أَرِنِى} سأل الرؤية ليجاب بما يحتج به على قومه إذ قالوا {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] مع علمه أنه لا يجوز أن يراه في الدنيا، أو(1/501)
كان يعلمه باستدلال فأحبَّ أن يعلمه ضرورة، أو كان يظن ذلك حتى ظهر له ما ينفيه. , {تَجَلَّى} ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل، أو ظهر من ملكوته للجبل ما تدكدك به، لأن الدنيا لا تقوم لما يظهر من ملكوت السماء، أو ظهر قدر الخنصر من العرش، أو أظهر أمره للجبل، والتجلَّي: الظهور، ومنه جلاء المرآة وجلاء العروس. {دَكّاً} مستوياً بالأرض، ناقة دكاء لا سنام لها، أو ساخ في الأرض أو صار تراباً قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو صار قطعاً. {صَعِقاً} ميتاً، أو مغشياً عليه، قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أخذته الغشية عشية الخميس يوم عرفة فأفاق عشية الجمعة يوم النحر وفيه نزلت عليه التوراة، فيها عشر آيات نزلت في القرآن في ثماني عشرة آية من بني إسرائيل. {تُبْتُ} من السؤال قبل الإذن، أو من تجويز الرؤية في الدنيا، أو ذكر ذلك على جهة التسبيح، لأن المؤمن يسبِّح عند ظهور الآيات. {أَوَّلُ الْمؤْمِنِينَ} أنه لا يراك شيء من خلقك في الدنيا، أو باستعظام سؤال الرؤية. {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الشاكرين (144) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين (145) }(1/502)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
145 - {وَكَتَبْنَا} فرضنا ك {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] أو خططنا بالقلم. {اللواح} زمرد أخضر، أو ياقوت، أو بُرد، أو خشب، أًخذ اللوح من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه. {مِن كُلِّ شَىْءٍ} يحتاج إليه في الدين من حرام، أو حلال، أو مباح، أو واجب، أو غير واجب، أو كل شيء من(1/502)
الحِكم والعِبر. {مَّوْعِظَةً} بالنواهي {وَتَفْصِيلاً} بالأوامر، أو موعظة: بالزواجر وتفصيلاً: بالأحكام، وكانت سبعة ألواح. {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد، أو بطاعة، أو بصحة عزيمة، أو بشكر. / {بِأَحْسَنِهَا} الفرائض أحسن من المباح، أو بناسخها دون منسوخها أو المأمور أحسن من ترك المنهي وإن كانا طاعة. {دَارَ الْفَاسِقِينَ} جهنم، أو منازل الهلكى ليعتبروا بنكالهم، أو مساكن الجبابرة والعمالقة بالشام، أو مصر دار فرعون. {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146) والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (147) واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (149) }(1/503)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
146 - {سأصرف عن آياتي} أمنع عن فهم القرآن، أو أجزيهم على كفرهم بإضلالهم عما جاء به من الحق، أو أصرفهم عن دفع الانتقام عنهم {يَتَكَبَّرُونَ} عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يحقرون الناس ويرون لهم عليهم فضلاً. {الرُّشْدِ} الإيمان، والغي: الكفر، أو الرشد: الهدى، والغي: الضلال. / {غَافلِينَ} عن الإيمان، أو عن الجزاء. {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا(1/503)
يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153) }(1/504)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
150 - {أَسِفاً} حزيناً، أو شديد الغضب، أو مغتاظاً، أو نادماً. والأَسِف: المتأسف على فوت ما سلف، غضب عليهم لعبادة العجل أسفاً على ما فاته من المناجاة، أو غضب على نفسه من تركهم حتى ضلُّوا أسفاً على ما رآهم عليه من المعصية، قال بعض المتصوفة: أعضبه الرجوع عن مناجاة الحق إلى مخاطبة الخلق. {أَمْرَ رَبِّكُمْ} وعده بالأربعين، ظنوا موت موسى - عليه الصلاة والسلام - لما لم يأتهم على رأس الثلاثين، أو وعده بالثواب على عبادته فعدلتم إلى عبادة غيره، والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أول أوقاته. {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} غضباً لما رأى عبادة العجل، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو لما رأى فيها أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت لناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، قال: رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد فاشتدّ عليه فألقاها، قاله قتادة. فلما ألقاها تكسرت ورفعت إلا سبعها، وكان في المرفوع تفصيل كل شيء، وبقي الهدى(1/504)
والرحمة في الباقي ف {أَخَذَ الآَلْوَاحَ وَفِي نسختها هدى ورحمة} [154] وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - تكسرت الألواح ورُفعت إلا سدسها. {بِرَأْسِ أَخِيهِ} بأذنه، أو شعر رأسه، كما يقبض الرجل منا على لحيته ويعض على شفته، أو يجوز أن يكون ذلك في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان. {أبْنَ أُمَّ} كان أخاه لأبويه، أو استعطفه بالرحمة كما في عادة العرب قال:
(يا ابن أمي ويا شُقَيِّقَ نفسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .)
{مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لا تغضب عليَّ كما غضبت عليهم، فرق له، ف {قال ربي اغفر لي ولأخي} [151] . {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154) واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال(1/505)
رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهآء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدي من تشآء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنآ إليك قال عذابي أصيب به من أشآء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) }(1/506)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
155 - {لِّمِيقَاتِنَا} الميقات الأول الذي سأل فيه الرؤية أو ميقات آخر للتوبة من عبادة العجل. {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} لسؤالهم الرؤية أو لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل، والرجفة: زلزلة، أو موت أُحيوا بعده، أو نار أحرقتهم فظنّ موسى - عليه الصلاة والسلام - أنهم هلكوا ولم يهلكوا. {أَتُهْلِكُنَا} نفى أن يعذب إلا من ظلم، أو الاستفهام على بابه، خاف من عموم العقوبة، كقوله {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] {فِتْنَتُكَ} عذابك، أو اختبارك.(1/506)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
156 - {حَسَنَةً} نعمة، سميت بذلك لحسن وقعها في النفوس، أو ثناءً صالحاً، أو مستحقات الطاعة. {هُدْنَآ} تُبنا، أو رجعنا بالتوبة إليك هاد يهود: رجع، أو تقرَّبنا بالتوبة إليك، ما له عندي هوادة سبب يقربه {مَنْ أَشَاءُ} من خلقي، أو من أشاء في التعجيل والتأخير. {وَرَحْمَتِى} توبتي، أو الرحمة خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو تسع رحمته في الدنيا البر والفاجر وتختص / في الآخرة بالمتقين قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - {يَتَّقُونَ} الشرك، أو المعاصي. {الزَّكَاةَ} من أموالهم عند الجمهور، أو يتطهَّرون بالطاعة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - {فَسَأكْتُبُهَا} لما انطلق موسى - عليه الصلاة والسلام - بوفد من بني إسرائيل،(1/506)
قال الله - تعالى -: قد جعلت لهم الأرض طهورا ومساجد يصلون ومساجد يصلَّون حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض، أوقبر أو حمام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرءون التوراة عن ظهر قلب، فذكره موسى عليه الصلاة والسلام لهم فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظراً، ولا نصلي إلا في الكنيسة، فقال الله - تعالى - فسأكتبها - يعني السكينة والقراءة والصلاة لمتبعي محمد صلى الله عليه وسلم. {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويرحم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النورالذي أنزل معه أولائك هم المفلحون (157) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)(1/507)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
157 - {الأُمِّىَّ} لأنه لا يكتب، أو لأنه من أم القرى - مكة - أو لأنه من أمة أمية هي العرب. {بِالْمعْرُوفِ} بالحق، لأن العقول تعرف صحته. {الْمُنكَرِ} الباطل لإنكارها صحته. {الطَّيِّبَاتِ} الشحوم المحرمة عليهم، أو ما حرمته الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. {الْخَبَائِثَ} لحم الخنزير والدماء. {إِصْرَهُمْ} العهد على العمل بما في التوراة، أو تشديدات دينهم كتحريم السبت والشحوم والعروق وغير ذلك. {وَالأَغْلآَلَ) {قوله} (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}(1/507)
[المائدة: 64] أو عهده فيما حرمه عليهم سماه غلاًّ للزومه. {وَعَزَّرُوهُ} عظَّموه، أو منعوه من عدوه. {النُّورَ} القرآن، يسمون ما ظهر ووضح نوراً. {أُنزِلَ مَعَهُ} عليه، أو في زمانه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أي الخلق أعجب إليكم إيماناً، قالوا: الملائكة، فقال: هم عند ربهم فما لهم لا يؤمنون، فقالوا: النبيون، فقال: النبيون يُوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون، قالوا: نحن، فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون، قالوا: فمَن، قال: قوم يكونون بعدكم فيجدون كتاباً في ورق فيؤمنون به " هذا معنى قوله {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} . {وَمِن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159) وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السمآء بما كانوا يظلمون (162) }(1/508)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
159 - {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم كابن سلام وابن صوريا، أو قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو الذين تمسكوا بالحق لما قُتلت الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.(1/509)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
161 - {الْقَرْيَةَ} لاجتماع الناس إليها، أو الماء، قَرَى الماء في حوضه جمعه، بيت المقدس، أو الشام. {وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) }(1/509)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
163 - {حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أيلة، أو ساحل مدين، أو مدين، قرية بين إيلة والطور، أو مقنا بين مدين وعينونا، أو طبرية {واسألهم} توبيخاً على ما سلف من الذنوب. {شُرَّعًا} طافية على الماء ظاهرة، شوارع البلد لظهورها، أو تشرع على أبوابهم كأنهم الكباش البيض رافعة رؤوسها، أو تأتيهم من كل مكان / فتعدوا بأخذها في السبت. {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166) }(1/509)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
165 - {نَسُواْ} تركوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. {ظَلَمُواْ} بترك المعروف وإتيان المنكر. {بَئِيس} شديد، أو رديء، أو(1/509)
عذاب مقترن بالبؤس وهو الفقر، هلك المعتدون، ونجا المنكرون، ونجت التي لم تَعْتَدِ ولم تنكر، وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: لا أدري ما فعلت. {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167) }(1/510)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
167 - {تَأَذَّنَ} أعلم، أو أقسم، قاله الزجاج. {لَيَبْعَثَنَّ} على اليهود العرب، و {سُوءَ الْعَذَابِ} الصغار والجزية، قيل أول من وضع الخراج من الأنبياء موسى - عليه الصلاة والسلام - جباه سبع سنين، أو ثلاث عشرة سنة ثم أمسك. {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168) فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170) }(1/510)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
168 - {وَقَطَّعْنَاهُمْ} فرقناهم ليذهب تعاونهم، أو ليتميز الصالح من المفسد، أو انتقاماً منهم. {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} الثواب والعقاب، أو النعم والنقم، أو الخصب والجدب.(1/510)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
169 - {خَلْفٌ} وخَلَف واحد، أو بالسكون للذم، وبالفتح للحمد، وهو(1/510)
الأظهر، والخلف: القرن، أو جمع خالف، وهم أبناء اليهود ورثوا التوراة عن آبائهم، أو النصارى خلفوا اليهود وورثوا الإنجيل لحصوله معهم. {عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} الرشوة على الحكم إجماعاً، سمي عرضاً لقلة بقائه، الأدنى: لأنه من المحرمات الدنية، أو لأخذه في الدنيا الدانية. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} عبّر به عن إصرارهم على الذنوب، أو أراد لا يشبعهم شيء فهم لا يأخذونه لحاجة، قاله الحسن، - رضي الله تعالى عنه - {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} تركوه، أو تلوه وخالفوه على علم. {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171) }(1/511)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
171 - {نَتَقْنَا} زحزحنا، أو جذبنا، النتق: الجذب، والمرأة الولود ناتق لاجتذابها ماء الفحل، أو لأن ولادها كالجذب، أو رفعناه عليهم من أصله لما أبوا قبول فرائض التوراة لمشقتها، وعظهم موسى - عليه الصلاة والسلام - فلم يقبلوا فرفع الجبل فوقهم، وقيل: إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا أُلقي عليكم، فأخذوه بجد ثم نكثوا بعده، وكان نتقه نقمة بما دخل عليهم من رعبة وخوفه، أو نعمة لإقلاعهم عن المعصية. {وَظَنُّواْ} على بابه، أو أيقنوا {ما آتيناكم} التوراة. {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا أنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهكلنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174) }(1/511)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
172 - {أَخَذَ رَبُّكَ} أخرج الأرواح قبل الأجساد في الجنة، أو بعد هبوط آدم إلى الأرض، وخلق فيها المعرفة فعرفت من خاطبها، أو خلق الأرواح(1/511)
والأجساد معاً في الأرض - مكة والطائف - فأخرجهم كالذر في الدور الأول مسح ظهره، فخرج من صفحة ظهره اليمنى أصحاب الميمنة بيضاً كالذر، وخرج أصحاب المشأمة من اليسرى سوداً كالذر وألهمهم ذلك، فلما شهدوا على أنفسهم مؤمنهم وكافرهم أعادهم، أو أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر. {وَأَشهَدَهُمْ} بما شهدوه من دلائل قدرته، أو بما اعترفوا به من ربوبيته، فقال للذرية لما أخرجهم على لسان الأنبياء {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بعد كمال عقولهم. قاله الأكثر، أو جعل للهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به، أو قال للآباء بعد(1/512)
إخراج ذريتهم كما خلقت ذريتكم فكذلك خلقتكم فاعترفوا بعد قيام الحجة، والذرية من ذرأ الله - تعالى - الخلق أحدثهم وأظهرهم، أو لخروجهم من الأصلاب كالذر. {واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) سآء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178) }(1/513)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
175 - {الذي آتيناه آياتنا} بلعم بن باعورا من أهل اليمن، أو من الكنعانيين، أو من بني صاب بن لوط، أو أمية بن أبي الصلت الثقفي، أو(1/513)
من أسلم من اليهود والنصارى ونافق. {آياتنا} الاسم الأعظم الذي تُجاب به الدعوات، أو كتاب من كتب الله - تعالى - قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت عنهم ففعل ولا يصح هذا. {فَانسَلَخَ} سُلب المعرفة بها لأجل عصيانه، أو انسلخ من الطاعة مع بقاء علمه بالآيات، حُكي أن بلعم رُشي على أن يدعو على قوم موسى - عليه الصلاة والسلام - بالهلاك فسها فدعا على قوم نفسه فهُلكُوا. {فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} صيَّره لنفسه تابعاً لما دعاه فأجابه، أو الشيطان متبعه من الإنس على كفره، أو لحقه الشيطان فأغواه، اتبعت القوم: لحقتهم وتبعتهم: سرت خلفهم. {الْغَاوِينَ} الهالكين، أو الضالين.(1/514)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
176 - {لَرَفَعْنَاهُ} لأمتناه ولم يكفر، أو لحلنا بينه وبين الكفر فارتفعت بذاك منزلته. {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} ركن إلى أهلها في خدعهم إياه، أو ركن إلى شهواتها فشغلته عن الطاعة. {كالكلب} اللاهث في ذلته ومهانته، أو لأن لهثه لا ينفعه. {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بهآ اولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179) }(1/514)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
179 - {كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} عام، أو يراد به أولاد الزنا،(1/514)
لمسارعتهم إلى الكفر لخبث نطفهم. {لاَّ يَفْقَهُونَ} الحق بقلوبهم و {لاَّ يُبْصِروُنَ} الرشد بأعينهم، و {لاَّ يَسْمَعُونَ} الوعظ بآذانهم. {كَالأَنْعَامِ} همهم الأكل والشرب، أو لا يعقلون الوعظ. {هُمْ أَضَلُّ} لعصيانهم، أو لتوجه الأمر إليهم دونها. {ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون (180) }(1/515)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
180 - {الأسماء الحسنى} كل أسمائه حسنى والحسنى ها هنا ما مالت إليه القلوب من وصفة بالعفو والرحمة دون الغضب والنقمة، أو أسماؤه التي يستحقها لذاته وأفعاله. {فَادْعُوهُ بِهَا} عظَّموه بها تعبداً له بذكرها، أو اطلبوا بها وسائلكم {يُلْحِدُونَ} بتسمية الأوثان آلهة والله أبا المسيح، أو اشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ويلحدون: يكذبون، أو يشركون، أو يجورون. {وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن كيدي متين (183) }(1/515)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
181 - {أُمَّةٌ يَهْدُونَ} الأنبياء والعلماء، أو هذه الأمة مروي عن(1/515)
الرسول صلى الله عليه وسلم يهدون إلى الإسلام بالدعاء إليه ثم بالجهاد عليه.(1/516)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
182 - / {سَنَسْتَدْرِجُهُم} الاستدراج: أن يأتي الشيء من حيث لا يعلم، أو أن ينطوي منزلة بعد منزلة من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء، أو من الدرجة لانحطاطه عن منزلة بعد منزلة، يستدرجون إلى الكفر، أو إلى الهلكة بالإمداد بالنعم ونسيان الشكر، أو كلما أحدثوا خطيئة جدد لهم نعمة، والاستدراج بالنعم الظاهرة، والمكر بالباطنة. {لا يعلمون} بالاستدارج، أو الهلكة. {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون (185) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186) }(1/516)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
186 - {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يحكم بضلاله في الدين، أو يضله عن طريق الجنة إلى النار. {طُغْيانِهِمْ} الطغيان: إفراط العدوان. {يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون، العمه في القلب كالعمى في العين، أو يتردَّدون. {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلون كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187) قل لآ أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شآء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188) }(1/516)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
187 - {يسألونك عَنِ السَّاَعَةِ} اليهود، أو قريش. {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : متى، {مُرْسَاهَا} : قيامها، أو منتهاها، أو ظهورها. {حَفِىُّ عَنْهَا} عالم بها، أو تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بهم.(1/516)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
188 - {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} لو علمت متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح، أو لو علمت سنة الجدب لادخرت لها من سنة الخصب أو لو علمت الكتب المنزَلة لاستكثرت من الوحي، أو لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء، وهو شاذ، أو لو علمت أسراركم وما في قلوبكم لأكثرت لكم من دفع الأذى واجتلاب النفع. {وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ} ما بي جنون، أو ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير، أو ما دخلت عليَّ شبهة. {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين (189) فلمآ ءاتاهما صالحاً جعلا له شركآء فيمآ ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون (190) }(1/517)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
189 - {نَّفْسٍ وَاحِدةٍ} آدم {زَوْجَهَا} حواء {لِيَسْكُنَ} ليأوي، أو ليألفها ويعطف عليها. {خَفِيفاً} النطفة. {فَمَرَّتْ بِهِ} استمرت إلى حال الثقل، أو شكت هل حملت أم لا؟ قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. {دَّعَوَا} آدم وحواء. {صَالِحاً} غلاماً سويّاً، أو بشراً سويّاً، لأن إبليس أوهمها أنه بهيمة، {جَعَلا لَهُ شُرَكَآءَ} كان اسم إبليس في السماء " الحارث " فلما ولدت حواء، قال: سميه " عبد الحارث " فسمّته " عبد الله " فمات فلما ولدت ثانياً قال لها ذلك فأبت، فلما حملت ثالثاً قال لها ولآدم - عليه الصلاة والسلام _ أتظنان أن الله - تعالى - يترك عبده عندكما لا والله ليذهبن به كما ذهب بالأخوين، فسمياه بذلك فعاش فكان إشراكهما في الاسم دون(1/517)
العبادة، أو جعل ابن آدم وزوجته لله شركاء من الأصنام فيما آتاهما، قاله الحسن. {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصراً ولآ أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم(1/518)
فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195) إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولآ أنفسهم ينصرون (197) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198) }(1/519)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
195 - {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} في مصالحهم {أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} في الدفاع عنكم {أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} منافعكم ومضاركم {آذان يَسْمَعونَ بِهَا} دعاءكم. فكيف تعبدون من أنتم أفضل منه وأقدر؟ . {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) إن الذين اتقوا إذا مسهم طآئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (2025}(1/519)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
199 - {الْعَفْوَ} من أخلاق الناس وأعمالهم، أو من أموال المسلمين، ثم نسخ بالزكاة، أو العفو عن المشركين ثم نسخ / بالجهاد {بِالْعُرْفِ} بالمعروف، أو لما نزلت
قال الرسول صلى الله عليه وسلم " يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالِم، ثم عاد فقال: يا محمد إن الله - تعالى - يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ".(1/519)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
200 - {نَزْغٌ} انزعاج، أو غضب، أو فتنة، أو إغواء، أو عجلة {فَاسْتَعِذْ} فاستجر. {سَمِيعٌ} لجهل الجاهل {عَلِيمٌ} بما يزيل النزغ.(1/520)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
201 - {طيف} و {طَآئِفٌ} واحد وهو لمم كالخيال يلم بالإنسان، أو وسوسة، أو غضب، أو نزغ، أو الطيف: الجنون، والطائف: الغضب، أو الطيف اللمم، والطائف كل شيء طاف بالإنسان. {تَذَكَّرُواْ فإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} علموا فانتهوا، أو اعتبروا فاهتدوا. {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203) }(1/520)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
203 - {اجْتَبَيْتَهَا} أتيت بها من قِبَلِك، أو اخترتها لنفسك، [أو] تقبلتها من ربك، أو طلبتها لنا قبل مسألتك. {وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204) }(1/520)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
204 - {فاستمعوا له} لا تقابلوه بكلام ولا اعتراض، نزلت في المأموم ينصت ولا يقرأ، أو في الإنصات لخطبة الجمعة، أو نسخت(1/520)
جواز الكلام في الصلاة. {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والأصال ولا تكن من الغافلين (205) إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206) }(1/521)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
205 - {وَاذْكُر رَّبَّكَ} خلف الإمام بالقراءة سراً، او عند سماع الخطبة، أو في عموم الأحوال اذكره بقلبك أو بلسانك في دعائك وثنائك {تَضَرُّعاً} الخشوع والتواضع. {وَدُونَ الْجَهْرِ} إسرار القول بالقلب، أو اللسان. {بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ} بالبُكَر والعشيات، أو الغدو: آخر الفجر صلاة الصبح والآصال: آخر العشي صلاة العصر.(1/521)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
206 - {عِبَادَتِهِ} الصلاة والخضوع فيها، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي، قاله الجمهور {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} نزلت لما قالوا أنسجد لما تأمرنا، إذا كانت الملائكة مع شرفها تسجد فأنتم أولى.(1/521)
(سورة الأنفال)
مدنية، أو مدنية إلا سبع آيات {وإذ يمكر بك} إلى آخر السبع [30 - 36] لما سألوا عن الأنفال يوم بدر نزلت.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1) }(1/522)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
1 - {الأَنفَالِ} الغنائم، أو [أنفال] السرايا التي تتقدم أمير الجيش، أو ما شذْ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو دابة، أو خمس الفيء والغنائم الذي لأهل الخمس، أو الزيادة يزيدها الإمام لبعض الجيش لما يراه من الصلاح، والنفل: العطية، والنوفل: الكثير العطايا، أو النفل: الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة، سألوا عن الأنفال لجهلهم بِحِلها لأنها كانت حراماً على الأمم فنزلت، أو نزلت فيمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار [واختلفوا] وكانوا(1/522)
أثلاثاً فملكها الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها كما أراه، أو لما قتل سعد بن أبي وقاص سعيد بن أبي العاص يوم بدر وأخذ سيفه وقال: / للرسول صلى الله عليه وسلم هبه لي فقال: اطرحه في القبض فشقّ عليه فنزلت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهب فخذ سيفك، أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر مَن صنع كذا فله كذا وكذا فسارع الشبان(1/523)
وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما فُتح عليهم طلبوا ما جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم، فنزلت، وهي محكمة، أو منسوخة بقوله - تعالى - {واعلموا أن ما غنمتم} [41] {الأنفال لله} مع الدنيا والآخرة وللرسول صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أُمر. {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} برد أهل القوة على أهل الضعف، أو بالتسليم لله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ليحكما في الغنيمة بما شاءا. {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4) }(1/524)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
2 - {وَجِلَتْ} خافت، أو رقت. {إِيمَاناً} تصديقاً، أو خشية. {كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (8) }(1/524)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
5 - {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} بمكة إلى المدينة مع كراهية فريق(1/524)
من المؤمنين، كذلك ينجز نصرك، أو من بيتك بالمدينة إلى بدر كذلك جعل لك غنيمة بدر، {بِالْحَقِّ} ومعك الحق، أو بالحق الذي وجب عليك. {لَكَارِهُونَ} خروجك، أو صرف الغنيمة عنهم، لأنهم لم يعلموا أن الله - تعالى - جعله لرسوله صلى الله عليه وسلم دونهم.(1/525)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
6 - {يجادلونك} بعض المؤمنين خرجوا لطلب العيرففاتهم فأمروا بالقتال فقالوا: ما تأهَّبنا للقاء العدو، فجادلوا بذلك طلباً للرخصة، أو المجادل المشركون قاله ابن زيد. {فِى الْحَقِّ} القتال يوم بدر.(1/525)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
7 - {إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ} عِير أبي سفيان أو قريش الذين خرجوا لمنعها. {الشَّوْكَةِ} كنى بها عن الحرب، وهي الشدة لما في الحرب من الشدة، أو الشوكة من قولهم: رجل شاكٍ في السلاح. {يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يظهر الحق بإعزاز الدين بما تقدّم من وعده، أو يحق الحق في أمره بالجهاد، نزلت هذه الآية قبل قوله {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بيتك} [5] قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - ((فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء فقال: العباس وهو أسير - ليس لك ذلك، قال / لمَ؟ قال: لأن الله - تعالى - وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك)) . {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله(1/525)
عزيز حكيم (10) }(1/526)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
9 - {تَسْتَغِيثُونَ} تستنصرون، أو تستجيرون، فالمستجير: طالب الخلاص، والمستنصر: طالب الظفر، والمستغيث: المسلوب القدرة، والمستعين: الضعيف القدرة. {فاستجاب لكم} أغاثكم، الاستجابة ماتقدمها امتناع، والإجابة مالم يتقدمها امتناع وكلاهما بعد السؤال. {مُرْدِفِينَ} مع كل ملك ملك فهم ألفان، أو متتابعين، أو ممدين للمسلمين، والإرداف: الإمداد.(1/526)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
10 - / {إلا بشرى} الإمداد هو البشرى، أوبشرتهم الملائكة بالنصر فكانت هي البشرى المذكورة، وقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو نزلوا بالبشرى ولم يقاتلوا، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا من الملائكة. {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيكان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (11) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذالكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14) }(1/526)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
11 - {النعاس} غشيهم النعاس ببدر فهوم الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - فناموا، فبشر جبريل - عليه السلام - الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر، فأخبر به أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - مَنَّ عليهم به لما فيه من زوال رعبهم، والأمن مُنيم والخوف مُسهر، أو منَّ به لما فيه(1/526)
من الاستراحة للقتال من الغد. والنعاس محل الرأس مع حياة القلب، والنوم يحل القلب بعد نزوله من الرأس قاله سهل بن عبد الله التستري. {أمنة) من العدو، أومن الله تعالى، والأمنة: الدعة وسكون النفس. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً} لتلبيد الرمل ويطهرهم من وساوس الشيطان التي أرعبهم بها أو من الأحداث والأنجاس التي أصابتهم قاله الجمهور، أنزل ماء طهر به ظواهرهم، ورحمة نَوَّر بها سرائرهم قاله ابن عطاء، ووصفه بالتطهير، لأنها أخص أوصافه وألزمها. {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [قوله] : إن المشركين قد غلبوهم على الماء، أو قوله: ليس لكم بهؤلاء طاقة. {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} لتلبيده الرمل الذي لا يثبت عليه قدم، أو بالنصر الذي أفرغه عليهم حتى يثبتوا لعدوهم.(1/527)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
12 - {إني معكم} معينكم. {فثبتوا الذين آمنوا} بحضوركم الحرب، أو بقتالكم يوم بدر، أو بقولكم لا بأس عليكم من عدوكم. {سَأُلْقَى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} قال ذلك للملائكة إعانة لهم، أو ليثبتوا به المؤمنين. {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} فوق صلة، أو الرؤوس التي فوق الأعناق أو على الأعناق، أو أعلى الأعناق، أو جلدة الأعناق. {بَنَانٍ} مفاصل أطراف الأيدي والأرجل، والبنان أطراف أصابع اليدين والرجلين. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم(1/527)
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16) }(1/528)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
15 - {زَحْفاً} الدنو قليلاً قليلاً. {فَلا تُوَلُّوهُمُ} ولا تنهزموا، عام في كل مسلم لاقى العدو، أو خاص بأهل بدر، ولزمهم في أول الإسلام أن لا ينهزم المسلم عن عشرة بقوله - تعالى - {إن يكن منكم عشرون} إلى قوله - تعالى - {لا يفقهون} [65] ما فرض الله - تعالى - عليهم من الإسلام، أو لا يعلمون ما فرض عليهم من القتال، فلما كثروا واشتدت شوكتهم نسخ ذلك بقوله - تعال -: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ [وعلم أن فيكم] ضعفا} [66] و {ضَعْفاً} واحد، أو بالفتح في الأموال وبالضم في الأحوال، أو بالضم في النيات وبالفتح في الأبدان، أو بالعكس فيهما. {مَعَ الصَّابِرينَ} على القتال بإعانتهم على أعدائهم / أو الصابرين على الطاعة بإجزال ثوابهم.(1/528)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
16 - {بَآءَ بِغَضَبٍ} بالمكان الذي استحق به الغضب، من المبوأ وهو المكان. {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17) ذالكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18) }(1/528)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
17 - {وما رميت} أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب يوم بدر فرماهم بها، وقال شاهت الوجوه، فألقى الله - تعالى - القبضة في أبصارهم فشغلوا بأنفسهم وأظهر الله - تعالى - المسلمين عليهم فذلك قوله - تعالى -: {وَمَا(1/528)
رَمَيْتَ} ، أو ما ظفرت إذ رميت ولكن الله - تعالى - أظفرك، أو {وَمَا رَمَيْتَ} قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله - تعالى - ملأ قلوبهم رعبا، أو وما رمي أصحابك بالسهام ولكن الله رمى بإعانة الريح لسهامهم حتى تسددت وأصابت أضاف رميهم إليه لأنهم رموا عنه {بَلآءً حَسَناً} الإنعام بالظفر والغنيمة. {إِن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين (19) }(1/529)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
19 - {إِن تَسْتَفْتِحُواْ) أيها المشركون تستقضوا {فَقَدْ جَآءَكُمُ} قضاؤنا بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم. أو الفتح: النصر، فقد جاء نصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم، قالوا يوم بدر: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصر عليه فنصر المسلمون. {وَإِن تَعُودُوا} إلى الاستفتاح {نَعُدْ} إلى نصر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إن تعودوا إلى التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق. أو إن تستفتحوا أيها المسلمون فقد جاءكم النصر لأنهم استنصروا فنصروا. {وَإِن تَنتَهُواْ} عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة، {وَإِن تَعُودُواْ} إلى الطمع {نَعُدْ) إلى المؤاخذة، أو إن تعودوا إلى ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعد إلى الإنكار عليكم. {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم(1/529)
الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) }
22 -،(1/530)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
23 - {شر الدواب} نزلت في بني عبد الدار. {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} الحجج والمواعظ سماع تفهيم، أو لأسمعهم كلام الذي طلبوا إحياءه من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك، أو لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه. {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24) واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25) واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فئاواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون (26) }(1/530)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
24 - {اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ} بطاعته لما كانت في مقابلة الدعاء سماها إجابة {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الإيمان، أو الحق، أو ما في القرآن، أو الحرب وجهاد العدو، أو ما فيه دوام حياة الآخرة، أو كل مأمور {يَحُولُ بَيْنَ} الكافر والإيمان وبين(1/530)
المؤمن والكفر قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل، أو بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه، أو هو قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفي عليه سره أو جهره. فهو {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وهذا تحذير شديد قاله قتادة، أو يفرق بينه وبين قلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت، أو بينه وبين ما يتمنى بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر، أو بينه وبين ما في قلبه من رعب وخوف وقوة وأمن، فيأمن المؤمن بعد خوفه ويخاف الكافر بعد أمنه.(1/531)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
25 - {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} أُمروا أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم / فيعمهم العذاب، قاله " ع "، أو الفتنة: ما يبتلى به الإنسان، أو الأموال والأولاد، أو نزلت في النكاح بلا ولي، قاله بشر بن الحارث {لاَّ تُصِيبَنَّ} الفتنة، أو عقابها، أو دعاء للمؤمن ألا تصيبه فتنة قاله الأخفش.(1/531)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
26 - {قَلِيلٌ} بمكة تستضعفكم قريش، ذّكَّرهم نعمه، أو أخبرهم بصدق وعده. {يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} كفار قريش، أو فارس والروم. {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تسكنونه آمنين {وَأَيَّدَكُم} قوَّاكم بنصره يوم بدر. {الطَّيِّبَاتِ} الحلال من الغنائم، أو ما مكنوا فيه من الخيرات، قيل نزلت في(1/531)
المهاجرين خاصة بعد بدر. {يآ أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27) واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28) يآ أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29) }(1/532)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
27 - {لا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} كما صنع المنافقون، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه -، أو لا تخونوا فيما جعله لعباده في أموالكم. {أَمَانَاتِكُمْ} ما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم، أو ما ائتمنكم الله عليه من الفرائض والأحكام [أن] تؤدوها بحقها، ولا تخونوا بتركها، أو عام في كل أمانه {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنها أمانة بغير شبهة، أو ما في الخيانة من المأثم. قيل نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما أرسل إلى بني قريظة لينزلوا على حكم سعد فاستشاروه، وكان أحرز أمواله وأولاده عندهم، فأشار بأن لا يفعلوا، وأومأ بيده إلى حلقه إنه الذبح فنزلت إلى قوله: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وأولادكم فتنة} [28] .(1/532)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
29 - {فُرْقَاناً} هداية في القلوب تفرِّقون بها بين الحق والباطل، أو مخرجاً من الدنيا والآخرة، أو نجاة، أو فتحاً ونصراً.(1/532)
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30) }(1/533)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
30 - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} لما تآمرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، فقال عمرو بن هشام: قيِّدوه واحبسوه في بيت نتربَّص به رَيْب المنون، وقال أبو البختري أخرجوه عنكم على بعير مطروداً تستريحون من أذاه، فقال أبو جهل، ما هذا برأي، ولكن ليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فأعلم الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج إلى الغار ثم هاجر منه إلى المدينة.(1/533)
{لِيُثْبِتُوكَ} في الوثاق " ع " أو في الحبس، أو يجرحوك، أثبته في الحرب: جرحه. {أَوْ يُخْرِجُوكَ} نفياً إلى طرف من الأطراف، أو على بعير مطروداً حتى تهلك، أو يأخذك بعض العرب فيريحهم منك. {وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذآ إن هذآ إلآ أساطير الأولين (31) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم (32) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) }(1/534)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
31 - {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا} نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، ونزلت فيه {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إن كان هذا} [32] و {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1] و {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قطنا} [ص: 16] قال عطاء: نزل فيه بضع عشرة آية.(1/534)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
32 - {فأمطر علينا} قاله عناداً وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم أو اعتقاداً أنه ليس بحق.(1/535)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
33 - {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} وقد بقي فيهم من المسلمين من يستغفر، أو لا يعذبهم / في الدنيا وهم يقولون غفرانك في طوافهم، أو الاستغفار: الإسلام، أو هو دعاء إلى الاستغفار معناه لو استغفروا لم يُعذَّبوا، أو ما كان الله مهلكهم وقد علم أن لهم ذرية يؤمنون ويستغفرون. {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35) }(1/535)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
35 - {مُكَآءً} إدخال أصابعهم في أفواههم، أو أن يشبك بين أصابعه ويُصفِّر في كفه بفمه، والمكاء الصفير، قال:
( ... ... ... ... ... ... ... . . ... تمكو فريصته كشدق الأعلم)
{وَتَصْدِيَةً} التصفيق، أو الصد عن البيت الحرام، أو تصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله ويُصفِّر له إن غفل عنه، أو من صد يصد إذا ضج، أو الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبدار عن يمينه يصفران صفير المكاء(1/535)
- وهو طائر - ورَجُلان عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم - القراءة والصلاة، فنزلت، وسماها صلاة لأنهم أقاموها مقام الدعاء والتسبيح، أو كانوا يعملون كعمل الصلاة. {فَذُوقُواْ} فالقوا، أو فجربوا عذاب السيف ببدر، أو يقال لهم ذلك في عذاب الآخرة. {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (36) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون (37) }(1/536)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
36 - {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} نفقة قريش في القتال ببدر، أو استأجر أبو سفيان يوم أُحُد ألفين من الأحابيش من كنانة.(1/536)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
37 - {الْخَبِيثَ} الحرام، والطيب: الحلال، أو الخبيث: ما لم تخرج منه حقوق الله - تعالى - والطيب: ما أُخرجت منه حقوقه. {بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} يجمعه في الآخرة وإن تفرقا في الدنيا. {فَيَرْكُمَهُ} يجعل بعضه فوق بعض. {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} يعذبون به {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] أو يجعلها معهم في النار ذلاًّ وهواناً كما كانت في الدنيا نعيماً وعزاً. {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله(1/536)
مولاكم نعم المولى ونعم النصير (40) }(1/537)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
38 - {وإن يعودوا} إلى الحرب {فقد مضت سنة} قتلى بدر وأسراهم، أو إن يعودوا إلى الكفر فقد مضت سنة الله - تعالى - بإهلاك الكفرة، ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - نزلت لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح فقال: ما في ظنكم وما ترون أني صانع بكم، فقالوا: ابن عم كريم فإن تعفُ فذاك الظن بك، وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال: بل أقول كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} الآية " [يوسف: 92] فنزلت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " اللهم كما أذقت أول قريش نكالاً فأذق آخرهم نوالاً ". {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41) }(1/537)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
41 - {غنمتم} ذكر الغنيمة ها هنا والفيء في الحشر وهما واحد، ونسخت آية الحشر بهذه، أو الغنيمة ما أُخذ عَنوة، والفيء ما أُخذ صلحاً،(1/537)
أو الغنيمة ما ظهر عليه المسلمون من الأموال، والفيء ما ظهر عليه من الأرضين. {لِلَّهِ خُمُسَهُ} افتتاح كلام، وله الدنيا والآخرة، المعنى للرسول / خمسه أو الخمس لله ورسوله يصرف سهم الله في بيته، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب فيه بيده فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله. {وَلِلرَّسُولِ} افتتاح كلام - أيضاً - ولا شيء له من ذلك فيقسم الخمس على أربعة " ع "، أو للرسول الخمس عند الجمهور، ويكون سهمه للخليفة بعده، أو يورث عنه، أو يرد على السهام الباقية فيقسم الخمس على أربعة، أو يصرف إلى الكراع والسلاح فعله أبو بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما -، أو إلى المصالح العامة. {وَلِذِى الْقُرْبَى} بنو هاشم، أو قريش، أو بنو هاشم وبنو المطلب، وهو باقٍ لهم أبداً، أو لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة، أو للإمام وضعه حيث شاء، أو يرد سهمهم وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم على باقي السهام فتكون ثلاثة. {اليتامى} من مات أبوه من الأطفال بخلاف البهائم فإنه من ماتت أمه، ويشترط الإسلام والحاجة، ويختص بأيتام أهل الفيء أو يعم {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر المسلم المحتاج من أهل الفيء، أو يعم. {الْفُرْقَانِ} يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل. {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو(1/538)
تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم (42) }(1/539)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
42 - {العدوة الدنيا} شفير الوادي الأدنى إلى المدينة.
{والقصوى} الأقصى منها إلى مكة. {وَالرَّكْبُ} عير أبي سفيان أسفل الوادي على شط البحر بثلاثة أميال {وَلَوْ تَوَاعَدتُمْ} ثم بلغكم كثرتهم لتأخرتم ونقضتم الميعاد، [أ] ولو تواعدتم من غير معونة من الله - تعالى - لاختلفتم في الميعاد بالقواطع والعوائق، أو لو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم بالتقدم والتأخر والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك. {لِّيَهْلِكَ} ليقتل منهم ببدر من قتل عن حجة، وليبقى منهم من بقي عن قدره، أو ليكفر من قريش بعد الحجة من كفر ببيان ما وعدوا، ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم. {إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور (43) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (44) }(1/539)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
43 - {فِى مَنَامِكَ} موضع النوم - وهي العين - فرأى قلتهم عياناً، أو ألقى عليه النوم فرأى قلتهم في نومه، قاله الجمهور: وكان ذلك لطفاً بهم. {لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم وانهزمتم، أو لاختلفتم في لقائهم، أو الكف عنهم. {يآ أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم(1/539)
تفلحون (45) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46) }(1/540)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
46 - {فَتَفْشَلُواْ} هو التقاعد عن القتال جبناً. {رِيحُكُمْ} قوتكم، أو دولتكم، أو الريح المرسلة لنصر أولياء الله وخذلان أعدائه، قاله قتادة. {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (47) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (48) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلآء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49) }(1/540)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
47 - {كَالَّذِينَ خَرَجُواْ} قريش لحماية العير فنجا بها أبو سفيان، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نردَ بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القينات فكان من أمرهم ما كان.(1/540)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
48 - {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} ظهر لهم في صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة. {نَكَصَ} هرب ذليلاً خازياً. {مَا لا تَرَوْنَ} من إمداد الملائكة.(1/540)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
49 - {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} المشركون، أو قوم تكلموا بالإسلام / وهم بمكة، أو قوم مرتابون لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المنافقين، والمرض في القلب: هو الشك. {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملآئكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (50) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51) كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (52) ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (53) كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظالمين (54) }(1/541)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
50 - {يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ} عند قبض أرواحهم. {يَضْرِبُونَ وجوههم} يوم القيامة، أو القتل ببدر. {إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (56) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57) }(1/541)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
57 - {تَثْقَفَنَّهُمْ} تصادفهم، أو تظفر بهم. {فَشَرِّدْ} أنذر، أو نكل، أو بدد. {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخآئنين (58}(1/541)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
58 - {خِيَانَةً} في نقض العهد. {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} ألقِ إليهم عهدهم كي لا ينسبوك إلى الغدر بهم، والنبذ: الإلقاء. {عَلَى سَوَآءٍ} مهل، أو مجاهرة بما تفعل بهم، أو على استواء في العلم به حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه(1/541)
بك، أو عدل من غير تحيف، أو وسط. قيل نزلت في بني قريظة. {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (59) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخير ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) }(1/542)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
60 - {قُوَّةٍ} السلاح، أو التظافر واتفاق الكلمة، أو الثقة بالله - تعالى - والرغبة إليه، أو الرمي مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو ذكور الخيل. {ورباط الْخَيْلِ} إناثها، أو رباطها: الذكور والإناث عند الجمهور {عَدُوَّ اللَّهِ} بالكفر(1/542)
{وَعَدُوَّكُمْ} بالمباينة، أو عدو الله: هو عدوكم، لأن عدو الله - تعالى - عدو لأوليائه. {لا تَعْلَمُونَهُمُ} بنو قريظة، أو المنافقون، أو أهل فارس، أو الشياطين أو من لا تعرفون عداوته على العموم. {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (62) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63) }(1/543)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
61 - {للسلم} الموادعة، أو إن تَوقفوا عن الحرب مسالمة فتوقف عنها مسالمة، أو إن أظهروا الإسلام فاقبله وإن لم تعلم بواطنهم، عامة في كل من سأل الموادعة ثم نسختها آية السيف أو خاصة بالكتابيين يبذلون الجزية، أو في معينين سألوا الموادعة فأمر بإجابتهم. {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوما لا يفقهون (65) الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ(1/543)
{وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66) }(1/544)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
64 - {حَسْبُكَ اللَّهُ} أن تتوكل عليه، والمؤمنون: أن تقاتل بهم، أو حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله، قيل نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.(1/544)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
65 - {عِشْرُونَ} أُمروا يوم بدر أن لا يفر أحدهم عن عشرة فشقَّ عليهم فنسخ بقوله - تعالى - {الآن خفف الله عنكم} [66] ، أو وُعدوا أن يُنْصر كل رجل على عشرة. {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فلكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69) }(1/544)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
67 - {ماكان لِنَبِىٍّ} أن يفادي، نزلت لما استقر رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مشاورة أصحابه على أخذ الفداء بالمال عن كل أسير من أسرى بدر أربعة آلاف درهم، فنزلت إنكاراً لما فعلوه. {يُثْخِنَ} بالغلبة والاستيلاء، أو بكثرة القتل لِيُعَزَّ به المسلمون ويُذَلَّ الكفرة. {عَرَضَ الدُّنْيَا} سماه بذلك لقلة بقائه. {يُرِيدُ الأَخِرَةَ} العمل بما يوجب ثوابها.(1/544)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
68 - {أَخَذْتُمْ) من الفداء {لَّوْلا كِتَابٌ} سبق لأهل بدر أن لا يعذبوا لمسهم في أخذ الفداء عذاب عظيم، أو سبق في إحلال الغنائم لمسهم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم، أو سبق بأن لا يعذب من أتى عملاً على(1/544)
جهالة، أو الكتاب القرآن المقتضي لغفران الصغائر، ولما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - / قال: قومك وعشيرتك فاستبقهم لعل الله - تعالى - أن يهديهم، وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: أعداء الله - تعالى - ورسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -، وأخذ الفداء ليقوى به المسلمون، وقال: أنتم عالة يعني للمهاجرين، فلما نزلت هذه الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لعمر - رضي الله تعالى عنه - لو عذبنا في هذا الأمر - يا عمر - لما نجا غيرك ثم، أحل الغنائم، بقوله - تعالى - {فَكُلُواْ مما غنمتم} [69] . {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71) }(1/545)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
70 - {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذّ مِنكُمْ} لما أُسر العباس يوم بدر أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فداء نفسه وابني أخيه عقيل(1/545)
ونوفل، قال: يا رسول الله كنت مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس، فقال: فأين الأواقي التي دفعتها سراً لأم الفضل عند خروجك فقال: إن الله - تعالى - ليزيدنا ثقة بنبوتك، قال العباس: فصدق الله - تعالى - وعده فيما أتاني، وإن لي لعشرين مملوكاً يضرب كل مملوك منهم بعشرين ألفاً في التجارة، فقد أعطاني الله - تعالى - خيرامما أخذ مني يوم بدر. {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولائك بعضهم أولياء بعض والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير}(1/546)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
72 - {آمنوا} بالله {وَهَاجَرُواْ} من ديارهم في طاعته {وَجَاهَدُواْ بأموالهم} بإنفاقها {وأنفسهم} بالقتال أراد المهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة {والذين آووا} المهاجرين في منازلهم {ونصروا} النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، يريد الأنصار. {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أعوان بعض عند الجمهور [أو] أولى بميراث بعض، جعل الله - تعالى - المريراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام. {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم} من ميراثهم من شيء {حَتَّى يُهَاجِرُواْ} . فعملوا بذلك حتى نسخت بقوله - تعالى - {وَأْوْلُواْ الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [75] يعني في الميراث، فصار الميراث لذوي الأرحام. {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولائك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم (74) }(1/547)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
73 - {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ} أنصار بعض، أو بعضهم وارث بعض ((ع)) {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} إلا تتناصروا - أيها المؤمنون - {تَكُن فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ} بغلبة الكفرة {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بضعف الإيمان، أو إلا تتوارثوا بالإسلام والهجرة {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} باختلاف الكلمة {وَفسَادٌ كَبِيرٌ} بتقوية الخارج عن الجماعة (ع) .(1/547)
سورة التوبة
سورة التوبة مدنية اتفاقاً، أو إلا آيتين في آخرها، {لقد جاءكم} [128، 129] ، نزلتا بمكة، وكانت تسمى على عهد الرسول [صلى الله عليه وسلم] الفاضحة " ع "، وسورة البحوث لبحثها عن أسرار المنافقين وفضحها لهم، وسميت في عهده وبعده المبعثرة لما كشفت من السرائر. وتركت البسملة في أولها، لأنها مع الأنفال كسورة واحدة الأنفال في العهود وبراءة في رفع العهود، وكانتا تدعيان القرينتين، أو البسملة أمان، وبراءة نزلت برفع الأمان. ونزلت سنة تسع / فأنزلها [69 / أ] الرسول [صلى الله عليه وسلم] مع علي - رضي الله تعالى عنه - وكان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - صاحب الموسم فقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " لا يبلغ عني إلا رجل مني "، أو(2/5)
أنفذه بعشر آيات من أولها، أو بتسع تقرأ في الموسم، فقرأها علي - رضي الله تعالى عنه - يوم النحر على جمرة العقبة. {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}(2/6)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
1 - {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} انقطاع للعصمة منهما، أو انقضاء عهدهما.(2/6)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
2 - {فَسِيحُواْ} أمان {فِى الأَرْضِ} تصرفوا كيف شئتم، أو سافروا حيث أردتم، والسياحة: السير على مَهل، أو البعد على وَجل. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أمان لمن له عهد مطلق، أو أقل من الأربعة، ومن لا أمان له فهو حرب، أو من كان له عهد أكثر من الأربعة حُط إليها، ومن كان دونها رفع إليها ومن لا عهد له فله أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المُحرم لقوله تعالى - {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} " ع "، أو الأربعة لجميع الكفار من كان له عهد، أو لم يكن، أو هي أمان لمن لا عهد له ومن له عهد فأمانه إلى مدة عهده. وأول المدة يوم الحج الأكبر يوم النحر إلى انقضاء العاشر من ربيع الآخر، او شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أو أولها يوم العشرين من ذي القعدة وآخرها يوم العشرين من ربيع الأول لأن الحج وقع تلك السنة في ذلك اليوم من ذي القعدة لأجل النسئ وكان الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد أقره حتى نزل تحريم النسئ، فقال " ألا إن الزمان قد استدار ".(2/6)
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برىءٌ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين}(2/7)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
3 - {وأذان} قصص، أونداء بالأمن يسمع بالأذن، أو إعلام عند الكافة. {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} يوم عرفة خطب فيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] وقال: " هذا يوم الحج الأكبر "، أو يوم النحر، وهو مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو أيام الحج كلها كيوم صفين ويوم الجمل عبَّر باليوم عن الأيام {الأَكْبَرِ} القِرآن والأصغر الإفراد، أو الأكبر الحج والأصغر العمرة، أو سمي به لأنه اجتمع فيه حج(2/7)
المسلمين والمشركين ووافق عيد اليهود والنصارى، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه -. {فَإِذَا انسَلَخَ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصدٍ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفورٌ رحيم}(2/8)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
5 - {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} رجب وذو القعده وذو الحجة والمحرم عند الجمهور، أو أشهر السياحة عشرون من ذي الحجة إلى العشر من ربيع الآخر، قاله الحسن - رضي الله عنه {وَجَدتُّمُوهُمْ} في حل أو حرم، أو في أشهر الحرم وغيرها. {وَخُذُوهُمْ} الواو بمعنى " أو " خذوهم أو تقديره: " فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم " مقدم ومؤخر. {وَاحْصُرُوهُمْ} بالاسترقاق، أو بالفداء. {كُلَّ مَرْصَدٍ} اطلبوهم في كل مكان، فالقتل إذا وجدوا والطلب إذا بعدوا، أو افعلوا بهم كل ما أرصده الله لهم من قتل أو استرقاق أو مَنٍّ، أو فداء. {تَابُواْ} أسلموا {وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} / أدّوها، أو اعترفوا بها {وآتوا الزَّكَاةَ} اعترفوا بها لا غير إذ لا يُقتل تاركها لا بل تُؤخذ منه قهراً. {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}(2/8)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
6 - {اسْتَجَارَكَ} استعانك، أو استأمنك. {كَلامَ اللَّهِ} القرآن كله، أو براءة خاصة ليعرف ما فيها من أحكام العهد والسيرة مع الكفار. {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} .(2/8)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
7 - {الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ} خزاعة، أو بنو ضمرة، أو قريش " ع "، أو قوم من بكر بن كنانة. {فَمَا اسْتَقَامُواْ} دُوموا على عهدهم ما داموا عليه. {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بئايت الله ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنّهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمةً وأولئك هم المعتدون} . {يَظْهَرُواْ} يقووا عليكم بالظفر. {لا يَرْقُبُواْ} لا يخافوا، أو لا يراعوا {إِلاَّ} عهداً أو قرابة، قال: فأقسم إنَّ إلَّكَ من قريش. أو جواراً، أو يميناً، أو هو اسم لله عز وجل. {ذِمَّةً} عهداً، أو جواراً، أو التذمم ممن لا عهد له. {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} بنقض العهد، أو فاسق في دينه وإن كان دينهم فسقاً.(2/9)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
9 - {بِآيَاتِ اللَّهِ} دلائله وحججه، أو التوراة التي فيها صفة الرسول [صلى الله عليه وسلم](2/9)
{قَلِيلاً} ، لأنه حرام، أو لأنه من عرض الدنيا وبقاؤها قليل نزلت في الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، أو في قوم من اليهود عاهدوا ثم نقضوا. {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم في الدّين ونفصّل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون} .(2/10)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
12 - {نكثوا أيمانهم} نقضوا العهد الذي عقدوه بأيمانهم. {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} رؤساء المشركين، أو زعماء قريش " ع "، أو الذين هموا بإخراج الرسول [صلى الله عليه وسلم] . {لآ أَيْمَانَ لَهُمْ} بارة و {لا إيمان} من الأمان، أو التصديق. {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أوّل مرّة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً والله خبير بما تعملون} .(2/10)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
16 - {وَلِيجَةً} خيانة، أو بطانة، أو دخولاً في ولاية المشركين، ولج في كذا: دخل فيه. {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك(2/10)
حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من ءآمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وءاتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}(2/11)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
17 - {يعمروا مسجد الله} بالزيارة والدخول إليه، أو بالكفر، لأن المسجد إنما يعمر بالإيمان. {شَاهِدِينَ} لما دلت أموالهم وأفعالهم على كفرهم تنزل ذلك منزلة شهادتهم على أنفسهم، أو شهدوا على رسولهم بالكفر لأنهم كذبوه وكفروه وهو من أنفسهم، أو إذا سُئل اليهودي ما أنت يقول: يهودي، وكذلك النصارى [و] المشركون وكلهم كفرة وإن لم يقروا بالكفر.(2/11)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
18 - {مَسَاجِدَ اللَّهِ} مواضع السجود من المصلي، أو البيوت المتخذة للصلوات. {فَعَسَى أُوْلَئِكَ} كل عسى من الله واجبة " ع "، أو ذكره ليكونوا على خوف ورجاء. {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الأخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيمٌ مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجرٌ عظيم}(2/11)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
19 - {سِقَايَةَ الْحَآجَّ وَعِمَارَةَ الْمسجِدِ} بسدانته والقيام به، لما فضلت قريش ذلك على الإيمان بالله - تعالى - نزلت أو نزلت في العباس صاحب السقاية، وشيبة بن عثمان صاحب السدانة وحاجب الكعبة، لما أُسرا ببدر عيرهما المهاجرون بالكفر والإقامة بمكة فقالا نحن أفضل أجراً منكم بعمارة المسجد وحجب الكعبة وسقي الحاج. {يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون 23 قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال أقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين 7}(2/12)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
24 - {إن كان آباؤكم} نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ميلاً إلى ما ذكر في هذه الآية. {اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها. {وَتِجَارَةٌ} أموال التجارة(2/12)
تكسد سوقها وينقص سعرها، أو البنات الأيامى يكسدن على أبائهن فلا يخطبن. {بِأَمْرِهِ} بعقوبة عاجلة أو آجلة، أو بفتح مكة. {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم}(2/13)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
26 - {سكينة} الوقار، أو الطمأنينة، أو الرحمة. {جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} الملائكة، أو بتكثيرهم في أعين أعدائهم، وهو محتمل {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالخوف، أو بالقتل والسبي. {يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم 28}(2/13)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
28 - {نَجَسٌ} نجاسة الأبدان كالكلب والخنزير، قاله عمر بن عبد العزيز والحسن رضي الله تعالى عنهما - وأوجب الوضوء على من صافحهم، أو لأنهم لا يغتسلون من الجنابة فصاروا كالأنجاس، أو عبّر عن(2/13)
اجتنابنا لهم ومنعهم من المساجد بالنجس كما يفعل ذلك بالأنجاس، أو نجاستهم خبث ظواهرهم بالكفر وبواطنهم بالعداوة. {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الحرم كله. {عَامِهِمْ هَذَا} سنة تسع، أو سنة عشر، ويمنع منه الحربي والذمي عند الجمهور، أو يمنعون إلا الذمي والعبد المملوك لمسلم. {عَيْلَةً} فقراً وفاقة، أو ضيعة من يقوته من عياله. {يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} تعالى بالمطر في النبات، أو بالجزية المأخوذة منهم، أو عام في كل ما يغني. {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}(2/14)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
29 - {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} دخل فيه أهل الكتاب وإن آمنوا باليوم الآخر إذ لا يعتد بإيمانهم فصار كالمعدوم، أو ذمهم ذم من لا يؤمن به، {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بنسخه من شرائعهم، أو ما حرمه وأحله لهم. {دِينَ الْحَقِّ} الإسلام عند الجمهور، أو العمل بما في التوراة من اتباع الرسول [صلى الله عليه وسلم] والحق هنا هو الله {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ} من أبناء الذين أوتوا، أو الذين أوتوه بين أظهرهم. {يُعْطُواْ الْجِزْيَةً} يضمنوها، أو يدفعوها، والجزية مجملة، أو عامة تجري على العموم إلا ما خصه الدليل. {عَن يَدٍ} غنى وقدرة، أو لا يقابلها جزاء، أولنا عليهم يد نأخذها لما فيه من حقن دمائهم، أو يؤدونها بأيديهم دون رسلهم كما يفعل المتكبرون {صَاغِرُونَ} قياماً وآخذها جالس، أو يمشوا بها كارهين " ع " أو أذلاء مقهورين، أو دفعها هو الصغار، أو إجراء أحكام الإسلام عليهم. {وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله(2/14)
والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون}(2/15)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
30 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} لمّا حرق بختنصر التوراة ولم يبق بأيديهم شيء منها ولم يكونوا يحفظونها ساءهم ذلك وسألوا الله ردها فقذفها في قلب عُزير فقرأها عليهم فعرفوا، فلذلك قالوا: إنه ابن الله. وكان ذلك قول جميعهم " ع "، أو قول طائفة من سلفهم، أومن معاصري الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، فنحاص وحده، أو جماعة سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف " ع "، وأضيف إلى جميعهم لمَّا لم ينكروه. {وَقَالَتِ النَّصَارَى} بأجمعهم {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} لأنه ولد من غير أب، أو لأنه أحيا الموتى، وأبرأ من الأسقام. {بِأَفْوَاهِهِمْ} لما لم يكن عليه دليل قيده(2/15)
بأفواههم لا يتجاوزها {يضاهون} يشابهون، والتي لم تحض " ضهياء " لشبهها بالرجل. يضاهون بقولهم عبدة الأوثان في اللات والعزى ومناة وأن [70 / ب] الملائكة / بنات الله، أو ضاهت النصارى بقولهم المسيح ابن الله قول اليهود عُزير ابن الله، أو ضاهوا في تقليد أسلافهم من تقدمهم. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم " ع "، أو قتلهم، أو هو كالمقاتل لهم بما أعده من عذابهم وأبانه من عداوتهم. {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب.(2/16)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
31 - {أحبارهم} جمع حبر، لتحبيره المعاني، وهو التحسين بالبيان عنها، والرهبان: جمع راهب، من رهبة الله وخشيته، وكثر استعماله في نُسَّاك النصارى. {أَرْبَاباً} آلهة يطيعونهم فيما حرموه وأحلوه دون العبادة وهو مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] . {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين(2/16)
كلّه ولو كره المشركون}(2/17)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
32 - {نُورَ اللَّهِ} القرآن والإسلام، أو دلائله التي يُهتدى بها كما يُهتدى بالنور.(2/17)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
33 - {بِالْهُدَى} الهدى: البيان، {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام، أو كلاهما واحد، أو الهدى: الدليل، ودين الحق المدلول، أو بالهدى إلى دين الحق. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} عند نزول عيسى 0 عليه السلام - فلا يعبد الله - تعالى - إلا بالإسلام، أو يطلعه على شرائع الدين كله، أو يظهر دلائله وحججه، أو يرعب المشركين من أهله، أو لما أسلمت قريش انقطعت رحلتاهم إلى الشام واليمن لتباينهم في الدين فذكروا ذلك للرسول [صلى الله عليه وسلم] فنزلت {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ} في الشام واليمن وقد أظهره الله - تعالى - أو الظهور: الاستعلاء، والإسلام أعلى الأديان كلها. {يا أيها الذين ءامنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}(2/17)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
34 - {بِالْبَاطِلِ} جميع الوجوه المحرمة، أو الرِّشا في الحكم. {يَكْنِزُونَ} الكنز الذي توعد عليه كل ما لم تؤدَّ زكاته مدفوناً أو غير مدفون، أو ما زاد على أربعة آلاف درهم أُديت زكاته أو لم تؤدَّ، والأربعة آلاف فما دونها(2/17)
ليست بكنز، قاله علي رضي الله تعالى عنه، أو ما فضل من المال عن الحاجة، ولما نزلت قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " تباً للذهب والفضة، فقال له عمر - رضي الله تعالى عنه -: إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا فأي المال نتخذ، فقال: لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه، مات رجل من أهل الصُّفة فوجد في مئزره دينار، فقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : كَيَّة ومات آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال كيَّتان. والكنز في اللغة كل مجموع بعضه إلى بعض ظاهراً كان أو مدفوناً، ومنه كنز التمر. {وَلا يُنفِقُونَهَا} الكنوز، أو الفضة اكتفى بذكر أحدهما، قال:
(إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يُعَاصَ كان جنونا)(2/18)
ولم يقل: يعاصيا. {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرمٌ ذلك الدّين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافةً واعلموا أن الله مع المتقين 3}(2/19)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
36 - {حُرُمٌ} لعظم انتهاك الحرمات فيها، {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الحساب المستقيم، أو القضاء الحق. {فَلا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بالمعاصي في الإثني عشر، أو في الأربعة، أو فلا تظلموها في الأربعة بعد تحريم الله - تعالى -[71 / أ] لها، أو لا تظلموها / بترك قتل عدوكم فيها. {إنّما النسىء زيادةٌ في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمّونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلوا ما حرّم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين 37}(2/19)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
37 - {النَّسِىءُ} كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً أو كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً، قال مجاهد: حج(2/19)
المشركون في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر، ثم حج الرسول [صلى الله عليه وسلم] من قابل في ذي الحجة، وقال: " إن الزمان قد استدار كهيئته ". وكان ينادي بالنسيء في الموسم بنو كنانة قال شاعرهم:
(ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما)
وأول من نسأ الشهور [سرير] بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة(2/20)
أو القلمس الأكبر، وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث، وآخر من نسأها إلى أن نزل تحريمها سنة عشر أبو ثُمامة جُنادة بن عوف، وكان ينادي إذا نسأها في كل عام إلا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب. {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا عدة الأربعة فيحرموا أربعة كما حرم الله - تعالى - أربعة. {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} من تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم، أو الربا. {ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كلّ شىءٍ قدير}(2/21)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
38 - {انفروا} لما دعوا إلى غزوة تبوك تثاقلوا، فنزلت. {الأَرْضِ}(2/21)
الإقامة بأوطانكم وأرضكم، دعوا إلى ذلك في شدة الحر وإدراك الثمار، أو اطمأنوا إلى الدنيا فسماها [أرضاً] {أَرَضِيتُم} بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة.(2/22)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
39 - {عَذَاباً أَلِيماً} احتباس القطر " ع "، ولا تضروا الله بترك النفير، أو لا تضروا الرسول، لأن الله - تعالى - تكفل بنصره. {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}(2/22)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
40 - {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} إن لا تنصروا الرسول بالنفير معه فقد نصره الله بالملائكة، أو بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه من إعانتكم. {أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من مكة أعلمهم أنه غني عن نصرهم، دخل الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، وأبو بكر - رضي الله تعالى عنه - الغار فأقاما فيه ثلاثاً وجعل الله - تعالى - على بابه ثمامة وهي شجيرة صغيرة، وألهمت العنكبوت فنسجت على بابه، ولما ألم الحزن قلب أبي بكر - رضي الله تعالى - عنه بما تخيله من وهن الدين بعد الرسول [صلى الله عليه وسلم] قال له الرسول [صلى الله عليه وسلم] : لا تحزن إن الله معنا بالنصر عليهم. {سكينته عليه} النبي [صلى الله عليه وسلم] أو أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد علم أنه منصور، والسكينة الرحمة، أو الطمأنينة، أو الوقار، أو شيء سَكَّنَ الله - تعالى -(2/22)
به قلوبهم. {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} الملائكة، أو الثقة بوعده واليقين بنصره وتأييده بإخفاء أثره في الغار لما طلب، أو بمنعهم من التعرض له لما هاجر. {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}(2/23)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
41 - {خِفَافاً وثِقَالاً} شباباً وشيوخاً، أو فقراء وأغنياء، أو مشاغيل وغير [71 / ب] مشاغيل، أو نشاطاً وغير نشاط / " ع " أو ركباناً ومشاة، أو ذا ضيعة وغير ذي ضيعة، أو ذوي عيال وغير ذوي عيال، أو أصحاء ومرضى، أو خفة النفير وثقله، أو خفافاً إلى الطاعة ثقالاً عن المخالفة. {وَجَاهِدُواْ} الجهاد بالنفس فرض كفاية متعين عند هجوم العدو. وبالمال بالزاد والراحلة إذا قدر بنفسه، وإن عجز لزمه بذل المال بدلاً عن نفسه، أو لا يلزمه ذلك عند الجمهور، لأن المال تابع للنفس. {خَيْرٌ لَّكُمْ} الجهاد خير من القعود المباح، أو الخير في الجهاد لا في تركه {تَعْلَمُونَ} صدق وعد الله - تعالى - بثواب الجهاد، أو أن الخير في الجهاد. {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتّبعوك ولكن بعدت عليهم الشقّة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنّهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون}(2/23)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
42 - {لَوْ كَانَ} الذي دُعوا إليه {عَرَضاً} غنيمة، أو أمراً سهلاً. {قَاصِدًا} سهلاً مقتصداً. {لاَّتَّبَعُوكَ} في الخروج. {الشُّقَّةُ} القطعة من الأرض(2/23)
يشق ركوبها لبعده. {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 2 لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأ وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين}(2/24)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
46 - {عده} صحة عزم ونشاط نفس، أوالزاد والراحلة ونفقة الحاضرين من الأهل. {كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} لوقوع الفشل بتخاذلهم كابن أُبي والجد بن قيس. {وَقِيلَ اقْعُدُواْ} قاله بعضهم لبعض، أو قاله الرسول [صلى الله عليه وسلم] غضباً عليهم لعلمه بذلك منهم. {الْقَاعِدِينَ} بغير عذر، أو بعذر كالنساء والصبيان.(2/24)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
47 - {خيالا} فساداً " ع "، أو اضطراباً استثناء منقطع، لأن المسلمين لم يكونوا في خبال فيزدادوا منه. {وَلأَوْضَعُواْ} الإيضاع: سرعة السير، والخِلال: الفُرج، المعنى لأسرعوا في اختلالكم، أو لأوقعوا الخلف بينكم. {الْفِتْنَةَ} الكفر، أو اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة. {سَمَّاعُونَ} مطيعون، أو عيون منكم ينقلون أخباركم إليهم، أو " عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين ". {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهو كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّى ألا في الفتنة(2/24)
سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين}(2/25)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
48 - {ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ} الاختلاف وتفريق الكلمة. {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} بمعاونتهم ظاهراً وممالأة المشركين باطناً، أو قالوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم، أو توقعوا الدوائر وانتظروا الفرص، أو حلفهم لو استطعنا لخرجنا. {جَآءَ الْحَقُّ) {النصر} (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) {دينه} (وَهُمْ كَارِهُونَ} لهما.(2/25)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
49 - {وَلا تَفتِنِّى} لا تكسبني الإثم بمخالفتي في القعود، أو لا تصرفني عن شغلي، أو نزلت في الجد بن قيس قال: {ائذي لِّى وَلا تَفْتِنِّى} ببنات الأصفر فإني مستهتر بالنساء. {فِي الْفِتْنَةِ} جهنم، أو محبة النفاق والشقاق. {إن تصبك حسنةٌ تسؤهم وإن تصبك مصيبةٌ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وّهم فرحون قل لّن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}(2/25)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
50 - {حَسَنَةٌ} نصر، أو النصر ببدر، والمصيبة: النكبة يوم أُحد {أَمْرَنَا} حِذرنا وسَلمنا {فَرِحُونَ} بمصيبتك وسلامتهم.(2/26)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
51 - {كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} في اللوح المحفوظ من خير، أو شر وليس ذلك بأفعالنا فنذم أونحمد، أو ما كتب لنا في نصرنا في العاقبة وإعزاز الدين بنا. {مَوْلانَا} مالكنا وحافظنا وناصرنا. {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في معونته وتدبيره. {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [72 / أ](2/26)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
52 - {الْحُسْنَيَيْنِ} النصر والشهادة / في النصر ظهور الدين وفي الشهادة الجنة. {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}(2/26)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
55 - {أَمْوَالُهُمْ وَلآ أَوْلادُهُمْ} في الحياة الدنيا {إِنَّمَا يريدالله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} في الآخرة، فيه تقديم وتأخير " ع "، أو يعذبهم بالزكاة فيها، أو بمصائبهم فيهما، أو بسبي الأبناء وغنيمة الأموال، يعني المشركين، أو يعذبهم بجمعها وحفظها والبخل بها والحزن عليها. {وَتَزْهَقَ} تهلك، {وَزَهَقَ الباطل} [الأسراء: 81] . {ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منّكم ولكنهم قومٌ يفرقون لو(2/26)
يجدون ملجئاً أو مغارات أو مدّخلاً لّولّوا إليه وهم يجمحون}(2/27)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
57 - {ملجأ} حرزاً " ع "، أو حصناً، أو موضعاً حزناً من الجبل، أو مهرباً. {مَغَارَاتٍ} غارات في الجبال " ع "، أو مدخل يستر من دخله. {مُدَّخَلاً} سرباً في الأرض، أو المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة. {لولَّوا إِلَيْهِ} هرباً من القتال، وخذلاناً للمؤمنين. {يَجْمَحُونَ} يهربون، أو يسرعون. {ومنهم مّن يلمزوك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنّهم رضوا ما ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنّا إلى الله راغبون}(2/27)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
58 - {يَلْمِزُكَ} يغتابك، أو يعيبك، نزلت في ثعلبة بن حاطب كان يتكلم بالنفاق ويقول: إنما يعطي محمد من شاء فإن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، أو في ذي الخويصرة لما أتى الرسول [صلى الله عليه وسلم] وهو يقسم قسماً فقال:(2/27)
اعدل - يا محمد - فقال: ويلك فمن يعدل إن لم أعدل، فاستأذن عمر - رضي الله تعالى عنه - في ضرب عنقه، فقال دعه فنزلت. {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}(2/28)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
60 - {لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ} الفقير المحتاج العفيف عن السؤال، والمسكين المحتاج السائل " ع "، أو الفقير المحتاج الزَّمِن، والمسكين المحتاج الصحيح، أو الفقراء هم المهاجرون، والمساكين غير المهاجرين، أو الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب، أو الفقير الذي لا شيء له لانكسار فقاره بالحاجة والمسكين له ما لا يكفيه لكن يسكن إليه، أو الفقير له ما لا يكفيه والمسكين لا شيء له يسكن إليه. {العاملين} السعاة لهم ثُمْنها، أو أجر مثلهم. {وَالْمُؤَلَّفَةِ} كفار ومسلمون، فالمسلمون منهم ضعيف النية في الإسلام فيتألف تقوية لنيته كعيينة بن بدر(2/28)
والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس، ومنهم من حسن إسلامه لكنه يعطى تألفاً لعشيرته من المشركين كعدي بن حاتم، والمشركون منهم من يقصد أذى المسلمين فيتألف بالعطاء دفعاً لأذاه كعامر بن الطفيل، ومنهم من يميل إلى الإسلام فيتألف بالعطاء ليؤمن كصفوان بن أمية، فهذه أربعة أصناف، وكان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يعطي هؤلاء وبعد هل يعطون؟ فيه قولان: لأن الله - تعالى - قد أعز الدين {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . {الرِّقَابِ} المكاتبون، أو عبيد يشترون ويعتقون. {الغارمين} من لزمه غرم ديْن. {سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة الفقراء والأغنياء. {ابن السَّبِيلِ} المسافر لا يجد نفقة سفره(2/29)
وإن كان غنياً في بلده، قاله الجمهور، أو الضيف. {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم}(2/30)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
61 - {أُذُنٌ} يصغي إلى كل أحد فيسمع قوله، كان المنافقون يقولون فيه ما لا يجوز ثم عابوه بأنه أُذن يسمع جميع ما يقال له، أو عابوه، فقال أحدهم: [72 / ب] كفوا / فإني أخاف أن يبلغه فيعاقبنا، فقالوا: هو أُذن إذا جئناه وحلفنا له صدقنا فنسبوه إلى قبول العذر في الحق والباطل. {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم}(2/30)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
63 - {يُحَادِدِ} يخالف، أو يجاوز حدودهما، أو يعاديهما مأخوذ من حد السلاح لاستعماله في المعاداة. {جَهَنَّمَ} لبعد قعرها، بئر جهنام بعيدة القعر. {يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورةٌ تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إنّ الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله وءأياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}(2/30)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
64 - {يحذر المنافقون} خبر، أوامر بصيغة الخبر. {بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ}(2/30)
من النفاق، أو قولهم في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات، فأطلع الله - تعالى - رسوله [صلى الله عليه وسلم] على ما قالوه. {استهزءوا} تهديد. {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم}(2/31)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
67 - {بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} في الدين {بِالْمُنكَرِ} كل ما أنكره العقل من الشر. والمعروف: كل ما عرفه العقل من الخير، أو المعروف في(2/31)
كتاب الله كله الإيمان، والمنكر في كتاب الله كله الشرك قاله أبو العالية. {ويقبضون أيديهم} عن النفقة في سبيل الله، أو عن كل خير، أو عن الجهاد مع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أو عن رفعها إلى الله - تعالى - في الدعاء {فَنَسِيَهُمْ} تركوا أمره فترك رحمتهم، قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: كان المنافقون ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة. {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(2/32)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
69 - {بِخَلاقِهِمْ} بنصيبهم من خيرات الدنيا. {وَخُضْتُمْ} في شهوات الدنيا، أو في قول الكفر. {كَالَّذِى خاضوا} فارس والروم، أو بنو إسرائيل. {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها(2/32)
الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنات عدنٍ ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}(2/33)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
72 - {وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً} قصور مبنية باللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، أو يطيب العيش بسكناها وهو محتمل. {عَدْنٍ} خلود وإقامة، والمعدن لإقامة الجوهر فيه، أو كروم وأعناب بالسريانية، أو عدن اسم لبطنان الجنة ووسطها، أو اسم قصر في الجنة، أو جنة في السماء العليا لا يدخلها إلا نبي، أو صدِّيق أو شهيد، أو إمام عدل، أو محكَّم في نفسه، وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين. {يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولّىٍ ولا نصير}(2/33)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
73 - {جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنَافِقِينَ} بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجوههم، أو يجاهدهم(2/33)
باللسان، أو بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود.(2/34)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
74 - {يَحْلِفُونَ} نزلت في ابن أُبَي لما قال: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة} [المنافقون: 8] ، أو قال الجلاس بن سويد إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير ثم حلف بالله ما قال، أو قال ذلك جماعة من اليهود. {كَلِمَةَ الْكُفْرِ} هو ما حلفوا أنهم ما قالوه فأكذبهم الله، أو قولهم محمد ليس بنبي. {وَهَمُّواْ} بقتل الرسول في غزاة تبوك، أو بأخراج الرسول بقولهم {لئن رجعنا إلى المدينة} الآية [المنافقون: 8] أو هَمُّوا بقتل الذي أنكر عليهم.(2/34)
{ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصّدقن ولنكونن من الصالحين فلمّا ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون 3 ألم يعلموا أنّ الله يعلم سرّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب}(2/35)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
75 - {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ} نزلت والتي بعدها في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فنذر أن يتصدق منه فلما قدم عليه بخل، قاله الكلبي، أو قتل مولى لعمر حميما لثعلبة فوعد إن أوصل الله إليه الدية أن يخرج حق الله - تعالى - منها فلما وصلت بخل بحق الله - تعالى - فنزلت، / فلما بلغته أتى الرسول [صلى الله عليه وسلم] بصدقته فلم يقبلها منه، وقال إن الله - تعالى - منعني أن أقبل(2/35)
صدقتك فجعل يحثو التراب على رأسه، فمات الرسول [صلى الله عليه وسلم] فأتى أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - ثم عمر - رضي الله تعالى عنه - بعده، ثم عثمان رضي الله تعالى عنه - لم يقبلوها.(2/36)
{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}(2/37)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
79 - {الذين يلمزون} لما حث الرسول [صلى الله عليه وسلم] على النفقة في غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال هذه شطر مالي، وجاء عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال أجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر، فقال الحاضرون من المنافقين أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياء، وأما صاع(2/37)
أبي عقيل فإن الله - تعالى - غني عنه. فنزلت. الجُهد والجَهد واحد، أو بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين}(2/38)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
80 - {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} آيسه من الغفران لهم. {سَبْعِينَ مَرَّةً} ليس بحد لوجود المغفرة بما بعدها، والعرب تبالغ بالسبع والسبعين، لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة فإذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة وإن زيد اثنان كان لأقصى المبالغة، وقيل للأسد سبع لأن قوته تضاعفت سبع مرات، قاله علي بن عيسى. وقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين فنزلت {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لهم} الآية [المنافقون: 6] فكف.(2/38)
فارغة(2/39)
{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون}(2/40)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
81 - {الْمُخَلَّفُونَ} المتركون كانوا أربعة وثمانين نفساً. {خِلافَ} بعد، أو مخالفة عند الأكثر. {لا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} قاله بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين ليقعدوا معهم.(2/40)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
82 - {فَلْيَضْحَكُواْ} تهديد {قَلِيلاً} ، لأن ضحك الدنيا فَانٍ، أو لأنه قليل بالنسبة إلى ما فيها من الأحزان والغموم. {كَثِيراً} في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو في النار أبداً يبكون من ألم العذاب. {فإن رّجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرةٍ فاقعدوا مع الخالفين}(2/40)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
83 - {أَوَّلَ مَرَّةٍ} دعيتم، أو قبل استئذانكم. {الْخَالِفِينَ} النساء(2/40)
والصبيان، أول الرجال المعذورين بأمراض أو غيرها " ع ". {وَلا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}(2/41)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
84 - {وَلا تُصَلِّ} نزلت في ابن أُبي لما صلى عليه الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، أو أراد الصلاة عليه فأخذ جبريل - عليه السلام - بثوبه، وقال: ولا تُصلِّ على أحد ولا تقم على قبره قيام زائر، أو مستغفر. {وإذا أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين 6 رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهو لا يفقهون}(2/41)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
86 - {إن آمنوا} دوموا على الإيمان، أو افعلوا فعل المؤمن، أو أمر المنافقين أن يؤمنوا باطناً كما آمنوا ظاهراً. {الطَّوْلِ} الغنى، أو القدرة، قيل نزلت في ابن أُبي والجد بن قيس.(2/42)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
87 - {الْخَوَالِفِ} النساء، أو المنافقين، أو الأدنياء الأخسَّاء، فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. {لكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم}(2/42)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
88 - {الْخَيْرَاتُ} جمع خيرة، غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، أو ثواب الآخرة، أو فواضل العطايا، أو الحور {فيهن خيرات حسان} [الرحمن: 70] . {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم}(2/42)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
90 - {الْمُعَذِّرُونَ} مخفف الذين اعتذروا بحق، وبالتشديد الذين كذبوا [73 / ب] في اعتذارهم فالعذر حق، والتعذير كذب، قيل هم بنو أسد وغطفان. {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ماينفقون حرجٌ إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفور رحيم ولا على(2/42)
الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون 93 يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}(2/43)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
91 - {الضُّعَفَآءِ} الصغار لضعف أبدانهم، أو المجانين لضعف عقولهم أو العميان لضعف تصرفهم {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} [هود: 91] ضريراً. {نَصَحُواْ} برئوا من النفاق، أو إذا قاموا بحفظ المخلفين والمنازل، فيرجع إلى من لا يجد النفقة خاصة، قيل نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله بن مغفل.(2/43)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
92 - {لا أجد ماأحملكم عَلَيْهِ} زاداً لأنهم طلبوه، أو نعالاً لأنهم طلبوها، وقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] في هذه الغزوة: أكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما كان منتعلاً، نزلت في العِرْباض بن سارية، أو عبد الله بن الأزرق، أو في بني مقرن من مزينة، أو في سبعة من قبائل شتى، أو في أبي موسى وأصحابه.(2/44)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
93 - {السِّبِيلُ} الإنكار، أو المأثم. {الْخَوَالِفِ} المتخلفون بالنفاق، أو الذراري من النساء والأطفال.(2/44)
{الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم}(2/45)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
97 - {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} كفرهم أكثر وأشد لجفاء طباعهم وغلظ قلوبهم، أو الكفر فيهم أكثر لعدم وقوفهم على الكتاب والسنة. {وَأَجْدَرُ} أقرب مأخوذ من الجدار بين المتجاورين. {حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من فروض العبادات، أو من الوعيد على مخالفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] والتخلف عن الجهاد.(2/45)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
98 - {مَا يُنفِقُ} في الجهاد، أو الصدقات. {مَغْرَمًا} المغرم: التزام ما لا يلزم {عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] لازماً. {الدَّوَآئِرَ} انقلاب النعمة إلى غيرها من الدور.(2/45)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
99 - {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} استغفاره لهم " ع "، أو دعاؤه. {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}(2/45)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
100 - {وَالسَّابِقُونَ} أهل بيعة الرضوان، أو أهل بدر، أو الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين سبقوا بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار سبقوا إلى الثواب وحسن الجزاء {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بالإيمان {وَرَضُواْ عَنْهُ} بالثواب، أو رضي عنهم بالعبادة ورضوا عنه بالجزاء، أو رضي عنهم بطاعة الرسول [صلى الله عليه وسلم] ورضوا عنه بالقبول.(2/45)
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم}(2/46)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
101 - {حَوْلَكُمُ} حول المدينة، مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع كان فيهم بعد إسلامهم منافقون كما في الأنصار، وإنما نافقوا لدخول جميعهم تحت القدرة فميزوا بالنفاق وإن عمتهم الطاعة. {مَرَدُواْ} أقاموا وأصروا، أو مرنوا عليه وعتوا فيه {شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: 117] عاتياً، أو تجردوا فيه وتظاهروا به {لا تَعْلَمُهُمْ} حتى نعلمك بهم، أو لا تعلم عاقبتهم فلا تحكم على أحد بجنة ولا نار. {مَّرَّتَيْنِ} إحداهما بالفضيحة في الدنيا والجزع من المسلمين، والثانية بعذاب القبر " ع "، أو إحداهما بالأسر والأخرى بالقتل، أو إحداهما بالزكاة والآخرى أمرهم بالجهاد، لأنهم يرونه عذاباً لنفاقهم، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - أو إحداهما عذاب الدنيا والأخرى عذاب الآخرة. {عَذَابٍ عَظِيمٍ} بأخذ الزكاة، أو بإقامة الحدود في الدنيا، أو بالنار في الآخرة. {وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وءاخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم 10}(2/46)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
102 - {وآخرون اعْتَرَفُواْ} نزلت في أبي لبابة في قضيته مع بنى قريظة. / [74 / أ] أو في سبعة أنصار من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك أبو لبابة بن(2/46)
عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حرام فلما ندموا على تخلفهم وربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد ليطلقهم الرسول [صلى الله عليه وسلم] إن عفا عنهم، فلما مر بهم وكانوا على طريقه فسأل عنهم فأُخبر بحالهم فقال: لا أعذرهم ولا أطلقهم حتى يكون الله - تعالى - هو الذي يعذرهم ويطلقهم فنزلت " ع ". {عملا صالحا وآخر سيئا} الصالح: الجهاد، والسيء التخلف عنه، أو السيء الذنب والصالح التوبة، أو ذنباً وسوطاً لا ذاهباً فروطاً ولا ساقطاً سقوط. قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه -. {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إنّ صلواتك سكنٌ لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم} \ 103 - {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ} لما تاب الله - تعالى - على أبي لبابة وأصحابه قالوا: يا رسول الله خذ منا صدقة تطهرنا وتزكينا، فقال: لا أفعل حتى أُؤمر(2/47)
فنزلت، صدقة بذلوها تطوعاً، أو الزكاة الواجبة {تُطَهِّرُهُمْ} من ذنوبهم، وتزكي أعمالهم {وَصَلِّ} استغفر، أو ادعُ قاله " ع ". {سَكَنٌ} قربة " ع "، أو وقار، أو أمن، أو تثبيت، والدعاء واجب على الآخذ أو مستحب، أو يجب في التطوع ومستحب في الفرض، أو يستحب للوالي ويجب على الفقير، أو بالعكس، أو إن سأل الدافع الدعاء وجب وإن لم يسأل استحب، قال عبد الله بن أبي أوفى لما أتيت الرسول [صلى الله عليه وسلم] بصدقات قومي قلت يا رسول الله صَلِّ عليَّ، فقال: اللهم صلِ على آل أبي أوفى.(2/48)
{وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى علام الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون 105 وءاخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم}(2/49)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
106 - {وآخرون} هم الثلاثه الباقون من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك لم يربطوا أنفسهم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. {مُرْجَوْنَ} لما يرد من أمر الله فيهم. {ليعذبهم} يميتهم على حالهم، أو يأمر بعذابهم إن لم يعلم صحة توبتهم {عَلِيمٌ} بما يؤول إليه حالهم، {حَكِيمٌ} في إرجائهم.(2/49)
{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}(2/50)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
107 - {وَالِّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً} هم بنو عمرو بن عوف اثنا عشر رجلاً من الأنصار بنوا مسجد الضرار. {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} لئلا يجتمعوا في مسجد قباء. {وَإِرْصَادًا} انتظاراً لسوء يتوقع، أو لحفظ مكروه يفعل. {لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بمخالفتهما، أو عداوتهما، وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة بن الراهب، وكان قد حزب على الرسول [صلى الله عليه وسلم] فبنوه له ليصلي فيه إذا رجع من عند هرقل اعتقاداً منهم أنه إذا صلى فيه نصروا، ابتدءوا بنيانه والرسول [صلى الله عليه وسلم] خارج إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه فقال: أنا على سفر ولو قدمنا - إن شاء الله تعالى - أتيناكم وصلينا لكم فيه، فلما رجع أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وقالوا: قد فرغنا منه، فأتاه خبره وأنزل الله - تعالى - فيه ما أنزل. {لا تَقُمْ فِيهِ} لا تُصَلِّ فيه فعند ذلك أمر / [74 / ب] الرسول [صلى الله عليه وسلم] بهدمه فحُرق، أو انهار في يوم الأثنين ولم يحرق.(2/50)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
108 - {أسس على التقوى} مسجد الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالمدينة مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام " ع "، أو كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى. {يَتَطَهَّرُواْ} بالتوبة من الذنوب. {واللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} بالتوبة، أو أراد الاستنجاء بالماء، أو المتطهرين من أدبار النساء. {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين 109 لا يزال(2/51)
بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}(2/52)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
109 - {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} مسجد قباء، أو قوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} مسجد المدينة، وقوله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} مسجد قباء. {جُرُفٍ} حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته. {هَارٍ} هائر، وهو الساقط. {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} سقطوا ببنيانهم في جهنم، أو سقط المسجد بنفسه مع بقعته في جهنم، قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حتى انهار، وقيل حفرت فيه بقعة فرئي فيها الدخان.(2/52)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
110 - {رِيبَةً} حين بنوه شك، او غطاء، أو بعد هدمه حزازة، أو ندامة. {تَقَطَّعَ} يموتوا " ع "، أو يتوبوا، أو تقطع في القبور. {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعتكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}(2/52)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
111 - {اشْتَرَى} لما جُوزوا بالجنة على ذلك عُبِّر عنه بلفظ الشراء تَجوزاً.(2/52)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
112 - {التَّآئِبُونَ} من الذنوب. {الْعَابِدونَ} بالطاعة، أو بالتوحيد، أو بطول الصلاة. {الْحَامِدُونَ} على السراء والضراء، أو على الإسلام. {السَّائِحُونَ} المجاهدون واستؤذن الرسول [صلى الله عليه وسلم] في السياحة فقال: " سياحة أُمتي(2/52)
الجهاد، أو الصائمون، قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " سياحة أُمتي الصوم " " ع "، أو المهاجرون، أو طلبة العلم. {بِالْمَعْرُوفِ} التوحيد، أو الإسلام. {الْمُنكَرِ} الشرك، أو الذين لم يَنْهوا عنه حتى انتهوا عنه. {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} القائمون بأمره، أو بفرائض حلاله وحرامه، أو لشرطه في الجهاد. {الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين بما وعدوا في هذه الآيات، أو بما ندبوا إليه فيها. لما نزل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} جاء رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله، وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر فنزلت {التَّآئِبُونَ} {ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأوّاه(2/53)
حليمٌ} \ 113 - {ما كان للنبي} لما زار الرسول [صلى الله عليه وسلم] قبر أمه، وقال: استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الدعاء لها فلم يأذن لي فنزلت، أو نزلت في أبي طالب لما قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك أو،(2/54)
سمع علي - رضي الله تعالى عنه - رجلاً يستغفر لأبويه فقال: أتستغفر لهما وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبويه فذكره على - رضي الله تعالى عنه - للرسول [صلى الله عليه وسلم] فنزلت.(2/55)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
114 - {موعدة} وعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أبوه أنه إن استغفر له آمن، أو وعدإبراهيم عليه الصلاة / والسلام - أياه أن يستغفر له لرجائه إيمانه فلما مات على شركه تبرأ من أفعاله ومن الاستغفار له. {أواه} دَعَّاء، أو رحيم، أو موقن، أو مؤمن بلغة الحبشة " ع "، أو مُسبِّح، أو مكثر من تلاوة القرآن، أو متأوه، أو فقيه أو متضرع خاشع مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، أو إذا ذكره ذنوبه استغفر منها. وأصل التأوه التوجع {حَلِيمٌ} صبور على الأذى، أو صفوح عن الذنب. {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله(2/55)
بكل شيءٍ عليم إن الله له ملك السموات والأرض يحي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير 116}(2/56)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
115 - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ} أسلم قوم من الأعراب ورجعوا إلى بلادهم يعملون بما شاهدوه من الرسول [صلى الله عليه وسلم] من صوم أيام البيض والصلاة إلى بيت المقدس ثم قدموا إليه فوجدوه يصوم رمضان ويصلي إلى الكعبة، فقالوا: يا رسول الله دِنَّا بعدك بالضلالة إنك على أمر وإنا على غيره فنزلت. {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبّعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنه بهم رءوفٌ رحيمٌ 117 وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(2/56)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
117 - {تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجرِينَ} توبة لعونه بإنقاذهم من شدة العسرة، أو تخليصهم من نكاية العدو وغيره، أي رجعهم إلى ما كانوا فيه من الحالة الأولى. {الْعُسْرَةِ} في غزوة تبوك كانوا في قلة من الظَّهر فيتناوب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وتعسر الزاد فيشق الرجلان التمرة بينهما، أو يمص النفر التمرة الواحدة ثم يشربون عليها الماء وذلك في شدة الحر، واشتد عطشهم حتى نحروا الإبل وعصروا أكراشها فشربوا ماءها. {يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ} يتلف بالجهد والشدة، أو يعدل عن المتابعة [والنصرة] {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}(2/56)
التوبة الأولى في الذهاب والثانية في الرجوع، أو الأولى في السفر، والثانية بعد الرجوع إلى المدينة.(2/57)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
118 - {وَعَلَى الثَّلاثَةِ} وتاب على الثلاثة. {خُلِّفُواْ} عن التوبة فأخرت توبتهم حتى تاب الله - على الذين ربطوا أنفسهم مع أبي لبابة، أو خلفوا عن بعث الرسول [صلى الله عليه وسلم] . {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ} لامتناع المسلمين من كلامهم. {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بما لقوه من جفوة الناس {وَظَنُّواْ} أيقنوا أنهم لا يلجؤون في قبول توبتهم والصفح عنهم إلا إلى ربهم، ثم تاب عليهم بعد خمسين ليلة من مقدم الرسول [صلى الله عليه وسلم] {لِيَتُوبُواْ} ليستقيموا، لأن توبتهم قد تقدمت " ع " وامتحنوا بذلك إصلاحاً لهم ولغيرهم.(2/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
119 - {يا أيها الذين آمنوا} بموسى، أو عيسى - عليهما الصلاة والسلام - {اتَّقُواْ الله} - تعالى - في الإيمان بمحمد [صلى الله عليه وسلم] . {وكونوا مع الصادقين} الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه - تعالى - رضي الله عنهم - أجمعين في الجهاد، أو يا أيها المسلمين اتقوا الله - تعالى - في الكذب، أو اتقوا الله في طاعة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا أمركم بالجهاد {الصَّادِقِينَ} أبو بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - أو الثلاثة الذين خُلِّفوا وصدقوا / الرسول في تخلفهم، أو المهاجرين، لأنهم لم يتخلفوا عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] في الجهاد، أو من صدقت نيته وقوله وعمله وسره وعلانيته. {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن الرسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ فىِ سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوّ نّيلاً إلا كُتب لهم به عملٌ صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون(2/57)
نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون وما كان المؤمنون لينفروا كآفةً فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون 3}(2/58)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
122 - {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} ما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن الجهاد صار فرض كفاية. نسخت قوله - تعالى: {انفروا خفافاً وثقالا} [41] " ع "، أو ما كان لهم إذا بعث الرسول [صلى الله عليه وسلم] سرية أن يخرجوا جميعاً ويتركوا الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالمدينة وحده بل يقيم بعضهم. لما عُيِّروا بالتخلف عن غزوة تبوك خرجوا في سرايا الرسول [صلى الله عليه وسلم] وتركوه وحده بالمدينة فنزلت. {فَلَوْلا نَفَرَ} مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] طائفة لتتفقه في الجهاد معه، أو هاجرت إليه في إقامته لتتفقه، أو لتتفقه الطائفة المقيمه مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] معناه فهلا إذا نفروا أن تقيم مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] طائفة لأجل التفقه في الدين في أحكامه، ومعالمه ويتحملوا ذلك لينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم، أو ليتفقهوا فيما يشاهدونه من المعجزات والنصر المصدق للوعد السابق ليقوي إيمانهم ويخبروا به قومهم. {يا أيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلطة واعلموا أن الله مع المّتقين}(2/58)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
123 - {الَّذِينَ يَلُونَكُم} العرب، أو الروم، أو الديلم، أو عام في قتال الأقرب فالأقرب.(2/58)
{وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم مّن يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فإمّا الذين ءامنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون 2 وأما الذين في قلوبهم مّرضٌ فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}(2/59)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
124 - {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ} قاله المنافقون بعضهم لبعض على وجه الإنكار، أو قالوه لضعفاء المسلمين استهزاء. {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} بها لأنهم لم يؤمنوا بها قبل نزولها أو زادتهم خشية.(2/59)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
125 - {رجسا} إثماً، أو شكاً، أو كفراً. {أولا يرون أنهم يفتنون في كلّ عام مّرّة أو مرّتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكّرون وإذا ما أنزلت سورةٌ نّظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحدٍ ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قومٌ لا يفقهون}(2/59)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
126 - {يُفْتَنُونَ} يُبتلون، أو يضلون، أو يُختبرون بالجوع والقحط، أو بالجهاد والغزو في سبيل الله، أو ما يلقونه من الكذب على الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو ما هتكه الله - تعالى - من أسرارهم. {لقد جاءكم رسولٌ مّن أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوفُ رّحيمٌ فإن تولّوا فقل حسبى الله لآ إله إلا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم}(2/59)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
128 - {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} لم يبقَ من العرب بطن إلا ولده، أو من المؤمنين لم يصبه شرك، أو من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، أو ممن تعرفونه بينكم. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} شديد عليه ما شق عليكم " ع " أو شديد عليه ما ضللتم، أو عزيز عليه عنت مؤمنكم. {حَرِيصٌ عليكم} أن تؤمنوا. {رؤوف(2/59)
رَّحِيمٌ} بما يأمرهم به من الهدى ويؤثره من صلاحهم، نزلت هذه الآية والتي بعدها بمكه، أو هما آخر ما نزلت " ع ".(2/60)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
129 - {فإن تولوا} عنك، أو عن طاعة الله - تعالى -.(2/60)
سورة يونس
مكية كلها، أو إلا ثلاث آيات {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} إلى آخرهن (94 - 96) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألر تلك ءايآت الكتاب الحكيم أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منّهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدقٍ عند ربهم قال الكافرون إنّ هذا لساحرٌ مبين}(2/61)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
1 - {الر} أنا الله أرى " ع " أو حروف من الرحمن، وقيل " الر " و " حم " و " ن " اسم الرحمن مقطع، أو اسم للقرآن، أو فواتح افتتح الله - تعالى - بها القرآن. {تلك} هذه {آيات الْكِتَابِ} .
(تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيب)
أي هذه خيلي. {الْكِتَابِ} التوراة والإنجيل، أو الزبور، أو القرآن. {الْحَكيمِ} المحكم، أو لأنه كالناطق بالحكمة. [76 / أ] 2 / - {أكان للناس} لما بعث محمد [صلى الله عليه وسلم] قالت العرب: الله أعظم من أن(2/61)
يكون رسوله بشراً فنزلت. {قَدَمَ صِدْقٍ} ثواباً حسناً بما قدموه من العمل الصالح " ع "، أو سابق صدق سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، أو شفيع صدق هو محمد [صلى الله عليه وسلم] أو سلف صدق تقدموهم بالإيمان، أو لهم السابقة بإخلاص الطاعة. {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون}(2/62)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
3 - {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} يقضيه وحده، أو يأمر به ويمضيه. {مَا مِن شَفِيعٍ} يشفع إلا أن يأذن له، أو لا يتكلم عنده إلا بإذن، أو ثانٍ له من الشفع، لأنه خلق السموات والأرض وهو فرد لا حي معه، ثم خلق الملائكة والبشر. {مِن بَعْدِ إذنه} أمره كن فكان. {إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وماخلق الله في السموات والأرض لأيات(2/62)
لقومٍ يتقون}(2/63)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
4 - {يبدأ الْخَلْقَ} ينشئه ثم يفنيه أو يحييه ثم يميته ثم يبدؤه ثم يحييه. {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}(2/63)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
7 - {يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} يخافون عقابنا، أو يطمعون في ثوابنا. {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}(2/63)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
9 - {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} يجعل لهم نوراً يمشون به، أو يهديهم بعملهم إلى الجنة، قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه، ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله " أو يهديهم إلى طريق الجنة، أو مدحهم بالهدايه. {من تحتهم} تحت منزلهم، أو بين أيديهم وهم يرونها من علٍ، قال مسروق: أنهارها تجري في غير أخدود.(2/63)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
10 - {دعواهم} إذا دعوا شيئاً يشتهونه قالوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فيأتيهم ذلك وإذا سألوا الله شيئاً قالوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} {وَتَحِيَّتُهُمْ} ملكهم سالم، التحية: الملك. أو يُحيي بعضهم بعضاً بالسلام أي سلمت مما بُلي به أهل النار(2/63)
{وآخر دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ} كما أن أول دعائهم {سبحانك الهم} كان آخره بالحمد له. أو إذا أجاب سؤالهم فيما ادعوه وأتاهم ما اشتهوه شكروا بالحمد له. {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزى القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}(2/64)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
11 - {وَلَوْ يُعَجِّلُ} للكافر عذاب كفره كما عجل له المال والولد لقضي أجله ليعجل له عذاب الآخرة. أو لو استجيب للرجل إذا غضب فدعا على نفسه أو ماله، أو ولده فقال: لا بارك الله فيه، أو أهلكه {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لهلكوا. {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} خاص بمشركي مكة، أو عام. {طُغْيَانِهِمْ} شركهم " ع " أو ضلالتهم أو ظلمهم. {يَعْمَهُونَ} يترددون، أو يتمادون، أو يلعبون.(2/64)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
12 - {مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ} لجنبه يتعلق بدعانا، أو بمس. {وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدّله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقائى نفسى إن اتبع إلا ما يوحى إلى إنّى أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا(2/64)
أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} 15 _ {الذين لا يرجون لقاءنا} كفار مكة. {بقرآن غَيْرِ هَذّآ أَوْ بَدِّلْهُ} إذا أتى بغيره جاز أن يبقى معه وإذا بدله فلا يبقى المبدل معه، طلبوا تحويل الوعد وعيداً والوعيد وعداً والحلال حراماً والحرام حلالاً، أو طلبوا إسقاط عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، أو إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور. {مَا يُوحَى إِلَىَّ} من وعد ووعيد وأمر ونهي وتحليل / [76 / ب] وتحريم {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} بتبديله وتغييره 16 - {أَدْرَاكُم} أعلمكم، أو أنذركم. {عمراً} أراد ما بقدم من عمره، أو أربعين سنة، لأنه بُعث عن الأربعين، وهو المطلق من عمر الإنسان. {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بئاياته إنه لا يفلح المجرمون ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاولاء شفعاؤنا عند الله قل أتنّبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنّى معكم من المنتظرين} {أَتُنَبِِّئُونَ اللَّهَ} أتخبرونه بعبادة من لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض، أو ليس يعلم الله له شريكاً 19 _ {وَمَا كان الناس} آدم - عليه الصلاة والسلام -، أو أهل السفينة، أو من كان على عهد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أو بنو آدم. {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الإسلام حتى اختلفوا " ع " أو على الكفر، أو على دين واحد فاختلفوا في(2/65)
الدين فمؤمن وكافر، أو اختلف بنو آدم لما قتل قابيل أخاه. {سَبَقَتْ} بتأجيل العذاب إلى الآخرة، لعجل العذاب في الدنيا، أو بأن لا يعاجل العصاة {لقضي بينهم} باضطرارهم إلى معرفة المحق من المبطل. {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في ءاياتنا قل الله أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيرّكم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} 21 _ {رحمة} رخاء بعد شدة، أو عافية بعد سقم، أو خصابة بعد جدب، أو إسلاماً بعد كفر، وهو المنافق، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - {مَّكْرٌ} كفر وجحود، أو استهزاء وتكذيب، لما أجيب دعاء الرسول [صلى الله عليه وسلم] بسبع كسبع يوسف - عليه الصلاة والسلام - أتاه [أبو سفيان] وسأله أن يدعو لهم بالخصب وقال: إن أجابك وأخصبنا صدقناك، فدعا بذلك فأخصبوا فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم فنزلت هذه الآية. {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلهآ أنّهم قادرون عليهآ(2/66)
أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الأيات لقومٍ يتفكّرون والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم}(2/67)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
24 - {حَصِيداً} ذاهباً، أو يابساً. {تَغْنَ} تعمر أو تعيش، أو تقم غني بالمكان: أقام به، أو تنعم. 25 _ {دَارِ السَّلامِ} السلامة، أو اسم الله _ تعالى - والجنة داره. {يهدي} بالتوفيق والإعانة، أو بإظهار الأدلة. {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} القرآن، أو الإسلام، أو الحق، أو الرسول [صلى الله عليه وسلم] وصاحباه - رضي الله تعالى عنهما - من بعده. {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلماً أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون}(2/67)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
26 - {أَحْسَنُواْ} عبادة ربهم {الْحُسْنَى} الجنة، والزيادة: النظر إلى الله - تعالى -، أو الحسنى واحدة الحسنات والزيادة مضاعفتها إلى عشرة " ع " أو الحسنى حسنة بحسنة، والزيادة: مغفرة ورضوان، أو الحسنى: جزاء الآخرة، والزيادة: ما أعطوا في الدنيا، أو الحسنى: الثواب والزيادة: الدوام {يَرْهَقُ} يعلو، أو يلحق، غلام مراهق: لحق بالرجال. {قَتَرٌ} سواد الوجه " ع " أو الجزاء، أو الدخان، قتار اللحم والعود دخانهما، أو الغبار في محشرهم إلى الله. {ذِلَّةٌ} هوان أو خيبة.(2/67)
{ويوم نحشرهم جميعاُ ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون 28 فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون}(2/68)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
30 - {تتلو} تقرأ كتاب الحسنات والسيئات، أو تتبع ما قدمته في الدنيا، أو تعاين جزاءه {تبلو} تسلم كل نفس، أو تختبر {مَوْلاهُمُ} مالكهم {الْحَقِّ} لأن الحق منه كالعدل لأنه العدل منه. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغنى من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون}(2/68)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
36 - {إلا ظنا} تقليداً للرؤساء. {وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين}(2/69)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
37 - {تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل والزبور أو البعث والجزاء والنشور.(2/69)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
39 - {بِعِلْمِهِ} بعلم التكذيب لشكهم فيه، أو بعلم ما فيه من الوعد والوعيد. {تَأْوِيلُهُ} ما فيه من البرهان، أو ما يؤول إليه من عقابهم. {وإن كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون 43 إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس انفسهم يظلمون ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين}(2/69)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
45 - {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا، أو القبور. {يَتَعَارَفَونَ} أنهم كانوا على الباطل، أو يعرف بعضهم بعضاً إذا خرجوا من القبور ثم تنقطع المعرفة.(2/69)
{وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلئن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}(2/70)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
47 - {فإذا جاء رسوله} يوم القيامة ليشهد عليهم قضي بيهم، أو إذا جاء في الدنيا ودعا عليهم قضي بينهم في الدنيا بالانتقام منهم، أو إذا جاء في الآخرة قضي بينهم وبينه لتكذيبهم في الدنيا. {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}(2/70)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
53 - {أَحَقٌ هُوَ} البعث، أو عذاب الآخرة. {بِمُعْجِزِينَ} بممتنعين، أو بمسابقين. 54 - {أسروا النَّدَامَةَ} أظهروها، أو أخفوها من رؤسائهم، أو أخفاها(2/70)
الرؤساء منهم، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة قاله المبرد. {وَقُضِىَ بَيْنَهُم} وبين الرؤساء، أو قضي عليهم بالعذاب. {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدى ورحمةٌ للمؤمنين 57 قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضلٍ على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأنٍ وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عملٍ إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن رّبك من مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبينٍ}(2/71)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
58 - {بِفَضْلِ اللَّهِ} الإسلام. ورحمته: القرآن، أو عكسه " ع " {فَلْيَفْرَحُواْ} بهما، أو فلتفرح قريش أن كان محمد [صلى الله عليه وسلم] منهم " ع ". {ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتّقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إنّ العزة لله جميعاً هو السميع العليم ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتّبعون إلا الظنّ وإن هم إلا(2/71)
يخرصون هو الذي جعل لكم الّيل لتسكنوا فيه والنّهار مبصراً إن في ذلك لأيات لقومٍ يسمعون قالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم الينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرين}(2/72)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
62 - {أَوْلِيَآءَ اللَّهِ} أهل ولايته المستحقون لكرامته " ع "، أو الذين آمنوا وكانوا يتقون، أو الراضون بالقضاء والصابرون على البلاء والشاكرون على النعماء، أو من توالت أفعالهم على متابعة الحق، أو المتحابون في الله - تعالى -.(2/72)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
64 - {الْبُشْرَى} في الدنيا عند الموت بتعريف مكانه وفي الآخرة الجنة، أو في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها، أو تُرى له وفي الآخرة الجنة، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لا خلف لوعده، أو لا نسخ لخبره. {واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بئايات الله فعلى الله توكّلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إلىّ ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذّبوا بئاياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ثمّ بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين}(2/72)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
71 - {فَأَجْمِعُواْ} أعزموا، أو أعدوا أمركم مع شركائكم على التناصر، أو(2/72)
ادعوا شركاءكم لتنصركم. {غُمَّةً} مغطى مستوراً، غُم الهلال استتر، أو ضيق الأمر الموجب للغم {لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ} آلهتكم، أو ما عزمتم عليه. {اقْضُواْ} ما أنتم قاضون، أو انهضوا " ع "، أو أفضوا إليَّ ما في أنفسكم.(2/73)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
73 - {وَمَن مَّعَهُ} ثمانون رجلاً أحدهم جُرْهم وكان عربي اللسان، وحمل من كل زوجين اثنين، وأول ما حمل الذرة وآخره الحمار فدخل إبليس متعلقاً بذنبه " ع " {خَلآئِفَ} لمن غرق. {وَأَغْرَقْنَا} قيل: عاشوا في الطوفان أربعين يوماً، قال ابن إسحاق: بقي الماء بعد الغرق مائة وخمسين يوماً، وكان بين إرسال الطوفان إلى غيض الماء ستة أشهر وعشرة أيام، وقال: استوت على الجودي لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع. {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإئه بئاياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحرٌ مبين قال موسى أتقولون للحق لمّا جاءكم أسحرٌ هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين}(2/73)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
78 - {لتفتنا} لتلوينا، لفت عنقه: لواها، أو لتصدنا، أو لتصرفنا لفته لفتاً: صرفه. {الْكِبْرِيَآءُ} الملك، أو العظمة، أو العلو، أو الطاعة. {وقال فرعون ائتوني بكل ساحرٍ عليم فلمّا جاء السّحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون 12 فلمّا ألقوا قال موسى ما جئتم به السّحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما ءامن لموسى(2/73)
إلا ذرية من قومه على خوفٍ من فرعون وملإيهم أن يفتنهم وإن فرعون لعالٍ في الأرض وإنّه لمن المسرفين} \ 83 - {ذريةٌ} قليل " ع "، أو الغلمان لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان أو أولاد الزّمنى، أو قوم أمهاتهم من / [77 / ب] بني إسرائيل وآباؤهم من القبط {يَفْتِنَهُمْ} يقتلهم، أو يكرههم على استدامة ما هم عليه. {لعالٍ} متجبر، أو طاغٍ باغٍ. {وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكّلنا ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}(2/74)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
85 - {فِتْنَةً} لا تسلطهم علينا فيفتنونا، أو يفتتنوا بنا لظنهم بتسليطهم أنهم على حق. {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلةً وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين}(2/74)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
87 - {تَبَوَّءَا} تخيرا واتخذا {بِمِصْرَ} المعروفة، أو الإسكندرية، قاله(2/74)
مجاهد {بُيُوتاً} قصوراً، أو مساجد. {بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} مساجد يصلون فيها لأنهم كانوا يخافون فرعون إذا صلوا في الكنائس، أو اجعلوا مساجدكم [قِبلَ] الكعبة " ع "، أو يقابل بعضها بعضاً، أو اجعلوا بيوتكم التي بالشام قِبْلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم {وَبَشِّرِ الْمؤْمِنِينَ} بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة. {وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليضلوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتّبعان سبيل الذين لا يعلمون}(2/75)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
88 - {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} اهلكها، فصارت زروعهم وأموالهم حجارة منقوشة. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالعمى عن الرشد، أو بالقسوة، أو بالموت، أو بالضلالة ليهلكوا كفاراً فيعذبوا في الآخرة. {الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الغرق.(2/75)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
89 - {دَّعْوَتُكُمَا} أمن هارون على دعاء موسى عليهما الصلاة والسلام فسماه داعياً، ومعنى آمين: اللهم استجب، أو اسم من أسماء الله - تعالى - بإضمار حرف النداء تقديره يا آمين استجب، وقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " آمين خاتم رب العالمين على عبادة المؤمنين " أي يمنع من وصول الأذى والضرر إليهم كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم، أو معناه بعد الدعاء اللهم استجب(2/75)
وبعد الفاتحة كذلك أمنة تكون " ع "، وتأخر فرعون بعد الإجابة أربعين عاماً. {فَاسْتَقِيمَا} فامضيا لأمري فخرجا في قومهما، أو فاستقيما في الدعاء على فرعون وقومه، قيل ليس لنبي أن يدعو إلا بإذن لأن دعاءه يوجب النقمة وقد يكون فيهم من يتوب. {وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالئان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيّك ببدنك لتكون لمن خلفك ءايةً وإن كثيراً من الناس عن ءاياتنا لغافلون}(2/76)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
92 - {نُنَجِّيكَ} نُلقيك على نجوة وهي المكان المرتفع. {بِبَدَنِكَ} بجسدك لا روح فيه، أو بدرعك وكانت من حديد يُعرف بها، وكان من تخلف من قومه ينكر غرقه، فرمي به على الساحل فرآه بنو إسرائيل، وكان قصيراً أحمر كأنه ثور. {خَلْفَكَ} بعدك عبرة وموعظة. {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}(2/76)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
93 - {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} لأنه كالصدق في الفضل، أو تصدق به عليهم، الشام وبيت المقدس، أو الشام ومصر. {فَمَا اخْتَلَفُواْ} بنو إسرائيل في نبوة محمد [صلى الله عليه وسلم] {حتى جاءهم العلم} القرآن، أو محمد [صلى الله عليه وسلم] فيكون العلم بمعنى المعلوم لأنهم عرفوه من كتبهم. {فإن كنت في شكٍ مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد(2/76)
جاءك الحق من رّبّك فلا تكوننّ من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بئايات الله تكون من الخاسرين 2 إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءايةٍ حتى يروا العذاب الأليم}(2/77)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
94 - {فِى شَكٍّ} من إرسالك، أو من أنك مكتوب في التوراة والإنجيل {الَّذِينَ يَقْرَءُونَ} أهل الصدق والتقوى منهم، أو من آمن كعبد الله بن سلام، خوطب به الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمراد أمته، أو على عادتهم في التنبيه على أسباب الطاعة كقول الوالد لولده: إن كنت ولدي فبرني، والسيد لعبده: إن كنت عبدي [78 / أ] فأطعني، ولا يشك في ولده أو عبده، وقال الرسول / [صلى الله عليه وسلم] : " لا أشك ولا أسأل ". {فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}(2/77)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
98 - {فَلَوْلا كَانَتْ} أي لم تؤمن قرية بعد أن حقت عليهم كلمة ربك. {قَوْمَ يُونُسَ} أهل نينوى من بلاد الموصل وعدهم يونس - عليه الصلاة والسلام - بالعذاب بعد ثلاث، فقالوا: انظروا فإن خرج يونس فوعيده حق فلما خرج فزعوا إلى شيخ منهم، فقال: توبوا وقولوا يا حي حين لا حي، ويا حي محي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فلبسوا المُسُوح، وفرقوا بين كل والدة وولدها وخرجوا عن القرية تائبين داعين فكشف عنهم، وكان ذلك يوم(2/77)
عاشوراء. {كَشَفْنَا} حصوله بقبوله التوبة بعد رؤية العذاب فكشف عنهم بعد أن تدلى عليهم ولم يكن بينه وبينهم إلا ميل، أورأوا دلائل العذاب ولم يروه، ولو رأوه لما قبلت توبتهم كفرعون. {حِينٍ} أجلهم، أو مصيرهم إلى الجنة أو النار " ع ". {ولو شاء ربّك لأمن من في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرّجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الأيات والنّذر عن قومٍ لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين}(2/78)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
100 - {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره، أو معونته، أو إعلامه إياها سبيل الهدى والضلال، {الرِّجْسَ} السخط " ع "، أو الإثم، أو العذاب، أو ما لا خير فيه، أو الشيطان. {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أٌ قم وجهك للدّين حنيفاً ولا تكوننّ من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت(2/78)
فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}(2/79)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
105 - {أَقِمْ وَجْهَكَ} استقم بإقبال وجهك على ما أمرت به، أوأراد بالوجه النفس. {حَنِيفاً} حاجاً " ع "، أو متبعاً أو مستقيماً، أو مخلصاً، أو مؤمناً بالرسل، أو سابقاً إلى الطاعة، من حنف الرِّجْلَيْن وهو أن تسبق إحداهما الأخرى. {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من رّبكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}(2/79)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
108 - {الحق من ربكم} القرآن، أو الرسول [صلى الله عليه وسلم] .(2/79)
سورة هود
مكية أو إلا آية {وأقم الصلاة} [114] " ع ".
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذيرٌ وبشير وأن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤتِ كل ذي فضلٍ فضله وإن تولوا فأني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيءٍ قدير}(2/80)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
1 - {كتاب} القرآن، {أحكمت آياته} بالأمر والنهي {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالثواب والعقاب، أو أحكمت من الباطل ثم فُصِّلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية، أو آيات هذه السورة كلها محكمة، {فُصِّلَتْ} فُسِّرت، أو أُحكمت آياته للمعتبرين وفُصِّلت للمتقين، أو أُحكمت آياته في القلوب وفُصِّلت أحكامه على الأبدان. {حَكِيمٍ} في أفعاله {خَبِيرٍ} بمصالح عباده، أو حكيم فيما أنزل خبير بمن يتقبل.(2/80)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
2 - {ألا تعبدوا} يعني أني كتبت في الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله، أو أمر رسوله [صلى الله عليه وسلم] أن يقول ذلك. {نَذِيرٌ} من النار {وَبَشِيرٌ} بالجنة.(2/80)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
3 - {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} مما سلف ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم ذنوب، أو قدّم الاستغفار، لأنه المقصود وأخّر التوبة لأنها سبب(2/80)
إليه. {مَّتَاعاً حَسَناً} في الدنيا بطيب النفس وسعة الرزق، أو بالرضا بالميسور والصبر على المقدور، أو بترك الخلق والإقبال على الحق قاله سهل رضي الله تعالى عنه {أَجَلٍ مُّسَمًّى} الموت، أو القيامة، أو وقت لا يعلمه إلا الله - تعالى - " ع " {وَيُؤْتِ كُلَّ ذي فضل فضله} يهديه إلى [87 / ب] العمل الصالح " ع "، أو يجزيه به في الآخرة. {كَبِيرٍ} يوم القيامة لكبر الأمور فيه. {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور}(2/81)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
5 - {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} على الكفر {لِيَسْتَخْفُواْ} من الله - تعالى أو على عداوة الرسول [صلى الله عليه وسلم] ليخفوها عنه، أو على ما أضمروه ليخفوه على الناس، أو كان المنافقون إذا مروا بالرسول [صلى الله عليه وسلم] غطوا رؤوسهم وحنوا صدورهم لئلا يراهم أو قال رجل إذا أغلقت بابي وأرخيت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي فأخبر الله - تعالى - بذلك. {يَسْتَغْشُونَ} يلبسون ويتغطون، قال:
(أرعى النجوم ما كلفت رِعْيَتَها ... وتارة أتغشى فضل أطماري)
كنى باستغشاء الثياب عن الليل، لأنه يسترهم بظلمته كما يستترون(2/81)
بالثياب وكانوا يخفون أسرارهم ليلاً، أو كانوا يغطون وجوههم وآذانهم بثيابهم بغضاً للرسول [صلى الله عليه وسلم] حتى لا يروه ولا يسمعوا كلامه، أو أراد المنافقين لأنهم لسترهم ما في قلوبهم كالمستغشي ثيابه، أو كان قوم من المسلمين يتنسكون بستر أبدانهم فلا يكشفونها تحت السماء فبيّن الله - تعالى - أن النسك بالاعتقاد والعمل. {مَا يُسِرُّونَ} في قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بأفواههم، أو ما يسرون الإيمان وما يعلنون العبادات، أو ما يسرون عمل الليل، وما يعلنون عمل النهار " ع " {بِذَاتِ الصُّدُورِ} بأسرارها، نزلت في الأخنس بن شريق " ع ". {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}(2/82)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
6 - {مستقرها} حيث تأوي {مستودعها} حيث تموت أو مستقرها الرحم ومستودعها الصلب، أو مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة. {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ وكان عرشه على الماء(2/82)
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحرٌ مبين ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمةٍ معدودةٍ ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوسٌ كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرحٌ فخورٌ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائقٌ به صدرك أن يقولوا لولا انزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملك إنما أنت نذيرٌ والله على كل شيءٍ وكيل أم يقولون أفتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنّما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل انتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولائك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون}(2/83)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
7 - {أَحْسَنُ عَمَلاً} أتم عقلاً، أو أزهد في الدنيا، أو أكثر شكراً، أو أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته، قاله الرسول [صلى الله عليه وسلم] .(2/83)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
8 - {أُمَّةٍ} فناء أمة، أو الأجل عند الجمهور، الأُمَّة: الأجل. {مَا يَحْبِسُهُ} أي العذاب، قالوا ذلك تكذيباً له لتأخره، أو استعجالاً واستهزاء {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}(2/84)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
17 - {بَيِّنَةٍ} القرآن، أو دلائل التوحيد ووجوب الطاعة، أو محمد [صلى الله عليه وسلم] {شَاهِدٌ مِّنْهُ} لسانه يشهد له بتلاوة القرآن، أو الرسول [صلى الله عليه وسلم] شاهد من الله - تعالى - أو جبريل - عليه السلام - " ع "، أو قال علي - رضي الله عنه - ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل: فما نزل فيك قال: " ويتلوه شاهد منه " {قَبْلِهِ} الضمير للقرآن، أو للرسول [صلى الله عليه وسلم] {إِمَاماً} للمؤمنين لاقتدائهم به {وَرَحْمَةً} لهم، أو إماماً متقدماً علينا ورحمة لهم. {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ به} أي(2/84)
من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه {الأَحْزَابِ} أهل الأديان كلها، أو المتحزبون على الرسول [صلى الله عليه وسلم] وحربه، قريش، أو اليهود والنصارى، أو أهل الملل كلها. {مَوْعِدُهُ} مصيره. {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} من القرآن، أو من أن النار موعد الكافرين به. {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربّهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون 19 أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون}(2/85)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
18 - {كَذِباً} / بأن ادعى إنزال ما لم ينزل عليه، أو نفى ما أنزل عليه. {يُعْرَضُونَ} يحشرون إلى موقف الحساب. {الأَشْهَادُ} الأنبياء، أو الملائكة، أو الخلائق، أو الأنبياء والملائكة والمؤمنون والأجساد، الأشهاد: جمع شهيد كشريف وأشراف، أو جمع شاهد كصاحب وأصحاب.(2/85)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
19 - {الَّذِينَ يَصُدُّونَ} قريش صدوا الناس عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو عن الدين " ع "، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يرجون بمكة غير الإسلام ديناً، أو يبغون محمداً هلاكاً، أو يتأولون القرآن تأويلاً باطلاً.(2/85)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
22 - {لا جَرَمَ} لا بد، أو " لا " صلة، جرم: حقاً، أو لا نفي لدفع العذاب عنهم، ثم استأنف جرم بمعنى كسب أي كسبوا استحقاق النار، قال:
(نصبنا رأسه في رأس جذع ... بما جرمت يداه وما اعتدينا)(2/85)
{إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون}(2/86)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
23 - {أخبتوا} خافوا " ع "، أو اطمأنوا، أو أنابوا، أو خشعوا وتواضعوا، أو أخلصوا. {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين}(2/86)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
27 - {أَرَاذِلُنَا} جمع أََرْذُل وأَرْذُل جمع رَذْل وهو الحقير يعنون الفقراء وأصحاب الصنائع الدنيئة. {بَادِىَ الرَّأْىِ} ظاهره، أي إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر، أو إنما في نفسك من الرأي ظاهر تعجيزاً له، أو اتبعوك بأول الرأي ولو فكروا لرجعوا عن اتباعك. {قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينّة من رّبي وءاتاني رحمةً من عنده فعميّت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسئلكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين ءامنوا إنّهم ملاقوا ربّهم ولكنّى أراكم قوماً تجهلون(2/86)
ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتكم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملكٌ ولا أٌ قول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذاً لمن الظالمين}(2/87)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
28 - {بَيِّنَةٍ} ثقة، أو حجة {رَحْمَةً} إيماناً، أو نبوة " ع ". {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} البينة خفيت فعميتم عنها، أراد بذلك بيان تفضيله عليهم لما قالوا {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلِ} {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} البينة، أو الرحمة. {كَارِهُونَ} أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهية، وقال قتادة: لو استطاع نبي الله [صلى الله عليه وسلم] لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك.(2/87)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
29 - {تجهلون} أنهم أفضل منكم لإيمانهم وكفرهم، أو لاسترذالكم وطلب طردهم.(2/87)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
30 - {خَزَآئِنُ اللَّهِ} الأموال فأدفعها إليكم على إيمانكم، أو الرحمة فأسوقها إليكم " ع ". {تَزْدَرِى} تحتقر، أزريت عليه عبته، وزريت عليه حقرته. {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون}(2/87)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
35 - {افتراه} أي النبي [صلى الله عليه وسلم] اختلق ما أخبر به عن نوح وقومه. {إِجْرَامِى} عقاب إجرامي وهي الذنوب المكتسبة أو الجنايات المقصودة. {وأوحينا إلى نوحٍ أنّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}(2/88)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
36 - {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} لما أخبره بذلك قال: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض} الآية [نوح: 26] {تَبْتَئِسْ} تحزن، أو تأسف، والابتئاس حزن في استكانة، لا تحزن لهلاكهم، أو كفرهم المفضي إلى هلاكهم.(2/88)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
37 - {بِأَعْيُنِنَا} بحيث نراك فعبّر عن الرؤية بالأعين لأنها بها تكون، أو بحفظنا إياك حفظ من يراك، أو أعين أوليائنا من الملائكة. {وَوَحْيِنَا} أمْرُنا بصنعتها، أو بتعليمنا لك صنعتها.(2/88)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
38 - {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} مكث مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها، وكان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها [79 / ب] / ستمائة ذراع وكانت مطبقة، أو طولها أربعمائة ذراع، وعلوها ثلاثون ذراعاً وعرضها خمسون ذراعاً وكانت ثلاثة أبيات، أو طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها مائة وخمسين ذراعاً، وعلوها ثلآثين ذراعاً في أعلاها الطير وفي أوسطها الناس وفي أسفلها السباع، ودفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب، ورست(2/88)
ببارقردى على الجودي يوم عاشوراء، وكان بابها في عرضها. {سَخِرُواْ مِنْهُ} لما رأوه يصنعها في البر، قالوا: صِرت بعد النبوة نجاراً، أو لم يكونوا رأوا قبلها سفينة فقالوا ما تصنع قال: بيتاً يمشي على الماء فسخروا منه {إِن تَسخَرُواْ} من قولنا فسنسخر من غفلتكم، أو إن تسخروا منا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق، سمى جزاء السخرية باسمها، أو عبّر بها عن الاستجهال. {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن وما ءامن معه إلا قليلٌ}(2/89)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
40 - {التَّنُّورُ} وجه الأرض، تسمي العرب وجه الأرض تنوراً، أو التنور عين وردة التي بالجزيرة، أو مسجد الكوفة قبل أبواب كندة، أو التنور ما زاد على الأرض فأشرف منها، أو تنور الخبز، قال الحسن - رضي الله تعالى عنه - كان من حجارة وكان لحواء وصار لنوح - عليه الصلاة والسلام -، أو التنور تنوير الصبح قالوا: نور الصبح تنويراً {زَوْجَيْنِ} من الآدميين والبهائم ذكراً وأنثى. {مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} من الله بالهلاك ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين {قَلِيلٌ} ثمانون رجلاً منهم جرهم، أو سبعة نوح وأولاده سام وحام ويافث(2/89)
[وثلاث كنات له] ، أو السبعة وزوجته فصاروا ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا نوح - عليه الصلاة والسلام - أن يغير الله - تعالى - نطفته فجاءوا سودان، ولما نزل يوم عاشوراء من السفينة قال: من كان صائماً فليتم صومه ومن لم يكن صائماً فليصم. {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سئاوى إلى جبلٍ يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين 43}(2/90)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
41 - {بْسمِ اللَّهِ مَجْراهَا} سَيْرُها {وَمُرْسَاهَا} ثبوتها ووقوفها، كان إذا أراد السير قال: بسم الله مجراها فتسير، وإذا أراد الوقوف قال: بسم الله مرساها فتقف.(2/90)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
43 - {سآوي إِلَى جَبَلٍ} قال ذلك لبقائه على كفره تكذيباً لأبيه، قيل الجبل طور زيتاً. {عَاصِمَ} معصوم من الغرق. {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} الله تعالى فأنجاه من الغرق، أو إلا من رحمه نوح - عليه الصلاة والسلام - فحمله في السفينة. {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعداً للقوم الظالمين}(2/90)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
44 - {ابْلَعَى مَآءَكِ} بلعت ماءها وماء السماء، أو ماءها وحده وصار ماء السماء بحاراً وأنهاراً، لأنه قال: {ابْلَعِى مَآءَكِ) {} (أَقْلِعِى} عن المطر، أقلع عن الشي تركه. {وَغِيضَ الْمَآءُ} نقص فذهبت زيادته عن الأرض. {وقضي}(2/90)
الأَمْرُ} بإهلاكهم بالغرق. {الْجُودِىِّ} جبل بالموصل، أو الجزيرة أو اسم لكل جبل. {ونادى نوحٌ ربّه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علمٌ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}(2/91)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
46 - {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ولد على فراشه لغير رشدة، أو كان ابن امرأته، أو كان ابنه وما بغت امرأة نبي قط / [80 / أ] " ع "، فقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي أهل دينك وولايتك عند الجمهور، أو من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} سؤالك أياي أن أنجيه، أو إن ابنك عمل غير صالح لغير رشدة، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه -، أو إن ابنك عَمِل عملاً غيرَ صالح " ع "، {أَعِظُكَ} أحذرك أو أرفعك.(2/91)
{وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسئلكم عليه أجراً إن أجرى إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين}(2/92)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
52 - {مِدْراراً} المطر في إبانه، أو المتتابع " ع " {قُوَّةً} شدة إلى شدتكم أو خصباً إلى خصبكم، أو غزأ إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم أو ولد الولد. {قالوا يا يهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئٌ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجيّنا هوداً والذين ءامنوا معه برحمةٍ منّا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عادٌ جحدوا بئايات ربهم وعصوا رسله واتّبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة إلا أنّ عاداً كفروا ربهم إلا بعداً لعادٍ قومٍ هودٍ} \ 56 - {صراط مستقيم} الحق، أو تدبير محكم. {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من(2/92)
الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريبٌ مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريبٍ قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينّة من ربي وءاتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}(2/93)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
61 - {مِّنَ الأَرْضِ} في الأرض، أو خلقهم من آدم - عليه الصلاة والسلام - وآدم من ترابها. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} أبقاكم فيها مدة أعماركم من العمر، أو أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من مسكن وغرس أشجار، أو أطال أعماركم كانت أعمارهم من ألف إلى ثلاثمائة سنة.(2/93)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
62 - {مَرْجُوّاً} يرجى خيرك، أو حقيراً من الإرجاء والتأخير.(2/93)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
63 - {بَيِّنَةٍ) {دين} (رَحْمَةً} نبوة وحكمة. {فَمَا تَزِيدُونَنِى} في احتجاجكم باتباع آبائكم إلا خساراً تخسرونه أنتم، أو ما تزيدونني على الرد والتكذيب - إن أطعتكم - إلا خساراً لاستبدال الثواب بالعقاب. {ويا قوم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين ءامنوا معه برحمةٍ منا ومن خزي يؤمئذٍ إن ربّك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود}(2/93)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
67 - {الصَّيْحَةُ} صيحة جبريل - عليه السلام -، أو أحدثها الله - تعالى - في حيوان، أو في غير حيوان. {دِيَارِهِمْ} منازلهم وبلادهم كديار بكر وربيعة،(2/93)
أو في الدنيا لأنها دار الخلائق. {جَاثِمِينَ} ميتين، أو هلكى بالجثوم، وهو السقوط على الوجه، أو القعود على الرُّكَب.(2/94)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
68 - {يَغْنَوْاْ} يعيشوا، أو ينعموا. {كَفَرُواْ} وعيد ربهم، أو بأمر ربهم. {بُعْداً} قضى بالاستئصال فهلكوا جميعاً إلا أبا رغال كان بالحرم فمنعه الحرم من العذاب. {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلامٌ فما لبث أن جاء بعجل حنيئذ فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ وأمرأته قائمةٌ فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت ياويلتي ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخاً إن هذا لشيء عجيبٌ قالوا: أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميدٌ مجيدٌ}(2/94)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
69 - {رُسُلُنَآ} رسلنا جبريل وميكائيل وإسرافيل واثنا عشر ملكاً مع جبريل " ع " و {إِبْرَاهِيمَ} أعجمي عند الأكثرين، أو عربي من البرهمة وهي إدامة النظر. {بالبشرى} بإسحاق - عليه الصلاة والسلام - أو النبوة، أو بإخراج محمد [صلى الله عليه وسلم] من صلبه وأنه خاتم الأنبياء، أو بهلاك قوم لوط. {سَلاماً} حيوه فرد عليهم، أو قالوا: سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط، قوله: سلام: أي الحمد لله الذي سلمني، والسِّلْم والسَّلام واحد أو السِّلْم من المسالمة والسَّلام من السلامة. {فَمَا لَبِثَ} مدحه بالإسراع بالضيافة لأنه ظنهم ضيوفاً لمجيئهم على صور الناس. {حَنِيذٍ} حار، أو مشوي نضيجاً بمعنى(2/94)
محنوذ كطبيخ ومطبوخ، وهو الذي حُفر له في الأرض ثم غُم فيها، أو الذي تجعل الحجارة المحماة بالنار في جوفه ليسرع نضاجه.(2/95)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
70 - {نَكِرَهُمْ} نَكِر وأنكر واحد، أو نَكِر إذا لم يعرفهم وأنكرهم وجدهم على منكر. ونكرهم لأنهم [لم] يتحرموا بطعامه وشأن العرب إذا لم يتحرم بطعامهم أن يظنوا السوء، أو نكرهم لأنه لم يكن لهم أيدي. {وَأَوْجَسَ} أضمر. {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ} أعلموه بذلك ليأمن / [80 / ب] منهم، أو لأنه كان يأتي قوم لوط فيقول وَيْحكم أنهاكم عن الله - تعالى - أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه.(2/95)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
71 - {قَآئِمَةٌ} تصلي، أو في خدمتهم، أو من وراء الستر تسمع كلامهم. {فَضَحِكَتْ} حاضت يقولون: ضحكت المرأة إذا حاضت. والضحك في كلامهم: الحيض وافق ذلك عادتها، أو لذعرها وخوفها تغيرت عادتها، أو ضحكت: تعجبت سمي به لأنه سبب له، عجبت من أنها وزوجها يخدمانهم إكراماً وهم لا يأكلون، أو من مجيء العذاب إلى قوم لوط وهم غافلون، أو من مجيء الولد مع كبرها وكبر زوجها، أو من إحياء العجل الحنيذ، لأن جبريل - عليه السلام - مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وكانت أمه في الدار أو هو الضحك المعروف قاله الجمهور، ضحكت سروراً بالولد، أو بالسلامة، أو لِما رأت بزوجها من الروع، أو ظناً أن الرسل يعملون عمل قوم لوط. {وَرَآءِ} بعد، أو الوراء ولد الولد " ع "،(2/95)
وخصوها بالبشرى لما اختصت بالضحك، أو كافؤوها بذلك استعظاماً لخدمتها، أو لأن المرأة أفرح بالولد من الرجل.(2/96)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
72 - {يا ويلتى} لم تدع بالويل ولكنها كلمة تخف على ألسنة النساء عند تعجبهن، استغربت مجيء ولد من عجوز لها تسع وتسعون سنة، وشيخ له مائة سنة، أو لها تسعون، وله مائة وعشرون. {بَعْلِى شَيْخاً} قيل عرَّضت بذلك عن ترك غشيانه لها، والبعل السيد والبعل المعبود، وسمي الزوج بعلاً لتطاوله على المرأة كتطاول السيد على المسود. {عَجِيبٌ} منكر. {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ} [ص: 4] .(2/96)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
73 - {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أنكروا ما قالته استغراباً لا تكذيباً وإنكاراً. {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود 76}(2/96)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
74 - {الرَّوْعُ} الفزع والرُّوع: النفس " ألقى في رُوعي " {يُجَادِلُنَا} بقوله: إن فيها لوطاً، أو سأل هل يعذبونهم استئصالاً، أو على سبيل التخويف ليؤمنوا، أو قال: أتعذبونهم إن كان فيهم خمسون من المؤمنين قالوا: لا، قال: أربعون قالوا: لا، فما زال حتى نزلهم على عشرة فقالوا: لا، فذلك جداله، ولم يؤمن به إلا ابنتاه. {ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيبٌ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر(2/96)
لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفى أليس منكم رجلٌ رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد}(2/97)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
77 - {سِىءَ بِهِمْ} ساء ظنه بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه، {عَصِيبٌ} شديد لأنه يعصب الناس بالشر، خاف على الرسل أن يفضحهم قومه.(2/97)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
78 - {يُهْرَعُونَ} الإهراع الإسراع بين الهرولة والجمز قال: الكسائي والفراء: ولا يكون إلا مع رعدة، أسرعوا لما أعلمتهم امرأة لوط بجمال الأضياف. {وَمِن قَبْلُ} إسراعهم كانوا ينكحون الذكور، أو كانت اللوطية فيهم في النساء قبل كونها في الرجال بأربعين سنة. {بَنَاتِى} نساء الأمة، أو لصلبه لجوازه في شريعته وكان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ، قاله الحسن - رضي الله عنه -، أو على شرط الإيمان كان يشترط العقد، أو رغبهم بذلك في الحلال دفعاً لبادئتهم لا أنه بذل نكاحهن ولا عرض بخطبتهن. {ولا تخزون} [81 / أ] تذلوني بعار الفضيحة، أو تهلكوني بعواقب فسادكم، أو أراد الحياء خزي الرجل: استحيا. {رَّشِيدٌ} مؤمن " ع "، أو آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر، تعجب من اتفاقهم على المنكر، وأراد بالرشيد من يدفع عن أضيافه.(2/97)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
79 - {مِنْ حَقٍّ} حاجة، أو لَسْن لنا بأزواج، {مَا نُرِيدُ} من الرجال، أو بألا نتزوج إلا بواحد وليس منا إلا من له امرأة. {قال لو أن لي بكم قوةً أو ءاوى إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}(2/97)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
80 - {قُوَّةً} أنصاراً، قال " ع ": أراد الولد. {رُكْنٍ شَدِيدٍ} عشيرة مانعة(2/97)
فوجدت عليه الرسل، وقالوا: إن ركنك لشديد. وقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " رحم الله - تعالى - لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، وقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : فما بعث الله تعالى بعده نبياً إلا في ثروة من قومه.(2/98)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
81 - {رُسُلُ رَبِّكَ} وقف على الباب ليمنعهم من الأضياف فلما أعلموه أنهم رسل مكنهم من الدخول، وطمس جبريل - عليه السلام - أعينهم وغل أيديهم فجفت. {فَأَسْرِ} السرى: سير الليل وسرى وأسرى واحد، أو أسرى من أول الليل وسرى من آخره، ولا يقال في النهار إلا سار. {بِقِطْعٍ} سواد، أو نصف الليل من قطعه بنصفين، أو السحر الأول أو قطعه " ع ". {وَلا يَلْتَفِتْ} لا يتخلف " ع "، أو لا ينظر وراءه، أو لا يشتغل بما خلفه من مال ومتاع. {امْرَأَتَكَ} بالنصب استثناء من " فأسر "، أو من " لا يلتفت " عند من رفع بدل من " أحد " {مُصِيبُهَا} خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت فأرسل عليها حجر فأهلكها. {مَوْعِدَهُمُ} لما علم أنهم رسل قال: فالآن إذن،(2/98)
فقال جبريل - عليه السلام - إن موعدهم الصبح. {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسوّمة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}(2/99)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
82 - {جَآءَ أَمْرُنَا} للملائكة، أو وقوع العذاب بهم، أو القضاء بعذابهم. {عَالِيَهَا} صعد بها جبريل - عليه السلام - على جناحه حتى سمع اهل السماء نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم قلّبها وجعل عاليها سافلها وأتبعها الحجارة حتى أهلكها وما حولها، وكن خمس قرى أعظمهن سدوم، أو ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام، وكان فيها أربعة آلاف ألف. {سِجِّيلٍ} حجارة صلبة، أو مطبوخة، حتى صارت كالأرحاء، أو من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لاماً، أومن السماء واسمها سجيل، أو من السجل وهو الكتاب كتب الله - تعالى - عليها أن يعذب بها، أو سجيل مرسل من السجل وهو الإرسال أسجلته أرسلته، والدلو سجيل لإرساله، أو من السجل وهو العطاء سجلت له سجلاً من العطاء كأنهم أعطوا البلاء إذراراً، او فارسي معرب من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين. {مَّنضُودٍ} نضد بعضه على بعض، أو مصفوف.(2/99)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
83 - {مُّسَوَّمَةً} معلمة ببياض في حمرة " ع "، أو مختمة على كل حجر أسم صاحبه. {عِندَ رَبِّكَ} في علمه، أو في خزائنه لا يتصرف فيها سواه [81 / ب] {الظَّالِمِينَ} من قريش، أو العرب، أو ظالمي هذه الأمة، أو كل ظالم وأمطرت الحجارة على المدن حين رفعها، أو على من كان خارجاً عنها من أهلها. {وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخيرٍ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط}(2/99)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
84 - {مَدْيَنَ} بنو مدين بن إبراهيم كمضر لبني مضر، أو مدين مدينتهم(2/99)
نسبوا إليها ثم اقتصر على اسمها تخفيفاً، وهو أعجمي، أوعربي من مَدَنَ بالمكان أقام فيه عند من زعم أنه اسم المدينة، أو من دنت أي ملكت بزيادة الميم عند من جعله اسم رجل. {شُعَيْباً} تصغير شعب وهو الطريق في الجبل، أو القبيلة العظيمة، أو من شعب الإناء المكسور. {بخَيْرٍ} رخص السعر " ع "، أو المال وزينة الدنيا. {يَوْمٍ مُّحِيطٍ} غلاء السعر " ع " أو عذاب النار في الآخرة، أو الاستئصال في الدنيا. {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ 86}(2/100)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
86 - {بقية} رزقه، أو طاعته، أو وصيته، أو رحمته، أو حظكم منه، أو ما أبقاه لكم بعد إيفاء الكيل والوزن. {قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاؤا إنك لأنت الحليم الرشيد}(2/100)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
87 - {أصلواتك} المعروفة، أو قراءتك، أو دينك الذي تتبعه، أصل الصلاة الاتباع ومنه المصلي في الخيل. {تَأْمُرُكَ} تدعوك، أو فيها أن تأمرنا أن نترك عبادة الأصنام. {مَا نَشَآءُ} من البخس والتطفيف، أو الزكاة التي أمرهم(2/100)
بها، أو قطع الدراهم والدنانير لأنه نهاهم عن ذلك. {الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} استهزاء، أو نفي " ع "، أو حقيقة ما نبتغي لك هذا مع حلمك ورشدك. {قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينةٍ من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}(2/101)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
88 - {رِزْقاً حَسَناً} مالاً حلالاً، قال " ع ": وكان شعيب كثير المال، أو نبوة فيه حذف تقديره أفأعدل عن عبادته. {أُنِيبُ} أرجع، أو أدعو. {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل ماأصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوطٍ منكم ببعيدٍ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}(2/101)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
89 - {يَجْرِمَنَّكُمْ} يحملنكم، أو يكسبنكم. {شِقَاقِى} عداوتي، أو إصراري، أو فراقي. {بِبَعيدٍ} بعد الدار لدنوهم منهم، أو بعد الزمان لقرب العهد وكان الرسول [صلى الله عليه وسلم] إذا ذكر شعيباً قال: " ذاك خطيب الأنبياء ". {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطى أعز عليكم من الله اتخذتموه(2/101)
وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط}(2/102)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
91 - {مَا نَفْقَهُ} ما نفهم صحة ما تقول من البعث والجزاء، أو قالوه إعراضاً عن سماعه، أو احتقاراً لكلامه، {ضَعِيفاً} أعمى، أو ضعيف البصر، أو البدن، أو وحيداً، أو ذليلاً مهيناً، أو قليل العقل، أو قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها. {رَهْطُكَ} عشيرتك عند الجمهور، أو شيعتك، {لَرَجَمْنَاكَ} بالحجارة، أو بالشتم. {بِعَزِيزٍ} بكريم، أو بممتنع لولا رهطك.(2/102)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
92 - {أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم} أتراعون رهطي فِيَّ ولا تراعون الله فِيَّ. {ظِهْرِيّاً} أطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به، أو حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم، أو إن احتجتم إليه استعنتم به وإن اكتفيتم تركتموه كالذي يتخذ من الجمال ظهراً إن اُحتيج إليه حُمل عليه وإن استُغني عنه تُرك، أو جَعْلهم الله وراء ظهورهم ظهرياً. {محيط} حفيظ، أو خبير، أو مجازي. {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عاملٌ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذبٌ وارتقبوا إني معكم رقيبٌ ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين ءامنوا معه برحمةٍ منا واخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها إلا بعد لمدين كما بعدت ثمود}(2/102)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
93 - {مكانتكم} ناحيتكم " ع "، أو تمكنكم أي اعملوا في هلاكي فإني عامل في هلاككم قال ذلك ثقة بربه. {عَذَابٌ} الفرق {يُخْزِيهِ} يذله، أو يفضحه. {فارتقبوا} انتظروا العذاب / [82 / أ] {إني معكم} منتظر. {ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنةً ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}(2/103)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
99 - {فِى هَذِهِ} الدنيا لعنة المؤمنين ويوم القيامة لعنة الملائكة أو لعنة الدنيا الفرق ولعنة الآخرة النار. {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} العون المعان، أو الرفد الزيادة لأنهم زيدوا على الفرق بالنار، أو ذم لشرابهم فيها لأن الرِفد بالكسر ما في القدح من الشراب والرفد بالفتح القدح. {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التي يدعون من دون الله من شىءٍ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيبٍ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديدٌ}(2/103)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
100 - {نَقُصُّهُ} نخبرك، أو نتبع بعضه بعضاً. {قَآئِمٌ} عامر {وَحَصِيدٌ} خاوي " ع "، أو القائم الآثار والحصيد الدارس.(2/103)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
101 - {تتبيب) تخسير، أو هلاك، أو شر.(2/103)
{إن في ذلك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهودٌ وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقىٌّ وسعيدٌ}(2/104)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
105 - {لا تَكَلَّمُ} لا تشفع، أو لا تكلم بشيء من جائز الكلام، أو يمنعون في بعض أوقات القيامة من الكلام إلا بإذنه. {شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} محروم ومرزوق، أو معذب ومنعم، ابتدأ بالسعادة والشقاوة من غير جزاء أو جوزيا بها على أعمالهما. {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفيرٌ وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعالٌ لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذٍ}(2/104)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
106 - {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف " ع "، أو الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، أو الزفير تردد النفس من شدة الحزن والشهيق النفس الطويل، جبل شاهق طويل، أو الزفير أول شهيق الحمار والشهيق آخره.(2/104)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
107 - {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ} سماء الدنيا وأرضها {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} من الزيادة عليها بعد فناء مدتها، أو مادامت سماوات الآخرة وأرضها إلا ما شاء من قدر وقوفهم في القيامة، أو إلا من شاء ربك إخراجه منها من أهل التوحيد " ع "، أو " إلا من شاء أن لا يدخله إليها من أهل التوحيد " مروي عن(2/104)
الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو إلا من شاء أن يخرجه منها من موحد ومشرك إذا شاء " ع "، أو الاستثناء من الزفير والشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق مما سماه أو لم يسمِّه ثم استأنف فقال: {مَا دَامَتِ} ، أو المعنى لو شاء أن لا يخلدهم لفعل ولكنه شاء ذلك وحكم به. وقدر خلودهم بسماوات الدنيا وأرضها على عادة العرب وعرفها. زهير:
(ألا لا أرى الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا)(2/105)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
108 - {سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ} إلا ما شاء ربك من مدة مكثهم في النار، أو {إِلاَّ} بمعنى الواو. {مجذوذ} مقطوع، أو ممنوع. {فلا تك في مريةْ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمةٌ سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}(2/105)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
109 - {نَصِيبَهُمْ} من خير أو شر " ع "، أو الرزق، أو العذاب. {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا(2/105)
إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}(2/106)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
113 - {تَرْكَنُواْ} تميلوا، أو تدنوا، أو ترضوا أعمالهم، أو تداهنوهم في القول فتوافقوهم سراً ولا تنكروا عليهم علانية. {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع اجر المحسنين}(2/106)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
114 - {طرفي النهار} الأول اصبح اتفاقاً والثاني الظهر والعصر، أو العصر وحدها، أو المغرب " ع "، {زلفاً} جمع زلفة والزلفة المنزلة أي ومنازل من الليل أي ساعات، ومزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، أو لازدلاف آدم - عليه الصلاة والسلام - من عرفة إلى حواء وهي بها. وأراد عشاء الآخرة، أو المغرب والعشاء. {الْحَسَنَاتِ} الصلوات الخمس " ع "، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهن الباقيات الصالحات، أو الحسنات المقبولة تذهب السيئات / [82 / ب] المغفورة، أو ثواب الطاعة يذهب عقاب المعصية. {ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} توبة للتائبين، أو بيان للمتعظين. {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(2/106)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
116 - {أُتْرِفُواْ} انظروا " ع " {بَقِيَّةٍ} طاعة، أو تمييز، أو حظ من الله - تعالى - {الْفَسَادِ} الكفر أو الظلم.(2/106)
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}(2/107)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
118 - {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الإسلام، أو على دين واحد من ضلالة أو هدى، {مُخْتَلِفِينَ} في الأديان.(2/107)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
119 - {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} من أهل الحق، أو في الحق والباطل إلا من رحم بالطاعة، أو في الرزق غني وفقير إلا من رحم بالقناعة، أو في السعادة والشقاوة إلا من رحم بالتوفيق، أو في المغفرة إلاَّ من رحم بالجنة، أو يخلف بعضهم بعضاً يأتي قوم بعد قوم، خلفوا واختلفوا كقتلوا واقتتلوا {وَلِذَلِكَ} للاختلاف، أو للرحمة، أو للشقاوة والسعادة " ع "، أو للجنة والنار. {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}(2/107)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
120 - {فِى هَذِهِ} السورة " ع "، أو في الدنيا، أو الأنباء {الْحَقُّ} صدق الأنباء إذا كانت الإشارة للسورة، أو النبوة إذا كانت الإشارة للدنيا.(2/107)
سورة يوسف
مكية، أو إلا أربع آيات " ع ".
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تلك ءايات الكتاب المبين 2 إنا أنزلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين}(2/108)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
1 - {تلك آيات} هذه السورة، أو السورة التي قبلها، أو إشارة إلى ما افتتح به السورة من الحروف، علامات {الْكِتَابِ} العربي {الْمُبِينِ} حلاله وحرامه، أو هداه ورشده، أو المبين للأحرف الساقطة من ألسنة الأعاجم وهي ستة قاله معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه -.(2/108)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
2 - {أنزلناه} خبر يوسف - عليه الصلاة والسلام -، أو الكتاب عند الجمهور.(2/108)
2 - {نَقُصُّ} نبين والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها. {إذ قال يوسف لأبيه يآ أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رءياك على إخواتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبينٌ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم(2/108)
نعمته عليك وعلىءال يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}(2/109)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
4 - {رَأَيْتُ} رأى أبويه وإخوته ساجدين له فعبّر عنهم بالشمس والقمر والكواكب فالشمس أبوه والقمر أمه راحيل " ع " أو رأى الكواكب والشمس والقمر فتأولهم بإخوته والقمر بأُمه والشمس بأبيه عند الأكثرين، أو الشمس أمه والقمر أبوه لتأنيثها وتذكير القمر، {رأيتهم} تأكيد ل {رَأَيْتُ} الأول لبعد ما بينهما، أو رؤيته الأولى لهم والثاني لسجودهم، {سَاجِدِينَ} كسجود الصلاة إعظاماً لا عبادة، أو عبّر عن الخضوع بالسجود. وكانت رؤياه ليلة القدر في ليلة الجمعة، فلما قصّها على يعقوب خاف عليه حسد إخوته، فقال: هذه رؤيا ليل فلا تعمل عليها، فلما خلا به قال: {لا تقصص رؤياك} الآية [5] ، وقيل كان عمره عند الرؤيا سبع عشرة سنة. ويوسف أعجمي عبراني، أو عربي من الأسف لأنه حزن وأحزن.(2/109)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
6 - {يجتبيك} بالنبوة، أو بحسن الخلق فالخلق أو بترك الانتقام. {تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} عواقب الأمور، أو عبارة الرؤيا، أو العلم والحكمة. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوة، أو بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك {وعلى آل يعقوب} بأن 3 يجعل فيهم النبوة {كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ} نعمته على إبراهيم بالنجاة من النار وعلى إسحاق بالنجاة من الذبح. {لقد كان في يوسف وإخوته ءايات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى(2/109)
أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}(2/110)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
7 - {آيات} عبر، أو زواجر بما ظهر في يوسف من عواقب البغي عليه، أو بصدق رؤياه وصحة تأويله، أو بقهره شهوته / [83 / أ] حتى سلم من المعصية، أو بحدوث الفرح بعد شدة الإياس، قال ابن عطاء: ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها.(2/110)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
8 - {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} كانا أخوين للأبوين ثم ماتت أُمهما فكفلهما أبوهما وزاد لذلك في مراعاتهما فحسدوهما وكان عطفه على يوسف أكثر فلذلك كان حسده أكثر ثم اشتد بسبب رؤياه. {عُصْبَةٌ} العصبة، الجماعة أو ستة أو سبعة، أو من عشرة إلى خمسة عشرة، أو إلى أربعين. {ضَلالٍ مُّبِينٍ} محبة ظاهرة، أو خطأ في رأيه، أو جور في فعله لتفضيله الصغير على الكبير والقليل على الكثير ومن لا يراعي ماله على من يراعيه وكانوا حينئذ بالغين مؤمنين ليسوا بأنبياء لقولهم: {استغفر لنا ذنوبنا) {الي} (خاطئين} [97] ، أو لم يبلغوا لقولهم: {ويلعب} [12] .(2/110)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
9 - {أَرْضاً} لتأكله السباع، أو ليبعد عن أبيه، {صَالِحِينَ} بالتوبة، أو في دنياكم دون الدين.(2/110)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
10 - {قَآئِلٌ} شمعون، أو يهوذا، أو أكبرهم روبيل بن خالة يوسف {غيابة الْجُبِّ} قعره، أو ظلمته التي تغيب عن الأبصار. سمي غيابة لأنه يغيب فيه أثره، أو خبره، وكان رأسه حنيفاً وأسفله واسعاً. والجب بئر في بيت المقدس، أو بئر غير معينة، أو الجب ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن، أو ما لا طي له لأنها قطعت ولم يحدث فيها غير القطع قاله الزجاج. {يَلْتَقِطْهُ} يأخذه من(2/110)
اللقطة. {السَّيَّارَةِ} المسافرون لسيرهم، أو مارة الطريق. {قالوا يا آبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قالوا إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون}(2/111)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
12 - {نرتع} نلهوا ونلعب، أو نسعى وننشط، أو نتحافظ ويلهو، أو يرعى ويتصرف، أو نطعم ونتنعم من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب. ولم ينكر أبوهم اللعب لأنهم أرادوا المباح منه.(2/111)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
13 - {وَأَخَافُ} خافهم عليه فكنى عنهم بالذئب " ع " أو خاف الذئب لغلبته في الصحارى. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق(2/111)
{وتركنا يوسف عند متاعنا فأكلهُ الذئبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنا صَادِقِينَ وجآءُو على قميصه بدم كذب قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميلٌ والله المستعان على ما تصفون}(2/112)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
15 - {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ) ألهمناه، أو نَبَّأه في الجب {لَتُنَبِّئَنَّهُم} لتوبخنهم بفعلهم، بشره بخلاصه من الجب، أو أخبره بما يصنعون به قبل إلقائهم أياه في الجب إنذاراً له. {لا يَشْعُرُونَ} بأنك أخوهم، أو بأن الله - تعالى - أوحى إليه بالنبوة " ع ".(2/112)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
17 - {نَسْتَبِقُ} على الأقدام أو بالنضال، أو في اقتناص الصيد، أو في عملهم الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب. {صَادِقِينَ} وإن صَدَقْنا أو إن كنا أهل صدق لما صدقتنا.(2/112)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
18 - {بِدَمٍ} سخلة، أو ظبية. فلما رأى القميص غير مشقوق قال: يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أفأكل ابني وأبقى عليه قميصه. {كَذِبٍ} وصفه بالمصدر، وكان في القميص ثلاث آيات: حين جاءوا عليه بالدم، وحين قُد، وحين أُلقي على وجه أبيه. {سَوَّلَتْ} زينب، أو أمرت " ع "، قاله عن وحي، أو عن علم تقدم له به، أو عن حدس وفراسة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ومن الجميل أن أصبر، أو أمر نفسه بصبر جميل / لا جزع فيه، أو لا شكوى فيه، وسئل الرسول [صلى الله عليه وسلم] عنه فقال: " صبر لا شكوى فيه، من بث فلم يصبر " {الْمُسْتَعَانُ} على الصبر الجميل، أو على احتمال ما تصفون أو تكذبون ابتُلي يعقوب في كبره ويوسف في صغره. {وجآءت سيّارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسرّوه بضاعة والله(2/112)
عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}(2/113)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
19 - {فَأَدْلَىَ دَلْوَهُ} أرسلها ليملأها، ودلاها أخرجها ملأى فلما أرسلها تعلق بها يوسف {بشراي} بشرهم بذلك، أو نادى رجلاً اسمه {بشرى} يعلمه بالغلام، وألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة، أو ست سنين. أخرجته السيارة بعد ثلاثة أيام {وَأَسَرُّوهُ} كان أخوته بقرب الجب فلما أخرج قالوا: هذا عبدنا أوثقناه فباعوه وأسروا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم " ع "، أو أسرّ ابتياعه الذين وردوا الجب من أهل الرفقة لئلا يشركوهم وتواصوا أنها بضاعة استبضعناها من أهل الماء، أو أسر مشتروه بيعه من الملك لئلا يعلم أصحابهم وذكروا أنه بضاعة.(2/113)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
20 - {وَشَرَوْهُ} باعه إخواته من السيارة " ع "، أو السيارة من الملك. {بَخْسٍ} حرام لأنه ثمن حر " ع "، أو ظلم أو قليل {مَعْدُودَةٍ} عشرين أقتسمها العشرة كل واحد درهمين " ع "، أو اثنين وعشرين اقتسمها الأحد عشر كل واحد درهمين، أو أربعين درهماً: قال السدي: اشتروا بها خفافاً ونعالاً {مَعْدُودَةٍ} غير موزونة لزهدهم فيه، أو كانوا لا يزنون أقل من أوقية وهي أربعون وكان ثمنه أقل منها. {وَكَانُواْ فِيهِ} إخوته زهدوا فيه لما صنعوا به، أو السيارة لأنهم باعوه بما باعوا لعلمهم حريته، أو ظنوه عبداً فخافوا أن يظهر عليهم مالكه فيأخذه، قال عكرمة أعتق يوسف لما بيع. {وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً(2/113)
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين} 21 - {الَّذِى اشْتَرَاهُ} العزيز ملك مصر " أطيفر بن روجيب ". وامرأته " راعيل "، أو اسمه " قطفير " وكان على خزائن مصر، والملك حينئذ " الوليد بن الرياني " من العماليق " ع "، وباعه مالك بن دعر بعشرين ديناراً وزاده املك بَغْلَة ونعلين {أَكْرِمِى} أجملي منزله، أو أحلي منزلته بطيب الطعام ولين المرقد واللباس. {يَنفَعَنَآ} بالربح في ثمنه، أو نعتقه ونتبناه. قال ابن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة: العزيز وابنة شعيب وأبو بكر - رضي الله تعالى عنه - في استخلافه عمر - رضي الله تعالى عنه - {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ} بإخراجه من الجب، أو باستخلاف الملك له {عَلَى أَمْرِهِ} أمر الله - تعالى - فيما أراده فيقول له كن فيكون، أو أمر يوسف حتى يبلغ فيه مراده.(2/114)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
22 - {أَشُدَّهُ} أشد يوسف عشرون سنة، أو ثلاثون سنة، والأشد قوة الشباب وهو الحلم، أو ثماني عشرة سنة " ع "، أو خمس وعشرون أو ثلاثون، أو ثلاث وثلاثون، وآخر الأشد أربعون، أو ستون {حُكْماً} على الناس، أو عقلاً، أو حكمة في أفعاله، أو القرآن، أو النبوة {وَعِلْماً} فقهاً، أو نبوة {الْمُحْسِنِينَ} المطيعين، أو المهتدين " ع ".(2/114)
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رءا برهان ربّه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}(2/115)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
23 - {والتي هُوَ فِى بَيْتِهَا} " راعيل " امرأة العزيز " أطفير " أو زليخة وكان العزيز لا يأتي النساء. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين. {وغلقت / [84 / أ] الأَبْوَابَ} بكثرة الأغلاق، أو بشدة الاستيثاق {هَيْتَ لَكَ} هلم لك {هِئتُ لك} تهيأت لك، و " هيت " قبطية " ع "، أو سريانية، أو عربية. {إِنَّهُ رَبَّى} الله {أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} ، فلا أعصيه، أو العزيز أو أطفير ربي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه.(2/115)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
24 - {هَمَّتْ بِهِ} شهوة، أو استلقت له وتهيأت لوقوعه {وَهَمَّ} بضربها، أو التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، أو كان همه عظة، أو كان همه حديث نفس من غير عزم، أو همه ما في طباع الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له، أو عزم على وقاعها فحل الهميان وهو السراويل وجلس منها مجلس الرجل من المرأة " ع "، وجمهور المفسرين، وابتلاء الأنبياء بالمعاصي ليكونوا على وجل ويجدُّوا في الطاعة، أو ليعرفهم نعمته عليهم بالصفح والغفران، أو(2/115)
ليقتدى بهم المذنبون في الخوف والرجاء عند التوبة. {بُرهَانَ رَبِّهِ} نودي أتزني فتكون كطائر وقع ريشه فذهب يطير فلم يستطع، أو رأى صورة أبيه يقول أتهم بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء فخرجت شهوته من أنامله، وولد لكل من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف لم يولد له إلا غلامين ونقص بتلك الشهوة ولده، أو رأى مكتوباً على الحائط {ولا تقربوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] ، أو رأى أطفير سيده، أو ما أتاه الله - تعالى - من العفاف والصيانة وترك الفساد والخيانة، أو رأى ستراً فقال: ما وراء هذا فقالت: صنمي الذي أعبده سترته حياء منه فقال: إذا استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه. {السُّوءَ} الشهوة {وَالْفَحْشَآءَ} المباشرة، أو {السُّوءَ} الثناء القبيح، {وَالْفَحْشَآءَ} الزنا. {الْمُخْلَصِينَ} للطاعة و {المخلصين} للرسالة. {واستبقا الباب وقدت قميصه من دبرٍ وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ماجزاء من أراد(2/116)
بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليمٌ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قد من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين فلمّا رءا قميصه قدّ من دبرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين}(2/117)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
25 - {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} ليخرج منه هرباً وأسرعت إليه طلباً {وَقَدَّتْ} أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته فشقت قميصه إلى ساقه فسقط عنه وتبعته. {وَالْفَيَا) {وجدا} (سَيِّدَهَا} زوجها بلسان القبط.(2/117)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
26 - {هِىَ رَاوَدَتْنِى} لما كذبت عليه دافع عن نفسه بالصدق ولو كفت عن كذبها لكف عن الصدق، ولو خلص حبها من الشهوة لما كذبت عليه {شَاهِدٌ} صبي أنطقه الله - تعالى - في مهده، أو خلق من خلق الله - تعالى - ليس بإنس ولا جن، أو حكيم {مِّنْ أَهْلِهَآ} ابن عمها، أو شهادة القميص المقدود لو كان مقدوداً من قُبُل لَدلَّ على الطلب لكنه قد من دُبُر فَدَلَّ على الهرب.(2/117)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
28 - {كَيْدِكُنَّ} كذبها، أو إرادتها السوء، قاله الزوج، أو الشاهد.(2/117)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
29 - {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الأمر تسلية له إذ لا إثم فيه، أو عن هذا القول تصديقاً له في براءته قاله الزوج، لأنه لم يكن غيوراً، أو سلبه الله - تعالى - الغيرة إبقاء على يوسف حفظاً / [84 / ب] له من بادرته، وأمر زوجته الإقلاع عن مثل ذلك بالاستغفار {الخاطئين} خطئ إذا قصد الذنب وأخطأ إذا لم يقصده(2/117)
وكذلك الصواب والصوب.
(لعمرك أنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنما أهلكت مالي)
{وقال نسوةٌ في المدينة أمرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً وإنّا لنراها في ضلال مبين فلمّا سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكيناً وقالت أخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملكٌ كريمٌ قالت فذلكنّ الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما ءامره ليسجننّ وليكونا من الصاغرين قال رب السجن أحب إليّ ممّا يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهنّ أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنّه هو السميع العليم}(2/118)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
30 - {نِسْوَةٌ} أربع، امرأة الحاجب، وامرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة القهرمان، أو الخامسة امرأة السجان. {في المدينة} مصر، أوعين شمس شغاف {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} بَرَّأْن يوسف وذممنها وطعنَّ فيها {شَغَفَهَا} ولج حبه شغاف قلبها وهو حجابه، أو غلافه: جلدة رقيقة بيضاء تكون عليه وتسمى لباس القلب، أو باطن القلب، أو حبته، أو داء يكون في الجوف، أو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب، والشغف: الحب القاتل والشغف دونه " ع "، أو الشغف الجنون والشغف الحب {ضَلالٍ} عن الرشد، أو محبة شديدة.(2/118)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
31 - {بِمَكْرِهِنَّ إنكارهن، أو أسرَّت إليهن حبها له فأذعنه، {وأعتدت} من الإعتاد، أو العدوان {متكأ} مجلساً، أوالنمارق والوسائد التي يتكأ عليها، أو الطعام من قولهم: اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده لأنهم كانوا يعدون المتكأ للمدعو إلى الطعام فسمي به الطعام توسعاً والمراد به هنا البزماورد، أو الأترج " ع "، " والمتك " مجفف الأترج، أو كل ما يحز بالسكين، أو عام في كل الطعام. {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه " ع "، أو وجدن شبابه في الحسن والجمال كبيراً، أو حِضْنَ، والمرأة إذا جزعت أو خارت حاضت والإكبار الحيض، قال:
(نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً)
{قطعن أيدهن} حتى بانت، أو جرحنها حتى دميت. {حَاشَ لِلَّهِ} معاذ الله أو سبحان الله. مأخوذ من المراقبة، ما أحاشي في هذا الأمر أحداً أني ما أراقبه، أو من قولهم: كنت في حشا فلان أي ناحيته، فحاشى فلاناً أي أعزله في حشا وهو الناحية {بَشَراً} أهل للمباشرة، أو من جملة البشر لما علمن من عفته إذ لو كان بشراً لأطاعها، أو شبهنه بالملائكة حسناً وجمالاً {كَرِيمٌ} مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة.(2/119)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
33 - {أَصْبُ} أتابع، أو أميل، قال:
(إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى)
{ثم بدا لهم من بعد ما ما رأوا الآيات ليسجننّه حتى حين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنى أرني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين}(2/120)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
35 - {الأَيَاتِ} قدِّ القميص وقطع الأيدي، أو ما ظهر من عفته وجماله {حِينٍ} هنا ستة أشهر، أو سبع سنين، أو زمان غير محدود، قالت لزوجها: قد فضحي هذا العبد العبراني، وقال: إني راودته عن نفسي فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فحبسه.(2/120)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
36 - {فَتَيَانِ} عبدان والعبد يسمى فتى صغيراً كان أو كبيراً، كان أحدهما على طعام الملك الأكبر " الوليد بن الريان " والآخر ساقية فاتُّهما بسمه، فلما دخلا معه سألاه عن علمه فقال: عابر، فسألاه عن رؤياهما صدقاً منهما، أو كذباً ليجربا علمه فلما أجابهما قالا: كنا نلعب فقال: {قضي الأمر} الآية [41] ، أو كان المصلوب كاذباً والآخر صادقاً. {خَمْراً} / [85 / أ] عنباً سماه بما يؤول إليه، أو أهل عمان يسمون العنب خمراً. {الْمُحْسِنِينَ} قالوه لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم، أو كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالأجر، أو كان لا يرد عذر معتذر ويقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه، أو ممن أحسن العلم، أو نراك من المحسنين إن نبأتنا بتأويل هذه الرؤيا. {قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي(2/120)
إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالأخرة هم كافرون واتبعت ملة ءاباءى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئٍ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}(2/121)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
37 - {تُرْزَقَانِهِ} لا يأتيكما في النوم إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة قبل إتيانه، أو لا يأتيكما في اليقظة إلا أخبرتكما به لأنه كان يخبر عن الغيب كعيسى، أو كان الملك إذا أراد قتل إنسان أرسل إليه طعاماً معروفاً فكره يوسف تعبيرها لئلا يحزنه فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه فلما ألح عليه عبّرها له، قاله ابن جريج {ذَلِكُمَا} تأويل الرؤيا، وعدل عن العبارة إلى قوله: {تركت ملة قوم} لما كان في عبارتها من الكراهة، ورغبهما في طاعة الله - تعالى -.(2/121)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
38 - {فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} بالنبوة {وَعَلَى النَّاسِ} بأن بعثنا إليهم " ع ". {يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(2/121)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
40 - {الْقَيِّمُ} المستقيم، أو الحساب البَيَّن، أو القضاء الحق " ع ". {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقى ربّه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الأمر الذي فيه تستفتيان وقال الذي ظنّ أنّه ناجٍ منهما(2/121)
أذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فلبث في السجن بضع سنين}(2/122)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
41 - {قَُضِىَ الأَمْرُ} السؤال والجواب. أو استقصى التأويل، ويجوز أن يكون قوله ذلك عن وحي.(2/122)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
42 - {ظَنَّ} تيقن، أو على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن فلم يقطع بها، أو لم يقطع بصدقها فكان ظنه لشكه في صدقهما {رَبٍّكَ} سيدك " الوليد بن الريان " رجاء للخلاص بذكره عنده {فَأَنسَاهُ} الضمير للساقي نسي ذكر يوسف عند ربه، سيده، أو ليوسف نسي ذكر الله - تعالى - بالاستغاثة به، قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] " رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث " قال " ع ": عوقب بطول السجن بضع سنين بكلمته ولو ذكر ربه لخصله. وكانت مدة لبثه في السجن سبع سنين، أو ثنتي عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة والبضع منها مدة عقوبته على الكلمة لا مدة الحبس كله، قيل لبث سبعاً عقوبة بعد الخمس. والبضع من ثلاث إلى سبع، أو تسع، أو عشر " ع "، أو إلى الخمس حكاه الزجاج، ولا يذكر البضع إلا مع العشر أو العشرين إلى التسعين ولا يذكر بعد المائة، قاله الفراء، ورأى الملك الأكبر الوليد رؤياه(2/122)
لطفاً بيوسف ليخرج من السجن ونذيراً بالجدب ليتأهبوا له. {وقال الملك إني ارى سبع بقرات سمانٍ يأكلهن سبعٌ عجافٌ وسبع سنبلات خضرٍ وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون قالوا أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمانٍ يأكلهن سبع عجافٌ وسبع سنبلاتٍ خضرٍ وأخر يابساتٍ لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون 47 ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلن ما قدمتم لهنّ إلا قليلاً مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}(2/123)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
44 - {أَضْغَاثُ} أخلاط، أو ألوان، أو أهاويل، أو أكاذيب، أو شبهة أحلام، أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا، قال: كضِغث حُلم غُرَّ منه حالِمه والضِغث حزمة الحشيش المجموع بعضه إلى بعض، وقيل ما ملأ الكف.(2/123)
والأحلام في النوم مأخوذة من الحِلْم وهو الأناة والسكون، لأن النوم حال أناةٍ وسكون، ويجوز أن يكونوا صرفوا عن عبارتها لطفاً بيوسف ليكون سبباً في / [85 / ب] خلاصه.(2/124)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
45 - {أُمَّةٍ} حين " ع "، أو نسيان. أو أمة من الناس، قال الحسن رضي الله تعالى عنه - ألقوه في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة. {فَأَرْسِلُونِ} لم يكن السجن في المدينة فانطلق إليه وذلك بعد أربع سنين من فراقه.(2/124)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
46 - {سُنبُلاتٍ خُضْرٍ} بقر الخصب سمان وسنابله خضر، وبقر الجدب عجاف وسنابلها يابسات فعبّر ذلك بالسنين. {النَّاسِ} الملك وقومه، ويحتمل أنه عبّر بالناس عن الملك تعظيماً له.(2/124)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
47 - {دأبا} تباعاً، أوالعادة المألوفة في الزراعة. {تَزْرَعُونَ} خبر أو أمر لأنه نبي يأمر بالمصالح. {فذروه} أمرلأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل.(2/124)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
48 - {شِدَادٌ} على أهلها لجدبها، كان يوسف يضع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفاً، فقربه إليه يوماً فأكله كله فقال يوسف هذا أول يوم من السبع الشداد، {قَدَّمْتُمْ} ادخرتم لهن. {تُحْصِنُونَ} تدخرون، أو تخزنون في الحصون.(2/124)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
49 - {يغاث الناس} بنزول الغيث " ع "، أو بالخصب {يَعْصِرُونَ} العنب والزيتون من خصب الثمار، أو يحلبون الماشية من خصب المرعى، أو يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر {مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14] أو(2/124)
ينجون من العصرة وهي النجاة، قاله أبو عبيدة والزجاج، أو يحبسون ويفضلون. وليس هذا من تأويل الرؤيا وإنما هو خبر أطلعه الله - تعالى - عليه علماً لنبوته. {وقال الملك أئتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة الآتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ماخطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت أمرأت العزيز الئان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}(2/125)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
50 - {ارْجِعْ إِلَىَ رَبِّكَ} توقف عن الخروج لئلا يراه الملك خائناً ولا مذنباً. قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : " رحم الله يوسف أن كان ذا أناة لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليَّ لخرجت سريعاً " {مَا بَالُ النِّسْوَةِ} سأل عنهن دونها إرادة أن لا(2/125)
يبتذلها بالذكر، أو لأنهن شاهدات عليه. {إِنَّ رَبِّى} الله - تعالى - أو سيده العزيز. 51 - {رَاوَدتُّنَّ} راودنه على طاعتها فيما طلبت منه، أو راودته وحدها فجمعهن احتشاماً. {مَا عَلِمْنَا} شهدن على نفي علمهن لأنه نفى {حَصْحَصَ الْحَقُّ} وضع وبان " ع "، وفيه زيادة تضعيف مثل كبو وكبكوا قاله الزجاج، مأخوذ من حص شعره إذا استأصل قطعه، والحصة من الأرض قطعة منها، فحصحص الحق انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه. {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ} برأة الله - تعالى - عند الملك بشهادة النسوة وبإقرار امرأة العزيز واعترافها بذلك توبة بما قرفته به.(2/126)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
52 - {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} يوسف أني لم أكذب عليه الآن في غيبته.(2/126)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
53 - {وما أبرئ نفسي} لأني راودته، لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة، قالته امرأة العزيز، أو قال يوسف بعد ظهور صدقه {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} العزيز أني لم / أخنه في زوجته، فقالت امرأة العزيز: ولا حين حللت السراويل، فقال: {ما أبرئ نَفْسِى} ، أو غمزه جبريل - عليه السلام - فقال: ولا حين هممت، فقال: {وما أبرئ نَفْسِى} " ع " أو قال الملك الذي مع يوسف: اذكر ما هممت به، فقال: {وَمَآ أبرئ نَفْسِى} قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه -، أو قال العزيز {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} يوسف {أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} وأغفل عن مجازاته على أمانته {وما أبرئ نفسي} من سوء الظن به. {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال(2/126)
اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}(2/127)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
54 - {أَسْتَخْلِصْهُ} لما علم الملك الأكبر أمانته طلب استخدامه في خاص خدمته {مَكِينٌ} وجيه، أو متمكن في الرفعة والمنزلة {أَمِينٌ} آمن لا يخاف العواقب، أو ثقة مأمون، أو حافظ {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} استدل بكلامه على عقله، وبعفته على أمانته.(2/127)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
55 - {خَزَآئِنِ} الأموال، أو الطعام، أو الخزائن: الرجال، لأن الأقوال والأفعال مخزونة فيهم، وهذا تعمق مخالف للظاهر، وهذا مجوز لطلب الولاية لمن هو أهل لها، فإن كان المولى ظالماً جاز تقلد الولاية منه إذا عمل الوالي بالحق لأن يوسف قبل من فرعون، أو لا يجوز ذلك لما فيه من تولي الظالمين ومعونتهم بالتزكية وتنفيذ أعمالهم، وإنما قبل يوسف من الملك ولاية ملكه الخاص به، أو كان فرعون يوسف صالحاً وكان فرعون موسى طاغياً، والأصح أن ما جاز لأهله توليه من غير اجتهاد في تنفيذه جازت ولايته من الظالم كالزكوات المنصوصة، وما لا يجوز أن ينفردوا به كأموال الفيء لا يجوز توليه من الظالم، وما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضاء فإن كان حكماً بين متراضيين أو توسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز. {حَفِيظٌ} لما استودعتني. {عَلِيمٌ} بما وليتني، أو {حَفِيظٌ) {بالكتاب} (عَلِيمٌ} بالحساب، وهو أول من كتب في القراطيس، أو {حَفِيظٌ} للحساب {عَلِيمٌ} بالألسن أو {حَفِيظٌ} بما وليتني، {عَلِيمٌ} بسني المجاعة، فيه دليل على جواز تزكية النفس عند حاجة تدعو إلى ذلك. {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خيرٌ للذين ءامنوا وكانوا يتقون}(2/127)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
56 - {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} استخلفه الوليد على عمل أطيفر وعزله، قال مجاهد: وأسلم على يده، قال " ع ": ملك بعد سنة ونصف. ثم مات أطفير(2/127)
فزوجه الملك بامرأته راعيل فوجدها يوسف عذراء، وولدت له ولدين، أفرائيم وميشا، ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف، ولما رأته في فوكبه بكت ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكاً فضمها إليه فكانت من عياله حتى ماتت ولم يتزوجها. {يَتَبَوَّأُ} يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث شاء، أو يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض / [88 / ب] الأمر إليه. {بِرَحْمَتِنَا} نعمة الدنيا، {وَلا نُضِيعُ} ثواب {الْمُحْسِنِينَ} في الآخرة، أو كلاهما في الدنيا، أو كلاهما في الآخرة، ونال يوسف ذلك ثواباً على بلواه، أو تفضلاً من الله - تعالى - وثوابه باقٍ في الآخرة بحاله.(2/128)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
57 - {وَلأَجْرُ الأَخِرَةِ خَيْرٌ} من أجر الدنيا لأنه دائم وأجر الدنيا منقطع، أو خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا لما فيه من التبعة. {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين 59 فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون}(2/128)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
58 - {فَعَرَفَهُمْ} من غير تعريف، أو ما عرفهم حتى تعرفوا إليه، أو عرفهم بلسانهم العبراني، قال " ع "،: لما عبر أبوهم بهم فلسطين فنزل وراء النهر سموا عبرانيين. وجاءو ليمتاروا في سني القحط التي ذكرها يوسف في عبارته فدخلوا عليه لأنه كان يتولى بيع الطعام لعزته. {مُنكِرُونَ} لانهم فارقوه صغيراً فكبر، وفقيراً فاستغنى، وباعوه عبداً فصار ملكاً.(2/128)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
59 - {بِجَهَازِهِم} كال لكل واحد منهم بعيراً بعدتهم. {ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ} خلا بهم وقال قد ارتبت بكم وأخشى أن تكونوا عيوناً فأخبروني من أنتم؟(2/128)
فذكروا حالهم وحال أبيهم وإخواتهم يوسف وبنيامين، فقال: أئتوني بهذا الأخ يظهر أنه يستبرئ بذلك أحوالهم، أو ذكروا له أنه أحب إلى أبيهم منهم فأظهر لهم محبة رؤيته {الْمُنزِلِينَ} المضيفين من النزل وهو الطعام، أو خير من نزلتهم عليه من المنزل وهو الدار، وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا فرهنوا شمعون، واختاره لأنه كان يوم الجب أجملهم قولاً ورأياً.(2/129)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
61 - {سَنُرَاوِدُ} المراودة: الاجتهاد في الطلب مأخوذ من الإرادة {لفاعلون} العود بأخيهم، أو المرادوة وطلب أخاه وإن كان فيه إحزان أبيه لجواز أن يكون أمر بذلك ابتلاء ومحنة أو لتتضاعف له المسرة برجوع الابنين، أو ليتنبه أبوه على حاله، أو ليقدم سرور أخيه بلقائه قبل إخوته لميله إليه.(2/129)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
62 - {لفتيته} الذين كالوا الطعام، أو غلمانه {بِضَاعَتَهُمْ} الورق التي اشتروا بها الطعام، أو ثمانية جرب فيها سويق المقل. {فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منّا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنّا له لحافظون قال هل ءامنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين}(2/129)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
63 - {رَجَعُواْ إِلَى أَبِيهِمْ} بالعربات من فلسطين، أو بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من [حِسمى] ، وكانوا بادية أهل إبل وشاء {مُنِعَ} سيمنع {نَكْتَلْ} أي إن أرسلته أمكننا أن نعود فنكتال(2/129)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
64 - {هل آمنكم} لما ضمنوا حفظ يوسف وأضاعوه قال لهم ذلك في حق أخيه.(2/129)
{ولمّا فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعيرٍ ذلك كيلٌ يسيرٌ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتننّى به إلا أن يحاط بكم فلمّا ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل}(2/130)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
65 - {مَا نَبْغِى} استفهام أي ما نبغي بعد هذا الذي عاملنا به أو ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك. {كَيْلَ بَعِيرٍ} الذي نحمل عليه أخانا، أو كان يوسف قَسَّط الطعام فلا يعطي لأحد أكثر من بعير {يَسِيرٌ} لا يقنعنا، أو يسير على من يكتله لنا.(2/130)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
66 - {مَوْثِقاً} إشهادهم الله على أنفسهم، أو حلفهم بالله، أوكفيل يكفل {يُحَاطََ بِكُمْ} يهلك جميعكم، أو تغلبوا على أمركم. {وقال يابنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبوابٍ متفرقةٍ وما أغنى عنكم من الله من شيءٍ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولمّا دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىءٍ إلا حاجةً في نفس يعقوب قضاها وإنّه لذو علمٍ لما علّمناه ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}(2/130)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
67 - {لا تَدْخُلُواْ} مصر من باب من أبوابها عند الجمهور، أو عبر عن الطريق / [87 / أ] بالباب فأراد طريقاً من طرقها خشي عليهم العين لجمالهم، " ع "، أو خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً. {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم} من شيء أحذره أشار بالرأي أولاً، وفوض إلى الله أخيراً.(2/130)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
68 - {حاجة} سكون نفسه بالوصية لحذره العين {لذوعلم} متيقن وعدنا، أو حافظ لوصيتنا، أو عامل بما علم. {ولمّا دخلوا على يوسف ءاوى إليه أخاه قال إنّى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}(2/131)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
69 - {أَنَاْ أَخُوكَ} مكان أخيك الهالك، أو أخوك يوسف {فَلا تَبْتَئِسْ} لا تحزن، أو لا تأيس. {يَعْمَلُونَ} بك وبأخيك فيما مضى، أو باستبدادهم دونك بمال أبيك. {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم}(2/131)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
70 - {بِجَهَازِهِمْ} الطعام وحمل البعير لأخيهم {السِّقَايَةَ} والصواع واحد " ع "، وكل شيء يشرب فيه فهو صواع، قال:
(نشرب الخمر بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا)
وكان إناء الملك الذي يشرب فيه من فضة، أو ذهب، كال به طعامهم مبالغة في إكرامهم، أو هو المكوك العادي الذي تلتقي طرفاه. {أَذَّنَ} نادى مناد {الْعِيرُ} الرفقة، أو الإبل المرحولة المركوبة. {لَسَارِقُونَ} جَعْلُ السقاية في رحل أخيه عصيان، فعله الكيّال ولم يأمر به يوسف، أو فعله يوسف فلما فقد الكيال السقاية ظن أنهم سرقوها فقال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، أو كانت خطيئة ليوسف جوزي عليها بقولهم: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} [77] أو كان النداء(2/131)
بأمر يوسف وعني بالسرقة سرقتهم ليوسف من أبيه وذلك صدق، لأنهم كالسارق لخيانتهم لأبيهم.(2/132)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
72 - {صُوَاعَ} الصواع والصاع واحد، وكانت مشربة للملك أو كالمكوك يكال به. (بَعِيرٍ) {جمل عند الجمهور، أو حمار في لغة. بذله المنادي عن نفسه لقوله: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} ، أو بذله عن الملك من طعام الملك ويجوز أن يكون الحمل معلوماً عندهم كالوسق فيكون جعلاً معلوماً، ويمكن أن يكون مجهولاً. {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاءه إن كنتم كاذبين قالوا جزاءه من وجد في رحله فهو جزاءه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علمٍ عليمٌ}(2/132)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
73 - {لَقَدْ عَلِمْتُم} ذكروا ذلك لأنهم عرفوا أمانتهم بردهم البضاعة التي وجدوها في رحالهم {لِنُفْسِدَ} لنسرق.(2/132)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
75 - {جَزَآؤُهُ} جزاء من سرق أن يسترق كذلك يُجزى السارق بالاسترقاق، كان هذا دين يعقوب.(2/132)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
76 - {استخراجها} الضمير للسرقة، أو للسقاية، أو الصاع يذكر ويؤنث قاله الزجاج {كِدْنَا} صنعنا، أو دبرنا، أو أردنا. .
(كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى)(2/132)
{دِينِ الْمَلِكِ} سلطانه " ع "، أو قضاؤه، أو عادته، كان الملك يضاعف غرم السارق ولا يسترقه. {إلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن يسترق السارق، أو أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل. {دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالتقوى، أو بإجابة الدعاء، أو بمكابدة النفس وقهر الشهوة، أو بالتوفيق والعصمة، أو بالعمل {وَفَوْقَ كُلِّ} عالم من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى الله - تعالى - فيوسف أعلم من إخوته وفوقه من هو أعلم منه، أو أراد تعظيم العلم أن يحاط به، أو أن يستصغر العالم نفسه ولا يعجب بعلمه / [87 / أ] وعرض أخاه لتهمة السرقة إذ لم يجد سبيلاً إلى أخذه إلا بها، أو كان أخوه يعلم الحال فلم يقع منه موقعاً، أو أشار بذلك إلى سرقة تقدمت منهم، أو نبه بجعل بضاعتهم في رحالهم على المخرج من جعل الصواع في رحل أخيهم فتزول بذلك التهمة. {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون}(2/133)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
77 - {سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} كلمة أجراها الله على ألسنتهم عقوبة ليوسف، أو أرادوا أنه جذبه عرق أخيه يوسف في السرقة لأنه كان من أبويه، والاشتراك في النسب يوجب الاشتراك في الأخلاق، وكان يوسف سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق. أو كان مع إخوته على طعام فأخذ عرقاً فخبأه فعيّروه بذلك، أو كان يسرق من طعام المائدة للمساكين، أو كذبوا عليه في ذلك، أو كانت منطقة إسحاق للكبير من ولده وكانت عند عمة يوسف لأنها الكبرى فلما أراد يعقوب أخذ يوسف من كفالتها جعلت المنطقة في ثوبه ثم أظهرت ضياعها واتهمته بها فصارت في حكمهم أحق به، وفعلت ذلك لشدة ميلها إليه. {فَأَسَرَّهَا} قولهم: {إِن يَسْرِقْ} ، أو قوله: {أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} " ع " (شَرٌّ مَّكَاناً} بظلم أخيكم. وعقوق أبيكم، أو شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. {تَصِفُونَ} تقولون، أو تكذبون. {قالوا يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من(2/133)
المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذا لظالمون}(2/134)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
78 - {شَيْخاً كَبِيراً} في السن، أو القدر. {مَكَانَهُ} عبداً بدله {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في هذا إن فعلته، أو بإكرامنا وتوفية كيلنا ورد بضاعتنا.(2/134)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
79 - {لظالمون} إن أخذنا برئياً بسقيم، أو حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم في إرقاق السارق. {فلمّا استيئسوا منه خلصوا نجيّاً قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرّطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنّا للغيب حافظين وسئل القرية التي كنّا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون}(2/134)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
80 - {استيئسوا} من رد أخيكم عليهم، أو تيقنوا أنه لا يرد {خَلَصُواْ نَجِيّاً} انفردوا يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم {كَبِيرُهُمْ} في العقل والعلم شمعون الذي ارتهنه يوسف لما رجعوا إلى إبيهم، أو في السن روبين ابن خالة يوسف، أو في الرأي والتمييز يهوذا. {مَّوْثِقاً} عند أنفاذ ابنه معكم {فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} ضيعتموه {فَلَنْ أَبْرَحَ} أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع، أو يحكم الله لي بالخروج منها عند الجمهور، أو بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك.(2/134)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
81 - {وَمَا شَهِدْنَآ} بأن السارق يسترق إلا بما علمنا، أو ما شهدنا عندك(2/134)
بسرقته إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله {لِلْغَيْبِ} من سرقته، أو استرقاقه.(2/135)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
82 - {الْقَرْيَةَ} مصر سل أهلها، أو سلها نفسها لتنطق وإن كانت جماداً {وَالْعِيرَ} القافلة وتسمى الإبل تشبيهاً، أو الحمير سل أهلها أو سلها فإن الله - تعالى - ينطقها معجزة لك. {قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنّه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين قال إنّما اشكوا بثّى وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}(2/135)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
83 - {سَوَّلَتْ} زينت، أو سهلت. {أمْرًا} قولكم إنه سرق. {بِهِمْ جَمِيعاً} يوسف وبنيامين والأخ المتخلف بمصر.(2/135)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
84 - {يا أسفا} يا حزناً " ع "، أو يا جزعاً شكا إلى الله ولم يشك منه، أو أضمر الدعاء تقديره " يارب أرحم أسفي " {وَابْيَضَّتْ} ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه، أو ذهب بصره {كَظِيمٌ} بالكمد، أو مخفي حزنه، كظم غيظه: أخفاه.(2/135)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
85 - {تفتأ} لا تزال {حَرَضاً} هرماً أو دنفاً من المرض وهو ما دون / [88 / أ] الموت " ع "، أو فاسد العقل، وأصل الحرض فساد الجسم والعقل بمرض أو عشق، قال:
(إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم)(2/135)
{الْهَالِكِينَ} الميتين اتفاقاً.(2/136)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
86 - {بَثِّى} همي " ع " أو حاجتي، والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس {مَا لا تَعْلَمُونَ} صدق رؤيا يوسف وأني أسجد له، أو أحست نفسه لما أخبروه بدعاء الملك وقال: لعله يوسف، وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبي. دخل على يعقوب رجل فقال ما بلغ بك ما أرى، قال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله - تعالى - إليه يا يعقوب تشكوني فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فكان بعد ذلك يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. {يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من رّوح الله إنه لا يائس من رّوح الله إلا القوم الكافرون فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسّناً وأهلنا الضّر وجئنا ببضاعةٍ مّزجاةٍ فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين}(2/136)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
87 - {فَتَحَسَّسُواْ} استعلموا وتعرفوا، أخذ من طلب الشيءَ بالحس {رَّوْحِ اللَّهِ} فرجه، أو رحمته من الريح التي تأتي بالنفع. أمرهم بذلك، لأنه تنبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة، وسأل يعقوب ملك الموت هل قبضت روح يوسف قال: لا.(2/136)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
88 - {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} استعطفوه ليرد أخاهم، أو ليوفي كيلهم ويحابيهم. {الْعَزِيزُ} الملك، أو كان اسماً لكل من ملك مصر. {بِبِضَاعَةٍ} صوف وسمن أو حبة الخضراء والصنوبر، أو خَلِق الحبل والغِرارة، أو دراهم {مُّزْجَاةٍ} رديئة، أو كاسدة، أو قليلة، وأصل الإزجاء السوق بالدفع،(2/136)
{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} الذي قد كان كاله لأخيهم، أو مثل الكيل الأول، لأن بضاعتهم الثانية أقل. {وَتَصَدَّقْ} تفضل بما بين سعر الجياد والردئية، لأن الصدقة محرمة على الأنبياء، أو تصدق بالزيادة على حقنا ولا تحرم الصدقة إلا على محمد وآله لا غير، أو برد أخينا، أو تجوز عنا. وكره مجاهد أن يقال في الدعاء: اللهم تصدق عليَّ، لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب. {قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا اءنّك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد منّ الله علينا إنّه من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}(2/137)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
89 - {هَلْ عَلِمْتُم} قد علمتم ك {هَلْ أتى} [الإنسان: 1] لما قالوا مسنا وأهلنا الضر رق لهم فقال: {هَلْ عَلِمْتُم} {جَاهِلُونَ} جهل الصغر، أو جهل المعاصي.(2/137)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
90 - {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالسلامة ثم بالكرامة {مَن يَتَّقِ} الزنا {وَيَصْبِرْ} على الغربة، أو يتقي الله ويصبر على بلائه. {لا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في الدنيا أو الآخرة.(2/137)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
91 - {آثرك} فضلك، من الإيثار: وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر، وإنما قالوا: {لَخَاطِئِينَ} وإن كانوا إذ ذاك صغاراً لأنهم خطئوا بعد البلوغ بإخفاء صنعهم.(2/137)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
92 - {لا تَثْرِيبَ} لا تعيير، أو لا تأنيب. أو [لا] إباء عليكم في قبولكم.(2/137)
{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}(2/138)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
93 - {بَصِيراً} من العمى ولولا أن الله أعلمه بأنه يبصر بعد العمى لم يعلم يوسف أنه يرجع إليه بصره، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - أو مستبصراً بأمري لأنه إذا شم القميص عرفني قال أخوه يهوذا: أنا حملت إلى أبيك قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا / أحمل القميص الآن لأسره ويعود إليه بصره فحمله {بِأَهْلِكُمْ} ليتخذوا مصر داراً.(2/138)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
94 - {فَصَلَتِ} خرجت من مصر إلى الشام. قال: أبوهم لأولاد بنيه لأن بنيه كانوا غُيَّبا {تُفَنِّدُونِ} تسفهون " ع "، أو تكذبون، وجد ريح القميص من مسافة عشرة أيام، أو ثمانية أيام " ع "، أو ستة أيام.(2/138)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
95 - {ضَلالِكَ} خطئك، أو جنونك قال الحسن - رضي الله تعالى عنه -: وهذا عقوق. أو في محبتك. {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}(2/138)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
96 - {الْبَشِيرُ} يهوذا، سمي بذلك لأنه جاءه ببشارة، {بَصِيراً} من العمى، أو بخبر يوسف {مَا لا تَعْلَمُونَ} من صحة رؤيا يوسف، أو قول ملك الموت ما قبضت روحه، أو من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول الفرج ونيل الثواب.(2/138)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
97 - {اسْتَغْفِرْ} طلبوا أن يحللهم لما أدخلوا عليه من آلام الحزن، أو لأنه نبي تجاب دعوته، أقام يعقوب وبنوه عشرين سنة يطلبون التوبة لإخوة يوسف فيما فعلوه بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل - عليه السلام - يعقوب - عليه الصلاة والسلام - فعلمه هذا الدعاء، يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي، ويا غوث المؤمنين أغثني، ويا عون المؤمنين أعني، ويا حبيب التوابين تُب علي. فاستُجيب له.(2/139)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
98 - {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ} أخره إلى صلاة الليل، أو السَّحَر أو ليلة الجمعة " ع " مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أو دافعهم بالتأخير، قال عطاء: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألا ترى قول يوسف {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} الآية [92] وقول يعقوب {سوف أستغفر}(2/139)
{فلمّا دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله ءامنين ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبتِ هذا تأويل رءياى من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بى إذ أخرجني من السجن وجاءبكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتي إنّ ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد ءاتينى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولى في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصاحين}(2/140)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
99 - {فَلَمَّا دَخَلُواْ} خرج يوسف وأهله والملك الأكبر واستقبلوا يعقوب على يوم من مصر فقال لهم: ادخلوا مصر آمنين من فرعون، أو من الجدب والقحط. أو لم يجتمعوا به إلا بعد دخولهم عليه بمصر فقوله: ادخلوا أي استوطنوا مصر - إن شاء الله - استيطانكم، أو الاستثناء متعلق بقوله: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي) دخلوا مصر وهي ثلاثة وتسعون ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة وتسعون ألفاً [أ] ودخلوا وهم اثنان وسبعون، وخرجوا منها مع موسى وهم ستمائة ألف.(2/140)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
100 - {أَبَوَيْهِ} أبوه وأمه، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - وابن إسحاق، أو أبوه وخالته وكانت وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بأخيه بنيامين {الْعَرْشِ} السرير. {سُجَّداً} سجدوا له بأمر الله - تعالى - تحقيقاً لرؤياه، أو كان السجود تحية من قبلنا وأعطيت هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة {تأويل رؤياي} كان بين رؤياه وتأويلها ثمانون سنة، أو أربعون، أو ستة وثلاثون، أو اثنان وعشرون، أو ثماني عشر، ورؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة، وإنما أمره يعقوب بكتمانها لأنه رآها صغيراً فلم تكن كرؤيا الأنبياء، أو خاف طول المدة مع مكابدة البلوى وخشي تعجيل الأذى بكيد الإخوة {مِنَ السِّجْنِ} / [8 / أ] شكر على(2/140)
الإخراج من السجن ولم يذكر الجب لئلا يكون معرضاً بتوبيخ إخوته بعد قوله: {لا تَثْرِيبَ} أو لأنه ما تخوفه في السجن من المعرة لم يكن في الجب فكانت النعمة فيه أتم، أو لأنه انتقل من بلوى السجن إلى نعمة الملك بخلاف الجب فإنه انتقل منه إلى الرق. {مِّنَ الْبَدْوِ} كانوا بادية بأرض كنعان أهل مواشي أو جاءوا في البادية وكانوا أهل مدن بفلسطين، أو ناحية حران من أهل الجزيرة قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - {نَّزَغَ} حرش وأفسد. {لَطِيفٌ} لطف بيوسف بإخراجه من السجن ومجئ أهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان.(2/141)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
101 - {مِنَ الْمُلْكِ} لأنه كان على مصر من قِبَل فرعون. {تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} عبار الرؤيا، أو الإخبار عن حوادث الزمان {مُسْلِماً} مخلصاً للطاعة، أو على ملة الإسلام، قال السدي: " كان أول نبي تمنى الموت " ولما لقي البشير يعقوب قال: على أي دين خلفت يوسف قال على الإسلام قال الآن تمت النعمة. {بالصالحين} أهل الجنة. {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسئلهم عليه من أجرٍ إن هو إلا ذكرٌ للعالمين}(2/141)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
102 - {ذَلِكَ} قصة يوسف وإخوته من أخبار الغيب {لَدَيْهِمْ} مع إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} في إلقائه في الجب. {وكأين من ءايةٍ في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا هم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة(2/141)
أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(2/142)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
106 - {مُّشْرِكُونَ} يقولون: الله ربنا وآلهتنا ترزقنا، أو المنافق يؤمن بظاهره ويكفر بباطنه " ح "، أو قول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان.(2/142)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
108 - {سَبِيلِى} دعوتي، أو سنتي {بَصِيرَةٍ} هدى، أو حق. {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خيرٌ للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنّوا أنّهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شىءٍ وهدى ورحمةً لقومٍ يؤمنون}(2/142)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
109 - {مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحكم. ولم يبعث الله - تعالى - نبياً من البادية قط ولا من النساء ولا من الجن " ح ".(2/142)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
110 - {استيأس} من تصديق قومهم " ع "، أومن تعذيبهم " م ". {وَظَنُّواْ} ظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم " ع "، أو تيقن الرسل أن قومهم قد كَذَبوهم {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} جاء الرسل نصر الله، أو جاء قومهم عذاب الله " ع " {فَنُجِّىَ} الأنبياء ومن آمن معهم.(2/142)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
111 - {قَصَصِهِمْ} قصص يوسف وإخوته اعتبار للعقلاء بنقل يوسف من الجب والسجن والذل والرق إلى العز والملك والنبوة فالذي فعل ذلك قادر على نصر محمد [صلى الله عليه وسلم] وإعزاز دينه وإهلاك عدوه. {ماكان) {القرآن} (حَدِيثاً} يُختلق {وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل وسائر الكتب، أو ما كان القصص المذكور حديثاً يُختلق ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتب.(2/142)
سورة الرعد
مكية، أو مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} [31] وما بعدها.
بسم الله الرحمن الرحيم
{المر تلك ءايات الكتب والذى أنزل إليك من رّبك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون 3 الله الذى رفع السّماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخّر الشّمس والقمر كل يجرى لأجل مسمّى يدبر الأمر يفصل الايات لعلّكم بلقآء ربّكم توقنون}(2/143)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
1 - {آيات الْكِتَابِ} الزبور، أو التوراة والإنجيل، أو القرآن.(2/143)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
2 - {بِغَيْرِ عَمَدٍ} لها عمد لا ترى " ع "، أو لا عمد لها. {وهو الذى مدّ الأرض وجعل فيها رواسى وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الّيل النهار إن فى ذلك لأيات لقوم يتفكرون وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماءٍ واحدٍ ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون {(2/143)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
3 - {رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها(2/143)
{وَأَنْهَاراً} ينتفع بها شرباً وإنباتاً ومغيضاً للأمطار ومسالك للفلك {زوجين اثنين} / [89 / ب] أحدهما ذكر وانثى كفحال النخل وإناثها، وكذلك كل النبات وإن خفي. والزواج الأخر حلو وحامض، أو عذب وملح، أو أبيض وأسود، أو أحمر وأصفر فإن كل جنس من الثمار نوعان فكل ثمرة ذات نوعين زوجين فصارت أربعة أنواع {يُغشي} ظلمة الليل ضوء النهار، ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل.(2/144)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
4 - {مُّتَجَاوِرَاتٌ} في المدى مختلفات عَذِية تنبت وسبخة لا تنبت {صِنْوَانٌ} مجتمع وغيره مفترق، أو صنوان نخلات أصلها واحد وغيرها أصولها شتى، أو الصنوان الأشكال وغيره المختلف، أو صنوان الفسيل يقطع من أمهاته فهو معروف وغيره ما ينبت من النوى فهو مجهول حتى يعرف، وأصل النخل الغريب من هذا. {وَنُفَضِّلُ} فمنه الحلو والحامض والأحمر والأصفر والقليل والكثير {إِنَّ فِى} اختلافها {لأَيَاتٍ} على عظم قدرته. أو ضربه مثلاُ لبني آدم أصلهم واحد واختلفوا في الخير والشر والإيمان والكفر كالثمار المسقية بماء واحد " ح ". {وَإن تَعْجَبْ فعجب قوّلهم أءذا كنّا تراباً لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولائك الأغلال فى أعماقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون(2/144)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
5 - {وَإن تَعْجَبْ} من تكذيبهم لك فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، ذكر ذلك ليعجب رسوله [صلى الله عليه وسلم] والتعجب تغير النفس بما خفيت أسبابه ولا يجوز ذلك على الله عز وجل.(2/144)
{ويستعجلونك بالسيّئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلاث وإنّ رّبك لذو مغفرة للنّاس على ظلمهمّ وإن ربّك لشديد العقاب ويقول الّذين كفروا لولا أنزل عليّه ءاية من رّبه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}(2/145)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
6 - {بِالسَّيِّئَةِ} بالعقوبة قبل العافية، أو الشر قبل الخير، أو الكفر قبل الإجابة {الْمَثُلاتُ} الأمثال المضروبة لمن تقدم، أو العقوبات التي مثل الله بها من مضى من الأمم. وهي جمع مثلة {على ظلمهم} يغفر الظلم السالف للتوبة في المستأنف، أو يعفو عن تعجيل العذاب مع ظلمهم بتعجيل العصيان، أو يغفر لهم بالإنظار توقعاً للتوبة، ولما نزلت قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ".(2/145)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
7 - {هَادٍ} الله " ع "، أو نبي، أو قادة، أو دعاة، أو عمل، أو سابق يسبقهم إلى الهدى. {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شىء عنده(2/145)
بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال}(2/146)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
8 - {ما تحمل) {من ذكر أو أنثى} (ما تَغِيَضُ} بالسقط الناقص. {وَمَا تَزْدَادُ} بالولد التام " ع "، أو بالوضع لأقل من تسعة أشهر {وَمَا تَزْدَادُ} بالوضع لأكثر من التسعة، قال الضحاك: حملتني أمي سنتين ووضعتني وقد خرجت سني، أو بانقطاع الحيض مدة الحمل غذاء للولد {وَمَا تَزْدَادُ} بدم النفاس بعد الوضع، أو بظهور الحيض على الحمل، لأنه ينقص الولد {وَمَا تَزْدَادُ} في مقابلة أيام الحيض من أيام الحمل، لأنها كلما حاضت على حملها يوماً زادت في طهرها يوماً حتى يستكمل حملها تسعة أشهر طهراً قاله عكرمة وقتادة {وَكُلُّ شَىْءٍ} من الرزق والأجل {عِندَهُ بمقدار} . {سوآءٌ منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالّيل وسارب بالنّهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّله وما لهم من دونه من والٍ}(2/146)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
10 - {سَوَآءٌ مِّنكُم} في علمه {مَّنْ أَسَرَّ} خيراً أو شراً، أو جهر بهما {مُسْتَخْفِ} بعمله في ظلمة الليل ومن أظهره بضوء النهار، أو يرى ما أخفاه المرعى وهو بالعشي، والرواح بالغداة.(2/146)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
11 - {معقبات} / ملائكة الليل والنهار يتعاقبون صعوداً ونزولاً، اثنان بالنهار واثنان بالليل يجتمعون عند صلاة الفجر، أو حراس الأمراء يتعاقبون(2/146)
الحرس " ع " أو ما يتعاقب من أوامر الله وقضائه في عبادة. {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أمامه وورائه، أو هداه وضلاله. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بأمر الله، أو تقدبره معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، أو معقباته من الحرس يحفظونه عند نفسه من أمر الله ولا راد لأمره ولا دافع لقضائه " ع "، أو يحفظونه حتى يأتي أمر الله فيكفوا " ع "، أو أمر الله: الجن والهوام المؤذي تحفظه الملائكة منه ما لم يأتِ قدر، أو يحفظونه من أمر الله وهو الموت ما لم يأتِ أجل وهي عامة في جميع الخلائق عند الجمهور، أو خاصة في الرسول [صلى الله عليه وسلم] لما أزمع عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة على قتله فمنعه الله - تعالى - ونزلت {سوءا} عذاباً {وال} ملجأ، أو ناصر.(2/147)
{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}(2/148)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
12 - {خَوْفاً} من صواعقه {وَطَمَعاً} في نزول غيثه، أو خوفاً للمسافر من أذيته وطمعاً للمقيم في بركته. {الثِّقَالَ} بالماء.(2/148)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
13 - {الرَّعْدُ} الصوت المسموع، أو ملك والصوت المسموع تسبيحه {خِيفَتِهِ} الضمير لله - تعالى -، أو للرعد، {الصَّوَاعِقَ} نزلت في رجل أنكر القرآن وكذب الرسول [صلى الله عليه وسلم] فأخذته صاعقة، أو في أربد لما هم بقتل الرسول [صلى الله عليه وسلم] مع عامر بن الطفيل فيبست يده على سيفه ثم انصرف فأحرقته صاعقة فقال أخوه لبيد:
(أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السِّماكِ والأسد)(2/148)
(فجعني البرق والصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النَجُد)
أو نزلت في يهودي قال للرسول [صلى الله عليه وسلم] أخبرني عن ربك من أي شيء هو من لؤلؤ أو ياقوت فجاءت صاعقة فأحرقته " ع "، {يُجَادِلُونَ} قول اليهودي، أو جدال أربد لما هم بقتل الرسول [صلى الله عليه وسلم] {الْمِحَالِ} العداوة " ع "، أو الحقد " ح " أو القوة " م " أو الغضب أو الحيلة أو الحول " ع "، أو الهلاك بالمَحْل وهو القحط " ح "، أو الأخذ أوالانتقام. {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً ولظلالهم بالغذو والأصال}(2/149)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
14 - {دَعْوَةُ الْحَقِّ} لا إله إلا الله " ع "، أو الله هو الحق فدعاؤه دعوة الحق، أو الإخلاص في الدعاء {لا يَسْتَجِيبُونَ} لا يجيبون دعاءهم ولا يسمعون(2/149)
نداءهم والعرب يمثلون كل من سعى فيما لا يدركه بالقابض على الماء قال:
(فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد)
{كَبَاسِطِ} الظمآن يدعو الماء ليبلغ إلى فيه، أو يرى خياله في الماء وقد بسط كفيه فيه {لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} لكذب ظنه وسوء توهمه " ع "، أو كباسط كفيه ليقبض عليه فلا يحصل في كفه منه شيء.(2/150)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
15 - {طَوْعاً} المؤمن {وَكَرْهاً} الكافر، أو طوعاً من أسلم راغباً وكرهاً من أسلم بالسيف راهباً / [90 / ب] {وَظِلالُهُم} يسجد ظل المؤمن معه طائعاً وظل الكافر كارهاً. {وَالأَصَالِ} جمع أُصُل وأُصُل جمع أصيل وهو العشي ما بين العصر والمغرب. {قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لايملكون لإنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيءٍ وهو الواحد القهار}(2/150)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
16 - {لا يَمْلِكُونَ} إذ لم يملكوا لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر فأولى أن لا يملكوا ذلك لغيرهم. {الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} المؤمن والكافر {والظلمات وَالْنُّورُ} الضلالة والهدى {فَتَشَابَهَ} لما لم تخلق آلهتهم خلقاً يشتبه عليهم بخلق الله فلِمَ اشتبه عليهم حتى عبدوها كعبادة الله؟ {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأمّا الزبد فيذهب جفاء(2/150)
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}(2/151)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
17 - {بِقَدَرِهَا} الكبير بقدره والصغير بقدره {رَّابِياً} مرتفعاً {حِلْيَةٍ) {الذهب والفضة} (أو مَتَاعٍ} الصفر والنحاس. {زَبَدٌ} خبث كزبد الماء الذي لا ينتفع به {جُفَآءً} منتشفاً، أو جافياً على وجه الأرض، أو ممحقاً ومن قرأ {جُفالاً} أخذه من قولهم: انجفلت القدر إذا قذفت بزبدها. شبه الله - تعالى - الحق بالماء وما خلص من المعادن فإنهما يبقيان للانتفاع بهما، وشبه الباطل بزبد الماء وخبث الحديد الذاهبين غير منتفع بهما. {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد}(2/151)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
18 - {الْحُسْنَى} الحياة والرزق، أو الجنة مروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] {سُوءُ الْحِسَابِ} المؤاخذة بكل ذنب فلا يعفى عن شيء من ذنوبهم، أو المناقشة بالأعمال، أو التقريع والتوبيخ عند الحساب.(2/151)
{أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}(2/152)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
21 - {مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} الرحم {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} في قطعها {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} في المعاقبة عليها. أو الإيمان بالنبيين والكتب كلها {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فيما أمرهم بوصله {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} في تركه، أو صلة محمد [صلى الله عليه وسلم] قاله " ح ".(2/152)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
22 - {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} يدفعون المنكر بالمعروف، أو الشر بالخير، أو سفاهة الجاهل بالحلم، أو الذنب بالتوبة، أو المعصية بالطاعة.(2/152)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
24 - {بِمَا صَبَرْتُمْ} على الفقر، أو الجهاد في سبيل الله، أو على ملازمة الطاعة وترك المعصية، أو عن فضول الدنيا، أو عما تحبونه حين فقدتموه {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الجنة عن الدنيا، أو الجنة من النار. {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع 26}(2/152)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
26 - {متاع} قليل ذاهب، أو كزاد الراكب.(2/152)
{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءايةٌ من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئابٍ}(2/153)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
28 - {بِذِكْرِ اللَّهِ} بأفواههم، أو بنعمه عليهم، أو بوعده لهم، أو بالقرآن.(2/153)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
29 - {طُوبَى} اسم للجنة، أو لشجرة فيها، أو اسم الجنة بالحبشية، أو حسنى لهم، أو نعم مالهم، أو خير، أو غبطة، أو فرح وقرة عين " ع "، أو العيش الطيب، أو طوبى فعلى من الطيب كالفضلى من الأفضل. {كذلك أرسلناك في أمةٍ قد خلت من قبلها أممٌ لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}(2/153)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
30 - {بالرحمن} لما قال الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالحديبية للكاتب: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم "، قالوا ما ندري ما الرحمن، ولكن اكتب باسمك اللهم، أو قالوا بلغنا أن الذي يعلمك ما تقول رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن به أبداً فنزلت {لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وإن اختلفت أسماؤه فهو واحد {مَتَابِ} توبتي. {ولو أنّ قرءاناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر(2/153)
جميعاً أفلم يائس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتى وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}(2/154)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
31 - {ولو أن قرآنا} لما قالوا للرسول [صلى الله عليه وسلم] إن سرك أن نتبعك فسير جبالنا / [91 / أ] تتسع أرضنا فإنها ضيقة، وقرب لنا الشام فإنا نتجر إليها، وأخرج لنا الموتى من القبور نكلمهم، أنزلها الله - تعالى - {سُيّرَتْ) {أخرت} (قُطِّعَتْ} قربت {كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أحيوا، جوابه: " لكان هذا القرآن " فحذف للعلم به {ييأس الذين آمنوا} من إيمان هؤلاء المشركين، أو من حصول ما سألوه لأنهم لما طلبوا ذلك اشرأب المسلمون إليه " ع "، أو بيأس: يعلم، قال:
(ألم بيأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً)
أو ييأس قيل هي لغة جرهم. {لَهَدَى النَّاسَ} إلى الإيمان، أو الجنة {قَارِعَةٌ} تقرعهم من العذاب والبلاء، أو سريا الرسول [صلى الله عليه وسلم] {أَوْ تَحُلُّ} أنت يا محمد " ع "، أو القارعة {وَعْدُ اللَّهِ} القيامة، أو فتح مكة " ع ".(2/154)
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سمّوهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدّوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذابٌ في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واقٍ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائمٌ وظلها تلك عقبى الذين أتقوا وعقبى الكافرين النار}(2/155)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
33 - {بِظَاهِرِ} بباطل، أو ظن، أو كذب، أو بالقرآن قاله السدي.(2/155)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
35 - {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} شبهها أو نعتها إذ لا مثل لها {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} ثمرتها لا تنقطع، أو لذتها في الأفواه باقية قاله إبراهيم التيمي. {والذين ءاتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مئاب وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتّبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولىٍ ولا واقٍ}(2/155)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
36 - {الذين آتيناهم الْكِتَابَ} الصحابة، أو مؤمنو أهل الكتاب، أو اليهود والنصارى فرحوا بما في القرآن من تصديق كتبهم. {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ}(2/155)
قريش، أو اليهود والنصارى والمجوس {بَعْضَهُ} عرفوا صدق الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأنكروا تصديقه، أو عرفوا نعته وأنكروا نبوته. {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريةً وما كان لرسول أن يأتى بئايةٍ إلا بإذن الله لكل أجلٍ كتابٌ يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب}(2/156)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
38 - {أَزْوَاجاً وذريةٍ} أي هم كسائر البشر فلِمَ أنكروا نبوتك وأنت كمن تقدم، أو نهاه بذلك عن التبتل، أو عاب اليهود الرسول [صلى الله عليه وسلم] بكثرة الأزواج فأخبرهم بأن ذلك سنة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - {أَن يَأَتِىَ بِآيَةٍ} لما سألت قريش تسيير الجبال وغير ذلك نزلت. {لكل أجل} لك قضاء قضاه الله تعالى {كِتَابٌ} كتبه فيه، أولكل أجل من آجال الخلق كتاب عن الله، أو لكل كتاب نزل من السماء أجل على التقديم والتأخير.(2/156)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
39 - {يمحو اللَّهُ مَا يَشَآءُ} من أمور الخلق فيغيرها إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران " ع "، أو له كتابان أحدهما أم الكتاب لا يمحو منه شيئاً، والثاني يمحو منه ما يشاء ويثبت كلما أراد أن ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، أو يمحو ما جاء أجله ويثبت من لم يأت أجله، أو يمحو مايشاء من الذنوب بالمغفرة ويثبت ما يشاء فلا يغفره، أو يختم للرجل بالشقاء فيمحو ما سلف من طاعته أو يمحو بخاتمته من السعادة ما تقدم من معصيته " ع " {أم الكتاب} حلاله وحرامه، أو جملة الكتاب، أو علم الله - تعالى - بما خلق وما هو خالق، أو الذكر " ع " أو الكتاب الذي لا يبدل، أو أصل الكتاب في اللوح المحفوظ.(2/156)
{وإن مانرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفّينّك فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً يعلم ما تكسب كل نفسٍ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب}(2/157)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
41 - {نَنقُصُهَا} بالفتوح على المسلمين من بلاد المشركين، أو بخرابها بعد عمارتها، أو بنقصان بركتها وبمحيق ثمرتها، أو بموت فقهائها وخيارها [91 / ب] " ع ".(2/157)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
43 - {شَهِيداً} بصدقي وكذبكم. {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ابن سلام وسلمان وتميم الداري، أو جبريل - عليه السلام -، أو الله - عز وجل - عن الحسن - رضي الله تعالى عنه - وكان يقرأ {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ويقول: " هذه السورة مكية وهؤلاء أسلموا بالمدينة ".(2/157)
سورة إبراهيم
مكية، أو إلا آيتين مدنية، {ألم تر إلى الذين بدلوا} [28] والتي بعدها.
بسم الله الرحمن الرحيم
} {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد}(2/158)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
1 - {الظُّلُمَاتِ} الضلالة والكفر، و {النُّورِ} الإيمان والهدى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بأمره. آمن بعيسى قوم وكفر به آخرون فلما بعث محمد [صلى الله عليه وسلم] آمن به من كفر بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى فنزلت " ع ".(2/158)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
3 - {يَسْتَحِبُّونَ} يختارون، أو يستبدلون {سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} العوج بالكسر في الأرض والدين وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح كل ما كان قائماً كالرمح والحائط. {يبغون} يرجون بمكة ديناً غير الإسلام " ع "، أو يقصدون بمحمد [صلى الله عليه وسلم] هلاكاً.(2/158)
{وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبيّن لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيّام الله إنّ في ذلك لآياتٍ لكل صبّار شكور 3}(2/159)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
5 - {بَآَيَاتِنَآ} التسع، أو بالحجج والبراهين {وَذَكِّرْهُم} عظهم بما سلف لهم في الأيام الماضية، أو بالأيام التي انتقم فيها بالقرون الأول، أو بنعم الله لأنها تُسمى بالأيام.
(وأيام لنا غر طوال ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...)
{صَبَّارٍ شَكُورٍ} كثير الصبر والشكر إذا ابتُلي صبر وإذا أعطي شكر، وأخذ الشعبي من هذه الآية أن الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه. {وإذ قال موسى لقومه أذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ من رّبّكم عظيم 8 وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديدٌ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد}(2/159)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
6 - {بَلآءٌ} نعمة " ع "، أو شدة بلية، أو اختبار وامتحان. \ 7 - {تَأَذَّنَ} قال، أو أعلم {شَكَرْتُمْ} نعمتي {لأَزِيدَنَّكُمْ} من أفضالي أو طاعتي " ح ". {ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنّا كفرنا بما أرسلتم به وإنّا لفي شك ممّا تدعوننا إليه مريب}(2/160)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
9 - {بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج. {فَرَدُّواْ} عضوا الأصابع غيظاً على الرسل، أو كذبوهم بأفواههم، أو عجبوا لما سمعوا كتاب الله - تعالى - ووضعوا أيديهم في أفواههم " ع "، أو أشاروا بذلك إلى رسولهم لما أدعى الرسالة بأن يسكت تكذيباً له ورداً لقوله، أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل رداً لقولهم " ح "، أو الأيدي: النعم ردوها بأفواههم حجوداً، أو عبر بذلك عن ترك قبولهن للحق يقال لمن أمسك عن الجواب: رد يده في فيه. {قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشرٌ مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطانٍ مبينٍ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا(2/160)
نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}(2/161)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
10 - {أَفِى اللَّهِ} أفي توحيده، أو طاعته، {مِّن ذُنُوبِكُمْ} من زائدة، أو يجعل المغفرة بدلاً من ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرَكُمْ} إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا. {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودن في ملّتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيدٍ واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيدٍ من ورائه جهنّم ويسقى من ماءٍ صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكانٍ وما هو بميّت ومن ورآئه عذاب غليظ}(2/161)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
14 - {مَقَامِى} مقامه بين يدي. {وَعِيدِ} عذابي أو زواجر القرآن.(2/161)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
15 - {وَاسْتَفْتَحُواْ} الرسل بطلب النصر " ع "، أو الكفار استفتحوا بالبلاء. {جَبَّارٍ) {متكبر} (عَنِيدٍ} معاند للحق، أو بعيد عنه.(2/161)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
16 - {مِّن وَرَآئِهِ} من بعد هلاكه جهنم، أو أمامه جهنم.(2/161)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
17 - {مِن كُلِّ مَكَانٍ} من جسده لشدة آلامه، أو يأتيه أسباب الموت عن يمين وشمال وفوق وتحت وقدام وخلف " ع "، أو تأتيه شدائد الموت من كل مكان. {وَمِن وَرَآئِهِ} فيه الوجهان المذكوران. {عذاب غليط} الخلود في النار.(2/161)
{مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرمادٍ اشتدّت به الريح في يومٍ عاصفٍ لا يقدرون ممّا كسبوا على شيءٍ ذلك هو الضلال البعيد ألم تر أنّ الله خلق السّماوات والارض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}(2/162)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
18 - {مَّثَلُ} أعمال {الَّذِينَ كَفَرُواْ} في حبوطها وبطلانها وأنه لا يحصل منها على شيء بالرماد المذكور. {عَاصِفٍ} شديدة وصف اليوم بالعصوف لوقوعه فيه كما يقال يوم حار ويوم بارد / [92 / أ] أو أراد عاصف الريح فحذف لتقدم ذكر الريح، أو العصوف من صفة الريح المذكورة فلما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه. {وَبَرَزُواْ لله جميعاً فقال الضعفاؤا للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعاً فهل انتم مغنون عنّا من عذاب الله من شىءٍ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}(2/162)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
21 - {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ} ظهروا بين يديه في القيامة، والضعفاء: الأتباع والذين استكبروا: قادتهم. {تَبَعاً} في الكفر {مُّغْنُونَ} دافعون، أغنى عنه: دفع عنه الأذى وأغناه: أوصل إليه النفع {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى الإيمان لهديناكم إليه، أو إلى الجنة لهديناكم إليها، أو لو نجّانا من العذاب لنجيناكم منه. {مَّحِيصٍ} ملجأ ومنجى يقول بعضهم لبعض: إن قوماً جزعوا وبكوا ففازوا فيجزعون ويبكون، ثم يقولون: إن قوماً صبروا في الدنيا ففازوا فيصبرون فعند ذلك يقولون: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} الآية. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لمّا قضى الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا(2/162)
أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربّهم تحيّتهم فيها سلام}(2/163)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
22 - {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} يقوم إبليس خطيباً يوم القيامة فيسمعه الخلائق جميعاً {قُضِىَ الأَمْرُ} بحصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. {وَعْدَ الْحَقِّ} الجنة والنار والبعث والثواب والعقاب. {وَوَعَدتُكُمْ} بأن لا بعث ولا ثواب ولا عقاب {بِمُصْرِخِىَّ} بمنجي أو بمغيثي {إِنِّى كَفَرْتُ) {قبلكم} (بما أشركتموني} من بعدي لأن كفره قبل كفرهم.(2/163)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
23 - {تحيتهم} ملكهم دائم السلامة، ومنه التحيات لله أي الملك، أو التحية المعروفة إذا تلاقوا سلموا بها. {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرون ومثل كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار}(2/163)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
24 - {كَلِمَةً طَيِّبَةً} الإيمان، أو المؤمن {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} النخلة قاله الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، أو شجرة في الجنة " ع " {ثَابِتٌ) {في الأرض} (وَفَرْعُهَا} نحو السماء.(2/163)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
25 - {أُكُلَهَا} ثمرها {حِينِ} عبارة عن الوقت في اللغة. يراد بها ها هنا سنة لأنها تحمل في السنة مرة، أو ثمانية أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً وباطناً، أو ستة أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً، أو اربعة أشهر لأنها مدة صلاحها وبروزها من طلعها إلى جذاذها، أو شهرين لأنها مدة صلاحها إلى جفافها، أو غدوة وعشية لأنه وقت اجتنائها " ع ". شبه ثبوت الكلمة في الأرض بثبوت النخلة في الأرض فإذا ظهرت عرجت إلى السماء كما تعلو النخلة نحو السماء فكلما ذكرت نفعت كما أن النخلة إذا أثمرت نفعت.(2/164)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
26 - {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} الكفر، أو الكافر {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} الحنظل أو الأكشوث، أو شجرة لم تخلق " ع "، {اجْتُثَّتْ} اقتلعت من أصلها. {قَرَارٍ} ثبوت، أو أصل. شبه الكلمة الخبيثه التي ليس لها أصل يبقى ولا ثمرة حلوة بأنه ليس لها عمل في الأرض يبقى ولا ذكر في السماء يرقى. {يثبّت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضل الله(2/164)
الظالمين ويفعل الله ما يشاء}(2/165)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
27 - {يثبت الله الذين آمنوا} يديمهم على القول الثابت {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الشهادتان، أو العمل الصالح {فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} زمن الحياة {وَفِى الآخِرَةِ} عند المساءلة في القبر، أو الحياة الدنيا: مساءلة القبر والآخرة: مساءلة القيامة. {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمت الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار 28 جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلّوا عن سبيله قل تمتعّوا فإن مصيركم إلى النار 30}(2/165)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
28 - {الَّذِينَ بَدَّلُواْ} قريش بدلوا نعمة إرسال الرسول [صلى الله عليه وسلم] منهم كفراً به وجحوداً، أو نزلت في بني أمية وبني مخزوم، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم / [92 / ب] فأهلكوا يوم بدر، أوهم قادة المشركين يوم بدر. أو جبلة بن الأيهم وتابعوه من العرب الذين لحقوا بالروم " ع " أو عامة في جميع(2/165)
المشركين. {دَارَ الْبَوَارِ} جهنم، أو يوم بدر، والبوار: الهلاك. قل لعبادي الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتى يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلال الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماءٍ ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الّيل والنّهار وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلومٌ كفارٌ}(2/166)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
31 - {سِرّاً وَعَلانِيَةً} خفية وجهرة عند الأكثرين، أو السر: التطوع والعلانية: الفرض. {لاَّ بَيْعٌ} لا فدية في العاصي، ولا شفاعة للكفار، أو لا تُباع الذنوب ولا تُشترى الجنة. {خِلالٌ} مصدر خاللت خلالاً كقاتلت قتالاً، أو جمع خلة كقلة وقلال أي لا مودة بين الكفار لتقاطعهم. {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد ءامناً واجنبنى وبني أن نّعبد الأصنام ربّ إنّهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنّه منّى ومن عصاني فإنّك غفورٌ رحيمٌ ربّنا إنّى أسكنت من ذريتّى بوادٍ غيرٍ ذى زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوى إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم(2/166)
يشكرون ربّنا إنّك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىءٍ في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتى ربّنا وتقبل دعاء ربّنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}(2/167)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
37 - {بَيْتِكَ} الذي لا يملكه غيرك. {الْمُحَرَّمِ} ، لأنه يحرم فيه ما يباح في غيره {أَفْئِدَةً} جمع فؤاد وهو القلب، أو جمع وفود. {تَهْوِى} تحن، أو تهواهم، أو تنزل عليهم. طلب ذلك ليميلوا إلى سكناها فتصير بلداً محرماً " ع "، أو ليحجوا قال " ع ": لولا أنه قال: من الناس لحجه اليهود والنصارى وفارس والروم {مِّنَ الثَّمَرَاتِ} أجابه بما في الطائف من الثمار وما يجلب إليهم من الأمصار. {ولا تحسبن الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنّما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء}(2/167)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
43 - {مُهْطِعِينَ} مسرعين أهطع إهطاعاً أسرع، أو الدائم النظر لا يطرق، أو المطرق لا يرفع رأسه. {مُقْنِعِى} ناكسي بلغة قريش أو رافعي، إقناعُ الرأسِ رَفعُه {طَرْفُهُمْ} الطرف: النظر وبه سميت العين لأنه بها يكون {هَوَآءٌ} خالية من الخير " ع "، أو تردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر به فكأنها تهوي، أو زالت عن أماكنها فبلغت الحناجر فلا تنفصل ولا تعود. {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريبٍ نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم(2/167)
وضربنا لكم الأمثال وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}(2/168)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
44 - {زَوَالٍ} عن الدنيا إلى الآخرة، أو زوال عن العذاب.(2/168)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
46 - {مَكْرَهُمْ} الشرك " ع "، أو بالعتو والتجبر، وهي فيمن تجبر في ملكه وصعد مع النسرين في الهواء، قاله علي وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما - {وَعِندَ الَّلهِ مَكْرُهُمْ} يحفظه ليجازيهم عليه، أو يعلمه فلا يخفى عنه {لِتَزُولَ} وما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال احتقاراً لمكرهم " ع "، {لَتزولُ} وكاد أن يزيلها تعظيماً لمكرهم، والجبال: جبال الأرض، أو الإسلام والقرآن لأنه في ثبوته كالجبال.(2/168)
{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيزٌ ذو انتقام يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النار ليجزى الله كل نفسٍ ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغٌ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحدٌ وليذّكروا أولوا الألباب}(2/169)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
48 - {تُبَدَّلُ الأَرْضُ} بأرض بيضاء كالفضة لم تعمل عليها خطيئة، أو بأرض من فضة بيضاء، أو هي هذه الأرض تبدل صورتها ويطهر دنسها {وَالسَّمَاواتُ} تبدل بغيرها كالأرض فتصير جناناً والبحار ناراً، أو بجعل السماوات ذهباً والأرض فضة، قاله علي - رضي الله تعالى عنه -، أو بتناثر نجومها وتكوير شمسها، أو طيها كطي السجل، أو انشقاقها.(2/169)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
49 - {الأَصْفَادِ} الأغلال، أو القيود والصفد العطاء، لأنه يقيد المودة.(2/169)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
50 - {سَرَابِيلُهُم} جمع سربال وهو القميص {قَطِرَانٍ} الذي تهنأ به الإبل لإسراع النار إليها، أو النحاس الحامي " ع ".(2/169)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
53 - {هذا بلاغ} هذا الإنذار كافٍ للناس، أو هذا القرآن كافٍ للناس. {ولينذروا} بالقرآن {وليعلموا} بما فيه من الدلائل على التوحيد {أنما هو إله واحد وليذكر} بمواعظه ذوو العقول، قيل نزلت في أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - وأصحابه.(2/169)
سورة الحجر
مكية اتفاقاً.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ألر تلك ءايات الكتاب وقرءانٍ مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}(2/170)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
1 - / [93 / أ] {الْكِتَابِ} القرآن، أو التوراة والإنجيل.(2/170)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
2 - {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ} إذا رأوا المسلمين دخلوا الجنة أن يكونوا أسلموا، وربما ها هنا للتكثير. {وما أهلكنا من قريةٍ إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمةٍ أجلها وما يستئخرون}(2/170)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
5 - {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} رسولها وكتابها فتعذب قبلهما، ولا يستأخر الرسول والكتاب عنهم. {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(2/170)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
8 - {إِلاَّ بِالْحَقِّ} القرآن، أو الرسالة، أو بالقضاء عند الموت بقبض أرواحهم، أو العذاب إن لم يؤمنوا.(2/171)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
9 - {الذكر} القرآن، {وإنا له} لمحمد [صلى الله عليه وسلم] {لَحَافِظُونَ} ممن أراده بسوءٍ، أو للقرآن حتى يجزى به يوم القيامة أو بحفظه من زيادة الشيطان فيه باطلاً، أو نقصه منه حقاً. {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسولٍ إلا كانوا به يستهزءون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنمّا سكرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون}(2/171)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
10 - {شِيَعِ} أمم، أو القرى، أو جمع شيعة، والشيعة: الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة، مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد بها الكبار، فهو عون للنار.(2/171)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
12 - {نَسْلُكُهُ} الاستهزاء، أو التكذيب، أو نسلك القرآن في قلوبهم وإن لم يؤمنوا به، أو إذا كذبوا به سلكنا في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.(2/171)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
13 - {سُنَّةٌ الأََوَّلِينَ} بالعذاب، أو بألا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا، والسنة: الطريقة.(2/171)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
14 - {يَعْرُجُونَ} المشركون، أو الملائكة وهم يرونهم.(2/171)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
15 - {سُكِّرَتْ} سُدت، أو عُميت، أو أّخذت، أو غُشيت وغطيت،(2/171)
أو حُبست {مَّسْحُورُونَ} سُحرنا فلا نبصر، أو معللون، أو مفسدون. {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيّناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهابٌ مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين 20}(2/172)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
16 - {بُرُوجاً} قصوراً فيها الحرس، أو منازل الشمس والقمر، أو الكواكب العظام أي السبعة السيارة، أو النجوم، أو البروج الإثنا عشر، وأصله الظهور برجت المرأة أظهرت محاسنها.(2/172)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
17 - {رَّجِيمٍ} ملعون، أو مرجوم بقول أو فعل.(2/172)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
18 - {اسْتَرَقَ السَّمْعَ} بأخبار الأرض دون الوحي فإنه محفوظ منهم. ويسترقون السمع من الملائكة في السماء، أو في الهواء عند نزولهم من السماء. {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} قبل سماعه، أو بعد سماعه فيجرحهم ويحرقهم ويخبلهم ولا يقتل " ع "، أو يقتلهم قبل إلقائه إلى الجن فلا يصل إلى أخبار السماء إلا الأنبياء " ع "، ولذلك انقطعت الكهانة، أو يقتلهم بعد إلقائه إلى الجن ولذلك [ما] يعودون لاستراقه، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق. والشهب نجوم يُرجمون بها ثم تعود إلى أماكنها، أو نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود كما إذا أحرقت النار لم تعد.(2/172)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
19 - {مَدَدْنَاهَا} بسطناها من مكة لأنها أم القرى {مَّوْزُونٍ} بقدر معلوم عبّر عنه بالوزن، لأنه آلة لمعرفة المقادير، أو أراد الأشياء التي توزن في أسواقها، أو مقسوم، أو معدود.(2/172)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
20 - {مَعَايِشَ} ملابس، أو التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة، أو المطاعم والمشارب التي يعيشون بها. {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} الدواب والأنعام، أو الوحش. {وإن من شىءٍ إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلومٍ 21 وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنّا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين وإنّ ربك هو يحشرهم إنّه حكيمٌ عليمٌ 25}(2/173)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
21 - {وَإِن مِّن شَىْءٍ} من أرزاق الخلق {إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ} المطر المنزل من المساء إذ به نبات كل شيء {بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} قال ابن مسعود - رضي الله تعالى - / [93 / ب] عنه - ما عام بأمطر من عام ولكن الله - تعالى - يقسمه حيث يشاء فيمطر قوماً ويحرم آخرين.(2/173)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
22 - {لواقح} السحاب حتى يمطر، كل الرياح الواقح والجنوب ألقح، أو لواقح للشجر حتى يثمر " ع ".(2/173)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
24 - {المستقدمين} الذين خلقوا {والمستأخرين} من لم يخلق، أو من مات ومن لم يمت، أو أول الخلق وآخره، أو من تقدم أمة محمد [صلى الله عليه وسلم] والمستأخر من أمته، أو المستقدمين في الخير والمستأخرين عنه، أو في صفوف الحرب والمستأخرين فيها، كانت امرأة من أحسن الناس تصلي خلف الرسول [صلى الله عليه وسلم] فيقدم بعضهم لئلا يراها ويتأخر بعضهم إلى الصف المؤخر فإذا ركع نظر إليها من تحت إبطه فنزلت.(2/173)
{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإٍ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السّموم وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ فإذ سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فأخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدّين قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}(2/174)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
26 - {الإنسان} آدم - عليه الصلاة والسلام - {صَلْصَالٍ} طين يابس لم تصبه نار، إذا نُقر صَلَ فسمعت له صلصلة، وهي الصوت الشديد المسموع من(2/174)
غير الحيوان كالقعقعة في الثوب " ع "، أوطين خلط برمل، أو منتن، صل اللحم وأصل أنتن. {حَمَإٍ} جمع حمأة وهي الطين الأسود المتغير {مَّسْنُونٍ} منتن متغير، أو أسن الماء تغير " ع "، أو منصوب قائم من قولهم: وجه مسنون، أو المصبوب، سَنَ الماء على وجهه صبه عليه، أو الذي يحك بعضه بعضاً، سننت الحجر بالحجر حككت أحدهما بالآخر ومنه سن الحديد لحكه به، أو الرطب، أو المخلص سن سيفك أي: أجله.(2/175)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
27 - {وَالْجَآنَّ} إبليس، أو الجن، أو أبو الجن {مِن قَبْلُ} آدم {نَّارِ السَّمُومِ} لهب النار، أو نار الشمس، أو حر السموم، والسموم: الريح الحارة.(2/175)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
38 - {الْمَعْلُومِ} عند الله - تعالى - وحده، أو النفخة الأولى بينها وبين النفخة الثانية أربعون سنة هي مدة موته، وأراد بسؤاله الإنظار أن لا يموت فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى تعظيماً لبلائه وتعريفاً أنه لا يضر بفعله غير نفسه. ولم يكرمه بتكليمه بل كلمه بذلك على لسان رسول، أو كلمه تغليظاً ووعيداً لا إكراماً وتقريباً. {قال رب بما أغويتنى لأزيننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين 40 قال هذا صراط على مستقيم إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ من اتّبعك من الغاوين وإنّ جهنّم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسوم}(2/175)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
39 - {أَغْوَيْتَنِى} أضللتني " ع "، أو خيبتني من رحمتك، أو نسبتني إلى الإغواء.(2/175)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
40 - {الْمُخْلَصِينَ} لعباداتهم من الفساد والرياء، سأل الحواريون(2/175)
عيسى - عليه الصلاة والسلام - عن المخلص، فقال: الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس.(2/176)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
41 - {هَذَا صِرَاطٌ} يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة " ع "، أو صراط إليَّ " ح "، أو تهديد ووعيد كقولك لمن تتوعده: " على طريقك "، أو هذا صراط على استقامته بالبيان والبرهان. {إن المتقين في جناتٍ وعيونٍ ادخلوها بسلامٍ ءامنين ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخوناً على سررٍ متقابلين لا يمسّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين نبئ عبادى أنّي أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}(2/176)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
46 - {بِسَلامٍ} بسلامة من النار، أو بسلامة تصحبكم من كل آفة {أمنين} من الخروج منها، أو الموت، أو الخوف والمرض.(2/176)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
47 - {وَنَزَعْنَا} بالإسلام {مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} الجاهلية، أو نزعنا في الآخرة ما فيها من غل الدنيا " ح " وروي عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] {سرر}(2/176)
جمع أسرة، أو سرور {مُّتَقَابِلِينَ} بوجوههم لا يصرفون أبصارهم تواصلا وتحاببا، أو متقابلين بالمحبة والمودة لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون، أو متقابلين / [94 / ب] في المنزلة لا يفضل بعضهم بعضاً لاتفاقهم على الطاعة أو استوائهم في الجزاء، أو متقابلين في الزيادة والتواصل، أو أقبلوا على أزواجهم بالمودة وأقبلن عليهم، قيل نزلت في العشرة، قال علي - رضي الله تعالى عنه -: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم. {ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون قالوا لا(2/177)
توجل أنّا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}(2/178)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
53 - {لا تَوْجَلْ) {لا تخف} (بِغُلامٍ عَليمٍ} في كبره وهو إسحاق لقوله - تعالى - {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] {عَلِيمٍ} حليم، أو عالم عند الجمهور.(2/178)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
54 - {أَبَشَّرْتُمُونِى) {تعجب} (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} تعجباً من قولهم، أو استفهم هل بشروه بأمر الله - تعالى - ليكون أسكن لقلبه.(2/178)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
55 - {القانطين} الآيسين من الولد. {قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا ءال لوطٍ إنّا لمنجّوهم أجمعين إلا امرأته قدّرنا إنها لمن الغابرين} 59 - {آل لُوطٍ} أتباعه وناصروه.(2/178)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
60 - {قَدَّرْنَآ} قضينا، أو كتبنا {الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب، أو الماضين فيه. {فلمّا جاء ءال لوطٍ المرسلون قال إنكم قومٌ منكرون 62 قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنّا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الّيل واتّبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحدٌ وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوعٌ مّصبحين}(2/178)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
65 - {بقطع من الليل} ببعضه، أو آخره، أو ظلمته.(2/178)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
66 - {قضينا} أوحينا {دابر هؤلاء} آخرهم، أو أصلهم. {وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفى فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنّهم لفى سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارةً من سجّيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وأنّها لبسبيل مقيمٍ 5 إنّ في ذلك لآيةً للمؤمنين}(2/179)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
72 - {لَعَمْرُكَ} وعيشك " ع "، أو وحياتك " ع "، وما أقسم الله - تعالى - بحياة غيره، أو وعملك {سَكْرَتِهِمْ} ضلالهم، أو غفلتهم {يَعْمَهُونَ} يترددون " ع "، أو يتمادون، أو يلعبون، أو يمضون.(2/179)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
75 - {لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتفرسين، أو المعتبرين، أو المتفكرين، أو الناظرين أو المتبصرين، أو الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أهلاك الكفار.(2/179)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
76 - {لبسبيل} لهلاك " ع "، أو لبطريق معلم. {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين}(2/179)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
78 - {لَظَالِمِينَ} بتكذيبهم شعيباً، أرسل إلى مدين فأهلكوا بالصيحة وإلى أصحاب الأيكة فاحترقوا بنار الظلة، الأيكة: الغيضة، أو الشجر الملتف(2/179)
كان أكثرهم شجرهم الدوم وهو المقل، أو الأيكة اسم البلد وليكة اسم المدينة كبكة من مكة.(2/180)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
79 - {وَإِنَّهُمَا} أصحاب الأيكة وقوم لوط {لَبِإِمَامٍ} لبطريق واضح. سمي الطريق إماماً لأن سالكه يأتم به حتى يصل إلى مقصده، أو لفي كتاب مستبين، سمي إماماً لتقدمه على سائر الكتب، وقال مُؤرج: هو الكتاب بلغة حمير. {ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً ءامنين فأخذتهم الصّيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}(2/180)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
80 - {الْحِجْرِ} الوادي، أو مدينة ثمود، أو أرض بين الشام والحجاز وأصحابه ثمود.(2/180)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
82 - {أمنين} أن تسقط عليهم بيوتهم، أو من خرابها، أومن العذاب، أو الموت. {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإنّ السّاعة لاتيةٌ فاصفح الصّفح الجميل 85 إن ربّك هو الخلاق العليم}(2/180)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
85 - {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الإعراض من غير جزع، أو العفو بغير توبيخ(2/180)
ولا تعنيف، ثم نسخ صفحه عن حق الله - تعالى - بآية السيف، فقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] : بعد ذلك: " لقد أتيتكم بالذبح وبُعثت بالحصاد ولم أُبعث بالزراعة، أو أمر بالصفح عنهم في حق نفسه فيما بينه وبينهم. {ولقد ءاتيناك سبعاً من المثاني والقرءان العظيم لا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين 4}(2/181)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
87 -[ {سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِى} ] السبع المثاني: الفاتحة، لأنها تثنى كلما قرأ القرآن وصلى، أو السبع الطوال البقرة، وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس " ع " سميت مثاني لما تردد فيها من الأمثال والخبر والعبر، أو لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية، أو المثاني القرآن كله، أو معانيه السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون.(2/181)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
88 - {أزواجا} أشباهاً، أو أصنافاً أو الأغنياء / [94 / ب] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} بما أنعمت عليهم في الدنيا أو بما يصيرون إليه من كفرهم {وَاخْفِضْ} عبّر به عن الخضوع، أو عن إلانة الجانب، نزل بالرسول [صلى الله عليه وسلم] ضيف فلم يكن عنده ما يصلحه فأرسل إلى يهودي يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب، فأبى إلا برهن فقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني لأديت إليه فنزلت {لا تَمُدَّنَّ}(2/181)
وقل إنى أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرءان عضين فوربّك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون}(2/182)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
90 - {المقتسمين} اليهود والنصار اقتسموا القرآن أعضاء أي أجزاء فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض " ع "، أو اقتسموه استهزاء به فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال بعضهم: هذه لي، أو اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها وكفر آخرون بما آمن به أولئك وأمنوا بما كفروا به، أو قوم صالح تقاسموا على قتله، قاله ابن زيد، أو قوم من قريش اقتسموا طرق مكة لينفروا على الرسول [صلى الله عليه وسلم] من يرد من القبائل بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون حتى لا يؤمنوا به فنزل عليهم عذاب فأهلكهم، أو قوم من قريش اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، أو قوم(2/182)
اقتسموا أيماناً تحالفوا عليها.(2/183)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
91 - {عِضِينَ} فرقاً بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه أساطير الأولين، جعلوا أعضاء كما تعضى الجزور، وعضين جمع عضو من عضيت الشيء تعضية إذا فرقته " ع ". وليس دين الله - تعالى - بالمعضى. أي المفرق أو العضين جمع عضة وهو البهت لأنهم بهتوا كتاب الله - تعالى - فيما رموه به، عضهت الرجل أعضهه عضها بهته، وقال: إن العضيهة ليست فعل أحرار أوالعضة: السحر بلسان قريش ومنه " لعن الرسول [صلى الله عليه وسلم] العاضهة والمستعضهة أراد الساحرة والمتسحرة، أو لما ذكر في القرآن الذباب والبعوض والعنكبوت والنمل قال أحدهم: أنا صاحب البعوض، وقال آخر: أنا صاحب الذباب وقال آخر أنا صاحب النمل استهزاء منهم بالقرآن.(2/183)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
93 - {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يعبدون، أو ما عملوا فيما علموا، أو عما عبدوا وما أجابوا الرسل. {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنّا كفيناك المستهزءين الذين يجعلون مع الله إلاهاً ءاخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون(2/183)
فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(2/184)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
94 - {فَاصْدَعْ} فامض، أو أظهر، أو اجهر بالقرآن في الصلاة، أو أعلن بالوحي حتى يبلغهم " ع "، أو افرق به بين الحق والباطل، أو فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى، {وَأَعْرِضْ} منسوخ بآية السيف " ع " أو أعرض عن الاهتمام باستهزائهم.(2/184)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
95 - {المستهزئين} خمسة: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث والحارث بن غيطلة أهلكهم الله - تعالى - قبل بدر لاستهزائهم برسوله [صلى الله عليه وسلم] .(2/184)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
97 - {صَدْرُكَ} قلبك لأنه محل القلب {بِمَا يَقُولُونَ} من الاستهزاء، أو التكذيب بالحق. 98 - {السَّاجِدِينَ} المصلين.(2/185)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
99 - {الْيَقِينُ} الحق الذي لا ريب فيه، أو الموت الذي لا محيد عنه " ح ".(2/185)
سورة النحل
مكية أو إلا ثلاث آيات {ولا تشتروا بعهد الله} إلى قوله {بأحسن ما كانوا يعملون} [95 - 97] " ع ".
بسم الله الرحمن الرحيم
} {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين}(2/186)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
1 - {أَتَى} دنا، أو سيأتي، أو على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره. {أَمْرُ اللَّهِ} القيامة، أو وعيد المشركين، أو فرائض الله - تعالى - وأحكامه.(2/186)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
2 - {بِالرُّوحِ} الوحي " ع " أو كلام الله - تعالى -، أو الحق الواجب الاتباع، أو أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا معه روح قاله مجاهد(2/186)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
4 - {خَصِيمٌ} محتج في الخصومة. ذكر ذلك تعريفاً لقدرتهن أو لنعمته، أو لقبح ما ضيعه من شكر النعمة بمخاصمته في الكفر " ح " قيل نزلت في أبي بن خلق الجمحي أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال أنُعاد إذا صرنا كذا؟(2/186)
والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشقٍ الأنفس إن ربّكم لرءوفٌ رحيمٌ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائرٌ ولو شاء لهداكم أجمعين}(2/187)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
5 - {دفءٌ} لباس " ع "، أو ما استدفأت به من أصوافها وأوبارها وأشعارها. {وَمَنَافِعُ} الركوب والعمل {تَأْكُلُونَ} اللحم واللبن.(2/187)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
8 - {مَا لا تَعْلَمُونَ} من الخلق عند الجمهور، أو نهر تحت العرش " ع ". {هو الذي انزل من السماء ماءً لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تسيمون(2/187)
ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقومٍ يتفكرون وسخر لكم الّيل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لايات لقومٍ يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لأيةٌ لقوم يذكرون وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون.(2/188)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
14 - {مَوَاخِرَ} تشق الماء عن يمين وشمال، والمخر: شق الماء وتحريكه، أو ما تمخر الريح من السفن والمخر صوت هبوب الريح، أو تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة، أو تجري معترضة، أو المواخر: المواقد. {وألقى في الأرض رواسى أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون وعلامات والنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الله لغفورٌ رحيمٌ}(2/188)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
16 - {وعلامات} معالم الطرق بالنهار {والنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل " ع "، أو النجوم منها ما يهتدى به ومنها ما هو علامة لا يهتدى بها، أو الجبال.(2/188)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
18 - {لا تُحْصُوهَآ} لا تحفظوها، أو لا تشكروها. {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون إلهكم إلهٌ واحد(2/188)
فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرةٌ وهم مستكبرون لا جرم أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ ألا ساء ما يزرون قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركاءى الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين}(2/189)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
26 - {فأتى الله بنيانهم} هدمه من أساسه، أومثل ضربه الله - تعالى - لاستئصالهم {السَّقْفُ} أتاهم من السماء التي هي سقفهم " ع "، أو سقطت أعالي بيوتهم وهم تحتها فلذلك قال: {مِن فوقهم} إذا لا يكون فوقهم إلا وهم تحته. وهم نمروذ بن كنعان وقومه " ع "، أو بختنصر وأصحابه، أو المقتسمين المذكورن في سورة الحجر. {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} 28 - {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} قيل نزلت فيمن أسلم بمكة ولم يهاجر فأخرجتهم قريش إلى بدر فقُتلوا {تَتَوَفَّاهُمُ} تقبض أرواحهم(2/189)
{ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} بالمقام بمكة وترك الهجرة {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} في خروجهم معهم {مِن سُوءِ} كفر {بلي} علمكم أعمال الكفار، والسَّلَم: الصلح، أو الاستسلام، أو الخضوع. {وقيل للذين أتقوا ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ ولدار الآخرة خيرٌ ولنعم دار المتقين جنات عدنٍ يدخلونها تجري من تحتها الأنهار(2/190)
لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزى الله المتقين الذي تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}(2/191)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
32 - {طيبين) {صالحين} (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيءٍ نحن ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيءٍ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضلّ وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنّما قولنا لشىءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبؤئنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعملون الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون} 41 - {ظُلِمُواْ} ظلمهم أهل مكة بإخراجهم إلى الحبشة بعد العذاب(2/191)
والإبعاد. {حَسَنَةً} نزول المدينة " ع "، أو الرزق الحسن نزلت في أبي جَندل بن سهيل، أو في بلال وعمار وخباب بن الأرتْ عُذبوا حتى قالوا ما أراده الكفار فلما خلوهم هاجروا. {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون 44}(2/192)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
43 - {الذِّكْرِ} العلماء بأخبار القرون الخالية يعلمون أن الله - تعالى - ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة ولم يبعث ملكاً أو أهل الكتاب خاصة(2/192)
" ع "، أو أهل القرآن.(2/193)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
44 - {إليك الذكر} القرآن، أوالعلم. {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربّكم لرءوف رحيم} 46 - {تقلبهم} سفرهم.(2/193)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
47 - {تَخَوُّفٍ} تنقص يهلك واحداً بعد واحد فيخافون الفناء " ع "، أو على تقريع وتوبيخ بما قدموه / [95 / ب] من ذنوبهم " ع "، أو يهلك قرية فتخاف القرية الأخرى. {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىءٍ يتفيّؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجّداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابةٍ والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون 50} 48 - {يتفيأ ظِلالُهُ} يرجع، والفيء: الرجوع وبه سمى الظل بعد الزوال لرجوعه، أو يتميل " ع "، أو يدور، أو يتحول. {الْيَمِينِ وَالشَّمَآئِلِ} تارة جهة اليمين وتارة إلى جهة الشمال " ع "، أو اليمين أول النهار والشمال آخره {سُجَّداً} ظل كل شيء سجوده، أو سجود الظل بسجود شخصه، أو سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد خاضعة لله {دَاخِرُونَ} صاغرون خاضعون.(2/193)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
50 - {رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} عذاب ربهم لأنه ينزل من فوقهم من السماء، أو قدرته التي هي فوق قدرتهم. {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنّما هو إله واحدٌ فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدّين واصباً أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا(2/193)
مسّكم الضر فإليه تجئرون ثمّ إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون ليكفروا بما ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}(2/194)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
52 - {الدِّينُ) الإخلاص، أو الطاعة {وَاصِباً} واجباً " ع "، أو خالصاً أو دائماً " ح "، عذاب واصب: دائم.(2/194)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
53 - {الضر} القحط، أو الفقر {تجأرون} تضرعون بالدعاء، أو تضجون وهو الصياح من جؤار الثور وهو صياحه. {ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب إلا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}(2/194)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
58 - {مُسْوَدّاً} أسود اللون عند الجمهور، أو متغير اللون بسواد أو غيره. {كَظِيمٌ} حزين " ع "، أو كظم غيظه فلا يظهره، أو مغموم انطبق فوه من الغم، من الكظامة وهو شدُّ فَمِ القربة.(2/194)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
59 - {هُونٍ} الهوان بلغة قريش، أو القليل بلغة تميم {يدسه} يريد الموءودة.(2/194)
{ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابةْ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعةً ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون تا لله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيةً لقومٍ يسمعون}(2/195)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
62 - {ما يكرهون} البنات {الحسنى} البنين، أو جزاء الحسنى {لا جَرَمَ} حقاً أو قطعاً، أو اقتضى فعلهم أن لهم النار [أو] بلى إن لهم النار " ع " {مُّفْرَطُونَ} منسيون، أو مضيعون، أو مبعدون في النار، أو متروكون فيها أو مقدمون إليها ومنه " أنا فرطكم على الحوض " أي متقدمكم، {مُفْرِطون}(2/195)
مسرفون في الذنوب من الإفراط فيها، {مُفَرِّطون} في الواجب. {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}(2/196)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
67 - {سَكَراً} السكر: الخمر، والرزق الحسن: التمر والرطب والزبيب، نزلت قبل تحريم الخمر، أو السكر: ما حرم من شرابه والرزق الحسن: ما حل من ثمرته، أو السكر: النبيذ، والرزق الحسن: التمر والزبيب، أو السكر: الخل بلغة الحبشة والرزق الحسن: الطعام، أو السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن. وجعلتَ عيب الأكرمين سكراً أي جعلت ذمهم طعماً. {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}(2/196)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
68 - {وَأَوْحَى} ألهمها، أو سخرها أو جعله في غرائزها بما يخفي مثله إلى غيرها {يَعْرِشُونَ} يبنون، أو الكروم.(2/196)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
69 - {ذُلُلاً} مذللة، أو مطيعة، أو لا يتوعر عليها مكان تسلكه، أو الذلل صفة للنحل بانقيادها إلى أصحابها وذهابها حيث ذهبوا. {مًّخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ} لاختلاف أغذيته {فِيهِ شِفَآءٌ} الضمير للقرآن، أو للعسل. {والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون}(2/197)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
70 - {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أوضعه وأنقصه عند الجمهور، أو الهرم، أو ثمانون سنة، أو خمس وسبعون.(2/197)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
71 - {فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} السادة على العبيد، أو الأحرار بعضهم على بعض عند الجمهور {فِى الرِّزْقِ} بالغنى والفقر والضيق والسعة {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} لما لم يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز أن يشاركوا الله - تعالى - في ملكه " ع "، أو هم وعبيدهم سواء في أن الله - تعالى - رزق الجميع، وأن أحداً لا يقدر على رزق عبده / [96 / أ] إلا أن يرزقه الله - تعالى - أياه كما لا يقدر على رزق نفسه. {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدةً ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون} 72 - {مِّن أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} خلق حواء من آدم {وَحَفَدَةً} أصهار الرجل على بناته، أو أولاد الأولاد " ع "، أو بنو زوجة الرجل من غيره " ع " أو الأعوان، أو الخدم، والحفدة جمع حافد وهو المسرع في العمل، " نسعى ونحفد ": نسرع إلى العمل بطاعتك.(2/197)
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شىءٍ ومن رزقناه منّا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلاُ رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيءٍ وهو كلٌ على مولاه أينما يوجهه لايأتْ بخيرٍ هل يستوى وهو ومن يأمر بالعدل هو على صراط مستقيم 76}(2/198)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
75 - {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً} مثل للكافر والمؤمن، فالكافر لا يقدر على شيء من الخير، والرزق الحسن مما عند المؤمن من الخير " ع "، أو مثل للأوثان التي لا تملك شيئاً تُعبد دون الله - تعالى - الذي يملك كل شيء.(2/198)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
76 - {رَّجُلَيْنِ} مثل لله - تعالى - وللوثن الأبكم الذي لا يقدر على شيء، والذي يأمر بالعدل هو الله - عز وجل -، أو الأبكم: الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن " ع " أو الأبكم غلام لعثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - كان يعرض عليه الإسلام فيأبى والذي يأمر بالعدل عثمان - رضي الله تعالى عنه -. {ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىءٍ قديرٌ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لأيات لقومٍ يؤمنون}(2/198)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
77 - {وما أمر الساعة} سألت قريش الرسول [صلى الله عليه وسلم] عن الساعة استهزاء(2/198)
فنزل {ولله غيب السموات وَالأَرْضِ} يريد قيام الساعة وسميت ساعة لانها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته. {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإنما تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رءا الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رءا الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هولاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنّكم لكاذبون 86 وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىءٍ وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين}(2/199)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
81 - {مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً} الشجر {أَكْنَاناً} يستكن فيها جمع كن(2/199)
{سَرَابِيلَ} ثياب الكتان والقطن والصوف، والتي تقي الناس: دروع الحرب، ذكر الجبال والحر ولم يذكر السهل والبرد لغلبة الجبال والحر على بلادهم دون البرد والسهل، فَمَنَّ عليهم بما يختص بهم، أو اكتفى بذكر الجبال والحر عن ذكر السهل والبرد فالمنة فيهما آكد.(2/200)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
83 - {نعمة الله} محمد [صلى الله عليه وسلم] يعرفون نبوته ثم يكذبونه، أو نعمه المذكورة في هذه السورة ثم ينكرونها بقولهم: ورثناها عن آبائنا، أو إنكارها قولهم: لولا فلان لما أصبت كذا وكذا، أو معرفتهم: اعترافهم أن الله رزقهم وأنكارهم قولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا، قال الكلبي تسمى هذه السورة سورة النعيم لتعديد النعم فيها. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} أراد جميعهم، أو فيهم من حكم بكفره تبعاً كالصبيان والمجانين فذكر المكلفين. {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون}(2/200)