وَقَالَ أَيْضًا: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَةَ يَنْكِحُهَا الْعَفِيفُ، فَكَيْفَ يُوجَدُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ؟ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَقَوْلُهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مُخْبِرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ؛ وَلِهَذَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَآخِذَ مُتَبَايِنَةً، وَلَمْ أَسْمَعْ لِمَالِكٍ فِيهَا كَلَامًا. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَنَى بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا أَنَّهُمَا زَانِيَانِ، مَا عَاشَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَقَالَ: هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ سَرَقَ ثَمَرَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا1، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَاءَ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَمَاءُ النِّكَاحِ لَهُ حُرْمَةٌ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ، فَيُخْلَطُ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ، وَيُمْزَجُ2 مَاءُ الْمَهَانَةِ بِمَاءِ الْعِزَّةِ؛ فَكَانَ نَظَرُ مَالِكٍ أَشَدَّ مِنْ نَظَرِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ:
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا فَظَاهِرٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الزَّانِيَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً، فَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَأَسْنَدَهُ قَوْمٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ مَنْ حُدَّ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ حُدَّ مِنَ النِّسَاءِ؛ فَبِأَيِّ أَثَرٍ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ يُقَاسُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ الْعَقْدُ؟ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ زِنًا إلَّا بِزَانِيَةٍ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ الْوَطْأَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ زِنًا مِنَ الجِهَتَيْنِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَطْءَ الزِّنَا لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ، وَهَذَا يُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ.
فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ وَكَذَلِكَ هُوَ.
قُلْنَا: عَلِمْنَاهُ كَذَلِكَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَهُوَ أَحَدُ أَدِلَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَالِغٌ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ، أَوْ مُسْتَيْقِظٌ بِنَائِمَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ زِنًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ زِنًا، فَهَذَا زَانٍ يَنْكِحُ غَيْرَ زَانِيَةٍ، فَيَخْرُجُ الْمُرَادُ عَنْ بَابِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ.
ـــــــ
1في "القرطبي" : سرق من حائط تمره. ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه تمره.
2 في م: ويمتزج.(3/284)
قُلْنَا: هُوَ زِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ، وَالْآخَرُ ثَبَتَ فِيهِ الْحَدُّ، وَإِنْ أَرَدْنَا بِهِ الْعَقْدَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الزَّانِيَةَ زَانٍ، أَوْ يَتَزَوَّجَ زَانٍ الزَّانِيَةَ، وَتَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِالْمَاءِ الْفَاسِدِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُبْرِئَتْ.
فَإِنْ كَانَ رَحِمُهَا مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ زِنًا، لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَأَمَّا إنْ اُسْتُبْرِئَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَاثَ1 عَلَيْهِ لَوْثًا مِنْ كَلَامٍ وَهُوَ دَهِشٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: قُمْ فَانْظُرْ فِي شَأْنِهِ، فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا. فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: إنَّ ضَيْفًا ضَافَهُ فَزَنَى بِابْنَتِهِ " فَضَرَبَ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، أَلَا سَتَرْتَ عَلَى ابْنَتِكَ، فَأَمَرَ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ فَضُرِبَا الْحَدَّ، ثُمَّ زَوَّجَ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُغَرَّبَا حَوْلًا.
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ أَنَّ رَجُلًا اسْتَكْرَهَ جَارِيَةً فَافْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَجْلِدْهَا، وَنَفَاهُ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا بَعْد ذَلِكَ، وَجَلَدَهُ عُمَرُ وَنَفَى أَحَدَهُمَا إلَى خَيْبَرَ، وَالْآخَرُ إلَى فَدَكَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا فَجَرَ بِامْرَأَةٍ وَهُمَا بِكْرَانِ، فَجَلَدَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَفَاهُمَا، ثُمَّ زَوَّجَهُ إيَّاهَا مِنْ بَعْدِ الْحَوْلِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَأَشْبَهُ بِالنَّظَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوَاجُ بَعْدَ تَمَامِ التَّغْرِيبِ
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]. قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ عَامٌّ وَبَيَانٌ لِمُحْتَمَلٍ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَلْفَاظُ وَتَوْجِيهٌ لِأُصُولٍ، مَنْ فَسَّرَ النِّكَاحَ بِالْوَطْءِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَرْكِيبُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 أي لم يبينه ولم يشرحه ولم يصرح به. وقيل: هو من اللوث: الطي "النهاية"(3/285)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا(3/285)
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [المؤمنون: 4]. فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ} .
يُرِيدُ يَشْتُمُونَ. وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرَّمْيِ، لِأَنَّهُ إذَايَةٌ بِالْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ1 قِيلَ لَهُ الْقَذْفُ.
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ،
وَقَالَ أَبُو كَبْشَةَ2:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
وَقَالَ3:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي
بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ} :
مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ مَوْضِعَ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي سَوَاءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} :
قَدْ بَيَّنَّا الْإِحْصَانَ وَأَقْسَامَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ4، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِفَّةُ هَاهُنَا.
وَشُرُوطُ الْقَذْفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ: شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ، وَشَرْطَانِ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَخَمْسَةٌ فِي الْمَقْذُوفِ.
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ فِي الْقَاذِفِ: فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ.
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْذُوفِ مِنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُ بِوَطْءٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ الزِّنَا أَوْ اللِّوَاطُ، أَوْ يَنْفِيهِ مِنْ أَبِيهِ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي.
ـــــــ
1 في م: وكذلك.
2 منسوب في "القرطبي" إلى النابغة.
3 في "القرطبي" : وقال آخر. والبيت لابن أحمر. والطوي: البئر.
4 صفحة 401 وما بعدها من الجزء الأول.(3/286)
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْمَقْذُوفِ فَهِيَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا كَانَ عَفِيفًا عَنْ غَيْرِهَا أَوْ لَا.
فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْقَاذِفِ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ؛ إذْ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُمَا1 فِي الْمَقْذُوفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَعَانِي الْإِحْصَانِ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْإِذَايَةِ بِالْمَعَرَّةِ2 الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ؛ إذْ لَا يُوصَفُ الْوَطْءُ3 فِيهِمَا وَلَا مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًا.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِسْلَامِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَانِ وَأَشْرَفِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ عِرْضَ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ يَهْتِكُهَا الْقَذْفُ، كَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ لَا حُرْمَةَ لِعِرْضِهِ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِزِيَادَةِ4 الْكُفْرِ عَلَى الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ.
وَأَمَّا شَرَفُ الْعِفَّةِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَاحِقَةٌ بِهِ، وَالْحُرْمَةُ ذَاهِبَةٌ، وَهِيَ مُرَادَةٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهَا لِأَجْلِ نُقْصَانِ عِرْضِ الْعَبْدِ عَنْ عِرْضِ الْحُرِّ، بِدَلِيلِ نُقْصَانِ حُرْمَةِ دَمِهِ عَنْ دَمِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا خَاصَّةً؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك"
وَالنُّكْتَةُ الْبَدِيعَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وَاَلَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ هُوَ الزِّنَا؛ وَهَذَا قَاطِعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {يَرْمُونَ} :
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا وَذَنْبًا5 مُوجِبًا لِلْحَدِّ؛ فَإِنَّ عَرَّضَ وَلَمْ
ـــــــ
1 في "القرطبي" وإنما شرطنا في المقدوف العقل والبلوغ كما شرطنا في القادف وإن لم يكونا من معاني الإحصان.
2 في "القرطبي" : بالمضرة.
3 في "القرطبي" : اللواط.
4 في م: للزيادة بالكفر.
5 في م: ورميا.(3/287)
يُصَرِّحْ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِقَذْفٍ. وَمَالِكٌ أَسَدُّ طَرِيقَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ سَامِعُهُ الْحَدَّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَالتَّصْرِيحِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {إنَّك لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] وَقَالَ فِي أَبِي جَهْلٍ: {ذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِيهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًا إجْمَاعًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَصْوَبُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا؛ إذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا.
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِيرٌ تَامٌّ بِوَطْءٍ كَامِلٍ، فَكَانَ قَذْفًا. وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ، لَكِنْ مَالِكٌ غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ طُهْرِ1 الْقَاذِفِ. وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرْفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} .
كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ قَبْلُ.
فَلَوْ قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بِهَا الزِّنَا الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَكُونُونَ قَذَفَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا كَانُوا فُقَهَاءَ وَالْقَاضِي فَقِيهًا كَانَتْ شَهَادَةً.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ تَعَبُّدٌ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ تَعَبُّدٌ، وَصِفَتُهَا تَعَبُّدٌ، فَلَا يُبَدَّلَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّ مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ افْتَرَقُوا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ظهر.(3/288)
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ، وَرَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعِهَا؛ وَهُوَ أَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} .
قِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَحِقَ بِهِنَّ الرِّجَالُ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إلْحَاقِ الرِّجَالِ بِهِنَّ؛ فَقِيلَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ؛ كَمَا أُلْحِقَ ذُكُورُ الْعَبِيدِ بِإِمَائِهِمْ1 فِي تَشْطِيرِ الْحَدِّ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَمَذْهَبُ لِسَانِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ قَبْلَ النَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ، وَجُعِلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ2:
"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ [فَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ]3 قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ" . فَهَذَا إذَا سَمِعَهُ كُلُّ أَحَدٍ عَلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {الْمُحْصَنَاتِ} الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ جَهِلَ الْقِيَاسَ وَفَائِدَتَهُ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ أَصْلَ الدِّينِ وَقَاعِدَتَهُ.
وَالصَّحِيحُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمَا، مِنْ أَنَّهُ قِيَاسٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا جَرَمَ جَلَدَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي سَائِرِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَاجْلِدُوهُمْ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالزِّنَا؛ قَالَهُ4 أَبُو حَنِيفَةَ.
ـــــــ
1 في م: بإنائهم.
2 "صحيح مسلم" : 1286.
3 من "صحيح مسلم" .
4 و "الجصاص" : 5/96.(3/289)
الثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَقْذُوفِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ: فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَائِبَتَانِ؛ شَائِبَةُ حَقِّ اللَّهِ وَهِيَ الْمُغَلَّبَةُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: شَائِبَةُ حَقِّ الْعَبْدِ هِيَ الْمُغَلَّبَةُ. وَلِهَذَا الشَّوْبِ اضْطَرَبَ فِيهِ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، أَصْلُهُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ فَكَانَ كَالزِّنَا.
قُلْنَا: يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ، فَلَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنَا، وَعِنْدَهُمْ هُوَ حَثُّ الْآدَمِيِّ، فَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ. وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَهُ الْإِمَامُ بِمَحْضَرِ عُدُولِ الشُّهُودِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَظْهَرَ. وَلَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّةِ الْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عِنْدِي إثْبَاتَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَإِنْ ادَّعَى سَجَنَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ بِحَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُحَدُّ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ بِعُمُومِ الْآيَةِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ حَدٌّ فَلْيَتَشَطَّرْ بِالرِّقِّ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَخَصُّوا الْأَمَةَ1 بِالْقِيَاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} :
عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: الْحَدَّ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقَ؛ تَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: بَلْ رَدُّهَا مِنْ عِلَّةِ الْفِسْقِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5]، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْفِسْقَ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
1 في م: الآية.(3/290)
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهَا مِنْ جُمْهُورِ النَّاسِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قَذَفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، لَا قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ؛ وَإِنْ تَابَ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ. وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" ، وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ1 فِيهَا فِي كِتَابِ "الْمُلْجِئَةِ" .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّهَا2 حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِفُلَانَةَ.
وَنَصُّ الْحَادِثَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَاغِي أَبَا بَكْرَةَ وَيُنَافِرُهُ، وَكَانَا بِالْبَصْرَةِ مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، وَكَانَا فِي مَشْرُبَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ فِي دَارَيْهِمَا، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُوَّةٌ تُقَابِلُ الْأُخْرَى، فَاجْتَمَعَ إلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرُبَتِهِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ، فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَصْفِقَهُ3، فَبَصَرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتْ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ فِي مَشْرُبَتِهِ وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ قَدْ تَوَسَّطَهَا، فَقَالَ لِلنَّفَرِ: قُومُوا فَانْظُرُوا، ثُمَّ اشْهَدُوا؛ فَقَامُوا فَنَظَرُوا، فَقَالُوا: وَمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَرْقَمِ. وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ غَاشِيَةً لِلْمُغِيرَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى الصَّلَاةِ حَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ بِنَا، فَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى وَاسْتَعْمَلَهُ، وَقَالَ لَهُ: إنِّي أَبْعَثُكَ4 إلَى أَرْضٍ قَدْ
ـــــــ
1 في م: الحق.
2 في م: إنه.
3 ليغلقه.
4 في م: باعثك.(3/291)
بَاضَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ1؛ فَالْزَمْ مَا تَعْرِفُ، وَلَا تُبَدَّلْ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ بِك.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَعِنِّي بِعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَإِنِّي وَجَدْتُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كَالْمِلْحِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِهِ.
قَالَ: فَاسْتَعِنْ بِمَنْ أَحْبَبْت. فَاسْتَعَانَ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ.
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مُوسَى، حَتَّى أَنَاخَ بِالْبَصْرَةِ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ إقْبَالُهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى زَائِرًا وَلَا تَاجِرًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَمِيرًا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَدَفَعَ إلَى الْمُغِيرَةِ كِتَابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ:
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ2 عَظِيمٌ، فَبَعَثْت أَبَا مُوسَى أَمِيرًا؛ فَسَلِّمْ إلَيْهِ مَا فِي يَدَيْك، وَالْعَجَلَ.
فَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى وَلِيدَةً مِنْ وَلِيدَاتِ3 الطَّائِفِ تُدْعَى عَقِيلَةُ، وَقَالَ لَهُ: إنِّي قَدْ رَضِيتهَا لَك. وَكَانَتْ فَارِهَةً.
وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَأَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ كَيْف رَأَوْنِي مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ، وَكَيْف رَأَوْا الْمَرْأَةَ، وَهَلْ عَرَفُوهَا، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ أَسْتَتِرْ، أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ إلَيَّ عَلَى امْرَأَتِي، وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا زَوْجَتِي، وَكَانَتْ تُشْبِهُهَا.
فَبَدَأَ بِأَبِي بَكْرَةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمَا؟ قَالَ: مُسْتَدْبِرُهُمَا. قَالَ: وَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا؟ قَالَ: تَحَامَلْتُ حَتَّى رَأَيْتُهَا.
ثُمَّ دَعَا بِشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ، فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ؛ وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: رَأَيْته جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ. فَرَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ تَخْفِقَانِ،
ـــــــ
1 باض الشيطان وفرخ: ظهر، وكثر فيها الشر.
2 في م: نبأ.
3 في م: من ولائد.(3/292)
وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَيْنِ، وَسَمِعْت حَفَزَانًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ رَأَيْت1 كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا. قَالَ لَهُ: تَنَحَّ. وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ، وَقَرَأَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ} [النور: 13].
قَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنَ الأَعْبُدِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ: اُسْكُتْ، أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَك2، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ.
وَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَأْبَى3 حَتَّى كَتَبَ عَهْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ4، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِجَارِيَةِ بَنِي فُلَانٍ. وَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ حِينَ لَمْ يَفْضَحْ الْمُغِيرَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا أَدَّوْا الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَتَقَدَّمَ زِيَادٌ آخِرُهُمْ قَالَ لَهُ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ: إنِّي لَأَرَاك حَسَنَ الْوَجْهِ. وَإِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْك رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ مَا قَالَ. وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ ظُهُورِ زِيَادٍ، فَلَيْتَهُ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا زَادَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ حَتَّى خَتَمَ الْحَالَ بِغَايَةِ الْفَسَادِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ5 قَضَاءً ظَاهِرًا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْقَذَفَةِ، إذَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ؛ وَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" و "َالْأُصُولِ" .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، مَا عَدَا إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33، 34] وَهَذِهِ الْآيَةُ أُخْتُهَا وَنَظِيرَتُهَا فِي الْمَقْصُودِ.
وَأَمَّا قَبُولُ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحَدِّ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحَالُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْكَذِبِ السَّالِبِ
ـــــــ
1في م: رأيته.
2 النامة: النغمة والصوت. ويقال: أسكت الله نأمته أي أماته "القاموس" .
3في أ: فيأتي
4. في م: عبده ورسوله.
5في أ: من غير.(3/293)
لِلْعَدَالَةِ، وَبَيْنَ الصِّدْقِ الْمُصَحِّحِ لَهَا، فَلَا يَسْقُطُ يَقِينٌ لَهُ بِمُحْتَمَلِ مَقَالِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَقَالَةِ شُرَيْحٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ1 قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ.
ـــــــ
1 في م: فهو مثل قوله أبي حنيفة.(3/294)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلْقِ فِي التَّكَلُّمِ بِحَالِ الزَّوْجَاتِ جَعَلَ لَهُمْ مَخْلَصًا مِنْ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]. قَالَ سَعْدُ3 بْنُ عُبَادَةَ: أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَوْ أَتَيْت4 لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَأُخْرِجَهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَاَللَّهِ مَا كُنْت لِآتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟" قَالُوا: لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ فِينَا قَطُّ5 إلَّا عَذْرَاءَ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاَللَّهِ لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهَا الْحَقُّ. فَوَاَللَّهِ مَا لَبِثُوا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ حَدِيقَةٍ لَهُ، فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي جِئْت أَهْلِي عِشَاءً، فَرَأَيْت رَجُلًا مَعَ أَهْلِي، رَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَتَاهُ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ
ـــــــ
1 في م: فهو مثل قوله أبي حنيفة.
2 "أسباب النزول" 180.
3 في "القرطبي" سعد بن معاد 12-183
4 في م: لو رأيت.
5 من م.(3/294)
جِدًّا، حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَرَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِك مِمَّا أَتَيْتُك بِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ؛ وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا. فَقَالُوا: اُبْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، أَيُجْلَدُ هِلَالٌ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ بِضَرْبِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَاتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْشِرْ يَا هِلَالُ، إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَك فَرَجًا" .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْسِلُوا إلَيْهِمَا" 1 فَلَمَّا اجْتَمَعَا قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ2. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ، فَهَلْ فِيكُمَا تَائِبٌ" فَقَالَ هِلَالٌ: لَقَدْ صَدَقْت، وَمَا قُلْت إلَّا حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا".
قِيلَ لِهِلَالٍ: اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ.
فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: يَا هِلَالُ؛ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ وَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعُقُوبَةَ. فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ.
ثُمَّ قِيلَ لَهَا: تَشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا، وَلَا يُدْعَى لِأَبِيهِ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: قِيلَ لِهِلَالٍ: "إنْ قَذَفْت امْرَأَتَك جُلِدْت ثَمَانِينَ". قَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي قَدْ رَأَيْت حَتَّى اسْتَيْقَنْتُ3، وَسَمِعْتُ حَتَّى اسْتَثْبَتُّ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ"؛ فَجَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ4، فَكَانَ بَعْدُ أَمِيرًا بِمِصْرَ، لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَقِيلَ: لَا يُدْرَى مَنْ أَبُوهُ.
ـــــــ
1 في أ: إليها.
2 في م: فكذبته.
3 في م: استبنت.
4 الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض على سواد.(3/295)
وَفِي رِوَايَةٍ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا صَدَقَ، وَإِنَّ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ1 لَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي يُصَدِّقُ عُوَيْمِرًا".
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِك، فَتَلَاعَنَا" ثُمَّ فَارَقَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم، فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَهُ، فَكَانَ ابْنَهَا يُدْعَى إلَى أُمِّهِ. ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ابْنَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} .
عَامٌّ فِي كُلِّ رَمْيٍ سَوَاءٌ قَالَ: زَنَتْ، أَوْ رَأَيْتهَا تَزْنِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبَيِّنُ2 الْحُكْمِ فِيهَا.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي اقْتِصَارِ اللِّعَانِ عَلَى دَعْوَى الرُّؤْيَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا شَرَطْنَا الرُّؤْيَةَ أَيْضًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ؛ هَلْ يَصِفُ الرُّؤْيَةَ صِفَةَ الشُّهُودِ أَمْ يَكْفِي ذِكْرُهَا مُطْلَقًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ الزَّجْرُ عَنْ دَعْوَاهَا حَتَّى إذَا رَهِبَ ذِكْرَهَا وَخَافَ مِنْ تَحْقِيقِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ عِيَانَهُ كَفَّ عَنْ اللِّعَانِ؛ فَوَقَعَتْ السُّتْرَةُ، وَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ إنْ شَاءَ؛ وَلِذَلِكَ شَرَطْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفِيَّةَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا يَذْكُرُهَا الشُّهُودُ تَغْلِيظًا.
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَكْفِي لِإِيجَابِ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، فَلْتُعَوِّلُوا عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا وفي الحديث الصَّحِيحِ:أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهَبْ فَأْتِ بِهَا" فَلَاعِنِ بَيْنَهُمَا
وَلَمْ يُكَلِّفْهُ ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ3. أَمَا إنَّهُ قَالَ قي الحديث الثَّانِي: رَأَيْت بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إذَا أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ، وَكَذَلِكَ إذَا نَفَى الْحَمْلَ فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الرُّؤْيَةِ، إذْ قَدْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةُ الْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بِعِدَّةٍ.
ـــــــ
1 الوحرة بالتحريك دويبة كالقطاة تلزق بالأرض "النهاية" .
2 في أ: مبني.
3 في م، "والقرطبي" : لم يكلفه ذكر الرؤية.(3/296)
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، هَلْ يَكُونُ بِحَيْضَةٍ أَوْ بِثَلَاثٍ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ لَهُ مِنَ الشُّغْلِ تَقَعُ1 بِهَا، كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا رَاعَيْنَا الثَّلَاثَ حِيَضٍ فِي الْعِدَّةِ لِحُكْمٍ آخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {أَزْوَاجَهُمْ} :
عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ، مُؤْمِنَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، فَاسِقَيْنِ أَوْ عَدْلَيْنِ؛ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ، وَوُجُودِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَتَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ فِيهِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ.
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" بِمَا نُكْتَتُهُ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا2 شَأْنٌ" ، فَسَمَّاهَا أَيْمَانًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا يَلْتَعِنَانِ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ قَوْلُهُ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِهَا، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّدَهَا خَمْسًا، وَلَوْ كَانَتْ يَمِينًا مَا رُدِّدَتْ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْدِيدِهَا قِيَامُهَا فِي الْأَعْدَادِ مَقَامَ عَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا.
قُلْنَا: أَمَّا ذِكْرُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَقْتَضِي لَهَا حُكْمَهَا3 لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْعَرَبِ جَارِيَةٌ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، وَأَحْلِفُ بِاَللَّهِ، فِي مَعْرِضِ الْأَيْمَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا تَكْرَارُهَا فَيَبْطُلُ بِيَمِينِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ إجْمَاعًا.
وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا التَّغْلِيظُ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ عَلَى فَاعِلِهَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهَا فَيَقَعُ السَّتْرُ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَقْنُ فِي الدَّمِ، وَالْفَيْصَلُ فِي أَنَّهُ يَمِينٌ، لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ دَعْوَاهَا، وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْعَذَابِ؛ وَكَيْف يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ
ـــــــ
1 في أ: نفع.
2 في م: ولهما.
3 في م: حكما.(3/297)
أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ؟ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَاعَى1 أَبُو حَنِيفَةَ عُمُومَ الْآيَةِ، فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ وَنَسِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، وَهَذَا رَمَاهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللِّعَانُ فِي قَذْفٍ يَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، وَهَذَا قَذْفٌ لَا يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبٌ، فَلَا يُوجِبُ لِعَانًا، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نُظِرَتْ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ مُتَبَرَّأٌ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ.
وَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يَخَافُ تَعَلُّقَهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ؛ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ2 فَسَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا انْتَفَى مِنَ الحَمْلِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَقَعَ ذَلِكَ بِشُرُوطِهِ3 لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوْ دَاءً مِنَ الأَدْوَاءِ.
وَدَلِيلُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ. وَقَالَ: "إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِأَبِيهِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ" فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا" .
فَإِنْ قِيلَ: عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمْلَهَا؛ فَذَلِكَ حُكْمٌ بِاللِّعَانِ، وَالْحَاكِمُ مِنَّا لَا يَعْلَمُ أَحَمْلٌ هُوَ أَمْ رِيحٌ؟
ـــــــ
1 في م: رأى.
2 في م: وطهر.
3 في م، "القرطبي" بشرطه.(3/298)
قُلْنَا: إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَضَايَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْإِطْلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ تُبْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلِيمًا؛ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْتَرِكُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الْقُضَاةُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ أَعْرَبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ" . فَأَحَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ1؛ وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا قَذَفَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِزَوْجِهِ لَاعَنَ:
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الرَّمْيَ بِهِ فِيهِ مَعَرَّةٌ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ2 مِنْ قَوْلِنَا وَفِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنْ غَرِيبِ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا إنَّهُ إنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ لِلْبِنْتِ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ.
وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَمَا رَأَيْت لَهُمْ فِيهِ شَيْئًا يُحْكَى؛ وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ3 وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَمَا يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاسِدِ مِنْهُ، كَالنَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ، وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَتَطْهِيرِ الْفِرَاشِ، وَالزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا، وَيُلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ، فَجَرَى اللِّعَانُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَائِدَةُ لِعَانِ الزَّوْجِ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ، وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ".
فَلَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَدَرَأْت الْحَدَّ عَنْهُ، فَقَدْ قَامَ اللِّعَانُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ الزَّوْجُ لَمْ يُحَدَّ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَتَارَةً يُجْعَلُ
ـــــــ
1 في م: على الظاهر.
2 تقدم في سورة الأعراف والمؤمنون.
3 في أ: أمر.(3/299)
اللِّعَانُ شَهَادَةً، وَتَارَةً يُجْعَلُ حَدًّا. وَلَوْ كَانَ حَدًّا مَا حُبِسَ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِذَا لَاعَنَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الحَدِّ، وَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ يَتَنَازَعَانِ، فَلَوْ كَانَ اللِّعَانُ شَهَادَةً لَكَانَ تَحْقِيقًا لِلزِّنَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك" .
ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: اعْتَرِفِي فَتُحَدِّي أَوْ بَرِّئِي نَفْسَك؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعَذَابُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحَبْسُ.
فَيُقَالُ لَهُ: وَلِمَ تُحْبَسُ، وَلِمَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ شَيْءٌ عِنْدَك؟
ثُمَّ قُلْت: اللِّعَانُ حَدٌّ فَكَيْفَ وَجَبَ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ حَدٌّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} ، وَهُوَ الْحَدُّ، بِدَلِيلِ قَوْله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2] يَعْنِي الْحَدَّ؛ فَسَمَّاهُ عَذَابًا هَاهُنَا؛ وَهُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ؛ لِاتِّحَادِ الْمَقْصَدِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ مِنَ الزَّوْجِ؟ وَأَيُّمَا كَانَ فَلَا يُوجِبُ حَدًّا عَلَى الْمَرْأَةِ.
قُلْنَا: أُقِيمَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْلُصُ بِهِ الزَّوْجُ مِنَ الحَدِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ:
وَهُوَ الزَّوْجُ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ عَكَسَ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرُدُّهُ إلَيْهِ، وَلَا مَعْنًى يَقْوَى بِهِ؛ بَلْ الْمَعْنَى لَنَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَدَأَتْ بِالْيَمِينِ فَتَنْفِي مَا لَمْ يَثْبُتْ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَهُنَاكَ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا لِعَانَ عِنْدَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا قَذَفَهَا بِرَجُلٍ سَمَّاهُ كَشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ أَسْقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ وَحُدَّ لِشَرِيكٍ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا لَاعَنَ زَوْجَهُ.(3/300)
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَدَّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجَةِ مُطْلَقَيْنِ، ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَةَ بِالْخَلَاصِ بِاللِّعَانِ، وَبَقِيَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مُطْلَقِ الْآيَةِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُدَّ هِلَالًا لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إجْمَاعًا.
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ قَالَتْ أَحْبَارُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الزَّانِي بِزَوْجِهِ لِيَعُرَّهُ كَمَا عَرَّهُ، وَأَيُّ مَعَرَّةٍ فِيهِ، وَخَبَرُهُ عَنْهُ1 لَا يُقْبَلُ، وَحُكْمُهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ، إنَّمَا الْمَعَرَّةُ كُلُّهَا بِالزَّوْجِ؛ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ، فَإِنَّ قَذْفَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهُ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ.
ـــــــ
1 في م: فيه.(3/301)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: 2
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ3 مِنَ الحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ.
فَاَلَّذِي4 حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، وَخَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا نَزَلَ5 الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
ـــــــ
1 في م: فيه.
2 "أسباب النزول" : 182.
3 في م، ومسلم: طائف من حديثها.
4 في م: والذي.
5 في "مسلم" بعدما أنزل الحجاب.(3/301)
غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْت حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ.
فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي أَقْبَلْت إلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ1 قَدْ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْت2 عِقْدِي، وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ3 بِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْت رَكِبْت4، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ.
وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُثْقِلُهُنَّ اللَّحْمُ5، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ6 مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْت مَنَازِلَهُمْ، وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ.
فَأَمَمْت7 مَنْزِلِي الَّذِي كُنْت بِهِ، وَظَنَنْت أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْت.
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ8، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي؛ فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ9، فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ، حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْت وَجْهِي10 بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً، وَمَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا، فَرَكِبْتهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ11.
وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْت
ـــــــ
1 الجزع: خرز يماني. وظفار: باليمن.
2 في "مسلم" : فرجعت فالتمست.
3 في "مسلم" يرحلون لي. ويرحلون يجمعون الرحل على البحر.
4 في م: و "مسلم" الذي كنت أركب.
5 في "مسلم" : لم يهبلن ولم يغشهن اللحم.
6 العلقة: القليل.
7 في "مسلم" فيممت منزلي.
8 أدلح سار آخر الليل.
9 في يوم فاسترجع فاستيقظت باسترجاعه.
10 خمرت وجهي: غطيته.
11 في "مسلم" فهلك من هلك في شأني.(3/302)
شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرِيبُنِي1 فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْت أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ2 يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ" 3؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرِيبُنِي مِنْهُ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْت بَعْدَمَا نَقِهْتُ، فَخَرَجْت مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ4، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلَى لَيْلٍ5، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا.
فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَأَقْبَلْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي، وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْت لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْت، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ6، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ، قَالَتْ: قُلْت لَهَا: وَمَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ.
قَالَتْ: فَازْدَدْت مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي، وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ7، ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ" ، فَقُلْت: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا.
قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْت أَبَوَيَّ، فَقُلْت لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ؛ هَوِّنِي عَلَيْك، فَوَاَللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَتْ: فَقُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا!
فَبَكَيْت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، حَتَّى أَصْبَحْت أَبْكِي؛
ـــــــ
1 في م، "مسلم" : وهو يريبني.
2 في م: فيقول. وفي "صحيح مسلم" : ثم يقول
3 إشارة إلى المؤنثة.
4 المناصع: مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها.
5 في أ: الليل.
6 تريد: يا هذه.
7 من "مسلم" .(3/303)
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ1، يَسْتَأْمِرُهُمَا2 فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ. وَبِاَلَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُك، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا، كَثِيرٌ وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُك.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: "يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْت مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُك؟" قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ3 أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنَ4 فَتَأْكُلُهُ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ5 يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ؛ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت مِنْ6 أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي" .
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا أَعْذِرُكُمْ مِنْهُ، إنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْت7 عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك.
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ فِينَا8 قَبْلَ ذَلِكَ صَالِحًا، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ9
ـــــــ
1 استلبث الوحي: أبطأ ولم ينزل.
2 في "مسلم" : يستشيرهما.
3 أغمصه: أعيبه.
4 الدواجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وقد يقع على غير الشاء من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها، وجمعه دواجن "النهاية" .
5 استعذر: معناه أنه قال: من يعذرني فيمن آذاني في أهلي، ومعنى من يعذرني: من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعاله ولا يلومني. وقيل معناه من ينصرني. والعذير: الناصر.
6 في م: و "مسلم" : على أهلي.
7 في "مسلم" ضربنا عنقه.
8 ليس في م، و"مسلم".
9 في "مسلم" : اجتهلته الحمية، واجتهلته: استخفته وأغضبته وحملته على الجهل.(3/304)
الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْت وَاَللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ1.
قَالَتْ: فَمَكَثْت2 يَوْمِي ذَلِكَ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ مَكَثْت لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ. ثُمَّ جَلَسَ. قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ قَبْلَهَا. وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي.
قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ. ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُك اللَّهُ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ" .
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْت لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَتْ: فَقُلْت لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قُلْت، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ: إنِّي وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ. فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ: إنِّي بَرِيئَةٌ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي؛ وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُونَنِي. وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي. وَلَكِنْ، وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ
ـــــــ
1 من م، و "مسلم" .
2 في "مسلم" : وبكيت.(3/305)
مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِآيَةٍ1 تُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا فِي النَّوْمِ يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا.
قَالَتْ: فَوَ اَللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَانَهُ 2، وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ3، حَتَّى إنَّهُ لِيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ4 مِنَ العَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ5 عَلَيْهِ.
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: "[أَبْشِرِي]6 يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ".
قَالَتْ أُمِّي: قُومِي إلَيْهِ. فَقُلْت: وَاَللَّهِ7 لَا أَقُومُ إلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلِّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ؛ إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي؛ فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْأَلُ8 زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي؛ قَالَ: "يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْت؟ وَمَاذَا رَأَيْت؟" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي9، وَمَا عَلِمْت إلَّا خَيْرًا. قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا
ـــــــ
1 في م، و "مسلم" : بأمر.
2 في "مسلم" : مجلسه، ولا خرج.
3 الرحاء: الشدة، وفي "مسلم" : ما يأخذه من البرحاء عند الوحي.
4 الجمان: الدر.
5 في "مسلم" : من ثقل القول الذي أنزل عليه.
6 من "مسلم" .
7 في أ: قالت فوالله.
8 في "مسلم" : سأل.
9 أي أصون سمعي وبصري من أن أقول سمعت ولم أسمع، وأبصرت ولم أبصر.(3/306)
حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .
قَدْ بَيَّنَّا فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" حَقِيقَةَ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَأَنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ خَيْرًا؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنَ الأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُهُ وَهُوَ الثَّوَابُ كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ؛ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ1 هَمٌّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ شَرٌّ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ المُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور: 11]:
هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الإِثْمِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ، إلَّا أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَكَانَ يَرْمِيهِ2 وَيُشِيعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ: إنَّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَسَّانُ [بْنُ ثَابِتٍ]3، وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَمَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ4.
الثَّالِثُ: الْحَدُّ.
فَأَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ حَسَّانَ، وَأَمَّا عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلِمَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَّا عَذَابُ الْحَدِّ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً: مِسْطَحًا، وَحَسَّانَ، وَحَمْنَةَ.
ـــــــ
1 في م: ممن آله.
2 في م: يدسه.
3 من م.
4 في م: عذاب عظيم.(3/307)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى ظَنَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَجَعَلَ الْغَيْرَ1 مَقَامَ النَّفْسِ، لِذِمَامِ الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ الَّتِي حَلَّهَا2 الْمَرْءُ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي تَسَتَّرَ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ شَاعَ، إذَا كَانَ أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ} أَيْ كَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَذَلِكَ أَكْذَبُ الْأَخْبَارِ وَشَرُّ الْأَقْوَالِ حَيْثُ اُسْتُطِيلَ بِهِ الْعِرْضُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَقْرُونٌ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ بِالْمُهُجَاتِ.
ـــــــ
1 في م: العين.
2 في م: جعلها.(3/308)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:
قَوْله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ} [النور: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا رَدٌّ إلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْكَذِبِ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا زَعَمَ مِنَ الافْتِرَاءِ، حَتَّى يُخْرِجَهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَدِّ الْبَاطِنِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُفْتَرِي فِي الْإِثْمِ وَحَالُهُ فِي الْحَدِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ} :
وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ القَذْفِ الظَّاهِرِ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ صِدْقٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الظَّاهِرِ بِحُكْمِ الْكَاذِبِ، وَيُجْلَدُ الْحَدَّ.(3/308)
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله: {عِنْدَ اللَّهِ} يُرِيدُ فِي حُكْمِهِ، لَا فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ إنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا، لَا مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ.(3/309)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ
قَوْله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17].
فِيهَا مَسْأَلَةٌ: قَوْله تعالى: {لِمِثْلِهِ} يَعْنِي فِي عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَى نَظِيرِ الْقَوْلِ فِي الْمَقُولِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِيمَنْ كَانَ فِي مَرْتَبَتِهِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إذَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] فَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ أُدِّبَ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ قَوْله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فِي عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" .
وَلَوْ كَانَ سَلْبُ الْإِيمَانِ فِي سَبِّ عَائِشَةَ حَقِيقَةً لَكَانَ سَلْبُهُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" حَقِيقَةً.
قُلْنَا: لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ؛ إنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ. فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَهِيَ سَبِيلٌ لَائِحَةٌ1 لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ لَكَانَ جَزَاؤُهُ الْأَدَبَ.
ـــــــ
1 لائحة: ظاهرة.(3/309)
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:(3/309)
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ.
قَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِهَا: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ. {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي مِسْطَحًا إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ يَا رَبَّنَا، إنَّا لَنُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لَنَا، وَعَادَ لِمَا كَانَ يَصْنَعُ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ(3/310)
عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَجِبْت لِقَوْمٍ يَتَكَلَّفُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ؛ فَمَنْ لِلْمُتَكَلِّفِ لَنَا تَكَلَّفَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْهُزْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "شَرْحِ الْحَدِيثِ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَحْرُمُ، أَوْ لَا تَحْرُمُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ حَسَنَةٌ أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ إذَا رَآهُ خَيْرًا أَوْلَى مِنَ البِرِّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم -: "فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" .
وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ.(3/311)
الْآيَةُ الثَّانِيَة عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّصَ النَّاسَ بِالْمَنَازِلِ، وَسَتَرَهُمْ فِيهَا عَنْ الْأَبْصَارِ، وَمَلَّكَهُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَجَزَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ أَوْ يَلِجُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَرْبَابِهَا؛ لِئَلَّا يَهْتِكُوا أَسْتَارَهُمْ، وَيَبْلُوَا فِي أَخْبَارِهِمْ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي "الصِّحَاحِ" عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ حُجْرَةٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبِيِّ مِدْرًى1 يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك، إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ" .
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهَا: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ2، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ.
ـــــــ
1 المدرى: المشط. وانظر الحديث في "صحيح مسلم" : [1689].
2 المشقص - كمنبر: نصل عريض أو سهم فيه ذلك. والنصل الطويل، أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش وانظر الحديث في "صحيح مسلم" : [1699].(3/311)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَنَزَلَ قَوْله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فِي أَبْيَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} .
مَدَّ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي دُخُولِ بَيْتٍ لَيْسَ هُوَ بَيْتُك إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاسْتِئْنَاسُ1.
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَيَقُولُ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ.
الثَّانِي: حَتَّى تُؤْنِسُوا أَهْلَ الْبَيْتِ بِالتَّنَحْنُحِ، فَيَعْلَمُوا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
الثَّالِثُ: حَتَّى تَعْلَمُوا أَفِيهَا مِنْ تَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؛ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تَسْتَأْنِسُوا بِمَعْنَى تَسْتَأْذِنُوا فَلَا مَانِعَ فِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، وَلَيْسَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ كَاتِبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْخَطَأُ إلَى كِتَابٍ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رَاوِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ التَّنَحْنُحُ فَهِيَ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا. وَأَشْبَهُ مَا فِيهِ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ. وَهَذَا هُوَ حُكْمُ اللُّغَةِ فِي جَعْلِ مَعْنًى لِكُلِّ لَفْظٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ:
وَهُوَ بِالسَّلَامِ، وَصِفَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
كُنْت فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ2: اسْتَأْذَنْت عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْت. قَالَ: مَا مَنَعَك؟ قُلْت: اسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : إلى الاستئناس، وهو الاستئذان.
2 "صحيح مسلم" : [1694].(3/312)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" . فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً. أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَاَللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا. فَكُنْت أَصْغَرَهُمْ. فَقُمْت مَعَهُ، فَأَخْبَرْت عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ.
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَحِكْمَةُ التَّعْدَادِ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الْأُولَى اسْتِعْلَامٌ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ، وَالثَّالِثَةُ إعْذَارٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَتُسَلِّمُوا} تَفْسِيرًا لِلِاسْتِئْذَانِ. وَقَدْ اخْتَرْنَا قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ، وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ. وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَيْفِيَّةٌ فِي الْإِذْنِ. رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَأَلِجُ فَأَذِنَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ زَيْدٌ: فَلَمَّا قَضَيْت حَاجَتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: مَالَكَ وَاسْتِئْذَانِ الْعَرَبِ، إذَا اسْتَأْذَنْت فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْك السَّلَامُ فَقُلْ: أَأَدْخُلُ؛ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ. فَعَلَّمَهُ سُنَّةَ السَّلَامِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَدْخُلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: "قُمْ فَعَلِّمْ هَذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ" . فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ، اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَقَالَ: حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ اعْتِزَالَ النَّبِيِّ فِي الْمَشْرُبَةِ قَالَ: فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ. فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ، فَصَمَتَ. فَرَجَعْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَرَجَعْت إلَى الْغُلَامِ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ. قَالَ: فَوَلَّيْت مُدْبِرًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: اُدْخُلْ، فَقَدْ أَذِنَ لَك. فَدَخَلْت فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَطْلَقْت نِسَاءَك؛ فَرَفَعَ إلَيَّ رَأْسَهُ، وَقَالَ: "لَا". فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ؛ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَغَضِبَتْ يَوْمًا عَلَيَّ امْرَأَتِي فَطَفِقَتْ تُرَاجِعُنِي،(3/313)
فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا حَتَّى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَخَسِرَ، أَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَتْ عَلَيَّ حَفْصَةُ، فَقُلْت: لَا يَغْرُرْك أَنْ كَانَتْ جَارِيَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك. فَتَبَسَّمَ أُخْرَى. فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "نَعَمْ" فَجَلَسْت فَرَفَعْت رَأْسِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أَهَبَةً ثَلَاثَةً، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ الثَّالِثَةَ. فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ كَمَالَ التَّعْدَادِ حَقُّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ إنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَفِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الأُنْسِ وَالتَّبَسُّطِ، لَا مِنَ الإِعْلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ وَقَعَتْ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَالسَّلَامُ قَدْ تَعَيَّنَ، وَلَا تُعَدُّ رُؤْيَتُك لَهُ إذْنًا لَك فِي دُخُولِك عَلَيْهِ؛ فَإِذَا قَضَيْت حَقَّ السَّلَامِ لِأَنَّك الْوَارِدُ حِينَئِذٍ تَقُولُ: أَدْخُلُ؟ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ وَإِلَّا رَجَعْت.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْتٍ لَيْسَ لَك؛ فَإِمَّا بَيْتُك الَّذِي تَسْكُنُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلُك فَلَا إذْنَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَعَك أُمُّك أَوْ أُخْتُك فَقَالُوا تَنَحْنَحْ وَاضْرِبْ بِرِجْلَيْك حَتَّى تَنْتَبِهَ1 لِدُخُولِك، لِأَنَّ الْأَهْلَ لَا حِشْمَةَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا.
وَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأُخْتُ فَقَدْ تَكُونُ2 عَلَى حَالَةٍ لَا [تُحِبُّ أَنْ]3 تَرَاهَا فِيهَا.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ" . قَالَ: إنِّي أَخْدُمُهَا. قَالَ: "اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا" . قَالَ: فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا قَالَ: "أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟" قَالَ: لَا. قَالَ: "فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا" .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي وَهُنَّ فِي
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ينتبها لدخولك.
2 "القرطبي" : فقد يكونان.
3 من "القرطبي" .(3/314)
حُجْرَتِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَدَدْت عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى. قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْت: لَا قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا؛ فَرَاجَعَتْهُ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا.
وَقَالَ طَاوُسٌ: مَا مِنْ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الطَّبَرِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ دَخَلَ بَيْتَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِيَقُلْ: "السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" . رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَالصَّحِيحُ تَرْكُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(3/315)
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تِبْيَانٌ مِنَ اللَّهِ لِإِشْكَالٍ يَلُوحُ فِي الْخَاطِرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَحَدًا، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إذَا كَانَتْ الْمَنَازِلُ خَالِيَةً فَلَا إذْنَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مُحْتَجَبٌ، فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ.
وَالثَّانِي: كَشْفُ الْبَيْتِ وَإِطْلَاعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مُحْتَجِبٌ فَالْبَيْتُ مَحْجُوبٌ لِمَا فِيهِ، وَبِمَا فِيهِ، إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ1.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} :
يَعْنِي حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَيَأْذَنَ، أَوْ يَتَقَدَّمَ لَهُ بِالْإِذْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} :
ـــــــ
1 ربه: صاحبه.(3/315)
هَذَا مُرْتَبِطٌ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا؛ التَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَارْجِعُوا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو مُوسَى مَعَ عُمَرَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ1 تَسْطِيرُهُ وَإِيرَادُهُ.
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ فَلَا تَدْخُلُوا حَتَّى تَجِدُوا إذْنًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ، وَيُحَاوَلَ الْإِذْنَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَطَّلِعُ2 مِنْهُ عَلَى الْبَيْتِ لَا فِي إقْبَالِهِ وَلَا فِي انْقِلَابِهِ.
فَقَدْ رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ3 قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ" .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الأَلْفَاظِ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحْقِرُ فِيهِ.
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ جَاءَ دَارًا لَهَا بَابَانِ قَالَ: أَدْخُلْ؟ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: اُدْخُلْ بِسَلَامٍ. قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك أَنِّي أَدْخُلُ بِسَلَامٍ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ كَرَاهِيَةَ مَا زَادَ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ عَالِمٌ بِذَلِكَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي زَادَ فِي الْإِذْنِ بِسَلَامٍ زَادَ مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَقَالَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَضَمِنَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرُ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّغِيرِ لَغْوًا فِي الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي الْمَنَازِلِ مُرَخَّصٌ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ، وَغِلْمَانِهِمْ.
ـــــــ
1 صفحة [313].
2 في أ: لا أتطلع.
3 صفحة [311].(3/316)
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ(3/316)
يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْخَانَاتُ وَالْخَانَكَاتُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا دَكَاكِينُ التُّجَّارِ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَنَازِلُ الْأَسْفَارِ وَمُنَاجَاةُ الرِّجَالِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْخَرَابَاتُ الْعَاطِلَةُ؛ قَالَ قَتَادَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْمَنَافِعُ كُلُّهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْخَلَاءُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا الْخَانَاتُ وَهِيَ الْفَنَادِقُ، وَالْخَانَكَاتُ وَهِيَ الْمَدَارِسُ لِلطَّلَبَةِ، فَإِنَّمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فِيهَا وَالْعَامِلِينَ بِهَا فَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ. وَكَذَلِكَ دَكَاكِينُ التُّجَّارِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا إذْنَ فِيهَا؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا جَاءُوا بِبُيُوعِهِمْ، وَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ. فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ فَلَا دُخُولَ فِيهِ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ، وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ1 الدَّاخِلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِمَا لَهُ مِنَ الانْتِفَاعِ، فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانَكَاتِ لِلْعِلْمِ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ فِي الْخَانِ لِلْمَنْزِلِ فِيهِ، أَوْ لِطَلَبِ مَنْ نَزَلَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَالزَّبُونُ يَدْخُلُ لِدُكَّانِ الِابْتِيَاعِ2، وَالْحَاقِنُ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ، وَكُلٌّ يُؤْتَى عَلَى وَجْهِهِ مِنْ بَابِهِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ بِاسْمِهَا الظَّاهِرِ وَلِمَنْفَعَتِهَا الْبَادِيَةِ وَنِيَّتُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أَبْدَى، وَبِمَا كَتَمَ، يُجَازِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : أن الداخل فيها.
2 في "القرطبي" : يدخل الدكان للابتياع.(3/317)
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} . [النور: 30]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا} يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ1:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ
فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} .
فَأَدْخَلَ حَرْفَ {مِنْ} الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَكَرَ {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} مُطْلَقًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ الْحَرَامِ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ، فَقَالَ: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} .
الثَّانِي: أَنَّ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ، فَإِنَّ سَتْرَهُ وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ؛ قَالَ:
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: "احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجِك، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك" . فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: "إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ" . قُلْت: فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا؟ قَالَ: "اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ" .
وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} :
يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
ـــــــ
1 هو جرير، والبيت في "ديوانه" : [75].(3/318)
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ1، وَإِيضَاحُهُ فِي "شَرْحِ الْحَدِيثِ" وَ "الْمَسَائِلِ" .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} :
يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ فِي الطَّاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ:
"يَا عَلِيُّ2، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك" .
وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ لِأَحْوَالِهِ.
وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ:
وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا
لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ
رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ
عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وَقَالُوا: مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ3، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَجَمَالِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَتَطَأْطَأَ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مِنْ خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ.
وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي؟ فَقَالَ لَهَا: أَعْجَبَتْنِي عَيْنَاكِ. فَقَالَتْ: الْبَثْ قَلِيلًا، فَدَخَلَتْ دَارَهَا، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ، وَقَالَتْ لَهُ: خُذْ مَا أَعْجَبَك، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ النَّاسَ مِنِّي.
ـــــــ
1 صفحة [265] من الجزء الثاني.
2 في "النهاية" : قال النبي لعلي: إن لك بيتاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها – أي طرفي الجنة وجانبيها. قال أبو عبيد: أو أراد ذو قرني الأمة فأضمر. وقيل: أراد الحسن والحسين.
3 الحتف: الهلاك.(3/319)
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
قَوْله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]:
قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنَ المُؤْمِنِينَ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي "أُصُولِ الْفِقْهِ" ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْإِنَاثَ بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...} [الأحزاب: 35] - خرجه الترمذي 1 وَغَيْرُهُ.
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ أَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ؛ وَخَصَّ النِّسَاءَ فِيهِ بِالذِّكْرِ عَلَى الرِّجَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} .
وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا يُسَمَّى زِنًا.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ إذَا كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ؛ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" .
وَكَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّ
ـــــــ
1 "سنن الترمذي" : [5-354].(3/320)
عَلَاقَتَهُ بِهَا كَعَلَاقَتِهَا بِهِ، وَقَصْدُهُ مِنْهَا كَقَصْدِهَا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْت أَنَا وَعَائِشَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ لَنَا: "احْتَجِبْنَ مِنْهُ؟" فَقُلْنَا: أَوَلَيْسَ أَعْمَى؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا" .
فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، فَقَالَ لَهَا:
"تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك عِنْدَهُ" .
قُلْنَا: قَدْ أَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّرْحِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَسَتَرَوْنَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ انْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، إذْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَالرَّائِي لَهَا، وَفِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَكَانَ إمْسَاكُ بَصَرِهَا عَنْهُ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى؛ فَرَخَّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .
الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ.
فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ، وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ المَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِ مَحَالِّهَا فِي الرَّأْسِ، وَوَضْعِهَا وَاحِدًا مَعَ آخَرَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْبَدِيعِ.
وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا بِالتَّصَنُّعِ: كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ.
وَمِنْهُ قَوْله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] يَعْنِي الثِّيَابَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى
وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} :
اعْلَمُوا عَرَّفَكُمْ اللَّهُ الْحَقَائِقَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الأَلْفَاظِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْتَضِي أَحَدُهَا الْآخَرَ، وَهُوَ الْبَاطِنُ هَاهُنَا، كَالْأَوَّلِ مَعَ الْآخَرِ، وَالْقَدِيمِ مَعَ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا وَصَفَ الزِّينَةَ بِأَنَّ مِنْهَا ظَاهِرًا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ بَاطِنًا.(3/321)
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الثِّيَابُ يَعْنِي أَنَّهَا يَظْهَرُ مِنْهَا ثِيَابُهَا خَاصَّةً؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ.
وَهُوَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بِمَعْنًى، لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالْخَاتَمَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَرَى الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ هِيَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ يَقُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُحْلٌ أَوْ خَاتَمٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَجَبَ سَتْرُهَا، وَكَانَتْ مِنَ البَاطِنَةِ.
فَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالدُّمْلُجِ وَالْخَلْخَالِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْخِضَابُ لَيْسَ مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّوَارِ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْكَفَّيْنِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الذِّرَاعِ.
وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هِيَ الَّتِي فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَإِنَّهَا الَّتِي تَظْهَرُ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةً، وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ عَادَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} :
الْجَيْبُ: هُوَ الطَّوْقُ وَالْخِمَارُ: هِيَ الْمِقْنَعَةُ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا نَزَلَ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا: شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، كَأَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهَا مِرْطٌ شَقَّتْ مِرْطَهَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهَا إزَارٌ شَقَّتْ إزَارَهَا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ بِمَا فِيهِ، وَيُوَضِّحُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ أَيْ لَا تُعْرَفُ فُلَانَةُ مِنْ فُلَانَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} :
حَرَّمَ اللَّهُ إظْهَارَ الزِّينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ مَحِلًّا:(3/322)
الْمُسْتَثْنَى الْأَوَّلُ: الْبُعُولَةُ.
وَالْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي "لِسَانِ الْعَرَبِ" ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ حِينَ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ:
"حَتَّى تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا" يَعْنِي سَيِّدَهَا؛ إشَارَةً إلَى كَثْرَةِ السَّرَارِي بِكَثْرَةِ الْفُتُوحَاتِ، فَيَأْتِي الْأَوْلَادُ مِنَ الإِمَاءِ، فَتَعْتِقُ كُلُّ أُمٍّ بِوَلَدِهَا، فَكَأَنَّهُ سَيِّدُهَا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ؛ إذْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا لَهَا مِنْ سَبَبِهِ، فَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ مِمَّنْ يَرَى الزِّينَةَ مِنَ المَرْأَةِ وَأَكْثَرَ مِنَ الزِّينَةِ؛ إذْ كُلُّ مَحِلٍّ مِنْ بَدَنِهَا حَلَالٌ لَهُ لَذَّةً وَنَظَرًا؛ وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 29-30].
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى فَرْجِ زَوْجَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ التَّلَذُّذُ فَالنَّظَرُ أَوْلَى.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي ذِكْرِ حَالِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم:
"مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي" .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَدَبِ؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ مِنْ عُلَمَائِنَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْحَسَهُ بِلِسَانِهِ.
الْمُسْتَثْنَى الثَّانِي: أَوْ آبَائِهِنَّ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ فِي اللَّذَّةِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ غَيْرُ الزَّوْجِ بِالزَّوْجِ فِي النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شُورِكَ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِ الْعَطْفِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَكِنْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمْ السُّنَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَبِ مِنَ الزِّينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّأْسُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي تُبْدِي الْقُرْطَ وَالْقِلَادَةَ وَالسِّوَارَ، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَشَعْرُهَا فَلَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِهَا خِمَارٌ وَمِقْنَعَةٌ، فَتَكْشِفُ الْمِقْنَعَةَ لَهُ.
وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى؛ إذْ الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ يَجُوزُ لِلْأَبِ النَّظَرُ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلْطَةِ، وَلِأَجْلِ الْمَحْرَمِيَّةِ الَّتِي مَهَّدَتْ الشَّرِيعَةُ؛ إذْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا النَّظَرُ شَهْوَةً، لِتَعَذُّرِهَا فِي(3/323)
هَذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ وَالْبَعْضِيَّةِ الْقَائِمَةِ مَعَهُ.
الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثُ: أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ.
قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ خَتَنَتِهِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ: لَا أَرَاهَا مِنْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ1: "إنَّ الْحَمْوَ هُوَ الْمَوْتُ" يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْهُ، كَمَا لَا بُدَّ مِنَ المَوْتِ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَلِأَنَّهَا بِنْتُهُ، فَنَزَلَتْ مِنْهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ. وَالْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ وَالْأَحْمَاءُ مِمَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْقَوْلُ؛ وَجُلُّهُ أَنَّ الْخَتَنَ الصِّهْرُ. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ.
الْمُسْتَثْنَى الرَّابِعُ: الْأَبْنَاءُ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَكُرِهَ لِلْبَاقِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الِابْنَ وَالْأَبَ أَحَقُّ الْأَجَانِبِ مِنْ جِهَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ.
الْمُسْتَثْنَى الْخَامِسُ: أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ.
وَهُمْ يَنْزِلُونَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فِي جَوَازِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، لِنُزُولِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَبْنَاءِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ.
الْمُسْتَثْنَى السَّادِسُ: الْإِخْوَةُ:
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ؛ وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.
الْمُسْتَثْنَى السَّابِعُ: أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ، وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.
رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا مِنْهُ وَلَا مِنْ عَشَرَةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ: مِنْ حَمْزَةَ أَخِيهَا، وَلَا مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَا عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِيهَا، وَلَا مِنَ الزُّبَيْرِ ابْنِهَا، وَلَا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ابْنِ بِنْتِ أُخْتهَا أُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزٍ، وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَلَا مِنْ أَبِي سَبْرَةَ بْنِ أَبِي رُهْمٍ ابْنَيْ أُخْتِهَا بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [1711]. والحم واحد الأحماء: أقارب الزوج "النهاية" .(3/324)
قُصَيٍّ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي أَحْمَدَ الشَّاعِرِ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ ابْنَيْ جَحْشٍ، أُمُّهُمَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
الْمُسْتَثْنَى الثَّامِنُ: بَنُو الْأَخَوَاتِ.
وَلَمَّا لَحِقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْ تَقَدَّمَ لَحِقُوا بِهِمْ فِي جَوَازِ النَّظَرِ.
الْمُسْتَثْنَى التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} : وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمِيعُ النِّسَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ مُبْدِيَةً لَهُنَّ زِينَتَهَا.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَامْنَعْ ذَلِكَ، وَحُلْ دُونَه1.
ثُمَّ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامَ مُمْتَثِلًا، فَقَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا سَقَمٍ تُرِيدُ الْبَيَاضَ لِزَوْجِهَا فَسَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِجَمِيعِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ لِلِاتِّبَاعِ، فَإِنَّهَا آيَةُ الضَّمَائِرِ؛ إذْ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا لَمْ يَرَوْا فِي الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرًا، فَجَاءَ هَذَا لِلِاتِّبَاعِ.
الْمُسْتَثْنَى الْعَاشِرُ: قَوْله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} :
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا؛ وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فِيمَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ تَنَاقُضَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَلَوْ مَلَكَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ لَقَالَ لَهَا: اُخْرُجِي وَأَطِيعِي زَوْجَك، وَقَالَتْ هِيَ لَهُ: اُسْكُتْ وَأَطِعْ سَيِّدَتَكَ.
وَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَقِمْ، وَقَالَ الْآخَرُ: ارْحَلْ. وَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنْفِقْ بِالرِّقِّ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنْفِقْ بِالزَّوْجِيَّةِ. فَيَعُودُ الطَّالِبُ مَطْلُوبًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا، فَحَسَمَ اللَّهُ الْعِلَّةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ.
وَفِيمَا يُرْوَى فِيهَا قَوْلَانِ:
ـــــــ
1 في "القرطبي" : فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. وعرية المرأة ما ينكشف منها.(3/325)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ كَالْأَجْنَبِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَذَوِي الْمَحَارِمِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّهُ، إنَّهَا لَيْسَتْ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ. قَالَا: قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْجَارِيَةِ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ شَعْرِهَا، كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَعَهَا الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا.
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْغُلَامِ حُرًّا فَلَا يَرَى شَعْرَ مَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَصِيًّا لَا تَمْلِكُهُ لَمْ يَنْظُرْ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ خُصْيَانُ الْعَبِيدِ إلَى شُعُورِ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْأَحْرَارَ فَلَا، وَذَلِكَ فِي الْوَغْدِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ الْمَنْظَرَةُ فَلَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْوَغْدِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ سَيِّدَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِذِي الْمَنْظَرَةِ.
وَقَالَ فِي الْخَصِيِّ خَادِمُ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ، يَرَى فَخِذَهُ مُنْكَشِفَةً: إنَّهُ خَفِيفٌ.
وَقَالَ فِي جَارِيَةِ الْمَرْأَةِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَرَى فَخِذَ زَوْجِهَا يَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَالَ اللَّهُ تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، فَامْرَأَتُهُ فِي هَذَا كَغَيْرِهَا. وَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النِّسَاءَ أَنْ يَلْبَسْنَ الْقَبَاطِيَّ1، وَقَالَ: إنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرِيدُ الْخُصُورَ وَالْأَرْدَافَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَعْمَى، وَأَنَّهَا احْتَجَبَتْ مِنْهُ؛ فَقِيلَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ إنَّهُ أَعْمَى لَا يَنْظُرُ إلَيْك. قَالَتْ: وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ.
قَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ أَتُلْقِي الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا بَيْنَ يَدَيْ الْخَصِيِّ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا؛ فَأَمَّا الْحُرُّ فَلَا، وَإِنْ كَانَ فَحْلًا كَبِيرًا وَغْدًا، تَمْلِكُهُ لَا هَيْئَةَ لَهُ وَلَا مَنْظَرَةَ فَلْيَنْظُرْ إلَى شَعْرِهَا.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إلَى مَوْلَاتِهِ.
قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ تَدْخُلَ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ عَلَى الرَّجُلِ
ـــــــ
1 الثياب القبطية – بالضم على غير قياس، وقد تكسر – ثياب تنسب إلى أهل مصر، وجمعها: قباطي – بضم القاف وفتحها "القاموس" .(3/326)
الْمِرْحَاضَ؛ قَالَ اللَّهُ: {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: يَنْظُرُ الْغُلَامُ الْوَغْدُ إلَى شَعْرِ سَيِّدَتِهِ وَلَا أُحِبُّهُ لِغُلَامِ الزَّوْجِ.
وَأَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ غُلَامَ الْمَرْأَةِ فِي ذَوِي مَحَارِمِهَا يَحِلُّ مِنْهَا مَا يَحِلُّ لِذِي الْمَحْرَمِ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الِاحْتِيَاطِ أَعْجَبُ إلَيَّ.
فَرْعٌ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَعَ عَبْدِهَا وَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ فِي السَّفَرِ فَيَحِلُّ لَهَا تَزَوُّجُهُ. وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ عِتْقَهُ بِيَدِهَا؛ فَلَا يُتَّفَقُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بِمَوْضِعٍ يَتَأَتَّى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
الْمُسْتَثْنَى الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} 1: فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعِنِّينُ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْأَبْلَهُ الْمَعْتُوهُ لَا يَدْرِي النِّسَاءَ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْبُوبُ لِفَقْدِ إرْبِهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْهَرَمُ، لِعَجْزِ إرْبِهِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْمَرْأَةَ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ. قَالَهُ قَتَادَةُ.
السَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي لَا يَهُمُّهُ إلَّا بَطْنُهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ خَادِمُ الْقَوْمِ لِلْمَعَاشِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الصَّغِيرُ فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفْرَدَهُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ آلَةٌ، وَمِنْهُمْ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ آلَةٌ، وَاَلَّذِي لَهُ آلَةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُمْ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ فِي
ـــــــ
1 الإربة، والإرب: الحاجة.(3/327)
ذَلِكَ، وَلَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ فَلَا كَلَامَ فِيهِمَا. وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا مِمَّنْ لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ اجْتِمَاعٌ لِضَرُورَةِ حَالِهِ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ رَخَّصَتْ فِي ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ، وَلِقَصْدِ نَفْيِ الْحَرَجِ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا هِيتٌ الْمُخَنَّثُ، فَقَالَ لِأَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عِنْدَهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بَادِنَةَ1 بِنْتِ غَيْلَانَ يَعْنِي زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّهَا تُنِيفُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنَّهُ الْأُقْحُوَانُ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، إنْ جَلَسَتْ تَبَنَّتْ، وَإِنْ قَامَتْ تَثَنَّتْ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ:
بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا
قَصْدٌ فَلَا جَبْلَةٌ وَلَا قَضَفُ2
تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ
كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْهَهَا نُزْفُ3
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَأَرَى4 هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا، لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ" فَحَجَبَهُ.
الْمُسْتَثْنَى الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْآخَرُ: يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي، وَقَدْ تَشْتَهِي هِيَ أَيْضًا؛ فَإِنْ رَاهَقَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَالِغِ فِي
ـــــــ
1 في "القاموس" : بادية بنت غيلان الثقفية صحابية أو هي بنون بعد الدال. وفي "الإصابة" [4/ 242] حكى ابن مندة في ضبطها وجهين: وبالموحدة، وبالنون بدلها، وقال إنه وهم. وحكى غيره فيها بالموحدة أولها ثم بنون بعد الدال.
2 الشكول: الضروب، وقصد: ليست بالجسمية ولا بالحنيفة. والجبلة: الغليظة. والقضف: الدقة وقلة اللحم.
3 تغترق: من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى غيرها. والنزف – بضم فسكون – وحرك هنا لضرورة الشعر: خروج الدم. أي في لونها مع البياض صفرة. أو أراد أنها رقيقة المحاسن كأن دمها منزوف. "اللسان" – [قضف، نزف].
4 في "القرطبي": لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله، ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى.(3/328)
وُجُوبِ السَّتْرِ وَلُزُومِ الْحَجَبَةِ.
وَبَقِيَ هَاهُنَا الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهُوَ الشَّيْخُ الَّذِي سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ:
وَفِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ. وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ الْحُرْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا مِنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوهَا رَجُلًا أَوْ ظَنُّوهُ امْرَأَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَظَرًا وَلَذَّةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّذَّةَ لِلزَّوْجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الزِّينَةَ: ظَاهِرُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَمَا لَنَا وَلِغَيْرِ ذَلِكَ؟ هَذَا نَظَرٌ فَاسِدٌ، وَاجْتِهَادٌ عَنْ السَّدَادِ مُتَبَاعِدٌ.
وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} عَلَى الْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَبِيدِ، ثُمَّ يُلْحَقُونَ بِالنِّسَاءِ؟ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} :
قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةَ خَلْخَالَيْهَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ حَرَامٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ صَرَّ بِنَعْلِهِ مِنَ الرِّجَالِ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عُجْبًا1 حَرُمَ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في "القرطبي": تعجباً.(3/329)
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [النور: 32]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَالْأَيِّمُ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا.
الثَّانِي: أَنَّهَا الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا.(3/329)
وفي الحديث أَنَّهُ: نَهَى عَنْ الْأَيْمَةِ1. وَقَالَ الشَّاعِرُ2:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي
وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ3 أَتَأَيَّمُ
وَفِي الْحَدِيثَ: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا" ؛ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بَعْدَ زَوْجِهَا.
وَفِي لَفْظٍ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا} :
فَقِيلَ: هُمْ الْأَزْوَاجُ.
وَقِيلَ: هُمْ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ سَيِّدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ الْأَوْلِيَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَنْكِحُوا. بِالْهَمْزَةِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَكَانَتْ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ، وَإِنْ كَانَ بِالْهَمْزَةِ فِي الْأَزْوَاجِ لَهُ وَجْهٌ فَالظَّاهِرُ أَوْلَى، فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا} :
لَفْظُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْءِ4 مِنْ خَوْفِهِ الْعَنَتَ، وَعَدَمِ صَبْرِهِ، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ، وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ.
وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ.
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتْ الْحَالُ مُطْلَقَةً، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ مُبَاحٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ.
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ، فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ الصَّحِيحِ. وَفِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ:
ـــــــ
1 يقال: أيم بين الأيمة، وقد آمت هي، وأمت أنا، والأيمة طول التعزب "النهاية" .
2 "اللسان" : [أيم].
3 في "اللسان" :
..... وإتتايمي
يد الدهر ما لم تنكحي أتأيم.
4 في "القرطبي" : باختلاف حال المؤمن.(3/330)
الْأَوَّلُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا1، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ، وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" .
الثَّانِي: قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلَى قَوْلِهِ: {أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3]. قَالَتْ: يَا بْنَ أُخْتِي، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} : وَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَأَنْكِحُوا إمَاءَكُمْ. وَتَقْرِيرُهَا: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، كَمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى، وَذَلِكَ بِيَدِ السَّادَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، كَمَا هُوَ فِي الْأَحْرَارِ بِيَدِ الْأَوْلِيَاءِ، إلَّا مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ، وَائْتَمَرَ أَمْرَهُ، وَأَبْصَرَ رُشْدَهُ.
أَمَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَامِلٌ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَلَهُ حَقُّ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي بُضْعِ الْأَمَةِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَيَمْلِكَهُ.
فَأَمَّا بُضْعُ الْعَبْدِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تُبَاحُ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا؛ هَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ.
وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَةُ الْعُظْمَى فِي أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْعَبْدِ اسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّةُ السَّيِّدِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهِ إجْمَاعًا.
وَالنِّكَاحُ وَبَابُهُ إنَّمَا هُوَ مِنَ المَصَالِحِ، وَمَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مَوْكُولَةٌ إلَى السَّيِّدِ، هُوَ يَرَاهَا وَيُقِيمُهَا
ـــــــ
1 تقالوها: استقلوها "النهاية" .(3/331)
لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ زَوَّجَ الْأَمَةَ بِمِلْكِهِ لِرَقَبَتِهَا، لَا بِاسْتِيفَائِهِ لِبُضْعِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهَا، وَيَمْلِكُ بُضْعَ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ أَمَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَوْفِيهِ. وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَقَبَةِ الْأَمَةِ.
وَالْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ السَّيِّدِ اسْتِيفَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهَا، وَمِنْهَا وَمِنْ عَدِّهِمْ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِمِلْكِ عَقْدِهِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ نَظَرًا فِي الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ أَسْقَطَهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ الَّذِي لَهُ، وَقَدْ نَرَى الثَّيِّبَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهَا النِّكَاحُ، وَيُمْلَكُ النِّكَاحُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَيُمْلَكُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِقَالَةَ وَلَا الْفَسْخَ، وَلَا الْعِتْقَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ العَيْنَيْنِ غَيْرُ مَطْلَعِ الْآخَرِ، فَافْتَرَقَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْمَمْلُوكَيْنِ لَقَالَ مِنْ عَبِيدِكُمْ.
قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {وَإِمَائِكُمْ} ، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسَ لَمَا جَاءَ بِالْهَمْزَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا الْحَسَنُ مِنْ عَبِيدِكُمْ، وَلِيُبَيَّنَ الْإِشْكَالُ وَيُرْفَعَ اللَّبْسُ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ قَدَّرْنَاهُ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ عَامًّا، وَكُنَّا نَحْكُمُ بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، كَمَا حَكَمْنَا بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَتْ أَمَةً لِلَّهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهَا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغْنِيهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالنِّكَاحِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] يَعْنِي النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِهِ.
الثَّانِي: يُغْنِيهِمْ بِالْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: عَجِبْت لِمَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْبَاءَةِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ1: "ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ
ـــــــ
1 "ابن ماجة": [841].(3/332)
اللَّهِ1، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ2، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ" .
فَإِنْ قُلْنَا: قَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا يَسْتَغْنِي.
قُلْنَا: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُغْنِيهِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ.
الثَّانِي: يُغْنِيهِ عَنْ الْبَاءَةِ بِالْعِفَّةِ.
الثَّالِثُ: يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَصَدَقَ الْوَعْدُ.
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: إنَّ هَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: "النَّاكِحُ مُعَانٌ، وَالْمُكَاتَبُ مُعَانٌ، وَبَاغِي الرَّجْعَةِ مُعَانٌ".
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَتْ مُخْتَلِفَاتِ الْأَحْكَامِ؛ مِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمِنْهَا فِي الْبَالِغِ، وَمِنْهَا فِي الصَّغِيرِ، وَمِنْهَا فِي الثَّيِّبِ، وَمِنْهَا فِي الْبِكْرِ.
قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...} إلَى آخِرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَخْتَلِفُ فِي بَابِهِ، وَالْخِطَابُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ الْفَقِيرِ، وَلَا يَقُولَنَّ3 كَيْفَ أَتَزَوَّجُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ؟ فَإِنَّ رِزْقَهُ وَرِزْقَ عِيَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَوْهُوبَةَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا إزَارٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ هَذَا فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ دَخَلَتْ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَارِ، فَخَرَجَ مُعْسِرًا، أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في "ابن ماجة" : الغازي في سبيل الله.
2 في "ابن ماجة" : يريد التعفف.
3 في "القرطبي" : ولا يقول.(3/333)
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَلَّذِينَ(3/333)
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]. فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا خِطَابٌ لِبَعْضِ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِمَّنْ يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ، فَيَتَعَفَّفُ، وَيَتَوَقَّفُ، أَوْ يَقْدُمُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ. وَأَمَّا مَنْ زِمَامُهُ بِيَدِ سِوَاهُ يَقُودُهُ إلَى مَا يَرَاهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْخَلٌ كَالْمَحْجُورِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّمٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} :
يَعْنِي يَقْدِرُونَ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ، وَعَنْ عَدَمِهَا بِعَدَمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] حَرْفًا بِحَرْفٍ فَخُذْهُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ.
الثَّانِي: بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ يَسْتَعِفُّ بِالصَّوْمِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ1:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ؛ مَنْ اسْتَطَاعَ
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [1019].(3/334)
مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ1 " . وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لِانْتِظَامِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَالْحَدِيثِ، وَاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} :
يَعْنِي يَطْلُبُونَ الْكِتَابَ، يُرِيدُ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُونَهُ إلَى سَادَاتِهِمْ، فَافْعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ طَلَبَ الْعَبْدِ لِلْمُكَاتَبَةِ، وَأَمَرَ السَّيِّدَ بِهَا حِينَئِذٍ؛ وَهِيَ حَالَتَانِ:
الْأُولَى: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ، وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ؛ فَهَذَا مُطْلَقُ الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ؛ وَيَأْبَاهَا السَّيِّدُ؛ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لِعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ.
وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} . وَافْعَلْ2 بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ، بَلْ نَقُولُ إنَّ لَفْظَ "افْعَلْ" لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، وَالْوُجُوبُ يَكُونُ بِتَعَلُّقِ الذَّمِّ بِتَرْكِهِ، وَالِاقْتِضَاءُ يَسْتَقِلُّ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ، فَأَيْنَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا مُزَعْزِعَ لَهُ.
أَمَّا إنَّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُتَمَرِّسِينَ بِالْفِقْهِ سَلَّمُوا أَنَّ مُطْلَقَ "افْعَلْ" عَلَى الْوُجُوبِ، وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّلِيلَ هَاهُنَا قَدْ قَامَ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ فَفِيهَا إخْرَاجُ مِلْكِ السَّيِّدِ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَلَّا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنْ يَدِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ. وَمَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَنَا أَوْ الْحَدِيثَ إذَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْمَضَرَّاتِ مِنْ "كُتُبِ الْخِلَافِ" ، وَفِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ مِنْ "كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ" .
ـــــــ
1 الوجء: أن ترض أنثيا الفحل رضا شديداً يذهب شهوة الجماع، والاسم الوجاء. والمراد أن الصوم يقطع الشهوة كما يفعله الوجاء.
2 يريد الأمر.(3/335)
الثَّانِي: قَالُوا: إنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذَا تَعَرَّى عَنْ قَرِينَةٍ، وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطِ عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِ، فَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ عَلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ، وَهُوَ عِلْمُ السَّيِّدِ بِالْخَيْرِ فِيهِ1.
وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ، كَاتِبْنِي، فَقَالَ السَّيِّدُ: لَمْ أَعْلَمْ فِيك خَيْرًا، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ؛ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ، وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي بَابِهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَالُ الْعَبْدِ وَأَكْسَابُهُ مِلْكُ السَّيِّدِ، وَرَقَبَتُهُ مِلْكٌ لَهُ؛ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: خُذْ كَسْبِي وَخَلِّصْ رَقَبَتِي فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَفْوِيتِ مِلْكِهِ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَعْتِقْنِي. وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ عَلَى مُثْبِتِي الِاجْتِهَادِ؛ وَمَنْ رَدَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْخَيْرَ الْمَالُ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَفَاءُ وَالصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الْمَالُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُسْنِ السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنَجَّمٌ يَجْتَمِعُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَعْنًى هُوَ مَشْرُوطٌ فِي كُلِّ طَاعَةٍ وَفِعْلٍ، فَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ بِاشْتِرَاطِهِ وَحْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ قَاطَعَهُ عَلَيْهِ نُجُومًا، فَإِنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا بِاخْتِلَافِهِمْ2.
وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ أَنَّ الْكِتَابَةَ مُؤَجَّلَةٌ، كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ كَاتَبَتْ أَهْلَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ. وَكَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِتَابَةً؛ لِأَنَّهَا تُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا، فَقَدْ اسْتَوْثَقَ3 الِاسْمُ وَالْأَثَرُ وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْمَالَ إنْ جَعَلَهُ حَالًّا
ـــــــ
1 في "القرطبي" : بالخيرية.
2 في "القرطبي" : كاختلافهم.
3 في أ: اشتد.(3/336)
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا قَطَعَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَالُ مُقَاطَعَةٍ وَعَقْدُ مُقَاطَعَةٍ، لَا عَقْدُ كِتَابَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَبْدِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُكَاتِبُهُ عَلَيْهِ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيَدْخُلُهُ الْغَرَرُ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدِّينِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جُعِلَ الْأَجَلُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَفِقَ وَإِلَّا تَرَكَ حَقَّهُ.
قُلْنَا: كُلُّ حَقٍّ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَتَرْكٌ صِرْفٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكُلُّ حَقٍّ يُتْرَكُ فِي عَقْدٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْغَرَرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَدَّرَهُ عَلِيٌّ بِرُبُعِ الْكِتَابَةِ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ بِنَجْمٍ مِنْ نُجُومِهَا. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فَإِنَّهُ يُنَفِّذُهُ فِي تَرِكَتِهِ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُلَمَائِنَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ: إنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ يَقُولُ: إنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ تَرْكِيبًا حَسَنًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ وَالْإِيتَاءُ يَجِبُ؛ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَالْفَرْعَ وَاجِبًا؛ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَةً.
فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ، فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ.
قُلْنَا: عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ؛ فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكَانَ الْمَالُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ مَجْهُولًا، وَالْعَقْدُ بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ، وَقَدْ عَضَّدَهُ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . وَمَالُ اللَّهِ هُوَ الزَّكَاةُ، وَالْفَيْءُ، وَلَيْسَ بِمَالٍ أَوْجَبَ حَقًّا فِي عَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ وَأَمْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إنَّهُ مَالُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ مِنَ الحُرِّيَّةِ، وَقَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ.(3/337)
قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَجَازَ حَقِيقَةً، وَيَعْدِلُونَ بِاللَّفْظِ عَنْ طَرِيقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ؟
قُلْنَا: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحُجَّةَ إلَّا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ هُوَ جَدُّ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ تَعْرِضُ؟ فَقَالَ عَبْدُهُ: أَعْرِضُ مِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ. قَالَ: فَمَا اسْتَزَادَنِي، وَكَاتَبَنِي عَلَيْهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَ لِي مِنْ مَالِهِ طَائِفَةً، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: إنِّي كَاتَبْت غُلَامِي، فَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِي، فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَخُذْهَا، فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا. قَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ لِي فِيهَا؛ عَتَقْت مِنْهَا، وَأَصَبْت خَيْرًا كَثِيرًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ. وَكَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ رُبُعَهَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّدْبَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ دَلِيلٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَاتَبَ غَيْرَهُ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ... فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي أَيِّ وَقْتٍ يُؤْتَى؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ وَسَأَلْته عَمَّا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا: مَتَى يُتْرَكُ؛ وَكَيْفَ يُكْتَبُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يُكْتَبُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَلَى كَذَا، وَقَدْ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ أَجْرِ كِتَابَتِهِ كَذَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
الرَّابِعُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِهَا؛ قَالَهُ عُمَرُ وَفَعَلَهُ.
وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِهَا، لِيَسْتَفِيدَ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَحُصُولَ الْعِتْقِ لَهُ، وَالْإِسْقَاطُ أَبَدًا إنَّمَا يَكُونُ فِي أُخْرَيَاتِ الدُّيُونِ.(3/338)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ فِي عَامَيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ1 فَأَكْرَههَا عَلَى الْبِغَاءِ، فَقَالَتْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا خَيْرًا لَقَدْ اسْتَكْثَرْت مِنْهُ وَرُوِيَ لَقَدْ اسْتَنْكَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَقَدْ بَانَ لِي أَنْ أَدَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ عِنْدَهُ، وَكَانَ الْقُرَشِيُّ يُرِيدُ الْجَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنَ القُرَشِيِّ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَقَعَ فِي مُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا إنْ أَرَادَتْ الْمُكْرَهَةُ الْإِحْصَانَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ بِحَالٍ، فَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرُوهُ فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ الْحَقَائِقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ إرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنَ المَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الزِّنَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إكْرَاهٌ، فَحَصِّلُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فِيمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَنْهَى اللَّهُ إلَّا عَنْ مُتَصَوَّرٍ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الزَّانِيَ يَنْتَشِرُ وَيَشْتَهِي إذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ طَبْعًا.
قُلْنَا: الْإِلْجَاءُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحِيحِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، فَإِنَّ مِنَ البَغَايَا مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْبَغْيِ، وَكَذَلِكَ كَانَ جَرَى فِي هَذِهِ
ـــــــ
1 في أ: مسكة.(3/339)
الْقِصَّةِ.
رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} قَالَ: كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلَائِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصِبْنَ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ. وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ جَارِيَةً، وَكَانَتْ تُبَاغِي، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ أَلَّا تَفْعَلَهُ، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُكْرَهِ لَا لِلَّذِي أَكْرَهَ عَلَيْهِ وَأَلْجَأَ الْمُكْرَهَ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهٍهن لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
وَالْمَغْفِرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكْرَهِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمَيْتَةِ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].(3/340)
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي "كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ" ، وَفِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَأَوْضَحْنَا الْمُرَادَ مِنْهَا عَلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهَذَا الْحَرْفُ مِنْهَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَحْكَامِيِّينَ، فَرَأَيْنَا أَلَّا نُخْلِيَ هَذَا الْمُخْتَصَرَ مِنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الشَّرْقِ دُونَ الْغَرْبِ، وَلَا مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ دُونَ الشَّرْقِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَانَ أَدْنَى زَيْتًا، وَأَضْعَفَ ضَوْءًا. وَلَكِنَّهَا مَا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، كَالشَّامِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الشَّامُ، الشَّرْقُ مِنْ هَاهُنَا وَالْغَرْبُ مِنْ هَاهُنَا، وَرَأَيْتُهُ لِابْنِ شَجَرَةَ أَحَدِ حُذَّاقِ الْمُفَسِّرِينَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْقِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا بِغَرْبِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ؛ بَلْ هِيَ بَارِزَةٌ؛ وَذَلِكَ أَحْسَنُ لِزَيْتِهَا أَيْضًا؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.(3/340)
الثَّالِثُ: أَنَّهَا وَسَطُ الشَّجَرِ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَلَا إذَا غَرَبَتْ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا: قَالَهُ عَطِيَّةُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا لَيْسَ فِي شَجَرِ الشَّرْقِ وَلَا فِي شَجَرِ الْغَرْبِ مِثْلُهَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ لَا مِنْ [شجر] الدُّنْيَا قَالَهُ الْحَسَنُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، لَيْسَتْ بِنَصْرَانِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الشَّرْقِ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الْغَرْبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ التَّفْسِيرَ مَنَازِلَهُ، وَيَضَعُونَ التَّأْوِيلَ مَوَاضِعَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَ لِنُورِهِ الْمُعَظَّمَ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ بِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَأَنْوَرُ الْمَصَابِيحِ فِي الدُّنْيَا مِصْبَاحٌ يُوقَدُ مِنْ دُهْنِ الزَّيْتُونِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً قَدْ تَبَاعَدَ عَنْهَا الشَّجَرُ فَخَلَصَتْ مِنَ الكُلِّ، وَأَخَذَتْهَا الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَذَلِكَ أَصْفَى لِنُورِهَا، وَأَطْيَبُ لِزَيْتِهَا، وَأَنْضَرُ لِأَغْصَانِهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي فَهِمَهَا النَّاسُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهَا فِي أَشْعَارِهِمْ، فَقَالُوا1:
بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو
رِكَ نَضْرُ2 الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
وَقَدْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى زَيْتُونَةً كَانَتْ بَيْنَ مِحْرَابِ زَكَرِيَّا وَبَيْنَ بَابِ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ الَّذِي يَقُولُونَ: إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ بِشَرْقِيِّهِ دُونَ السُّوَرِ، وَادِي جَهَنَّمَ، وَفَوْقَهُ أَرْضُ الْمَحْشَرِ الَّتِي تُسَمَّى بِالسَّاهِرَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهَا الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَرَبُّك أَعْلَمُ.
وَمِنْ غَرِيبِ الْأَثَرِ3 أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا الْفُقَهَاءِ قَالَ: إنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدٍ، وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَالْمِشْكَاةُ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، فَشَبَّهَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْكُوَّةِ فِيهَا الْقِنْدِيلُ، وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَشَبَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْقِنْدِيلِ وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَمُحَمَّدٌ كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابِهِمَا، وَكَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهُوَ الْمُشْتَرَى، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ يَعْنِي إرْثَ النُّبُوَّةِ، مِنْ إبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُبَارَكَةُ، يَعْنِي حَنِيفَةً لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً، لَا يَهُودِيَّةً وَلَا
ـــــــ
1 البيت لأبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس – كما في "القرطبي" .
2 في "القرطبي" : نبع الرمان.
3 في "القرطبي" : الأمر.(3/341)
نَصْرَانِيَّةً، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.
يَقُولُ: يَكَادُ إبْرَاهِيمُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ، نُورٌ عَلَى نُورٍ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُحَمَّدٌ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا كُلُّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي التَّمْثِيلِ أَنْ يَتَوَسَّعَ الْمَرْءُ فِيهِ، وَلَكِنْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي شَرَّعْنَاهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ لَا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُخْرِجُ الْأَمْرَ عَنْ بَابِهِ، وَيَحْمِلُ عَلَى اللَّفْظِ مَا لَا يُطِيقُهُ، فَمَنْ أَرَادَ الْخِبْرَةَ بِهِ وَالشِّفَاءَ مِنْ دَائِهِ فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ.(3/342)
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ:
قَوْله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اُخْتُلِفَ فِي الْبُيُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا سَائِرُ الْبُيُوتِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْفَعُ} : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: تُبْنَى، كَمَا قَالَ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: تُطَهَّرُ مِنَ الأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي} [الحج: 26].
الثَّالِثُ: أَنْ تُعَظَّمَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهَا تُبْنَى فَهُوَ مُتَمَعِّنٌ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلُ مَفْحَصِ1 قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" .
ـــــــ
1 مفحص القطاة: حيث تفرخ فيه من الأرض.(3/342)
وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُطَهَّرُ مِنَ الأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الْمَسْجِدَ لِيَنْزَوِيَ مِنَ النَّجَاسَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنَ النَّارِ" .
وَهَذَا فِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهَا؟
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُرْفَعُ فَالرَّفْعُ حِسًّا كَالْبِنَاءِ، وَحُكْمًا كَالتَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ، وَكَمَا تَطْهُرُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، لِقَوْلِهِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} :
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِنُورِهِ بِالزَّيْتِ الَّذِي يَتَوَقَّدُ مِنْهُ الْمِصْبَاحُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، تَتْمِيمًا لِتَشْرِيفِ الْمَثَلِ بِالْمَثَلِ وَجَلَالِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ جُمَلًا عَظِيمَةً تَرْبُو عَلَى الْمَأْمُولِ فِيهِ.(3/343)
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُنَافِقِينَ كَانَ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ خُصُومَةٌ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَدْعُوهُ إلَى [التَّحَاكُمِ عِنْدَ]2 النَّبِيِّ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ يَدْعُوهُ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا، وَكَانَ الْمُنَافِقُ إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ دَعَا إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ، وَإِذَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ دَعَاهُ إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ لَهُ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُعَاهِدِ وَالْمُسْلِمِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إلَيْهِمَا، فَإِذَا جَاءَ قَاضِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى3، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" : [188].
2 من "القرطبي" .
3 تقدم في سورة المائدة.(3/343)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ الدَّعْوَى إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلَمْ يُجِبْ بِأَقْبَحَ الْمَذَمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَلَا حَقَّ لَهُ" . وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَهُوَ ظَالِمٌ" فَكَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا حَقَّ لَهُ" فَلَا يَصِحُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ.(3/344)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجِهَادِ ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ، فَإِذَا عُوتِبُوا قَالُوا: لَوْ أَمَرْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَخَرَجْنَا، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {لَا تُقْسِمُوا} ، ثُمَّ قَالَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
الْأَوَّلُ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ.
الثَّانِي: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَكُمْ فِيهَا الْكَذِبُ، أَيْ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ قَوْلًا، بَاطِلَةٌ قَطْعًا؛ لَا يَفْعَلُونَهَا إلَّا إذَا أَمَرْتَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا1 مَا فَعَلُوا.
الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ يَعْنِي لَيْسَتْ لَكُمْ طَاعَةٌ. وَقَدْ قُرِئَتْ " طَاعَةً " بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ قَوْلُ طَاعَةٍ مَنْصُوبَةً ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى فِيهِ إلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، إلَّا أَنَّ الْإِعْرَابَ يَخْتَلِفُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
ـــــــ
1 في أ: إذ لا يفعلونها إلا أمرتهم ولو لم يؤمروا.(3/344)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ(3/344)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ آيَةٌ خَاصَّةٌ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَعَمَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، ثُمَّ خَصَّ هَاهُنَا فَقَالَ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْمُسْتَأْذِنِينَ، وَهُمُ الذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ مَسْأَلَةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَة قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاوَلَ2 الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ عُمُومًا، وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ الْمُفَسَّرَةُ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ـــــــ
2 في "القرطبي" : يتأول.(3/348)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الذُّكْرَانُ وَالْإِنَاثُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَبْدُ دُونَ الْأَمَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ الْإِنَاثُ؛ قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ يَعْنِي فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا.
رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا، فَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؛ قَوْلِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} وَقَرَءُوهَا إلَى قَوْلِهِ تعالى: {عَلَى بَعْضٍ} ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ. وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ1، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ، وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ أَنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ مِنَ المُعَارَضَةِ، وَمِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِنَاظِرٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي التَّنْقِيحِ.
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحُجْبَةَ2 وَاقِعَةٌ مِنَ الخَلْقِ شَرْعًا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ الْمَحْجُورُ مِنَ المُطْلَقِ، وَالْمَحْظُورُ مِنَ المُبَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . ثُمَّ قَالَ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، فَاسْتَثْنَى مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مِنَ المَحْجُورِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ وَغْدًا، أَوْ ذَا مَنْظَرَةٍ3، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْحُجْبَةِ عَلَى صِفَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا عَبْدٌ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا أَمَةٌ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ.
ـــــــ
1 الحجال: جمع الحجلة – بالتحريك – وهو بيت كالقبة يستر بالثياب.
2 حجبة حجباً وحجاباً: ستره.
3 المنظر والمنظرة: ما نظرت إليه أعجبك أو ساءك.(3/349)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} :
فَذَكَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعِنْدَ الظَّهِيرَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهِ التَّصَرُّفُ بِخِلَافِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَةٍ، وَلَكِنْ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُسْتَغْرِقٌ بِنَوْمِهِ، وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَوْقَاتُ خَلْوَةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَنُهُوا عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنِ لِئَلَّا يُصَادِفُوا مَنْظَرَةً مَكْرُوهَةً.
وَفِي "الصَّحِيحِ" : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي كَذَا وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا أَدْخُلُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْآثَارِ التَّفْسِيرِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ غُلَامًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ فِي الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَأَيْقَظَهُ بِسُرْعَةٍ، فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ؛ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْغُلَامُ؛ فَحَزِنَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ: وَدِدْت أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ نَهَى عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إلَّا بِإِذْنِنَا. ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: {صَلَاةِ الْعِشَاءِ} الَّتِي يَدْعُوهَا النَّاسُ الْعَتَمَةَ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ" . قَالَ: وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ الْعِشَاءَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْعِشَاءَ الْعَتَمَةِ.
وفي الحديث "الصَّحِيحِ1" : "لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" .
وَفِي "الْبُخَارِيِّ" أَيْضًا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ" .
وَقَالَ أَنَسٌ2: "أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ" .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: "أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَمَةِ" .
وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي "الْبُخَارِيِّ" : "الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ" يَدُلُّ عَلَى الْعِشَاءِ الْأُولَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ؛ لِأَنَّهُمْ
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [325]، وفيه: ما في العتمة والصبح.
2 "صحيح مسلم" : [445].(3/350)
يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ".
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا الْأَوَّلُ مِنَ الآخِرِ بِالتَّارِيخِ، لَكِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ بِذَاتِهِ يُبَيِّنُ وَقْتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً، وَعَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً ثَابِتٌ؛ فَلَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ فَقَدْ أَثِمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} فَاَللَّهُ سَمَّاهَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا بِهِ اللَّهُ، وَيُعَلِّمُهَا الْإِنْسَانُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَا يَقُلْ عَتَمَةً إلَّا عِنْدَ خِطَابِ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ1:
وَكَانَ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيفٍ
يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} :
الْعَوْرَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَانِعَ دُونَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تعالى: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] أَيْ سَهْلَةُ الْمَدْخَلِ، لَا مَانِعَ دُونَهَا، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِذْنِ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ فِي حَالِ الْعَوْرَةِ، فَتَعَيَّنَ امْتِثَالُهُ، وَتَعَذَّرَ نَسْخُهُ، ثُمَّ رُفِعَ الْجُنَاحُ بَعْدَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَيْلُ بِالْعِتَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى الْفَاعِلِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْحَالَةَ الْأَهْلِيَّةَ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} :
أَيْ مُتَرَدِّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَمَا لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُ مِنْهُمْ؛ فَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ ذَلِكَ، وَزَالَ الْمَانِعُ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ حِينَ أَصْغَى2 لَهَا الْإِنَاءَ: "إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ" .
وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ سُؤْرِهَا فِي مُبَاشَرَتِهَا النَّجَاسَةَ وَحَمْلِهَا أَبَدًا عَلَى الطَّهَارَةِ، إلَّا أَنْ يَرَى فِي فَمِهَا أَذًى.
ـــــــ
1 "ديوانه" : [2].
2 أصغى: أمال "النهاية" .(3/351)
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَقَوْلُهُ: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
يُرِيدُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِئْذَانُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا ارْتَفَعَ الْجُنَاحُ1 بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ لَكُمْ، وَمِنْكُمْ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} .
الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ الْآيَاتِ الدَّالَّهَ عَلَى الْمُعْجِزَةِ وَالتَّوْحِيدِ، كَمَا يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" مَا يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، وَمَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ، وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَنَا وَفَخِذِي مُنْكَشِفَةٌ، فَقَالَ: "خَمِّرْ عَلَيْك، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ" ، وَقَدْ غَطَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ دُخُولِ عُثْمَانَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً مِنْ جِهَتِهِ الَّتِي جَلَسَ مِنْهَا.
وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ" .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَرْهَدًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَرِيضًا، وَلَيْسَ الْفَخِذُ عَوْرَةً.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ثم رفع الجناح بقوله: ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض. أي يطوف بعضكم على بعض [12- 306].(3/352)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ قَوْلَهُ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، فَكَانَ الطِّفْلُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحُجْبَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَوْرَةِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ(3/352)
لطِّفْلَ إذَا ظَهَرَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَهُوَ بِالْبُلُوغِ، يَسْتَأْذِنُ، وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} كَافِيًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى طِفْلٌ بِصِفَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى الْحَجْرِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زِيَادَةَ بَيَانٍ؛ لِإِبَانَةِ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ.(3/353)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ: وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} :
جَمْعُ قَاعِدٍ بِغَيْرِ هَاءٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَاعِدَةِ مِنَ الجُلُوسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَهُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْحَيْضِ وَعَنْ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ فِيهِنَّ رَغْبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ الْقَلْبُ فِي نِكَاحٍ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ بِخِلَافِ الشَّبَابِ مِنْهُنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: جِلْبَابَهُنَّ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوْ الْمِقْنَعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ تَضَعُهُ عَنْهَا إذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الثِّيَابِ.
وَالثَّانِي: تَضَعُ خِمَارَهَا، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبِ أَوْ جِدَارٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَعْنِي وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْرُ مُظْهِرَاتٍ لِمَا يُتَطَلَّعُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزْيِينِ لِلنَّظَرِ إلَيْهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ لِانْصِرَافِ النُّفُوسِ عَنْهُنَّ، وَلَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِلِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحِيحِ:
"رُبَّ نِسَاءٍ كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا" .(3/353)
وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَاتٍ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِعَارِيَّاتٍ1 لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا رَقَّ يَكْشِفُهُنَّ2؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : وصفهن بأنهن عاريات.
2 في "القرطبي" : وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رق يصفهن وبيدي محاسنهن، وذلك حرام.(3/354)
لْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا3: وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ، وَيَقُولُونَ: الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ4 هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَهَالِيِهِمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:
أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: عِنْدَ الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، فَكَانُوا
ـــــــ
3 "أسباب النزول" : [189].
4 الزمانة: العاهة.(3/354)
يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [النساء: 29]. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ.
الْخَامِسُ: مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا.
السَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى، وَمُعَامَلَتِهِمْ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ.
الثَّامِنُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَوْله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} : نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ. وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ: مِنَ الأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ.
الثَّانِي: مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ:
"أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك" .
وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ(3/355)
بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} :
فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا. فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ مِنْ مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} : فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الآبَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100- 101].
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ:
وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِهِ.
أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ(3/356)
يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ مِنَ الأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، لَكِنْ قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، مِنْ أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ.
وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ:
وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ، وَمَا يَتَعَذَّرُ مِنَ الأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَأَرْكَانِهَا، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنًا: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَتَفْسِيرٌ مُفِيدٌ، لَا يُفْتَقَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى نَقْلٍ، وَيُعَضِّدُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ؛ فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْأَزْوَاجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ عَنْهَا، وَلَا مُحْرَزٍ مِنْهَا.
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم 1 -: "إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ" .
وَأَمَّا مَا كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ زَوْجِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ، لَكِنْ الزَّوْجَةُ أَبْسَطُ، لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ النَّفَقَةِ، وَلِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ خِدْمَةِ الْمَنْفَعَةِ.
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [710].(3/357)
وَأَمَّا بَيْتُ الِابْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَبَيْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، لَكِنْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ، فَلَا يَتَبَسَّطُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي هَتْكِ حِرْزٍ وَأَخْذِ مَالٍ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ مُسْتَرْسِلًا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ حِيَازَةٌ، وَلَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ فَسَادٍ وَلَا اسْتِغْنَامٍ.
وَأَمَّا بَيْتُ الْأَبِ لِلِابْنِ فَمِثْلُهُ، وَلَكِنْ تَبَسُّطُ الِابْنِ أَقَلُّ مِنْ تَبَسُّطِ الْأَبِ، كَمَا كَانَ تَبَسُّطُ الزَّوْجِ أَقَلَّ مِنْ تَبَسُّطِ الزَّوْجَةِ.
وَأَمَّا بُيُوتُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا بَيْتٌ مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فَهُوَ الْوَكِيلُ قَالَ النَّبِيُّ: "الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ" . وَلَا بُدَّ لِلْخَازِنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَخْزُنُ إجْمَاعًا، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ1 عَلَى الْخَزْنِ حَرُمَ الْأَكْلُ.
وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {بُيُوتِكُمْ} لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: {بُيُوتِكُمْ} ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْتَ الِابْنِ يَدْخُلُ فِيهِ؛ فَبَيْتُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِإِجْمَاعٍ.
وَأَمَّا بَيْتُ الصَّدِيقِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ الْأُخُوَّةُ جَرَى التَّبَسُّطُ عَادَةً، وَفِي الْمَثَلِ: أَيُّهُمْ أَحَبُّ إلَيْك أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ؟ قَالَ: أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقِي.
قَالَ لَنَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَوْقٍ قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ إمَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ: عَزِيزٌ مِنْ يَصْدُقُ فِي الصَّدَاقَةِ، فَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهِ كَالْمِرْآةِ وَمِنْ وَرَائِك كَالْمِقْرَاضِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قُلْت:
مَنْ لِي بِمَنْ يَثِقُ الْفُؤَادُ بِوُدِّهِ
وَإِذَا تَرَحَّلَ لَمْ يَزِغْ عَنْ عَهْدِهِ
يَا بُؤْسَ نَفْسِي مِنْ أَخٍ لِي بَاذِلٍ
حُسْنَ الْوَفَاءِ بِقُرْبِهِ لَا بُعْدِهِ
يُولِي الصَّفَاءَ بِنُطْقِهِ لَا خُلْقِهِ
وَيَدُسُّ صَابًا فِي حَلَاوَةِ شَهْدِهِ
فَلِسَانُهُ يُبْدِي جَوَاهِرَ عِقْدِهِ
وَجَنَانُهُ تُغْلِي مَرَاجِلَ حِقْدِهِ
لَاهُمَّ إنِّي لَا أُطِيقُ فِرَاسَةً
بِك أَسْتَعِيذُ مِنَ الحَسُودِ وَكَيْدِهِ
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَمَامِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
1 في "القرطبي" : فأما إذا كانت له أجرة على الخزن.(3/358)
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ1 فِي بَنِي كِنَانَةَ؛ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقِيمُ عَلَى الْجُوعِ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ مَوْرُوثَةً [عِنْدَهُمْ]2 عَنْ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَعَ غَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ العَرَبِ كَانُوا إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا عَنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْكُلُوا مَعَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: آكُلُ وَحْدِي.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِينَ يَخْلِطُونَ أَزْوِدَتَهُمْ، فَلَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ، فَأُبِيحَ ذَلِكَ لَهُمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ تَضَمَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْآخَرِ، وَلِلْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُمْ لَا يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَالْآخَرُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَأْكُلُ الْبَصِيرُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْأَعْمَى، فَنَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَبَاحَ لِلْجَمِيعِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْمَعْهُودِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا إلَى الزِّيَادَةِ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ الْقِرَانِ3 فِي التَّمْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ" .
وَهَذَا هُوَ النِّهْدُ4 الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرًى مِنْهُمْ، أَوْ كَانَ بِخَلْطِهِمْ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ طَعَامَ ضِيَافَةٍ أَوْ وَلِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ؛ لَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ طَعَامَ الضِّيَافَةِ وَالْوَلِيمَةِ يَأْكُلُهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَنَا فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي النِّهْدِ4 حَدِيثَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الْأَزْوَادِ، وَكَانَ يُغَدِّيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً تَمْرَةً.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، وما هنا في "أسباب النزول": [191].
2 من "القرطبي" .
3 القران: أن يقرن بين التمرتين في الأكل. وإنما نهى عنه لأن فيه شرها وذلك يزرى بصاحبه، أو لأن ف هيه غبنا برفيقه "النهاية" . ويروى الإقران.، والأول أصح.
4 النهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة؛ وهو استقسام النفقة بالسفر في السفر وغيره. والعرب تقول: هات نهدك – بكسر النون. قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكونه بالسواء وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته. وقد يأكل الرجل أكثر من غيره "القرطبي" : [12/317].(3/359)
وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَادَ الْجَيْشِ، وَبَرَّكَ عَلَيْهَا، ثُمَّ احْتَثَى كُلُّ أَحَدٍ فِي مِزْوَدِهِ وَوِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيَةٍ، حَتَّى فَرَغُوا.
وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الخُرُوجِ، يُقَالُ: نَهَدَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ، وَنَهَدَ الْقَوْمُ لِغَزْوِهِمْ، وَنَهَدَ الْجَمَاعَةُ: إذَا أَخْرَجُوا طَعَامًا أَوْ مَالًا، ثُمَّ جَمَعُوهُ، وَأَكَلُوا أَوْ أَنْفَقُوا مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فِي الْبُيُوتِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْبُيُوتُ كُلُّهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِعُمُومِ الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّانِي: إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
[الثَّالِثُ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَيْفِكُمْ]1.
الرَّابِعُ: إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَارِغَةً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُخْتَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:
وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] فَنَصَّ عَلَى بُيُوتِ الْغَيْرِ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ، لِيَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ بَيْتٍ، كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} لِيَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ سَلَامَ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ، وَلِيَأْخُذَ الْمَعْنَى سَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ، كَمَا وَرَدَ في الحديث2 يَقُولُ:
ـــــــ
1 من "القرطبي" ، وهو ساقط من الأصل.
2 في "القرطبي" : الخبر.(3/360)
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ.
وَهَذَا إذَا كَانَ فَارِغًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَخَدَمُهُ فَلْيَقُلْ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ" فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّحِيَّةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ كَمَا.
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ". وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْبَيْتَ الْفَارِغَ.
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ إذَا كَانَ الْبَيْتُ فَارِغًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ1 السَّلَامُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَلَكَ2 فَالْمَلَائِكَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ بِحَالٍ، أَمَّا إنَّهُ إذَا دَخَلْت بَيْتَكَ يُسْتَحَبُّ لَك ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بِأَنْ يَقُولَ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ} [الكهف: 39]. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَوْضَحْنَا مَجْرَاهُ، وَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ النِّسَاءُ يُسَلِّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ. وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهَا خُلْطَةٌ وَتَعَرُّضٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُتَجَالَّة3؛ إذْ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمُنْتَهَى.
ـــــــ
1 في أ: أنه يلزم السلام.
2 في "القرطبي" : الملائكة.
3 متجالة: كبرت وأسنت "النهاية" .(3/361)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: وَالْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ الْجُمُعَةُ، وَالْعِيدَانِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ الْخُلْطَةُ؛(3/361)
قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْجِهَادُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْر، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا كَانَتْ فِي حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَاَلَّذِي بَيَّنَ ذَلِكَ أَمْرَانِ صَحِيحَانِ:
أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63]؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَيَتْرُكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِأَلَّا يَخْرُجَ [أَحَدٌ]1 حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ إيمَانُهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ قَوْله تعالى: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فَأَيُّ إذْنٍ فِي الْحَدَثِ2 وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ فِي مَنْعِهِ وَلَا إبْقَائِهِ، وَقَدْ قَالَ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ} فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا التَّفَرُّقُ أَمَّا إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِقُوَّةِ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَخْرُجُ إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ أَوْ بِإِذْنٍ قَائِمٍ مِنْ مَالِكِ الْجَمَاعَةِ وَمُقَدِّمِهَا؛ وَبِذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ كَانَ لِغَرَضٍ، فَمَا لَمْ يَتِمَّ الْغَرَضُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفَرُّقِ أَصْلٌ، وَإِذَا كَمُلَ الْغَرَضُ جَازَ التَّفَرُّقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ} :
فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْمُسْتَأْذِنِ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ مَضَرَّةً عَلَى الْجَمَاعَةِ، أَذِنَ بِنَظَرٍ، أَوْ مَنَعَ بِنَظَرٍ.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الرَّجُلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا رَعَفَ3 أَوْ أَحْدَثَ يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ، وَيُشِيرُ إلَى الْإِمَامِ فَيُشِيرُ لَهُ الْإِمَامُ بِيَدِهِ أَنْ اُخْرُجْ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ: مَنْ
ـــــــ
1 من "القرطبي" .
2 في أ: الحديث.
3 رعف – كنصر ومنع وكرم وعنى وسمع: خرج من أنفه الدم "القاموس" .(3/362)
جَعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إذْنٍ. وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى إنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، إذْ لَا إذْنَ فِيهِ، وَلَا خِيرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ تَتَعَلَّقُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ صَاحِبُهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ إذَا شَاءَ، وَيَجْلِسُ إذَا شَاءَ.(3/363)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} :
فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ، تَقُولُ: أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو، عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا تَقُولُ: كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا، عَلَى الثَّانِي.
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ: فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ.
وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً. يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، وَلَيْسَ(3/363)
دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا، قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا1: إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنَ الخُطَّةِ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} :
بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ.
الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ.
الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ" وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنَ المُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ
ـــــــ
1 غفيراً: جميعاً.(3/364)
ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ المَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ. قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -.(3/365)
25- سُورَةُ الْفُرْقَانِ
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا1، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا2.
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ3 بِمَكَّةَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا: هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ.
ـــــــ
1 في "اللسان" - [شكا] عير رجل عبد الله بن الزبير بأمه، فقال ابن الزبير: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. أراد أن تعبيره إياه بأن أمه كانت النطاقين ليس بعار. ومعنى قوله ظاهر عنك عارها: أي ناب. وصدر البيت: وعيرها الواشون أني أحبها. "ديوان الهذليين" [1/21].
2 خارها: ضعفها.
3 الخلصة - يروى بالتحريك، وبضم أوله وثانيه، والأول أصحن وهو بيت أصنام "ياقوت" .(3/366)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا.
وَفِي الْآثَارِ: "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ" .
إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ1 فِي الْمَالِ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ2، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلِيُحَلِّيَهَا3 بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا.
وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ" .
وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ.
ـــــــ
1 الرغب، بفتح الراء وتضم وسكون الغين المعجمة: الرغبة.
2 سواه: أي سوى الله تعالى.
3 في أ: ليحلها.(3/367)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].
يَعْنِي سَتْرًا لِلْخَلْقِ، يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ، وَيُرْبَى عَلَيْهِ بِعُمُومِهِ وَسَعَتِهِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَّامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي بَيْتِهِ إذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ. وَالسِّتْرُ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا.(3/367)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ(3/367)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّك قَدِيرًا} [الفرقان: 54]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّسَبِ:
وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَرْجِ1 الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ. فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَصِهْرًا} .
أَمَّا النَّسَبُ فَهُوَ مَا بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ مَوْجُودًا، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ مَا بَيْنَ وَشَائِجِ الْوَاطِئَيْنِ مَعًا، الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُمْ الْأَحْمَاءُ وَالْأَخْتَانُ. وَالصِّهْرُ يَجْمَعُهُمَا لَفْظًا وَاشْتِقَاقًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ2 الزِّنَا بِبِنْتٍ أُمًّا، وَلَا بِأُمٍّ بِنْتًا، وَمَا يُحَرَّمُ مِنَ الحَلَالِ لَا يُحَرَّمُ مِنَ الحَرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ، وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الزِّنَا يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ، وَهَذَا كِتَابُهُ "الْمُوَطَّأُ" الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّهِ، وَأَمْلَاهُ عَلَى طَلَبَتِهِ، وَقَرَأَهُ مِنْ صَبْوَتِهِ إلَى مَشْيَخَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا قَالَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : خلط. والمرج: الخلط.
2 في "القرطبي" : فلا يحرم الزنا بنت أم، ولا أم بنت.(3/378)
وَاكْتُبُوا عَنِّي هَكَذَا. وَابْنُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا قُرِئَ ضِدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي "الْمُوَطَّأِ" ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلْبَاطِنِ، وَلَا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ مِنَ الفٍ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ وَاحِدٍ، وَآحَادٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .(3/379)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّوَكُّلِ: وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الوَكَالَةِ، أَيْ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ، وَهُوَ إظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ هَذَا عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِيجَادِ سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُرَادٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِيَدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مَا أَرَادَ، جَعَلَ لَهُ أَصْلَ التَّوَكُّلِ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَبِهِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ، وَزَوَالِ الِانْزِعَاجِ وَالِاضْطِرَابِ، أَحْوَالٌ تَلْحَقُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كَمَالِهِ، وَلِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْسَامٌ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ اسْمٌ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا فِي يَدِهِ، لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، وَاسْمُهُ الْقَنَاعَةُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكْتَسِبَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عِنْدَنَا.
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ، كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا1" .
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا تَدَّخِرُ لِغَدٍ.
قُلْنَا: إنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالْغُدُوِّ، وَالرَّوَاحُ الِاعْتِمَالُ فِي الطَّلَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: تَغْدُو فِي الطَّاعَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
ـــــــ
1 أي تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف "النهاية" .(3/379)
قُلْنَا: إنَّمَا أَرَادَ بِالْغُدُوِّ الِاغْتِدَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَأَمَّا الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ، وَهَذَا حَالَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ هَذَا مَقَامَاتٌ فِي التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ "أَنْوَارِ الْفَجْرِ" ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.(3/380)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْخِلْفَةِ: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، يَتَضَادَّانِ، وَيَتَعَارَضَانِ وَضْعًا وَوَقْتًا، وَبِذَلِكَ نُمَيِّزُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا مَضَى وَاحِدٌ جَاءَ آخَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ1:
بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً
وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمٍ2
الثَّالِثُ: مَعْنَى خِلْفَةٍ: مَا فَاتَ فِي هَذَا خَلَفَهُ فِي هَذَا.
في الحديث الصَّحِيحِ: "مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ" .
سَمِعْت ذَا الشَّهِيدَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ، وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ، وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ، إذْ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ مِنْ دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي الطَّاعَةِ3 فَلْيَفْعَلْ. وَمِنْ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا، فَيَذْهَبُ النِّصْفُ مِنْ عُمْرِهِ لَغْوًا، وَيَنَامُ نَحْوَ سُدُسِ النَّهَارِ رَاحَةً، فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى لَهُ مِنَ العُمْرِ عِشْرُونَ سَنَةً.
ـــــــ
1 في "القرطبي" نسب البيت إلى زهير بن أبي سلمى. وكذلك في "اللسان" – مادة خلف، وهي في "ديوان زهير" ص [5].
2 في "القرطبي" : العين، والعين – بالكسر: جمع عيناء، وهي بقر الوحش، سميت بذلك لسعة أعينها. والأطلاء: جمع طلا، وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه.
3 في "القرطبي" : في طاعة الله.(3/380)
وَمِنْ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرِهِ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِعَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} .
فَيَعْمَلُ وَيَشْكُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِي دَلَالَةِ التَّضَادِّ عَلَى الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ، وَفِي دَلَالَةِ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الَّذِي يُعْدَمُ فَيَعْقُبُهُ غَيْرُهُ، وَعَلَى الْفُسْحَةِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتِ مِنَ العَمَلِ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ مِنَ الثَّوَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَفَاضَلُ بِأَنْفُسِهَا، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ مُتَمَاثِلَةٌ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالصِّفَاتِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَفْضَلُ، اللَّيْلُ أَمْ النَّهَارُ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ فَضِيلَةَ النَّهَارِ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّوْمِ غُنْيَةً فِي الدَّلَالَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(3/381)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {هَوْنًا} .
الْهَوْنُ: هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت:
تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ
وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ
سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ
وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ1
وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ" 2.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا. وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "قَبَسِ الْمُوَطَّأِ" .
ـــــــ
1 في "القرطبي" : الكبر.
2 الإيضاع: سير مثل الخبب.(3/381)
وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ، قَدْ بَرَاهُمُ الخَوْفُ، وَأَنْحَلَتْهُمُ الخَشْيَةُ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمُ الفِرَاخُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الكُفَّارُ.
الثَّانِي: أَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {سَلَامًا} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ: [تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ، و]1 َلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ أُمِرُوا2 بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَفِي الإسرائليات: إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ.
فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ. فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلَامًا} الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ3.
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنَ المُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك.
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: سَلِمْت مِنِّي، فَأَسْلَمُ مِنْك.
ـــــــ
1 من "القرطبي" .
2 في أ: أمرونا.
3 صفحة [18].(3/382)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:
قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {لَمْ يُسْرِفُوا} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ.
الثَّالِثُ: لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ، إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ، فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ، فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا. وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ، فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لَمْ يَمْنَعُوا وَاجِبًا.
الثَّانِي: لَمْ يَمْنَعُوا عَنْ طَاعَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {قَوَامًا} يَعْنِي عَدْلًا؛ وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ الْوَاجِبَ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحَلَالِ فِي غَيْرِ دَوَامٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ.(3/383)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَشْهَدُونَ الزُّورَ} فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الشِّرْكُ.
الثَّانِي: الْكَذِبُ.(3/383)
الثَّالِثُ: أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
الرَّابِعُ: الْغِنَاءُ.
الْخَامِسُ: لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنَ المَعَانِي الدِّينِيَّةِ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ مِنَ المُشَاهِدِ لَهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقُلْنَا: إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} .
قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ1، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا: "نِكْتَهَا" ؟ لَا تَكْنِي، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ.
ـــــــ
1 صفحة [195] من الجزء الأول.(3/384)
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَءُوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ1؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا لِلْقَارِئِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ السَّجْدَةَ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جَلَسَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الَّذِي لَا يُصَلِّي مَعَهُ. وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(3/385)
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} [الفرقان: 74]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} .
مَعْنَاهُ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَمَنَّى، وَالْعُيُونَ تَمْتَدُّ إلَى مَا تَرَى مِنَ الأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ(3/385)
عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ1، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّتُهُ2 مُحَافِظِينَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاوِنِينَ3 لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى زَوْجِ أَحَدٍ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنْ الْمُلَاحَظَةِ، وَتَزُولُ نَفْسُهُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهَا؛ فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} مَعْنَاهُ قُدْوَةٌ.
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَاقْتَدَى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ: الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ، لَا بِالدَّعْوَى يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَيْسِيرِهِ وَهِبَتِهِ4، لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرَى فِيهَا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ.
ـــــــ
1 احتاط: أخذ في الحزم. والاسم الحوطة.
2 في "القرطبي" : ذرية محافظون.
3 في "القرطبي" : معاونون.
4 في "القرطبي" : ومنته.(3/386)
سورة الشعراء
قَوْله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
...
26- سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
وتسمى الخاضعة فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: خَرَجَ مَعَ مُوسَى رَجُلَانِ مِنَ التُّجَّارِ إلَى الْبَحْرِ، فَلَمَّا أَتَيَا إلَيْهِ قَالَا لَهُ: بِمَ أَمَرَك اللَّهُ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَجِفُّ. فَقَالَا لَهُ: افْعَلْ مَا أَمَرَك بِهِ رَبُّك، فَلَنْ يُخْلِفَك. ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ.
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلْبَحْرِ: انْفَلِقْ. قَالَ: لَقَدْ اسْتَكْبَرْت يَا مُوسَى، مَا انْفَرَقْت لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَم، فَأَنْفَلِقَ لَك. فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ1 كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ الْبَحْرُ طَرِيقًا يَابِسًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، انْصَبَّ عَلَيْهِمْ الْبَحْرُ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ: دَعَا مُوسَى فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِ الإسرائليات مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ، أَوْ وَافَقَ السُّنَّةَ أَوْ الْحِكْمَةَ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ؛ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَوَّلَ فِي جَامِعِ "الْمُوَطَّأِ" .
ـــــــ
1 الفرق: القسم من كل شيء، والموجة.(3/387)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} .
قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا؛ وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ، إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} :
يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ مِنْ بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ1؛ فَقُبِلَتْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ إلَى مُحَمَّدٍ، ثُمَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: إنَّ الْمَطْلُوبَ اتِّفَاقُ الْمِلَلِ2 كُلِّهَا عَلَيْهِ [إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]3، فَلَا أُمَّةٌ إلَّا تَقُولُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَتَدَّعِيهِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ وِلَايَةَ الْأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا وِلَايَتَنَا4، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْدِ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الْمَرْءُ5 انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ عَلَّمَهُ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ" .
وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ.
وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَمْسَةُ صَحِيحٌ أَثَرُهَا؛ وَمَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ حَسَنٌ سَنَدُهَا.
ـــــــ
1 في م: إلى يوم القيامة.
2 في م: الأمم.
3 من م.
4 في م: إلا ولاية نبينا.
5 في "القرطبي" : ابن آدم.(3/388)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تعالى: {إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِيَّ؛ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ. قَالَ اللَّهُ: {إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84].
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَدِيغٌ، أَحْرَقَتْهُ الْمَخَاوِفُ، وَلَدَغَتْهُ الْخَشْيَةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ سَلِيمًا إذَا كَانَ حَقُودًا حَسُودًا، مُعْجَبًا مُتَكَبِّرًا، وَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِرَحْمَتِهِ.(3/389)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
فِي نُزُولِهَا خَبَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأُمَمِ، وَوَعْظٌ مِنَ اللَّهِ لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ نَافِعٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} قَالَ: يَعْنِي بِهِ السَّوْطَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مُوسَى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِاَلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ} [القصص: 19]. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا، وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ؛ وَإِنَّمَا وَكَزَهُ، فَكَانَتْ مَيْتَتُهُ1 فِي وَكْزَتِهِ. وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَأَقَلُّهُ2 الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ، وَيَلِيهِ السَّوْطُ وَالْعَصَا، وَيَلِيهِ الْحَدِيدُ؛ وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إلَّا بِحَقٍّ.
ـــــــ
1 في م، و "القرطبي" : منيته.
2 في م: أوله.(3/389)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:(3/389)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227] فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَالشُّعَرَاءُ} .
الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنَ الكَلَامِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ. وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمَ الْمَوْقِعِ حَتَّى قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْرِ الَّذِي كَانَ يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: "إنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ" .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنِي1 يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ2 عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ: سَمِعْت جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ: هَاجَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ، فَسَمِعْت الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك. فَقَالَ: قُلْ، لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك. فَقَالَ الْعَبَّاسُ مُمْتَدِحًا3:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ وَفِي
مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْت الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ
أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ
نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلَى رَحِمٍ
إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ4
ـــــــ
1 في م: حدثنا.
2 في أ: حصين. والمثبت من "القاموس" .
3 من م.
4 طبق: قرن. أراد إذا مضى قرن ظهر قرن آخر.(3/391)
حَتَّى اسْتَوَى بَيْنَك الْمُهَيْمِنُ مِنْ
خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطْقُ
وَأَنْتَ لَمَّا بُعِثْت أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ
وَضَاءَتْ بِنُورِك الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النُّورِ
وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} :
يَعْنِي الْجَاهِلُونَ، مِنَ الغَيِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَيَكُونُ شِرْكًا، وَيُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ. وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ سَفَاهَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} :
يَعْنِي يَمْشُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَحْصِيلٍ، وَضَرَبَ الْأَوْدِيَةَ فِي السَّيْرِ1 مَثَلًا لِصُنُوفِ الْكَلَامِ فِي الشِّعْرِ، لِجَرَيَانِ تِلْكَ سَيْلًا، وَسَيْرِ هَؤُلَاءِ قَوْلًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} :
يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ مِنَ الكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ:
تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ
بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي
فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} وَقَالُوا: هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .
يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ، كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ2:
ـــــــ
1 في أ: البر.
2 "ديوانه" : [159].(3/392)
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ1 آلِ هَاشِمٍ
بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ
وَمَا2 وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ
كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ3
وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ
وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ
وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ
وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ4 نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ
كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ5 وَصَحَّحَهُ6 عَنْ أَنَسٍ7. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ8 أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ" ،
وَفِي رِوَايَةٍ:
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ المَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنَ البَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ.
رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ9 كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ10:
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ11 أَنَّ خَلِيلَهَا
بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ12 وَحَنْتَمِ
ـــــــ
1 في م: في.
2 في م: ومن.
3 في م: ولم يعرف عجائزك المجد. وفي "الديوان" : ولم يقرب.
4 في "الديوان" : وأنت زنيم نيط... والزنيم: المستلحق في قوم ليس منهم مالا يحتاج إليه.
5 "سنن الترمذي": [5/139].
6 في م: في "صحيحه".
7 في م: عن ابن عباس.
8 في م: فهو. وفي "القرطبي" : فلهو. وفي "الترمذي" : فلهى.
9 في "اللسان" : قال النعمان ابن نضلة العدوي.
10 "اللسان" – مادة جداً.
11 في "اللسان" و "القرطبي" : من مبلغ الحسناء.
12 في "اللسان" : يسقى في قلال.(3/393)
إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ
وَرَقَّاصَةٌ1 تَجْذُو2 عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ
فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي
وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ
تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي3 وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنَ القَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَرُوِيَ4 أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ، فَقَالَ5:
يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ
هَذَا زَمَانُك إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ
أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ6 فِي قَرَنِ
وَحْشُ الْمَكَانَةِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي
نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي7 وَعَنْ وَطَنِي
فَقَالَ: نَعَمْ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ8،
ـــــــ
1 في "اللسان" : وصناجة.
2 في أ: تحد وعلى كل ميسم. وتجذو: تقوم على أطراف الأصابع.
3 في "اللسان" : أي والله.
4 القصة كلها في "العقد الفريد" لابن عبد ربه [صفحة 208 جزء أول]، وفي "ثمرات الأوراق" [صفحة 71 جزء أول]، وفي "قصص العرب" [جزء ثاني صفحة 242].
5 "ديوانه" [588]، وفيه؛ وقال لعون بن عبد الله.
6 صفده: أوثقه.
7 في "الديوان" لاتنسى حاجتنا لاقيت مغفرة... قد طال مكثي عن أهلي.
8 في م: ثاقبة.(3/394)
وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا لِي وَلِلشُّعَرَاءِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ: وَمَنْ مَدَحَهُ؟ قَالَ: عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ. قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ:
رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا
سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا
عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا
وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا
وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا
قَالَ: صَدَقْت، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ. قَالَ: لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ:
أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي1
شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ
وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ
وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِك2 وَالدَّمِ
وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي
هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ
فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ. قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ
يُوَافِي3 لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ
إذَا قِيلَ قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي
مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا
اُعْزُبْ بِهِ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ4 أَبَدًا. فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: كُثَيِّرُ عَزَّةَ. قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ
يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ الْعَذَابِ5 قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا
خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا
اُعْزُبْ بِهِ.
ـــــــ
1 في "قصص العرب" : يوم تدنو منيتي.
2 المشاش: رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين.
3 في أ: يوافق.
4 في أ: فلا دخل على أبدا.
5 في "قصص العرب" : من حذر الفراق.(3/395)
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ1 مِنْهُ قَالَ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا
يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ2
اُعْزُبْ بِهِ. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ. قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا:
هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً
كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ3 الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا
أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ؟
فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا
وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ
اُعْزُبْ بِهِ. فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قُلْت: الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ. قَالَ: هُوَ الْقَائِلُ:
فَلَسْت بِصَائِمٍ4 رَمَضَانَ عُمْرِي
وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ
وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا5 رَكُوبًا
إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ6 يَدْعُو
قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا7
وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
اُعْزُبْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قُلْت: جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ:
لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا
مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا
حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا، فَأْذَنْ لَهُ فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقُلْت: اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ، فَدَخَلَ وَهُوَ
ـــــــ
1 في "قصص العرب" : حتى هرب بها منه.
2 في أ: وأتبعه.
3 في أ: أفتخ.
4 في م: بقائم.
5 في أ: عنا وفي "قصص العرب" : عنساً بكوراً.
6 في "قصص العرب" : كالعبد.
7 الشمول: البارد من الخمر.(3/396)
يَقُول1:
إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا
جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ2 الْعَادِلِ
وَسِعَ الْبَرِيَّةَ3 عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ
حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا
وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ4:
كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ
وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ
كَالْفَرْخِ فِي الْعُشِّ لَمْ يَدْرُجْ5 وَلَمْ يَطِرْ
إنَّا لَنَرْجُو إذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا
مِنْ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ المَطَرِ
أَتَى الْخِلَافَةَ إذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا6
كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هذي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْت حَاجَتَهَا
فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ
فَقَالَ: يَا جَرِيرُ لَقَدْ وُلِّيت هَذَا الْأَمْرَ، وَمَا أَمْلِكُ إلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ7، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهَا لَأَحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إلَيَّ. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَمِيرٍ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ
وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الجِنِّ رَاقِيَا
وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَفَدَ إلَيْهِ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ:
حَكَيْت لَنَا الْفَارُوقَ لَمَّا وَلِيتَنَا
وَعُثْمَانَ وَالصِّدِّيقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْت بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا
فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ8 مُظْلِمُ
أَتَاك أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى
دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ9
ـــــــ
1 "ديوانه" : [415].
2 في "قصص العرب" : في إمام عادل.
3 في "قصص العرب" : وسع الخلائق.
4 "ديوانه" : [275].
5 يدرج: يمشي.
6 في "قصص العرب" و "الديوان" :
ـال الخلافة أو كانت له قدراً.
7 من م، و "قصص العرب" .
8 في م: حالك الليل.
9 عثمثم: جميل قوي شديد. والبيت في "اللسان" عثم.(3/397)
لِتَجْبُرَ مِنَّا جَانِبًا دَعْدَعَتْ بِهِ
صُرُوفُ اللَّيَالِيِ وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْك أَبَا لَيْلَى، فَالشِّعْرُ أَدْنَى وَسَائِلُكَ عِنْدَنَا، أَمَّا صَفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوَتُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ وَتَمِيمًا شَغَلَاهَا عَنْك، وَلَكِنْ لَك فِي مَالِ اللَّهِ سَهْمَانِ: سَهْمٌ بِرُؤْيَتِك رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَهْمٌ بِشَرِكَتِك أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَدَخَلَ دَارَ الْمَغْنَمِ1 فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا، وَجَمَلًا رَحِيلًا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْجَهْدُ، فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ، لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا وَلِيَتْ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ، وَلَا اُسْتُرْحِمَتْ فَرُحِمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ فَأَنْجَزَتْ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ2" .
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: فَكَأَنَّ الْفَارِطَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إلَى الْمَاءِ يُصْلِحُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ. وَالْقَاصِفُ: الَّذِي يَتَقَدَّمُ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِ:
أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّشْبِيهَاتُ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ الْحَدَّ، وَتَجَاوَزَتْ الْمُعْتَادَ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ.
وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم –3:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا4
إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ
كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنَ الاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ، حَتَّى فِي تَشْبِيهِ5 رِيقَهَا بِالرَّاحِ.
وَقَدْ كَانَتْ حَرُمَتْ قَبْلَ إنْشَادِهِ لِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهَا لَمْ يَمْنَعْ عِنْدَهُمْ طِيبَهَا؛ بَلْ تَرَكُوهَا عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالِاسْتِحْسَانِ لَهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأُجُورِهِمْ، وَمِنْ النَّاسِ قَلِيلٌ مَنْ
ـــــــ
1 في م: دار النعم.
2 فراط: جمع فارط، أي متقدمون إلى الشفاعة، وقيل إلى الحوض. والقاصفون: المزدحمون "النهاية" .
3 "ديوانه" : [6].
4 في م: إذ رحلت.
5 في م: تشبيهه.(3/398)
يَتْرُكُهَا اسْتِقْذَارًا لَهَا، وَإِنَّهَا لَأَهْلٌ لِذَلِكَ عِنْدِي، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنَ النَّاسِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِهَا وَاسْتِطَابَتِهِمْ لَهَا، و وَاَللَّهِ مَا هِيَ إلَّا قَذِرَةٌ بَشِعَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَاَللَّهُ يَعْصِمُ مِنَ المَعَاصِي بِعِزَّتِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشِّعْرُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ قَوْلَهُ وَزَمَانَهُ، فَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم –1: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ2 خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ إلَّا إيَّاهُ.
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [1769].
2 يريه من الورى، وهو داء يفسد الجوف.(3/399)
27- سُورَةُ النَّمْلِ
ويقال الهدهد فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" .
وَأَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا" . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} :
قُلْنَا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ، وَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةَ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَخَصَّهُ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.(3/400)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ، وَهُوَ صَوْتٌ تَتَفَاهَمُ بِهِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَنْطِقِنَا، فَإِنَّهُ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ، نَفْهَمُ بِهِ مَعَانِيَهَا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي الْمُوَاضَعَاتِ غَرَائِبُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ تُفْهَمُ مِنْهُ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ حَلٍّ وَتَرْحَالٍ، وَنُزُولٍ وَانْتِقَالٍ، وَبَسْطٍ وَرَبْطٍ، وَتَفْرِيقٍ وَجَمْعٍ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، بِحَسْبِ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ.(3/400)
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا مُمَوَّسٌ1 الدُّرَيْدِيُّ يَقْرَأُ مَعَنَا بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ كَلَامُهُمْ حُرُوفُ الشَّفَتَيْنِ، لَيْسَ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ.
فَجَعَلَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ مُعْجِزَةَ فَهْمِ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ لِأَجْلِ سَوْقِ قِصَّةِ الْهُدْهُدِ بَعْدَهَا. أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّمْلِ مَعَهَا، وَلَيْسَتْ مِنَ الطَّيْرِ.
وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِيِّينَ: اُنْظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ كَيْفَ تُقَسِّمُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُهَا نِصْفَيْنِ لِئَلَّا يَنْبُتَ الْحَبُّ، إلَّا حَبَّ الْكُزْبَرَةِ فَإِنَّهَا تُقَسِّمُ الْحَبَّةَ مِنْهُ عَلَى أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهَا إذَا قُسِّمَتْ بِنِصْفَيْنِ تَنْبُتُ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بِأَرْبَعَةِ أَنْصَافٍ لَمْ تَنْبُتْ.
وَهَذِهِ مِنْ غَوَامِضِ الْعُلُومِ عِنْدَنَا، وَأَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْ نُورٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ الْعَالَمِ، وَخَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ، وَلَكِنَّا لَا نَفْهَمُ عَنْهُمْ، وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَصْرٍ بِالْعِرَاقِ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ2:
خَرَجْنَا مِنْ قُرَى إصْطَخْرِ
إلَى الْقَصْرِ فَقُلْنَاهُ
فَمَنْ سَالَ عَنْ الْقَصْرِ
فَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ
وَعَلَى الْقَصْرِ نَسْرٌ، فَنَادَاهُ سُلَيْمَانُ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ، فَقَالَ: مُذْ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: مُذْ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَوَجَدْت الْقَصْرَ عَلَى هَيْئَتِهِ.
قَالَ الْقَاضِي: قَرَأْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرِ النَّجِيبِ بْنِ الْأَسْعَدِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَتُّوحٍ الرُّصَافِيُّ، أَنْبَأَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّفَاعِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِأَصْبَهَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا3 الْغَلَّابِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْإِفْرِيقِيُّ، حَدَّثَنَا
ـــــــ
1 هكذا بالأصول: وفي أ: الدربندي.
2 في م: مكتوب.
3 في م: بكر.(3/401)
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد يَرْكَبُ الرِّيحَ مِنْ إصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَعَشَّى بِإِصْطَخْرِ. فَقَالَ: إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ أَدْرَكَ مَالِكًا، وَمَا أَرَاهُ وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مَقْطُوعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ في الحديث عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "نَزَلَ1 نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً2" .
ـــــــ
1 من م. والحديث في "صحيح مسلم" : [1759].
2 أي فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي قرصتك لأنها الجانية، وأما غيرها فليس لها جناية.(3/402)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يُوزَعُونَ} :
يَعْنِي يَمْنَعُونَ وَيَدْفَعُونَ، وَيَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى يُلْهَمُونَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك} [النمل: 19] أَيْ أَلْهِمْنِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُولَى، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ رُدَّنِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَشْهَبُ قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ عُثْمَانُ: مَا يَزَعُ3 النَّاسَ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُهُمْ الْقُرْآنُ. قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي يَكُفُّهُمْ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ يُكَفُّونَ.
وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تَرْدَعُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ لِخَلْقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً بِقِوَامِ الْحَقِّ4، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا5 بِهَا، وَقَصَّرُوا عَنْهَا، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقْصِدُوا
ـــــــ
3 في "القرطبي" : ما ينزع الإمام أكثر مما يزع القرآن.
4 في م: الخلق. وفي "القرطبي" : قائمة لقوام الخلق.
5 خاس بالعهد: أخلف.(3/402)
وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعْ الْخَلْقُ بِهَا. وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ؛ وَأَخْلِصُوا النِّيَّةَ، لَاسْتَقَامَتْ الْأُمُورُ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ؛ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَّا إقَامَةَ الْعَدْلِ وَالْقَضَاءَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَالْكَفَّ لِلنَّاسِ بِالْقِسْطِ، وَانْتَشَرَتْ الْأَمَنَةُ، وَعَظُمَتْ1 الْمَنَعَةُ، وَاتَّصَلَتْ فِي الْبَيْضَةِ الْهُدْنَةُ، حَتَّى غَلَبَ قَضَاءُ اللَّهِ بِفَسَادِ الْحَسَدَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ.
ـــــــ
1 في أ: وعصمت.(3/403)
قوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}
...
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَأَيْت بَعْضَ الْبَصْرِيِّينَ2 قَدْ قَالَ: إنَّ النَّمْلَةَ كَانَ لَهَا جَنَاحَانِ، فَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ الطَّيْرِ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ مَنْطِقَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَنْطِقَ الطَّيْرِ؛ وَهَذَا نُقْصَانٌ عَظِيمٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ الطَّيْرِ خُصُوصًا دُونَ سَائِرِ الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا لَا يَعْقِلُ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ، وَيُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْقَوْلُ مِنَ النَّبَاتِ؛ فَكَانَ كُلُّ نَبَاتٍ يَقُولُ لَهُ: أَنَا شَجَرَةُ كَذَا، أَنْفَعُ مِنْ كَذَا، وَأَضُرُّ مِنْ كَذَا، وَفَائِدَتِي كَذَا، فَمَا ظَنُّك بِالْحَيَوَانِ!
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
فَانْظُرْ إلَى فَهْمِهَا بِأَنَّ جُنْدَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُؤْذِي نَمْلَةً مَعَ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمِ بِهِ، تَقِيَّةً لِسُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ التَّقِيَّ وَالْفَاجِرَ، وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ؛ إذْ كَانَ فِيهِمْ الشَّيَاطِينُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ جَيْشِ مُحَمَّدٍ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ "الْمُشْكِلَيْنِ" ، وَفِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ مِنْ كِتَابِ "أَنْوَارِ الْفَجْرِ" .
وَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا: إنَّ مَعْنَاهُ: وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ، فَخَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ إلَّا إبْطَالَ الْمُعْجِزَةِ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّقْوِيمِ. كَمَا انْتَهَى الْإِفْرَاطُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّمْلَةِ لَهُ أَنْ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَرَى لَك مُلْكًا عَظِيمًا، فَمَا أَعْظَمُ جُنْدِك؟ قَالَ لَهَا: تَسْخِيرُ الرِّيحِ. قَالَتْ لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَك أَنَّ كُلَّ مَا أَنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا رِيحٌ. وَمَا أَحْسَنُ الِاقْتِصَادَ، وَأَضْبَطُ السَّدَادَ لِلْأُمُورِ وَالِانْتِقَادَ!
ـــــــ
2 في م بعض المقصرين.(3/403)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِك الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ1:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي التَّبَسُّمِ:
وَهُوَ أَوَّلُ الضَّحِكِ، وَآخِرُهُ بُدُوُّ النَّوَاجِذِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْقَهْقَهَةِ، وَجُلُّ ضَحِكِ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الضَّحِكِ مَكْرُوهٌ، لِقَوْلِهِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82].
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَانَ لَا يَضْحَكُ؛ اهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَادِ حَالِهِ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا طَائِعًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضْحَكُ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْكُفَّارِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ يَعْنِي ضَحِكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَا أَمْرٌ بِالضَّحِكِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رِفَاعَةُ طَلَّقَهَا فَبَتَّ طَلَاقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ الْهُدْبَةُ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَخَالِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ، فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، اُنْظُرْ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ2 عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ. ثُمَّ قَالَ: "لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ..." الْحَدِيثَ.
وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ؛ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ. فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ: "عَجِبْت مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَك تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ..." وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِالطَّائِفِ قَالَ: "إنَّا قَافِلُونَ3 غَدًا إنْ شَاءَ
ـــــــ
1 في أ: مسألتان.
2 من م.
3 قافلون: راجعون.(3/404)
اللَّهُ. فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَفْتَحَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فَاغْدُوَا عَلَى الْقِتَالِ" . قَالَ: فَغَدَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَاتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ" قَالَ1: فَسَكَتُوا. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ2: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْت، وَأَهْلَكْت، وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: "اعْتِقْ رَقَبَةً" . قَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ. قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" . قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: "فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا" . قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: [فَأَتَى رَسُولُ]3 اللَّهِ بِعَرَقِ تَمْرٍ. وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ. فَقَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بِهَذَا" . قَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا4 أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا. فَضَحِكَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قَالَ: "فَأَنْتُمْ5 إذًا" .
وَلَمَّا سَأَلَهُ النَّاسُ الْمَطَرَ فَأُمْطِرُوا، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصَّحْوَ ضَحِكَ6.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ قِيلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ سُلَيْمَانُ؟
قُلْنَا: فِيهِ أَقْوَالٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ ضَحِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْجَيْشِ وَعَظِيمِ7 الطَّاعَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ اعْتِدَاءً.
وَلِذَلِكَ قَالَ: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 من م.
2 "صحيح مسلم" : [781].
3 من م.
4 لابتا المدينة: حرتان تكتنفانها "القاموس" .
5 في "مسلم" : ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك.
6 في م: فضحك.
7 في م: وعظم.(3/405)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ} [النمل: 20]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ مِنَ الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ، كَالْغَمَامَةِ،(3/405)
فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ: اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ مِنْ قُرْبِهِ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ. وَلَمْ يَقُلْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ!
قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: إنَّمَا قَالَ: [مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ]1؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ؟ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ. فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: مَالِي!
وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ. هَذَا فِي الْآدَابِ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ!
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ؟
وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً2 بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ!
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا: قِفْ يَا وَقَّافٍ. كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً: إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ. وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
ـــــــ
1 من م.
2 السخلة: ولد الشاة ما كان.(3/406)
إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ
وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ1
وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا
يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ
غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ
وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ
رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ونظر.(3/407)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَهْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَمَارَاتِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّيْرِ عَقْلٌ، وَلَا كَانَ لِلْبَهَائِمِ عِلْمٌ، وَلَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ عِلْمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ.
وَقَاتَلَهُمْ اللَّهُ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْخَلْقِ فَضْلًا عَنْ الْخَالِقِ!
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجُرْمِ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ، أَمَّا إنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَحْكَامِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.(3/407)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:
قَوْله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ: عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ.(3/407)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ:
قَوْله تعالى: {إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}(3/407)
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [النمل: 27[. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} .
لَمْ يُعَاقِبْهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَذَرَ لَهُ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ الْهُدْهُد3: {إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الطَّمَعُ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمِلْكِ إلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ، حَتَّى قَالَ: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24]، حِينَئِذٍ غَاظَهُ مَا سَمِعَ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إلَى مَا أَخْبَرَ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يُغَيِّرَهُ بِالْحَقِّ، وَيَرُدَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
ـــــــ
1 في م: بمتقن.
2 تجالت المرأة: أسنت وكبرت "النهاية" .
3 من م.(3/410)
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا؟ قُلْت: أَنَا يَعْنِي الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْت: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ" . فَقَالَ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيءَ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ.
فَخَرَجْت، فَوَجَدْت مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْت بِهِ، فَشَهِدَ.
وَكَانَ هَذَا تَثَبُّتًا مِنْ عُمَرَ احْتَجَّ بِهِ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ فَتَوَقَّفَ فِيمَا قَالَ لِأَجْلِ قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِك لَاجْتَزَأَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ لَهُ بِفَخْرِ الْعِلْمِ، {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهُ سَيَنْظُرُ، أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ فَكَانَ ذَلِكَ كُفُؤًا لِمَا قَالَهُ.(3/411)
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 28، 29، 30]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لِخَتْمِهِ، وَكَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ.
الثَّانِي: لِحُسْنِ مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَإِصَابَةِ مَعْنًى.
الثَّالِثُ: كَرَامَةُ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكٌ.
الرَّابِعُ: كَرَامَةُ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ طَائِرٌ؛ وَمَا عُهِدَتْ الرُّسُلُ مِنْهَا.
الْخَامِسُ: لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ.
السَّادِسُ: لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجُلَّةُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ: لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ(3/411)
الْمُؤْمِنِينَ؛ إنِّي أَقِرُّ لَك1 بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا اسْتَطَعْت، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا لَك بِذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحَدٌ قَبْلَ سُلَيْمَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَصْفُ الْكَرِيمُ2 فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ، وَبِالْأَثِيرِ، وَبِالْمَبْرُورِ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزَ؛ وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً، وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً. فَأَمَّا الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ فَقَدْ اتَّصَفَ3 بِهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا؛ فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 41-42].
فَهَذِهِ عِزَّتُهُ، وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ إلَّا لَهُ؛ فَاجْتَنِبُوهَا فِي كُتُبِكُمْ، وَاجْعَلُوا بَدَلَهَا الْعَالِيَ، تَوْقِيَةً لِحَقِّ الْوِلَايَةِ، وَحِيَاطَةً لِلدِّيَانَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِجْمَاعٍ؛ وَلِذَلِكَ إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لَيْسَتْ آيَةً مِنَ القُرْآنِ كُفْرٌ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَلَا يَكْفُرُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ مَا يُجْمِعُ عَلَيْهِ.
ـــــــ
1 من م.
2 في أ: بالكرم.
3 في م، و "القرطبي" : فقد وصف.(3/412)
الْآيَةُ الثَّانِيَة عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ} [النمل: 32].
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاوَرَةِ إمَّا اسْتِعَانَةً بِالْآرَاءِ، وَإِمَّا مُدَارَاةً لِلْأَوْلِيَاءِ.
وَيُقَالُ: إنَّهَا أَوَّلُ مَنْ جَاءَ أَنَّهُ شَاوَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا4 الْمَشُورَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [159] بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْفُضَلَاءَ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
ـــــــ
4 صفحة [318، 319] من الجزء الأول.(3/412)
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّهَا قَالَتْ: إنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا قَبِلَهَا.
وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ. وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ.
وَإِنَّمَا جَعَلَتْ بِلْقِيسُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ أَوْ رَدَّهَا عَلَامَةً عَلَى مَا فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي كِتَابِهِ: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]. وَهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ فِدْيَةٌ، وَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ هَدِيَّةٌ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنَ البَابِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِسَبِيلٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ رِشْوَةٌ، وَبَيْعُ الْحَقِّ بِالْمَالِ1 هُوَ الرِّشْوَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ.
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلتَّحَبُّبِ وَالتَّوَاصُلِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُشْرِكٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُشْرِكٍ، فَفِي الْحَدِيثِ: "نُهِيت عَنْ زَبْدِ2 الْمُشْرِكِينَ" .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ" .
وَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ3 لَأَجَبْت، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت" .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ فِي الصَّيْدِ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟" قُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْته الْعَضُدَ.
ـــــــ
1 في م، و "القرطبي" : بالباطل.
2 الزبد: الرفد والعطاء. قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً، لأنه قد قبل هدية غير واحد من المشركين؛ أهدى له المقوقس مارية والبغلة، وأهدى له أكيدر رومة فقبل منهما "النهاية" .
3 الكراع من الدابة: مستدق الساق.
4 شيب: خلط.(3/413)
وَأَهْدَى أَبُو طَلْحَةَ لَهُ وَرِكَ أَرْنَبٍ وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ.
وَأَهْدَتْ1 أُمُّ حَفِيدٍ إلَيْهِ أَقِطًا وَسَمْنًا وَضَبًّا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ.
وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ" .
وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ.
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [1544].(3/414)
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 38، 39، 40] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِ عَرْشِهَا؟: قِيلَ: فِيهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَحَبَّ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ.
الثَّانِيَةُ: أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ مَالُهَا.
الثَّالِثَةُ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا فِي مَعْرِفَتِهَا بِهِ.
الرَّابِعَةُ: أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ؛ لِأَخْذِهِ مِنْ ثِقَاتِهَا دُونَ جَيْشٍ وَلَا حَرْبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ وَهِيَ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِرْسَالِ إلَيْهَا إظْهَارَ نُبُوَّتِهِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهَا مُلْكُهَا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ بِهِ عِنْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُك} :
فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لَا تُسَاوِي سَمَاعَهَا، وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَعْلَمُهُ.(3/414)
وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيك بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُك} قَالَ: كَانَتْ بِالْيَمَنِ، وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشَّامِ، أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ هَذِهِ مُعْجِزَةٌ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ بِالْعَرْشِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تُعْدَمَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ. وَإِمَّا أَنْ يُعْدَمَ الْعَرْشُ بِالْيَمَنِ، وَيُوجَدُ1 بِالشَّامِ، وَالْكُلُّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ.
ـــــــ
1 في م: ويجدد.(3/415)
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا صَانَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ فِي أُهُبِهَا الدِّمَاءَ، وَعَلَيْهَا تَسَلَّطَ عَلَمُ الْأَعْدَاءِ، شَرَعَ الْقَسَامَةَ2 بِالتُّهْمَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاعْتَبَرَ فِيهَا التُّهْمَةَ، وَقَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَجْلِ طَلَبِ الْيَهُودِ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي "الصَّحِيحِ" 3:
أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ أَتَوْا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، فَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ.
وَقَالَ عُمَرُ حِينَ قَدَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْيَهُودَ: أَنْتُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ: "أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا" . فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: "أَتَحْلِفُونَ" قَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
ـــــــ
2 القسامة: الأيمان تقسم على الأولياء في الدم، كما تقدم.
3 "صحيح مسلم" : [1291].(3/415)
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
قَوْله تعالى: {إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ} [النمل: 91].
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.(3/16)
28- سُورَةُ الْقَصَصِ
فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَارِغًا} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الثَّانِي: فَارِغًا مِنْ وَحْيِنَا يَعْنِي بِسَبَبِهِ1.
الثَّالِثُ: فَارِغًا مِنَ العَقْلِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ؛ يُرِيدُ امْتَلَأَ وَلَهًا، يُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا رَمَتْهُ فِي الْبَحْرِ جَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: لَوْ حَبَسْتِهِ فَذُبِحَ فَتَوَلَّيْت دَفْنَهُ، وَعَرَفْت مَوْضِعَهُ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ قَتَلْتِهِ أَنْتِ. وَسَمِعَتْ ذَلِكَ، فَفَرَغَ فُؤَادُهَا مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الوَحْيِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا بِالصَّبْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ آيِ الْقُرْآنِ فَصَاحَةً؛ إذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ.
ـــــــ
1 في أ: يعني نسيته.(3/417)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]2.
وَقَدْ قَدَّمْنَا3 الْقَوْلَ فِي اللَّقِيطِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
ـــــــ
2 كان من الحق أن تكون هي الآية الأولى.
3 صفحة [38].(3/417)
وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ
وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا(3/418)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ} .
طَلَبَ غَوْثَهُ وَنُصْرَتَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18]؛ وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ؛ لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ دَيْنٌ فِي الْمِلَلِ كُلِّهَا، وَفَرْضٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ.
وَفي الحديث الصَّحِيحِ: "مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَصْرُ الْمَظْلُومِ" .
وَفِيهِ أَيْضًا: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" .
فَنَصْرُهُ ظَالِمًا كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} :
لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ؛ وَإِنَّمَا دَفْعَهُ فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسُهُ، وَذَلِكَ قَتْلُ خَطَأٍ، وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ، فَلِذَلِكَ عَدَّهُ ذَنْبًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "كِتَابِ الْمُشْكَلِينَ" فِي بَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ.(3/418)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا خَطْبُكُمَا} :
إنَّمَا سَأَلَهُمَا شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا وَرِقَّةً؛ وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ حَجَبَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: { قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} .
يَعْنِي لِضَعْفِنَا لَا نَسْقِي إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الرِّعَاءِ مِنَ المَاءِ فِي الْحَوْضِ.(3/418)
الْآيَةُ الْخَامِسَة
قَوْله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 25، 26]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: يَا بُنَيَّةُ، هَذِهِ قُوَّتُهُ، فَمَا أَمَانَتُهُ؟ قَالَتْ: إنَّكَ لَمَّا أَرْسَلْتنِي إلَيْهِ قَالَ لِي: كُونِي وَرَائِي لِئَلَّا يَصِفَك الثَّوْبُ مِنَ الرِّيحِ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ، لَا أَنْظُرُ إلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا وَيَسَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اسْتَأْجِرْهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلِيقَةِ، وَمَصْلَحَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا لِلْأَصَمِّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ حَيْثُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعِهِ.(3/419)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تعالى: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27،28].
اعْلَمُوا، عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ، وَحِفْظَ سَبِيلَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهَا، وَنَحْنُ نَحْلُبُ دَرَّهَا، وَنَنْظِمُ دُرَرَهَا، وَنَشُدُّ مِئْزَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً:(3/419)
الْآيَةُ السَّابِعَة:
قَوْله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ أَسْلَمُوا، فَكَانَ الْيَهُودُ يَلْقَوْنَهُمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، فَيُعْرِضُونَ(3/434)
عَنْهُمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ أَسْلَمُوا، فَكَانُوا إذَا سَمِعُوا مَا غَيَّرَهُ الْيَهُودُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَذَكَرُوا الْحَقَّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا سَمِعُوا الْبَاطِلَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يَهُودًا وَلَا نَصَارَى، وَكَانُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ بِمَكَّةَ قَصَدُوهُ، فَعُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ، فَأَسْلَمُوا؛ فَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَهُمْ: أُفٍّ لَكُمْ مِنْ قَوْمٍ اتَّبَعْتُمْ غُلَامًا كَرِهَهُ قَوْمُهُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} :
يُرِيدُ لَنَا حَقُّنَا، وَلَكُمْ بَاطِلُكُمْ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ هَذَا بِسَلَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِسَلَامٍ أَيْ تَارِكْنِي وَأُتَارِكُك.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تِبْيَانِ الْحَالِ لِلتَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْمُسْلِمِينَ، وَخُرُوجِ الْكُفَّارِ عَنْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.(3/435)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ
قَوْله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاك اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى النَّصِيبِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لَا تَنْسَ حَظَّك مِنَ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَغْفُلْ أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اُحْرُثْ1 لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك كَأَنَّك تَمُوتُ غَدًا.
الثَّانِي: أَمْسِكْ مَا يَبْلُغُك، فَذَلِكَ حَظُّ الدُّنْيَا. وَأَنْفِقْ الْفَضْلَ، فَذَلِكَ حَظُّ الْآخِرَةِ.
ـــــــ
1 في أ: احرص.(3/435)
الثَّالِثُ: لَا تَغْفُلْ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْك.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك} :
ذُكِرَ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، جِمَاعُهَا اسْتَعْمِلْ نِعَمَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهَا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْك فِي رَأْيٍ.
قَالَ الْقَاضِي: أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَرَى مِنَ الغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفَ وَالتَّقَصُّفَ1 وَالْبَأْسَاءَ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ، وَيَسْتَعْمِلُ الشِّوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ عَيْشِهِ، وَيُقَدِّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ لِآخِرَتِهِ. وَأَبْدَعُ مَا فِيهِ عِنْدِي قَوْلُ قَتَادَةَ: وَلَا تَنْسَ الْحَلَالَ، فَهُوَ نَصِيبُك مِنَ الدُّنْيَا، وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا!
ـــــــ
1 التقصف: الانكسار.(3/436)
29- سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].
تَقَدَّم1 فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
ـــــــ
1 صفحة [154].(3/437)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تعالى: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 28].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا، وَيَحِقُّ أَنْ نُعِيدَهُ لِعِظَمِهِ، وَقَدْ نَادَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ اقْتَحَمَ هَذَا، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِينَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ2، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً، كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ" .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ: "اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ" . وَلَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ.
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنَّ الْعَرَبَ تَأْنَفُ مِنَ العَارِ وَشُهْرَتِهِ أَنَفًا لَا تَأْنَفُهُ مِنَ الحُدُودِ الَّتِي تَمْضِي فِي الْأَحْكَامِ، فَأَرَى أَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ أَبُو الْحَسَنِ. فَكَتَبَ إلَى خَالِدٍ أَنْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، فَفَعَلَ. فَقَالَ ابْنُ
ـــــــ
2 أي مثله، ومساوياً له.(3/437)
وَهْبٍ: لَا أَرَى خَالِدًا أَحْرَقَهُ إلَّا بَعْدَ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ كَمَا زَعَمَ ابْنُ وَهْبٍ، كَانَ عَلِيٌّ يَرَى الْحَرْقَ بِالنَّارِ عُقُوبَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ الْبَرْقَانِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ: رَأَيْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، وَأَيُّوبَ، وَعَمَّارًا الرَّهِينِيُّ، اجْتَمَعُوا فَتَنَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ، فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا مَا أَحْرَقْتُهُمْ؟ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ" وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" . فَقَالَ عَمَّارٌ: لَمْ يَكُنْ حَرَقَهُمْ، وَلَكِنَّهُ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ، وَخَرَقَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، ثُمَّ دَخَنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا. فَقَالَ عَمَّارٌ: قَالَ الشَّاعِرُ:
لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ
إذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ
إذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا
هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ
وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ: عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي ضَوَاحِي1 الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْمُهُ الْفُجَاءَةُ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ فِيهِمْ قَوْلًا، فَقَالَ عَلَيَّ: إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ، إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً، صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ؛ أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ.
فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى2 خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ، فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدُ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ أُخِذُوا فِي لِوَاطٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَوُجِدُوا3 أَرْبَعَةً قَدْ أُحْصِنُوا، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الحَرَمِ، ثُمَّ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى مَاتُوا، وَجَلَدَ الثَّلَاثَةَ حَتَّى مَاتُوا بِالْحَدِّ. قَالَ: وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ، وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا، وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللِّوَاطِ، فَقَالَ: يُصْعَدُ بِهِ فِي الْجَبَلِ، ثُمَّ يُرْدَى مِنْهُ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ.
ـــــــ
1 الضاحية: أهل البادية، وجمعه ضواحي.
2 في م: فكتب أبو بكر رضي الله عنه أن تحرق بالنار، وكان الكتاب إلى خالد بن الوليد.
3 في أ: فوجد.(3/438)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تعالى: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْله تعالى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا دَامَ فِيهَا.
وَالثَّانِي: مَا دَامَ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ1 مِنَ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا" .
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ: الْمَعْنَى فِيهَا أَيْضًا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُصَلِّي أَنْ يَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، كَمَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
وَكَمَا لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمُصَلِّي عَنْ الصَّلَاةِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ قَصَرَتْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَقَالَ مَشْيَخَةُ الصُّوفِيَّةِ: الصَّلَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا كَانَتْ نَاهِيَةً، فَإِنْ لَمْ تَنْهَهُ فَهِيَ صُورَةُ صَلَاةٍ لَا مَعْنَاهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدِي مَوْلَاهُ وَمُنَاجَاتَهُ لَهُ إنْ لَمْ تَدُمْ عَلَيْهِ بَرَكَتُهَا، وَتَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ رَهْبَتُهَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ رَبِّهِ مُعْرِضٌ، وَفِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ غَافِلٌ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَحْشَاءُ:
الدُّنْيَا، فَتَنْهَاهُ الصَّلَاةُ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ حَظٌّ فِي قَلْبِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" .
وَقِيلَ: الْفَحْشَاءُ الْمَعَاصِي، وَهُوَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَمْ
ـــــــ
1 في "القرطبي" : لم تزده من الله إلا بعدا.(3/439)
تَتَمَرَّنْ جَوَارِحُهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، حَتَّى يَأْنَسَ بِالصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا أُنْسًا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ اقْتِرَافِ الْخَطَايَا، وَإِلَّا فَهِيَ قَاصِرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُنْكَرُ: وَهُوَ كُلُّ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ وَغَيْرُهُ، وَنَهَى عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ1، أَضَافَ الْمَصْدَرَ إلَى الْفَاعِلِ.
الثَّانِي: ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
الثَّالِثُ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي غَيْرِهَا، يَعْنِي لِأَنَّهَا عِبَادَتَانِ.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم.(3/440)
قوله تعالى: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}
...
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ رَفَعَ الْجِدَالَ2.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِاللِّسَانِ يُقَاتِلُ بِهِ فِي اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ وَاللِّسَانِ، حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ لِلَّهِ، وَتَبَيَّنَ الْعِنَادُ، وَبَلَغَتْ الْقُدْرَةُ غَايَتَهَا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَ، وَمَنْ امْتَنَعَ بَقِيَ الْجِدَالُ فِي حَقِّهِ؛ وَلَكِنْ بِمَا يَحْسُنُ مِنَ الأَدِلَّةِ، وَيَجْمُلُ مِنَ الكَلَامِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنْك لِلْخَصْمِ تَمْكِينٌ، وَفِي خِطَابِك لَهُ لِينٌ، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ مِنَ الأَدِلَّةِ أَظْهَرَهَا، وَأَنْوَرَهَا، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمِ الْمُجَادِلُ أَعَادَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَكَرَّرَهَا، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ مَعَ الْكَافِرِ حِينَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]. فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ،
ـــــــ
2 في "القرطبي" : قال مجاهد هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن [13/350].(3/440)
فَحَسُنَ الْجِدَالُ، وَنَقَلَ إلَى أَبَيْنَ مِنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَأَنْوَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَهْلُ الْحَرْبِ.
الثَّانِي: مَانِعُو الْجِزْيَةِ.
الثَّالِثُ: مَنْ بَقِيَ عَلَى الْمُعَانَدَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ.
الرَّابِعُ: الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي جِدَالِهِمْ، بِأَنْ خَلَطُوا فِي إبْطَالِهِمْ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُرَدَّدَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُجَادَلَاتٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ أَثْبَتُ فِي الْمَعْنَى.
وَقَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ: {إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94-95]. فَمَا أَجَابُوا جَوَابًا.
وَقَالَ لَهُمْ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]. أَيْ: إنْ كُنْتُمْ أَبْعَدْتُمْ وَلَدًا بِغَيْرِ أَبٍ فَخُذُوا وَلَدًا دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ.
وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64].
وَقَالَ: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18].
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي حُصَيْنٍ: "يَا حُصَيْنُ؛ كَمْ إلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟" ، قَالَ: إنِّي أَعْبُدُ سَبْعَةً، وَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، وَسِتًّا فِي الْأَرْضِ: قَالَ: "فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك" ، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "يَا حُصَيْنُ، أَمَا إنَّك إنْ أَسْلَمْت عَلَّمْتُك" . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.(3/441)
سورة الروم
قَوْله تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
...
30- سُورَةُ الرُّومِ
فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ2 وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} إلَى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1-5]. قَالَ: فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ.
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ2 قَالَ: غُلِبَتْ الرُّومُ وَغَلَبَتْ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَمَا إنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ" . فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك أَجَلًا؛ فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: "أَلَا أَخْفَضْت" . وَفِي رِوَايَةٍ: "أَلَا أَحْبَطْت" . وَفِي رِوَايَةٍ: "أَلَا جَعَلْته إلَى دُونٍ" أَرَاهُ "الْعَشَرَةَ" .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ؛ فَذَلِكَ قَوْله تعالى: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ...} إلَى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} .
قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" : [197].
2 "سنن الترمذي" : [5/343].(3/442)
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَرُوِيَ1 أَيْضًا عَنْ نِيَارِ بْنِ مَكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا إيمَانٍ بِبَعْثٍ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُك أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؛ أَفَلَا نُرَاهِنُك عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى. وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ.
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ؟ الْبِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إلَى2 تِسْعِ سِنِينَ. فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَسَطًا3.
قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ.
قَالَ: فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا؛ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فِي بِضْعِ سِنِينَ.
قَالَ: وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ؛ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حِسَانٌ غُرَابٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُرَاهَنَةِ:
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ؛ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّهَانِ جَوَازٌ إلَّا فِي الْخَيْلِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّا فِي "كُتُبِ الْحَدِيثِ" وَ "الْفِقْهِ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ، فَيُقَالُ: بِضْعَ عَشْرَةَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ.
ـــــــ
1 "سنن الترمذي" : [5/343].
2 في "القرطبي" : أو تسع سنين.
3 في "القرطبي" ، و "سنن الترمذي" : فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه.(3/443)
الثَّانِي: الْبِضْعُ سَبْعَةٌ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ.
الثَّالِثُ: الْبِضْعُ مِنَ الثَّلَاثِ إلَى التِّسْعِ.
الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَا بَيْنَ نِصْفِ الْعِقْدَيْنِ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إلَى الْأَرْبَعَةِ.
الْخَامِسُ: هُوَ مَا بَيْنَ خَمْسٍ إلَى سَبْعٍ؛ قَالَهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ.
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ: وَلَا يُقَالُ بِضْعٌ وَمِائَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى التِّسْعِينَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ، وَبِذَلِكَ يَقْضِي فِي الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "فُرُوعِ الْأَحْكَامِ" .(3/444)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَعَ نُظَرَائِهَا مِنْ آيَاتِ الصَّلَاةِ.(3/444)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ1، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ2، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ؛ قَالَ الشَّعْبِيُّ.
الثَّالِثُ: الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ.
ـــــــ
1 صفحة [261] من الجزء الأول.
2 الربا منه حلال وحرام، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي، يلتمس ما هو أفضل منه "القرطبي" .(3/444)
31- سورة لقمان
فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]. فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} هو الغناء وما اتصل به: فروى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن، ولا أثمانهن" ; وفيهن أنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ...} الآية.
وروى عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنيه الآنك1 يوم القيامة" .
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر أن الله يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم2 في رياض المسك. ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وشكري، وثنائي عليهم، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومن رواية مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه" .
ـــــــ
1 الآنك: الرصاص.
2 في "القرطبي" : أحلوهم رياض المسك.(3/446)
الثاني1: أنه الباطل.
الثالث: أنه الطبل; قاله الطبري.
المسألة الثانية: في سبب نزولها2: وفيه قولان:
أحدهما: أنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش: إن محمدا قال كذا وكذا ضحك منه، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس، ويقول: حديثي هذا أحسن من قرآن محمد.
الثاني: أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية، فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ بِحَالٍ، لِعَدَمِ ثِقَةِ نَاقِلِيهَا إلَى مَنْ ذُكِرَ مِنَ الأَعْيَانِ فِيهَا.
وَأَصَحُّ مَا فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْبَاطِلُ.
فَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: طَبْلُ حَرْبٍ، وَطَبْلُ لَهْوٍ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ، وَيُرْهِبُ عَلَى الْعَدُوِّ. وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْوِ فَهُوَ كَالدُّفِّ. وَكَذَلِكَ آلَاتُ اللَّهْوِ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، لِمَا يَحْسُنُ مِنَ الكَلَامِ، وَيَسْلَمُ مِنَ الرَّفَثِ.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا. وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يُشْهِرُهُ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ:
أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ" .
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَاجْتُنِبَ3 مِنْ أَصْلِهِ.
ـــــــ
1 كأنه عد قوله [ص: 446]: هو الغناء... الأول.
2 "أسباب النزول" : [197].
3 في "القرطبي" : واجتث.(3/447)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ: وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، حَكِيمًا، ذَا مَشَافِرَ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.
الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ1، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَذَفَ2 عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ، فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مِنَ النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا.
السَّادِسُ: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.
السَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: اذْبَحْ شَاةً، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَقَالَ لَهُ: أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ3، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ: أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ، فَأَلْقَيْت اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا طَابَا، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّك قَدْ اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا.
ـــــــ
1 في م: فاختار النبوة.
2 في "القرطبي" : فذر.
3 في "القرطبي" : مضغتين.(3/448)
وَقَالَ لُقْمَانُ، يَا بُنَيَّ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ، وَلَا تُمَاشِهِمْ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَيُصِيبَك مَعَهُمْ.
وَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ.
وَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ. وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا.
وَفِي أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً، وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك، طَمَعًا فِي أَنْ تَعْلَقَ مِنْ أَخِيهَا بِنَجِيبٍ، فَفَعَلَتْ، فَحَمَلَتْ مِنْ أَخِيهَا، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ1:
لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ مِنْ أُخْتِهِ
فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ لَهَا وَابْنَا
لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ
عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا مُظْلِمًا
فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ2
فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا مِنَ الحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ، وَأَدْخَلَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ "الْجَامِعِ مِنْ مُوَطَّئِهِ" ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ3 مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ.
ـــــــ
1 الأبيات في "ابن الشجري" : 18، والبيت الأول وحده في "اللسان" لقم.
2 في "ابن الشجري" : فأحبلها رجل نابه.
3 في م: توجد.(3/449)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ4 خَدَّك لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
ـــــــ
4 في أ: لا تصاعر، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن كما في "القرطبي" .(3/449)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك} :
يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَقَالَ الشَّاعِر1:
وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ
يُرِيدُ: فَتَقَوَّمْ أَنْتَ، أَمْرٌ، ثُمَّ كُسِرَتْ لِلْقَافِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ [37]2.
وفي الحديث الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ3: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
وَعَنْهُ، صَحِيحًا: "الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا" .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِزَارِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إزْرَةُ4 الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ" .
قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنَ الخَسْفِ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "شَرْحِ الْحَدِيثِ" ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ5 تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ مَجَازًا، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْفِ.
ـــــــ
1 البيت لعمرو بن حني التغلبي كما في القرطبي. وفي "اللسان" نسب للمتلمس، وروى فيه: فتقوما – [صعر].
2 صفحة [168].
3 "صحيح مسلم" : [1654].
4 الإزرة –بالكسر: الحالة وهيئة الائتزار "النهاية" .
5 في م: أما إن يتبختر فإن لم تخسف....(3/450)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَشْيَ بِقَصْدٍ، لَا يَكُونُ عَادَةً، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مُرَادٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك} :
يَعْنِي لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ: لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك.
وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ1. وَالْمُرَيْطَاءُ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ.
ـــــــ
1 في الأصول: معمر. والصواب من "الاستيعاب" [2/656].(3/451)
الْآيَةُ الْخَامِسَة
قَوْله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.(3/451)
سورة السجدة
قَوْله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
...
32- سُورَةُ السَّجْدَةِ
فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهِيَ مَوَاضِعُ النَّوْمِ. وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ. وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ السَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إلَى أَيِّ طَاعَةِ اللَّهِ تَتَجَافَى؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ اللَّهِ. وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ.
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَيُّ صَلَاةٍ هِيَ؟
فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ قَالَ قَتَادَةُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَتَمَةُ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قِيَامُ اللَّيْلِ1؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ.
ـــــــ
1 في م: صلاة الليل.(3/452)
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَذَلِكَ أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاسِ، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ فَالصَّلَاةُ حِينَئِذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى.
وَالْقَوْلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَضَى، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّمَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.(3/453)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]1.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ، لَا مِنْ مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الفِعْلِ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي2 أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة: 111].
وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ3 مُخْتَلِفَانِ.
وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي "الْمُشْكَلَيْنِ" ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ الْإسْفَرايِينِيّ، مِنْ
ـــــــ
1 وهي أيضاً في السورة قبل الآية التي سبقت ولكن هكذا بالأصول.
2 في "القرطبي" : فإن الله ضمن.
3 في "القرطبي" : المقصدين.(3/453)
طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ، وَفِي كِتَابِهِ مَكْتُوبٌ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ، وَاسْتِلَالَهَا مِنَ الأَجْسَامِ، وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى وَفُرَادَى. وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ، فَقَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا...} [الزمر: 42]، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ...} [السجدة: 11] خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نِيطَ بِهِ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ.
وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الفَاظِ الْحَدِيثِ1 خَبَرًا2 عَنْ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ. فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ.
وَقَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ. وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ.
وَهُوَ3 التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ.
ـــــــ
1 في م: القرآن.
2 في م: حذرا.
3 في م: وهذا.(3/454)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:(3/454)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَنْ نَزَلَتْ1؟
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُؤْمِنِ، وَفِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكَافِرِ، فَاخَرَ عُقْبَةُ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَنَا أَبْسَطُ مِنْك لِسَانًا، وَأَحَدُّ سِنَانًا، وَأَمْلَأُ2 فِي الْكَتِيبَةِ مِنْك حَشْوًا.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَيْسَ كَمَا قُلْت يَا فَاسِقُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَاَللَّهِ مَا اسْتَوَيَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَبِهَذَا مُنِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا؛ إذْ مِنْ شُرُوطِ وُجُودِ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ.
وَقَالَ: أَرَادَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ، وَفِي الدُّنْيَا فِي الْعَدَالَةِ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَهُوَ أَصَحُّ؛ إذْ لَا دَلِيلَ يَخُصُّهُ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
ـــــــ
1 "أسباب النزول" : [200].
2 في أ: وأنبأ. وفي "القرطبي" : وأرد الكتيبة – وروي: "أملأ في الكتيبة جسدا".(3/455)
33- سُورَةُ الْأَحْزَابِ
فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك.
الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا يَعِي هَذَا إلَّا لِأَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [فَكَانَ مَا قَالَ]2.
الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ: إنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ، أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ.
الرَّابِعُ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} مَا عَنَى بِذَلِكَ؟
قَالَ: قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَرَ خَطْرَةً3، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ: قَلْبًا مَعَكُمْ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ4؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" : [201].
2 من م.
3 في أ: فحظر حظيرة.
4 في م: معه.(3/456)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {مِنْ قَلْبَيْنِ} :
الْقَلْبُ: بِضْعَةٌ1 صَغِيرَةُ الْجُرْمِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ، خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآدَمِيِّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ، وَالرُّوحِ أَيْضًا، فِي قَوْلٍ، يُحْصِي بِهِ الْعَبْدُ مِنَ العُلُومِ مَا لَا يَسَعُ فِي أَسْفَارٍ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فِيهِ2 بِالْخَطِّ الْإِلَهِيِّ، وَيَضْبُطُهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيِّ حَتَّى يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا.
وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ: لَمَّةٌ3 مِنَ المَلَكِ، وَلَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ.
وَهُوَ مَحَلُّ الْخَطِرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ، وَمَكَانُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَوْضِعُ الْإِصْرَارِ وَالْإِنَابَةِ، وَمَجْرَى الِانْزِعَاجِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْإِنَابَةُ وَالْإِصْرَارُ، وَهَذَا نَفْيٌ لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} :
نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ: هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَلَكِنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْقَوْلِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} :
كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْهِ، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقِيمُهُ مَقَامَ الِابْنِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِهِ إلَى أَنْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ: وَإِلَى أَنْ يَقُولُوا: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَبَتَّ4 حَبْلَهَا، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ.
ـــــــ
1 البضعة: القطعة من اللحم – بالفتح وقد تكسر.
2 في "القرطبي" : بالخط الإلهي.
3 اللمة – بالفتح: الخطرة تقع في القلب.
4 بت: قطع.(3/457)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تعالى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:(3/457)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تعالى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} :
رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَتْ: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} .
وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ جَبَلَةُ1 فِي الْحَيِّ، فَقَالُوا: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ؟ فَقَالَ: زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ:
كَانَتْ أُمُّنَا امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ، فَمَاتَ أَبُونَا، وَبَقِينَا فِي حِجْرِ جَدِّي، فَجَاءَ عَمَّايَ، فَقَالَا لِجَدِّي: نَحْنُ أَحَقُّ بِابْنِ أَخِينَا مِنْك. فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا، فَأَبَيَا. فَقَالَ: خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا. فَانْطَلَقَا بِي، فَجَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا، فَتَرَاقَى بِهِ الْأَمْرُ إلَى خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ.
وَأُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا مِرْجَلَانِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْآخَرَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَهُ، وَكَانَ مَسْبِيًّا مِنَ الشَّامِ، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَبَنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ2:
بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلٌ
أَحَيٌّ فَيُرْجَى3 أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ4
أَغَالَك بَعْدِي5 السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً6
فَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي أَمَلْ7
تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا
وَتُعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا8 أَفَلْ
ـــــــ
1 جبلة بن حارثة أخو زيد بن حارثة.
2 "الاستيعاب" : [2/544].
3 في "الاستيعاب" : يرجى.
4 في "الاستيعاب" : وإن كنت سائلاً.
5 في "الاستيعاب" : أغالك سهل الأرض.
6 في "الاستيعاب" : رجعة.
7 في "الاستيعاب" : يحل.
8 في "الستيعاب" : إذا قارب الطفل.(3/458)
فَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ
فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا1 وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا
وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي
فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ2
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ، فَجَاءَ إلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِسَعَادَتِهِ، وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى رَسْمِ الْعَرَبِ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} .
فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَارِثَةَ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ، فَأَقَرُّوا بِهِ، وَأَثْبَتُوا نِسْبَتَهُ.
وَهُوَ {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وَحُكْمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} :
دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ لَا يَنْتَسِبُ إلَى أُمِّهِ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتِقِهِ وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رِقًّا.
فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ إنْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمِّهِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ، لِأَنَّ أَسْبَابَهُ فِي انْتِسَابِهِ مُنْقَطِعَةٌ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمِّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُخُوَّةِ دُونَ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم –3: "وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا" . قَالُوا: أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك، قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ
ـــــــ
1 في أ: وما وجل.
2 في م، و "الاستيعاب" : الأجل.
3 "الموطأ" : [29].(3/459)
أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَمَوَالِيكُمْ} :
يَجُوزُ إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْوِلَايَةِ، وَهِيَ الْقُرْبُ، كَمَا تَرْجِعُ الْأُخُوَّةُ إلَى أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ مِنَ الدِّينِ وَالصَّدَاقَةِ.
وَلِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةُ مَعَانٍ، مِنْهَا مَا يَجْتَمِعُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ مُعَايَنَةِ اثْنَيْنِ بِحَسَبِ مَا يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّبَنِّي وَالتَّوَارُثِ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا؛ لِعَدَمِ شُرُوطِ النَّسْخِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ مَا جَاءَ مِنَ الشَّرِيعَةِ لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لِبَاطِلِ الْخَلْقِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ المُحَالِ وَالضَّلَالِ، وَقَبِيحِ الْأَفْعَالِ، وَمُسْتَرْسَلِ الْأَعْمَالِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ نَسْخَ الِاشْتِقَاقِ، بِمَعْنَى الرَّفْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْإِزَالَةِ الْمُبْهَمَةِ.(3/460)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: "وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" .
وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَوْضُوعٌ.(3/460)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى1 الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلَاهُ" .
فَانْقَلَبَتْ الْآنَ الْحَالُ بِالذُّنُوبِ2، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَةُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكُوا ضِيَاعًا أَسْلَمُوا إلَيْهِ، فَهَذَا تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَعْيِينِهِ، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .
وَلَسْنَ لَهُمْ بِأُمَّهَاتٍ، وَلَكِنْ أُنْزِلْنَ مَنْزِلَتَهُنَّ فِي الْحُرْمَةِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدُ الشَّمْسِ، أَيْ أُنْزِلَ فِي حُسْنِهِ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ، وَحَاتِمُ الْبَحْرِ أَيْ أُنْزِلَ فِي عُمُومِ جُودِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ؛ كُلُّ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحِفْظًا لِقَلْبِهِ مِنَ التَّأَذِّي بِالْغَيْرَةِ.
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: "تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي" . وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. وَلَمْ يُنَزَّلْ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَحَدٌ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا رُوعِيَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصِّيصَةُ، وَإِنْ غَارَ وَتَأَذَّى؛ وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَعَ حَظِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ خَفِيفِ الْأَذَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: حَرَّمَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] فَكُلُّ مَنْ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَخَلَّى عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ: هِيَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا دُونَ مَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: وَلِمَ؟ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِجَابًا وَلَا دُعِيت أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَفَّ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .
ـــــــ
1 ابن كثير: [4/468].
2 في م: بالديون.(3/461)
اخْتَلَفَ النَّاسُ، هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً، عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقِيلَ: ذَلِكَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إنْزَالُهُنَّ مَنْزِلَةَ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ، حَيْثُ يُتَوَقَّعُ الْحِلُّ، وَالْحِلُّ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَلَا يُحْجَبُ بَيْنَهُنَّ بِحُرْمَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّاهُ. فَقَالَتْ: لَسْت لَك بِأُمٍّ، إنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ1.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَقَدْ قَدَّمْنَا2 الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَارْتَثَّ3 كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ، فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ4 وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75].
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنَ الحَلِفِ، فَتُرِكَتْ الْمُوَارَثَةُ بِالْحَلِفِ، وَوَرِثُوا بِالْقَرَابَةِ، وَقَوْلُهُ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِأَوْلَى، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، لَا بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} بِإِجْمَاعٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا، وَهَذَا حَلُّ إشْكَالِهَا.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء. والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة [14/123].
2 صفحة [374] من الجزء الثاني.
3 الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح.
4 الضح – بالكسر: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض. أراد لو مات عما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح؛ وكنى بذلك من كثرة الأموال. وفي: على الضح.(3/462)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].
فِيهَا أَحْكَامٌ وَسِيَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ، وَالْأَحْزَابِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ حَالَ شِدَّةٍ، مُعَقَّبَةٌ بِنِعْمَةٍ، وَرَخَاءٍ وَغِبْطَةٍ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَيَقْتَضِي مَسَائِلَ ثَلَاثًا:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِتَالِ مِنَ المَدِينَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ مِنْ هَاهُنَا، وَالْيَهُودُ مِنْ هَاهُنَا، وَالنَّجْدِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا، يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَرْبَعُ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي1 أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، وَجَاءَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ، وَهُوَ عَلَى أَتَانٍ، فَمَرَّ بِهِ حَتَّى لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ قَالَ: أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ فِي إخْوَانِي وَأَنْصَارِي، ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتُّمِائَةِ رَاجِلٍ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحِي، وَهُمْ مَوَالِيك وَحُلَفَاؤُك.
فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ" .
زَادَ غَيْرُهُ: "مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ" 2.
ـــــــ
1 "سيرة ابن هشام" : [3/262]، والطبري: [3/57].
2 أرقعة: جمع رقيع، والرقيع السماء، سميت بذلك لأنها رقعة بالنجوم "النهاية" ، وانظر "صحيح مسلم" [1389].(3/463)
فَأَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى ابْنِ بَاطَا، وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ، وَقَالَ: قَدْ اسْتَوْهَبْتُك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَدِك الَّتِي لَك عِنْدِي.
قَالَ: كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْكَرِيمُ بِالْكَرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَهْلَ؟ قَالَ: فَأَتَى ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. فَأَتَاهُ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ، فَأَتَى ثَابِتٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبَهُ، فَأَعْطَاهُ مَالَهُ. فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ؟ قَالَ: قُتِلَ. فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ؟ قَالَ: قُتِلُوا. قَالَ: فَمَا فَعَلَتْ الْقَيْنَتَانِ؟1 قَالَ: قُتِلَتَا. قَالَ: بَرِئَتْ ذِمَّتُك، وَلَنْ أَصُبَّ2 فِيهَا دَلْوًا أَبَدًا يَعْنِي النَّخْلَ فَأَلْحِقْنِي بِهِمْ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتَلَهُ غَيْرُهُ.
وَالْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِابْنِ بَاطَا عِنْدَ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَسَرَهُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ تُوُفِّيَ3 سَعْدٌ: "نَخْشَى أَنْ نُغْلَبَ عَلَيْك، كَمَا غُلِبْنَا عَلَى حَنْظَلَةَ" . قَالَ: وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ4، فَانْتَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ.
وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَاهَدُ ثَغْرَةً مِنَ الجَبَلِ يُحَافِظُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُزْلِفُهُ الْبَرْدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَيَأْتِي فَيَضْطَجِعُ فِي حِجْرِي5، ثُمَّ يَقُومُ، فَسَمِعْت حِسَّ رَجُلٍ عَلَيْهِ حَدِيدٌ وَقَدْ أَسْنَدَ6 فِي الْجَبَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟" فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، جِئْتُك لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك.
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ فِي تِلْكَ الثَّغْرَةِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجْرِي حَتَّى سَمِعْت غَطِيطَهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تَنْسَاهَا لِسَعْدٍ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : الفئتان.
2 في أ: أصيب.
3 في م: رمى.
4 الأكحل: عرق في اليد، أو هو عرق الحياة "القاموس" .
5 في أ: حجرتي.
6 أسند في الجبل: صعد.(3/464)
قَالَ مَالِكٌ: وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ1: أَوَضَعْت اللَّأْمَةَ أَوْ لَمْ تَضَعْهَا؟ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: وَقَسَمَ قُرَيْظَةَ سُهْمَانًا، فَأَمَّا النَّضِيرُ فَقَسَمَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ؛ وَهُمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَتْ النَّضِيرُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ2:
اللَّهُمَّ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرَةِ وَالْأَنْصَارِ" .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].
وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يُسْتَشْهَدْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنَ المُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اسْتَشْهَدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنَ المُسْلِمِينَ سِتَّةُ نَفَرٍ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: الطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمَةَ 3 [رَجُلَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ]4، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.
وَقُتِلَ مِنَ الكُفَّارِ ثَلَاثَةٌ: مُنَبِّهَ5 بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ، فَقُتِلَ. فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ، فَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لَا
ـــــــ
1 في م: فقال.
2 "صحيح مسلم" : [1432].
3 في م: غنم. وفي "الإصابة": ثعلبة بن عنمة بفتح العين المهملة والنون. والمثبت في "ابن هشام" أيضاً: [3/273].
4 من "القرطبي" .
5 في أ: شعبة.(3/465)
حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ. فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ.
وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ فِي الْمُبَارَزَةِ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ، وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا، فَغَلَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ
وَنَصَرْت رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ1
فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدِّلًا2
كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَرَوَابِي
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي
كُنْت الْمُقَطِّرَ3 بَزَّنِي أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ
وَنَبِيَّهُ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَبَّادَ بْنَ بَشِيرٍ، وَأَبَا عَبَّاسٍ الْحَارِثِيَّ، وَرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ لِيَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَنَالَ مِنْك إذَا جِئْنَاهُ. فَأَذِنَ لَهُمْ.
فَخَرَجُوا نَحْوَهُ لَيْلًا، فَلَمَّا جَاءُوا وَنَادَوْهُ لِيَطْلُعَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ عَبَّادِ بْنِ بَشِيرٍ وَبَيْنَ ابْنِ الْأَشْرَفِ رَضَاعٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ كُنْت نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي.
فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: جِئْنَا لِتُسْلِفَنَا شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَوَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّا لَنَجِدُ مِنْك رِيحَ عَبِيرٍ.
قَالَ: فَأَدْنَى إلَيْهِمْ رَأْسَهُ، وَقَالَ: شُمُّوا، فَذَلِكَ حِينَ ابْتَدَرُوهُ فَقَتَلُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ: "إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمِ كَافِرٍ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: سَمَّيْت بِهِ، لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غِبْت عَنْهُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَعْدَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا. فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ العَامِ الْقَابِلِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهَا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، إنِّي أَجِدُهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
ـــــــ
1 في "القرطبي" : ونصرت دين محمد بضراب.
2 في "القرطبي" : نازلته فتركته متجدلاً وفي أ: فصدرت.
3 المقطر: الذي ألقى على أحد قطريه أي جنبيه. وفي م: المظفر.(3/466)
قَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
وَكَذَلِكَ رَوَى طَلْحَةُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ؛ يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إنِّي اطَّلَعْت مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟" قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ" .
النَّحْبُ: النَّذْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ فِي خُصٍّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ فِيهِ، وَكَانَ جُرْحُهُ يَنْفَجِرُ، ثُمَّ يُفِيقُ مِنْهُ، فَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى سَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ مِنْهُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَرَّ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنِسَاءٌ مَعَهَا فِي الْأُطُمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِعٌ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ1، مُشَمِّرَ الْكُمَّيْنِ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدُ2 الْهَيْجَا حَمَلْ
لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الْأَجَلْ3
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنِّي لَسْت أَخَافُ أَنْ يُصَابَ سَعْدٌ الْيَوْمَ إلَّا مِنْ أَطْرَافِهِ، فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ4.
قَالَ الْقَاضِي:
فَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ عَاصِمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرْقَةِ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرْقَةِ.
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَك فِي النَّارِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا
ـــــــ
1 مقلصة: مجتمعة منضمة.
2 في م: يدرك. وفي "القرطبي" : يلحق.
3 قال السهيل: هو بيت تمثل به، يعني به حمل بن سعدانة.
4 الأكحل: عرق في اليد، أو هو عرق الحياة.(3/467)
فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ شَهَادَةً لِي، وَلَا تُمِيتنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي الْجُشَمِيَّ؛ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ:
أَعَكْرِمُ هَلَّا لُمْتنِي إذْ تَقُولُ لِي
فِدَاك بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ
أَلَسْت الَّذِي أَلْزَمْت سَعْدًا مَنِيَّةً
لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَاقِدُ
قَضَى نَحْبَهُ مِنْهَا سَعِيدٌ فَأَعْوَلَتْ
عَلَيْهِ مَعَ الشَّمَطِ الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ
وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْت عَنْهُ وَقَدْ دَعَا
عُبَيْدَةَ جَمْعًا مِنْهُمْ إذْ يُكَايِدُ
عَلَى حِينِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ طَرِيقِهِ
وَآخَرُ مَدْعُوٌّ عَلَى الْقَصْدِ قَاصِدُ
وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْت رَجُلًا أَجْمَلَ مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، حَاشَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ حَرْبُ قُرَيْظَةَ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَأَبْقِنِي حَتَّى أُجَاهِدَ مَعَ رَسُولِك أَعْدَاءَهُ. فَلَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ تُوُفِّيَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: نَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي كُنْت أُحِبُّ أَنْ يَقْتُلَنِي قَوْمٌ بَعَثْت فِيهِمْ نَبِيَّك فَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ بَقِيَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ تَبَاشَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَقَدْ نَزَلَ بِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَا نَزَلُوا الْأَرْضَ قَبْلَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَوْلُهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] يَعْنِي فِي رُجُوعِهِ مِنَ الخَنْدَقِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى حِينِ غَابَتْ الشَّمْسُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَلَا أَدْرِي اغْتَسَلَ أَمْ لَا،(3/468)
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ أَتَضَعُونَ اللَّأْمَةَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَى قُرَيْظَةَ؛ لَا تَضَعُوا السِّلَاحَ حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" .
فَصَلَّى بَعْضُ النَّاسِ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْضٌ، حَتَّى لَحِقُوا بَنِي قُرَيْظَةَ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعَ عَشْرَةَ نَزَلْنَ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ بِمَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنَ الأَحْكَامِ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَشَرَحْنَاهُ عِنْدَ وُرُودِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَكْرَارِهِ مَعْنًى، وَمَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنَ الحَدِيثِ يُشْرَحُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ بَقِيَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَتِمَّةُ عِشْرِينَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا1 هُنَالِكَ.
وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالِاسْتِئْذَانِ وَقَوْلُهُ: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ. وَاَلَّذِينَ {عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} : هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي أُحُدٍ، وَنَدِمُوا، ثُمَّ عَادُوا فِي الْخَنْدَقِ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ: {إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122].
قَالَ جَابِرٌ: وَمَا وَدِدْت أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ: {وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا} .
ـــــــ
1 صفحة [361].(3/469)
الْآيَةُ الْخَامِسَة:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28،29]. فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
ـــــــ
2 "أسباب النزول" للسيوطي: [138].(3/469)
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا، وَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" .
فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً. وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا. وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا1. وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا عَائِشَةَ؛ فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ.
وَالصَّحِيحُ مَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" 2، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
جَاءَ3 أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ: فَقَالَ [أَبُو بَكْرٍ]4: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ5 النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ" .
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .
ـــــــ
1 سحولية – بفتح السين وضمها، والفتح أشهر: هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن. وقيل: هي منسوبة إلى سحول: مدينة باليمن تحمل منها هذه الثياب.
2 "صحيح مسلم" : [1104].
3 في "مسلم" : دخل.
4 من م.
5 في م و "القرطبي" و "مسلم" : أضحك.(3/470)
فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ1 أَيْضًا. فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ مِنَ الحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ: لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَنَصُّهُ2 مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَمَكَثْت3 سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ4 الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك، فَقَالَ: أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ، ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تعالى: { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك.
فَقَالَ عُمَرُ: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ.
قَالَ: هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ. قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ. قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي5 فَتَغَيَّظْتُ6 يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي: لَوْ صَنَعْت كَذَا. فَقُلْت لَهَا: مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ7!
ـــــــ
1 في م: طلبت.
2 "صحيح مسلم" : [1108- 1110].
3 في م فمكث سنة فما أستطيع.
4 في "مسلم" : فلما رجع كنا ببعض الطريق.
5 العوالي: موضع قريب من المدينة.
6 في "مسلم" : فتغضبت يوماً على امرأتي [1111].
7 في م: أأتمره.(3/471)
فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ.
فَأَخَذْت رِدَائِي، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، فَانْطَلَقْت، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْت لَهَا: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟
فَقَالَتْ: مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك.
فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -!
قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْت: أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. قُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ. لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ.
وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا، فَقَالَتْ لِي: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ.
وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا، فَضَرَبَ بَابِي1، وَنَادَانِي، فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقُلْت: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْت: مَا تَقُولُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ؟ فَقُلْت: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ، وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْت، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي. فَقُلْت: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ.
فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ2 مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ
ـــــــ
1 في م: بيدي.
2 نقير من خشب: جذع ينقر ويجعل فيه شبه المراقي يصعد عليه إلى الغرف "النهاية" .(3/472)
يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْحَدِرُ. فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ.
فَانْطَلَقْت، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْت قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا.
قَالَ: وَرَفَعْت صَوْتِي، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك.
فَدَخَلْت، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ1 حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5].
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ: لَا. فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي. قَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك. فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى
ـــــــ
1 الرمال: ما رمل، أي نسج، وقيل: الرمال جمع رمل بمعنى مرمول كخلق بمعنى مخلوق. والمراد أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير "النهاية" .(3/473)
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَكَشَّرَ1، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا.
فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك، قَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ، إلَّا أُهُبًا2 ثَلَاثَةً، وَإِلَّا قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٌ3 مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ4 مُعَلَّقٌ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْت: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ5 كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ؟ وَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا6.
فَقُلْت: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ.
وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، يَعْنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ.
هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ عَلَى أَزْوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ،
ـــــــ
1 كشر عن أسنانه يكشر كشراً: أبدى، يكون في الضحك وغيره.
2 الإرهاب ككتاب: الجلد، أو ما لم يدبغ، جمعه آهبة، وأهب بضمتين، وأهب بفتحتين "القاموس" .
3 في أ: قرط، وهو تصحيف. مصبور: مجموع "النهاية" .
4 أفيق: جلد لم يتم دباغه. وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ "النهاية" .
5 في م: وذكرت.
6 "ابن ماجة" : [1390]، ومسلم [1107].(3/474)
لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك. وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ: مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5].
وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا.
وَفِيهِ الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّفَقَةِ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ مِنْ ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا سِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ مِنْ عَدَمِ الْمِهَادِ، وَقِلَّةِ الْوِسَادِ. وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هُنَّ حَوْلِي، كَمَا تَرَى" ، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {قُلْ} .
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ} يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ الْكَرِيمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ1 فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ ضَاقَ صَدْرُك بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ، وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {لِأَزْوَاجِكَ} .
اختلف العلماء في المراد بالأزواج المذكورات؛ فقال الحسن وقتادة: كان تحته يومئذ تسع نسوة سوى الخيبرية؛ خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وسودة بنت زمعة بن قيس. وكانت تحته صفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
ـــــــ
1في م: الاتفاق.(3/475)
قال ابن شهاب: وامرأة واحدة اختارت نفسها، فذهبت، وكانت بدوية.
قال ربيعة: فكانت ألبتة، واسمها عمرة بنت يزيد الكلابية؛ اختارت الفراق، فذهبت، فابتلاها الله بالجنون.
ويقال: إن أباها تركها ترعى غنما له، فصارت في طلب إحداهن، فلم يعلم ما كان من أمرها إلى اليوم. وقيل: إنها كندية. وقيل: لم يخيرها.
وإنما استعاذت منه فردها، وقال: "لقد استعذت1 بمعاذ" .
هذا منتهى قولهم، ونحن نبينه بيانا شافيا، وهي:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَنَقُولُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ "الصَّحِيحَيْنِ" ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ:
الْأُولَى: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي لُؤَيٍّ.
الثَّانِيَةُ: عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَبِ الثَّامِنِ.
الثَّالِثُ: حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَبِ التَّاسِعِ.
الرَّابِعَةُ: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَبِ السَّابِعِ.
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ [مِنْ الْمُفَسِّرِينَ]2 أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعٌ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم النَّفَقَةَ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ آيَةُ التَّخْيِيرِ.
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ فِي "الصَّحِيحِ" كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ في الحديث الْمُتَقَدِّمِ: فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ، وَهُوَ أَصْدَقَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ مِنَ اليَمَنِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ.
وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــ
1 في م: عذت.
2 ليس في م.(3/476)
وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: إنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ" ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا.
وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُ رَبِيعَةَ: إنَّهَا كَانَتْ أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} :
وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} ، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ1 الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} :
مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ:
إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ2، وَيَجْمَعَ لَهَا، وَيَنْظُرَ فِيهَا [وَمِنْهَا]3. وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى، فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى، فَقَالَ لَهُ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ الْمَرْءُ4 لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ. وَأَمَّا رِزْقُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ، فَخَيَّرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ.
ـــــــ
1 في أ: وإطلاق، وهو تحريف.
2 في أ: الغريبة.
3 ليس في م.
4 في م: إذا كان لا بد.(3/477)
وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ الدُّنْيَا مَثَلًا، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا؟
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَبِينُ، لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ1؛ أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفِرَاقِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} .
هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، مِنْ قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ، تَقُولُ: تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى الْإِقْبَالِ.
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ2 فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تعالى: {أُمَتِّعْكُنَّ} .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ3.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {وأُسَرِّحْكُنَّ} .
مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229]3.
ـــــــ
1 في م: وإمضائه.
2 في م: في هذا الموضع.
3 صفحة [212] من الجزء الأول.(3/478)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ1 مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ الطَّلَاقِ. فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ مَعَهُ، قَالَتْهُ2 عَائِشَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ، وَقَدْ قَالَ: {سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ؛ وَإِنَّمَا السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ قَبُولُ التَّخْيِيرِ.
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهَا:
أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ فَتَخْتَارُهُ، أَيَكُونُ طَلَاقًا؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَلَا وَجَدُوا لَفْظَ "خَيَّرَ" فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَوْلُهَا: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ...} الآية. وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا زَعَمُوا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهَا، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنَ التَّخْيِيرِ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى كَمَا تَقَدَّمَ آيَةَ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5].
وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى.
ـــــــ
1 في م: وهو.
2 في أ: منهم عائشة. والمثبت من "القرطبي" .(3/479)
الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ؛ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ؛ وَبَيْنَ1 الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ2 يُخَالِفُ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ قَالَ: {سَرَاحًا جَمِيلًا} . وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]؛ فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا.
قُلْنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: "ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك" . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ؟ فَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ" . فَقَالَتْ: إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً؛ لَا تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا.
وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ عَائِشَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَدَأَ بِي، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك" . قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، فَقَرَأَ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
ـــــــ
1 في م: أو.
2 في أ: بقوله.(3/480)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} .
فَقُلْت: أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ أَيُّوبُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك؛ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا1، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا" .
وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ: "قَدْ اخْتَارَتْنِي عَائِشَةُ" ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا خَيَّرَهُنَّ اخْتَرْنَهُ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَنَزَلَتْ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ2 فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ، لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ، وَبَيَانُهُ فِي "كُتُبِ الْفِقْهِ" ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى طَرَفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ.
الثَّانِي: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا.
أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ، وَعَلِيٍّ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: "اخْتَارِي" كِنَايَةٌ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، كَقَوْلِهِ، أَنْتِ بَائِنٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرْنَاهُ. أَفَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا!.
ـــــــ
1 في م: معنتا، وانظر "صحيح مسلم" : [1113]، و"ابن ماجة": [662].
2 صفحة [521].(3/481)
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ: إنَّ تَخْيِيرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ إيقَاعَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَيْنَا مِنْكُمْ.
قُلْنَا: كَذَلِكَ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَقَوْلُكُمْ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهَا كِنَايَةٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا.
فَإِذَا قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ، كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِسِعَةِ عِلْمِهَا، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا إيقَاعٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي بِحَالٍ.
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا ثَلَاثٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا مَبْتُوتَةٍ1، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
الثَّالِثُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ جَمِيعًا، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ: "اخْتَارِي" أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا؛ إذْ قَدْ جَعَلَ إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ.
الْجَوَابُ: إنَّا نَقُولُ: أَمَّا اعْتِبَارُ نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ.
ـــــــ
1 في م: بينونة.(3/482)
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا.
الْجَوَابُ: إمَّا نَقُولُ: قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} :
اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ. وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُكَلَّفٌ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالَةُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ مِنْهُ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ، هَلَكَ. وَإِنْ كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ، وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ، وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ1 بِذِكْرِ اللَّهِ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ بِطَاعَتِهِ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَقْصِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ.
قَالَ قَوْمٌ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا، الْعَائِدُ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ2 الْمَسْطُورِ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} :
الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ.
وَالثَّانِي: التَّمَادِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ
ـــــــ
1 في م: معمور.
2 في أ: العرض.(3/483)
مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ1 بِالْمُنْيَةِ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ2 وَالْإِكْرَامِ.
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ...} [الأحزاب: 31] إلَى آخِرِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا} :
الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} ، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ.
أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ3 أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ مِنَ الاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، فَقَالَ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52].
وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ.
فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
ـــــــ
1 الاخترام: الهلاك.
2 في م: أفضل حالة.
3 في م: جعلهن من أمهات المؤمنين.(3/484)
الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ [4]1، مِنْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ، وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ2؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 صفحة [294].
2 في م: حدهن.(3/485)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْفَاحِشَةِ وَتِبْيَانِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، وَأَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَى الزِّنَا، وَعَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفَاحِشَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ، وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ؛ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتْ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتْ الْعُقُوبَاتُ؛ وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى حَدِّ الْعَبْدِ، وَالثَّيِّبِ عَلَى الْبِكْرِ؛ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فِيهِمَا عَلَى قَرِينِهِمَا؛ وَذَلِكَ مَشْرُوحٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحْدَدْنَ حَدَّيْنِ. وَيَا مَسْرُوقُ، لَقَدْ كُنْت فِي غِنًى عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ لَا يَأْتِينَ أَبَدًا بِفَاحِشَةٍ تُوجِبُ حَدًّا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ؛ وَإِنَّمَا خَانَتْ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَوْ أَمْسَكَ النَّاسُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي بَلْ عَمَّا لَا يَعْنِي لَكَثُرَ الصَّوَابُ، وَظَهَرَ الْحَقُّ.(3/485)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].(3/485)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:
قَوْله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32، 33]. فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} :
يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ مِنَ الآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ مِنَ البَشَرِ جِبِلَّةً، فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ1، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .
أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا، وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ اللِّينِ الْمُطْمِعِ لِلسَّامِعِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مَعْرُوفًا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: الْمَعْرُوفُ هُوَ السِّرُّ2، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} :
يَعْنِي اُسْكُنَّ فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكْنَ، وَلَا تَبْرَحْنَ مِنْهَا، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 في م: المعرات.
2 في أ: الشر.(3/486)
لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ:
"هَذِهِ؛ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ" ؛ إشَارَةً إلَى مَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهَا، وَالِانْكِفَافِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ، إلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَلَقَدْ دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ، فَمَا رَأَيْت [نِسَاءً]1 أَصْوَنَ عِيَالًا، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّارِ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا2، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ، نَهَارًا، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. وَسَائِرُ الْقُرَى تُرَى نِسَاؤُهَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَعُطْلَةٍ، مُتَفَرِّقَاتٍ فِي كُلِّ فِتْنَةٍ وَعُضْلَةٍ3. وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذْ قَالُوا: إنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ، وَتُبَاشِرُ الْحُرُوبَ، وَتَقْتَحِمُ مَآزِقَ الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ، فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا.
وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ، لِتَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَقِيمِي هَاهُنَا، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ عَنْ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّك.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ نَذَرَتْ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ نَذْرِهَا؛ وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ تِلْكَ الثَّائِرَةِ4 لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا.
وَأَمَّا خُرُوجُهَا إلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا، وَشَكَوْا إلَيْهَا مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ، وَتَهَارَجَ النَّاسِ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا فِي الْإِصْلَاحِ، وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إذَا وَقَفَتْ إلَى الْخَلْقِ وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
وَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، فَلَمْ يُرِدْ اللَّهُ
ـــــــ
1 من "القرطبي" .
2 في م: يسيرا.
3 في م: منصرفات. والعضلة: الداهية.
4 في م: النائرة كان.(3/487)
بِسَابِقِ قَضَائِهِ، وَنَافِذِ حُكْمِهِ، أَنْ يَقَعَ إصْلَاحٌ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ إلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ قَرَنَهُنَّ عَلِيٌّ بِهَا، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً مُجْتَهِدَةً، مُصِيبَةً ثَابِتَةً1 فِيمَا تَأَوَّلَتْ، مَأْجُورَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ وَفَعَلَتْ؛ إذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ مُصِيبٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" تَصْوِيبَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُرُوبِ، وَحَمْلَ أَفْعَالِهِمْ عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} :
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ2.
وَقَوْلُهُ: {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}؟ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً غَيْرَ وَاحِدَةٍ!
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ هَلْ سَمِعْت بِأُولَى إلَّا لَهَا آخِرَةٌ!
قَالَ: فَأْتِنَا بِمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] جَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
فَقَالَ عُمَرُ: فَمَنْ أَمَرَ بِأَنْ نُجَاهِدَ؟ قَالَ: مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهَا الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَعْتُ غَيْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْكُمُ إلَّا بِالْحَقِّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
1 في م: مصيبة مثيبة مثابة.
2 صفحة [321] سورة النور.(3/488)
الْأَوَّلُ: الْإِثْمُ.
الثَّانِي: الشِّرْكُ.
الثَّالِثُ: الشَّيْطَانُ.
الرَّابِعُ: الْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ؛ فَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ كَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ كَالشُّحِّ، وَالْبُخْلِ، وَالْحَسَدِ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} :
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا" .
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
قَالَ: "أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ" 1.
وَرَوَى2 أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إذَا خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: "الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" .
خَرَّجَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
ـــــــ
1 "ابن كثير": [3/485]، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت من أهلي.
2 "ابن كثير": [3/483].(3/489)
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: آيَاتُ اللَّهِ الْحِكْمَةُ.(3/489)
َقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَآيَاتُ اللَّهِ حِكْمَتُهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ حِكْمَتُهُ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حِكْمَتُهُ، وَالشَّرْعُ كُلُّهُ حِكْمَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْوَالِهِ فِيهِنَّ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ، فَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، وَيَقْتَدُوا بِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا مَسْأَلَةٌ1 بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلِمَهُ مِنَ الدِّينِ؛ فَكَانَ إذَا قَرَأَهُ عَلَى وَاحِدٍ، أَوْ مَا اتَّفَقَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى النَّاسِ فَيَقُولَ لَهُمْ: نَزَلَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "الْأُصُولِ" ، و َ"شَرْحِ الْحَدِيثِ" ، وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ لَا يَعْتَدُّ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ مَا أُمِرْنَ بِالْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، وَلَا فَرَضَ عَلَيْهِنَّ تَبْلِيغَهُ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِجَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ بُسْرَةَ2 فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ، وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الرِّجَالَ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" ، وَحَقَّقْنَاهُ فِي "أُصُولِ الْفِقْهِ" ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كَانَ هَاهُنَا.
ـــــــ
1 في م: في هذه الآية.
2 هي بسرة بنت صفوان بن نوفل، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/490)
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ(3/490)
هَاجَرَتْ مِنَ النِّسَاءِ، وَهَبَتْ1 نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَدْ قَبِلْت، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَسَخِطَتْهُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَامْتَنَعَتْ، وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ لِنَسَبِهَا فِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ عَبْدًا بِالْأَمْسِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا: مُرْنِي بِمَا شِئْت، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدٍ.
وَاَلَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ.
زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَاقَ إلَيْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَمِلْحَفَةً، وَدِرْعًا، وَخَمْسِينَ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ تَمْرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الْأَحْسَابِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَدْيَانِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ وَسَحْنُونٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْشٍ وَتَزَوَّجَ زَيْدٌ بِزَيْنَبِ، وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ، وَزَوَّجَ2 أَبُو حَنِيفَةَ سَالِمًا مِنْ هِنْدَ3 بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم 4-: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ؛ لِمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا؛ فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك5 " .
وَفِيهِ قَالَ سَهْلٌ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعَ، وَإِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا" .
ـــــــ
2 في م: وتزوج.
3 في "القرطبي" : من فاطمة.
4 "صحيح مسلم" : [1086].
5 تربت يداك: المراد بها الحث والتحريض.(3/491)
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَأَبْصَرَ2 امْرَأَتَهُ قَائِمَةً، فَأَعْجَبَتْهُ؛ فَقَالَ: "سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ!" فَلَمَّا سَمِعَتْ زَيْنَبُ ذَلِكَ جَلَسَتْ، وَجَاءَ زَيْدٌ إلَى مَنْزِلِهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ زَيْنَبَ؛ فَعَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَتَى زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا، فَإِنَّ بِهَا غَيْرَةً وَإِذَايَةً بِلِسَانِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ أَهْلَك" ، وَفِي قَلْبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ.
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: "اُذْكُرْنِي لَهَا" فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إلَى زَيْنَبَ، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُك. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} :
أَيْ بِالْإِسْلَامِ. {وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ} ، أَيْ بِالْعِتْقِ، هُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَقِيلَ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ سَاقَهُ إلَيْك، وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِأَنْ تَبَنَّيْته؛ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَيْهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} :
يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا. فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ.
وَقِيلَ: تُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ مَيْلِك إلَيْهَا وَحُبِّك لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَخْشَى النَّاسَ} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للسيوطي: [140].
2 في أ: فأبصرها قائمة. والمثبت في م.(3/492)
الْأَوَّلُ: تَسْتَحِي مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ. وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ.
الثَّانِي: تَخْشَى النَّاسَ أَنْ يُعَاتِبُوك، وَعِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.
الثَّالِثُ: وَتَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيك.
وَقِيلَ: أَنْ يُفْتَتَنُوا مِنْ أَجْلِك، وَيَنْسُبُوك إلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَإِنَّهُ مَالِكُ الْقُلُوبِ، وَبِيَدِهِ النَّوَاصِي وَالْأَلْسِنَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ:
قَدْ بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَهِدْنَا إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ، وَأَحَادِيثَهُمْ مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا غَبِيٌّ عَنْ مِقْدَارِهِمْ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي، وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، أَيْ أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي "أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ" . فَهَذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ، لَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، تَكْرِمَةً مِنَ اللَّهِ وَتَفَضُّلًا وَجَلَالًا، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ، لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ.
وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ الْكَرِيمَةُ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ ضَرَائِبِهِ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ، وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ مِنْ كُلِّ طَاهِرِ الْجَيْبِ، سَالِمٍ عَنْ الْعَيْبِ، بَرِيءٍ مِنَ الرَّيْبِ، يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعُزْلَةِ، وَيَنْقُلُونَهُ عَنْ الْوَحْدَةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا مِنْ كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ، وَلَا يَتَنَزَّلُ إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا، أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَحْمَةً لَا مَصْلَحَةً، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ لِلْخَلْقِ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ، وَتَفَضُّلٍ عَلَيْهِ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ صَغِيرٍ حَاشَا لِلَّهِ وَلَا كَبِيرٍ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ، وَلَا تَعْيِيرٌ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" .
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ؛ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:
لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا مِنَ الوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ(3/493)
عَلَيْهِ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ، {وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ} يَعْنِي بِالْعِتْقِ، فَأَعْتَقْته: {أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ...} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} .
وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].
فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ، {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ، فَكَيْفَ تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَلَا تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ الْمُطَهَّرِ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]. وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ، فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ الْمَحْبُوسَاتِ!
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ زَيْدٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ: إنَّ زَيْنَبَ زَوْجُك، وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، فَأَبَى زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ فِيهِ خَبَرُهُمَا، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا وَفَسَّرْنَاهَا، فَقَالَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ لَا سِوَاهُ.
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ.(3/494)
فَإِنْ قِيلَ: فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ زَيْدٍ؟
قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا خَطَرَ مِنَ الإِشْكَالِ فِيهِ: إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنَ النُّفْرَةِ عَنْهَا وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟
قُلْنَا: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَاقِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ؛ فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ.(3/495)
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الآية: 37] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَطَرُ: الْأَرَبُ، وَهُوَ الْحَاجَةُ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ1: "أَيُّكُمْ يَمْلِكُ أَرَبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ أَرَبَهُ" عَلَى أَحَدِ الضَّبْطَيْنِ2 يَعْنِي شَهْوَتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {زَوَّجْنَاكَهَا} :
فَذَكَرَ عَقْدَهُ عَلَيْهَا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ فِيهِ، وَعِنْدَنَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ، وَقَدْ3 بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا زَيْدًا فَقَالَ: ائْتِ زَيْنَبَ فَاذْكُرْنِي لَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [242-777].
2 يروى بفتح الهمزة والراء. ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء "النهاية" .
3 صفحة [421].(3/495)
وَقَالَ يَحْيَى: فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا، فَاسْتَفْتَحَ زَيْدٌ الْبَابَ، فَقَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ: زَيْدٌ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُك؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا أَبْكَى اللَّهُ لَك عَيْنًا قَدْ كُنْت نِعْمَتْ الْمَرْأَةُ تَبَرِّينَ قَسَمِي، وَتُطِيعِينَ أَمْرِي، وَتَبْغِينَ مَسَرَّتِي، وَقَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنِّي. قَالَتْ مَنْ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَخَرَّتْ سَاجِدَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَتْ: حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ إذْنٍ.
فَكَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَقُولُ: أَمَّا أَنْتُنَّ فَزَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ، وَأَمَّا أَنَا فَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ زَيْدًا لَمَّا جَاءَهَا بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَهَا تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ: فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ عِظَمِهَا فِي صَدْرِي، فَوَلَّيْت لَهَا ظَهْرِي، وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي، وَقُلْت: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُك... الْحَدِيثُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنِّي أُدِلُّ عَلَيْك بِثَلَاثٍ، مَا مِنْ أَزْوَاجِك امْرَأَةٌ تُدِلُّ بِهِنَّ عَلَيْك: جَدِّي وَجَدُّك وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَإِنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} :
يَعْنِي دَخَلُوا بِهِنَّ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي أَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الأَصْلَابِ، أَوْ مَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الأَصْلَابِ بِالْبَعْضِيَّةِ1، وَهُوَ فِي الرَّضَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ.
ـــــــ
1 في أ البضعية.(3/496)
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَطَّطَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِخُطَطِهِ، وَعَدَّدَ لَهُ أَسْمَاءَهُ، وَالشَّيْءُ إذَا عَظُمَ قَدْرُهُ عَظُمَتْ أَسْمَاؤُهُ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ، وَلِلنَّبِيِّ أَلْفُ اسْمٍ.(3/496)
فَأَمَّا أَسْمَاءُ اللَّهِ فَهَذَا الْعَدَدُ حَقِيرٌ فِيهَا، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
وَأَمَّا أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُحْصِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ لِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ الْبَيِّنَةِ، فَوَعَيْتُ مِنْهَا جُمْلَةً، الْحَاضِرُ الْآنَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا:
أَوَّلُهَا الرَّسُولُ، الْمُرْسَلُ، النَّبِيُّ، الْأُمِّيُّ، الشَّهِيدُ، الْمُصَدِّقُ، النُّورُ، الْمُسْلِمُ، الْبَشِيرُ، الْمُبَشِّرُ، النَّذِيرُ، الْمُنْذِرُ، الْمُبَيِّنُ [الأمين]1، الْعَبْدُ، الدَّاعِي، السِّرَاجُ، الْمُنِيرُ، الْإِمَامُ، الذِّكْرُ الْمُذَكِّرُ، الْهَادِي، الْمُهَاجِرُ، الْعَامِلُ، الْمُبَارَكُ، الرَّحْمَةُ، الْآمِرُ، النَّاهِي، الطَّيِّبُ، الْكَرِيمُ، الْمُحَلِّلُ، الْمُحَرِّمُ، الْوَاضِعُ، الرَّافِعُ، الْمُخْبِرُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، ثَانِي اثْنَيْنِ، مَنْصُورٌ، أُذُنُ خَيْرٍ، مُصْطَفًى، أَمِينٌ، مَأْمُونٌ، قَاسِمٌ، نَقِيبٌ، مُزَّمِّلٌ، مُدَّثِّرٌ، الْعَلِيُّ، الْحَكِيمُ، الْمُؤْمِنُ، [المصدق]2، الرَّءُوفُ، الرَّحِيمُ، الصَّاحِبُ، الشَّفِيعُ، الْمُشَفَّعُ، الْمُتَوَكِّلُ، مُحَمَّدٌ، أَحْمَدُ، الْمَاحِي، الْحَاشِرُ، الْمُقَفِّي، الْعَاقِبُ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، عَبْدُ اللَّهِ، نَبِيُّ الْحَرَمَيْنِ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ.
وَلَهُ وَرَاءَ هَذِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ إلَّا صَمَيَانٌ3.
فَأَمَّا الرَّسُولُ: فَهُوَ الَّذِي تَتَابَعَ خَبَرُهُ عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَلَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ.
وَهُوَ الْمُرْسِلُ: بِكَسْرِ السِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِالتَّبْلِيغِ مُشَافَهَةً، فَلَمْ يَكُ بُدٌّ مِنَ الرُّسُلِ يَنُوبُونَ عَنْهُ، وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ، كَمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ.
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: "تَسْمَعُونَ، وَيَسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيَسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ" .
وَأَمَّا النَّبِيءُ - صلى الله عليه وسلم -: فَهُوَ مَهْمُوزٌ مِنَ النَّبَأِ، وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الأَرْضِ، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، رَفِيعُ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْوَصْفَانِ، وَتَمَّ لَهُ الشَّرَفَانِ.
وَأَمَّا الْأُمِّيُّ: فَفِيهِ أَقْوَالٌ؛ أَصَحُّهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ،
ـــــــ
1 زيادة يقتضيها ما يأتي من شرح لهذه الأسماء. مع أنه سيأتي: أمين.
2 زيادة يقتضيها ما يأتي من شرح هذه الأسماء.
3 الصميان من الرجال: الشديد المحتنك السن.(3/497)
لِقَوْلِهِ تعالى: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا شَاءَ.
وَأَمَّا الشَّهِيدُ: فَهُوَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْمُعْجِزَةُ بِالصِّدْقِ، وَالْخَلْقُ بِظُهُورِ الْحَقِّ.
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَهُوَ بِمَا صَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50].
وَأَمَّا النُّورُ: فَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ بِمَا كَانَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَنَوَّرَ اللَّهُ الْأَفْئِدَةَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ: فَهُوَ خَيْرُهُمْ وَأَوَّلُهُمْ، كَمَا قَالَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]. وَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَرَفِ انْقِيَادِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ وَبِسَلَامَةٍ عَنْ الْجَهْلِ وَالْمَعَاصِي.
وَأَمَّا الْبَشِيرُ: فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الْخَلْقَ بِثَوَابِهِمْ إنْ أَطَاعُوا، وَبِعِقَابِهِمْ إنْ عَصَوْا، قَالَ اللَّهُ تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]. وَقَالَ تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَكَذَلِكَ الْمُبَشِّرُ.
وَأَمَّا النَّذِيرُ وَالْمُنْذِرُ: فَهُوَ الْمُخْبِرُ عَمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، وَيَكُفُّ عَمَّا يَؤُولُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا يُدْفَعُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ: فَمَا أَبَانَ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الوَحْيِ وَالدِّينِ، وَأَظْهَرَ مِنَ الآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ.
وَأَمَّا الْأَمِينُ: فَبِأَنَّهُ حَفِظَ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَمَا وُظِّفَ إلَيْهِ، وَمَنْ أَجَابَهُ إلَى أَدَاءِ مَا دَعَاهُ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ: فَإِنَّهُ ذَلَّ لِلَّهِ خُلُقًا وَعِبَادَةً، فَرَفَعَهُ اللَّهُ عِزًّا وَقَدْرًا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ" .
وَأَمَّا الدَّاعِي: فَبِدُعَائِهِ الْخَلْقَ لِيَرْجِعُوا مِنَ الضَّلَالِ إلَى الْحَقِّ.
وَأَمَّا السِّرَاجُ: فَبِمَعْنَى النُّورِ، إذْ أَبْصَرَ بِهِ الْخَلْقُ الرُّشْدَ.
وَأَمَّا الْمُنِيرُ: فَهُوَ مُفْعِلٌ مِنَ النُّورِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَلِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ.(3/498)
وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَإِنَّهُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ، مُشَرِّفٌ غَيْرَهُ، مُخْبِرٌ عَنْ رَبِّهِ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ وُجُوهُ الذِّكْرِ الثَّلَاثَةُ.
وَأَمَّا الْمُذَكِّرُ: فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَلَقَدْ اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ، ثُمَّ ذَهَلُوا، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْبِيَائِهِ، وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِهِ، وَقَالَ: {فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22].
ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنَ السَّيْطَرَةِ، وَآتَاهُ السَّلْطَنَةَ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ.
وَأَمَّا الْهَادِي: فَإِنَّهُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ1 النَّجْدَيْنِ.
وَأَمَّا الْمُهَاجِرُ: فَهَذِهِ الصِّفَةُ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَجَرَ أَهْلَهُ وَوَطَنَهُ، وَهَجَرَ الْخَلْقَ؛ أُنْسًا بِاَللَّهِ وَطَاعَتِهِ2، فَخَلَا عَنْهُمْ، وَاعْتَزَلَهُمْ، وَاعْتَزَلَ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الْعَامِلُ: فَلِأَنَّهُ قَامَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَوَافَقَ فِعْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ.
وَأَمَّا الْمُبَارَكُ: فَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي حَالِهِ مِنْ نَمَاءِ الثَّوَابِ، وَفِي حَالِ أَصْحَابِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَفِي أُمَّتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَأَمَّا الرَّحْمَةُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَرَحِمَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ العَذَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، وَتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
وَأَمَّا الْآمِرُ وَالنَّاهِي: فَذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاسِطَةَ أُضِيفَ إلَيْهِ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يُشَاهَدُ آمِرًا نَاهِيًا، وَيُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ وَاسِطَةٌ، وَنَقْلٌ عَنْ الَّذِي لَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا الطَّيِّبُ: فَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَلْبِ3 حِينَ رُمِيَتْ مِنْهُ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ. وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَوْلِ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصَدِّقُ. وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْفِعْلِ، فَهُوَ كُلُّهُ طَاعَةٌ.
ـــــــ
1 في م: على يديه.
2 في أ: وطاعة.
3 في م: القلوب.(3/499)
وَأَمَّا الْكَرِيمُ: فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَرَمِ، وَهُوَ لَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.
وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ: فَذَلِكَ مُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّبِيُّ مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالرِّسَالَةِ.
وَأَمَّا الْوَاضِعُ وَالرَّافِعُ: فَهُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، بِبَيَانِهِ، وَرَفَعَ قَوْمًا، وَوَضَعَ آخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْعَطَاءِ غَيْرُهُ1:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي2 وَنَهْبَ الْعَبِيدِ
بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَطَاءِ بِمَنْ فَضَّلَ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ: فَهُوَ النَّبِيءُ مَهْمُوزًا.
وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ: فَهُوَ آخِرُهُمْ: وَهِيَ عِبَارَةٌ مَلِيحَةٌ شَرِيفَةٌ، تَشْرِيفًا فِي الْإِخْبَارِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْآخِرِيَّةِ؛ إذْ الْخَتْمُ آخِرُ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ، فَشَرِيعَتُهُ بَاقِيَةٌ وَفَضِيلَتُهُ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ: فَاقْتِرَانُهُ في الخبر بِاَللَّهِ.
وَأَمَّا مَنْصُورٌ: فَهُوَ الْمُعَانُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الرُّسُلِ، وَلَهُ أَكْثَرُ قَالَ اللَّهُ تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
وَقَالَ لَهُ: "اُغْزُهُمْ نَمُدَّك، وَقَاتِلْهُمْ نَعُدُّك، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ" .
وَأَمَّا أُذُنُ خَيْرٍ: فَهُوَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِدْرَاكِ لِقِيلِ3 الْأَصْوَاتِ لَا يَعِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا، وَلَا يَسْمَعُ إلَّا أَحْسَنَهُ.
وَأَمَّا الْمُصْطَفَى: فَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بَنِي
ـــــــ
1 "اللسان" : نهب. وهي للعباس بن مرداس.
2 النهب بمعنى المنهوب.
3 في م: لقبيل.(3/500)
كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" .
وَأَمَّا الْأَمِينُ1: فَهُوَ الَّذِي تُلْقَى إلَيْهِ مَقَالِيدُ الْمَعَانِي ثِقَةً بِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَحِفْظًا مِنْهُ.
وَأَمَّا الْمَأْمُونُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِ شَرٌّ.
وَأَمَّا قَاسِمٌ: فَبِمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْأَخْمَاسِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُ يُعْطِي، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ" .
وَأَمَّا نَقِيبٌ: فَإِنَّهُ فَخَرَ بِالْأَنْصَارِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْحَابِ مِنَ الصَّحَابَةِ، بِأَنْ قَالَ لَهَا:
"أَنَا نَقِيبُكُمْ" .
إذْ كُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا نَقِيبٌ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، وَيَحْفَظُ أَخْبَارَهَا، وَيَجْمَعُ نَشْرَهَا، وَالْتَزَمَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرْسَلًا2: فَبِبَعْثِهِ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ إلَى النَّاسِ فِي الْآفَاقِ مِمَّنْ نَأَى عَنْهُ.
وَأَمَّا الْعَلِيُّ: فَبِمَا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ مَكَانِهِ وَشَرَّفَ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَوْضَحَ عَلَى الدَّعَاوَى مِنْ بُرْهَانِهِ.
وَأَمَّا الْحَكِيمُ: فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَأَدَّى عَنْ رَبِّهِ قَانُونَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ: فَهُوَ الْمُصَدِّقُ لِرَبِّهِ، الْعَامِلُ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا بِمَا أَوْجَبَ الْأَمْنَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ3، فَإِنَّهُ صَدَّقَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَصَدَّقَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، فَتَمَّ لَهُ الْوَصْفُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ: فَبِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" .
وَقَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" .
ـــــــ
1 تقدم شرحه في صفحة [497].
2 تقدم معنى المرسل – بفتح السين في أول هذه الأسماء صفحة [497].
3 صفحة [498].(3/501)
وَأَمَّا الصَّاحِبُ: فَبِمَا كَانَ مَعَ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَعَظِيمِ الْوَفَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ.
وَأَمَّا الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ: فَإِنَّهُ يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، وَإِسْقَاطِ الْعَذَابِ وَتَخْفِيفِهِ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُخَصُّ بِهِ دُونَ الْخَلْقِ، وَيُكَرَّمُ بِسَبَبِهِ غَايَةَ الْكَرَامَةِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ: فَهُوَ الْمُلْقِي مَقَالِيدَ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ عِلْمًا، كَمَا قَالَ:
"لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك" ، وَعَمَلًا، كَمَا قَالَ:
"إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؟" .
وَأَمَّا الْمُقَفَّى1: فِي التَّفْسِيرِ فَكَالْعَابِدِ.
وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ: لِأَنَّهُ تَابَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ دُونَ تَكْلِيفِ قَتْلٍ أَوْ إصْرٍ.
وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ: تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الرَّحِيمِ.
وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ: لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَعُودُوا جَزْرًا عَلَى إَضَمٍ2 وَلَحْمًا عَلَى وَضَمٍ.
ـــــــ
1 ترك تفسير: محمد، أحمد، الماحي، الحاشر.
2 إضم كعنب: جبل.(3/502)
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]؛ وقَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ...} إلَى قَوْله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]؛ وَهِيَ الرَّجْعَةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا إنَّمَا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ(3/502)
عَلَى خَلْوَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ وَقَالَتْ الزَّوْجَةُ: وَطِئَنِي، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَسَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ.
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: وَطِئْتهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كُلُّهُ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ. وَإِنْ كَانَ دُخُولٌ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَمْ يَطَأْنِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَهْرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ، هَلْ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ؟ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [237]1.
فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتهَا، وَأَنْكَرَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَأُخِذَ مِنْهُ الصَّدَاقُ، وَوَقَفَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يَطُولَ الْمَدَى، فَيُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي "فُرُوعِ الْفِقْهِ" بِخِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} :
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِي "مَسَائِلِ الْفِقْهِ" بِفُرُوعِهِ.
ـــــــ
1 صفحة [238] من الجزء الأول.(3/503)
الْآيَةُ الْخَامِسَة عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50] فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ2 وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ...} الآية.
قَالَتْ 3: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ، كُنْت مِنَ الطُّلَقَاءِ.
ـــــــ
2 "سنن الترمذي" : [5/325]، و "أسباب النزول" للسيوطي: [141].
3 من "سنن الترمذي" : [5/355]، والطلقاء: جمع طليق وهم الذين أسلموا يوم الفتح.(3/503)
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ.
قَالَ الْقَاضِي1: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {أَحْلَلْنَا لَك} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [24]2 وَغَيْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {أَزْوَاجَك} .
وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا، أَوْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ؟
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 61] وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ؟ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى {أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} أَيْ كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عُمُومًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأُمَّتِهِ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ عِنْدَك، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {آتَيْتَ} خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ هَاهُنَا، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عِدَّةٍ مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَهُ، فَذَكَرْنَا3 عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ؛ وَهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ. وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ أَسَدُ خُزَيْمَةَ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ
ـــــــ
1 هو المؤلف.
2 صفحة [405] من الجزء الأول.
3 في م: قد ذكرنا.(3/504)
الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ1، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَسَائِرُهُنَّ فِي "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ" مَذْكُورَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَمَّا إحْلَالُ غَيْرِهِنَّ فَلَا؛ لِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ غَيْرِهِنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ، وَقَوْلُهُ: { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} .
يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي "الصَّحِيحِ" مِنَ الأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك} .
يَعْنِي السَّرَارِيَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ" .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تعالى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك} :
وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَطَأُ مِنْ مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا مِنَ الصَّفْقِ2 بِالْأَسْوَاقِ.
ـــــــ
1 ينتهي نسبها إلى هارون عليه السلام كما في "المحبر" صفحة [90].
2 صفق له بالبيع يصفقه، وصفق يده بالبيعة، وعلى يده، صفقا وصفقة: ضرب يده على يده، وذلك عند وجوب البيع. والاسم: الصفق.(3/505)
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك} :
الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك مِنَ الأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ.
فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ المُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ هَاهُنَا؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} .
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا. فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ، فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ مِنْ قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، مِنْ أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْكِحَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" .
الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].
وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ، وَمَنْ لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ.(3/506)
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {هَاجَرْنَ} خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَالْأَسْمَاءُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ1 ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {مَعَك} :
صُحْبَتِهِ إذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ يُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي، أَيْ فِي صُحْبَتِي، فَكُنَّا مَعًا، وَتَقُولُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فِيهِ عَمَلُكُمَا.
وَلَوْ قُلْت: خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا: الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، وَالِاقْتِرَانُ فِيهِ؛ فَصَارَ قَوْلُك: "مَعِي" لِلْمُشَارَكَةِ، وَقَوْلُك: "مَعًا" لِلْمُشَارَكَةِ وَالِاقْتِرَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَبَنَاتِ عَمِّك} :
فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا. وَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِك} فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ: وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ2، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى: نَسْخُ3 الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ بِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ، وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فِي جُمْلَةِ النِّسَاءِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُهَاجِرَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
ـــــــ
1 في م: وإنما يلزم من ذلك من أراد غيرها.
2 في أ: والراجل.
3 في أ: ينسخ.(3/507)
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ أَيْضًا صِيَانَةً لَهُ، وَتَكْرِمَةً لِقَدْرِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} :
وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ1 وَغَيْرِهَا:
أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي... الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ.
وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ لِلْمُفَسِّرِينَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، خَطَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ.
وَقِيلَ: وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَتَادَةُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ شَرِيكٍ الْأَزْدِيَّةِ2، وَقِيلَ الْعَامِرِيَّةِ، وَاسْمُهَا غَزِيَّةُ3؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَارِدَةٌ بِطُرُقٍ مِنْ غَيْرِ خُطُمٍ4 وَلَا أَزِمَّةٍ، بِيدَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا:
ـــــــ
1 صفحة [420].
2 في "القرطبي" : الأنصارية.
3 في "القرطبي" : وأسمها غزية وقيل غزيلة.
4 الخطام – كتتاب: كل ما وضع في أنف البعير ليقتاد به، والجمع خطم – ككتب.(3/508)
لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي مَجِيءِ الْمَرْأَةِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُقُوفِهَا عَلَيْهِ، وَهِبَتِهَا نَفْسَهَا لَهُ مِنْ طَرِيقٍ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي "الصِّحَاحِ" ، وَهُوَ1 الْقَدْرُ الَّذِي ثَبَتَ سَنَدُهُ، وَصَحَّ نَقْلُهُ.
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: وَهَبْت نَفْسِي لَك؛ فَسَكَتَ عَنْهَا، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ.
وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ لَمَا سَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إذَا سَمِعَهُ، حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ كَانَتْ بِالْإِحْلَالِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ مُنْتَظِرًا بَيَانًا؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِيرِ؛ فَاخْتَارَ تَرْكَهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُلُ لَهَا طَالِبًا.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَغَارُ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَتْ2: أَمَا تَسْتَحِي امْرَأَةٌ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} فَقُلْت: مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك.
فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ أَنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ عِدَّةٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً أَمْ لَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً} .
الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً تَهَبُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي آتَى أُجُورَهُنَّ. وَهَذَا مَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ فَزَادَهُ فَضْلًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {مُؤْمِنَةً} .
وَهَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ طَرِيقِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّشْرِيفِ، لَا مِنْ طَرِيقِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، حَسْبَمَا
ـــــــ
1 في م: وهذا.
2 في "القرطبي" : وأقول.(3/509)
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي "أُصُولِ الْفِقْهِ" ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَمَا كَانَ مِنْ جَانِبِ النَّقَائِصِ فَجَانِبُهُ عَنْهَا1 أَظْهَرُ، فَجَوَّزَ لَنَا نِكَاحَ الْحَرَائِرِ مِنَ الكِتَابِيَّاتِ، وَقُصِرَ هُوَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لِنُقْصَانِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلَّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إنْ وَهَبَتْ} :
قُرِئَتْ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ وَكَسْرِهَا، وَقَرَأَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا بِالْكَسْرِ، عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ. تَقْدِيرُهُ وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك، لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ سِوَى ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إنْ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ حَلَّتْ لَهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَيُعْزَى إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَاحِدَةً حَلَّتْ لَهُ، لِأَجْلِ أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ تِلَاوَةً، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا.
الثَّانِي: أَنْ تُوجِبَ أَنْ يَكُونَ إحْلَالًا2 لِأَجْلِ هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَبْلَ الْهِبَةِ بِالصَّدَاقِ.
وَقَدْ نُسِبَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ فِي قِرَاءَتِهِ "أَنْ" فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَك} لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَهَبَتْ نَفْسَهَا} .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَاوَضَاتِ
ـــــــ
1 في م: عليها.
2 في م: أجلا.(3/510)
وَإِجَارَةٌ مُبَايِنَةٌ لِلْإِجَارَاتِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ أُجْرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ1، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْلُهُ: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} .
مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ مِنَ الوَاهِبِ هِبَتَهُ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {خَالِصَةً لَك} .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: خَالِصَةً لَك: إذَا وَهَبَتْ لَك نَفْسَهَا أَنْ تَنْكِحَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ قَتَادَةُ2. وَقَدْ أَنْفَذَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ نِكَاحَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي السَّمَاءِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنَ الخَلْقِ، وَلَا بَذْلِ صَدَاقٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ بِحُكْمِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَمَالِك الْعَالَمِينَ.
الثَّانِي: نِكَاحُهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لَك، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِك [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]3؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَصَحُّ مِنَ الأَوَّلِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فَأَمَّا سُقُوطُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ النِّكَاحَ؛ وَإِنَّمَا شُرِعَ لِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِالْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ، وَخَوْفِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــ
1 صفحة [410] من الجزء الأول.
2 في م: قال قتادة.
3 ليس في م.(3/511)
وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فِي بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، مَزِيَّةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَهَيْبَةً لَهُ، وَمَرْتَبَةً خُصَّ بِهَا؛ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ، وَمَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِهِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ وَأَفْعَالٌ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ؛ وَحُلِّلَتْ لَهُ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَلَّلْ لَهُمْ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَفَادَنِيهَا ذانشمند1 الْأَكْبَرُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ لِمَكَانِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَتَعَلُّقِ الْمَعْنَى فِيهِ إشَارَةً مُوجِزَةً، تَبِينُ لِلَّبِيبِ وَتُبْصِرُ الْمُرِيبَ، فَنَقُولُ:
أَمَّا قِسْمُ الْفَرِيضَةِ فَجُمْلَتُهُ تِسْعَةٌ:
الْأَوَّلُ: التَّهَجُّدُ بِاللَّيْلِ.
الثَّانِي: الضُّحَى.
الثَّالِثُ: الْأَضْحَى.
الرَّابِعُ: الْوِتْرُ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّهَجُّدِ.
الْخَامِسُ: السِّوَاكُ.
السَّادِسُ: قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا.
السَّابِعُ: مُشَاوِرَةُ ذَوِي الْأَحْلَامِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ.
الثَّامِنُ: تَخْيِيرُ النِّسَاءِ.
التَّاسِعُ: كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ.
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَجُمْلَتُهُ عَشْرَةٌ:
الْأَوَّلُ: تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ.
الثَّانِي: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِ، وَفِي آلِهِ تَفْصِيلٌ بِاخْتِلَافٍ.
الثَّالِثُ: خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، أَوْ يَنْخَدِعَ عَمَّا يُحِبُّ، وَقَدْ ذَمَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إذْنِهِ؛ ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ.
الرَّابِعُ: حَرَّمَ عَلَيْهِ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْهُ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَارِبِهِ، وَيَدْخُلُ مَعَهُ
ـــــــ
1 في م: ذا تسمند لم نقف على ضبطه.(3/512)
غَيْرُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِي الْخَيْرِ.
الْخَامِسُ: الْأَكْلُ مُتَّكِئًا.
السَّادِسُ: أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ.
السَّابِعُ: التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِهِ.
الثَّامِنُ: نِكَاحُ امْرَأَةٍ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ.
التَّاسِعُ: نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ.
الْعَاشِرُ: نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْلِيلِ فَصَفِيُّ1 الْمَغْنَمِ.
الثَّانِي2: الِاسْتِبْدَادُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ أَوْ الْخُمْسِ.
الثَّالِثُ: الْوِصَالُ.
الرَّابِعُ: الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
الْخَامِسُ: النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ.
السَّادِسُ: النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
السَّابِعُ: النِّكَاحُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنُ: نِكَاحُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، فَفِي الصَّحِيحِ "أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
التَّاسِعُ: سُقُوطُ الْقَسَمِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51].
الْعَاشِرُ: إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا، وَحَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا.
ـــــــ
1 الصفي: ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة.
2 جعل صفي المغنم الأولى، ولذلك قال: الثاني.(3/513)
قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَمْرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَيْفَ وَقَعَ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا؛ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ "الْإِنْصَافِ" ، وَيَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَيْضًا.
الثَّانِيَ عَشَرَ: دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَفِي حَقِّنَا فِيهِ اخْتِلَافٌ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقِتَالُ بِمَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" .
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يُورَثُ.
قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا ذَكَرْته فِي قِسْمِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَارَبَ الْمَوْتَ بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ خَالِصًا، وَبَقِيَ مِلْكُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: بَقَاءُ زَوْجِيَّتِهِ1 مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً، هَلْ تَبْقَى حُرْمَتُهُ2 عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَحُ؟.
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَتَأْتِيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مَشْرُوحَةٌ فِي تَفَارِيقِهَا، حَيْثُ وَقَعَتْ مَجْمُوعَةٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَوْسُومِ بِ "النَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إعْرَابِ قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَك} ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ فِيهِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي "مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ" .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ، تَقْدِيرُهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك، وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً، أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ: هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا.
ـــــــ
1 في م: زوجته.
2 في م: حرمة.(3/514)
وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ نِكَاحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الوَلِيِّ.
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِهِ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ: "قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّك" .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ: وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، وَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ عَقْدٍ مَعَ الْوَلِيِّ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا.
الثَّانِي1: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَلَهُ جَاءَ الْبَيَانُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ2 بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الهِبَةِ، وَهُوَ سُقُوطُ الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ.
الرَّابِعُ: إنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا خَالِصَةً، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: {خَالِصَةً} حَالًا مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ، لَكَانَ إخْلَالًا مِنَ القَوْلِ، وَعُدُولًا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَرَبِيَّةً، وَلَا مَعْنًى.
أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ، فَلَوْ قُلْت عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا، دُونَ الصِّفَةِ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً} يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ، لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ مِنَ العَرَبِيَّةِ.
وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تعالى: { مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
ـــــــ
1 عد قوله: هو خلوص النكاح الأول ولذلك قال هنا الثاني.
2 جنبته: جانبه.(3/515)
فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُولٌ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ1 عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} .
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ فِي "كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ" وَكِتَابِ "الْأُصُولِ" . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا فَرَضْنَا} .
وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ، وَقَرَّرَ2 عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ، بِخِلَافِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي تَشْرِيعِهِ3 وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ} .
أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى السَّعَةِ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ "الْأَمَدِ الْأَقْصَى" بَيَانًا شَافِيًا.
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ بِذُنُوبِهِمْ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّونَ، إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ بَلْ زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ4 بِذُنُوبِهِمْ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ المُبْتَدِعَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِيهِمْ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 في م: منهم. وفي "القرطبي" : فيهم.
2 في م: وقدر.
3 في م: في شريعته.
4 في أ: ولو أخذ هو بذنوبهم.(3/516)
شَيْءٌ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُلِّ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.(3/517)
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1: وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِك وَمَالِك مَا شِئْت، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، غَيْرُ مَقْسُومٍ لَهُنَّ وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ2، وَزَيْنَبُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ3، يَضُمُّهُنَّ، وَيَقْسِمُ لَهُنَّ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَنْ شِئْت أَمْسَكْت، وَمَنْ شِئْت طَلَّقْت.
الثَّالِثُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا خَطَبَ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِرَجُلٍ أَنْ يَخْطِبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَتْرُكَهَا.
وَالْمَعْنَى اُتْرُكْ نِكَاحَ مَنْ شِئْت، وَانْكِحْ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الرَّابِعُ: تَعْزِلُ مَنْ شِئْت، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو رَزِينٍ: تَعْزِلُ مَنْ شِئْت عَنْ الْقَسْمِ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت إلَى الْقَسْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:
أَمَّا قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ؛ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرُوِيَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي: [204]، و "السيوطي" : [141].
2 في أ: وميمونة.
3 في أ: وصفية، والمثبت من "القرطبي" ، وهو مكرر على الروايتين.(3/517)
لِعَائِشَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ امْتِنَاعَ خِطْبَةِ مَنْ يَخْطُبُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا دَلِيلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْآيَةِ وَلَا أَلْفَاظِهَا1.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} .
يَعْنِي تُؤَخِّرُ وَتَضُمُّ، وَيُقَالُ: أَرْجَأْته إذَا أَخَّرْته، وَآوَيْت فُلَانًا إذَا ضَمَمْته وَجَعَلْته فِي ذُرَاك2 وَفِي جُمْلَتِك، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ:
الْأَوَّلُ: تُطَلِّقُ مَنْ شِئْت، وَتُمْسِكُ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: تَتْرُكُ مَنْ شِئْت، وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ.
الرَّابِعُ: تَقْسِمُ لِمَنْ شِئْت، وَتَتْرُكُ قَسْمَ مَنْ شِئْت.
الْخَامِسُ: مَا فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ3: كُنْت أَغَارُ مِنَ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقُولُ: أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} .
قُلْت: مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك.
السَّادِسُ: ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك} ، فَقِيلَ لَهَا: مَا كُنْت تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.
ـــــــ
1 لم يذكر الوجه الثاني في كل الأصول.
2 الذرى – كالحصى: كل ما يسستر به الشخص.
3 "أسباب النزول" للواحدي: [205].(3/518)
وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجِهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَ قَسَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ الْقَسْمَ تَرَكَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ دُونَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قِيلَ لَهُ: انْكِحْ مَنْ شِئْت، وَاتْرُكْ مَنْ شِئْت، فَقَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. حَسْبَمَا تَقَدَّمَ1 بَيَانُهُ مِنَ الابْتِدَاءِ فِي ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُحْمَلُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ2، فَأَمَّا وُجُوبُ الْقَسْمِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَقْتَضِيهِ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ؛ فَخُصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْقَسْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقَسْمِ، وَيَقُولُ:
"هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ" ؛ لِإِيثَارِ عَائِشَةَ دُونَ أَنْ يَكُونَ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ.
قُلْنَا: ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ سُقُوطَهُ3؛ وَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم يَلْتَزِمُهُ4 تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِنَّ، وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَالِ الْغَيْرَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَرَقَّتْ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت} .
يَعْنِي طَلَبْت، وَالِابْتِغَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّلَبُ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِرَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {مِمَّنْ عَزَلْت} .
يَعْنِي أَزَلْت، وَالْعُزْلَةُ الْإِزَالَةُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي اللَّفْظَيْنِ مَفْهُومٌ.
وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَرَدْت أَنْ تَضُمَّهُ وَتُؤْوِيَهُ بَعْدَ أَنْ أَزَلْته فَقَدْ نِلْت ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَوَجَدْته تَحْقِيقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ5: لَا أَرَى رَبُّك إلَّا وَهُوَ يُسَارِعُ فِي هَوَاك؛ فَإِنْ شَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَخِّرَ أَخَّرَ، وَإِنْ
ـــــــ
1 صفحة [503] وما بعدها.
2 في م: مجددة.
3 سقوطه: أي سقوط القسم.
4 في م: تحقيقا لعائشة بما قالت: لو أرى زيداً إلا يسارع إلى مرضاتك.
5 في م: تحقيقا لعائشة بما قالت: لو أرى زيداً إلا يسارع إلى مرضاتك.(3/519)
شَاءَ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتَقْدَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلِبَ الْمُؤَخَّرَ مُقَدَّمًا وَالْمُقَدَّمَ مُؤَخَّرًا فَعَلَ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْجُنَاحَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} .
الْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ الْإِدْنَاءُ وَالْإِقْصَاءُ لَهُنَّ، وَالتَّقْرِيبُ وَالتَّبْعِيدُ إلَيْك، تَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا شِئْت، كَانَ أَقْرَبَ إلَى قُرَّةِ أَعْيُنِهِنَّ، وَرَاحَةِ قُلُوبِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يُقْنِعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ، وَاشْتَدَّتْ غَيْرَتُهُ عَلَيْهِ، وَعَظُمَ حِرْصُهُ فِيهِ، فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ فِي أَحْوَالِ أَزْوَاجِهِ أَقْرَبَ إلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ، وَاسْتِقْرَارِ أَعْيُنِهِنَّ عَلَى مَا يُسْمَحُ بِهِ1 مِنْهُ لَهُنَّ، دُونَ أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي:
الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ: {وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} .
الْمَعْنَى: وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَا أُوتِيَتْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، لِعِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَقٍّ لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَقَلِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَاسْمُ زَوْجَتِهِ، وَالْكَوْنُ فِي عِصْمَتِهِ، وَمَعَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي دَرَجَتِهِ، فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كَبِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ بَيِّنٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْبَارِئَ {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]. {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، وَيَطَّلِعُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ مَيْلٍ إلَى بَعْضِ مَا عِنْدَنَا مِنَ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ يَسْمَحُ فِي ذَلِكَ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْرِفَ قَلْبَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمِيلِ إنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرِفَ فَعَلَهُ، وَلَا يُؤَاخِذُ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ بِمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلٍ فِيهِ، وَإِلَى ذَلِكَ يَعُودُ قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
ـــــــ
1 في م: على ما سمح به.(3/520)
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52].
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1.
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْجَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُسْنُهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ كَلِمَةَ " بَعْدُ " ظَرْفٌ بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ هَاهُنَا، لِمَا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنَ الحَذْفِ، فَصَارَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ كَأَنَّهُ بَعْضُ كَلِمَةٍ، فَرُبِطَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لِيَتَبَيَّنَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَنْ عِنْدَك، مِنْهُنَّ اللَّوَاتِي اخْتَرْنَك عَلَى الدُّنْيَا فَقُصِرَ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَجْلِ اخْتِيَارِهِنَّ لَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك، وَهِيَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ.
الثَّالِثُ: لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ.
أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أُبَيٍّ، وَحَكَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك مِنْ أَزْوَاجِك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ قَرَابَتَك الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، وَالْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ مَنْ عَدَاهُنَّ.
وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ، وَيَقْوَى فِي النَّفْسِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للسيوطي: [141].(3/521)
كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَكَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَحَلَّ لَهُ النِّسَاءَ حَتَّى الْمَوْتِ قُصِرَ عَلَيْهِنَّ كَمَا قُصِرْنَ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ وَجَعَلُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ سُنَّةً نَاسِخَةً، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ، وَمُتَعَلَّقٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" ؛ فَتَمَّ تَمَامُ الْقَوْلِ وَبَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِك، وَتَنْكِحَ غَيْرَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَبَدَّلَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي عِنْدَك بِمُشْرِكَةٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: لَا تُعْطِي زَوْجَك فِي زَوْجَةٍ أُخْرَى، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَهُ يَشْهَدُ النَّصُّ، وَعَلَيْهِ يَقُومُ الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ وَيُسْقِطُ عُمُومَهُ، وَيُبْطِلُ حُكْمَهُ، وَيَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ إذْ التَّعَاوُضُ فِي الزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَجُوزُ لَا بِهِنَّ وَلَا بِغَيْرِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اسْتِبْدَالَ الْجَاهِلِيَّةِ لَقَالَ: أَزْوَاجَك بِأَزْوَاجٍ، وَمَتَى1 جَاءَ اللَّفْظُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرُورَةٍ2.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك} .
ـــــــ
1 في م: وإذا.
2 في م: إلا لضرورة دليل.(3/522)
الْمَعْنَى فَإِنَّهُ1 حَلَالٌ لَك عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إحْلَالِ الْكَافِرَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَوَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك} وَهَذَا عُمُومٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ خَوْفِ الْعَنَتِ؛ وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ؛ فَأَمَّا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَرَدَّدُ فِيهِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ، تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْكَافِرَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فَكَيْفَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} ، فَشَرَطَ فِي الْإِحْلَالِ لَهُ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْكَافِرَةَ تَحِلُّ لَهُ!
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} :
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الرَّقِيبِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ2 عِلْمًا مُسْتَمِرًّا، وَيَحْكُمُ فِيهَا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا، وَيَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ رَبْطًا يَنْتَظِمُ بِهِ الْوُجُودُ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ.
ـــــــ
1 في م: أنه.
2 في م: الأسماء.(3/523)
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا3: وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
3 "سنن الترمذي" : [5/357]، و"أسباب النزول" للسيوطي: [142].(3/523)
الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ1: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُمِّي حَيْسًا2، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ3، وَقَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهِ4 إلَيْك أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ، وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُلْت: إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "ضَعْهُ" ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيت" وَسَمَّى رِجَالًا فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيت.
قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ" قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ" ؛ قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ.
قَالَ: قَالَ لِي: "يَا أَنَسُ، ارْفَعْ" قَالَ: [فَرَفَعْت]5، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت.
قَالَ: وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ...} إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ أَنَسٌ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَحُجِبَ6 نِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــ
1 "صحيح مسلم" : [1051].
2 الحيس: الطعام يتخذ من التمر والأقط والسمن.
3 التور: إناء من صفر أو حجارة، وقد يتوضأ منه "النهاية" .
4 "صحيح مسلم" : بهذا، وفي "الترمذي" : بها.
5 من "مسلم" ، و "الترمذي" .
6 في م، و "مسلم" و "الترمذي" : وحجبن.(3/524)
الثَّانِي: رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا1، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ، فَأَكَلَ، فَأَصَابَ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي، فَقَالَ حِينَئِذٍ: لَوْ أُطَاعُ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ؛ فَنَزَلَ الْحِجَابُ.
الثَّالِثُ: مَا رَوَى2 عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَنَاصِعِ3 وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ4، يَتَبَرَّزْنَ فِيهِ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اُحْجُبْ نِسَاءَك، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَ الْحِجَابُ.
الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أُمِرَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجَابِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؛ إنَّك تَغَارُ عَلَيْنَا وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].
الْخَامِسُ: رَوَى قَتَادَةُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَكَلُوا وَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، وَيَسْتَحْيِي مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ.
السَّادِسُ: رَوَى أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ نِسَاءَك يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةٌ إلَّا الْأُولَى وَالسَّادِسَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَبَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ نَزَلَ يَوْمَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبِ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {بُيُوتَ النَّبِيِّ} - صلى الله عليه وسلم -:
هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ الرَّجُلِ إذْ جَعَلَهُ مُضَافًا إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].
قُلْنَا: إضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إضَافَةُ مِلْكٍ، وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى الْأَزْوَاجِ إضَافَةُ مَحَلٍّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْنَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَالْإِذْنُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ، وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إنَّ ذَلِكُمْ
ـــــــ
1 الحيس: تمر ينزع نواه ويدق مع أقط ويعجنان بالسمن ثم يدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربما جعل معه سويق "المصباح" .
2 "صحيح مسلم" : [1709].
3 المناصع: جمع منصع، وهي مواضع.
4 صعيد أفيح: أرض متسعة.(3/525)
كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ يُؤْذِي أَزْوَاجَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْحَقُّ حَقَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَضَافَهُ إلَيْهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بُيُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ كُنَّ يَسْكُنَّ فِيهَا، هَلْ هُنَّ مِلْكٌ لَهُنَّ أَمْ لَا؟
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَتْ مِلْكًا لَهُنَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى وَفَاتِهِنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَبَ لَهُنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ هِبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ إسْكَانًا، كَمَا يُسْكِنُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ، وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إلَى الْمَوْتِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّ عِدَّتَهُنَّ لَمْ تَنْقَضِ إلَّا بِمَوْتِهِنَّ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَى ذَلِكَ لَهُنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ، كَمَا اسْتَثْنَى نَفَقَاتِهِنَّ بِقَوْلِهِ:
"مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ" . فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةً بَعْدَ نَفَقَةِ الْعِيَالِ؛ وَالسُّكْنَى مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَاتِ، فَإِذَا مُتْنَ رَجَعَتْ مَسَاكِنُهُنَّ إلَى أَصْلِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَرُجُوعِ نَفَقَاتِهِنَّ.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِذَلِكَ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثُوا عَنْهُنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسَاكِنُ مِلْكًا لَهُنَّ لَوَرِثَ ذَلِكَ وَرَثَتُهُنَّ عَنْهُنَّ، فَلَمَّا رُدَّتْ مَنَازِلُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تَعُمُّ مَنْفَعَتُهُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُنَّ إنَّمَا كَانَتْ مَتَاعًا لَهُنَّ إلَى الْمَمَاتِ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى أَصْلِهَا فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} [الأحزاب: 53]:
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِذْنِ وَأَحْكَامِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ1.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إلَى طَعَامٍ} :
يَعْنِي بِهِ هَاهُنَا طَعَامَ الْوَلِيمَةِ، وَالْأَطْعِمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَشْرَةٌ2:
الْمَأْدُبَةُ3: وَهِيَ طَعَامُ الدَّعْوَةِ كَيْفَمَا وَقَعَتْ.
ـــــــ
1 صفحة [312].
2 "المخصص" : [4/120، 121].
3 بفتح الدال وضمها.(3/526)
طَعَامُ الزَّائِرِ التُّحْفَةُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ النُّزُلُ.
وَطَعَامُ الْإِمْلَاكِ الشَّدْخِيَّةُ1، وَمَا رَأَيْته فِي أَثَرٍ، إلَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا عُقِدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ: لَا تُفَرِّقُوا الْأَطْعِمَةَ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ، وَبَعَثَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ.
طَعَامُ الْعُرْسِ: الْوَلِيمَةُ.
طَعَامُ الْبِنَاءِ: الْوَكِيرَةُ.
طَعَامُ الْوِلَادَةِ: الْخُرْسُ2.
طَعَامُ سَابِعِهَا: الْعَقِيقَةُ.
طَعَامُ الْخِتَانِ: الْإِعْذَارُ: وَيُقَالُ: الْعَذِيرَةُ.
طَعَامُ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ: النَّقِيعَةُ.
طَعَامُ الْجِنَازَةِ: الْوَضِيمَةُ.
وَهُنَاكَ أَسْمَاءٌ تُعَدُّ هَذِهِ أُصُولُهَا الْمَعْلُومَةُ.
وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: {إلَى طَعَامٍ} أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرِيمَ إذَا دَعَا إلَى مَنْزِلِهِ أَحَدًا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ إلَيْهِ مَا حَضَرَ مِنْ طَعَامٍ وَلَوْ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً، فَإِذَا تَنَاوَلَ مَعَهُ مَا حَضَرَ كَلَّمَهُ فِيمَا عَرَضَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} .
مَعْنَاهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ، وَالنَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَنْظِرُ، وَالْإِنَى هُوَ الْوَقْتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ3.
الْمَعْنَى لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فِي الدُّخُولِ، أَوْ يُطْعِمَكُمْ طَعَامًا حَاضِرًا، لَا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ، وَلَا تَرْتَقِبُونَ حُضُورَهُ، فَيَطُولُ لِذَلِكَ مُقَامُكُمْ، وَتَحْصُلُونَ فِيمَا كَرِهَ مِنْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} .
ـــــــ
1 هكذا بالأصل. وفي "المخصص" : ويقال لطعام الإملاك الشندخي – بضم الشين وفتحها. واشتقاقه من قولهم: فرس شندخ. وهو الذي يتقدم الخيل في سيره، فأرادوا أن هذا الطعام يتقدم العرس.
2 في "المخصص" : الخرص: ما صنع عند الولادة.
3 صفحة [216].(3/527)
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إذَا دُعِيتُمْ فَأُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَنَفْسُ الدَّعْوَةِ لَا تَكُونُ إذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} :
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ، لَا عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنَ الأَكْلِ، وَلَا أَضَافَ لَهُ سِوَاهُ، وَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْفُرُوعِ" .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَانْتَشِرُوا} :
الْمُرَادُ: تَفَرَّقُوا. مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ. وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ مِنَ المَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الأَكْلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ، وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} :
الْمَعْنَى: لَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَلَكِنَّ الْفَائِدَةَ فِي عَطْفِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ دُخُولٌ فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْفِقْهِ" .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} :
وَالْإِذَايَةُ كُلُّ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ، لَا سِيَّمَا إذَايَةٌ يَكْرَهُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ بَلْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَكْرَهُونَ، إرْضَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم.
وَالْمَعْنَى: مَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ لِإذَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَالْمُقَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ مُحَرَّمًا فِعْلُهُ، لِإذَايَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَالْمُحَرَّمَاتُ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مُعَلَّلٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ؛ فَهَذَا مِنَ الأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِالْعِلَّةِ، وَهِيَ إذَايَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ} :
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَيَاءَ فِي "كُتُبِ الْأُصُولِ" ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عَنْ كَشْفِ مُرَادِهِ لَكُمْ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ(3/528)
الْوَجْهُ الثَّانِي، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَفِي الْمَتَاعِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: عَارِيَّةٌ.
الثَّانِي: حَاجَةٌ.
الثَّالِثُ: فَتْوَى.
الرَّابِعُ: صُحُفُ الْقُرْآنِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي مُسَاءَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي حَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتَى فِيهَا؛ وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا يَعِنُّ وَيَعْرِضُ عِنْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} :
الْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ، وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ، وَأَقْوَى فِي الْحِمَايَةِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ مَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ فَإِنَّ مُجَانَبَةَ ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ، وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ، وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} :
وَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} :
وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ؛ فَقَدْ خُصَّ بِأَحْكَامٍ، وَشَرُفَ بِمَعَالِمَ وَمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ، تَمْيِيزًا لِشَرَفِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: يَمْنَعُنَا مِنْ بَنَاتِ عَمِّنَا؛ لَئِنْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ لَنَتَزَوَّجَنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لَئِنْ مَاتَ لَأَتَزَوَّجَنَّ عَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَصَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَحَقَّقَ غَيْرَتَهُ، فَقَصَرَهُنَّ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ.(3/529)
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ:
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ زَالَ بِالْمَوْتِ، فَهَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَمْ لَا؟
فَقِيلَ: عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ زَوْجُهُنَّ، وَهِيَ عِبَادَةٌ.
وَقِيلَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ تَرَبُّصٍ لَا يُنْتَظَرُ بِهَا الْإِبَاحَةُ.
وَبِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ أَقُولُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي صَدَقَةٌ" .
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: "مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ أَهْلِي" وَهَذَا اسْمٌ خَاصٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ، لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: "كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ1 إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي" .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ.
وَمَعْنَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} .
يَعْنِي إذَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، وَلَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْوَالَ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ فِي "شَرْحِ الْحَدِيثِ" وَ "الْمُشْكِلَيْنِ" فِي أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ.
ـــــــ
1 في م منقطع.(3/530)
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تعالى: {إنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]:
الْبَارِئُ تَعَالَى عَالِمٌ مَا بَدَا وَمَا خَفِيَ وَمَا ظَهَرَ، وَمَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَاضٍ(3/530)
يَمْضِي، وَلَا مُسْتَقْبَلٌ يَأْتِي، وَهَذَا عَلَى الْعُمُومِ تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَا أَكَنُّوهُ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حِينَ أَضْمَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَكَنُّوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لَهَا.(3/531)
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ:
قَوْله تعالى: { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَ، وَسِتْرَهُ لَمَّا انْسَدَلَ قَالَ الْآبَاءُ: كَيْفَ بِنَا مَعَ بَنَاتِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْجُنَاحَ:
فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ؛ قَالَ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي سَدْلِ1 الْحِجَابِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُنَّ بِالسَّتْرِ عَنْ الْخَلْقِ، وَضَرَبَ الْحِجَابَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَسْقَطَ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ هَاهُنَا مِنَ القَرَابَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الْعَمَّ فِيهَا وَلَا الْخَالَ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِأَبْنَائِهِمَا.
وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ، بِدَلِيلِ نُزُولِهِمَا مَنْزِلَتَهُمَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: إنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا.
وَالثَّانِي: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، لِابْنِهِ، كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْحَفِيدِ.
وَالثَّالِثُ: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ، كَالْعَمِّ وَالْخَالِ، بِحَسْبِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْهَا فِي الْحُرْمَةِ.
ـــــــ
1 سدل الثوب: أرخاه وأرسله.(3/531)
فَمَنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ جَازَ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا خَاصَّةً، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ زِينَتِهَا. وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ جَازَ الْوَضْعُ لِجِلْبَابِهَا وَرُؤْيَةُ زِينَتِهَا.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ وَضْعِ الْجِلْبَابِ فِي سُورَةِ النُّورِ1، وَحُكْمَ الْعَمِّ مِنَ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِمَا يُغْنِي بَيَانُهُ عَنْ إعَادَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} :
فَخَصَّ بِهِ النِّسَاءَ، وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِنَّ وَكَثْرَةِ اسْتِرْسَالِهِنَّ.
ـــــــ
1 صفحة [325].(3/532)
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تعالى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ اللَّهِ:
قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "الْأَمَدِ الْأَقْصَى" وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِنَا، وَالْأَمْرُ خُصَّ بِهِ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى دُعَائِهِمْ لَهُ2، وَذِكْرِهِ الْجَمِيلِ؛ وَتَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى رَحْمَتِهِ لَهُ؛ إذْ هُوَ فَائِدَةُ ذَلِكَ مَجَازًا عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ:
قَالَ الْعُلَمَاءُ: هُوَ دُعَاؤُهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ، وَتَبْرِيكُهُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
"الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ" .
ـــــــ
1 صفحة [325].
2 في م: دعائه لهم.(3/532)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ:
وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِتَابِ "مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ" ؛ فَمِنْ ذَلِكَ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ1" عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ2، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى [آلِ]3 إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
الثَّانِيَةُ: رَوَى مَالِكٌ4 عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟
قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ [وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ]5، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ" 6.
الثَّالِثَةُ: رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَةَ مِثْلَهُ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ: "فِي الْعَالَمِينَ" ، وَقَوْلِهِ: "وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ" .
الرَّابِعَةُ: عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى7: تَلَقَّانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك قَدْ عَلِمْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟
قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
ـــــــ
1 "الموطأ" صفحة [165]، و"سنن الترمذي": [5/359].
2 في م، و "الموطأ" : آل إبراهيم.
3 من "الموطأ" .
4 "الموطأ" : [166].
5 من م.
6 "صحيح مسلم" : [305].
7 من م، و "مسلم" .(3/533)
الْخَامِسَةُ: عَنْ بُرَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ عِلْمنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ قُولُوا: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِك وَرَحْمَتَك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتهَا عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
السَّادِسَةُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا هَذَا السَّلَامَ عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟
قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ" .
السَّابِعَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [عن النبي صلى الله عليه وسلم] قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
الثَّامِنَةُ: مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [عن النبي صلى الله عليه وسلم]: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا سَلَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ" .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا سَقِيمٌ، وَأَصَحُّهَا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فَاعْتَمِدُوهُ. وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى غَيْرَ1 مَالِكٍ مِنْ زِيَادَةِ الرَّحْمَةِ مَعَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لَا يَقْوَى؛ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانِهِمْ نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْعِ دِينَارًا مَعِيبًا، وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِمَ الطَّيِّبَ؛ كَذَلِكَ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا صَحَّ سَنَدُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي خَبَرِ2 الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ إذَا بِهِ قَدْ أَصَابَ النَّقْصَ، بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ.
ـــــــ
1 في م: عن.
2 في م: في حيز.(3/534)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِلَا خِلَافٍ؛ فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا فَرْضٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ.
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
إنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا، فَتَعَيَّنَا كَيْفِيَّةً وَوَقْتًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ" .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ؟
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" . وَجُمْلَتُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ الْمُتَّقُونَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ هُمْ أَهْلُهُ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ:
"صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ" . وَقَالَ فِي آخَرَ: "وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ" . فَتَارَةً فَسَّرَهُ بِالذُّرِّيَّةِ وَالْأَزْوَاجِ، وَتَارَةً أَطْلَقَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ:
وَهِيَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ رُتْبَتَهُ؟
وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ بِمَرْتَبَتِهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ1، لِتَتِمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ، كَمَا تَمَّتْ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُضَاعَفًا لَهُ، حَتَّى يَكُونَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْأَصْلِ، وَلَهُ بِالْمُضَاعَفَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِتَدُومَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ـــــــ
1 في م: وآله.(3/535)
السَّادِسُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ لَهُ بِدُعَاءِ أُمَّتِهِ، تَكْرِمَةً لَهُمْ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُكَرَّمَ رَسُولُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ.
السَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لَهُمْ لِيُثَابُوا عَلَيْهِ.
قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا" .
الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ ذَلِكَ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ.
التَّاسِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ رَحْمَةً فِي الْعَالَمِينَ يَبْقَى بِهَا دِينُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْعَاشِرُ: أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً تَتَّخِذُهُ بِهَا خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذْت إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ كَمَا غُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ، ثُمَّ كَانَ يُدِيمُ الِاسْتِغْفَارَ، لِيَأْتِيَ بِالشَّرْطِ الَّذِي غُفِرَ لَهُ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَقْوَالِ، وَتَحْقِيقٌ فِيهَا لِمَا يَقْوَى مِنَ الاحْتِمَالِ.(3/536)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مُخْتَرِمَةٍ بَيْنَ أَعْلَاجٍ قَائِمَةٍ بِسُوقِ بَعْضِ السِّلَعِ، فَجَلَدَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَلَدَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ رَآهُ مِنِّي، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا حَمَلَك عَلَى جَلْدِ ابْنَةِ عَمِّك؟" فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ: وَابْنَةُ عَمِّي هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكَرْتهَا إذْ لَمْ أَرَ عَلَيْهَا جِلْبَابًا فَظَنَنْتهَا وَلِيدَةً.
فَقَالَ النَّاسُ: الْآنَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا. قَالَ عُمَرُ: وَمَا نَجِدُ لِنِسَائِنَا جَلَابِيبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ...}. الآية.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ، لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ الرِّدَاءُ. وَقِيلَ: إنَّهُ الْقِنَاعُ.(3/536)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} :
قِيلَ: مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا.
وَقِيلَ: تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ، فَدَلَّ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ، وَقَدْ قِيلَ: وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ الْأَمَةُ1 إذَا مَرَّتْ تَنَاوَلَهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْإِذَايَةِ، فَنَهَى اللَّهُ الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُنَّ مِثْلُ تِلْكَ الْإِذَايَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى التَّسَتُّرِ وَكَثْرَةِ التَّحَجُّبِ، وَيَقُولُ: أَتَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ؟ وَذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ أَوْضَاعِ الشَّرِيعَةِ بَيِّنٌ.
ـــــــ
1 في م: المرأة.(3/537)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي "الصَّحِيحِ" 2 الثَّابِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا سَتِيرًا حَيِيًّا مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ،
ـــــــ
2 "صحيح مسلم" : [1841]، و "سنن الترمذي" : [5/ 359].(3/537)
وَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَ1، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا، وَإِنَّ مُوسَى خَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَهَا عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ. فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ، فَطَلَبَ الْحَجَرَ؛ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي، حَجَرٌ؛ ثَوْبِي، حَجَرٌ2، حَتَّى انْتَهَى إلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا، وَأَبْرَأَهُمْ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ.
قَالَ: وَقَامَ إلَى الْحَجَرِ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ مُوسَى بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاَللَّهِ إنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا3 مِنْ أَثَرِ عَصَاهُ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا مُوسَى...} الآية.
فَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي بَدَنِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَنْثُورِ: أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ صَعِدَا الْجَبَلَ فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: أَنْتَ قَتَلْته، وَكَانَ أَلْيَنَ لَنَا مِنْك، وَأَشَدَّ حُبًّا؛ فَآذَوْهُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلْته، فَمَرُّوا بِهِ عَلَى مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَتَكَلَّمَتْ الْمَلَائِكَةُ بِمَوْتِهِ، فَمَا عَرَفَ مَوْضِعَ قَبْرِهِ إلَّا الرَّخَمُ4، وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ أَصَمَّ أَبْكَمَ، وَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي الْعِرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي إذَايَةِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى:
وَفِيهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ:
"لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" . وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَوَقَعَ النَّهْيُ، تَكْلِيفًا لِلْخَلْقِ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ الْمَنْهِيُّ5 عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعْجِزَةِ، وَتَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَنْفِيذًا لِحُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَرَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ "مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ" .
ـــــــ
1 في م: أذى من آفة، وفي "مسلم" : وإما أنه آدر، وفي "الترمذي" : وإما أدرة. وآدر: عظيم الخصيتين.
2 أي: دع ثوبي يا حجر.
3 الندب: أصله أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد.
4 الرخم: جمع رخمة: طائر.
5 في م: النهي(3/538)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَوْله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "الْمُشْكِلَيْنِ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ: وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنَ القَوْلِ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَرَائِضُ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ آدَمَ أَمَانَةً.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْخِلَافَةُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ1 عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهَا الطَّاعَةُ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهَا التَّوْحِيدُ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ: فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -2: "إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ" .
ثَانِيهِمَا: قِسْمُ الْعَمَلِ:
ـــــــ
1 في م: ولده قابيل.
2 "صحيح مسلم" : [742].(3/539)
وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا.
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: الْوَدَائِعُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ1 أَمْ لَا؟
الثَّانِي: أَمَانَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الثَّالِثُ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْلِ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ، وَقَدْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ؛ وَلَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدِيثِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي ذَلِكَ النَّظَرِ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ، فَقَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ: صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ، ذَنْبًا ارْتَكَبْته؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ2 أَوْ لِتَهَوُّرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
ـــــــ
1 في م: جناية بجناية.
2 في أ: جيلة.(3/540)
المجلد الرابع
سورة سبأ
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}
...
بسم الله الرحمن الرحيم
34- سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].
[فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَضْلًا} : فِيهِ1 ]2 أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:
الْأَوَّلُ: النُّبُوَّةُ.
الثَّانِي: الزَّبُورُ.
الثَّالِثُ: حُسْنُ الصَّوْتِ.
الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ.
الْخَامِسُ: التَّوْبَةُ.
السَّادِسُ: الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ.
السَّابِعُ: الطَّيْرُ.
الثَّامِنُ: الْوَفَاءُ بِمَا وُعِدَ.
ـــــــ
1 في ش: فيها.
2 من ش.(4/5)
التَّاسِعُ: حُسْنُ الْخُلُقِ.
الْعَاشِرُ: الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: الْعِلْمُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15].
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17].
الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16].
وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ حُسْنُ الصَّوْتِ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ "ا لْمُشْكِلَيْنِ ".
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ، وَلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: "لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد"، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَفِيهِ دَلِيلُ الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ، وَيَقُولُ: آ.
وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ.
وَهُوَ جَائِزٌ لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ.
وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَةَ بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79]. فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ.
وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاءِ وَكَانَ مِنَ القُرَّاءِ الْعِظَامِ يَقْرَأُ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ: "كهيعص"، فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ.
وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى:{ فَ عَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا.(4/6)
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا1.
وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ2 يَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَلَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ مِنَ الطُّورِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءَتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ3 إلَيْهِ.
وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا4 عَنْ أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا5، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ، وَقَرَأَ: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِك الْخَيْرُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ6 مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ.
ـــــــ
1 في أ: منه.
2 في م، ش: الكازوني، والمثبت في: أ، و"اللباب".
3 في ش: الإصغاء.
4 في أ: وخزلها.
5 في أ: صادفها.
6 في ش: وأحسن.(4/7)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:(4/7)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمِحْرَابُ:
هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ:
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ ... مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ
وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ ... َمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ
وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً1:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} يَعْنِي ثَابِتَاتٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنَ المُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ.
وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ، فَحَصَرَهُ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنَ العَامَّةِ بَشَرٌ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنَ المَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ. وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ.
ـــــــ
1 الشاعر هو امرؤ القيس، وصدره:
تروح على آل المحلق جفنة.(4/8)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى : {وَتَمَاثِيلَ} :
وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى "تِفْعَالٍ" قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ: رَجُلٌ تِكْلَامٌ: كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ: كَثِيرُ اللُّقَمِ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ: كَذَّابٌ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ: قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ، وَالتِّمْرَادُ1: بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ2. وَتِلْفَاقٌ3. ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَالتِّجْفَافُ4: مَعْرُوفٌ. وَتِمْثَالٌ: مَعْرُوفٌ. وَتِبْيَانٌ: مِنَ البَيَانِ وَتِلْقَاءَ: قُبَالَتَك وَتِهْوَاءَ مِنَ اللَّيْلِ: قِطْعَةٌ. وَتِعْشَارٌ: مَوْضِعٌ. وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ: قَصِيرٌ. وَتِلْعَابٌ: كَثِيرُ اللَّعِبِ. وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا.
فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي: كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ: وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ، وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ.
قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ: ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي: اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك. فَأَمْلَى عَلَيَّ: الْأَشْيَاءُ5 الَّتِي جَاءَتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ: مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ وَالتِّبْيَانُ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَسْمَاءُ: رَجُلٌ تِنْبَالٌ: أَيْ قَصِيرٌ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا. وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ6 وَزَادَ التِّنْضَالُ مِنَ المُنَاضَلَةِ [والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ، وَتِرْيَاعٌ: مَوْضِعٌ]7، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ، وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ. وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ8.
ـــــــ
1 في أ: التمرار، وهو تحريف.
2 في "القاموس": التمراد: بيت صغير في بيت الحمام لمبيضه.
3 في أ: تلفاف، وهو تحريف، والمثبت من ش، و"القاموس".
4 آلة للحرب يلبسها الفرس والإنسان لتقي في الحرب.
5 في ش: الأستاذ.
6 في م: ابن دريد وزيد. وفي ش: ابن دريد وابن زيد.
7 ليس في ش.
8 انظر "المخصص" صفحة 190 جزء 14، ففيه هذه الأوزان مع اختلاف قليل.(4/9)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ1 لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {تَمَاثِيلَ}.
وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، أَصْلُهَا الإسرائليات؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنَ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ: {تَمَاثِيلَ} فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ.
قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَشَاءُ} فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ شَاءَ2 عَمَلَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؟
قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ3 كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي شَرْعِهِ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى الْبَابَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ وَعَمَلَهَا مِنَ الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ4:
" مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ"؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ.
قُلْنَا: نُهِيَ عَنِ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا5 مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا!.
وَقَدْ وَرَدَ فِي " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَأَنَّهُمْ6 كَانُوا أُنَاسًا، ثُمَّ صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا. وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ فِي
ـــــــ
1 في م: تعمل.
2 في أ: يشاهد.
3 في ش: لم يروا أنه.
4 "مسلم": [1671].
5 في ش: عملنا.
6 في م: فإنهم.(4/10)
أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَجْلَسُوهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ1 إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ.
فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ عَلَيْهِ2 وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا3 مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ:
إنْ قُلْنَا: إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصُّوَرِ نَسْخًا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، لُبَابُهُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ أُمَّهَاتٍ:
الْأُمُّ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ، أَوْ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ صُورَةٍ.
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – 4:
" لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ " زَادَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ: " إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ ".
وَفِي رِوَايَةٍ4 عَنْ أَبِي طَلْحَةَ نَحْوُهُ، فَقُلْت لِعَائِشَةَ: هَلْ سَمِعْت هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا؛
ـــــــ
1 في أ: بزيه.
2 ليس في ش.
3 في ش: فيعبدونها.
4 "صحيح مسلم": [1666].(4/11)
وَسَأُحَدِّثُكُمْ؛ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَأَخَذْت نَمَطًا فَنَشَرْته1 عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْت الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، وَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ". قَالَتْ: فَقَطَعْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتهمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ.
الْأُمُّ الثَّالِثَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ2: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا".
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ3: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ4 فِيهِ صُورَةٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ5 خَلْقَ اللَّهِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَّعْته، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ.
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ6:كَانَ لَنَا ثَوْبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهْوَةٍ7 فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَخِّرِيهِ عَنِّي"، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَفِقُ بِهِمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ: اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا؛ فَقَالَ: "إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ".
قَالَ الْقَاضِي: فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ جَاءَ: "إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ" ، فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ، ثُمَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ: "أَخِّرِيهِ عَنِّي؛ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا" فَثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ فِيهِ. ثُمَّ بِهَتْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ، ثُمَّ بِقَطْعِهَا لَهَا وِسَادَتَيْنِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا بِأَنَّ جَوَازَ8
ـــــــ
1 في أ، و"مسلم": فسترته.
2 "صحيج مسلم": [1666].
3 "مسلم": [1667].
4 القرام: الستر الرقيق.
5 في "القرطبي" و"مسلم": يشبهون بخلق الله.
6 "مسلم": [1668، 1669].
7 السهوة: سترة قدام فناء البيت والحجلة وشبهها "القاموس". والسهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع والخزانة. وقيل كالصفة تكون بين يدي البيت. وقيل شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء "النهاية".
8 في أ: جوازه.(4/12)
ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ فِيهِ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهَا فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ: اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا [ فِي الرَّقْمِ ]1 فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ، فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ. {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} يَعْنِي لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ2 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يُصْعَدُ إلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ، وَرَأَيْت بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ أَحَدٍ3 مِنْهُمْ عَنْ أَحَدٍ، وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ4:
كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لَلْمُحْتَضَرِ
وَقَالَ أَيْضًا5:
يُجْبَرُ الْمَحْرُوبُ فِيهَا6 مَالَهُ ... بِجِفَانٍ وَقِبَابٍ7 وَخَدَمٍ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا }:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي ا لشَّكُورُ }. ثُمَّ قَالَ: "ثَلَاثٌ8 مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد" . قَالَ: فَقُلْنَا: مَا هُنَّ؟ قَالَ: "الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ".
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في ش: قدر.
3 في ش: لأحد.
4 "ديوانه": [56].
5 "ديوانه": [90]، ويجبر: يصلح. والمحروب: الذي سلب ماله.
6 في م، و"الديوان": فينا.
7 في "الديوان": وسوام.
8 في ش: ثلاثة.(4/13)
الثَّانِي: قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ يُفْعَلُ لِلَّهِ شُكْرٌ.
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقِيقَةُ الشُّكْرِ اسْتِعْمَالُ النِّعْمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَالْكُفْرَانُ: اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنَ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةَ أَقَلُّ مِنَ المَعْصِيَةِ بِحَسْبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(4/14)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يُخْلِفُهُ} :
يَعْنِي يَأْتِي بِثَانٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ الْخِلْفَةُ فِي النَّبَاتِ.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا. بَلْ أَنَا الْخَالِفَةُ بَعْدَهُ. [ قَالَ ثَعْلَبٌ: يُرِيدُ بِالْقَاعِدِ بَعْدَهُ ]1 ، وَالْخَالِفَةُ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ الرَّئِيسُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْخَلَفِ هَاهُنَا:
أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: يُخْلِفُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، كَمَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إذَا شَاءَ.
الثَّانِي يُخْلِفُهُ بِالثَّوَابِ.
الثَّالِثُ: مَعْنَى يُخْلِفُهُ، فَهُوَ أَخْلَفَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ خَلَفِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ.
رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
ـــــــ
1 ليس في ش.(4/14)
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك ". وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلَفَ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الْمُنْفِقِ بِهَا إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ؛ إمَّا أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ وَأَزْيَدَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَوَّضَ، وَالتَّعْوِيضُ هَاهُنَا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْآخِرَةِ.(4/15)
لْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْلِهِ: {يَصْعَدُ} :
وَالصُّعُودُ هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا. وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ فَوْقَ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ. وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ.
الثَّانِي: مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.
الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} :
هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {يَرْفَعُهُ}:(4/16)
قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ.
وقيل: الفاعل في يرفعه مضمر يعود على العمل؛ المعنى: إلى الله يصعد الكلم الطيب، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّافِعُ الْخَافِضُ.
وَالثَّانِي مَجَازٌ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ.
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا، فَلَا يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ".
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِي ثِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا.(4/17)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى: { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ لِتَبْتَغُوا مِنْ(4/17)
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي طَعَامِ الْبَحْرِ وَحِلْيَتِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [96]1 .. وَالنَّحْلِ [14]2 بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
ـــــــ
1 ص 168، ج2.
2 ص 106، ج3.(4/18)
سورة يس
قَوْله تَعَالَى: {يس}
...
سُورَةُ يس فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: {يس} [يس: 1].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَكَذَا كُتِبَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي سَطَّرْنَاهَا الْآنَ، وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ قَوْلُهُ: {ق} وَثَبَتَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّهَجِّي، فَيُقَالُ فِيهِ يَاسِين، وَلَا قِيلَ قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَا نُونْ وَالْقَلَمِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَقُلْت1 فِيهَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَافَ جَبَلٌ، وَإِنَّ نُونَ الْحُوتُ أَوْ الدَّوَاةُ؛ فَكَانَتْ2 فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ وَالصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كَتْبَ الْقُرْآنِ كَتَبُوهَا مُطْلَقَةً لِتَبْقَى تَحْتَ حِجَابِ الْإِخْفَاءِ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى مِنَ المَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ خَبَرٍ؛ إذْ لَيْسَ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَهُ مَالِكٌ، رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ3 يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي، لِقَوْلِ اللَّهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يَقُولُ: هَذَا اسْمِي يس.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يس يَا إنْسَانُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَوْلُك4 يَا طَهَ: يَا رَجُلُ. وَعَنْهُ
ـــــــ
1 في أ: لقلب.
2 في ش: وكانت.
3 في ش: يتسمى.
4 في ش: وقوله.(4/19)
رِوَايَةُ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كُنِيَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ يَا يس أَيْ يَا سَيِّدُ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سَمَّانِي اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ، وَطَه، وَيس، وَالْمُزَّمِّلَ وَالْمُدَّثِّرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ". وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ جَمَعْنَا أَسْمَاءَهُ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي " كِتَابِ النَّبِيِّ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ يس؛ لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ كَلَامٌ بَدِيعٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ، وَقَادِرٌ، وَمُرِيدٌ، وَمُتَكَلِّمٌ؛ وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَارِي فَيُقَدَّمُ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130].
قُلْنَا: ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِشْكَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/20)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى : {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 2]. فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَنْصَارِ بَعِيدَةً مِنَ المَسْجِدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إلَى الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَتْ: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَقَالُوا: نَثْبُتُ مَكَانَنَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَنِي سَلِمَةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا قَرِيبًا مِنَ المَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا بَنِي سَلِمَةَ؛ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ" ؛ يَعْنِي الْزَمُوا دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ لَكُمْ آثَارُكُمْ، أَيْ1 خُطَاكُمْ إلَى
ـــــــ
1 في ش: يعني.(4/20)
الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1-: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ".
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [451].(4/21)
آيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَلَامُ الْعَرَبِ.
عَلَى أَوْضَاعٍ: مِنْهَا الْخُطَبُ، وَالسَّجْعُ، وَالْأَرَاجِيزُ، وَالْأَمْثَالُ، وَالْأَشْعَارُ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْصَحَ بَنِي آدَمَ2 ، وَلَكِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ؛ لَمَّا كَانَ اللَّهُ قَدْ ادَّخَرَ مَنْ جَعَلَ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً لَهُ، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ وَعَجِيبِ الْفَصَاحَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّسْنِ الْبُلَغَاءِ الْفُصْحِ الْمُتَشَدِّقِينَ اللُّدِّ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ3 وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَأْكِيدًا؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ؛ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ صِفَتَهَا مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ هِيَ زِيَادَةٌ4 عُظْمَى عَلَى رُتْبَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَوْضَاعِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهَ إعْجَازِ الْقُرْآنِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَخُصُوصًا عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ5 قَالَ أَخُو أَبِي ذَرٍّ لِأَبِي ذَرٍّ: لَقَدْ وَضَعْت قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا، وَلَا دَخَلَ فِي بُحُورِ الْعَرُوضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَا فِي زِيَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُحُورَ تَخْرُجُ مِنْ خَمْسِ دَوَائِرَ:
ـــــــ
2 في ش: ولد.
3 في ش: الكتاب.
4 في أ: بزيادة.
5 في ش: وكذلك.(4/21)
إ حْدَاهَا دَائِرَةُ الْمُخْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَبْحُرٍ: وَهِيَ الطَّوِيلُ، وَالْمَدِيدُ، وَالْبَسِيطُ؛ ثُمَّ تَتَشَعَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ كُلُّهَا مُنْفَكَّةٌ.
الدَّائِرَةُ الثَّانِيَةُ دَائِرَةُ الْمُؤْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا بَحْرُ الْوَافِرِ، وَالْكَامِلِ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا.
الدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ دَائِرَةُ الْمُتَّفَقِ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ الْهَزَجُ، وَالرَّجَزُ، وَالرَّمَلُ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا.
الدَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ دَائِرَةُ الْمُجْتَثِّ يَجْرِي عَلَيْهَا سِتَّةُ أَبْحُرٍ: وَهِيَ السَّرِيعُ، وَالْمُنْسَرِحُ، وَالْخَفِيفُ، وَالْمُضَارَعُ، وَالْمُقْتَضَبُ، وَالْمُجْتَثُّ، وَيَزِيدُ1 عَلَيْهَا مَا يَجْرِي مَعَهَا فِي أَفَاعِيلِهَا.
الدَّائِرَةُ الْخَامِسَةُ دَائِرَةُ الْمُنْفَرِدِ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالْأَخْفَشِ بَحْرٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ الْمُتَقَارَبُ، وَعِنْدَ الزَّجَّاجِ بَحْرٌ آخَرُ سَمَّوْهُ الْمُجْتَثُّ2 وَالْمُتَدَارَكُ وَرَكْضُ الْخَيْلِ.
وَلَقَدْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنْ يُجْرُوا الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَزْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَظَهَرَ عِنْدَ الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}. وَقَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} :
تَحْقِيقٌ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ.
وَقَدْ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُصَحَاءِ الْمُلْحِدَةِ عَلَيْنَا فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَشْيَاءَ أَرَادُوا بِهَا التَّلْبِيسَ عَلَى الضَّعَفَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْت أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] وَقَالُوا: إنَّ هَذَا مِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارَبِ، عَلَى مِيزَانِ قَوْلِهِ:
فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ ... فَأَلْفَاهُمْ الْقَوْمُ رُءُوسًا نِيَامًا
وَهَذَا إنَّمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْجَاهِلُونَ بِالصِّنَاعَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُلَائِمُ هَذَا الْبَيْتَ مِنَ الآيَةِ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا} إلَى قَوْلِهِ {كُلِّ} ؛ وَإِذَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. وَإِذَا أَتْمَمْنَاهُ بِقَوْلِهِ: {شَيْءٍ شَهِيدٌ} خَرَجَ
ـــــــ
1 في م: ويجري عليها ما يجري.
2 في أ: المحدث.(4/22)
عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِهِ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ كُلَّهَا عَلَى وَزْنِ فَعُولُنْ، وَلَيْسَ فِي بُحُورِ الشِّعْرِ مَا يَخْرُجُ الْبَيْتُ مِنْهُ مِنْ1 عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] ادَّعَوْا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الْوَافِرِ، وَقَطَّعُوهُ: مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ؛ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْأَوَّلِ:
لَنَا غَنَمٌ نَسُوقُهَا غِزَارٌ ... كَأَنَّ قُرُونَ جَلَّتِهَا الْعِصِيُّ
وَعَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْآخَرِ:
طَوَالُ قَنَا يُطَاعِنُهَا قِصَارُ ... وَقَطْرُك فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ زِدْت فِيهَا أَلِفًا بِتَمْكِينِ حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ مُؤْمِنِينَ فَتَقُولُ مُؤْمِنِينَا.
الثَّانِي: أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الرَّوِيِّ بِإِشْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُخْزِهِمْ} وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَإِذَا قُرِئَ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35]؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ بَحْرَ الرَّجَزِ فِي الْوَزْنِ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، فَإِنْ ضَمَمْت إلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
رَهِينٌ مُعْجَبٌ بِالْقَيْنَاتِ
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الرَّوِيِّ2 إذَا زِدْت يَاءً بَعْدَ الْبَاءِ فِي قَوْلِك: كَالْجَوَابِي، فَإِذَا حَذَفْت الْيَاءَ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ شَيْءٍ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30]؛ فَقَالُوا:
ـــــــ
1 في أ: ما يخرج البيت عن.
2 في أ: القوي، وهو تحريف.(4/23)
هَذِهِ آيَةٌ تَامَّةٌ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ مِنَ الرَّمَلِ؛ وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ مِنْ قَوْلِك لَا تَسْتَأْخِرُونَ قَوْلُهُ: " لَا تَسْ " وَتُوصِلُ1 قَوْلَك يَوْمٍ بِقَوْلِك تَأْخِرُونَ، وَتَقِفُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى النُّونِ مِنْ قَوْلِك تَأْخِرُونَ، فَتَقُولُ تَأْخِرُونَا بِالْأَلِفِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِصْرَاعًا ثَانِيًا، وَيُتِمُّ الْمِصْرَاعَانِ بَيْتًا مِنَ الرَّمَلِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ قُرِئَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَمَتَى قُرِئَتْ الْآيَةُ عَلَى مَا جَاءَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14]. وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَلَى وَزْنِ الْكَامِلِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى رَوِيِّ الرَّجَزِ مِنْ وَزْنٍ آخَرَ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ يَكُونُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٌ، وَلَيْسَ فِي بَحْرِ الْكَامِلِ وَلَا فِي بَحْرِ الرَّجَزِ فَعُولُنْ بِحَالٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَلَا يَكُونُ بَيْتًا إلَّا بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ مِنْ دَانِيَةً، وَإِذَا حُذِفَتْ الْوَاوُ بَطَلَ نَظْمُ الْقُرْآنِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرَك الَّذِي أَنَقَضَ ظَهْرَك وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك} [الشرح: 2-4]؛ زَعَمُوا أَرْغَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّهَا مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ، وَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَبْيَاتٍ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا عَلَى مِصْرَاعٍ، وَهُوَ مِنْ مَجْزُوِّهِ عَلَى فَاعِلَاتٍ فَاعِلَاتٍ، وَيَقُومُ فِيهَا فَعِلَاتٌ مَقَامَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا جَاءَ فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ بَيْتٌ مِنَ الرَّمَلِ عَلَى جُزْأَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ تَامَّةٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ، أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ؛ فَأَمَّا عَلَى جُزْأَيْنِ كِلَاهُمَا فَاعِلَاتٌ فَاعِلَاتٌ فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ فِيهَا؛ وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ بَيْتٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ تَامَّةٌ، أَوْ كَلَامٌ تَامٌّ مِنَ القُرْآنِ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ تَامٍّ مِنَ الشِّعْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يَكُونُ الْمَجْزُوءُ وَالْمُرَبَّعُ مِنَ الرَّمَلِ تَارَةً مُصَرَّعًا وَتَارَةً غَيْرَ مُصَرَّعٍ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنَ المَجْزُوءِ وَالْمُرَبَّعِ الْمُصَرَّعِ مِنَ الرَّمَلِ. قُلْنَا: إنَّ الْبَيْتَ مِنَ القَصِيدَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُصَرَّعًا إذَا كَانَ فِيهِ أَبْيَاتٌ أَوْ بَيْتٌ غَيْرُ مُصَرَّعٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَنْصَافُ أَبْيَاتِهِ كُلُّهَا عَلَى سَجْعٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ نِصْفٍ مِنْهَا بَيْتٌ بِرَأْسِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّمَلِ مَا يَكُونُ عَلَى جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جُزْآنِ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى شَرْطِ الرَّمَلِ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1-2] وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَقَعُ فِي أَقْوَالِ2 الشُّعَرَاءِ إلَّا بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَذَلِكَ} وَبِتَمْكِينِ حَرَكَةِ الْمِيمِ مِنَ اليَتِيمِ، فَيَكُونُ الْيَتِيمَا.
ـــــــ
1 في م: وتصل.
2 في أ: في إقواء الشعر.(4/24)
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إنِّي وَجَدْت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. فَقَوْلُهُ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا} بَيْتٌ تَامٌّ، فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا، وَأَنَّ بَعْضَ آيَةٍ وَجُزْءًا مِنْ كَلَامٍ لَا يَكُونُ شِعْرًا.
فَإِنْ قِيلَ: يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} إتْمَامًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى النَّظْمَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ1:
وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ ... وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إنِّي
شَهِدْت لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ ... أَنَرْتُهُمُ بِنُصْحِ الْقَوْلِ مِنِّي2
قُلْنَا: التَّضْمِينُ عَلَى عَيْبِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتٍ عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ قَبْلَهُ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْسِيسُ بَيْتًا وَالتَّضْمِينُ أَقَلَّ مِنْ بَيْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشِعْرٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ العَرَبِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ آيَةٍ عَلَى مِثَالِ قَوْلِ الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، فَهَذَا عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنَ الرَّجَزِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} [النجم: 34] عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنَ المُتَقَارَبِ الْمُسْتَمِرِّ، وَهَذَا كَثِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَقَدْ ادَّعَوْهُ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كَلَامِ الَّذِي نُفِيَتْ عَنْهُ مَعْرِفَةُ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ" .
قُلْنَا: قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُظَفَّرِ عَنِ الخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ : إنَّ مَا جَاءَ مِنَ السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ. فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ مَنْهُوكَ رَجَزٍ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِك: لَا كَذِبْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: " عَبْدُ الْمُطَّلِبِ " وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ قَالَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَذِبٌ بِتَنْوِينِ الْبَاءِ مَرْفُوعَةً وَبِخَفْضِ الْبَاءِ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْإِضَافَةِ.
ـــــــ
1 "ديوانه": [108].
2 في "الديوان":
أتيتهم بود الصدر مني(4/25)
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ طَرَفَةَ1:
سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا ... وَيَأْتِيك مَنْ لَمْ تَزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ
وَقَالَ2:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَقَالَ:
كَفَى الْإِسْلَامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ قَالَ اللَّهُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}.
قَالُوا: وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
هَلْ أَنْتَ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت
وَأَلْزَمُونَا أَنَّ هَذَا شِعْرٌ مَوْزُونٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ هَذَا شِعْرًا مَوْزُونًا إذَا كُسِرَتْ التَّاءُ مِنْ دَمِيَتْ وَلَقِيت، فَإِنْ سُكِّنَتْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تَكُونُ فَعُولٌ، وَلَا مَدْخَلَ لِفَعُولٍ فِي بَحْرِ السَّرِيعِ. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهَا سَاكِنَةَ التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ إشْبَاعٍ.
قَالُوا: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ" ؛ فَادَّعَوْا أَنَّهُ عَلَى وَزْنِ مَشْطُورِ الرَّجَزِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ شِعْرًا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَوْصُولًا، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ مَوْلَانَا، أَوْ وَصَلَ وَحَرَّكَ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا. وَقَدْ نَقَلَهُ وَوَصَلَهُ بِكَلَامٍ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ". وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لَا يَكُونُ شِعْرًا إلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُسَكَّنُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِك الْوَلَدُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.
ـــــــ
1 البيت روايته في الديوان: [41]:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
2 البيت للعباس بن مرداس كما في "اللسان" [نهب]. وشطره الثاني:
بين عيينة والأقرع(4/26)
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّ شِعْرًا، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَمَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ. فَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا، وَيُنَادَى يَا صَاحِبَ الْكِسَاءِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا شِعْرًا.
وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ يُنَادِي فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الْعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ: اذْهَبُوا بِي إلَى الطَّبِيبِ، وَقُولُوا قَدْ اكْتَوَى، وَبِهَذَا وَسِوَاهُ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْآيَةِ مَعْنًى، وَبُطْلَانُ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَطْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ قَالَ: لَا تُكْثِرْ مِنْهُ، فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اجْمَعْ الشُّعَرَاءَ قِبَلَك وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الشِّعْرِ، وَهَلْ بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَأَحْضَرَ لَبِيدًا ذَلِكَ. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: إنَّا لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ. وَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ: مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} [العنكبوت: 48] مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ1 . فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَالَ الشِّعْرِ فِي سُورَةِ الظُّلَّةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
ـــــــ
1 في م: الكتابة.(4/27)
لْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا، وَقَالَ: الْيَوْمَ أَغْلِبُ
ـــــــ
2 "أسباب النزول" للواحدي: [209].(4/27)
مُحَمَّدًا، وَجَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ، حَتَّى عَادَ1 رَمِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} :
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا2 الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ. وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
ـــــــ
1 في م: صار.
2 في ش: فيلحقه.(4/28)
37- سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّةٌ، فِيهَا آيَتَانِ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي الذَّبِيحِ:
هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إسْمَاعِيلُ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِينِ الصَّحِيحِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الأَحْكَامِ وَلَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا لَا أُمَّهَاتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك}:
وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي التَّخْيِيلِ سَبِيلٌ، وَلَا لِلِاخْتِلَاطِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ؛ وَإِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَافِيَةٌ، وَأَفْكَارُهُمْ صَقِيلَةٌ، فَمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ، وَنَفَثَ بِهِ الْمَلِكُ فِي رَوْعِهِمْ1 ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ حَقٌّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "وَمَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ رَجَوْت أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا".
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ نُبْذَةً مِنْهَا، وَأَنَّ الْبَارِيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكُنَى، فَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِصِفَتِهَا، وَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ كُنْيَتُهَا.
ـــــــ
1 الروع: القلب.(4/29)
وَفِي صَحِيحِ1 الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ:
"أُرِيتُك فِي سَرَقَةٍ2 مِنْ حَرِيرٍ. فَقَالَ الْمَلَكُ: هَذِهِ زَوْجُك، فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ". فَقُلْت: إنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ . وَلَمْ يَشُكَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لِقَوْلِهِ:
"فَقَالَ لِي الْمَلَكُ" ، وَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ إلَّا حَقًّا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ احْتَمَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا بِاسْمِهَا أَوْ تَكُونَ بِكُنْيَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِاسْمِهَا فَتَكُونُ هِيَ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَا مُكَنَّاةً فَتَكُونُ فِي أُخْتِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا أَوْ جَارَتِهَا، أَوْ مَنْ يُسَمَّى بِاسْمِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهَاتِ فِيهَا؛ وَهَذَا أَصْلٌ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ فَلْيُحْفَظْ وَلْيُحَصَّلْ، فَإِنَّهُ أَصْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة :ُ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا حَيْثُ وَقَعَتْ مِنْ كَلَامِنَا، ذَكَرَهَا جَمِيعُ عُلَمَائِنَا مَعَ أَحْزَابِ الطَّوَائِفِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ، وَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ.
وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَكِنَّهُ نُفِّذَ الذَّبْحُ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ، فَاجْتَمَعَ الذَّبْحُ وَالْإِعَادَةُ لِمَوْضِعِهَا حَسْبَمَا كَانَتْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَلَكِنْ3 يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ؛ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَكَانَ الذَّبْحُ وَالْتِئَامُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَعَ فِي مَطْلُوبِهِمْ مِنْ وَضْعِ النُّحَاسِ مَوْضِعَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، وَكُلُّهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ مِنَ العِلْمِ؛ وَبَابُ التَّحْقِيقِ فِيهَا وَمَسْلَكُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَاخْتَرْنَاهُ، فَأَوْضَحْنَا لِبَابِهِ الَّذِي لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ: { يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا} [الصافات: 102-105].
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ وَتِلْكَ أَخْلَاطٌ، وَأَيُّهَا فَلَيْسَ لَهَا بِالْأَنْبِيَاءِ أَخْلَاطٌ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَلَمْ يُحَدِّثْ إبْرَاهِيمُ قَطُّ نَفْسَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [1890].
2 سرقة: شقق بيض من الحرير.
3 في ش: ولكنه.(4/30)
الْأَنْبِيَاءِ سَبِيلٌ فِي1 تَخْيِيلٍ وَلَا تَلَاعُبٍ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَمَهَّدْنَاهُ وَبَسَّطْنَاهُ.
فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِابْنِهِ: رَأَيْت أَنِّي أَذْبَحُك فِي الْمَنَامِ، فَأَخَذَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ الرُّؤْيَا بِظَاهِرِهَا وَاسْمِهَا، وَقَالَ لَهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}؛ إذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيُ اللَّهِ، وَاسْتَسْلَمَا لِقَضَاءِ اللَّهِ؛ هَذَا فِي قُرَّةِ عَيْنِهِ، وَهَذَا فِي نَفْسِهِ أُعْطِيَ ذِبْحًا فِدَاءً وَقِيلَ لَهُ: هَذَا فِدَاؤُك، فَامْتَثِلْ فِيهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ حَقِيقَةُ مَا خَاطَبْنَاك فِيهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ لَا اسْمٌ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا بِمُبَادَرَتِهِ الِامْتِثَالَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ.
فَلَمَّا اعْتَقَدَا الْوُجُوبَ، وَتَهَيَّآ لِلْعَمَلِ، هَذَا بِصُورَةِ الذَّابِحِ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ، أُعْطِيَ مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً عَنْ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَنَامِ، يَقَعُ مَوْضِعَهُ بِرَسْمِ الْكِنَايَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمَوْعُودِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ لَهُ الْوَلَدُ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فَأَيْنَ الْأَمْرُ؟
قُلْنَا: هُمَا كَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنَ الوَالِدِ إبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الوَلَدِ إسْمَاعِيلَ. فَأَمَّا كَلِمَةُ إبْرَاهِيمَ فَهِيَ قَوْلُهُ أَذْبَحُك، وَهُوَ خَبَرٌ لَا أَمْرٌ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إسْمَاعِيلَ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَهُوَ أَمْرٌ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ2 صِيغَةَ الْخَبَرِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا3 الْأَمْرُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ لَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ خَبَرٍ وَاقِعٍ لَمَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُنْتَظَرُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ضَرُورَةً.
فَقَالَ إسْمَاعِيلُ لِأَبِيهِ إبْرَاهِيمَ: { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؛ فَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالِانْقِيَادِ إلَى مَعْنَى خَبَرِ أَبِيهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا} حِينَ تَيَسَّرَا لِلْعَمَلِ، وَأَقْبَلَا عَلَى الْفِعْلِ؛ فَكَانَ صَدَقَهَا ذِبْحُهَا مَكَانَهَا، وَهُوَ الْفِدَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فِي الْمَعْنَى ضَرُورَةً، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ إبْرَاهِيمَ امْتِثَالًا، وَمِنْ إسْمَاعِيلَ انْقِيَادًا، وَوُضِّحَتْ الْمَعَانِي بِحَقِيقَتِهَا، وَجَرَتْ الْأَلْفَاظُ عَلَى نِصَابِهَا لِصَوَابِهَا، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ يَقْلِبُ الْجِلْدَ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَرَّرْنَا حَظَّ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرَكَّبَتْ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ مِنَ الأَحْكَامِ4 ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ ذَبْحَ وَلَدِهِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ مَعْصِيَةٌ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا.
ـــــــ
1 في م: من.
2 من م.
3 في م: معناه.
4 هنا في هامش م: مسألة "إذا نذر ذبح ولده".(4/31)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ كَلِمَةٌ يَلْزَمُهُ بِهَا ذَبْحُ شَاةٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ فِي تَفْصِيلٍ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي نَنْظُرُهُ1 الْآنَ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَبْحَ الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا، فَأَلْزَمَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ ذَبْحَ الْوَلَدِ2، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ}. وَالْإِيمَانُ إلْزَامٌ أَصْلِيٌّ. وَالنَّذْرُ إلْزَامٌ فَرْعِيٌّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَحْمُولًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ3 وَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ؟
قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ يُفْتِي فِي الْحَلَالِ مِنْهُ وَالْحَرَامِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}.
وَاَلَّذِي يَجْلُو الِالْتِبَاسَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَعْيَانِ؛ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ مِنَ الأَفْعَالِ، وَالْمَعْصِيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ مِنَ الأَفْعَالِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَارَ طَاعَةً وَابْتِلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]؛ أَيْ الصَّبْرُ عَلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالنَّفْسِ. وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَا فِي ذَبْحِ أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَةً.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُ نَذْرًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ؟
قُلْنَا: إنَّمَا يَصِيرُ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي الْفِدَاءَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ4 وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاءَ؟
قُلْنَا: لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَصْدِهِ، وَلَا أَثَرَ فِي نَذْرِهِ، لِأَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ وَكِنَايَةً فِيهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كِنَايَةً
ـــــــ
1 في م: ننصره.
2 في م: ولده.
3 في م: والمعاصي.
4 في م: فلو.(4/32)
عَنِ الشَّيْءِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ؛ إمَّا بِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهَا هُنَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، وَلَا تَشَابُهَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِذَبْحِ الشَّاةِ.
قُلْنَا: هُوَ سَبَبٌ لَهُ شَرْعًا لِأَنَّهُ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الشَّرْعِ. وَالْأَسْبَابُ إنَّمَا تُعْرَفُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا بَاقِيَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ .(4/33)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى : {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} [الصافات: 141].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى" . وَنَسَبُهُ إلَى أَبِيهِ.
أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ الْبَارِي تَعَالَى فِي جِهَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ1؟ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى". فَقِيلَ لَهُ: مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ. فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: هِيَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ وَاحِدٌ: هِيَ عَلَيَّ.
فَقَالَ: إنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، وَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَنَادَى: {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنَ الظَّالِمِينَ} كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْرَبَ مِنَ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ، وَارْتَقَى بِهِ، وَصَعِدَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ مِنْهُ صَرِيرُ الْأَقْلَامِ، وَنَاجَاهُ رَبُّهُ بِمَا نَاجَاهُ، وَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ مِنَ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ.
قَصَدْت قَبْرَهُ مِرَارًا لَا أُحْصِيهَا بِقَرْيَةِ جُلْجُونَ2 فِي مَسِيرِي مِنَ المَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى قَبْرِ
ـــــــ
1 في ش: على ذلك.
2 في م: جلجول.(4/33)
الْخَلِيلِ، وَبِتُّ بِهِ، وَتَقَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَحَبَّتِهِ، وَدَرَسْنَا كَثِيرًا مِنَ العِلْمِ عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ وَمَنْ دَانَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ عَلَى عَادَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي قَوْمَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ قَدْ حَضَرَهُمْ الْعَذَابُ. قَالَ لَهُ يُونُسُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَأَلْتَمِسُ حِذَاءً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَغَضِبَ يُونُسُ وَخَرَجَ، وَكَانَتْ الْعَلَامَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ.
فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَرَجُوا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ، وَالنَّاقَةِ وَالْهُبَعِ1 وَالْفَحْلِ، وَكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَالْمَرْأَةَ عَنْ خَلِيلِهَا، وَتَابُوا إلَى اللَّهِ، وَصَاحُوا حَتَّى سُمِعَ لَهُمْ عَجِيجٌ، فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَغَضِبَ يُونُسُ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي سَفِينَةٍ، حَتَّى إذَا كَانُوا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رَكَدَتْ السَّفِينَةُ.
وَقِيلَ: هَاجَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ، وَقِيلَ: عَرَضَ لَهُمْ حُوتٌ حَبَسَ جَرْيَتَهَا، فَقَالُوا: إنَّ فِينَا مَشْئُومًا أَوْ مُذْنِبًا، فَلْنَقْتَرِعْ عَلَيْهِ؛ فَاقْتَرَعُوا فَطَارَ السَّهْمُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالُوا: عَلَى مِثْلِ هَذَا يَقَعُ السَّهْمُ، قَدْ أَخْطَأْنَا فَأَعِيدُوهَا، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا مِثْلُهُ، وَأَعَادُوهَا، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُونُسُ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَك رِزْقًا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بَطْنَك لَهُ سِجْنًا، فَنَادَى {أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنَ الظَّالِمِينَ} فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَرَ الْحُوتَ فَرَمَاهُ عَلَى السَّاحِلِ قَدْ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ2 شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ3 تَحَاتَّ وَرَقُهَا، فَبَكَى؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتُّهَا فِي يَوْمٍ وَأَهْلَكْتهَا فِي يَوْمٍ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ آمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَة :ُ قَوْلُهُ: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} :
نَصٌّ عَلَى الْقُرْعَةِ. وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا جَائِزَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوَارِدُ أَخْبَارِهَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات، وَجَاءَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى مَا أَشَرْنَا
ـــــــ
1 الهبع : الحمار والفصيل ينتج أو في آخر النتاج "القاموس"
2 في م: له .
3 في م: الشجرة.(4/34)
إلَيْهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ اقْتَرَعُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَجَرَتْ سِهَامُهُمْ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي جَرْيَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا، وَإِنَّمَا تَجْرِي الْكَفَالَةُ عَلَى مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ:
الْأَوَّلُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً.
الثَّالِثُ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ، فَقَالَ: "اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا، وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ".
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ، وَهِيَ الْقَسَمُ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِتْقُ، وَالْقِسْمَةُ، وَجَرَيَانُ الْقُرْعَةِ فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ وَحَسْمِ دَاءِ التَّشَهِّي.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ1 الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إيثَارٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ.
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ فَإِنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ شَرْعًا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ.
وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ لَمْ يُمَيِّزْ الْحَقَّ إلَّا الْقُرْعَةُ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَشْكَلَ.
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ مُشْكِلٍ، فَذَلِكَ أَبْيَنُ لَهَا، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ عَنْهَا؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ؛ وَتَفْصِيلُ الِاقْتِرَاعِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ2 مَذْكُورٌ فِي "كُتُبِ الْفِقْهِ".
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ؟.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَفِي زَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ بُرْهَانِهِ وَزِيَادَةٍ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ؛ وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى
ـــــــ
1 في م: في.
2 في أ: القسم.(4/35)
مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رُمِيَ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ السَّفِينَةَ وَقَفَتْ وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ حَادِثٍ فِينَا فَانْظُرُوا مَنْ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ مِسْبَارَ الْإِشْكَالِ وَهِيَ الْقُرْعَةُ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِالْقُرْعَةِ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِهِمْ لَهُ، فَرَمَى هُوَ بِنَفْسِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَلَاءٌ مِنْ1 رَبِّهِ وَرَجَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطُرُّوا إلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ، فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا. وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ.
ـــــــ
1 في م: لا بد من رميه.(4/36)
سُورَةُ ص
قَوْله تَعَالَى: {إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}
...
38- سُورَةُ ص فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: {إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18، 19].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ، وَخَلَقَ فِيهَا، وَيَسَّرَ لَهَا أَنْ تُسَبِّحَ مَعَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا سَبَّحَ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ؛ وَكَانَ تَسْبِيحُ دَاوُد إثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا فِيمَا يَرْوِي أَهْلُ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ قَالَ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}:
أَيْ رَاجِعٌ إلَيْهِ، تَرْجِعُ مَعَهُ، وَتُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ، وَتَحِنُّ إلَى صَوْتِهِ لِحُسْنِهِ، وَتُمَثِّلُ مِثْلَ عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ لِلطَّيْرِ عِبَادَةٌ أَوْ تَكْلِيفٌ؟
قُلْنَا: كُلٌّ لَهُ عِبَادَةٌ، وَكُلٌّ لَهُ تَسْبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْكُلُّ مُكَلَّفٌ بِتَكْلِيفِ التَّسْخِيرِ، وَلَيْسَ بِتَكْلِيفِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ آيَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرَامَةً مِنْ تَسْخِيرِ الْكُلِّ لَهُ تَسْخِيرَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَآمَنَ الْجِنُّ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمَانَ الِاخْتِيَارِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالُوا: {إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1-2] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 30].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْت أَعْلَمُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} [النور: 36- 37].(4/37)
وَالْأَصَحُّ هَاهُنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى1 وَالْعَصْرِ، فَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ فِي الْغَدَاةِ بِإِزَاءِ الْعَصْرِ فِي الْعَشِيِّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ طَالِعَةً، وَيَرْتَفِعَ كَدَرُهَا، وَتُشْرِقَ بِنُورِهَا، كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْرُ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتِعْجَالًا لِأَجْلِ شُغْلِهِ، فَيَخْسَرُ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَيْسَ لِصَلَاةِ الضُّحَى تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ إلَّا أَنَّهَا صَلَاةُ تَطَوُّعٍ، وَأَقَلُّ التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَفِي صَلَاةِ الضُّحَى أَحَادِيثُ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ2 أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى3 مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ: تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَنَفَقَتُهُ4 عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، وَيَكْفِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى" .
الثَّانِي: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ صَلَاةَ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ5 زَبَدِ الْبَحْرِ" .
الثَّالِثُ: حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى يَوْمَ الْفَتْحِ ضَحَّى6 ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّهَا.
وَعَنْهَا أَيْضًا7. أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ. وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
ـــــــ
1 في أ: أنها صلاة الصبح.
2 "صحيح مسلم": [499].
3 قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله.
4 في أ: وبضعه أهله.
5 في م: وإن كان أكثر من زبد البحر.
6 من م.
7 "مسلم": [497](4/38)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ؛ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا الْهَيْبَةُ.
وَالثَّانِي: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ.
وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {مُلْكَهُ} :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ الْمُلْكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ كَثْرَةُ الْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَلِكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا ذَا مُلْكٍ حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَقُوتًا لَمْ يَكُنْ مُلْكًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِضَرُورَةِ الْآدَمِيَّةِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا، وَقَدْ رُوِيَ:
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، فَقَالَ: "يَا عَبَّاسُ؛ مَنْ هَذِهِ؟" قَالَ لَهُ: غَفَّارٌ. قَالَ: "مَا لِي وَلِغَفَّارٍ"، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ، فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ عَظِيمًا. فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ، وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ.
وَلَمْ يُرِدْ الْعَبَّاسُ نَفْيَ الْمُلْكِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي نِسْبَةِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/39)
إلَى مُجَرَّدِ الْمُلْكِ، وَتَرْكِ الْأَصْلِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: "إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَنَظَرَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا".
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} .
قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
قِيلَ: هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ.
وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا، فَأَمَّا عِلْمُ الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إلَهِك إنَّهُ لَنَوْعٌ مِنَ العِلْمِ مُجَرَّدٌ، وَفَضْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَفِي الْحَدِيثِ:
"أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ" .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَضَاءَ مِنْ وَجْهِهِ بِاخْتِصَارٍ مِنْ لَفْظِهِ وَإِيجَازٍ فِي طَرِيقِهِ بِحَذْفِ التَّطْوِيلِ، وَرَفْعِ التَّشْتِيتِ1، وَإِصَابَةِ الْمَقْصُودِ.
وَلِذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً2 لِلْأَسَدِ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ، وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً، فَحَرَجَهُمْ3 الْأَسَدُ فِيهَا، فَهَلَكُوا، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ، وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَأَتَيْتهمْ
ـــــــ
1 في ش: التشغيب. وفي م: التشعيث.
2 زبية: حفرة.
3 المعروف أحرجه: ألجأه إلى مضيق. وأحرجت فلاناً: صيرته إلى الحرج وفي ش: فجرحهم.(4/40)
فَقُلْت لَهُمْ: أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ أَنَاسِيَّ، تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمُوهُ رَفَعْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ؛ فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعِ.
فَسَخَطَ بَعْضُهُمْ، وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: "أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ". فَقَالَ قَائِلٌ: إنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ.
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْقَضَاءُ كَمَا قَضَاهُ عَلِيٌّ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ عَلِيٍّ.
وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ: يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ. فَحَدَّهَا حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ. فَقَالَ: أَخْطَأَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرَّوِيَّةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ.
فَأَمَّا قِصَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي.
وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مَقْتُولُونَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنَ الحَاضِرِينَ عَلَيْهَا فَلَهُمْ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَفَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةً بِالْمُجَاذَبَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قَتَلَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ، فَوَقَعَتْ الْمُحَاصَّةُ1 ، وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ2 الْجَارِي فِيهِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ فِي
ـــــــ
1 في م: فرفعت المخاصمة.
2 في ش: القضاء.(4/41)
حَالَةِ الْجُنُونِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُهَا يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ؛ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوفِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَدٌّ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ؛ إذْ يَقُولُ: لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ1 لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَا.
الرَّابِعُ أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ أَوْ يَسْتَبِلَّ2 الْمَضْرُوبُ، ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ.
الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً، وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي زِنْبِيلٍ3 ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.
السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِيهِ إجْمَاعًا. وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ وَالْخِلَافِ؛ فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: "أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ" ، حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، وَلِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: "أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ".
وَكَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي سُورَةِ النُّورِ.
ـــــــ
1 في ش: اللآدمي.
2 استبل وأبل: برأ وصح.
3 أي في كيس.(4/42)
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "أَمَّا بَعْدُ". وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ وَائِلٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ، وَأَوَّلُ مَنْ اتَّكَأَ عَلَى عَصًا، وَعَمَّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُد قَالَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ هُوَ الْفَهْمُ وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13-14] لِمَا فِيهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ1 ، وَإِصَابَةِ الْمَعْنَى، وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ.
ـــــــ
1 في ش: من إصابة اللفظ.(4/43)
ْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [الآيتان: 21، 22].
الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْخَصْمُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ2 وُقُوعَ الْمَصَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ، فَيَنْتَظِمُ الْكَلَامُ بِهِمَا، وَيَصِحُّ الْمُرَادُ فِيهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} :
يَعْنِي جَاءُوا مِنْ أَعْلَاهُ. وَالسُّورَةُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ كَانَتْ بُقْعَةً مَحْسُوسَةً أَوْ مَنْزِلَةً مَعْقُولَةً3؛
ـــــــ
2 في ش: والجميع.
3 في ش: معلومة.(4/43)
قَالَ الشَّاعِرُ1:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاك سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
فَهَذَا هُوَ الْمَنْزِلَةُ. وَسُورُ الْمَدِينَةِ الْمَوْضِعُ الْعَالِي مِنْهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَالسُّؤْرُ مَهْمُوزٌ: بَقِيَّةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ. وَالسُّؤْرُ: الْوَلِيمَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: " يَأْهَلَ الْخَنْدَقِ؛ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُ ؤْرًا فَحَيَّ هَلَّا بِكُمْ" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمِحْرَابِ:
قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [13]2 .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد} :
قِيلَ: إنَّهُمَا كَانَا إنْسِيَّيْنِ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ.
وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: إنَّهُمَا كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ، بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ مِنَ الامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ.
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ؛ إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا. وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ العُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا3 فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} :
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ المَنْزِلَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ؟
ـــــــ
1 البيت للنابغة.
2 صفحة [8].
3 في م، ش: من كانا فيه.(4/44)
لْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23].
ـــــــ
1 في أ: مؤمنون.
2 من ش.
3 في ش: تركنا.(4/45)
فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ المَرْأَةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمُعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكْنَى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحَجَرَ وَالنَّاقَةَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّهُ يُكَنَّى عَنِ المَرْأَةِ بِأَلْفِ مِثْلٍ فِي الْمَقَامِ يُعَبِّرُ بِهِ الْمَلِكُ عَنِ المَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ، وَقَدْ قَيَّدْنَاهَا كُلَّهَا عَنْهُ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} :
إنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ، وَإِنْ كُنَّ إمَاءً فَذَلِكَ شَرْعُنَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ.
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا. الْمَعْنَى هَذَا غَنِيٌّ عَنِ الزَّوْجَةِ وَأَنَا مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي شَرْعِنَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا نَصٌّ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ قَبْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَكْفِلْنِيهَا} :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِنْ كَفْلِهَا أَيْ ضَمِّهَا أَيْ اجْعَلْهَا تَحْتَ كَفَالَتِي.
الثَّانِي: أَعْطِنِيهَا. وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ مَعْنًى.(4/46)
الثَّالِثُ: تُحَوَّلُ لِي عَنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَرْجِعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالْكَفَالَةِ إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الكَفَالَةِ وَأَخَصُّ مِنَ العَطَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}.
يَعْنِي غَلَبَنِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ؛ فَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ. وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ.
كَانَ بِبَلَدِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ الْحَاجَةَ غَصْبٌ لَهَا.
فَقُلْت1: أَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا. فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ، وَفِطْنَتِهِ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.
قَوْله تَعَالَى: { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24].
الظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا عَادَةً، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ عَادَةً2 عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً، وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ؛ أَمْثَلُهَا:
أَنَّ دَاوُد حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ، فَقِيلَ لَهُ. إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ، فَخُذْ حِذْرَك؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَمَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا3 فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَتَبَ دَاوُد
ـــــــ
1 في ش: فقلت له.
2 من م.
3 في ش: غائباً.(4/47)
إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ، إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا. فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ، فَقُتِلَ. فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا1 مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي التَّنْقِيحِ:
قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الكَبَائِرِ إجْمَاعًا، وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ؛ وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا مَعْصِيَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ2 مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ، وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ، وَإِنْ أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ3 عَثَرُوا، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ.
قُلْنَا: عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ مَا شَاءَ مِنْ أَخْبَارِ عَبِيدِهِ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ، وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ 4 فِي مَوْلَاهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ وَالْحَدُّ، وَإِنَّ
ـــــــ
1 في ش: قصتهما.
2 في ش: النظر.
3 في ش: وإن.
4 فلان ينبز بالصبيان: يلقبهم.(4/48)
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] يَعْنِي أَصْدَقَهُ. وَقَالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك} [هود: 120]. وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لَا بُدَّ آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ عَصَى الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ الْمُمْتَنَعِ:
أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا بِفَضْلِهِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرَ مِنْ حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ، فَضْلًا عَنِ التَّوَغُّلِ فِيهَا، فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ" :
"أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ،(4/49)
وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك".
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ1: إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ2 الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ3 بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا: وَلِي زَوْجَتَانِ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك.
وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَنْ مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ4؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]، يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ [كَانَ]5 تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا، " كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ " إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجِيَّتِهَا، وَكَانَ تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنَ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ مَا
ـــــــ
1 في ش: قوله.
2 في ش: تكشف.
3 في ش: سعد.
4 في م: ويسنه.
5 من ش.(4/50)
يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ }:
فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنَ المِلَلِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ؛ وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى، وَالْآخَرُ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1:
"إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَر" .
وَقِيلَ: إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى2: {إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } :
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ، وَلَقَالَ: انْصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى: {وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّا هُ } :
يَعْنِي أَيْقَنَ. وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله
ـــــــ
1 ليس في م، ش.
2 من ش.(4/51)
تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ} [التوبة: 118].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ}:
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قِيلَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمُ الوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُد، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا، فَفَرَّتْ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ، وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ؟
قُلْنَا: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ مِنَ النَّظْرَةِ1 وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ.
ـــــــ
1 في ش: النظر.(4/52)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ، وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ؛ وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ، وَيَكْفِيهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا، وَهَذَا بَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } :
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَمْ لَا؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ، وَنَزَلَ فَسَجَدَ" . وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد.
وَفِي " الْبُخَارِيِّ" وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ: ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيهَا.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ(4/53)
يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ، وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ مَعَهُ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا.(4/54)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ
قَوْله تَعَالَى : {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ وَصَّى اللَّهُ فِيهِ دَاوُد؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطْلُبْ امْرَأَةَ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِهَا بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجِهَا وَإِتْمَامِ عِدَّتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَبْعُدُ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ؛ فَلِهَذَا ذُكِّرَ وَعَلَيْهِ عُوتِبَ وَبِهِ وُعِظَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {خَلِيفَةً} :
قَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَةَ وَمَعْنَاهَا لُغَةً، وَهُوَ قِيَامُ الشَّيْءِ مَقَامَ الشَّيْءِ؛ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْخَلْقِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
"إنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" وَعَلَى الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقَوْله تَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] وَالْخُلَفَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ:
أَوَّلُهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَآخِرُهُمْ الْعَبْدُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" . بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَا يُمْكِنُهُ تُوَلِّي كُلِّ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الاسْتِنَابَةِ، وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ:
أَوَّلُهَا الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْبِلَادِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَإِنْ قَدَّمَهُ وَعَيَّنَهُ فِي مَنْشُورِهِ وَقَفَ نَظَرُهُ حَيْثُ خُصَّ بِهِ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ فَكُلُّ مَا فِي الْمِصْرِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:(4/54)
الْأَوَّلُ الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ يَقْضِي، فَإِذَا قَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحُكْمِ بَيْنِ الْخَلْقِ كَانَ لَهُ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حَيْثُ تَزْدَحِمُ أَهْوَاؤُهُمْ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النَّفْسِ، وَالْعِرْضِ، وَالْمَالِ، يَفْصِلُ فِيمَا تَنَازَعَهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ مَنْ يُؤْذِيهِمْ، وَيَحْفَظُ مِنَ الضَّيَاعِ أَمْوَالَهُمْ بِالْجِبَايَةِ إنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً، وَبِتَفْرِيقِهَا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ، وَيَكُفُّ الظَّالِمَ عَنِ المَظْلُومِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوَدُ الْجُيُوشِ، وَتَدْبِيرُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ الثَّالِثُ.
وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَحْصُرَ وِلَايَاتِ الشَّرْعِ فَجَمَعَهَا فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً، وَهِيَ: الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ، وَالْوَزَارَةُ، وَالْإِمَارَةُ فِي الْجِهَادِ، وَوِلَايَةُ حُدُودِ الْمَصَالِحِ، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَوِلَايَةُ الْمَظَالِمِ، وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَفِ، وَالصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالصَّدَقَاتُ، وَقَسَمُ الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ، وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْمَوَاتُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْحِمَى، وَالْإِقْطَاعُ، وَالدِّيوَانُ، وَالْحِسْبَةُ.
فَأَمَّا وِلَايَةُ الْخِلَافَةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا الْوَزَارَةُ فَهِيَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ يُشَاوِرُهُ الْخَلِيفَةُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ مِنَ الأُمُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29- 31] فَلَوْ سَكَتَ هَاهُنَا كَانَتْ وَزَارَةَ مَشُورَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَأَدَّبَ مَعَ أَخِيهِ لِسِنِّهِ وَفَضْلِهِ وَحِلْمِهِ وَصَبْرِهِ فَقَالَ: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32]، فَسَأَلَ وَزَارَةَ مُشَارَكَةٍ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ:
"وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" .
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ أَمَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَقَسَّمُوا الْغَنِيمَةَ فِيهَا، فَدَخَلَتْ إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَلِلْوَالِي أَنْ يُفْرِدَهُمَا.
وَأَمَّا حُدُودُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الرِّدَّةُ، وَقَطْعُ السَّبِيلِ، وَالْبَغْيُ؛ فَأَمَّا الرِّدَّةُ وَالْقَطْعُ لِلسَّبِيلِ فَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِبِلِ حَتَّى صَحُّوا، فَقَتَلُوا1 الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ مُرْتَدِّينَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آثَارِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ
ـــــــ
1 في ش: فعلوا.(4/55)
فَقَتَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَلَ1 أَعْيُنَهُمْ كَمَا فَعَلُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَ شَرْحُ الْحَدِيثِ . وَاسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَ حَرْبِ الرِّدَّةِ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى يَدَيْهِ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
وَأَمَّا قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَدْ نَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ.
وَقَالَ: "لا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ" وَشُرُوطُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ. وَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَهُ مِنْ وُلَاتِهِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلَايَةٌ غَرِيبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنَ الوُلَاةِ، لِفَسَادِ الْوِلَايَةِ وَفَسَادِ النَّاسِ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ حُكْمٍ يَعْجَزُ عَنْهُ الْقَاضِي فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ2 إذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ أَوْ قَوِيَّيْنِ وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلَايَةِ كَظُلْمِ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فَهَذَا مِمَّا نُصِّبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسُهُمْ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَرَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ ابْنِ إدْرِيسَ، ثُمَّ جَلَسَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ؛ إذْ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْوُلَاةِ وَالْعُتَاةِ الَّذِينَ3 تَعْجَزُ عَنْهُمْ الْقُضَاةُ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً، فَصَارَ بَنُو الْعَبَّاسِ يَجْلِسُونَ لَهَا، وَفِي قِصَّةٍ دَارِسَةٍ عَلَى أَنَّهَا فِي أَصْلِ وَضْعِهَا دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْوُلَاةَ أَضْعَفُوا الْخُطَّةَ الْقَضَوِيَّةِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ ضَعْفِ الرَّعِيَّةِ، لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ، فَيَقْعُدُوا عَنْهُمْ، فَتَبْقَى الْمَظَالِمُ بِحَالِهَا.
وَأَمَّا وِلَايَةُ النِّقَابَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ الدَّعَاوَى فِي الْأَنْسَابِ الْهَاشِمِيَّةِ، لِاسْتِيلَائِهَا عَلَى الدَّوْلَةِ، نَصَّبَ الْوُلَاةُ قَوْمًا يَحْفَظُونَ الْأَنْسَابَ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْهَا، ثُمَّ زَادَتْ الْحَالُ فَسَادًا، فَجَعَلُوا إلَيْهِمْ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، فَرَدُّوهُمْ لِقَاضٍ مِنْهُمْ لِئَلَّا تَمْتَهِنَهُمُ القُضَاةُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَهِيَ بِدْعِيَّةٌ تُنَافِي الشَّرْعِيَّةَ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّلَاةِ فَهِيَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا وَفَرْعٌ لِلْإِمَارَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهِ، وَلَمَّا فَسَدَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تُرْضَى حَالُهُ لِلْإِمَامَةِ بَقِيَتْ الْوِلَايَةُ فِي يَدِهِ
ـــــــ
1 سمل عينه: فقأها.
2 في ش: الشارع.
3 في ش: والذين.(4/56)
بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ يَرْضَى؛ سِيَاسَةً مِنْهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ، حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ، يَتَحَرَّجُ1 أَهْلُ الْفَضْلِ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْأَبْوَابِ؛ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِسِيَاطِ الْحَرَسِ، فَيَضْرِبُونَ لَهَا حَتَّى يَفِرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ المَسْجِدِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، بَلْ يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَفِي إعَادَةِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَجِّ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِبِلَادِ الْحَجِّ. وَأَوَّلُ أَمِيرٍ بَعَثَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، بَعَثَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَرْسَلَهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ عَلِيًّا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّدَقَةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّدَقَاتِ كَثِيرًا.
أَمَّا وَضْعُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ وَأَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، فَأَمَرَ عَلَيْهِمُ العَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ التَّقْرِيرُ2 لِخَلِيفَةٍ لَجَازَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُقَرِّرُهُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ بَعَثَ إلَى الْعِرَاقِ عُمَّالَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِمِسَاحَةِ الْأَرْضِ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا مَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَدُورِهَا، وَفِي الْمَدِينَةِ وَحَرَمِهَا، وَفِيمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ فِيهَا، وَأَحْوَالِ الْبِلَادِ فِيمَا فُتِحَ مِنْهَا عَنْوَةً وَصُلْحًا وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ3 فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ فِي تَمَلُّكِهِ مِنَ الأَمْوَالِ، وَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يُذْكَرَ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ؛ وَكَذَلِكَ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ حُكْمٌ مِنَ الأَحْكَامِ، وَلَيْسَ مِنَ الوِلَايَاتِ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِمَى وَالْإِقْطَاعِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَأَوَّلُ مَنْ وَلَّى فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَوْلَاهُ أَبَا أُسَامَةَ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ، وَوَلَّى عُمَرُ عَلَى حِمَى السَّرِفِ4 مَوْلَاهُ يَرْفَأُ، وَقَالَ: اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنِ النَّاسِ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ5 ، وَإِيَّايَ وَغَنَمَ ابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَك، فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَهْوَنُ6
ـــــــ
1 في ش: تحرج.
2 في ش: التقدير.
3 في ش: أحكام الشريعة.
4 في "معجم البلدان"، وفي "موطأ مالك"في ش: الشرف – بالشين المعجمة وفتح الراء.
5 أدخل رب الصريمة والغنيمة، يعني في الحمى والمرعى، يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة "النهاية".
6 في أ: أمن.(4/57)
علَيَّ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا.
وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَهُوَ بَابٌ مِنَ الأَحْكَامِ.
فَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَزْنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ، وَبَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الدِّيوَانِ فَهِيَ الْكِتَابَةُ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتَّابٌ وَلِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَهِيَ ضَبْطُ الْجُيُوشِ بِمَعْرِفَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَالْأَمْوَالُ لِتَحْصِيلِ فَوَائِدِهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُدُودِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَنَاوُلُ إيجَابِهَا، وَذَلِكَ لِلْقُضَاةِ؛ وَتَنَاوُلُ اسْتِيفَائِهَا، وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْوِلَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ، وَهِيَ الْأَبْدَانُ؛ فَلِنَقِيصَةِ النَّاسِ وَدَحْضِهِمْ بِالذُّنُوبِ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ بِأَنْ جَعَلَهَا فِي أَيْدِي الْأَدْنِيَاءِ وَالْأَوْضَاعِ بَيْنَ الْخَلْقِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ؛ وَأَصْلُهَا أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وَلِكَثْرَةِ ذَلِكَ رَأَى الْأُمَرَاءُ أَنْ يَجْعَلُوهَا إلَى رَجُلٍ يَتَفَقَّدُهَا فِي الْأَحْيَانِ مِنَ السَّاعَاتِ؛ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ لِلْجَمِيعِ، وَيُرْشِدُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ، وَيَمُنُّ بِتَوْبَةٍ تُعِيدُ الْأَمْرَ إلَى أَهْلِهِ، وَتُوسِعُنَا مَا نُؤَمِّلُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.(4/58)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْ1 الْمُطَّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأُمُّ أَيْمَنَ وَغَيْرُهُمْ، وَيَقُولُ: أَمْ نَجْعَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي مِنْ بَنِي
ـــــــ
1 في أ: ابن .(4/58)
عَبْدِ شَمْسٍ؛ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْعَاصِي بْنُ1 أُمَيَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} :
يَعْنِي الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْآخِرَةِ كَالْفُجَّارِ يَعْنِي مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ، رُءُوسًا بِرُءُوسٍ وَأَذْنَابًا بِأَذْنَابٍ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْمُفْسِدِينَ الْفُجَّارَ فِي النَّارِ؛ وَلَا مُسَاوَاةَ أَيْضًا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مَعْصُومُونَ دَمًا وَعِرْضًا، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَالْفُجَّارَ فِي النَّارِ مُبَاحُو الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْمُفْسِدِينَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَوَقَعَتْ فِي الْفِقْهِ نَوَازِلُ مِنْهَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَمِنْهَا إذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إخْرَاجَهُ عَنِ البُنْيَانِ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا؟
وَمِنْهَا إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ2 الَّذِي اشْتَرَى فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَزِنُ الثَّمَنَ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ3 رَجُلٌ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلِذَلِكَ4 قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطِي الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ بِنَائِهِ فِي الشِّقْصِ مَنْقُوضًا مُسَاوِيًا لَهُ بِالْغَاصِبِ. وَقَالَهُ5 ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْقَلِيلَ. يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، لِأَنَّهُ بَنَاهُ بِحَقٍّ وَتَقْوَى
ـــــــ
1 في أ: ابني.
2 الشقص: النصيب.
3 في ش: أرض.
4 في ش: وكذلك.
5 وردت هذه الفقرة في ش كما يأتي: وقاله ابن القاسم وغيره. وقاله كثير من العلماء: يعطيه قيمة بنائه قائماً لأنه عمل صالحاً وبنى بتقوى الله فلا يجعل كالفاجر الظالم الغاصب الذي بنى في أرض مغصوبة؛ فإنه يعطي قيمته منقوضاً، وكذلك قال أبو حنيفة: يعطي الشفيع للمشتري قيمة بنائه في الشقص منقوضا.(4/59)
َصَلَاحٍ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ، وَإِنْ كَانَ يُقْتَلُ بِمُسْلِمٍ مِثْلِهِ، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَامٌّ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ، أَمَّا أَنَّهُ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَعْيَانِ هَذِهِ الْفُرُوعِ فَتَفْصِيلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ هَاهُنَا فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.(4/60)
لْآيَةُ الثَّامِنَةُ
قَوْله تَعَالَى : {إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {بِالْعَشِيِّ} :
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ، كَمَا أَنَّ الْغَدَاةَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} :
يَعْنِي الَّتِي وَقَفَتْ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَذَلِكَ لِعِتْقِهَا، فَإِذَا ثَنَى الْفَرَسُ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى كَرَمِهِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَرِبَ وَلَمْ يَثْنِ سُنْبُكُهُ1 دَلَّ أَيْضًا عَلَى كَرَمِهِ، وَمِنْ الْغَرِيبِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا يَعْنِي يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ.
وَمِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ تَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَدْ يُقَالُ صَفَنَ2 لِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ، وَالْمَصْدَرُ صُفُونًا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يُزَالُ كَأَنَّهُ ...
مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرًا
ـــــــ
1 السنبك: طرف الحافر "القاموس".
2 في "اللسان": صفن يصفن – بكسر الفاء في المضارع: صف قدميه. وخيل صفون كقاعد وقعود، وأنشد ابن الأعرابي في صفة فرس، وذكر البيت الآتي [مادة صفن].
3 "ديوانه": [316]، و"اللسان" – مادة الكفر. وألقت يداً: بدأت في المغيب. وعنى بالكافر الليل، لأنه يستر بظلمته. وأجن: ستر. وكل مكان يتخوف منه فهو ثغر.(4/60)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالثة الْجِيَادُ هِيَ الْخَيْلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ بِرَدِيءٍ يُقَالُ لَهُ جَيِّدٌ، وَدَابَّةٌ جَيِّدَةٌ وَجِيَادٌ مِثْلُ سَوْطٍ وَسِيَاطٍ؛ عُرِضَتْ الْخَيْلُ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَشَغَلَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الْعَشِيِّ بِظَاهِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ الْعَصْرُ.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ حَدِيثًا:
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَتْ سُلَيْمَانَ" ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ.
وَقِيلَ: كَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ وَرِثَهَا مِنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَصَابَهَا مِنَ العَمَالِقَةِ، وَكَانَ لَهُ مَيْدَانٌ مُسْتَدِيرٌ يُسَابِقُ بَيْنَهَا فِيهِ، فَنَظَرَ فِيهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ خَلْفَ الْحِجَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَحْجُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَا غَيْرُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ أَرَادَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، وَغَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ فِي الْمُسَابَقَةِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {بِالْعَشِيِّ} ، كَمَا تَقُولُ: سِرْت بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَابَتْ يَعْنِي الشَّمْسَ، وَتَرَكَهَا لِدَلَالَةِ السَّامِعِ لَهَا عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهَا، وَتَعَلَّقَ بِذِكْرِهَا؛ وَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ أَمْرٌ مُرْتَبِطٌ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ، فَذِكْرُهُ ذِكْرٌ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ:
حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَالَ: {إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32] يَعْنِي الْخَيْلَ، وَسَمَّاهَا خَيْرًا لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ بِتَسْمِيَةِ الشَّارِعِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: {إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْلِ} بِالتَّصْرِيحِ بِالتَّفْسِيرِ؛ قَالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا} [ص:33] بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا، فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا مَسْحُهَا بِيَدِهِ إكْرَامًا لَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ عَنْ فَرَسِهِ عَرَقَهُ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ: "إنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ" .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسُّيُوفِ عَرْقَبَةً، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا بِهَا حِينَ كَانَ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِ بِهَا عَنِ الصَّلَاةِ.(4/61)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَتَلَهَا، وَهِيَ خَيْلُ الْجِهَادِ؟
قُلْنَا: رَأَى أَنْ يَذْبَحَهَا لِلْأَكْلِ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا.
فَكَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا تُشْغِلَهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ أَمْثَالَهُ؛ أَلَا تَرَى إلَى سُلَيْمَانَ كَيْفَ أَتْلَفَ الْخَيْلَ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ.
وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ وَهِمَ فَقَالَ: وَسَمَهَا بِالْكَيِّ، وَسَبَّلَهَا1 فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ السُّوقُ مَحَلًّا لِلْوَسْمِ بِحَالٍ.(4/62)
قال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ}
...
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ الْمُلْكَ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الدُّنْيَا؟
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَهُ لِيُقِيمَ فِيهِ الْحَقَّ، وَيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّ ي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ مَنَعَ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ غَيْرُهُ؟
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِيهِ أَجْوِبَةٌ سَبْعَةٌ:
الْأَوَّلُ إنَّمَا سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لَهُ فِي قَوْمِهِ وَآيَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ.
__________
1 سبلها: جعلها في سبيل الله.(4/62)
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي.
الثَّالِثُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ.
الرَّابِعُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنَ المُلُوكِ، وَلَمْ يُرِدْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ.
الْخَامِسُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَنَاعَةَ.
السَّادِسُ أَنَّهُ أَرَادَ مُلْكَهُ لِنَفْسِهِ.
السَّابِعُ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ إيَّاهُ لِيَفْضُلَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ لِمَنَاطِ الْأَقْوَالِ:
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِفَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْجِزَةِ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي، فَإِنَّمَا أَرَادَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَدَّعِيَهُ بَاطِلًا؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ، وَحَكَمَ فِي الْخَلْقِ عَلَى لِسَانِهِ، حَسْبَمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ. وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْخَلْقِ بِصُورَةِ الْحَقِّ، مَكْشُوفًا إلَى النَّاسِ: بِمَرْأًى مِنْهُمْ؛ حَتَّى يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي حَقٍّ، وَهُمْ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي بَاطِلٍ؛ وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَوَهَبَ مِنَ المَعْرِفَةِ وَالدِّينِ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مَا يَزَعُهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُخَلِّدَهُ فِي دِيوَانٍ مِنْ بَعْدَهُ، حَتَّى يُضِلَّ بِهِ غَيْرَهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ جَاءَ بِقَوْلِهِ: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فِي سَعَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلْقَوْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ.
أَمَّا وَقَدْ جَاءَ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالَّةِ مَحَلَّ الصِّفَةِ لِمَا سَبَقَ قَبْلَهَا مِنَ القَوْلِ فَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِهَذَا لِتَنَاقُضِ الْمَعْنَى فِيهِ وَخُرُوجِ ذَلِكَ عَنِ القَانُونِ الْعَرَبِيِّ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنَ المُلُوكِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا قَوْلٌ قَلِيلٌ الْفَائِدَةِ جِدًّا؛ إذْ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا وَيَقِينًا هُوَ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَعَهُ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ، لَا بِالسُّؤَالِ، وَلَا مَعَ ابْتِدَاءِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى دَرَجَةٍ مِنَ الزُّهْدِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ لَا مَلِكٌ، فَأَرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ لَا يُؤْتَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ فَضْلِهِ لَا يَسْأَلُهُ، لِأَنَّهُ نَبِيٌّ عَبْدٌ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ مَلِكٍ، فَحِينَئِذٍ أَقْدَمَ عَلَى السُّؤَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَمَاثِلٌ وَيُشْبِهُ أَنْ(4/63)
َكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَذِنَ1 لَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ بِسُؤَالِهِ، كَمَا غَفَرَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " الصَّحِيحِ" 2 عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ 3 عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى [جَنْبِ]4 سَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}. فَأَرْسَلْته، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَصْبَحَ يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ" .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدُعَائِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَشْرُوعٌ؛ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ.
ـــــــ
1 في أ: آذنه.
2 "صحيح مسلم": [384].
3 هكذا في الأصول، وفي "صحيح مسلم": يفتك. والفتك هو الأخذ في غفلة وخديعة.
4 من "مسلم".(4/64)
قال تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ}
...
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ حَلِفِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّخَذَ إبْلِيسُ تَابُوتًا، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ يُدَاوِي النَّاسَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةَ أَيُّوبَ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنَّ هَاهُنَا إنْسَانًا مُبْتَلًى فِي أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ لَك أَنْ تُدَاوِيَهُ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ، عَلَى أَنِّي إنْ شَفَيْته يَقُولُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: أَنْتَ شَفَيْتنِي، لَا أُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَهَا.
فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ، فَقَالَ: وَيْحُك، ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك مِائَةَ جَلْدَةٍ. فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ، وَقَدْ(4/64)
كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا، فَبَاعَتْ ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ، فَقَالَ مَا قَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا:
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا بِالنَّكَرَةِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
قَالَ الْقَاضِي: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" .
وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، وَعِمَادُ الْأَعْمَالِ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ .
وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ جَلَدْتُك. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ التَّأْوِيلِ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ الدَّلِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} :
يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنْهُ نَذْرًا لَا يَمِينًا، وَإِذَا كَانَ النَّذْرُ مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ نَذْرٍ كَفَّارَةٌ، وَهَلْ مَخْرَجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْإِجْمَالِ؟(4/65)
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ:
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قَالَ: "سَأَلَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْت: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ، وَالتَّعْقِيبُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ 1.
قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْت: إفْشَاءُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
وَقِيلَ: خُصُومَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [ البقرة: 30].
هَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ؛ وَهُوَ حَسَنٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْت مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْت: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: أَيْ رَبِّ فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْت: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ [وَمَاتَ بِخَيْرٍ]2، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ صَحِيحًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: احْتَبَسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ3 بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجَوَّزَ فِي
ـــــــ
1 السبرات – جمع سبرة، بسكون الباء: شدة البرد. والتعقيب في المساجد: بانتظار الصلاة بعد الصلاة "النهاية".
2 من ش.
3 التثويب: الدعاء إلى الصلاة، أو تثنية الدعاء والإقامة "القاموس".(4/66)
صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَنَا: "عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ "، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْنَا ثُمَّ قَالَ: "أَمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ: إنِّي قُمْت فِي اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْت فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْت، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْت: لَبَّيْكَ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: مَا أَدْرِي ثَلَاثًا. قَالَ: فَرَأَيْته وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْت. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْت: لَبَّيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْت مَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ: وَمَا الْحَسَنَاتُ؟ قُلْت: إطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ .
قَالَ: سَلْ. قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ. وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْت فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُك حُبَّك وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّك، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلَى حُبِّك". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا" .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَشْيَ فِيمَا قَرُبَ مِنَ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الرُّكُوبِ، فَأَمَّا كُلُّ مَا يُبْعِدُ فَيَكُونُ الْمَرْءُ بِكَلَالَهِ أَقَلَّ اجْتِهَادًا فِي الطَّاعَةِ فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ فِيهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّاجِلِ لِأَجْلِ غَنَائِهِ؛ وَهَذَا فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ، إذْ1 الْعَمَلُ مَا كَانَ أَخْلَصَ وَأَبَرَّ كَانَ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالرَّاحَةِ أَفْضَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَضِيلَةِ وَكَمِّيَّتِهَا فَيَجْتَهِدُونَ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ أَفْضَلُ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا وَلَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؛ وَإِنَّمَا طَلَبُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فَغُيِّبَتْ عَنْهُمْ حِكْمَتُهُ.
ـــــــ
1 في ش: إن.(4/67)
ْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ:
قَوْله تَعَالَى : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بِنَاءُ "ك ل ف" فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، وَقَدْ غَلِطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَكُلُّ إلْزَامٍ مَشَقَّةٌ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ(4/67)
مَشَقَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَعْنَى مَا أُلْزِمُ نَفْسِي مَا لَا يَلْزَمُنِي، وَلَا أُلْزِمُكُمْ مَا لَا يَلْزَمُكُمْ، وَمَا جِئْتُكُمْ بِاخْتِيَارِي دُونَ أَنْ أُرْسِلْت إلَيْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ هَارُونَ الْبَلَدِيُّ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَسَارَ لَيْلًا، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ1 لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، وَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا2 مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ".
وَهَذَا بَيَانُ سُؤَالٍ عَنْ وُرُودِ الْحَوْضِ السِّبَاعُ، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا غَالِبًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى حَالِ الْمَاءِ فِي لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَكْسِبُهُ فِي دِينِهِ شَكًّا أَوْ إشْكَالًا فِي عَمَلِهِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا لَكُمْ: إذَا جَاءَ السَّائِلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَوَجَدْتُمْ لَهُ مَخْلَصًا فِيهَا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَخْلَصًا فَحِينَئِذٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تَصَرُّفِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّتِهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 المقراة: الحوض الذي يجتمع فيه الماء.
2 في ش: ذلك.(4/68)
سُورَةُ الزُّمَرِ
قَوْله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}
...
39- سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ؛ وَأَعْظَمُهُ الْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ شَطْرُ1 الْإِيمَانِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ اللَّذَيْنِ يَقُولَانِ: إنَّ الْوُضُوءَ يَكْفِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَا كَانَ لِيَكُونَ مِنَ الإِيمَانِ شَطْرُهُ، وَلَا لِيُخْرِجَ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ الْأَظَافِرِ وَالشَّعْرِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
ـــــــ
1 في أ: شرط.
2 في أ: الإيمان، والمثبت من ش.(4/69)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ.
قَالَ الْقَاضِي: الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ مِنْ تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ(4/69)
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ1 نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنِ الاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ، فَقَالَ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنَ الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنِ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى حَثْيًا، وَيُغْرَفُ غَرْفًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في ش: كف .
2 "أسباب النزول" 147. والواحدي. 210.(4/70)
قال تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ}
...
لْآيَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْله تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ}. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا بُعِثَ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ وَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَحْسَنِ مَا كَانَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ، فَلَا جَرَمَ قَادَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْجَنَّةِ. أَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ فَلَهُ مَا نَوَى مِنَ الجَنَّةِ، وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ وَسَلْمَانُ فَتَدَارَكَتْهُمْ3 الْعِنَايَةُ، وَنَالُوا الْهِدَايَةَ، وَأَسْلَمُوا، وَصَارُوا فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: الْأَصْنَامُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُوَ فَلَعُوتٌ4 مَنْ طَغَى؛ إذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَدَخَلَ فِي قِسْمِ
ـــــــ
3 هكذا في الأصول.
4 "القاموس" و"اللسان" طغى.(4/70)
الْمَذْمُومِ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتَّخَذَتْ فِي الْكَعْبَةِ1 طَوَاغِيتَ، وَهِيَ سِتُّونَ، كَانَتْ تُعَظِّمُهَا بِتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، وَتُهْدَى إلَيْهَا كَمَا تُهْدَى إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَكَانَتْ تَطُوفُ بِهَا، وَتَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ: كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ فَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ وَهِيَ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إنَّهُ يَأْتِي شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ النَّاسَ"، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمُضِلَّةِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَقْصِدَ مَسْجِدًا، وَلَا يُعَظِّمَ بُقْعَةً إلَّا الْبِقَاعَ الثَّلَاثَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَكَّةَ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى".
وَقَدْ سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ يَقْصِدُوا الرُّبُطَ، وَيَمْشُوا إلَى الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا، وَهِيَ بِدْعَةٌ مَا جَاءَ النَّبِيُّ بِهَا إلَّا مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، لَا لِأَجْلِ الْمَسْجِدِيَّةِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِافْتِقَادِ لِأَهْلِهِ، وَالتَّطْيِيبِ لِقُلُوبِهِمْ، وَالْإِحْسَانِ بِالْأُلْفَةِ إلَيْهِمْ.
ـــــــ
2 في ش: لأن.(4/71)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ
قَوْله تَعَالَى : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ حَالِ الْإِحْبَاطِ بِالرِّدَّةِ، وَسَنَزِيدُهُ هَاهُنَا بَيَانًا، فَنَقُولُ:
هَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ، وَكَيْفَمَا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّ2 الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ كَيْفَ كَانَ، وَلَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ يُحْبَطُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ؛ إذْ لَا عَمَلَ إلَّا بَعْدَ أَصْلِ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ مَعْنًى يَكُونُ بِهِ الْمَحَلُّ أَصْلًا لِلْعَمَلِ لَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ، كَمَا تَخَيَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْفَرْعِ؛ إذْ الشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ فَلَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً؛ إذْ فِيهِ قَلْبُ الْحَالِ وَعَكْسُ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
ـــــــ
2 في ش: لأن.(4/71)
وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَاسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ إذَا أَسْلَمَ، وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَكْفُرْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَالْإِسْلَامُ وَالْهِجْرَةُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا بِاعْتِقَادٍ عَامٍّ عَلَى الْأَزْمَانِ، مُتَّصِلٍ بِتَأْبِيدِ الْأَبَدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَإِنْ1 أُفْسِدَ فَسَدَ جَمِيعُهُ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ.
ـــــــ
1 في ش: وإذا فسد.(4/72)
40- سُورَةُ الْمُؤْمِنِ 1 فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنَ ال فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [المؤمن: 28].
ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا كَتَمَ إيمَانَهُ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ لِسَانُهُ [أَنَّهُ]2 لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاعْتِقَادِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ طَلَاقَ زَوْجِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ، فَجَعَلَ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ. وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَلَفَّظ3 بِلِسَانِهِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى4 الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ [فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا]5 فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْمَعَهُ الْغَيْرُ فِي صِحَّتِ
ـــــــ
1 في ش: سورة غافر، وهو سورة المؤمن.
2 من ش.
3 في أ: بلفظ.
4 في ش: ولا ما إذا.
5 ليس في ش.
هِ مِنَ التَّكْلِيفِ؛ إنَّمَا يُشْتَرَطُ سَمَاعُ الْغَيْرِ لَهُ لِيَكُفَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ.(4/73)
الْآيَتَانِ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمن: 79، 80].
قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْأَنْعَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ؛ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَلْحَظْهُ فِي مَوْضِعِهِ.(4/73)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}
...
41 - سُورَةُ فُصِّلَتْ
فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: يَعْنِي شَدَائِدَ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ " وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّحْسَ الْغُبَارُ، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ نَحْسًا لَكَانَ أَقَلَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَحْسٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مُتَتَابِعَاتٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ لَفْظِ قَوْله تَعَالَى: { نَحِسَاتٍ}. وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّتَابُعُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7].
المسألة الثَّانِيَةُ: قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ آخِرَ شَوَّالٍ مِنَ الأَرْبِعَاءِ إلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَالنَّاسُ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لَقِيت يَوْمًا مَعَ خَالِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ رَجُلًا مِنَ الكتاب فَوَدَّعْنَاهُ1 بِنِيَّةِ السَّفَرِ، فَلَمَّا فَارَقَنَا قَالَ لِي خَالِي: إنَّك لَا تَرَاهُ أَبَدًا لِأَنَّهُ سَافَرَ يَوْمَ أَرْبِعَاءٍ لَا يَتَكَرَّرُ، وَكَذَلِكَ كَانَ: مَاتَ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا مَا لَا أَرَاهُ، فَإِنَّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ عَجِيبٌ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الخَلْقِ فِيهِ، وَالتَّرْتِيبِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ السَّبْتِ التُّرْبَةَ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ الْجِبَالَ، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ الشَّجَرَ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْمَكْرُوهَ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ النُّورَ، وَرُوِيَ: "النُّونُ".
وَفِي الْحَدِيثِ2: "إنَّهُ خَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ غُرَّةَ التِّقْنِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُتْقِنَ بِهِ الْأَشْيَاءُ" ،
ـــــــ
1 في ش: فودعاه.
2 في ش: وفي غريب الحديث.(4/74)
يَعْنِي الْمَعَادِنَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ فَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْمَكْرُوهَ لَا يَعَافُهُ النَّاسُ، وَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ النُّورَ أَوْ التِّقْنَ يَعَافُونَهُ، إنَّ هَذَا لَهُوَ الْجَهْلُ الْمُبِينُ.
وَفِي الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى الْأَحْزَابِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وَهِيَ سَاعَةٌ فَاضِلَةٌ؛ فَالْآثَارُ الصِّحَاحُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَكَيْفَ يُدَّعَى فِيهِ تَغْرِيرُ 1 النَّحْسِ بِأَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا، وَقَدْ صَوَّرَ قَوْمٌ أَيَّامًا مِنَ الأَشْهُرِ الشَّمْسِيَّةِ ادَّعَوْا فِيهَا الْكَرَامَةَ؛ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، وَلَا يَشْتَغِلَ بِآلَاتِهَا، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُمْ
ـــــــ
1 في ش: التعزير والنحس.(4/75)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى: { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}:
يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؛ إذْ لَا يَتِمُّ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ إلَّا بِالْآخَرِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}:
اسْتِفْعَالٌ، مِنْ قَامَ يَعْنِي دَامَ وَاسْتَمَرَّ وَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتَقَامُوا عَلَى قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا.
الثَّانِي: اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لَازِمٌ، مُرَادٌ بِالْقَوْلِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مِفْتَاحٌ لَهُ أَسْنَانٌ، فَمَنْ جَاءَ بِالْمِفْتَاحِ وَأَسْنَانِهِ فُتِحَ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ} :
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَا أَقُولُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَآكَدُ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَحِينَ الْقَبْرِ، وَيَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا.(4/75)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَهَذَا ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ1 فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ، وَيَدْخُلُ فِيهَا2 أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْإِيمَانِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا}:
قَالُوا: هِيَ الصَّلَاةُ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: { وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}:
وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ، وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}:
ـــــــ
1 في ش: له.
2 في ش: فيه.(4/76)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
...
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَهَذَا ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ1 فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ، وَيَدْخُلُ فِيهَا2 أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْإِيمَانِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} :
قَالُوا: هِيَ الصَّلَاةُ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: {وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}:
وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ، وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ }:
ـــــــ
1 في ش: له.
2 في ش: فيه.(4/76)
لْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [ فصلت: 34].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ؛ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ. وَقِيلَ لَهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
المسألة الثَّانِيَةُ : اُخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَهُ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ.
الثَّانِي الْمُصَافَحَةُ، وَفِي الْأَثَرِ: "تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ".
وَإِنْ لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا.
فَقَالَ سُفْيَانُ: قَدْ صَافَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الحَبَشَةِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخُصُّنَا، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا.
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: هَلْ كَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا".(4/77)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَاَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 37، 38].
وَهَذِهِ آيَةُ سُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: مَوْضِعُهُ: { كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ: مَوْضِعُهُ {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَغَايَةُ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِثَالِ.
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدَانِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {يَسْأَمُونَ}.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اُسْجُدُوا بِالْآخِرَةِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مَسْرُوقٍ2، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ؛ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ، وَقَتَادَةُ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {يَسْأَمُونَ} ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ.
ـــــــ
.
2 في ش: ابن مسعود.(4/78)
قَوْله تَعَالَى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ } [فصلت:44].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:(4/78)
43- سُورَةُ الشُّورَى
فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ
الْآيَة الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَشْهُورِ الْكَبِيرِ1: "وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ".
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا بَنُوهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ، وَأَخَذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إلَى نُوحٍ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَظَّفَ2 عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ، وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، شَرِيعَةً بَعْدَ شَرِيعَةٍ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ مِلَّتِنَا، عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّ3 الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَاك يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ4 ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّزَلُّفُ إلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إلَيْهِ، وَالصِّدْقُ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءُ
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في ش: وأوضح.
3 في ش: فإن.
4 في ش: الشرائع.(4/80)
الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا كَانَ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءَاتِ، وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءَاتِ. فَهَذَا كُلُّهُ شُرِعَ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا، مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، وَلَا اضْطِرَابٍ عَلَيْهِ. فَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ بِهِ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِعُ وَرَاءَ هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ، مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ، وَأَوْجَبَتْ الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/81)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ سُبْحَانَ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} يُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا إنَّهُ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرِيضَةِ1 الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةَ عَلَيْهِ2 مِنْ حَرْثِ الْآخِرَةِ، وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا؛ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
ـــــــ
1 في ش: عن فرضه الموظف.
2 ليس في ش.(4/81)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}
...
َوْله تَعَالَى : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى:32].
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رُكُوبِ الْبَحْرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ.(4/81)
لْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].(4/81)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنِ الجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ؛ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى حَالَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ. وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةَ، أَوْ يَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ، وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ، فَالْعَفْوُ هَاهُنَا أَفْضَلُ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. وَقَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ السُّدِّيُّ: إنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنْ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ(4/83)
بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَعَلَ بِهِ يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]؛ فَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهِيَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ.(4/84)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ1
قَوْله تَعَالَى : {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي "بَرَاءَةٌ"، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]؛ فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ، وَاسْتَوْفَى بَيَانَ الْقِسْمَيْنِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا. فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ. فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ، وَلَا فَاءَ لَهُ. قَالَ2: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وَلَيْسَ كُلَّمَا قَالَ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتْبَعُ. فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْأَوَّلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}، وَيَقُولُ تَعَالَى: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ فِي المسألة ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَالثَّانِي: يُحَلِّلُهُ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.
الثَّالِثُ إنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ.
ـــــــ
1 من ش.
2 في ش: فقال.(4/84)
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ؛ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ [كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعَرْضَهُ]1.
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غُلِبَ عَلَى حَقِّك فَمِنْ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ، وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "2 ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْت أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ3 صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ4 مِنْ صُحُفٍ5 وَعَلَى أَبِي الْيُسْرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ6، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَيْ عَمُّ؛ أَرَى فِي وَجْهِك سُفْعَةً7 مِنْ غَضَبٍ. فَقَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ دَيْنٌ8 ، فَأَتَيْت أَهْلَهُ فَسَلَّمْت، وَقُلْت: أَثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ9 ، قُلْت لَهُ: أَيْنَ أَبُوك، فَقَالَ: سَمِعَ صَوْتَك فَدَخَلَ أَرِيكَةَ10 أُمِّي، فَقُلْت: اُخْرُجْ إلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْت لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ اخْتَبَأْت مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ أُحَدِّثُك، ثُمَّ لَا أَكْذِبُك، خَشِيت وَاَللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَك فَأَكْذِبَك، وَأَعِدُك فَأُخْلِفُك، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت وَاَللَّهِ مُعْسِرًا. قَالَ: فَقُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ. قُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ، قَالَ: فَقُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ. قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ. قَالَ: إنْ وَجَدْت قَضَاءً فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ، وَرَجَاءِ التَّحَلُّلِ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مَحَالَةَ مَعَهُ، وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ!
ـــــــ
1 ساقط من ش.
2 "صحيح مسلم": صفحة [2301].
3 اسمه كعب بن عمرو.
4 ضمانة: رزمة يضم بعضها إلى بعض. وفي ش: إضمامة.
5 في ش: مصحف.
6 في أ: برد معافري والبردة: شملة مخططة. وقيل: كساء مربع فيه صغر يلبسه الأعراب وجمعه برد. المعافري: نوع من الثياب يعمل بقرية معافر. قيل: نسبة إلى قبيلة نزلت في تلك القرية.
7 في أ: شنعة والمثبت من ش، و"مسلم". والسفعة: العلامة والتغيير.
8 في "مسلم": مال.
9 جفر: الجفر هو الذي قارب البلوغ. وقيل هو الذي قوي على الأكل. وقيل: ابن خمسين.
10 أريكة أمي: الأريكة: كل ما اتكأت عليه.(4/85)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ :
قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا} يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ1 بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ إبْرَاهِيمُ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بِنْتٌ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ فَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنَ الأُنْثَى مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، مِنَ الأَوْلَادِ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبِ، وَالطَّاهِرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ؛ وَزَيْنَبَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَرُقَيَّةُ، وَفَاطِمَةَ؛ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ قَسَّمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى زَمَانِنَا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ، وَيَنْفُذُ الْوَعْدُ، وَيَحِقُّ الْأَمْرُ، وَتَعْمُرُ الدُّنْيَا، وَتَأْخُذُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَا يَمْلَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَبْقَى.
فَفِي الْحَدِيثِ: " إنَّ النَّارَ لَنْ تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولَ قَطُّ قَطُّ2 وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ".
المسألة الثَّانِيَةُ : إنَّ اللَّهَ لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ لَا عَنْ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ قُدُّوسٌ3 عَنِ الحَاجَاتِ، سَلَامٌ عَنِ الآفَاتِ، كَمَا قَالَ: { الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [الحشر: 23]، فَخَلَقَ آدَمَ مِنَ الأَرْضِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ
ـــــــ
1 في ش: فإن له بنات.
2 بمعنى: حسب، وتكرارها للتأكيد "النهاية".
3 قدوس: مطهر.(4/86)
مِنْ آدَمَ، وَخَلَقَ النَّشْأَةِ مِنْ بَيْنَهُمَا مِنْهُمَا، مُرَتَّبًا عَنِ الوَطْءِ كَائِنًا عَنِ الحَمْلِ، مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَا".
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا "إذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ".
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ. أُنْثَى تُشْبِهُ أَخْوَالَهَا. ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ. أُنْثَى تُشْبِهُ أَعْمَامَهَا. وَذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ بَيِّنٌ ظَاهِرُ التَّعَالُجِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَبَقَ : خَرَجَ مِنْ قَبْلُ، وَمَعْنَى عَلَا كَثُرَ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ، وَيُشْبِهُ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ كَثْرَةِ مَائِهِ أَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ مَائِهَا كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيُشْبِهُ أَخوَالَهَا لِأَنَّ مَاءَهَا1 عَلَا مَاءَ الرَّجُلِ وَكَاثَرَهُ.
وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ كَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ وَأَشْبَهَ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ بِحُكْمِ عُلُوِّ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَكَثْرَتِهِ. وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ وَأَعْلَى كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيُشْبِهُ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ مَاءِ الذَّكَرِ وَعُلُوِّهِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ. فَسُبْحَانَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَدْ كَانَتْ الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً ذَكَرًا وَأُنْثَى إلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى، فَأَتَى بِهِ فَرِيضُ2 الْعَرَبِ وَمُعَمِّرُهَا3 عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِ، وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَنَكَّرَ4 مَوْضِعَهُ، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّى وَيَتَقَلَّبُ. وَتَجِيءُ بِهِ الْأَفْكَارُ وَتَذْهَبُ إلَى أَنْ أَنْكَرَتْ الْأَمَةُ حَالَتَهُ، فَقَالَتْ: مَا بِك؟
ـــــــ
1 في أ: لأن ماء المرأة.
2 الفريض: العالم بالفرائض.
3 في أ: ومعتمدها.
4 في ش: ننكر.(4/87)
قَالَ لَهَا: سَهِرْت لِأَمْرٍ قُصِدْت فِيهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهِ. فَقَالَتْ لَهُ: مَا هُوَ؟ قَالَ لَهَا: رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ، كَيْفَ تَكُونُ حَالَتُهُ فِي الْمِيرَاثِ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ: وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَعَقَلَهَا، وَأَصْبَحَ، فَعَرَضَهَا لَهُمْ وَأَمْضَاهَا عَلَيْهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِلْ إلَّا فِي عَهْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَضَى فِيهَا بِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنِ الكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ مِنْ أَيْنَ يُوَرَّثُ؟ قَالَ: "مِنْ حَيْثُ يَبُولُ ".
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِخُنْثَى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: "وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ".
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ فَرَضِيُّ الْإِسْلَامِ: إنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَرِثَ بِاَلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ، وَنَحْوَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلَالَةَ فِي الْبَوْلِ، فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحْكَمُ بِالْأَكْثَرِ.
وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ: أَيَكِيلُهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ: تُعَدُّ أَضْلَاعُهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ عَلَى الرَّجُلِ بِضِلْعٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا أَشْكَلَ حَالُهُ. انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي: لَا أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْخُنْثَى شَيْئًا. وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ: وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حَالِهِ: الْحَيْضُ، وَالْحَبَلُ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ مِنَ الذَّكَرِ، وَاللِّحْيَةُ، وَالثَّدْيَانِ؛ وَلَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إذَا بَلَغَ زَالَ الْإِشْكَالُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَأَصْبَغُ: يُعْتَبَرُ مَبَالُهُ1. فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا فَالْأَسْبَقُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا فَالْأَكْثَرُ، وَلَوْلَا مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا لَقُلْت: إنَّهُ إنْ بَالَ مِنْ ثُقْبٍ إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ هُوَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْرِجُ مِنَ المَبَالِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ثُقْبُ الْبَوْلِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْوَلَدِ. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْأُنْثَى، وَقَالُوا عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ يَنْبَنِي نِكَاحُهُ وَمِيرَاثُهُ وَشَهَادَتُهُ وَإِحْرَامُهُ فِي حَجِّهِ، وَجَمِيعِ أَمْرِهِ.
ـــــــ
1 مكان بوله: أبو بوله.(4/88)
وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ وَلِحْيَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ رَجُلٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نِكَاحٌ، وَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي شَهَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَإِحْرَامِهِ عَلَى أَحْوَطِ الْأَمْرَيْنِ.
وَاَلَّذِي نَقُولُ: إنَّهُ يُسْتَدَلُّ فِيهِ بِالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ.
حَالَةٌ ثَالِثَةٌ كَحَالَةٍ أُولَى لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فَطَلَب النِّكَاحَ مِنْ ذَكَرِهِ، وَطَلَبَ النِّكَاحَ مِنْ فَرْجِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، وَهُوَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ دَعْهُ حَتَّى يَقَعَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ فِي الْأَحْكَامِ وَالتَّعَارُضِ فِي الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ مِنْ رُءُوسِ الْعَوَامّ، فَقَالُوا: إنَّهُ لَا خُنْثَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ الْخَلْقَ إلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ وَغَبَاوَةٌ عَنْ مَقْطَعِ الْفَصَاحَةِ، وَقُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْقُدْرَةِ؛ أَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 49]، فَهَذَا عُمُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فَهَذَا إخْبَارٌ عَنِ الغَالِبِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ النَّادِرِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لَهُ، وَالْعِيَانُ يُكَذِّبُ مُنْكِرَهُ.
وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ عَلِيٍّ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ1 مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ خُنْثَى لَيْسَ2 لَهُ لِحْيَةٌ، وَلَهُ ثَدْيَانِ، وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهِ، وَمَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ عَقَلَنِي الْحَيَاءُ عَنْ سُؤَالِهِ، وَبِوُدِّيِّ3 الْيَوْمَ لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَالِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: فِي تَوْرِيثِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى التَّمَامِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
ـــــــ
1 في أ: ذا نشمند، والمثبت من ش.
2 من ش.
3 في أ: ونود، والمثبت من ش.(4/89)
3 - سُورَة الزُّخْرُف فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ
الآية الأولى
قَوْله تَعَالَى : {وَاَلَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 12، 13].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}:
يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِبِلَ دُونَ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ لَمْ تُخْلَقْ لِتُرْكَبَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ1: "بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ بَقَرَةً إذْ قَالَتْ لَهُ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا فِي الْقَوْمِ".
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}:
يَعْنِي الْإِبِلَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْفُلْكَ إنَّمَا تُرْكَبُ بُطُونُهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى آخِرِهِمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ ظَاهِرُهَا بَاطِنَهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَمَرَهُ وَسَتَرَهُ، وَبَاطِنُهَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لِلرَّاكِبِينَ وَظَهَرَ لِلْمُبْصِرِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}:
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [1857]، وفيه: بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها.(4/90)
أَيْ مُطِيقِينَ، تَقُولُ: قَرَنْت كَذَا وَكَذَا إذَا رَبَطْته بِهِ، وَجَعَلْته قَرِينَهُ، وَأَقْرَنْت كَذَا بِكَذَا إذَا أَطَقْته وَحَكَمْته، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي قَرَنٍ وَهُوَ الْحَبْلُ، فَأَوْثَقَهُ بِهِ، وَشَدَّهُ فِيهِ؛ فَعَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ، وَعَلَّمَنَا اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى لِسَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا السُّفُنَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41].
وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا رَكِبَ قَعُودًا1 لَهُ وَقَالَ: إنِّي لَمُقْرِنٌ لَهُ، فَرَكَضَتْ بِهِ الْقَعُودُ حَتَّى صَرَعَتْهُ، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ. وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ هَذَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ، أَمَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ مَتَى رَكِبَ وَخَاصَّةً بِاللِّسَانِ إذَا تَذَكَّرَ فِي السَّفَرِ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:14]، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ2 ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ يَعْنِي بِالْحَوْرِ وَالْكَوْرِ تَشَتُّتَ أَمْرِ الرَّجُلِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: رَكِبْت مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ إلَى أَرْضٍ لَهُ نَحْوُ حَائِطٍ3 يُقَالُ لَهَا مَدْرَكَةٌ، فَرَكِبَ عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ، فَقُلْت لَهُ: أَبَا جَعْفَرٍ، أَمَا تَخَافُ أَنْ يَصْرَعَك. فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ4: "عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ اللَّهُ".
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ4: شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَكِبَ دَابَّةً يَوْمًا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ: مَا أَضْحَكَك؟ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْت، وَقَالَ كَمَا قُلْت، [ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْت لَهُ: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِعَبْدٍ أَوْ قَالَ: عَجَبًا لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ]5 ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ".
ـــــــ
1 القعود من الإبل: ما يقتعده الراعي في كل حاجة "القاموس".
2 الحورك النقصان. والكور: الزيادة [النهاية].
3 الحائط: الحديقة.
4 "ابن كثير": [4/124].
5 ما بين القوسين ليس في م، ش.(4/91)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [ الزخرف: 28] .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي شَرْحِ الْكَلِمَةِ:
وَهِيَ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالتَّوْحِيدُ فِي قَوْلٍ آخَرَ؛ وَلَا جَرَمَ لَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَالتَّوْحِيدُ هُمْ أَصْلُهُ، وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {فِي عَقِبِهِ}:
بِنَاءُ "ع ق ب" لِمَا يَخْلُفُ الشَّيْءَ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ، يُقَالُ: عَقَبَ يَعْقُبُ عُقُوبًا وَعَقِبًا إذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلِهَذَا قِيلَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدِهِ عَقِبُهُ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ فِي عَقِبِ رَمَضَانَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَوَارِدِ كَثِيرَةٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إنَّمَا كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْقَابِ مَوْصُولَةً بِالْأَحْقَابِ بِدَعْوَتَيْهِ الْمُجَابَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِقَوْلِه1: {إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. فَقَدْ قَالَ لَهُ: نَعَمْ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، فَلَا عَهْدَ لَهُ.
ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَقِيلَ بَدَلُ الْأُولَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعَظِّمُهُ؛ بَنُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي سَامٍ أَوْ فِي نُوحٍ.
المسألة الرَّابِعَةُ : جَرَى ذِكْرُ الْعَقِبِ هَاهُنَا مَوْصُولًا فِي الْمَعْنَى بِالْحُقْبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْعُمْرَى أَوْ التَّحْبِيسِ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –2: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ" .
ـــــــ
1 في م: في قوله.
2 "مسلم": [1245].(4/92)
وَهِيَ تَرِدُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا:
اللَّفْظُ الْأَوَّلُ الْوَلَدُ:
وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ وُجِدَ عَنِ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَعَنْ وَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ لُغَةً وَشَرْعًا؛ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْمِيرَاثُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُعَيَّنِ وَأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنَ المُعَيَّنِ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُ1 مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْحَبْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا.
اللَّفْظُ الثَّانِي الْبَنُونَ:
فَإِنْ قَالَ: هَذَا حَبْسٌ عَلَى ابْنِي فَلَا يَتَعَدَّى الْوَلَدَ2 الْمُعَيَّنَ وَلَا يَتَعَدَّدُ.
وَلَوْ قَالَ: وَلَدِي لَتَعَدَّى وَتَعَدَّدَ فِي كُلِّ مَنْ وُلِدَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى بَنِيَّ دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ فَإِنَّ بَنَاتَه وَبَنَاتَ بَنَاتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ.
وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى بَنَاتِهِ فَإِنَّ بِنْتَ بِنْتِهِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَنَاتِ صُلْبِهِ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ بْنِ بِنْتِهِ: " إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ".
قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إلَى تَشْرِيفِهِ وَتَقْدِيمِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِ بِنْتِهِ: لَيْسَ بِابْنِي، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً مَا جَازَ نَفْيُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُ هَاشِمِيٌّ؛ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً.
اللَّفْظُ الثَّالِثُ : الذُّرِّيَّةُ:
وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فِي الْأَشْهَرِ، فَكَأَنَّهُمْ وُجِدُوا عَنْهُ وَنُسِبُوا إلَيْهِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ
ـــــــ
1 في ش: دون بنات الابن لأنهم.
2 في م: ولد.(4/93)
عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَلَدُ الْبَنَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ}. إلَى أَنْ قَالَ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84، 85]؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ.
اللَّفْظُ الرَّابِعُ : الْعَقِبُ:
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، يُقَالُ أَعْقَبَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، أَيْ جَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِالرَّخَاءِ. وَأَعْقَبَ الشِّيبُ السَّوَادَ. وَالْمِعْقَابُ1 مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا بَعْدَ أُنْثَى هَكَذَا أَبَدًا. وَعَقِبُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ الْبَاقُونَ بَعْدَهُ. وَالْعَاقِبَةُ: الْوَلَدُ قَالَ يَعْقُوبُ: وَفِي الْقُرْآنِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28].
وَقِيلَ: بَلْ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَقِبُ. وَالْعَاقِبَةُ: الْوَلَدُ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ هَاهُنَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هَاهُنَا: هُمْ الذُّرِّيَّةُ2.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: هُمْ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْعَقِبُ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَيْسَ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا بِحَالٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى عَقِبِهِ وَلِعَقِبِهِ وَلَدٌ فَإِنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، وَيُفَضَّلُ ذُو الْعِيَالِ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ إنَّهُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ وَلَدُ الِابْنَةِ عَقِبًا وَلَا ابْنَةُ الِابْنَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ التَّوْحِيدَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامَةَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الذَّكَرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى لَيْسَتْ بِإِمَامٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَاهُ؛ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا وَلَا وَلَدًا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: عَلَى وَلَدِي أَوْ عَقِبِي مُفْرَدًا، وَأَمَّا إذَا تَكَرَّرَ فَقَالَ: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي، وَعَلَى عَقِبِي وَعَقِبِ عَقِبِي، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِيهِ حَسْبَمَا يَذْكُرُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا بَعْدَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَبَدًا، وَمِثْلَ قَوْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا.
اللَّفْظُ الْخَامِسُ : نَسْلِي:
وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا كَقَوْلِهِ: وَلَدُ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا3؛ لِأَنَّ " نَسْلَ " بِمَعْنَى خَرَجَ، وَوَلَدُ الْبَنَاتِ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُ بِوَجْهٍ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَخُصُّهُ، كَمَا اقْتَرَنَ
ـــــــ
1 في ش: والمعقبات من النساء.
2 في م: الورثة.
3 في م: ألا يدخلوا.(4/94)
بِقَوْلِهِ: عَقِبِي مَا تَنَاسَلُوا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اللَّفْظُ السَّادِسُ : الْآلُ:
وَهُمْ الْأَهْلُ. وَهُوَ اللَّفْظُ السَّابِعُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُمْ الْعَصَبَةُ وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَالْبَنَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَالَاتُ، وَأَصْلُ الْأَهْلِ الِاجْتِمَاعُ، يُقَالُ مَكَانٌ آهِلٌ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَذَلِكَ بِالْعَصَبَةِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ؛ وَالْعَصَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، وَهِيَ أَخَصُّ بِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا يَعْنِي عَائِشَةَ؛ وَلَكِنْ لَا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلَ التَّأَهُّلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَقَدْ يَتَبَدَّلُ رَبْطُهَا وَيَنْحَلُّ بِالطَّلَاقِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ القَرَابَةِ، وَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَقُصِدَ بِالرَّحْمَةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ: يَدْخُلُ فِي الْأَهْلِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ1 الْأَبَوَيْنِ فَوَفَّى الِاشْتِقَاقَ حَقَّهُ، وَغَفَلَ عَنِ العُرْفِ وَمُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَهَذَانِ لَفْظَانِ.
اللَّفْظُ الثَّامِنُ : الْقَرَابَةُ:
وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ عَبْدُوسٍ: إنَّهُمْ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَلَا وَلَدُ الْخَالَاتِ.
الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ أَقَارِبُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ.
الثَّالِثُ: قَالَ أَشْهَبُ: يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
الرَّابِعُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةٍ: يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ2 وَبَنَاتُ الْأُخْتِ.
ـــــــ
1 في أ: في.
2 ليس في ش.(4/95)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالَ: إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَابَةٌ، فَهَذَا يَضْبِطُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اللَّفْظُ التَّاسِعُ: الْعَشِيرَةُ:
وَيَضْبِطُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُطُونَ قُرَيْشٍ وَسَمَّاهُمْ} كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمْ الْعَشِيرَةُ الْأَقْرَبُونَ؛ وَسِوَاهُمْ عَشِيرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ، وَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا.
اللَّفْظُ الْعَاشِرُ : الْقَوْمُ:
[قَالَ الْقَرَوِيُّونَ]1: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً مِنَ العَصَبَةِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْقَوْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاعِرُ قَدْ قَالَ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَعَا قَوْمَهُ لِلنُّصْرَةِ عَنَى الرِّجَالَ، وَإِذَا دَعَاهُمْ لِلْحُرْمَةِ دَخَلَ فِيهِمْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَتَعُمُّهُ الصِّفَةُ وَتَخُصُّهُ الْقَرِينَةُ.
اللَّفْظُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَوَالِي:
قَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِي أَبِيهِ وَابْنِهِ مَعَ مَوَالِيهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ مَوَالِيهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ؛ وَهَذِهِ فُصُولُ الْكَلَامِ وَأُصُولُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالتَّفْرِيعُ وَالتَّتْمِيمُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 ساقطة من ش.(4/96)
ْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَمَةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الفرقان: 20].(4/96)
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الهَوَانِ بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكُفَّارِ وَدُرَجِهَا وَأَبْوَابِهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ. وَالْقَدَرُ الَّذِي [جُعِلَ]1 عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنَ الدُّنْيَا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ2 وَالْأَغْنِيَاءِ إنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّك بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ3 الْأَرْضِ شَيْءٌ. وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ، فَقَالَ: إنَّمَا اشْتَرَيْت الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ. وَقَالَ الْبَائِعُ: إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا فِيهَا. وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ4 وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ : فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ.
ـــــــ
1 من ش.
2 في ش: من الأغنياء.
3 في ش: باطن.
4 في ش: لهما إلا أن يخرج عنهما ببيع.(4/97)
لْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : فِي الذِّكْرِ:
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.(4/97)
أَحَدُهُمَا: الشَّرَفُ.
الثَّانِي: الذِّكْرَى1 بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الدِّينِ.
الثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ.
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ2 الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ3 شَقِيٌّ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ".
وَقِيلَ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك} يَعْنِي الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".
وَقَالَ مَالِكٌ4: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا بِبَغْدَادَ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقُولُونَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ5 وَتَهَمَّمَتْ الْخِلَافَةُ بِهِمْ.
وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي6 الْفَرَج بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ7 بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقُولَانِ: سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الحَنَّانِ الْمَنَّانِ، الْحَنَّانُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ. وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى.
وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك} يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي
ـــــــ
1 في ش: الذكر العهد.
2 عبية الجاهلية: الكبر، وتضم عينها وتكسر "النهاية".
3 في أ: فاجر.
4 في أ: وقول مالك.
5 في ش: أمرهم.
6 في ش: إلى الفرج.
7 في أ: الحارث.(4/98)
لْكَلَامُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ، وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.(4/99)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71].
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا1 عَنِ الخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –2: " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ". قَالَ الرَّاوِي: وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي. وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ، كَمَا قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ"، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ.
الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [بِنَصِّهِ]3 عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ.
ـــــــ
1 في ش: وقطعه الله في الدنيا.
2 "صحيح مسلم": [1646].
3 ليس في ش.(4/99)
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ1:
"إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ" ، وَشَبَهُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنَ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنَ الإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ.
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ2.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ.
فَلَمَّا رُوِيَ فِي "الصَّحِيحِ" 3 مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [1638].
2 العلابي: جمع علباء، وهو عصب في العنق يأخذ في الكاهل، وكانت العرب تشد على أجفان سيوفها العلابي الرطبة فنجف عليها وتشد الرماح بها إذا تصدعت فتيبس وتقوى "النهاية".
3 "مسلم": [1646].(4/100)
قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُ صُولِ الْفِقْهِ وَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ 1 "لِأَجْلِ الْقَمْلِ"، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ2 غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ3 وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ.
فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ؛ وَالْيَقِينُ4 ثَلَاثُ أَصَابِعَ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" 5 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً6
ـــــــ
1 في ش: الحديث.
2 الخميصة: كساء أسود مربع له علمان "القاموس".
3 في ش: الحكة.
4 في ش: والتعيبن.
5 صفحة: [1653].
6 في "مسلم": جبة طيالسة. والطيالسة جمع طيلسان.(4/101)
كِسْرَوَانِيَّةً1، لَهَا لِبْنَةُ2 دِيبَاجٍ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ3 بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا4 لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ.
فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" 5 أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ: أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهِ يَقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا6 الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ".
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ7، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: "إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ".
وَفِي رِوَايَةٍ "شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ" ، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ عَلِيَّ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا8.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ9؛ فَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ:
ـــــــ
1 كسروانية: نسبة إلى كسرى ملك فارس.
2 لبنة – بكسر اللام وإسكان الباء: رقعة في جيب القميص.
3 مكفوفان: لهما كفة: وهي ما يكف به جوانبها.
4 في أ: نكسيها. والمثبت من ش و"مسلم".
5 صفحة: [1641].
6 في ش: لا تلبسوا نساءكم.
7 حلة سيراء: برود يخالطها حرير، وهي مضلعة بالحرير، كأنها شبهت خطوطها بالسيور، "مسلم": [1644].
8 قيل: هي فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.
9 في ش: وكذلك هو من الشريعة.(4/102)
فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ. وَهَذَا نَصٌّ1.
المسألة الثَّانِيَة : الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ:
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ " هَذَانِ2 حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا" ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى3 جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ: "اتَّخَذْت أَنْمَاطًا4؟" قُلْت: وَأَنَّى لَنَا الْ أَنْمَاطُ ؟ قَالَ: "أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا".
المسألة الرَّابِعَةُ : لُبْسُ الْخَزِّ 5 جَائِزٌ:
وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
المسألة الْخَامِسَةُ : فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ6، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: " لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ7 فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ".
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
ـــــــ
1 جاء بهامش ش هنا: "إن المتبادر من إطلاق اللبس لا يتناول الافتراش إلا بقرينة كما في خبر أنس، فإن الحصير لا يلبس على البدن عادة، فكان ذلك قرينة على إرادة الافتراش وأنه معنى مجازي وألفاظ الشارع محمولة على حقيقتها المتبادرة منها ولا يعدل عن ذلك من غير دليل "كتبه محمد بن محمود الجزائري".
2 في ش: هما.
3 "صحيح مسلم": صفحة [1650].
4 الأنماط جمع نمط: وهو ظهارة الفراش. وقيل ظهر الفراش، ويطلق أيضاً على بساط لطيف له خمل يجعل على الهودج وقد يجعل ستراً.
5 في ش: الحرير.
6 "مسلم": [1635].
7 الجرجرة: التصويت.(4/103)
وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ".
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: " هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا".
وَالنَّهْيُ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ المَتَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ"؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا.
المسألة السَّادِسَةُ : إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا1 بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا:
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنَ الفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ.
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ. وَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتَرَكَهُ.
المسألة السَّابِعَةُ : إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا:
لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ.
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا2؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا.(4/104)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].(4/104)
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ1، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فِيهَا تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في ش: مرتبة عظيمة.(4/105)
سُورَةُ الدُّخَانِ
قَوْله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
...
44- سُورَةُ الدُّخَانِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَة الْأُولَى
قَوْله تَعَالَى : {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } :
يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {مُبَارَكَةٍ} :
الْبَرَكَةُ: هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي اللَّهُ فِيهَا مِنَ المَنَازِلِ، وَيَغْفِرُ مِنَ الخَطَايَا، وَيُقَسِّمُ مِنَ الحُظُوظِ، وَيَبُثُّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيُنِيلُ مِنَ الخَيْرِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ:
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا فِي فَضْلِهَا، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا.(4/106)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : السُّرَى:
سَيْرُ اللَّيْلِ. وَالْإِدْلَاجُ: سَيْرُ السَّحَرِ، وَالْإِسْآدُ: سَيْرُهُ كُلِّهِ. وَالتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهَارِ. وَيُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ، كَمَا قِيلَ: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ مِنْ اتِّسَاعَاتِ الْعَرَبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا}:
أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ يَكُونُ مِنَ الخَوْفِ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنَ العَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا، فَهُوَ مِنْ أَسْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِمَّا مِنْ خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ1، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ2 الْحَاجَةِ وَحَسْبَ الْعَجَلَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَفِي "جَامِعِ الْمُوَطَّإِ"3: "إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ".
ـــــــ
1 في أ: يجر أو جذب.
2 في ش: حسب.
3 "الموطأ": [978].(4/107)
ْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى: {إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:(4/107)
المسألة الْأُولَى : الزَّقُّومُ:
كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ، يُقَالُ: تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ.
وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ!
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا {طَعَامُ الْأَثِيمَ} فَلَمْ يَفْهَمْهَا؛ فَقَالَ لَهُ: طَعَامُ الْفَاجِرِ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً، حَتَّى رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا {إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَقُلْت لِمَالِكٍ: أَتَرَى أَنْ يَقُولَ1 كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ2 مَنْ صَلَّى بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا سُنَّةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ3 عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ؟ قُلْنَا: وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ: بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ مِنَ الأُمَّةِ، فَمَا وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا، فَيُقْرَأَ بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِّ، وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ جَائِزًا، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى مُصْحَفِهِمْ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ".
ـــــــ
1 في ش: يقرأ.
2 في أ: وإنه.
3 في ش: ذكر.(4/108)
45- سُورَةُ الْجَاثِيَةِ 1 فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي إعْرَابِهَا:
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [اغْفِرُوا]3 يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} :
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنِ النِّعَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنِ النِّقَمِ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ.
المسألة الرَّابِعَةُ : هَذَا مِنَ المَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنَ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ "عُلُومِ الْقُرْآنِ ".
ـــــــ
1 في أ: سورة الشريعة.
2 "أسباب النزول" للواحدي: [215].
3 ليس في ش.(4/109)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ، وَحُسْنِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ:
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ السُّنَّةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْفَرَائِضُ.
الرَّابِعُ: النِّيَّةُ. وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 9].
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنَ الدِّينِ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ1 بِشَرِيعَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ
ـــــــ
1 في ش: مفردون.(4/110)
ْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنَ البَيَانِ.(4/111)
ْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ: { اجْتَرَحُوا}:
مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنَ الجُرْحِ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْأَمْثَالِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى1: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا.
ـــــــ
1 صفحة [58].(4/111)
46- سُورَةُ الْأَحْقَافِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي مَسَاقِ الْآيَةِ:
وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ رُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} عَلَى مَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنِ الكُتُبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ: إنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ، وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنِ الضَّارِبِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ.
وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ" وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ(4/112)
يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ". وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ:
لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ 1
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ، وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ، وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ، وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، وَقَطَعَهُ عَنِ الخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ، وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ، وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ، وَطَلَبُهُ عَنَاءً لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ، فَإِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ الطَّالِبِ2.
المسألة الثَّالِثَةُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنَ الأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ. فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا.
وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنَ الكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنَ الأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا، فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ، وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ. فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ:
الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ ... مُضَلِّلُونَ وَدُونَ3 الْغَيْبِ أَقْفَالٌ
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ، وَأَمَرَ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
ـــــــ
1 البيت للبيد، "ديوانه": [172]، والرواية فيه: الطوارق بدل الضوارب.
2 في ش: الطلب.
3 في ش: فدون.(4/113)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ: إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ1؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}. وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا.
فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ.
ـــــــ
1 خصمه: غلبه.(4/114)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي، يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ؟.
وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ2، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ
ـــــــ
2 في ش: بالشهوات.(4/114)
الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَحَمَاهُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً؛ وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا1، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ العِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ2 لَكُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا. أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
ـــــــ
1 ديدن: عادة.
2 أي يلين لي الطعام ويجود "النهاية".(4/115)
47- سُورَةُ مُحَمَّدٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 4].
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي إعْرَابِهَا:
قَالَ الْمُعْرِبُونَ1: هُوَ2 مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا. وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقَوْلِك: اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: { الَّذِينَ كَفَرُوا} :
فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ضَرْبَ الرِّقَابِ}:
قَوْلَانِ:
ـــــــ
1 في ش: المفسرون.
2 أي لفظ ضرب الرقاب.(4/116)
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْقِتَالُ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ، وَهُوَ اللِّقَاءُ، وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى. {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}:
قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [67]1.
الْمَعْنَى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ، وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ:
المسألة الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالتَّرْكَ مَعْنًى، وَالْعِتْقَ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ.
المسألة السَّادِسَةُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}:
وَيَعْنِي ثَقَلَهَا، وَعَبَّرَ عَنِ السِّلَاحِ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ؛ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
ال مسألةالسَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحَكَّمَةٌ؟
فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ2. وَقِيلَ: إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
ـــــــ
1 [2/ 364].
2 في ش: لا يفادون.(4/117)
الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، لِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].
وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ1 أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
المسألة الثَّامِنَةُ : فِي التَّنْقِيحِ:
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ وَمُحْكَمَاتِهَا؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ، وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْفَالِ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَنَاوَلُ بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ2 فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ، وَالْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ، وَالْمَآلُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا، وَعَلِمَ أَنْ سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا لَهُمُ القَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ.
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنَ المُعَارَضَةِ، وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنَ المُتَأَخِّرِ، وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57]؛ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ، وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ؛ وَلَمْ يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَقَدْ قَالَ: وَاحْصُرُوهُمْ؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَمَرَ بِالْقَتْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ.
قُلْنَا: أَوْ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنَ المُسْلِمِينَ.
ـــــــ
1 في ش: والصحيح.
2 في ش: فإن لم يتمكن ضرب.(4/118)
وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَوْمٌ، فَأَخَذَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هَوَازِنَ، وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَبْرًا فَقَالَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ1:
يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ2 مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ
أَبْلِغْ بِهَا3 مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً ... مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ4 تَخْفِقُ
مِنِّي إلَيْهِ5 وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً ... جَادَتْ بِوَاكِفِهَا6 وَأُخْرَى تَخْنُقُ
فَلْيَسْمَعْنِ7 النَّضْرُ إنْ نَادَيْته ... إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أَوْ يَنْطِقُ8
أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ9 ضِنْءُ10 كَرِيمَةٍ ... فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا ... مِنْ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
لَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ ... بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى11 بِهِ مَنْ يُنْفِقُ
وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ لَوْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ
ظَلَّتْ رِمَاحُ12 بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ13 ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ
صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا ... رَسْفَ الْمُقَيِّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ
فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "مَسَائِلِ الْخِلَافِ".
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ آثَامَهَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ، فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ؛ وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ".
ـــــــ
1 "سيرة ابن هشام": [2/ 420]، و"الدرر في اختصار المغازي والسير": [115].
2 الأثيل: موضع قرب المدينة.
3 في أ: به.
4 النجائب: الإبل الكريمة.
5 في "السيرة": إليك.
6 في أ: لمائحها. والواكف: السائل.
7 في ش، و"السيرة": يسمعن.
8 في ش، و"السيرة": أم كيف يسمع ميت لا ينطق.
9 في ش و"السيرة": يا خير.
10 ضنء: ابن.
11 في "السيرة": ما يغلو.
12 في "السيرة": سيوف بني أبيه.
13 تنوشه: تتناوله.(4/119)
َمَنْ ذَكَرَ نُزُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا جِزْيَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ1. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي "كُتُبِ الْحَدِيثِ".
المسألة التَّاسِعَةُ : فِي تَتْمِيمِ الْقَوْلِ:
قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ. وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ، فَأَبَى وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَرَأَ: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.
قُلْنَا: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ2.
مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ، الْجَلْدِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الرَّجْمِ؛ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في ش: الأقوال.
2 في ش: وليس في تفسير الله لكم الفداء.(4/120)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ، ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنِ الطَّوَاعِيَةِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ3 كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ 4 لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قَالَ5: إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ
ـــــــ
3 في أ: لزم.
4 كأنه اعتبر قوله السابق القسم الأول من الرد.
5 في ش:إن قلنا إنه يعيد.(4/120)
فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ1، وَذَلِكَ مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
ـــــــ
1 في ش: الالتزام.(4/121)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى [هَاهُنَا]2 عَنْهُ مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ، وَيُفِيدُ فَائِدَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ.
ـــــــ
2 ليس في ش.(4/121)
48- سُورَةُ الْفَتْحِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ}:
قِيلَ: هُمُ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ: جُهَيْنَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، وَغَفَّارَ، وَأَسْلَمَ: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ.
الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ : لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمُ العَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ.
فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ، وَجَاءَتْ الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْبَارًا بِالْغَيْبِ الْآتِي، وَهِيَ:
المسألة الرَّابِعَةُ : وَدَلَّتْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهِيَ:(4/122)
المسألة الْخَامِسَةُ : لِأَنَّ الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ [وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا]1، وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ.
ـــــــ
1 ليس في ش.(4/123)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعْذِبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17].
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [61] بَيَانُهَا2، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ.
ـــــــ
2 [2/ 354].(4/123)
لْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { هُمُ الذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى: {هُمُ الذِينَ كَفَرُوا}:
يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ خِلَافٍ3؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ؛ وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ4 حَمَلَتْهُمُ الأَنَفَةُ، وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا5، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ.
ـــــــ
3 في ش: بلا خلاف.
4 في أ: ولكنه.
5 في أ: ذنبا.(4/123)
الْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}:
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنَ العَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ مِنَ القَضِيَّةِ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ. وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ: فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي مِنَ الخَيْرِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صُدَّ عَنِ البَيْتِ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ.
المسألة الثَّانيَةُ : فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ1 وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
ـــــــ
1 المشقص - كمنبر: نصل عريض أو سهم فيه ذلك.(4/126)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : يَعْنِي عَلَامَتَهُمْ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيمَيَا.
وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ مِنَ الأُمَمِ؛ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ". رَوَيْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا:
وَقَدْ تُؤُوِّلَتْ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الثَّانِي: ثَرَى1 الْأَرْضِ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثَّالِثُ تَبْدُو صَلَاتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ.
الْخَامِسُ أَنَّهُ الْخُشُوعُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
السَّادِسُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ أَصْبَحَ وَجْهُهُ مُصْفَرًّا؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ.
وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ذَلِكَ مِمَّا
ـــــــ
1 في ش: ندى الأرض.(4/127)
يَتَعَلَّقُ 1 بِجِبَاهِهِمْ مِنَ الأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ؛ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ 2 أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصُّبْحَ صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ3، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ شَهِدَ4 أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ أَثَرِ5 السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ آثَارَ السُّجُودِ".
وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الْخُشُوعُ.
قُلْت: هُوَ أَثَرُ السُّجُودِ، فَقَالَ: إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْعَنْزِ، وَهُوَ كَمَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ إلَّا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نَضْرَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا...} الْحَدِيثَ.
ـــــــ
1 في أ: ما يتعلق.
2 "مسلم": [824].
3 وكف المسجد: قطر ماء المطر من سقفه.
4 في ش: يشهد.
5 في أ: آثار.(4/128)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
...
49- سُورَةُ الْحُجُرَاتِ فِيهَا سَبْعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
وفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّانِي: نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَشَاءُ2؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ [لِأَصْحَابِهِ3 فِي] يَوْمِ الْأَضْحَى4: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ"؛ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي: [218]، وللسيوطي: [155].
2 في أ: ما شاء.
3 ليس في ش.
4 "مسلم": [1552].(4/129)
اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ، وَعِنْدِي عَنَاقُ1 جَذَعَةٍ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَقَالَ: "تُجْزِئُك، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك".
الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحٌ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ2 مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ سَبَبٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ [النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
المسألة الرَّابِعَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ]3 الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً، وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ؛ وَهُوَ سَدُّ خُلَّةِ4 الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْجَلَ مِنَ العَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، وَلِمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ.
فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ لَحْظَةً، كَالصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ.
وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ.
وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ
ـــــــ
1 العناق: هي الأنثى من المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة. وفي "مسلم": عناق لبن. يريد أنها صغيرة قريبة مما ترضع.
2 في ش: السبب المميز للآية.
3 ساقط من ش.
4 الخلة – بالفتح: الحاجة.(4/130)
تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ يَقْوَى فِي النَّظَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}:
أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ 1 قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ2: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ3، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ، فَمُرْ عَلِيًّا4
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ".
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "صَوَاحِبُ يُوسُفَ" الْفِتْنَةَ بِالرَّدِّ عَنِ الجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا.
ـــــــ
1 في أ: و"القرطبي": وكذلك.
2 "مسلم": [314].
3 أسيف: حزين، وقيل: سريع الحزن والبكاء.
4 هكذا في أ، وفي ش، و"القرطبي": عمر.(4/131)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا5:
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ6، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ7 بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي
ـــــــ
5 "أسباب النزول" للواحدي: [218]، وللسيوطي: [156].
6 في ش: عن ابن الزبير.
7 في ش: رهط.(4/131)
بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْت ذَلِكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ]1 حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : حُرْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [الأعراف: 204]. وَكَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الوَحْيِ وَلَهُ مِنَ الحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 ليس في ش.(4/132)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ. فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّت وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا3 أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا آذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ، وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ عَادَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: "الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ".
المسألة الثَّانِيَةُ : مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ، وَالْفِسْقَ
ـــــــ
2 "أسباب النزول" للواحدي: [222]، وللسيوطي: [157].
3 في أ، و"القرطبي": جاء.(4/132)
قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ1 عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا.
وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ2 عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَكُونُ وَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا، كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ3، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى.
المسألة الثَّالِثَةُ : وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَبَّةِ مَالٍ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ؛ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ [الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ]4 لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَرَاءَهُمْ، وَلَا اُسْتُطِيعَتْ إزَالَتُهُمْ صَلَّى مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ؛ ثُمَّ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ إذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةٌ أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُهَا صَلَاتَهُ. وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَقُولُ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنَ الأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إنْ كَانَ [حَاكِمًا] وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رِوَايَةٍ ثُؤْثَرُ، أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ.
المسألة الْخَامِسَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ أَوْ إذْنٍ يُعَلِّمُهُ، إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلِّغِ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ5 قَوْلُهُ. فَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا الْعُدُولُ. يَحْصُلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في أ: الإنشاء.
2 في ش: متوفرة.
3 ليس في ش.
4 من ش.
5 في ش: ينفذ.(4/133)
لْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا(4/133)
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ رَوَى عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.
الثَّانِي: مَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُلَاحَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ، وَإِنَّ الْآخَرَ دَعَاهُ إلَى الْمُحَاكِمَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمُ الأَمْرُ حَتَّى تَدَافَعُوا، وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ أَسْبَاطُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا، وَجَعَلَهَا2 فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إلَى أَهْلِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ بِأَهْلِهِ؛ فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا؛ فَتَدَافَعُوا وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
الرَّابِعُ مَا حَكَى قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مِنَ الخَزْرَجِ وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنَ الأَوْسِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ، فَرَاثَ حِمَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَطَعَ غُبَارُهُ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ3، وَقَالَ: لَقَدْ آذَانَا نَتِنُ حِمَارِك. فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: إنَّ حِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك وَمِنْ أَبِيك؛ فَغَضِبَ قَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ:
الْأَخِيرَةُ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ مَا رُوِيَ لِعُمُومِهَا وَمَا لَمْ يُرْوَ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا4 بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي: [223]، وللسيوطي: [157].
2 ليس في ش.
3 في ش: على أنفه.
4 في أ: تخصيصه.(4/134)
المسألة الثَّالِثَةُ : الطَّائِفَةُ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ العَدَدِ، وَعَلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ عَدَدٌ1، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [122]2.
المسألة الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: "يَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ: "يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".
أَوْ " عَلَى حِين ِ3 فِرْقَةٍ" ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ لِقَتْلِهِمْ4 أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [وَمَنْ كَانَ مَعَهُ]5 فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إمَامًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ، وَيَنْقَادَ إلَى الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ، وَالصَّحَابَةُ بُرَآءُ مِنْ دَمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ؛ فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ، وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى، فَعُرِضَتْ الْإِمَامَةُ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى، وَتَدَافَعُوهَا6، وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَقَبِلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ، وَيُتَخَرَّقُ أَمْرُهَا إلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ، وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ؛ فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلِ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمْكِينَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: اُدْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَك نَرَاهُمْ7 صَبَاحًا وَمَسَاءً، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ رَأْيًا، وَأَصْوَبَ قَوْلًا؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ، وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ، وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ، وَيَقَعَ8 الطَّلَبُ مِنَ الأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَيَجْرِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ.
ـــــــ
1 في أ: حد.
2 صفحة [513] من الجزء الثاني.
3 في ش: خير.
4 في ش: بقتلهم.
5 ليس في ش.
6 في أ: وتدافقوا.
7 في أ: فنراهم.
8 في أك ويقطع.(4/135)
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ، وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ؛ فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا عَنْ وِلَايَةٍ، وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دَيَّانَةٍ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ عُثْمَانَ1 أَوْلَى، فَبَقِيَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِ لَمْ يُزَعْزِعْهُ عَمَّا رَأَى وَهُوَ كَانَ الصَّوَابُ كَلَامُهُمَا، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ قَوْلُهُمَا. وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُثْنِي عَلَى صَاحِبِهِ [وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ]2 وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَيَذْكُرُ مَنَاقِبَهُ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَتَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا3 مِنْ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَاتُلُ الْقَوْمِ عَلَى دُنْيَا، وَلَا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافًا فِي اجْتِهَادٍ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
المسألة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}:
أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ البَعْضِ الْبَاقِينَ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ.
وَيُرْوَى3 أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَفْضَى إلَيْهِ الْأَمْرُ عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: نَدِمْت عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُتَعَلِّقَهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ.
المسألة السَّادِسَةُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَعَيَّنَ الْقِتَالَ عِنْدَ الْبَغْيِ؛ فَعَلَ عَلِيٌّ بِمُقْتَضَى حَالِهِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْبَاغِيَةَ الَّتِي أَرَادَتْ الِاسْتِبْدَادَ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَقْضَ مَا رَأَى مِنَ الاجْتِهَادِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ دَارِ النُّبُوَّةِ وَمَقَرِّ الْخِلَافَةِ بِفِئَةٍ تَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ إلَّا بِشَرْطِهِ، مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ؛ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقُدْ عَلَيَّ مِنْهُمْ مَا احْتَاجُوا إلَى مُجَاذَبَةٍ؛ فَإِنَّ الْكَافَّةَ كَانَتْ تَخْلَعُهُ، وَاَللَّهُ قَدْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَصَانَهُ. وَعَمِلَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى حَالِهِ، فَإِنَّهُ صَالَحَ حِينَ اسْتَشْرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَمَقَادِيرَ
ـــــــ
1 في أ، ش: بقتلة عثمان أولى.
2 من ش.
3 في ش: وروى.(4/136)
أَزَلِيَّةٍ1، وَمَوَاعِيدَ مِنَ الصَّادِقِ صَادِقَةٍ، وَمِنْهَا مَا رَأَى مِنْ تَشَتُّتِ آرَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ طُعِنَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَدَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى بَرِئَ؛ فَعَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَنْ يُنَافِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الْخَوَارِجَ أَحَاطُوا بِأَطْرَافِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِحَرْبِ مُعَاوِيَةَ اسْتَوْلَى الْخَوَارِجُ عَلَى الْبِلَادِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخَوَارِجِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ تَذَكَّرَ وَعْدَ جَدِّهِ الصَّادِقِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: " إنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ" ، وَإِنَّهُ لَمَا سَارَ الْحَسَنُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكِتَابِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَقَدِمَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: إنِّي أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي أُولَاهَا حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو: مَنْ لِي بِذَرَارِيّ مِنَ المُسْلِمِينَ، [فَقَالَ: أَنَا]2. فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: تَلْقَاهُ فَتَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ؛ فَصَالَحَهُ، فَنَفَذَ3 الْوَعْدُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: "إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ" .
وَبِقَوْلِهِ: " الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَعُودُ مُلْكًا "، فَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ، وَلِلْحَسَنِ مِنْهَا4 ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا5 وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا، فَسُبْحَانَ الْمُحِيطِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}:
وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ الْمُقْسِطِينَ6 عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ وَهُمُ الذِينَ يَعْدِلُونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا".
ـــــــ
1 في ش: أولية.
2 من ش.
3 في ش: ونفذ.
4 ليس في ش.
5 من ش.
6 المقسط: العادل "النهاية".(4/137)
وَمِنْ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالِبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ. وَفِي طَلَبِهِمْ لَهُ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنِ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ: إنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي قِتَالِ الصَّحَابَةِ التَّعَرُّفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ؛ إذْ كَانَتْ أَحْكَامُ قِتَالِ التَّنْزِيلِ1 قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِعْلِهِ.
المسألة الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}:
بِنَاءُ "ب غ ي" فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الطَّلَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]؛ وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ هَاهُنَا عَمَّنْ يَبْغِي مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى2 الْإِمَامِ يَبْغِي خَلْعَهُ أَوْ يَمْنَعُ3 مِنَ الدُّخُولِ فِي طَاعَةٍ لَهُ، أَوْ يَمْنَعُ حَقًّا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ؛ فَإِنْ جَحَدَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.
وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبُغَاةَ وَالْمُرْتَدِّينَ؛ فَأَمَّا الْبُغَاةُ فَهُمُ الذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ بِتَأْوِيلٍ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَهُمُ الذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَهَا، وَخَرَجُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى نُبُوَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَاَلَّذِي قَاتَلَ عَلِيٌّ طَائِفَةٌ أَبَوْا الدُّخُولَ فِي بَيْعَتِهِ، وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ؛ وَطَائِفَةٌ خَلَعَتْهُ، وَهُمْ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ. وَأَمَّا4 أَصْحَابُ الْجَمَلِ فَإِنَّمَا خَرَجُوا يَطْلُبُونَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْجَمِيعِ أَنْ يَصِلُوا إلَيْهِ وَيَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُطَالِبُوهُ بِمَا رَأَوْا أَنَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا تَرَكُوا ذَلِكَ بِأَجْمَعِهِمْ صَارُوا بُغَاةً بِجُمْلَتِهِمْ، فَتَنَاوَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَهُمْ.
المسألة التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ: إنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلَ5 أَوْ الْخَارِجَ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَأَمْسِكْ عَنْهُمَا إلَّا أَنْ تُرَادَ بِنَفْسِك أَوْ مَالِكَ أَوْ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ فَادْفَعْ ذَلِكَ.
ـــــــ
1 في "القرطبي": قتال أهل الشرك.
2 في أ: عن.
3 في ش: يمتنع.
4 في أ: وهم.
5 في أ: للأول.(4/138)
المسألة الْعَاشِرَةُ : لَا تُقَاتِلُ إلَّا مَعَ إمَامٍ عَادِلٍ1 يُقَدِّمُهُ أَهْلُ الْحَقِّ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إلَّا قُرَشِيًّا، وَغَيْرُهُ لَا حُكْمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَدْعُو إلَى الْإِمَامِ الْقُرَشِيِّ؛ قَالَهُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِقُرَشِيٍّ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: إذَا خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجٌ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ، مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَدَعْهُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ ظَالِمٍ بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5].
قَالَ مَالِكٌ: إذَا بُويِعَ لِلْإِمَامِ فَقَامَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ قُوتِلُوا إذَا كَانَ الْأُوَلُ عَدْلًا، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا بَيْعَةَ لَهُمْ إذَا كَانَ بُويِعَ لَهُمْ عَلَى الْخَوْفِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ يَرْوِيه مُعَاوِيَةُ: "إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا أَحَدَهُمَا"؛ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فَإِنَّهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لَا قَتْلُهُمْ.
وَأَمَّا الَّذِي يُتْلِفُونَهُ مِنَ الأَمْوَالِ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُونَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِدْوَانٍ، فَلْيَلْزَمُ الضَّمَانَ.
وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا2 عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا؛ وَهُمُ القُدْوَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنَ الحِكْمَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِتَالِ3 الْبُغَاةِ بِخِلَافِ الْكَفَرَةِ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 ذفف على الجريح:أجهز عليه.
3 في أ: قتل.(4/139)
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إنْ وَلَّوْا قَاضِيًا، وَأَخَذُوا زَكَاةً، وَأَقَامُوا حَقًّا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ؛ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ1 لَا يَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانُوا2 بُغَاةً.
الْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [فِي خُرُوجِهِمْ]3 لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا، وَهُمُ القُدْوَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا انْجَلَتْ الْفِتْنَةُ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَعْتَرِضُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ4 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ حُكْمٌ!.
قُلْنَا: وَلَا سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا5 فِتْنَةً مُجَرَّدَةً، حَتَّى انْجَلَتْ مَعَ الْبَاغِي لَسَكَتَ6 عَنْهُمْ لِئَلَّا يُعَضِّدَ بِاعْتِرَاضِهِ مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في أ: من.
2 في أ: كما لو لم يكونوا بغاة.
3 من ش.
4 في ش: فأهل حروراء والنهروان.
5 في ش: كانت.
6 في ش: سكت.(4/140)
ْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:(4/140)
المسألة الْأُولَى : النَّبْزُ هُوَ اللَّقَبُ فَقَوْلُهُ: لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، أَيْ لَا تَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ. وَاللَّقَبُ هُنَا اسْمٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ السَّامِعِ.
وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ اسْمَانِ وَثَلَاثَةٌ؛ فَكَانَ يُدْعَى بِاسْمٍ مِنْهَا فَيَغْضَبُ؛ فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
وَهِيَ: المسألة الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}:
يَعْنِي أَنَّك إذَا ذَكَرْت صَاحِبَك بِمَا يَكْرَهُ فَقَدْ آذَيْته؛ وَإِذَايَةُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَازَعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَى مِنْ هَاهُنَا مِنْ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، مَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ، يَعْنِي إلَّا بِالتَّقْوَى، وَنَزَلَتْ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
ا لمسألة الرَّابِعَةُ : وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَثْنَى مِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ الْأُمَّةُ، فَاتَّفَقَ2 عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ3. وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَا أَرْضَاهُ، كَقَوْلِهِمْ فِي صَالِحٍ جَزَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَحَّفَ زَجَرَهُ4 فَنُقِّبَ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ مُطَيَّنٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَلَا أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنُ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ: لَا أَجْعَلُ أَحَدًا صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الكَرَاهَةِ لِأَجْلِ الْإِذَايَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي [224]، وللسيوطي: [158].
2 في ش: واتفق.
3 في ش: اللغة.
4 في "القرطبي": خرزة.(4/141)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ(4/141)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا(4/142)
سورة ق
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
...
50- سُورَةُ ق ِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ
وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ1: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ2 رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ3 فِي رُؤْيَتِهِ؛ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تَغْلِبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا؛ ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: { وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ}:
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ هُوَ تَسْبِيحُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ.
الرَّابِعُ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُ [مَنْ قَالَ]4 إنَّهُ التَّسْبِيحُ، يُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ:
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [439].
2 في أ: لترون.
3 يروى بتشديد الميم، وتخفيفها، من الضم أو الضيم.
4 من ش.(4/146)
" مَنْ تَعَارَّ1 مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، [وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ]2، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ [كُفِّرَ عَنْهُ و]3 َغُفِرَ لَهُ".
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ، وَمِنْهُ: سُبْحَةُ4 الضُّحَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ5 و الْعِشَاءِ فَلِأَنَّهُمَا6 مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْعِشَاءُ أَوْضَحُهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} :
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّوَافِلُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك7 الْجَدُّ" .
المسألة الْخَامِسَةُ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصُّبْحِ ق، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ.
وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِ {قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} [القمر: 1].
ـــــــ
1 تعار: استيقظ "النهاية".
2 من ش.
3 ليس في ش.
4 يقال لصلاة النافلة: سبحة "النهاية".
5 في أ: أو.
6 في أ: فلأنها.
7 أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة "النهاية". وانظر "اللسان" - جد.(4/147)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}
...
51- سُورَةُ الذَّارِيَاتِ ِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الْهُجُوعُ:
النَّوْمُ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ1:
الْأَوَّلُ الْإِقْبَالُ [عَلَى الْأُنْسِ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُمْ، أَوْ]2 عَلَى الْوَطْءِ.
الثَّانِي الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْأَوَّلُ [ضَعِيفٌ وَالثَّانِي]2 بَاطِلٌ. وَلَوْلَا مَخَافَتُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ يَوْمًا مَا ذَكَرْنَاهُ لِبُطْلَانِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : تَكَلَّمَ3 الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} لِأَجْلِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُعْطِي أَنَّ نَوْمَهُمْ بِاللَّيْلِ كَانَ قَلِيلًا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُصَلِّي قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ؛ وَإِنَّمَا [مَعْنَاهُ]4 كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يَسْهَرُونَ قَلِيلًا. وَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى السَّهَرَ بِالْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ كُلَّهُ قَلِيلٌ.
وَفِي قَوْلِهِ "مَا" اخْتِلَافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ "الْمُلْجِئَةِ" .
ـــــــ
1 في ش: من أحد ثلاثة أوجه.
2 من ش.
3 في ش: ذكر.
4 من ش.(4/148)
المسألة الثَّالِثَةُ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَمْدُوحَةٌ شَرْعًا إجْمَاعًا، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، لِأَجْلِ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَضَمَانِ الْإِجَابَةِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.(4/149)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى1 : {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَمُدُّ الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ. قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: يُرِيدُ مَالِكٌ بِالرَّجُلِ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ. وَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ قُبَاءَ. وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ هَذَا لُبَابُهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "جَوْفُ اللَّيْلِ أَسْمَعُ".
وَرُوِيَ فِي "الصِّحَاحِ " عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ" 2، وَفِي رِوَايَةٍ: " إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ"، وَأَصَحُّهُ "إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ" "يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، [مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ]3، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" .
ـــــــ
1 في ش: المسألة الرابعة قوله تعالى... وهي الآية الثانية.
2 في ش: ثلث الليل.
3 ليس في ش.(4/149)
لْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} :
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَمْ لَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ: {وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَوَقْتَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ.(4/149)
سُورَةُ الطُّورِ
قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}
...
52- سُورَةُ الطُّورِ فِيهَا آيَتَانِ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وَقُرِئَ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ:
الْقِرَاءَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَمَّا إذَا كَانَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ1 لِلذُّرِّيَّةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الذُّرِّيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا تَعْقِلُ الْإِيمَانَ وَتَتَلَفَّظُ بِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ نِسْبَةً إلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنَ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ حُكْمَ أَبِيهِ لِفَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ العِصْمَةِ وَالْحُرْمَةِ.
فَأَمَّا إتْبَاعُ الصَّغِيرِ2 لِأَبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَأَمَّا تَبَعِيَّتُهُ لِأُمِّهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَاضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَالصَّحِيحُ فِي الدِّينِ أَنَّهُ يَتْبَعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الْعَبَّاسُ فَاتَّبَعَ أُمَّهُ فِي الدِّينِ، وَكَانَ لِأَجْلِهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ فَعَقَلَ الْإِسْلَامَ صَغِيرًا وَتَلَفَّظَ بِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا. وَالمسألة مُشْكِلَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا بِطُرُقِهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَمِنْ عُمُدِهَا3 هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} ، فَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَيْهِمْ؛
ـــــــ
1 في ش: الفضل.
2 في ش: الصبي.
3 في أ: ومن عمومها.(4/151)
َهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوهُ وَتَكَلَّمُوا بِهِ؛ فَاعْتُبِرَهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ الْعُمُدِ فِي هَذِهِ المسألة أَنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى صِحَّةَ رِدَّتِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ رِدَّتِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ إسْلَامُهُ، وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ بِإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَغِيرًا وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ.(4/152)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك حِينَ تَقُومُ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ1 } [الطور: 48-49].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ: {حِينَ تَقُومُ} :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فِيهِ حِينَ تَقُومُ مِنَ المَجْلِسِ لِيُكَفِّرَهُ.
الثَّانِي: حِينَ تَقُومُ مِنَ النَّوْمِ، لِيَكُونَ مُفْتَتِحًا بِهِ كَلَامَهُ.
الثَّالِثُ: حِينَ تَقُومُ مِنْ نَوْمِ الْقَائِلَةِ، وَهِيَ الظُّهْرُ.
الرَّابِعُ: التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ حِينَ تَقُومُ مِنَ المَجْلِسِ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَكْثُرُ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك [أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ]2، وَأَسْتَغْفِرُك، وَأَتُوبُ إلَيْك- إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ" . وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ.
جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْك يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ.
حَدَّثَك مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ؟ قَالَ
ـــــــ
1 وإدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر "سنن الترمذي": [5/ 393].
2 ليس في ش.(4/152)
مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ1 بْنُ إسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا وُهَيْبٌ، أَنْبَأَنَا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُهُ قَالَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ سُهَيْلٍ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ حَمَلَهُ سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ؛ فَهَذِهِ مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ.
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ" .
وَأَمَّا قَوْلُهُ { حِينَ تَقُومُ} يَعْنِي مِنَ اللَّيْلِ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ:
فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :"مَنْ تَعَارَّ2 مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ [الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ]3". وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سُقُوطِ التَّهْلِيلِ.
الثَّانِي وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ، فَإِنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
وَأَمَّا نَوْمُ الْقَائِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ، وَهُوَ يَلْحَقُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصُّبْحُ لِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَالظُّهْرُ لِنَوْمِ الْقَائِلِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّسْبِيحِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَسْبِيحُ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَفْضَلُهُ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، أَعْظَمُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ
ـــــــ
1 في أ: موسى، وقد سبق، وسيأتي كذلك، والبخاري اسمه محمد لا موسى.
2 تعار: إذا استيقظ ولا يكون إلا يقظة مع كلام، وقيل: هو تمطى وأن "النهاية".
3 ليس في ش.(4/153)
ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَضَعُهَا1 إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ وَيَقُولُ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: "وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ؛ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي، وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، [وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك]2، وَإِنَّا بِك وَإِلَيْك لَا مَنْجَى مِنْك، وَلَا مَلْجَأَ إلَّا إلَيْك، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك".
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. فَقَالَ: "قُلْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" .
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". قَالَتْ: فَطُفْت وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.
وَفِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَرَدَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَحَضَرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ:{فَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} [الطور: 35]. كَادَ يَنْخَلِعُ فُؤَادِي، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بَعْدُ بِالْإِسْلَامِ.
ـــــــ
1 في ش: ويصنعه.
2 من ش.(4/154)
53- سورة النجم
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ سَجْدَةَ النَّجْمِ1 لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ، وَرَآهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عَزَائِمِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.
وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِالنَّجْمِ إذَا هَوَى، فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى.
وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي وَصَلَهَا بِهَا {إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ إلَّا شَيْخًا كَبِيرًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ مِنْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا يَعْنِي فِي النَّجْمِ، وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
الشَّيْخُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ سَجَدَ، فَإِذَا قَرَأَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ وَسَجَدَ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَرَأَ {وَالنَّجْمُ} وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَهَا قِرَاءَةٌ قَرَأَهَا وَسَجَدَ. وَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا رَكَعَ وَسَجَدَ، وَلَمْ يَرَهَا عَلِيٌّ2 مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
ـــــــ
1 آخر آية في السورة: فاسجدوا لله واعبدوا.
2 ليس في ش.(4/155)
55- سُورَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ
قَوْلُهُ تَعَالَى : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الإِحْسَانِ، فَقَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك".
فَهَذَا إحْسَانُ الْعَبْدِ.
وَأَمَّا إحْسَانُ اللَّهِ فَهُوَ دُخُولُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَلِلْحُسْنَى دَرَجَاتٌ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ وَهَذَا مِنْ أَجَلِّهَا قَدْرًا، وَأَكْرَمِهَا أَمْرًا، وَأَحْسَنِهَا ثَوَابًا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فَهَذَا تَفْسِيرُهُ.(4/156)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
...
56- سُورَةُ الْوَاقِعَةِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ
قَوْله تَعَالَى : {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : هَلْ1 هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ اللَّهِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ فِي كُتُبِنَا؟
فَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ؛ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ مَصَاحِفُنَا.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {لَا يَمَسُّهُ}
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَسُّ بِالْجَارِحَةِ حَقِيقَةً.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَ نَفْعِهِ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ بِالْقُرْآنِ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ: {إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} :
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ طُهِّرُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الحَدَثِ، وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الآدَمِيِّينَ.
المسألة الرَّابِعَةُ : هَلْ قَوْلُهُ: {لَا يَمَسُّهُ} نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ؟
فَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ.
ـــــــ
1 من ش.(4/157)
وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ1. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: {مَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ، لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ.
المسألة الْخَامِسَةُ فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ:
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ، وَلَا تَصِلُ إلَيْهِ بِحَالٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ مَحَلٌّ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنَ الصُّحُفِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ قَالَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي "عَبَسَ وَتَوَلَّى": {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفْرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12-16]، يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي سُورَةِ "عَبَسَ".
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَضُّؤِ بِالْقُرْآنِ2 إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُفَهُ3، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الشَّرْعِ. أَيْ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فَهُوَ صَحِيحٌ، اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ4 مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَبِيًّا" ؛ لَكِنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ عَقْلٍ وَلَا دَلِيلِ سَمْعٍ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُسْخَتُهُ: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ 5 عَبْدِ كُلَالٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ: أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ فِي كِتَابِهِ "أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ".
ـــــــ
1 في ش: نهى.
2 ليس في ش.
3 في ش: يمس المصحف.
4 في ش: الإيمان.
5 في أ: أي عبد كلال.(4/158)
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهِ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُمَا يَقْرَآنِ طَهَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ1! وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: هَاتُوا الصَّحِيفَةَ. فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنَّهُ لَا يَمَسُّهُ2 إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرْثِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فَقَدْنَا الْوَحْيَ إذْ وَلَّيْت عَنَّا ... وَوَدَّعَنَا مِنَ اللَّهِ الْكَلَامُ
سِوَى مَا قَدْ تَرَكْت لَنَا قَدِيمًا ... تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ
وَأَرَادَ صُحُفَ الْقُرْآنِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْلِيهَا عَلَى كَتَبَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّ ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ فِيهِ3.
وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ4. وَهَذَا إنْ سُلِّمَ5 مِمَّا يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ، وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم "النهاية".
2 في ش: لا يمسها.
3 في ش: وهما مالا مكتوب بهما.
4 في ش طاهر.
5 في أ، و"القرطبي": سلمه.(4/159)
سُورَةُ الْحَدِيدِ
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
...
57- سُورَةُ الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ يَعْنِي1 لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ؛ إذْ هُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ، وَهُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُحَدُّ وَلَا يُشَبَّهُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ {يَدُ اللَّهِ} [المائدة: 64] وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ، وَقَرَأَ عَيْنُ اللَّهِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ2 إلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِنَفْسِهِ، فَتُعْدَمُ [نَفْسُهُ وَ]3 جَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا بِاَللَّهِ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ.
فَإِنْ قِيلَ:
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: "إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ4 الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ".
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا.
الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَاعْرِفْهُ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في أ: تشبه.
3 ليس في ش.
4 سمي بذلك لشؤمه "القاموس".(4/160)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ1، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [فِي الدِّينِ وَيَكُونُ]2 فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ:
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [فِي مَرَضِهِ]2: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ" . فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ3 إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ" 4. الْحَدِيثَ.
فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ.
ـــــــ
1 النصب: المشقة والتعب.
2 ليس في ش.
3 أسيف: سريع البكاء والحزن، أو رقيق "النهاية".
4 في ش: الناس.(4/161)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ1 "فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا" . فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ.
كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ" . وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا. وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي الْآثَارِ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا".
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ: "مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ".
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّرَقُسْطِيِّ:
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ ... دَاخَلَهُ لِلصِّبَا2 وَمِنْ بَذَخِ
اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ3 ... جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا بْنَ أَخِي
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ ... عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ
مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ ... يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في " القرطبي": في الصبا.
3 في "القرطبي": [أن تعيرهم].(4/162)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19].(4/162)
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ}:
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ.
[كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}] 1 [البقرة: 143].
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
المسألة الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "خَيْرُ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" ، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ}. وَنُورُهُمْ [قِيلَ] وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ : هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقَوْلِ حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى.
وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ! وَهُمْ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ [الْمَقْتُولُ دُونَ أَهْلِهِ]1. الْمَطْعُونُ2. الْغَرِقُ3. الْحَرِقُ. الْمَجْنُونُ. الْهَدِيمُ4. ذَاتُ الْجَمْعِ5. الْمَقْتُولُ ظُلْمًا. أَكِيلُ السَّبْعِ. الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ6 فَهُوَ شَهِيدٌ. الْمَرِيضُ شَهِيدٌ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 المطعون: هو الذي يموت في الطاعون.
3 الغرق: هو الذي يموت في الماء.
4 في "صحيح مسلم": [1521]، وصاحب الهدم. وقال: إنه من يموت تحته. وعد الشهداء فيه خمسة.
5 أي التي تموت وفي بطنها ولد. وقيل التي تموت بكراً "النهاية".
6 البطن: مرض البطن.(4/163)
الْغَرِيبُ شَهِيدٌ. صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ. فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ قَوْلَهُ {وَالشُّهَدَاءُ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {الصِّدِّيقُونَ} عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِ ي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ، وَالْكُلُّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي "الْمُلْجِئَةِ".(4/164)
الْآيَة الرَّابِعَة:
قَوْله تَعَالَى : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : الرَّهْبَانِيَّةُ:
فَعْلَانِيَّةٌ مِنَ الرَّهَبِ1 كَالرَّحْمَانِيَّةِ؛ وَقَدْ قُرِئَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنَ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنَ الرُّضْوَانِ. [وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ الْتَزَمَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ]2.
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِهَا:
وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ.
الثَّالِثُ: سِيَاحَتُهُمْ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ.
الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْرِي أَيَّ
ـــــــ
1 في ش: الرهبة. وفي "القرطبي": قال الماوردي: وفيها قراءتان: إحداهما بفتح الراء، وهي الخوف من الرهب. والثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان [17/ 263].
2 ليس في ش.(4/164)
النَّاسِ أَعْلَمُ" ؟ قَالَ: قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ. وَافْتَرَقَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتْ1 الْمُلُوكَ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ2 وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}" .
المسألة الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، [وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ]2، وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمْ3 اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}:
مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ابْتَدَعُوهَا}. وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا، وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيه أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 في ش، و "القرطبي": وزات.
2 ليس في ش.
3 في "القرطبي ": فعابهم الله.(4/165)
58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ
الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 1-3].
فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ :
المسألة الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ، لَا يَخْتَصُّ1 بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَا لْأُصُولِ ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا، وَلَكِنَّ الْبَارِي تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا}:
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ، وَأَمْرِ اللَّهِ بِهَا، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُجَادِلَةِ:
وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ: قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ. وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ
ـــــــ
1 في ش:لا يحس الأصوات.(4/166)
دُلَيْجٍ1. وَقِيلَ: بِنْتُ الصَّامِتِ. وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ. وَفِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الْآيَةَ.
وَقِيلَ: خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا2؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ قَالَ: فَجَنَحَ إلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا، وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا3، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ. قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ؛ قُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك}.
وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ لَهُ: وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي شَأْنِي، لَبِسْت جِدَّتِي، وَأَفْنَيْت شَبَابِي، وَأَكَلْت مَالِي، حَتَّى إذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاحْتَجْت إلَيْك فَارَقْتنِي.
قَالَ: مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ شَيْئًا فِي أَمْرِك؟ فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَعْتِقْ رَقَبَةً" . قَالَ: لَا أَجِدُ ذَلِكَ. قَالَ: "صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. قَالَ: "أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا". قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعِيرًا، وَقَالَ: "خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ".
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ، كَانَ رَجُلًا ميطا4 فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بِرِيقِ الْقَمَرِ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا
ـــــــ
1 في أ: فليج.
2 في " القرطبي": [17/ 270]، هي خولة بنت ثعلبة. وقيل هي خولة بنت خويلد. وقيل خويلة بنت ثعلبة. وفي "سنن الترمذي" [5/ 406]: خولة بنت ثعلبة. وفي "المحبر": [424] خولة بنت ثعلبة بن أصرم بن فهر.
3 في ش: عنهما.
4 هكذا.(4/167)
[وَسَاقِهَا]1 فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ [ثَلَاثًا]1؟ فَأَمَرَ [النَّبِيُّ]2 أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً. قَالَ: مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ. فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ. قَالَ: إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ. قَالَ: " صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" . قَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ. قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِنَاعٍ3 فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ لَهُ: "خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك".
[وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ]1 سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ: وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ مِنْ وَجْهِك، وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ القَتْلَى، وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُومَهُ، وَاسْتَشْفَى لَهُ فَبَرِئَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} :
رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ4 ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ5، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ" ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ: [إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ]1.
ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَرُمْت عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: [إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ]1. وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ6، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، اُسْكُتِي، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ.
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجِهَا: "أَعْتِقْ رَقَبَةً" . قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: "صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" . قَالَ: إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْت7 أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي. قَالَ: "فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا" . قَالَ: فَأَعِنِّي، فَأَعَانَهُ [بِشَيْءٍ]1.
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 2]:
حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ [بِظَهْرٍ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ]1 مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ،
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 من ش.
3 القناع: الطبق الذي يؤكل عليه.
4 في أ: فليج.
5 في ش: لذلك وفي "القرطبي": عن ذلك.
6 في ش: يعود.
7 في ش: خشيت.(4/168)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ؛ فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى.
والْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، أَوْ مِثْلُ أُمِّي، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ، فَكَانَ ظِهَارًا؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ، وَهَذَا قَوِيٌّ؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ.
الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ طَلَاقًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ شَيْئًا؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنَ المَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ1 كَالظَّهْرِ. وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا، وَهَذَا نَقْضٌ
ـــــــ
1 في ش: فكان مقيدا حكمه.(4/169)
لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ.
الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَهَذِهِ أَشْكَلُ مِنَ التِي قَبْلَهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ.
المسألة السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ: {مِنْكُمْ} .
يَعْنِي مِنَ المُسْلِمِينَ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنَ الخِطَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
قُلْنَا: هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ. وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى. وَقَدْ مَدَدْنَا إطْنَابَ الْقَوْلِ فِيهَا فِي "مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ" .
وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ1 فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا مِنْ وَلِيٍّ وَأَهْلٍ2 وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَعْقِدُونَ [بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ]3 نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ.
المسألة السَّابِعَةُ : وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ.
المسألة الثَّامِنَةُ : قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ.
ـــــــ
1 في: فأنكحتهم.
2 في ش: وأصل.
3 ليس في ش.(4/170)
قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ1 مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا إجْمَاعٌ.
المسألة التَّاسِعَةُ : يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ، فَكَيْفَ يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ، وَيُصَحَّحُ2 كِنَايَتُهُ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ: {مِنْ نِسَائِهِمْ} ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مِنْ مُحَلَّلَاتِكُمْ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ.
المسألة الْعَاشِرَةُ : مَنْ بِهِ لَمَمٌ3، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ، فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مَنْ غَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ. فَقَوْلُهَا: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ، فَظَاهَرَ مِنْهَا. وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا، وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قَوْلَهُ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ.
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ. وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فِي زَمَانَيْنِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَاقِعٌ شَرْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "كِتَابِ النَّسْخِ".
ـــــــ
1 في ش: النساء.
2 في ش: وتصح.
3 لمم: جنون خفيف.(4/171)
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ.
المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ظَاهَرَ مِنَ الأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ [إذَا زُوِّجَهَا]1 لِأَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ2 أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ3، فَكَانَتْ وَاحِدَةً. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ، وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ4 لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ.
المسألة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا}:
[فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا] 1، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ مِنَ الكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ.
المسألة الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}:
وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في ش: لأنه.
3 في ش: بوجه.
4 في ش: الواجب.(4/172)
الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ.
الْخَامِسُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ.
السَّابِعُ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ1.
وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ القَوْلِ وَزُورٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ مِنْ قَتْلٍ وَوَطْءٍ فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ {ثُمَّ} وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ {ثُمَّ يَعُودُونَ} يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ كَالْإِيلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ يُمْسِكْهَا؛ إذْ لَا يَصِحُّ إمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ. وَهَذَا عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ.
قُلْنَا: إذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ، وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَقَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ، ثُمَّ عَادَ لِمَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلُ التَّحْلِيلِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَهُ، وَقَالَهُ فِي
ـــــــ
1 في "القرطبي": قوله يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم: [17/ 281].(4/173)
نَفْسِهِ مِنَ الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الْمُحَرَّمِ.
قُلْنَا: هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ1؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْزِمُ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بِمُحَلَّلٍ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
المسألة التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ فَقُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا مِنْهُمْ النَّسَائِيّ2 وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ. قَالَ: "مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ!" قَالَ: رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ. فَقَالَ: "لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ".
المسألة الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الظِّهَارِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَطَأْ حَتَّى يُكَفِّرَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبَنَاهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْدِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ.
المسألة الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ. قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ مُؤَبَّدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْغُو؛ وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ عُمُومٌ فِي الْمُؤَقَّتِ وَالْمُؤَبَّدِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ3 لَمْ يَرْفَعْهُ مُرُورُ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ رَافِعَةً لَهُ. وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَمَانًا مُؤَقَّتًا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ عَامًّا، وَلَا انْفِصَالَ لَهُ عَنْهُ.
ـــــــ
1 في أ: هذا ما لا معنى له.
2 "سنن النسائي": [6/ 136].
3 في ش: بظهار.(4/174)
المسألة الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّهَا السَّلِيمَةُ مِنَ العُيُوبِ، وَفِي أَنَّهَا الْمُؤْمِنَةُ لَيْسَتْ الْكَافِرَةَ، وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَأَنَّهَا مَنْ لَا شَائِبَةَ1 لِلْحُرِّيَّةِ فِيهَا، كَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ:
المسألة الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ :
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُجْزِي، فَالْمُكَاتَبَةُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ2 الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا، وَهِيَ مِنَ السَّيِّدِ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَرَجَّحْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَشْبَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا بِالْأَمَةِ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ:
المسألة الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : عَلَى مَا تَقَدَّمَ3.
المسألة السَّادِسَةُ: وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ حَالُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ4. وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا. وَالثَّانِي الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فِيهِ5 يَرْتَبِطُ الْوُجُوبُ بِالْعَوْدِ، وَفِيهِ يَرْتَبِطُ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالَةُ الِارْتِبَاطِ، بَيْدَ أَنَّهُ لِلْمَسْأَلَةِ حَرْفٌ جَرَى فِي أَلْسِنَةِ عُلَمَائِنَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ مَقْصُودُ المسألة؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَةِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ أَوْ صِفَةُ الْعُقُوبَةِ.
وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ؛ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا صِفَةَ الْقُرْبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ صِفَةَ الْقُرْبَةِ فَالْقُرْبُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الْإِجْزَاءِ خَاصَّةً بِحَالِ الْأَدَاءِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْحُدُودُ.
ـــــــ
1 في ش: ومن لا شعبة للحرية فيها.
2 ليس في ش.
3 في ش: كما.
4 في ش: في أحد قوليه.
5 ليس في ش.(4/175)
فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَائِمًا، ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ فِيهَا فَهَذَا مِنَ المُغَايِرِ لِلْقُرْبَةِ1 فِي الْهَيْئَاتِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو الْمَعَالِي.
قُلْنَا: إنْ كَانَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ جِنْسَيْنِ فَإِنَّ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ ضِدَّانِ، فَالْخُرُوجُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ أَقْرَبُ مِنَ العُدُولِ مِنْ ضِدٍّ إلَى ضِدٍّ.
فَإِنْ قِيلَ: الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِلصَّلَاةِ؛ فَاعْتُبِرَ حَالُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِحِلِّ الْمَسِيسِ؛ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْمَسِيسِ اُعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا2.
المسألة السَّابِعَةُ: وَالْعِشْرُونَ قَدْ بَيَّنَّا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ مِنَ الإِطْعَامِ، وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ الشِّبَعُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَسَطَ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ: مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قِيلَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ قُلْت: مُدُّ هِشَامٍ، قَالَ: بَلَى، وَمُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبُّ إلَيَّ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا. وَمُدُّ هِشَامٍ هُوَ مُدَّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ أَشْهَبُ: قُلْت لَهُ: أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ، وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَعَ الْكَلَامُ هَاهُنَا كَمَا تَرَوْنَ فِي مُدِّ هِشَامٍ، وَدِدْت أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوَ مِنَ الكُتُبِ رَسْمَهُ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا، وَاسْتَقَرَّ بِهَا الرَّسُولُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ الظِّهَارُ وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فَهِمُوهُ وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ، وَأَنَّهُ الشِّبَعُ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَقَدِّرٌ لَدَيْهِمْ، فَقَدْ كَانُوا يَجُوعُونَ لِحَاجَةٍ وَيَشْبَعُونَ بِسُنَّةٍ لَا بِشَهْوَةٍ وَمَجَاعَةٍ3، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّبَعِ فِي الْأَخْبَارِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ فِي الْأَنْوَارِ، وَاسْتَمَرَّتْ
ـــــــ
1 في أ: من التغاير القريبة.
2 في أ: فيه.
3 من ش.(4/176)
الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ، فَرَأَى مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشْبِعُهُ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ، وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ: مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ. فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُدِّهِ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ، وَأَمَّا1 أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا2 عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ.
أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [لِأَشْهَبَ]3: الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ، وَبِهَذَا أَقُولُ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ4، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً لِصُلْبِهِ5، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
المسألة الثَّامِنَةُ: وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} :
يَقْتَضِي أَنَّ الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ6 يُبْطِلُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِعْلَهَا قَبْلِ التَّمَاسِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْمَسِيسِ فِي الْوَطْءِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ قَبْلَ التَّمَاسِّ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ فَقَدْ [تَعَذَّرَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ، فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَهُ، وَإِذَا اسْتَأْنَفَهَا]7 كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ جَمِيعِهَا، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فِي جَمِيعِهَا.
ـــــــ
1 في ش: فأما.
2 في ش: مقسما.
3 ليس في ش.
4 في ش و "القرطبي": إلى القبول.
5 في م: لقلبه.
6 في ش: الكفارة.
7 ليس في ش.(4/177)
قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُذَقْ طَعْمَ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمُحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ1 وَطْءُ تَعَدٍّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ.
المسألة التَّاسِعَةُ: وَالْعِشْرُونَ مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السَّفِيهِ وَالرَّشِيدِ. وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشِيًا، وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ. وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ2 أَوْ لِوِلَايَةٍ، وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ فِعْلُهُ فِيهِ؟ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
ـــــــ
1 في ش: وهو.
2 في ش: حجر الصغير أو الولاية.(4/178)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8].
لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْك؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عَلَيْكُمْ" [ فِي رِوَايَةٍ]3، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "وَعَلَيْكُمْ" بِالْوَاوِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ.
وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسِبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا أَحَدَ أَصَبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ هَذَا فِي "مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ".
ـــــــ
3 ليس في ش.(4/178)
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، [فَرَدَّ عَلَيْهِ]1، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَتَدْرُونَ مَا قَالَ هَذَا؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قَالَ كَذَا؛ رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَرَدُّوهُ. قَالَ: "قُلْت: السَّامُ عَلَيْكُمْ ؟" فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ: "إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: عَلَيْك مَا قُلْت". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
ـــــــ
1 ليس في ش.(4/179)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ:
فِيهِ أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ.
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْكَرَامِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر الْغَلَّابِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ [عَنْ أَنَسٍ]2 قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيِّهِمْ يُوَسِّعُ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ" .
ـــــــ
2 ليس في ش.(4/179)
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ1 يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا}:
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ2 بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ3. وَالنَّشْزُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَرْضِ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ4؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى.
المسألة الرَّابِعَةُ: كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ:
الْأَوَّلُ: مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ.
الثَّانِي: مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يُتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ5 إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى.
الثَّالِثُ: مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ.
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ6 مِنَ النَّاسِ.
الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فَيَرْتَفِعُ
ـــــــ
1 في ش: المجلس.
2 في ش: عهد.
3 في أ:ميلين.
4 في ش: للارتفاع.
5 في أ: للبكور.
6 في ش: والبأس.(4/180)
لْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا.
وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْآيَةَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَجَالِسِنَا هَذِهِ، وَإِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْهُ: إنَّ قَوْلَهُ: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الصَّحَابَةَ { وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلْحَقِّ.
وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي المسألة، وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/181)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ1 عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دِينَارٌ"؛ قُلْت: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: "نِصْفُ دِينَارٍ". قُلْت: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ:" فَكَمْ؟" قُلْت: شَعِيرَةٌ. قَالَ: "إنَّك لَزَهِيدٌ". فَنَزَلَتْ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13]، قَالَ: فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ أُصُولِيَّتَيْنِ:
الْأُولَى نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا.
الثَّانِيَةُ النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِالْقِيَاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
ـــــــ
1 في أ: الأنصاري، والمثبت من ش، و "القرطبي".(4/181)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَعِيرَةٌ. يُرِيدُ وَزْنَ شَعِيرَةٍ [مِنْ ذَهَبٍ]1.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ2 مُجَاهِدٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، وَنَاجَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ [أَنَّهُ تَصَدَّقَ]3 بِخَاتَمٍ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَدْ سَرَدَ المسألة كَمَا يَجِبُ أَسْلَمُ فِي رِوَايَةِ زَيْدٍ ابْنِهِ عَنْهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ. يُرِيدُ لَا يَسْأَلُهُ حَاجَةً إلَّا نَاجَاهُ بِهَا مِنْ شَرِيفٍ أَوْ دَنِيءٍ؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْتِيهِ فَيُنَاجِيهِ، كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ حَوْلَهُ. فَيَقُولُ لَهُ: أَتَدْرُونَ لِمَ نَاجَى فُلَانٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ إنَّمَا نَاجَاهُ؛ لِأَنَّ جُمُوعًا [كَثِيرَةً] مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ خَرَجُوا لِيُقَاتِلُوكُمْ. قَالَ: فَيُحْزِنُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ سَمَّاعَةٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ يُنَاجِيهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61]. وَقَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 9-10] فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ المُنَاجَاةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} لِيَنْتَهِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَعَرَفَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاهُمْ صَدَقَةً؛ فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنِ النَّجْوَى، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: لَا نُطِيقُهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَنَسَخَتْهَا4 آيَةُ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13].
وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ زَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا وَأَطْهَرَ]5. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ؛ لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 من ش.
2 ليس في ش.
3 من ش.
4 في ش: ونسخها.
5 ليس في ش.(4/182)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ؛ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُوهُ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ، فَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} .
المسألة الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ2 عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسْ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهُمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِ3 الْآيَةِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَدَائِعَ اسْتِنْبَاطِ مَالِكٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ حَفِيًّا بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ غَرِيًّا بِالْمُبْتَدِعَةِ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ جَانِبَ الْحُجَّةِ مِنَ القُرْآنِ، وَمِنْ أَجْلِهِ أَخَذَهُ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَدَّعِي أَنَّهَا تَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ وَلَا يُرِيدُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَجُوسِيًّا نَاظَرَ قَدَرِيًّا، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ لِلْمَجُوسِيِّ: مَالَك لَا تُؤْمِنُ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنْت. قَالَ لَهُ الْقَدَرِيُّ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّك. قَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ: فَدَعْنِي مَعَ أَقْوَاهُمَا.
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي: [239]، وللسيوطي: [165].
2 في ش: قال أشهب.
3 في ش: يقول الله تعالى.(4/183)
- سُورَةُ الْحَشْرِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ.
وَهُمْ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: جَلَاءُ الْيَهُودِ.
الثَّانِي: إلَى الشَّامِ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ1: أَوَّلُ2 الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [فِي الدُّنْيَا]3.
ـــــــ
1 في أ: قاله.
2 في أ: آخر.
3 ليس في ش.(4/184)
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكٍ: هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ؟ فَقَالَ لِي: الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ؛ قَالَ: وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي وَقْتِهَا:
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } :
وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ. وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ1:
وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى ... أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى
يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا ... كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ2 الْمَعْنَى، فَقَالَ:
وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا ... قِرَاهُ3 وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ
وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ... أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ4 لَا مَعَاقِلُهُ
وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ ... وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ
ـــــــ
1 للجعفي، كما في "اللسان".
2 في ش: إصابته.
3 في ش: فداه.
4 في ش: عقال له.(4/185)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ" ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ مِنَ المَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ. وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} :
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثَّانِي: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا مِنْ خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ [مِنْهَا]1.
الْخَامِسُ: كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ.
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} :
وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ
ـــــــ
1 في ش: بها.(4/186)
دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَهُمُ اللَّهُ مِنْهَا1، وَمِنْ وُجُوهِهِ2 أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُمْ، وَمِنْ وُجُوهِهِ2 أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ: السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ
ـــــــ
1 في ش: عنها.
2 في أ: وجهه.(4/187)
لْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4].
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ.
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ، أَيْ جِهَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُخْرَى، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ، وَكَانَ نَقْضُهُمُ العَهْدَ لِخَبَرٍ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ:
جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ رَحًى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ؛ وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمُ الى خَيْبَرَ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [بِخَيْبَرَ. قَالَ: فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَلَاهُمْ]3 عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالصَّفْرَاءِ، وَالْبَيْضَاءِ، وَالْحَلْقَةِ، وَالدِّنَانِ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ.
فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَالْحَلْقَةُ: السِّلَاحُ. وَالدِّنَانُ: الْفَخَّارُ. وَمِسْكُ الْجَمَلِ: جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ بِشَعْرِهَا.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ: "يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ، يَا إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ" . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: فَقَالُوا: مَهْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا]4، وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ، كَالنِّكَاحِ يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَبِالْفِعْلِ، وَهُوَ الرَّضَاعُ. وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ5، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَالِاسْتِيلَادُ6 لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ.
ـــــــ
3ليس في ش.
4 من ش.
5 في ش: بقوله.
6 في ش: والاستيلاء ينقضه.(4/187)
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا مِنْ بِلَادِي؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ؟
قُلْنَا: قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
فَإِنَّ قِيلَ: هَذَا مَا خَانَهُ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ1 بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ. قُلْنَا: الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ عَاقِدٍ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى مَا كَتَبَ مِنَ الجَلَاءِ.(4/188)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا2:
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ؛ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ3، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ4:
لَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الْآيَةَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
الثَّانِي: إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، وَإِنْ يَيْأَسُوا فَعَلُوا؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي
ـــــــ
1 في ش: تحققه.
2 "أسباب النزول" للواحدي: [237]، وللسيوطي: [166].
3 البويرة: موضع منازل بني النضير اليهود.
4 "ياقوت" [مادة البويرة]، "ديوانه": [194]، وفيه: وهان.(4/188)
الْوَاضِحَةِ، وَعَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ1، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ، حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا، فَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا مَقْصُودَةٌ عَقْلًا.
المسألة الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ، وَهُوَ اللِّينَةُ، عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ، وَإِلَّا الْعَجْوَةَ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْخَلِيلُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَرَائِمُ النَّخْلِ؛ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ الْعَجْوَةُ خَاصَّةً؛ قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
الْخَامِسُ أَنَّهَا النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَهِيَ أَفْضَلُهَا.
السَّادِسُ أَنَّهَا الْأَشْجَارُ كُلُّهَا.
السَّابِعُ أَنَّهَا الدَّقَلُ2؛ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: لَا نُنَحِّي الْمَوَائِدَ حَتَّى نَجِدَ الْأَلْوَانَ يَعْنُونَ الدَّقَلَ.
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَثِمَارِهَا وَأَشْجَارِهَا.
الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُعَضِّدُهُ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ، قَالُوا: اللِّينَةُ وَزْنُهَا لِوْنَةٌ، وَاعْتُلَّتْ عَلَى أَصْلِهِمْ. [فَآلَتْ إلَى لَيْنَةٍ]3، فَهُوَ لَوْنٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا؛ كَبَرْكِ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَبِرْكِهِ بِكَسْرِهَا لِأَجْلِ الْهَاءِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : مَتَى كَانَ الْقَطْعُ؛ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ وَالْجَوَازَ فِي بَنِي النَّضِيرِ [تَضَمَّنَ بَنِي قُرَيْظَةَ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ]4 قَبْلَ قُرَيْظَةَ بِمُدَّةٍ كَبِيرَةٍ.
ـــــــ
1 في ش: وعليه يناظر أصحاب الشافعي.
2 الدقل: أردأ التمر.
3 في ش: لا تنتفخ.
4 ليس في ش.(4/189)
المسألة الْخَامِسَةُ : تَأَسَّفَتْ الْيَهُودُ عَلَى النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقَالُوا: يَنْهَى مُحَمَّدٌ عَنِ الفَسَادِ وَيَفْعَلُهُ!
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقْطَعُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ، فَصَوَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَلَّصَ الطَّائِفَتَيْنِ فَظَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُخَرَّجُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعَهُمْ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْإِذَايَةِ لِلْكُفَّارِ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .(4/190)
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} :
يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ مِنَ اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}:
الْإِيجَافُ: ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ. وَالرِّكَابُ: اسْمٌ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً عُرْفًا لُغَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَقًّا مِنَ الرُّكُوبِ، وَيَشْتَرِكُ غَيْرُهَا مَعَهَا فِيهَا، وَلَكِنْ لِلْعُرْفِ1 احْتِكَامٌ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُشْرَكَاتِ2 بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} :
الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ3 فِي قُلُوبِهِمْ، دُونَ عَمَلٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا، وَلَا تَجَشَّمُوا
ـــــــ
1 في أ: للعرب.
2 في ش: المشتركات.
3 في ش: برعب النبي.(4/190)
رِحْلَةً، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مِنَ النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِهَا.
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ لَمَّا طَلَبَا عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ المَالِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِسَهْمٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، وَقَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا، وَاَللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ... وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُثُّهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَصَّهُ بِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَاهَا الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَمِنْ الْأَنْصَارِ لِأَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ [وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ] 1 لِحَاجَةٍ كَانَتْ بِهِمْ، وَفِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : تَمَامُ الْكَلَامِ:
فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
ـــــــ
1 من ش.(4/191)
لْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [حشر: 7].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهَا هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي قُوتِلَتْ، فَأَفَاءَ اللَّهُ بِمَالِهَا؛ فَهِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
ـــــــ
1 من ش.(4/191)
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
الثَّانِي هُوَ مَا غَنِمْتُمْ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِيهِ، وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، إذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّالِثُ: قَالَ مَعْمَرٌ: الْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَالثَّالِثَةُ الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ.
الرَّابِعُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} هِيَ النَّضِيرُ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} هِيَ قُرَيْظَةُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ : هَذَا لُبَابُ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ؛ وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَأَنَّ1 الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهَا آيَاتُ بَنِي النَّضِيرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ، وَفِيهَا آيَتَانِ: الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}. وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. وَفِي الْأَنْفَالِ آيَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...} [الأنفال: 41].
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَوْ مَعْنَيَانِ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ: أَمَّا: الْآيَةُ الْأُولَى: فَهِيَ قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ.
ـــــــ
1 في أ: وأما.(4/192)
لْآيَةُ السَّادِسَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7].(4/192)
وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِمُسْتَحِقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالِ، وَعُرِّيَتْ. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ لِقِتَالٍ أَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ؛ فَنَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ هَاهُنَا، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كُلُّهُ وَنَحْوُهُ. وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّانِيَةِ؛ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ مُحْكَمَةٌ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْبِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَظِّمُ لَك شَتَاتَ الرَّأْيِ، وَيُحْكِمُ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَقُولُ مَالِكٌ: إنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَيَلْحَقُهَا النَّسْخُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ القَوْلِ بِالْإِحْكَامِ، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ إلَّا مَا قَسَّمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا مَعْنًى مُجَدَّدٌ حَسْبَمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/193)
لْآيَةُ السَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي الْمَعْنَى:
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَعْنَاهَا مَا أَعْطَاكُمْ مِنَ الفَيْءِ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ.
الثَّانِي: مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الغُلُولِ فَلَا تَأْتُوهُ.
الثَّالِثُ: مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ:
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ".
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا(4/193)
وَلِذَلِكَ قَالَ1: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ2 الَّذِي افْتَدَى مِنَ الجَلْدِ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ: "أَمَّا غَنَمُك فَرَدٌّ عَلَيْك وَجَلْدُ ابْنِك مِائَةً وَتَغْرِيبُهُ عَامًا" 3.
وَتَرَدَّدَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ عُظْمَى بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي عَقْدٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ؛ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ، وَيُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ؛ أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْبَاسِ وَالْهِبَاتِ فَيَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِنَ الجَهَالَةِ وَالْأَخْطَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِيهَا، حَتَّى قَالَ أَصْبَغُ: إنَّ مَا لَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَ فِي الصُّلْحِ مَعَ مَا يَجُوزُ مَضَى الْكُلُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَمْضِي إنْ طَالَ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ.
وَأَمَّا إنْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ: يُفْسَخُ أَبَدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ، فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَأْصِيلًا، وَفِي فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَفْصِيلًا بَنَيْنَاهُ عَلَى تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْمَعْنَى وَالرَّدِّ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فَسْخُ الْفَاسِدِ أَبَدًا حَيْثُمَا وَقَعَ، وَكَيْفَمَا وُجِدَ، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ1: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} :
وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –4: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ5 لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ" . فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ،
ـــــــ
1 "صحيح مسلم": [1344].
2 العسيف: الأجير "النهاية".
3 في ش: وجلد ابنه وغربه.
4 "صحيح مسلم": [1678].
5 الواشمة: الوشم أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر. والمستوشمة: التي يفعل بها ذلك. والنامصة: التي تنتف الشعر من وجهها. والمتنمصة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. والمتفلجات:الفلج: فرجة بين الثنايا، والمتفلجات: اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين "النهاية".(4/194)
فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: [إنَّهُ بَلَغَنِي]1 أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته؛ أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.(4/195)
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ طُرِدَ، وَنَصَرُوهُ حِينَ خُذِلَ، فَلَا2 مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الآفَاقِ فَقَالَ: إنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ القُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ...} الْآيَةَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّ الْقَارِئَ رُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِنُكْتَةٍ كَافِيَةٍ فِي ذَلِكَ مُغْنِيَةٍ عَنِ التَّطْوِيلِ، فَيُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ فَاتْلُ مَنَاقِبَ مَكَّةَ إلَى آخِرِهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَيْتهَا قُلْ:
إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الصَّحِيحِ: "اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ" ؛ فَقَدْ جَعَلَ حُرْمَةَ الْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ حُرْمَةِ مَكَّةَ.
وَقَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَبِالْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ أَنْ3 يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ. وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ [النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ]4.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في أ: ولا مثل.
3 في أ: وأن.
4 من ش.(4/195)
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ كَذَا قَالَ النَّاسُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – [دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]1؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ" .
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} :
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . مُخْتَصَرٌ، وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَصَابَنِي الْجَهْدُ؛ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا. فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ الصِّبْيَةِ.
قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا2 اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ.
ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ، وَأَنْزَلَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ: جِئْنِي بِقَوْمِك. قَالَ: الْخَزْرَجُ. قَالَ: الْأَنْصَارُ، فَدَعَاهُمْ.
[وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ]3، فَقَالَ لَهُمْ: إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ4 بِهَا، وَكَانَتْ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ" فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ:
ـــــــ
1 من ش.
2 ليس في ش.
3 ليس في ش.
4 في أ: خصصتم.(4/196)
بَلْ نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا لَهُمْ؛ فَنَزَلَتْ1 الْآيَةُ. الْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ: وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ: إنَّهَا الْإِيثَارُ2، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ، فَقَالَتْ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51].
وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَطَلَّعُ فَيَرَى3 الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُونَك، نَحْرِي دُونَ نَحْرِك. وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُلَّتْ.
المسألة السَّادِسَةُ: الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ4 أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ.
المسألة السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُمَا مَعْنَيَانِ: فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
"مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ5 مِنْ حَدِيدٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ
ـــــــ
1 انظر "أسباب النزول" للواحدي: [238]. وللسيوطي: [166].
2 في أ: بالإيثار.
3 في أ: اليرى.
4 في ش: درجة.
5 في ش: جنتان من حديد.(4/197)
يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ" . وَالشُّحُّ: مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ؛ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَهَابِ الشُّحِّ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.(4/198)
ْآيَةُ التَّاسِعَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ:
وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ1 وَمِنْ الصَّحَابَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ التَّابِعُونَ بَعْدَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَوَاهُ عَنْهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا؛ قَالُوا: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} .
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ:
هَذِهِ نَازِلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا قَدِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا افْتَتَحَ2 الْفُتُوحَ عَلَى عُمَرَ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَاسْتَحَقَّ بِكِتَابِ اللَّهِ الْغَنِيمَةَ، فَسَأَلُوهُ الْقِسْمَةَ3، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْهَا، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ. فَمَا حَالَ الْحَوْلُ إلَّا وَقَدْ مَاتُوا.
ـــــــ
1 في ش: والصحابة.
2 في ش: فتح.
3 في ش: الغنيمة.(4/198)
وَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانَا1 مَا تَرَكْت قَرْيَةً اُفْتُتِحَتْ إلَّا قَسَمَتْهَا بَيْنَ أَهْلِهَا.
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ الْقِسْمَةَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، وَرَأَى مَالِكٌ أَقْوَالًا أَمْثَلُهَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قِسْمَةُ الْمَنْقُولِ وَإِبْقَاءُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ سَهْلًا2 بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، إلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فَيُنْفِذَ أَمْرًا، فَيَمْضِي عَمَلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الفَيْءِ، وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ: الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ مَعْلُومُونَ، {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَفِي "الصَّحِيحِ" 3 أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي4 رَأَيْت إخْوَانَنَا" . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك، فَقَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ5 عَلَى الْحَوْضِ".
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إخْوَانَهُمْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
ـــــــ
1 بياناً واحداً: أي شيئاً واحداً، لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقي من لم يحضر الغنيمة ومن يجيء بعد من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعهم. قال أبو عبيد: ولا أحسبه عربياً منها. وقال أبو سعيد الضرير: ليس في كلام العرب ببان. والصحيح عندنا بياناً واحداً والعرب إذا ذكرت من لا يعرف قالوا:هيان بن بيان. المعنى لأسوين بينهم في العطاء حتى يكونوا شيئاً واحداً [لا فضل لأحد على غيره] قال الأزهري: ليس كما ظن، وهو حديث مشهور "النهاية".
2 في "القرطبي": شملاً.
3 "صحيح مسلم": [218].
4 في "مسلم": أنا قد رأينا.
5 أي متقدمهم إليه "النهاية".(4/199)
ْآيَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَوْله تَعَالَى : { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:(4/199)
المسألة الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِهَا:
فَقِيلَ: إنَّهُمْ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآيَاتِ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمِينَ} [الحشر: 11- 17].
وَعَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْيَهُودَ بِالنَّصْرِ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَنَّ بَقَاءَهُ بِبَقَائِهِمْ وَخُرُوجَهُ بِخُرُوجِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَا وَفَّى بِهِ، بَلْ أَسْلَمَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْك إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، فَغَرَّ أَوَّلًا، وَكَذَبَ آخِرًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةً عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا فِئَةٌ تُخَالِفُ الْأُخْرَى1 فِي ذَلِكَ.
وَالشَّتَّى: هِيَ الْمُتَفَرِّقَةُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إلَى اللَّهِ أَشْكُو نِيَّةً شَقَّتْ الْعَصَا ... هِيَ الْيَوْمُ شَتَّى وَهِيَ بِالْأَمْسِ جُمَّعُ2
المسألة الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى صُورَةِ التَّكْبِيرِ وَالْأَفْعَالِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ ذَلِكَ3 فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَيَشْمَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَيَنَالُهُ هَذَا الظَّاهِرُ.
وَهَذَا كَانَ يَكُونُ حَسَنًا، بَيْدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَالصُّورَةُ4 فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فِيهِمَا وَاحِدٌ5، فَإِذَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِذَايَةِ لِلدِّينِ وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ـــــــ
1 في ش: ولم تكن إحداهما فيه تخالف الأخرى.
2 في ش: جميع.
3 ليس في ش.
4 في ش:والصلاة في اتفاق.
5 في ش: واحدة.(4/200)
الْ آيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} [الحشر: 20].
تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الْقِصَاصِ لِأَجْلِ عُمُومِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ1 بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ [18]، وَحَقَّقْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَلُّقِ بِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّعْمِيمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا عَقَبَ الْآيَةَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} يَعْنِي وَأَصْحَابُ النَّارِ هُمْ الْهَالِكُونَ؛ فَفِي هَذَا الْقَدْرِ انْتَفَتْ التَّسْوِيَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ هُنَالِكَ.
ـــــــ
1 صفحة [455] من الجزء الثالث.(4/201)
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
َوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}
...
60- سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ فِيهَا سَبْع آيَات آيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1].
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
رُوِيَ فِي ا لصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ2 أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا قَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا: قَدْ عَلِمْت مَا جَرَّأَ صَاحِبَك عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْته يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ3 وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا: الْكِتَابَ؟ فَقَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا، أَوْ قَالَ: مِنْ عِقَاصِهَا4.
فَأَرْسَلَ [رَسُولُ اللَّهِ]5 إلَى حَاطِبٍ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ، فَوَاَللَّهِ مَا كَفَرْت وَمَا ازْدَدْت6 لِلْإِسْلَامِ إلَّا حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِك إلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للسيوطي: [167]، وللواحدي: [239].
2 في ش: للبخاري.
3 موضع بين مكة والدينة على اثني عشر ميلاً من المدينة.
4 الحجزة: مشد الإزار. والعقاص: الضفائر؛ جمع عقيصة، أو عقيصة؛ وقيل: هو الخيط الذي تعقص به أطراف الذوائب. والأول أوجه "النهاية".
5 من " القرطبي".
6 في ش: وما أردت للإسلام إلا خيراً.(4/202)
فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ لَهُ: "مَا يُدْرِيك، لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ". فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ.
وَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...} الْآيَةَ- إلَى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 1].
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} :
قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ "الْأَمَدِ الْأَقْصَى".
ا لمسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى: { تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} :
يَعْنِي فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا بِالتَّوْحِيدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ ".
وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.
المسألة الْخَامِسَةُ : إذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا [فَاخْتَلَفَ النَّاسُ]1 فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ:
المسألة السَّادِسَةُ : هَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَمْ2 يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَيَبْقَى قَتْلُ غَيْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَهَمَّ عُمَرُ
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في ش: فلم.(4/203)
بِهِ بِعِلْمِ1 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ2 إلَّا بِالْعِلَّةِ الَّتِي خَصَّصَهَا بِحَاطِبٍ.
قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ عُمَرُ3: إنَّهُ يُقْتَلُ لِعِلَّةِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ فَإِنَّمَا يُوجِبُ عُمَرُ قَتْلَ مَنْ نَافَقَ، وَنَحْنُ لَا نَتَحَقَّقُ نِفَاقَ فَاعِلِ مِثْلِ هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَافَقَ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: "يَا حَاطِبُ؛ أَنْتَ كَتَبْت الْكِتَابَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَأَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فَلَمْ يَكْذِبْ، وَصَارَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ: أَرَدْت بِهِ كَذَا وَكَذَا لِلنِّيَّةِ الْبَعِيدَةِ الصِّدْقِ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى فِيهِ النِّيَّةَ الْبَعِيدَةَ لَمْ يُقْبَلْ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْجَارُودِ سَيِّدَ رَبِيعَةَ أَخَذَ دِرْبَاسًا وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَصَلَبَهُ فَصَاحَ يَا عُمَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَعَلَا بِهَا لِحْيَتَهُ4، وَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا دِرْبَاسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ؛ إنَّهُ كَاتَبَ الْعَدُوَّ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَتَلْته عَلَى الْهَمِّ، وَأَيُّنَا لَا يَهُمُّ.
فَلَمْ يَرَهُ عُمَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَ اجْتِهَادَ ابْنِ الْجَارُودِ فِيهِ، لِمَا رَأَى مِنْ خُرُوجِ حَاطِبٍ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كُلِّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ الْجَارُودِ5 إنَّمَا أَخَذَ بِالتَّكْرَارِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.
المسألة السَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا أَنْ يَتَعَاهَدَا6 عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَتَى بِعَيْنٍ7 لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
ـــــــ
1 في ش: فعلم.
2 ليس في ش.
3 في ش: وإنما يوجب قول عمر قتل.
4 في ش: لحييه.
5 في أ: الماجشون إنما أخذ التكرار.
6 في ش: يظاهرا.
7 أي بجاسوس.(4/204)
رَسُولُ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ. ثُمَّ قَالَ: " إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ، وَمِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ".
المسألة الثَّامِنَةُ : تَوَدَّدَ حَاطِبٌ إلَى الْكُفَّارِ لِيَجْلُبَ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ1 ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كَذَبْت؛ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" .(4/205)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4].
وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُمْ.(4/205)
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ:
قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:4] يَعْنِي فِي بَرَاءَتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَمُبَاعَدَتِهِمْ لَهُمْ، وَمُنَابَذَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَأَنْتُمْ2 بِمُحَمَّدٍ أَحَقُّ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ بِإِبْرَاهِيمَ {إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك} [الممتحنة: 4] فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ ".(4/205)
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة 8].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا أَوْ نَسْخِهِ:(4/205)
قوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}
...
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا1:
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ2 مِنَ المُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ رُدَّ إلَيْهِمْ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنَ المُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُرَدَّ؛ وَتَمَّ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عُتْبَةَ بْنَ أُسَيْدِ بْنَ حَارِثَةَ الثَّقَفِيَّ حِينَ قَدِمَ، وَقَدِمَ أَيْضًا نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ3 مِنْهُنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ رَدَّهُنَّ عَلَى الشَّرْطِ، وَاسْتَدْعَوْا مِنْهُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ" ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ المُعْجِزَاتِ4 إلَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: غَدَرَ مُحَمَّدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَذَلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}:
اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِامْتِحَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا صَيْفِيَّ بْنَ السَّائِبِ5: "بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَك مِنْ قَوْمِك ضَرْبٌ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِزَوْجِك، وَلَا أَخْرَجَك إلَّا حِرْصٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَغْبَةٌ فِيهِ، لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ".
الثَّانِي: وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرِدْ النِّسَاءُ وَإِنْ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
ـــــــ
1 "أسباب النزول" للواحدي: [241]، وللسيوطي: [168].
2 في ش: هاجر.
3 في ش: مؤمنات.
4 في ش: النساء.
5 في "القرطبي": ابن الراهب.(4/207)
أَحَدُهُمَا لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ.
الثَّانِي: لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّتَيْنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ عَهْدِ الرَّدِّ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ لَا نَاسِخًا1 لِلْعَهْدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْغَافِلِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
المسألة الْخَامِسَةُ : الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا [هُوَ إسْلَامُهَا لَا]2 هِجْرَتُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهُوَ التَّلْخِيصُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَإِلَيْهِ إشَارَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عِبَارَةٌ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَالْعُمْدَةُ فِيهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ.
المسألة السَّادِسَةُ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا3 أَنْفَقَ، وَذَلِكَ مِنَ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ الْمَالُ، حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ مِنَ الوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ، وَالْمَالِ.
المسألة السَّابِعَةُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَدِّ مَا أَنْفَقُوا إلَى الْأَزْوَاجِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْإِمَامَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ.
المسألة الثَّامِنَةُ : رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِهَا بِشَرْطِ الصَّدَاقِ، وَسَمَّى ذَلِكَ أَجْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ4 شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ مَاءِ الْكَافِرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ" وَالِاسْتِبْرَاءُ هَا هُنَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ . ثُمَّ قَالَ وَهِيَ:
المسألة التَّاسِعَةُ : {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} :
يَعْنِي إذْ أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ؛ فَعَادَ 5
ـــــــ
1 في ش: لا نسخا.
2 ليس في ش.
3 في ش: مثل الذي.
4 في ش: وبين شرطا آخر.
5 في ش: فعلا.(4/208)
جَوَازُ النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ الْإِيمَانِ ضَرُورَةً.
المسألة الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}:
هَذَا بَيَانٌ لِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَافِرِ. وَهُوَ تَفْسِيرُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مُشْرِكَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أُمَيَّةَ1، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَيْمِيِّ؛ فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ جَرْوَلٍ أَبُو جَهْمٍ2. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ: طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِك، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} :
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ المُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ [مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ]3 إلَى الْكُفَّارِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ: هَاتُوا مَهْرَهَا وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً: رُدُّوا إلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ نَصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَجَائِزٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِمُدَّةٍ وَمُطْلَقًا إلَيْهِمْ لِغَيْرِ مُدَّةٍ.
فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ، وَقَضَى فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ: لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ،
ـــــــ
1 في " القرطبي ": بنت أبي أمية.
2 في أ: أبو جهل، وهو تحريف.
3 من "القرطبي".(4/209)
فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ1 قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ... إلَى {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24-26]؛ فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِانْقِيَادِ إلَيْهِمْ عَنْ هَوَانٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ حِكْمَةٍ حَسُنَ مَآلُهَا، كَمَا سُقْنَاهُ آنِفًا مِنَ الرِّوَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/210)
الْآيَةُ السَّادِسَةُ :
قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 11].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمَعْنَى إنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْكُفَّارُ صَدَاقَهَا إلَى زَوْجِهَا كَمَا أُمِرُوا فَرُدُّوا أَنْتُمْ إلَى زَوْجِهَا مِثْلَ مَا أَنْفَقَ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {فَعَاقَبْتُمْ}:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُعَاقَبَةُ الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ2 كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ، فَأَرَادَ: فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا، فَلْيَكُنْ مِنْ مِثْلِ3 الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا مِنَ الفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ:
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
ـــــــ
1 سيف البحر: ساحله.
2 في أ: مصير.
3 في ش: من الإنفاق.(4/210)
أَحَدُهَا مِنَ الفَيْءِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثَّانِي: مِنْ مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ مِنْ مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ مِنَ الغَنِيمَةِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ رَدِّهِ مِنَ الغَنِيمَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخْرَجُ الْمَهْرُ وَالْخُمُسُ ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ إنْ صَحَّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنَ الخُمُسِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(4/211)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ :
قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12].
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى: {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا...} الْآيَةَ.
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ إلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك} الْآيَةَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةٍ يَمْلِكُهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ: مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ.
وَقَالَ: " إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي1 لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَافَحَهُنَّ عَلَى ثَوْبِهِ.
ـــــــ
1 في ش: كما قولي.(4/211)
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَافَحَهُنَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ.
وَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا أَيُّهَا النِّسَاءُ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ" .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ كَبَيْعَةِ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْمَسِيسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً.
المسألة الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْت الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ1 بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَرَأَ2: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا...} الْآيَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: "أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟" قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ. قَالَ: "فَتَصَدَّقْنَ" وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ3 وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } :
يَعْنِي بِالْوَأْدِ وَالِاسْتِتَارِ عَنِ العَمْدِ إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ؛ فَإِنَّ رَمْيَهُ كَقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ عَاشَ كَانَ إثْمُهَا أَخَفَّ.
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} :
قِيلَ فِي أَيْدِيهِنَّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: المسألة.
ـــــــ
1 في ش: النساء.
2 في أ: فقال.
3 الفتخ – بفتحات وآخره خاء: الخواتيم العظام، أو حلق من فضة لا فص لها.(4/212)
الثَّانِي: أَكْلُ الْحَرَامِ.
المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَرْجُلِهِنَّ }:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْكَذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
الثَّانِي: هُوَ إلْحَاقُ وَلَدٍ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ.
المسألة السَّابِعَةُ : {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ} :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ النِّيَاحَةُ.
الثَّانِي: أَلَّا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ.
الثَّالِثُ: أَلَّا يَخْمُشْنَ وَجْهًا، وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا، وَلَا يَرْفَعْنَ صَوْتًا، وَلَا يَرْمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَقْعًا 1.
المسألة الثَّامِنَةُ : فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي:
أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} يَعْنِي المسألة فَهُوَ تَجَاوُزٌ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا اللِّسَانُ2 وَآخِرَهَا أَنْ أُعْطِيَ3 شَيْئًا فِي الْيَدِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَكْلُ الْحَرَامِ أَقْرَبُ4، وَكَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ فَيَحْمِلُهُ إلَى لِسَانِهِ.
وَالمسألة يَبْدَؤُهَا بِلِسَانِهِ وَيَحْمِلُهَا إلَى يَدِهِ، وَيَرُدُّهَا إلَى لِسَانِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَجَازِ حَسَنٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: { وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ} فَهُوَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، إمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَعْنَى5 تَخْصِيصِ قَوْلِهِ:
ـــــــ
1 في أ: نقصا، وهو تحريف.
2 في ش: فإن أولها المسألة.
3 في ش: يعطي.
4 في ش: أقعد.
5 ليس في ش.(4/213)
{فِي مَعْرُوفٍ} وَقُوَّةُ1 قَوْلِهِ: { لَا يَعْصِينَك} يُعْطِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ:
المسألة التَّاسِعَةُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اُحْكُمْ لَكَفَى.
الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَأَلْزَمُ لَهُ، وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ فِيهِ.
وَفِي الْآثَارِ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ".
المسألة الْعَاشِرَةُ : رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ عَلَى هَذَا قَالَ لَهُنَّ: "فِيمَا أَطَقْتُنَّ"، فَيَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا.
وَهَذَا بَيَانٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، مَرْفُوعٌ عَنِ المُكَلَّفِينَ مَا نَافَ2 عَلَيْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ: بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْنَا: أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ عَلَى يَدِهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ فَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا، فَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ؛ وَذَلِكَ تَخْمِيشُ وُجُوهٍ، وَشَقُّ جُيُوبٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَمَشَ الْوُجُوهَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ".
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ تُسْتَثْنَى مَعْصِيَةٌ، وَتَبْقَى عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا، وَيُقِرُّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ؟
قُلْنَا: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْكَافِي، مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَهَا حَتَّى تَسِيرَ إلَى صَاحِبَتِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ سَرِيعًا عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ
ـــــــ
1 في "القرطبي": مع قوة قوله: لا يعصينك ففيه قولان: [18/ 75].
2 ناف: زاد.(4/214)
أَلَّا يَخِرَّ إلَّا قَائِمًا، فَقِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهِ: إنَّهُ لَا يَرْكَعُ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى آمَنَ، فَرَضِيَ بِالرُّكُوعِ.
وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنْ تَبْكِيَ مَعَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ النَّوْحِ خَاصَّةً.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي صِفَةِ أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً...} إلَى آخِرِ الْخِصَالِ السِّتِّ.
صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ؛ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالِاغْتِسَالُ مِنَ الجَنَابَةِ؛ وَهِيَ سِنة1 فِي الْأَمْرِ فِي الدِّينِ وَكِيدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي قِصَّةِ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي اعْتِمَادِهِ الْإِعْلَامَ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ حُكْمَانِ اثْنَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ، وَالْأَمْرُ يَأْتِي فِي الْفَتَرَاتِ2؛ فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ أَوْكَدَ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا، وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ الْحَسَبِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ، فَأَهَمَّ قُرَيْشًا أَمْرُهَا، وَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أُسَامَةُ3، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"! وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَخَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِهَذَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ؛ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ4، وَالْحَنْتَمِ 5، وَالنَّقِيرِ6، وَالْمُزَفَّتِ7" ، فَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ.
ـــــــ
1 في ش: ستة. وفي " القرطبي": وهي ستة أيضاً.
2 في ش: القرآن.
3 من ش.
4 الدباء: القرع، واحدها دباءة: كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب "النهاية" – [دبب] وفي أ: الربا.
5 الحنتم: جرار مدهونة خضر كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم، واحدتها حنتمة، وإنما نهى عن الأنتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها "النهاية" – [الحنتم].
6 النقير: أصله النخل ينقر وسطه ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء ليصير نبيذاً مسكراً. والنهي واقع على ما يعمل فيه لا على اتخاذ النقير، فيكون على حذف مضاف، تقديره عن نبيذ "النهاية" – [نقر].
7 المزفت من الأوعية هو الإناء الذي طلي بالزفت، وهو نوع من القار، ثم انتبذ فيه " النهاية" – [زفت].(4/215)
وَإِذَا تَرَكَ الْمَرْءُ شَهْوَتَهُ مِنَ المَعَاصِي هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ سِوَاهَا مِمَّا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهَا.
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُنَّ فِي الْبَيْعَةِ: " أَلَّا يَسْرِقْنَ" قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ1، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي؟ فَقَالَ: "لَا، إلَّا بِالْمَعْرُوفِ" 2؛ فَخَشِيَتْ هِنْدُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى مَا يُعْطِيهَا أَبُو سُفْيَانَ فَتَضِيعَ أَوْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَكُونَ سَارِقَةً نَاكِثَةً لِلْبَيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا" ، أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْك فِيمَا أَخَذْت بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِطَالَةٍ إلَى أَكْثَرَ مِنَ الحَاجَةِ.
وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْزُنُهُ عَنْهَا فِي حِجَابٍ، وَلَا يَضْبِطُ عَلَيْهَا بِقُفْلٍ، فَإِنَّهَا إذَا هَتَكَتْهُ الزَّوْجَةُ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ كَانَتْ سَارِقَةً، تَعْصِي بِهَا، وَتُقْطَعُ عَلَيْهِ يَدُهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الكُفَّارِ:
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَنْقُولَةً3 وَهِيَ الْيَوْمَ مَكْتُوبَةٌ؛ إذْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكْتَبُ إلَّا الْقُرْآنُ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكَتِّبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْمَعُهُمْ لَهُ دِيوَانٌ حَافِظٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا:
"اُكْتُبُوا لِي مَنْ يَلْفِظُ بِالْإِسْلَامِ" لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ. فَأَمَّا الْيَوْمَ فَيُكْتَبُ إسْلَامُ الْكَفَرَةِ، كَمَا يُكْتَبُ سَائِرُ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُهِمَّةِ وَالتَّوَابِعِ مِنْهَا لِضَرُورَةِ حِفْظِهَا حِينَ فَسَدَ النَّاسُ وَخَفَّتْ أَمَانَتُهُمْ، وَمَرَجَ4 أَمْرُهُمْ، وَنُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: لِلَّهِ أَسْلَمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ أَرْضِ كَذَا5، وَآمَنَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ، وَأَقَرَّ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَالْتَزَمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِأَرْكَانِهَا وَأَوْصَافِهَا، وَأَدَّى الزَّكَاةَ بِشُرُوطِهَا، وَصَوْمَ رَمَضَانَ،
ـــــــ
1 مسيك: بخيل يمسك ما في يديه لا يعطيه أحداً.
2 في "القرطبي": لا، أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف.
3 في ش: مقبولة.
4 مرج: اختلط.
5 في ش: من أهل الأرض.(4/216)
وَالْحَجَّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، إذَا اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَيَغْتَسِلُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَيَتَوَضَّأُ مِنَ الحَدَثِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قُلْت: وَإِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قُلْت: وَإِنَّ الْعُزَيْرَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَابِئًا قُلْت: وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ الْكِرَامُ وَكُتَّابُهُ الْبَرَرَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وَإِنْ كَانَ هِنْدِيًّا قُلْت: وَإِنَّ1 مَانِي بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبُهْتَانٌ صِرْفٌ، وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مُزَوَّرٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنَ الكُفْرِ اعْتَمَدْته بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ2 بِالذِّكْرِ.
وَتَقُولُ بَعْدَهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93، 94] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبَّرَهُ تَكْبِيرًا. وَالْتَزَمَ أَلَّا يَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْرِقُ، وَلَا يَزْنِي، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالزُّورِ، وَيَكُونُ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُسْلِمُهُمْ وَلَا يُسْلِمُونَهُ، وَلَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَظْلِمُونَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِلدِّينِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَسُنَنًا، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا عَلَى نَعْتِهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَسَنَنٍ3 قَوِيمٍ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى مَا شَاءَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَشَهِدَ أَنَّهُ {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فِي شَهْرِ كَذَا.
وَقَدْ أَدْرَكَ التَّقْصِيرَ جُمْلَةٌ مِنَ المُؤَرِّخِينَ، وَكَتَبُوا مَعَالِمَ الْأَمْرِ دُونَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ فِي بَيْعَتِهِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ يُغَلِّبُ ذِكْرَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ.
وَكَتَبُوا أَنَّهُ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَكَتَبُوا: وَكَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ، وَكَتَبُوا أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى.
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَكَانَ إسْلَامُهُ طَوْعًا فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا لَصَحَّ إسْلَامُهُ وَلَزِمَهُ، وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا4 ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ وَالْكُفَّارُ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ قَسْرًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ. وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِ الْأَسْرَى أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِالْخَمْسَةِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِمْ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ حُكْمُ السَّيْفِ عَنْهُ.
ـــــــ
1 من ش.
2 في ش: اعتمدته من البراءة.
3 في ش: وسير.
4 في ش: وقدمنا.(4/217)
وَفِي الصَّحِيحِ: "عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ ".
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لَوْ جَنَى جِنَايَةً فَخَافَ مِنْ مُوجَبِهَا الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ فَأَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ، وَكَانَ إسْلَامُهُ كُرْهًا، وَحُكِمَ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ الْمُسْقِطُ لِلْإِسْلَامِ إذَا كَانَ ظُلْمًا وَبَاطِلًا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِلذِّمِّيِّ ابْتِدَاءً1 مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا سَبَبٍ: أَسْلِمْ، وَإِلَّا قَتَلْتُك؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا خَافَ مِنْهُ. وَإِذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ أُكْرِهَ بِالْبَاطِلِ لَزِمَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الطَّوَاعِيَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ فِي كُلِّ كَافِرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ فَأَنَّى عَلَّقُوهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ2 يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي شُرُوطِهِمْ لِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: اغْتَسَلَ وَصَلَّى، فَلَيْسَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَلَا وُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ فَيَفْعَلُهُمَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 في ش: فإنهم.(4/218)
سُورَةُ الصَّفِّ
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
...
- سُورَةُ الصَّفِّ فِيهَا آيَتَانِ الْآيَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى: رَوَى أَبُو مُوسَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ سُورَةً كَانَتْ عَلَى قَدْرِهَا، أَوَّلُهَا: سَبَّحَ لِلَّهِ، كَانَ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} سَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ1 فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الدِّينِ.
أَمَّا قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَثَابِتٌ فِي الدِّينِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَلَوْنَاهُ آنِفًا فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: [فَتُكْتَبُ]2 شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَعْنًى ثَابِتٌ فِي الدِّينِ [لَفْظًا وَمَعْنًى]2؛ فَإِنَّ مَنْ الْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ : وَالْمُلْتَزَمُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا النَّذْرُ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
نَذْرِ تَقَرُّبٍ مُبْتَدَأً؛ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَصَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ، وَنَحْوُهُ مِنَ القُرَبِ؛ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا.
ـــــــ
1 في ش: فتكتب شهادتكم في أعناقكم.
2 من ش.(4/219)
وَنَذْرِ مُبَاحٍ1؛ وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَةٍ [كَقَوْلِهِ: إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَةٍ]2، كَقَوْلِهِ: إنْ كَفَانِي اللَّهُ شَرَّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَعُمُومُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَضَمَّنُ ذَمَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، مِنْ مُطْلَقٍ، أَوْ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُهُ: إنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْبَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ.
قُلْنَا: الْقُرَبُ الشَّرْعِيَّةُ مُقْتَضَيَاتٌ3 وَكُلَفٌ وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَاتٍ. وَهَذَا تَكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ مَشَقَّةً لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُنَنِ التَّكْلِيفِ، وَلَا زَالَ عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنُوطًا بِسَبَبٍ4؛ كَقَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتَ أَعَنْتُك بِدِينَارٍ، أَوْ ابْتَعْت حَاجَةَ كَذَا أَعْطَيْتُك كَذَا؛ فَهَذَا لَازِمٌ إجْمَاعًا مِنَ الفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ: يَلْزَمُ بِمُطْلَقِهِ5؛ وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ أَوْ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ حَدِيثٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: لَا أَزَالُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا لِعُذْرٍ.
ـــــــ
1 في أ: لجاج.
2 ليس في ش.
3 في "القرطبي": مشقات.
4 في ش: بسببه.
5 في "القرطبي": قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما رأى ذلك يلزمه [18/ 80].(4/220)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ :
قَوْله تَعَالَى : {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].(4/220)
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ: " مَرْصُوصٌ":
أَيْ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ، كَأَنَّهُ عُقِدَ بِالرَّصَاصِ، وَكَثِيرًا مَا تُعْقَدُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ الْقَدِيمَةُ، عَايَنَتْ مِنْهَا بِمِحْرَابِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَيُقَالُ: حَدِيثٌ مَرْسُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سِيقَ سِيَاقَةً مُحْكَمَةً مُرَتَّبَةً.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: { يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}:
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ إرَادَةُ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي إحْكَامِ الصُّفُوفِ جَمَالٌ لِلصَّلَاةِ، وَحِكَايَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهَيْئَةٌ1 لِلْقِتَالِ، وَمَنْفَعَةٌ فِي أَنْ تُحْمَلَ الصُّفُوفُ عَلَى الْعَدُوِّ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، أَوْ فِي رِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا الْإِمَامُ، وَمَنْفَعَةٍ تَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ، كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا، أَوْ بِتَظَاهُرٍ2 عَلَى التَّبَرُّزِ لِلْمُبَارَزَةِ.
وَفِي الْخُرُوجِ عَنِ الصَّفِّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ، وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَبْرُزُ أَحَدٌ طَالِبًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِيَاءً وَخُرُوجًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ إذَا طَلَبَهَا الْكَافِرُ، كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ.
ـــــــ
1 في أ: وهيبة.
2 في ش: يظاهر.(4/221)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
...
62- سُورَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا آيَتَانِ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} :
ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ1 بِالْجُمُعَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا وَهَا هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةُ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ؛ تَشْرِيفًا لَهُمْ2 بِالْجُمُعَةِ، وَتَخْصِيصًا دُونَ غَيْرِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّحِيحِ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَغَدًا3 لِلْيَهُودِ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" .
المسألة الثَّانِيَةُ : الْجُمُعَةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ:
وَيَوْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ.
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِيَدِهِ مِرْآةٌ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: "يَا جِبْرِيلُ؛ مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ؟" قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. قَالَ: "مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي فِيهَا؟" قَالَ: السَّاعَةُ وَفِيهَا تَقُومُ4.
ـــــــ
1 في ش: الخطاب.
2 من ش.
3 في ش: فهدانا الله له، اليوم لنا وغداً لليهود.
4 من ش.(4/222)
كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُهْبِطَ [مِنْ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ]1، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ" كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : الْجُمُعَةُ فَرْضٌ:
لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ، وَهِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَا يُؤْثَرُ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْعَرُوسُ عَنْهَا؛ فَإِنَّ الْعَرُوسَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ الْعُرْسِ، فَكَيْفَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، فَشُرُوطُ الْوُجُوبِ سَبْعَةٌ:
الْعَقْلُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِقَامَةُ، وَالْقَرْيَةُ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْأَدَاءِ فَهِيَ:
الْإِسْلَامُ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ. وَالْخُطْبَةُ، وَالْإِمَامُ الْقَيِّمُ لِلصَّلَاةِ لَيْسَ الْأَمِيرُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ كَلِمَةً بَدِيعَةً: إنَّ لِلَّهِ فَرَائِضَ فِي أَرْضِهِ لَا يُضَيِّعُهَا إنْ2 وَلِيَهَا وَالٍ أَوْ لَمْ يَلِهَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: مِنْ شُرُوطِ أَدَائِهَا الْمَسْجِدُ الْمُسْقَفُ. وَلَا أَعْلَمُ وَجْهَهُ.
وَمِنْهَا الْعَدَدُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ. وَإِنَّمَا حَدُّهُ جَمَاعَةٌ تَتَقَرَّى بِهِمْ بُقْعَةٌ، وَمِنْ أَدَائِهَا الِاغْتِسَالُ، وَتَحْسِينُ الشَّارَةِ، وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} :
النِّدَاءُ هُوَ الْأَذَانُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةً مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [58]3. وَقَدْ كَانَ الْأَذَانُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَذَانِ4 فِي الصَّلَوَاتِ؛ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إذَا جَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ،
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 ليس في ش.
3 صفحة [118] من الجزء الثاني.
4 في م: كما في سائر الأذان.(4/223)
وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ1 وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ [عَلَى الْمِنْبَرِ]2 أَذَانًا ثَالِثًا3 عَلَى الزَّوْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا أَقْبَلُوا، حَتَّى إذَا جَلَسَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَخْطُبُ عُثْمَانُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْآذَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ ثَالِثًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ" يَعْنِي الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ؛ فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ، فَجَعَلُوا الْمُؤَذِّنَيْنِ ثَلَاثَةً، فَكَانَ وَهْمًا، ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ، وَرَأَيْتهمْ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يُؤَذِّنُونَ بَعْدَ أَذَانِ الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَنَا فِي الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ.
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ: {لِلصَّلَاةِ}:
يَعْنِي بِذَلِكَ الْجُمُعَةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَوْنُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةَ هَاهُنَا مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بِنُكْتَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}، وَذَلِكَ يُفِيدُهُ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ نِدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِهَا وَإِضَافَتِهِ إلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ.
المسألة السَّادِسَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: كَانَ اسْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْعَرَبِ الْأَوَّلِ عُرُوبَةً، فَسَمَّاهَا الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا إلَى كَعْبٍ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَقْوَامًا هُمْ خَلَطُوا ... يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَصْرَامًا بِأَصْرَامٍ
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ }:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
ـــــــ
1 من ش وحدها.
2 من م.
3 في أ: ثانياً. والمثبت من "القرطبي" إذ قال :ثم زاد عثمان على المنبر أذاناً ثالثاً على داره التي تسمى الزوراء. والزوراء: موضع بالسوق بالمدينة. وقيل: حجر كبير عند باب المسجد [18/ 100].(4/224)
الثَّانِي أَنَّهُ الْعَمَلُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19]؛ وقَوْله تَعَالَى: { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ.
وَيُحْتَمَلُ ظَاهِرُهُ رَابِعًا: وَهُوَ الْجَرْيُ وَالِاشْتِدَادُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ الْأَعْلَمُونَ، وَالْفُقَهَاءُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَرَأَهَا عُمَرُ: " فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ " فِرَارًا عَنْ ظَنِّ الْجَرْيِ وَالِاشْتِدَادِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَوْ قَرَأْت فَاسْعَوْا لَسَعَيْت حَتَّى سَقَطَ رِدَائِي.
وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ: فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ سَالِكًا تِلْكَ السُّبُلَ، وَهُوَ كُلُّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ، لَا قِرَاءَةٌ قُرْآنٍ مُنَزَّلٍ، وَجَائِزٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَعْرِضِ التَّفْسِيرِ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ النِّيَّةُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ السَّعْيِ وَمَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ جُبَيْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ يَمْشِي إلَى الْجُمُعَةِ رَاجِلًا. وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ" . فَذَلِكَ فَضْلٌ وَأَجْرٌ لَا شَرْطٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْعَمَلُ فَأَعْمَالُ الْجُمُعَةِ هِيَ: الِاغْتِسَالُ، وَالتَّمَشُّطُ، وَالِادِّهَانُ، وَالتَّطَيُّبُ، وَالتَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَادِيثُ بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْجَمِيعِ، لَكِنَّ أَدِلَّةَ الِاسْتِحْبَابِ ظَهَرَتْ عَلَى أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، فَقَضَى بِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
المسألة الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى: { إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْخُطْبَةُ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الصَّلَاةُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ1 الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِبَ النِّدَاءِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ رَآهَا سُنَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبَيْعَ، وَلَوْلَا وُجُوبُهَا مَا حَرَّمَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُبَاحَ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ
ـــــــ
1 من ش.(4/225)
الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ فَالْخُطْبَةُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ [بِفِعْلِهِ]1 كَمَا يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ.
المسألة التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}:
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا وَقَعَ؛ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُفْسَخُ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ، وَأَشْهَبُ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْبَيْعُ مَاضٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْفَسْخِ فِي تَفْصِيلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ2: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا3 فَهُوَ رَدٌّ" .
المسألة الْعَاشِرَةُ : فَإِنْ كَانَ نِكَاحًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ 4 : لَا يُفْسَخُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْبَيْعِ. وَقَالُوا: إنَّ الشَّرِكَةَ وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ نَادِرٌ لَا يُفْسَخُ.
وَالصَّحِيحُ فَسْخُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ لِلِاشْتِغَالِ بِهِ، فَكُلُّ أَمْرٍ يَشْغَلُ عَنِ الجُمُعَةِ مِنَ العُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا مَفْسُوخٌ رَدْعًا.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : لَا تُفْتَقَرُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ إلَى السُّلْطَانِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا تُفْتَقَرُ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ5 الْآيَةُ لَا عَلَى السُّلْطَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ}:
ـــــــ
1 ما بين القوسين ساقط في ش.
2 "صحيح مسلم": [1344].
3 في ش: عملنا.
4 في م: التنبيه.
5 في أ: تلك.(4/226)
يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَسْمَعُ النِّدَاءَ؛ فَأَمَّا الْبَعِيدُ الدَّارِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ يَأْتِي الْجُمُعَةَ مِنَ الدَّانِي وَالْقَاصِي اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الخِلَافِيَّاتِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالُوا: إنَّ الْجُمُعَةَ تَلْزَمُ مَنْ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ المَدِينَةِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْعَوَالِي1 كَانُوا يَأْتُونَهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الصَّوْتَ إذَا كَانَ رَفِيعًا وَالنَّاسُ فِي هُدُوءٍ وَسُكُونٍ فَأَقْصَى سَمَاعِ الصَّوْتِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ؛ وَهَذَا نَظَرٌ وَمُلَاحَظَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى: {نُودِيَ } ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ يَسْمَعَانِ النِّدَاءَ، وَقَدْ قُلْتُمْ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمَا.
قُلْنَا: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَلْزَمُهَا خِطَابُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ فِي خِطَابِهَا.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَثَّرَ بِصِفَتِهِ حَتَّى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا نَقْصُهُ فِي ذَاتِهِ؛ فَأَشْبَهَ نَقْصَ الْمَرْأَةِ.
وَمِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ فِي سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنِ العَبْدِ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ بِالْجُمُعَةِ مَنْ يَبِيعُ، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لَا يَبِيعَانِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَحْتَ حَجْرِ السَّيِّدِ، وَالصَّبِيَّ تَحْتَ حَجْرِ الصِّغَرِ.
لمسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى: { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}:
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِالنِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ؛ وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ.
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى يَغْشَى ظِلُّ الْجِدَارِ الْغَرْبِيِّ طَنْفَسَةَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي كَانَتْ تُطْرَحُ
ـــــــ
1 العوالي: أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من نجد ثمانية.(4/227)
لَهُ عِنْدَ الْجِدَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَحَدِيثُ سَلَمَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْكِيرِ بِالْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ إلَى الْجُمُعَةِ تَبْكِيرًا كَثِيرًا عِنْدَ الْغَدَاةِ1 وَقَبْلَهَا2 فَلَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ بِيَسِيرٍ. وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –3: "مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ..." الْحَدِيثُ أَنَّهُ كُلَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَحَمَلَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَاعَاتِ النَّهَارِ الزَّمَانِيَّةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً الْمُسْتَوِيَةِ أَوْ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ4 زِيَادَاتِ النَّهَارِ وَنُقْصَانِهِ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَا كَانُوا يُقِيلُونَ وَلَا يَتَغَدَّوْنَ إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ يُرِيدُ لِكَثْرَةِ الْبُكُورِ إلَيْهَا.
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "الرَّوَاحُ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ".
وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِالنِّفَاقِ".
المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَوْجَبَ اللَّهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَثَبَتَ شَرْطُ الْوُضُوءِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ".
وَأَغْرَبَتْ طَائِفَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ".
فَقَالَتْ: إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" . وَهَذَا نَصٌّ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ـــــــ
1 في ش: الغذاء.
2 في ش: وقبله.
3 "الموطأ": [101].
4 في م: بحساب.(4/228)
فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ1 فَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ غُفِرَ لَهُ" . وَهَذَا نَصٌّ آخَرُ.
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمَسْجِدَ وَ[الْإِمَامُ]2 عُمَرُ يَخْطُبُ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ: مَا زِدْت عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت. فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. فَأَمَرَ عُمَرُ بِالْغُسْلِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَلَمْ يُمْكِنْ، وَقَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إلَى السُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ فُحُولِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ حَوَالَيْ عُمَرَ، وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : لَا يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ كَوْنُهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حِينَ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ سَقَطَ فَرْضُ الْجُمُعَةِ؛ لِتَقَدُّمِ الْعِيدِ عَلَيْهَا، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِهِ عَنْهَا.
وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَذِنَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لِأَهْلِ الْعَوَالِي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الجُمُعَةِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذَا خُولِفَ فِيهِ وَلَمْ يُجْمَعْ3 مَعَهُ عَلَيْهِ. وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ مُتَوَجِّهٌ يَوْمَ الْعِيدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.
ـــــــ
1 في ش: الجمعة.
2 ليس في ش وفي "الموطأ": [102] وعمر بن الخطاب يخطب.(4/229)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –4 فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَدَخَلَتْ عِيرٌ5
ـــــــ
4 في "القرطبي": كان يخطب قائماً يوم الجمعة.
5 العير – بكسر العين: الإبل تحمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة.(4/229)
إلَى الْمَدِينَةِ، فَالْتَفَتُوا، فَخَرَجُوا إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} الْآيَةُ كُلُّهَا.
الثَّانِيَةُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانَ النَّاسُ قَرِيبًا مِنَ السُّوقِ، فَرَأَوْا التِّجَارَةَ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا، وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ عُرْسٌ يَمُرُّونَ بِالْكِيرِ يَضْرِبُونَ بِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ نَاسٌ، فَغَضِبَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ.
الثَّالِثُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ مَعَ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ تِجَارَةٌ بِأَحْجَارِ الزَّيْتِ1 فَضَرَبُوا طَبْلَهُمْ، يُعَرِّفُونَ بِإِقْبَالِهِمْ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ وَنَزَلَتْ الْآيَةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَوْ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ2 لَسَالَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا" .
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَخْطُبُ قَائِمًا، كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَخَطَبَ عُثْمَانُ قَائِمًا حَتَّى رَقَّ فَخَطَبَ قَاعِدًا.
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ.
وَدَخَلَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبِيثَ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} إشَارَةً إلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرُبَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِي الْإِطْلَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لِسِنِّهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي قَعْدَتِهِ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنَّهَا سُنَّةٌ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــ
1 أحجار الزيت: مكان في سوق المدينة.
2 في ش: جميعهم.(4/230)
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
َوْله تَعَالَى: {إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
...
63- سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: {إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى : الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْقَلْبِ:
وَتَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَتَكُونُ بِالْجَوَارِحِ؛ فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ الِاعْتِقَادُ [أَوْ الْعِلْمُ]1 عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ، وَالْعِلْمُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ2 كَمَا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ اللِّسَانِ فَبِالْكَلَامِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الظَّاهِرُ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْأَحْكَامُ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ3 وَالِاعْتِصَامُ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .
إنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ وَشَهِدَ؛ فَهَذَا عِلْمُهُ. وَشَهَادَتُهُ قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] وَأَمْثَالُهُ.
ـــــــ
1 ليس في ش.
2 من ش.
3 في ش: الأهدار. وفي م: الأدهان.(4/231)
وَقَدْ يُقَالُ: شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الشَّهَادَاتِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، يُقَالُ: وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ1 فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَدَعُوا وَغَرُّوا، وَاَللَّهُ خَادِعُهُمْ وَمَاكِرٌ بِهِمْ، وَهُوَ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا بِنِيَّةِ الْيَمِينِ.
وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَنَّهُ دُونَ النِّيَّةِ يَمِينٌ2، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ، وَلَا أَرَى المسألة إلَّا هَكَذَا فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ هَذَا الْعَالِمُ أَوْ غَلِطَ فِي النَّقْلِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ3 أَشْهَدُ: إنَّهُ يَمِينٌ إذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ.
ـــــــ
1 في ش: ما ليس يعتقدونه.
2 ساقط من م، ش.
3 من ش.(4/232)
لْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}:
لَيْسَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: {نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْآيَةِ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْت فِي غُزَاةٍ فَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَانِي فَجِئْته، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ. فَحَلَفُوا مَا قَالُوا؛ فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ فَجَلَسْت فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْت إلَّا إلَى3 أَنْ كَذَّبَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، فَبَعَثَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك" .(4/232)