نيل المرام
شرح آيات الأحكام
(القسم الأول)
بقلم
فهد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فإن خدمة القرآن الكريم من أعظم الأعمال التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه سبحانه، وفي هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم المضمون شرح لآيات الأحكام والتي لا يستغني طالب العلم عن معرفتها والإلمام بها ومعرفة استنباطات أهل العلم منها.
وكان منهجي في هذا الشرح هو الاقتصار على ذكر هذه الاستنباطات والخلافات الفقهية الناتجة عن اختلاف أفهام أهل العلم وتوجيهاتهم، دون الخوض في الفوائد واللطائف التفسيرية والتي لا تدخل في إطار بحثنا هذا، وقد سميته نيل المرام شرح آيات الأحكام، أسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وآمل من قارئه والمستفيد منه الدعاء بالرحمة والمغفرة، والله الموفق.
مقدمات
أولا: تدوين علوم القرآن:
لقد احتل القرآن المرتبة الأولى في اهتمام المسلمين فعكفوا على حفظه ودراسته واستنباط الأحكام منه، وكان القرآن كتابهم الأوحد الذي جمع بين دفتيه كلام رب العزة سبحانه وتعالى، ومع مرور الزمن وتراكم العلوم وتكاثر البحوث نشأت علوم كاملة تتعلق بكتاب الله سبحانه، وتنوعت تبعا لتنوع الجوانب المتعلقة بالدرس القرآني، من رسم وقراءات وأسباب نزول، وغريب ومعاني وإعراب، وغيرها وكتب العلماء في هذه العلوم العشرات من الكتب والمجلدات مما لا يوجد له نظير في أي دين أو أي كتاب آخر.(1/1)
وقد كان من بين هذه العلوم علم التفسير فدبجت يراعات أهل العلم تفاسير متنوعة منها الكبير والمتوسط والصغير، وتميز كل تفسير بميزة أو ميزات إذ انعكست شخصيات ومعلومات وإدراكات والخلفيات العلمية للمفسرين على تفاسيرهم، فمنهم من غلب عليه الأثر كابن كثير في تفسيره تفسير القرآن العظيم، ومنهم من غلب عليه تخصصه اللغوي فغلب على تفسيره كأبي حيان في تفسيره البحر المحيط، ومنهم من غلب عليه القصص والرقائق فجاء تفسيره انعكاسا لذلك كالثعلبي.
والكلام نفسه يقال في التفاسير الفقهية والتي عمد فيها الفقهاء إلى بيان الأحكام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم بيد أن الفارق هو أن الفقهاء اقتصروا على الآيات المتعلقة بالأحكام دون غيرها.
مراحل التأليف في آيات الأحكام:
من الممكن أن نقسم المراحل التاريخية للتصنيف في هذا العلم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: المرحلة الذهبية: وهو العصر الممتد من القرن الثالث وحتى الثاني عشر، فقد كانت بداية البداية في منتصف القرن الثالث، ثم انتشر التتصنيف بعد ذلك بسبب انتشار المذاهب ومحاولة لدعم موقف المذهب شرعيا ببيان حججه القرآنية، وغلب على هؤلاء التمكن العلمي والمذهبي.
وكانت الساحة الإسلامية تشهد مجادلات ومناظرات واسعة بين أتباع المذاهب، والاختلاف في أقرب مذهب للشرع من أبعده، مما أثمر مثل هذه الدراسات.
ورغم هذه الفترة الزمنية الطويلة إلا أن تلك الجهود كانت محدودة ومعدودة، وقد قام بعض المعاصرين بوضع قائمة بأسماء المؤلفات الخاصة بالأحكام فلم يصل تعدادها الأربعين مؤلفا بعضها رسائل صغيرة، وأخرى ناقصة، وقد تغايرت القرون في نصيب التصنيف في هذا العلم فأكثر القرون حضا القرن الثالث والرابع والتاسع ثم ياتي القرن السادس ثم بقية القرون.
أما القرنان الثاني عشر والثالث عشر ففيهما خفت هذا العلم فلم يسجل أي كتاب يتصل بهذا المجال.(1/2)
المرحلة الثانية: الفتور:ورغم أن الأمة قد دخلت عصور التقليد قبل هذه الفترة بقرون بيد أن الذروة كانت في هذين القرنين، فقد اتفق الجميع على صحة تقليد إمام من الأئمة الأربعة، وأنهم جميعا يرتشفون من الشرع فترك الناس الاستنباط وركنوا إلى التقليد فخفت نور هذا العلم وبدلا من العكوف على مثل هذه الدراسات متماشية مع دراستهم المذهبية اقتصروا على قراءة المتون والشروح وتنافسوا فيها بعيدا عن هدي القرآن، والتمرس في التعامل مع النص القرآني والاستنباط منه.
بل لقد ازداد الأمر سوءا عندما نادى البعض بعدم جواز الاستنباط من القرآن والسنة وأنهما لمجرد التبرك!!!
إن في زماننا الكثيرين ممنوصفهم رسول الله( بأنهم دعاة على أبواب جهنم ممن يريدون أن يحنطوا القرآن ويجعلونها للتبرك.
صحيح أن العلماء الداعين لمقولتهم تلك لم يريدوا فصل الدين عن الدولة وحاشاهم، ولكن هذه الدعوى في بعض جوانبها تؤدي إلى ما يهدف غليه أولئك الدعاة، لأن المذاهب الفقهية لن تحيط بشؤون الدنيا ومشاكلها، كما أن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع لا غيرهما وكل يستدل لقوله ولا يستدل به.
كما يؤدي هذا القول إلى قطع الصلة بين الناس وكتاب ربهم وسنة نبيهم وهو لعمر الله خطأ فادح، وما المآسي التي تقع اليوم ممن يوصمون بالمفكرين والتحرريين والتقدميين ودعاة الحقوق المتنوعة الموضات والصراعات، وما الانفلات الذي يعاني منه الكثير من الشباب فتيانا وفتيات وغيره الكثير من المحزنات إلا تجل واضح للاغتراب عن الدين والبعد عن القرآن والسنة.(1/3)
وإن مما يؤسف له أن نجد اليوم من يتبنى هذا القول الذي قاله علماء وصفوا أنفسهم بالمقلدين، وفي عصور عانت الأمة فيها من التخلف والانحطاط المريع، في حين أننا نريد العودة بالأمة إلى القرآن والسنة، مع تلمس خطوات أهل العلم الذين أمرنا الله سبحانه بالرجوع إليهم، مع التفريق بين التفسيرات المرتبطة بالواقع المتغير وتلك المرتبطة بالنص كثابت لا يتغير ولا يتبدل.
فلا يفهم من كلامي هذا الدعوة إلى نبذ كتب أهل العلم والدعوة العامة إلى استنباط الأحكام من القرآن مباشرة دون تأهل بل هذا مما يزيد الطين بله كما أنه مخالف للقرآن الداعي إلى سؤال أهل العلم (فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) الأنبياء7، وما أعنيه أن المقولة السابقة جعلت بين الناس والقرآن هوة واسعة وأبعدت الأمة عن وحي ربها.
أما استثناؤهم المؤهل للاستنباط فغير مجدي لتصريحهم بخلو الأرض من المجتهدين بطبقاتهم المطلقة والمذهبية، فلم يبق لهذا الاستثناء مجال، وعتبي الكبير على هؤلاء أنهم حصروا أنفسهم في بوتقة التقليد رغم رسوخ الكثيرين منهم في العلوم النقلية والعقلية فرغم تأهلهم جمدوا عقولهم واكتفوا بمطالعة الفروع التي لا تنتهي والإكثار منها وترك النص المعصوم القريب الواضح.
كما أن هذا كان سببا في تقزيم وتجزيء العقل الفقهي فبدلا من أن يكون عقلا استنباطيا ينطلق من التأصيل إلى التفريع أصبح العكس وأصبح العمدة في الفقه هو ما نصت عليه كتب الفروع، وأكرر القول بأن هذا ليس عيبا إذا ما انضم إليه تكوين للعقلية الفقهية الاستنباطية ولكن العيب كل العيب هو ترك الأصل وتجاهله والتمسك بالفرع وجعله أصلا.
وفي اعتقادي أن هذا الانحسار الفكري والاستنباطي كان سببا كبيرا من الأسباب التي أوصلت الأمة إلى ما وصلت إليه بعد ذلك، إذ تبلدت الذهنية المسلمة في كثير من جوانبها إلا ما رحم الله، فأضحت الأمة جسما وعقلا لقمة سائغة للمتربصين بها.(1/4)
المرحلة الثالثة: العودة: وهي عصرنا الحاضر والذي عادت فيه الكتابة في هذا العلم، وسأتكلم عن هذه المرحلة في نهاية هذه المقدمات.
ثانيا: أهم الكتب وأشهرها في هذا العلم:
قد ألف في هذا العلم كثير ولكنه قليل جدا مقارنة بغيره من العلوم.
من أشهرهم:
1- أحمد بن محمد الجصاص الرازي الحنفي (370).
2- علي بن محمد الكيا الهراسي الشافعي (543).
3- محمد بن عبد الله بن العربي المالكي (543).
4- محمد صديق خان (1307)
وأنبه هنا إلى أن البعض ذكر أن أول من ألف في هذا العلم الإمام الشافعي في كتاب له مطبوع بعنوان أحكام القرآن والصواب أن هذا الكتاب ليس من تصنيف الشافعي وإنما جمعه البيهقي من مؤلفات الإمام ورتبه على الأبواب الفقهية(1).
ولكي نقترب من الكتب المتخصصة في آيات الأحكام والتي ذكرنا أهمها سابقا والتي كتب لها القبول في أوساط الفقهاء وطلاب العلم رأيت من الفائدة أن أذكر مقارنات مقتضبة لها في النقاط التالية:
1- غلب على مؤلفي تلك الكتب كغيرها م كتب المقلدين الاتجاه المذهبي فكل مصنف تخندق في مذهبه مدافعا عنه مبينا باستفاضة أحيانا وجهة نظر المذهب وفهمه أو تأويله للنص في حين كان تفسير حسن خان تفسيرا اجتهاديا يتبع فيه الدليل وقوة الاستدلال متأثرا في ذلك كله بمدرسة الشوكاني التجديدية، وكلا الطريقتين هامتان إذ سجل لنا التفسير الفقهي المذهبي الكثير من التعليلات والنظرات المذهبية وكيفية تعامل فقهاء المذاهب مع النصوص، وكيف كان تعامل أتباعهم مع نصوص الأحكام، كما أن التفسير الاجتهادي خرج عن المألوف ووضع فكرة الاجتهاد بين أقوال أهل العلم ومناقشتها ومقارنة وترجيح الأوفق بالنص والأقرب إليه.
2- حاول كل مصنف أن يثبت رجحان مذهبه قدر استطاعته ولو أدى هذا أحيانا إلى شيء من التعسف في التفسير واستنباط الحكم.(1/5)
3- كان للمذهبية انعكاس سلبي عند البعض إذ لم يكتف برد أدلة الخصم وتفنيد حججه بل تعداه أحيانا إلى النيل والسخرية منه وتجهيله.
4- توسع البعض في تفسير بعض الآيات بسرد أوجه الاستدلال ومناقشة حجج الخصوم، ودفع الإيرادات مما أخرج الكتاب عن الغرض الموضوع لأجله وهو بيان وجه الاستدلال بالآيات على الأحكام وهذه الطريقة هي التي غلبت على الجصاص ويأتي ابن العربي في المرتبة التالية في حين كان تفسير الهراسي متوازنا إلى حد كبير.
5- تنوعت هذه الكتب إلى نوعين: تحكي المذهب والأقوال المخالفة مع ذكر الحجج والأدلة، وانتهج هذا النهج طوال كتابه كالجصاص وابن العربي ومنها ما كان يقتصر على وجه دلالة الآية وتوجيهها في ضوء المذهب كما فعل إلكيا.
6- انتشار المسائل وكثرة الاستطرادات، وهذا كثر عند الجصاص ثم ابن العربي.
رابعا: أهمية دراسة هذا العلم
تكمن أهمية دراسة هذا العلم فيما يلي:
1- ربط طلاب العلم بالقرآن والغرس في ذهنه أهمية بل وضرورة العودة للقرآن في كافة شؤون الحياة والاستنباط منه، إذ فيه تفصيل كل شيء.
2- معرفة النصوص القرآنية المتعلقة بالأحكام، إذ شرط العلماء معرفتها لمن يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد.
3- معرفة الأحكام المنصوصة والمستنبطة في القرآن الكريم، وتزويد الطالب بذخيرة فقهية واستنباطية واسعة بذل فيها علماء الأمة جهودا جبارة.
4- تعلم الطالب وتدربه على الاستدلال والاستنباط من خلال دراسته لاستنباطات الأئمة ومناهجهم فيها وكيفية تعاملهم مع النصوص مما ينمي عندهم الملكة الفقهية والاستنباطية، ويؤهلهم للنظر الاجتهادي.
خامسا: عدد آيات الأحكام(1/6)
وضع علماء الأصول شروطا لمن يبلغ رتبة الاجتهاد كان أولها معرفة القرآن الكريم، وضيق بعضهم هذه الدائرة وقصرها على آيات الأحكام، وقالوا: لا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام، قال الغزالي وتبعه جماهير علماء الأصول: إن الذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية2، قال ابن العربي: "وقد يزيد عليها بحسب تبحر الناظر وسعة علمه"3.
قال الشوكاني: ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال.
لكن يبدوا أن الغزالي ومن تابعه قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والإلتزام .
وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ4.
والذي سنجري عليه في هذا الكتاب أقل من هذا العدد لسبب بسيط وهو أن بعض هذه الآيات ظاهرة الوضوح لا تحتاج إلى شرح إضافة إلى الرغبة في عدم تضخيم الكتاب، وبما يتوافق مع السنة الدراسية.
سادسا: التفسير الفقهي في العصر الحديث
نظرا لأهمية هذا العلم وما يمثله من إعادة ترتيب للذهنية الفقهية والتفسيرية وعودة للمنبع الصافي القرآن والسنة برزت عدة مؤلفات كانت الدراسات الجامعية سببا في وجودها من أهم هذه الكتب:
- آيات الأحكام للسايس.
- روائع البيان للصابوني.
- أحكام القرآن لابن عثيمين وغيرها.(1/7)
ولكل مؤلف طابعه ومنهجه، بيد أن من أهم ما يؤخذ عليها أنها في مجملها صدى لكتب الأقدمين لا تكاد تجد فيها إضافة وكأن الزمن قد توقف عن الحركة، وكأن المستجدات المنتشرة والمتزايدة يوما بعد يوم لتدخل في النص القرآني من قريب أو بعيد، وكان القرآن قد توقف عن احتواء الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فبالرغم من كثرة ما يمكن أن يبحث ويدرس مما له صلة بالمستجدات في كافة المجالات ومعالجتها قرآنيا وتطبيق النصوص عليها إلا أننا لا نلمس ذلك بتاتا، بل نجد المسائل هي المسائل مع تغير في الترتيب والتطويل والاختصار، ولست هنا أقلل من جهد أحد -معاذ الله- فما نحن إلا تلاميذ لهم وكتبهم، وقد أدوا ما قدروا عليه أو أرادوه، بيد أني أنبه إلى مسألة ضرورية في هذا العلم، وهي تجديد المحتوى بما يتوافق مع جدة العصر وتطوره، والنظر إلى هذه التطورات والمتغيرات من خلال النص القرآني، وهذا ما مضى عليه السلف ومن بعدهم، وهذه الطريقة بلا شك ÷ي التي نريدها اليوم وبقوة، خاصة مع البعد الكبير الذي نلحظه بين بعض أهل العلم وثقافة عصره، بحيث يشعر البعض منهم بالغربة الزمانية والمكانية، هذا الاغتراب الذي أضر بالدين أولا وبالمشروع الإسلامي ثانيا وبعقلية وفهم واستنباط الفقيه ثالثا.
كما أن من الواجب علينا تجاه الدين عامة والقرآن خاصة هو تنزيله على الوقائع المستجدة والعودة إليه في كل حادث طارئ وتفعيله واقعيا.
كما ينبغي اقتناص المفاهيم القرآنية العامة والقواعد الكلية والعلل التي ينص عليها القرآن وبيانها كي تشكل الذهنية القرآنية عند الطالب وتعطيه معرفة بمنطلقات وتعليلات القرآن التي يمكن أن ينزل عليها الكثير من الوقائع وكيف يعالج المستجدات من خلال النظرة القرآنية.
وأخيرا لا أدعي أن ما أقدمه في هذا الكتيب قد حقق المنشود وغطى قصورا واضحه نعانيه في هذا لخصوص، بل هو جهد المقل، والله المستعان.
البسملة(1/8)
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الفاتحة1
اليسملة ليست من آيات الأحكام وإنما نبدأ بذكرها تبركا، وتبعا لما جرت عليه كتب آيات الأحكام.
لاخلاف في أن البسملة بعض آية من سورة النمل من قوله تعالى: (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(النمل30 وإنما وقع الخلاف في كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة أو لا أقوال:
القول الأول: هي آية من الفاتحة ومن كل سورة وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد.
وأدلة هذا القول:
1- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحداها.5
2- عن أنس قال:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر }6
3- أجمع الصحابة رضي الله عنهم على إثباتها في المصحف في أوائل السور جميعاً سوى براءة بخط المصحف، بخلاف الأعشار وتراجم السور، فإن العادة كتابتها بحمرة ونحوها، فلو لم تكن قرآناً لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز، لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن فيكونون مغررين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا فهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة رضي الله عنهم.7
القول الثاني: ليست آية من الفاتحة ولا من شيء من سور القرآن وهذا مذهب مالك.
واستدل بما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين" إلى آخر الحديث، ولم يذكر البسملة، رواه مسلم.(1/9)
2- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من القرآن سورة ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك" رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن، وفي رواية أبي داود "تشفع" قالوا وقد أجمع القراء على أنها ثلاثون آية سوى البسملة.
3- عن أنس رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" رواه مسلم وفي رواية له "فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها".
القول الثالث: هي آية تامة أنزلت للفصل بين السور وليست آية من الفاتحة، وبه قال أبو حنيفة.
واستدل بما يلي:
1- بالأحاديث الدالة على عدم الجهر بقراءتها أو ذكرها فدل هذا على أنها ليست من الفاتحة ومثلها بقية سور القرآن.
2- عن ابن عباس قال: كان النبي ( - لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم" وهذا يدل على أن موضوعها للفصل بين السورتين وأنها ليست من السور8.
المناقشة والترجيح:
يظهر مما استدل به الشافعي قوة حجته فما استدل به من السنة صريح في كون البسملة آية من الفاتحة، كما يقوى جانب هذا القول بكون البسملة آية من بقية السور بكتابة الصحابة لها مع القرآن.
أما القول الثاني فضعيف لكون أدلته غير صريحة إذ قد يكون المراد بـ(الحمدلله) السورة التي فيها الحمد بغض النظر عن بدايتها.
وكذلك يقال في القول الثالث فكون آية لا يجهر بها -على الخلاف- لا يعني أنها ليست من الفاتحة، في حين كان دليله قويا في كون البسملة ليست آية من سور القرآن.
ولهذا فالذي أراه راجحا والله أعلم أن نفرق بين مسألتين:
أ - كون البسملة آية من الفاتحة فالراجح أنها آية منها بنص السنة.
ب - كون البسملة آية من بقية سور القرآن خلا براءة فالراجح أنها آية مستقلة نزلت للفصل بين السور كما صح هذا عن ابن عباس.
السحر(1/10)
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }البقرة102
معنى الآية:
واتبعوا ما تتلوا الشياطين الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون كأنهم لا يعلمون فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين9.
وأنبه هنا إلى قصة يذكرها الكثير من المفسرين أو من يتعرض لمعنى هذه الآية وهي أن الملكين استغربا كثرة معاصي البشر فخلق الله فيهما الغرائز وأنزلهما إلى الأرض فجارا في أحكامهما وشربا الخمر وزنيا، فخيرهما الله بين عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، فاختارا عقاب الدنيا، فأوحى الله إليهما أن ائتنا بابل فانطلقنا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض معذبان إلى يوم القيامة.(1/11)
هذه القصة أخرجها الإمام أحمد في مسنده وقد ضعفها بعض المحدثين بل ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات10 ورجح البيهقي وقفها على كعب11، وأنكرها الرازي والقرطبي، في حين حسن إسنادها الحافظ ابن حجر12 والسيوطي وقال الهيثمي: أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح13.
وهذان الملكان أنزلا لتعليم السحر إبتلاء من الله تعالى للناس، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما أمتحن قوم طالوت بالنهر14.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: هل للسحر حقيقة وتأثير:
اختلف أهل الإسلام في تأثير السحر وهل له حقيقة وواقع أم لا على قولين:
الأول: ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى انه لا تأثير للسحر وأنه لا يخرج عن أن يكون: تمويها وتخييلا كأن يطير الساحر عصفورا ويخرج آخر كان قد أخفاه، أو يكون بمواطأة حيث يوكل الساحر من يطلع على أخبار الناس ثم يخبره فإذا ما جاء الزائر أخبره بشأنه، أو يكون نميمة ونحوها.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى( فهو تخييل لا حقيقة له.
2- قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى( فنفى الله عنه الفلاح فلن يستطيع قلب الأشياء.
القول الثاني: ذهب جمهور أهل السنة إلى قدرة الساحر على قلب الأشياء.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى:(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ( فأثبتت الآية وجود تأثير للسحر فهو يفرق بين الرجل وزوجته.
2- قوله تعالى: (من شر النفاثات في العقد( وتدل هذه الآية على تأثير السحر ولهذا أمرنا بالاستعاذة من شر السواحر.
المناقشة والترجيح:
مما ساقه كل قول من أدلة يتبين رجحان قول الجمهور إذ أدلتهم واضحة في كون الساحر له قدرة على التأثير وقلب الأعيان كما حدث مع سحرة فرعون.
أما أدلة القول الأول فمناقشة بما يلي:(1/12)
- بعد الأدلة عن قولهم بل هي أدلة للجمهور لأن قوله تعالى (يخيل) يدل على قدرتهم في التأثير على بصر الناس بحيث يرون الحبال كالأفاعي وهذا أسلوب من أساليب السحر لا يعترفون به.
- ذكروا أنواع السحر عندهم وأنه لا يخرج عن التمويه والذي يسمى في عصرنا بـ (فن الخفة) وله كلياته ومعاهده المتخصصة ولا يعتمد ممارسه على أي نوع من أنواع الشعوذة وإنما يعتمد على تمرنه المستمر وحيله المعدة سلفا، وهذا لا يسمى سحرا، وبالإجماع لا يعد صاحبه كافرا كما سيأتي بيان هذه المسألة.
الحكم الثاني: تعلم السحر وتعليمه:
اختلف العلماء في جواز تعلم السحر وتعليمه على قولين:
القول الأول: يجوز تعلم السحر وإليه ذهب الفخر الرازي.
ودلل وعلل لقوله بما يلي:
1- وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم.
2- العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(.
3- لو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال.
بل غالى الفخر الرازي وزعم وجوبه، وتابعه بعض المتأخرين فأوجبوا على المفتي تعلمه لكي يعرف حالات القتل بالسحر ونحوها.
القول الثاني: حرمة تعلمه وتعليمه بل قال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك15 .
واستدلوا بما يلي:
1- أن الله قد ذمه في القرآن وبين كفر متعلمه (نحن فتنة فلا تكفر).
2- أن الرسول ? عده من الموبقات كما جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات ) . قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات16.
المناقشة والترجيح:
ما ذهب إليه الفخر الرازي ومن وافقه مناقش بما يلي:
1- أن تعليم الملائكة السحر للناس كان للابتلاء كما سبق.(1/13)
2- أن العلوم ليست كلها مشروعة إذ إنها تدور على الأحكام الخمسة فهناك العلوم الواجبة والمندوبة والمباحة والمكروهة والمحرمة، كما يعلم كل عاقل أن من العلوم ما هو نافع ومنها ما هو ضار، والمعيار في ذلك أي في تمييز النافع من الضار أو المشروع من غير المشروع أمران: الشرع، والضرر، فما أجازه الشرع فهو جائز وما منعه فهو ممنوع، وكذلك العلم الذي ثبت ضرره على الأفراد والجماعات والدول يقال بمنعه وما ثبت نفعه فهو مشروع، والسحر على كلا الضابطين ممنوع لأنه قد وصف بالكفر في القرآن، كما ثبت واقعيا ضرره على الأفراد والأسر، فهو علم -إذا صح إطلاق كلمة علم عليه- مذموم بلا شك ينفر منه كل عاقل يحترم ذاته فضلا عن مؤمن مسلم مأمور بالأخذ بالأسباب والاعتقاد السليم.
3- أن السحر الذي فيه استخدام للجن أساسه تعظيم غير الله، وهذا لوحده كاف في تحريمه ولهذا نص كثير من أهل العلم على كفر الساحر.
4- أما توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم إلا النادر عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر وكفى فارقا بينهما ما تقدم ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل أو أنه أخل به كما أخلوا 17.
5- إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه على ما ذكره العلامة ابن حجر إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر18.
6- ثبت في السنة لعن الكاهن كما جعل السحر من الموبقات فكيف يكون بعد ذلك تعلمه واجبا!!!
وبهذا يتبين رجحان قول الجمهور وبعد قول المخالفين لهم.
النسخ
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة106
معنى الآ
النسخ في اللغة يأتي على معنيين:(1/14)
1- الإزالة نحو: نسخت الشمس الظل إي أزالته.
2- التقل: نحو: نسخت الكتاب أي نقلته.
أما في الاصطلاح فهو: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر.
ومعنى الآية: ما نرفع آية من جهة النسخ بأن نبطل حكمها أو بالإنساء لها بأن نمحوها عن القلوب (نأت بخير منها( أي : أصلح لمن تعبد بها وأنفع لهم وأسهل عليهم وأكثر لأجرهم { أو مثلها } في المنفعة والمثوبة { ألم تعلم أن الله على كل شيء } من النسخ والتبديل وغيرهما19.
بيان الأحكام:
وفي هذه الآية جملة أحكام:
الحكم الأول: وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية:
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: ذهب الجماهير من أهل العلم إلى وقوع النسخ في الشرع الإسلامي مستدلين بما يلي:
1- الآية السابقة.
2- {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }النحل101 فهاتان الآيتان صريحتان في وقوع النسخ.
3- الأدلة المتكاثرة في القرآن الدالة على وقوع النسخ كما سيأتي ذكر بعضها.
القول الثاني: عدم وقوع النسخ في الشرع وينسب هذا القول إلى أبي مسلم الخرساني واستدل بقوله تعالى(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(فصلت42
المناقشة والترجيح:
من الواضح رجحان قول الجمهور وضعف قول المخالف ولهذا لم يحك هذا القول إلا عن هذا الرجل ونحوه والذين وصفهم الجصاص بأنهم من غير أهل الفقه، وأنهم إنما أتوا من قلة العلم بنقل الناقلين، وقال الشوكاني: "وإذا صح هذا عنه -أي الأصفهاني- فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلا فظيعا وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية"20.
الحكم الثاني: أنواع النسخ:
النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة :(1/15)
1- نسخ الحكم والتلاوة جميعا نحو ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن.
2- نسخ الحكم دون التلاوة كقوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) منسوخة بقوله سبحانه (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله) على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية مع أن تلاوة كلتيهما باقية
3- نسخ التلاوة دون الحكم نحو ما جاء عن عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) وهذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.
الحكم الثالث: أنواع النسخ إلى بدل:
1- النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذ قال سبحانه (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالئن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر(
2- النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره((1/16)
3- النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ ومذهب الجمهور وقوع هذا النوع في الشرع ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي وهو أدل دليل على الجواز العقلي فإن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها ، ومنها أن حد الزنى كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت ثم نسخ ذلك بالجلد والنفي في حق البكر وبالرجم في حق الثيب، ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله .
وذهب البعض إلى عدم جوازه مستدلين بقوله تعالى (نأت بخير منها أو مثلها) والأشق ليس خيرا ولا مثلا.
وأجاب الجمهور بأن الخيرية هنا بالنسبة للمكلف من حيث حصوله على أجر وثواب أعظم.
تحويل القبلة
(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ()َكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( البقرة142،143(1/17)
المراد بالسفهاء اليهود , فقد عابوا على المسلمين رجوعهم إلى الكعبة عن بيت المقدس , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أولا أن يتوجه إلى بيت المقدس , حتى إذا دانى اليهود في قبلتهم كان أقرب إلى إجابتهم , فإنه عليه السلام كان حريصا على تأليف الكلمة , وجمع الناس على الدين , فقابلت اليهود هذه النعمة بالكفران , فأعلمهم الله تعالى أن الجهات كلها له , وأن المقصود وجهه , وامتثال أمره , فحيثما أمر بالتوجه إليه توجه إليه ; وصح ذلك فيه .
ثم إن المسجد الحرام قد ورد ذكره في القرآن والسنة وقصد به عدة معان:
1- الكعبة ومنه قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي جهة الكعبة.
2- المسجد كله ومنه قوله(: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"21.
3- مكة المكرمة كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الإسراء1
4- الحرم كله -مكة وما حولها- كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة28
بيان الأحكام:
الحكم الأول: هل الواجب استقبال عين الكعبة أم جهتها:
لا خلاف بين العلماء في وجوب استقبال الكعبة في الصلاة وإنما اختلفوا في وجوب استقبال عينها أم جهتها على قولين:
القول الأول: الواجب استقبال عين الكعبة وهو قول الشافعي، واستدل بما يلي:
1- قول الله تعالى : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .
2- أنه يجب على المصلي التوجه إلى الكعبة فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين لها(1/18)
القول الثاني: الواجب استقبال عين الكعبة وبهذا قال الجمهور واستدل بما يلي:
1- أنه المأمور به في القرآن , إذ قال : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } فهذا خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها , والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه، لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها.
2- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة .
3- لو كان الفرض إصابة العين لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة22 .
الترجيح:
يتبين مما سبق رجحان قول الجمهور لقوة ما استدلوا به، ومع هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكليا، لأنهم صرحوا بأن غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها23.
الحكم الثاني: جواز النسخ في الشرع:
قد بينا سابقا أن النسخ جائز في الشرع وهنا دلت الآية على نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة.
الحكم الثالث: جواز نسخ السنة بالقرآن:
دلت الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي( صلى إلى بيت المقدس وليس في ذلك قرآن فلم يكن الحكم إلا بالسنة الفعلية ثم نسخ ذلك بالقرآن.
السعي بين الصفا والمروة
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ( البقرة158
معنى الآية:(1/19)
إن الصفا والمروة -وهما جبلان معروفان بمكة- من متعبداته فمن حج أو اعتمر فلا إثم عليه أن يطوف بالجبلين وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما فكره المسلمون الطواف بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية ومن تطوع خيرا أي فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة وطاعة فإن الله شاكر عليم24.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه ركن من أركان الحج، فمن تركه بطل حجه وهو مذهب المالكية والشافعي ورواية عن أحمد.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله( وهو يسعى بين الصفا و المروة: كتب عليكم السعي فاسعوا"25.
2- أن النبي ( سعى بعد الطواف وقال خذوا عني مناسككم.
القول الثاني: إنه واجب وليس بركن وإذا تركه وجب عليه دم، وهو قول أبي حنيفة.
واستدل بأن الآية رفعت الإثم عمن تطوف بهما (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ورفع الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن ولكن فعل النبي( جعله واجبا فصار كالوقوف بالمزدلفة يجزئ عنه دم إذا تركه.
القول الثالث: أنه تطوع ليس بركن ولا واجب، ولا يجب بتركه شئ وهو رواية عن أحمد.
واستدل له بما يلي:
1- لقول الله تعالى : (فلا جناح عليه أن يطوف بهما( ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله : (من شعائر الله( .
2- قوله تعالى: (ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) فبين أنه تطوع وليس بواجب.
3- روي أن مصحف أبي وابن مسعود : (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي(.
المناقشة والترجيح:
يظهر من استعراض أدلة الفريقين رجحان قول الجمهور لأمر النبي( بأخذ المناسك عنه والأمر للوجوب.(1/20)
أما الاستدلال على عدم الركنية بنفي الحرج فغير ظاهر لأن نفي الحرج وهو الإثم لا يستلزم نفي الركنية، يوضحه أن البعض كان يتأثم من السعي لكونه كان مسعى الجاهلية فقال الله بأنه لا إثم في ذلك وقالت السنة هو ركن من أركان الحج.
ومن استدل بقول تعالى (ومن تطوع خيرا..) فالمراد أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى كما قال الطبري.
كتمان العلم الشرعي
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ()إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(البقرة159، 160
معنى الآية:
نزلت هذه الآية في أهل الكتاب الذين كتموا صفة محمد( ثم أخبر أنه يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء -بخلاف العلماء- يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا من تاب منهم.
والمراد هنا كل من كتم الحق فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، ولا تخص اليهود والنصارى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فالخطاب وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها الاعتبار والاتعاظ فنحن محذرون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأولى لأننا أولى بالكمالات النفسية26.
بيان الأحكام:
استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على حرمة أخذ الأجرة على تعليم العلم الديني، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه ولا يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه كما لا يستحق الأجر على الصلاة لأنها قربة وعبادة.(1/21)
غير أن المتأخرين لما رأوا أنه ليس في الناس مع كثرة مشاغل الحياة ما يلجئهم إلى الانقطاع لهذه المهام أباحوا أخذ الأجور، لضرورة حفظ العلم ونشره وعدم ضياعه.
وإذا كان هذا شأن عصور كان الإسلام وتطبيقه هو الغالب على المجتمعات الإسلامية، وكانت العلوم الشرعية لها الرواج الكبير، فكيف بنا اليوم بعد أن انصرف الكثيرون عن هذا التخصص والذي هو في حقيقة الأمر قوام الحياتين الدنيوية والأخروية ولهذا نشأت الجامعات الإسلامية وخصصت الأقسام الشرعية في كثير من جامعات العالم الإسلامي.
تحريم الخبائث
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( البقرة 173،172
بيان الأحكام:
اشتملت هذه الآية على جملة أحكام هي:
الحكم الأول: عموم الآية وخصوصها:
صح في السنة عن عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لكم ميتتان ودمان . فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال"27 فاختلف العلماء في تخصيص عموم تحريم أكل الميتة والدم بهذا الحديث على قولين:
القول الأول: يعمل بالتخصيص وهو قول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد.
القول الثاني: أجازوا أكل السمك دون الجراد لأن الحديث السابق لم يصح عندهم، لكنهم أجازوا أكل ميتته السمك لحديث: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته".
الراجح:
من الواضح أن قول الجمهور هو الراجح لصحة ما استدلوا به.
الحكم الثاني: الانتفاع بالميتة في غير الأكل:
اختلف العلماء في الانتفاع بالميتة في غير الأكل كدهن السفن بشحمها على قولين:
القول الأول: حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا، وهذا قول الجمهور.
وعللوا قولهم بما يلي:(1/22)
1- بأن التحريم الوارد في الآية يتناول سائر وجوه المنافع ولذلك قال بعض العلماء لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا بطعمها الكلاب والجوارح لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرم الله الميتة تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا له حكم الحظر فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص شيء منها بدليل يجب التسليم له 28.
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله (يقول عام الفتح وهو بمكة: ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس ؟ فقال: "لا هو حرام" ثم قال رسول الله( عند ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه"29.
القول الثاني: يجوز دهن السفن بشحوم الميتة وهذا ينقل عن عطاء.
وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل، ويدل عليه قوله تعالى: (محرما على طاعم يطعمه)
والراجح هو قول الجمهور.
الحكم الثالث: الدم
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به , وقد عينه الله تعالى هاهنا مطلقا , وعينه في سورة الأنعام مقيدا بالمسفوح , وحمل العلماء المطلق على المقيد إجماعا .
وروي عن عائشة أنها قالت : لولا أن الله تعالى قال : أو دما مسفوحا لتتبع الناس ما في العروق30.
الحكم الرابع: الخنزير:
قال ابن العربي: "اتفقت الأمة على أن الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه"31.
وما حكاه ابن العربي من الاتفاق غير سديد فقد خالف بعض الظاهرية وقال بحرمة اللحم فقط، لنص الآية عليه، ولكنه فهم ظاهري للآية، لا يعول عليه ولهذا أغفله ابن العربي، فالصحيح أن الخنزير تحرم كل أجزائه.
ومما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وفيه خلاف:(1/23)
- فقال أبو حنيفة لا يجوز أكله محتجا بعموم الآية، فظاهر قوله (ولحم الخنزير) موجب لحظر جميع ما يكون منه في البر وفي الماء لشمول الاسم له32.
- وقال مالك والشافعي يجوز أكله لقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه " أي مصيده ومطعومه.
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم رجحان القول الثاني، أما احتجاج الأحناف باتحاد الاسم فغير سديد، لأن "أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية"33.
الحكم الخامس: إباحة الميتة للمضطر:
اتفقت الأمة على أن للمضطر أن يأكل من الميتة بل أوجبوا عليه ذلك واختلفوا في المقدار الجائز على قولين:
القول الأول: يأكل حتى يشبع ويتضلع وهذا مذهب مالك ورواية عن أحمد .
ودليله أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا , ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد.
وفسر قوله تعالى: (غير باغ ولا عادي) أي على الإمام بأن يخرج ليقطع الطريق.
القول الثاني: يأكل على قدر سد الرمق , وبه قال الجمهور .
وعللوا قولهم بأن:
1- الإباحة ضرورة فتتقدر بقدر الضرورة .
2- أنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية34.
وفسر الجمهور قوله تعالى (غير باغ ولا عادي) غير باغ في الأكل ولا متعد حد الضرورة.
الترجيح:
ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح، إذ إن الأصل تحريم الميتة وإنما وجبت للضرورة وبعد كسر سورة الجوع لا ضرورة، كما أن الشافعية نصوا على جواز حمل الميتة إذا ما خشي المضطر انعدام ما يأكله فيأكل من الميتة.
الحكم السادس: اللحم المستورد:
اللحوم المستوردة والتي يعلم أنه ماتت بغير الذبح كالصعق الكهربي وغيره ذهب الجماهير من أهل العلم على أنها ميتة نجسة لا يجوز أكلها، وسنفصل المسألة في سورة المائدة بإذن الله.
الحكم السابع: الرخص لا تناط بالمعاصي:(1/24)
إذا فسرنا قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد( بأنه البغي على الإمام والاعتداء على الناس فإن معنى الآية سيكون جواز بل وجوب أكل الميتة للمضطر ما لم يكن عاصيا بسفره هذا وهذا قول مالك والشافعي وخالف أبو حنيفة وبعض المالكية فقالوا له أن يأكل، وربما استدلوا بقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة( فإن إتلاف النفس أعظم من أكل الميتة ولاحجة لهم فإنه مكلف باجتناب ما نهى الله، ويمكنه حفظ نفسه بأن يتوب ويأكل35.
في القصاص حياة
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ()وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( البقرة179،178
معنى الآية:
يقول تعالى : كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم وعبدكم بعبدكم وأنثاكم بأنثاكم ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدي من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم .
وسبب ذلك قريظة والنضير كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يفادي بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة فأمر الله بالعدل في القصاص ولا يتبع سبيل المفسدين36.
بيان الأحكام:
اشتملت هذه الآية على جملة أحكام، ولكن قبل ذكرها لا بد من بيان مسألة كانت سببا في خلاف وقع بين الفقهاء وهي أنهم اختلفوا في قوله تعالى: { كتب عليكم القصاص في القتلى } ; فقيل : هو كلام عام مستقل بنفسه ; وهو قول أبي حنيفة .(1/25)
وقال سائر الفقهاء منهم مالك والشافعي: لا يتم الكلام هاهنا ; وإنما ينقضي عند قوله تعالى : { الأنثى بالأنثى } وهو تفسير له , وتتميم لمعناه37.
الحكم الأول: قتل الحر بالعبد:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي وهو مذهب أبي حنيفة.
واحتجوا بما يلي:
1- قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } فيدخل في العموم العبد والذمي .
2- قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس }38 .
القول الثاني: لا يقتل الحر بالعبد هو قول الجمهور.
واستدلوا بما يلي:
1- أن مبنى القصاص على المساواة وهي منتفية بين المالك والمملوك ولهذا لا يقطع طرف الحر بطرف العبد بخلاف العبد بالعبد بإجماع.
2- انعقد الإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد.
الحكم الثاني: قتل المسلم بالكافر:
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يقتل المسلم بالذمي وهو قول أبي حنيفة.
واستدل بما يلي:
1- عموم قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى)
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي وقال : أنا أحق من وفّى بذمته39
أنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم40 فالذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد فإن الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام41.
القول الثاني: لا يقتل به، وهو مذهب الجمهور: و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وإسحاق وأحمد42.
واستدلوا بما يلي:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر"43 أي المسلم أنه مكافىء للمسلم بخلاف الذمي.(1/26)
2- عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟ قال لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة، قال قلت فما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر44.
المناقشة والترجيح:
استدلال الأحناف مناقش بما يلي:
1- أن القاعدة الأصولية تقول بأن العموم إذا خصص يعمل بالخاص فيما تناوله والعام في الباقي، والعام الذي استدلوا به قد خصص بالحديث الثابت في البخاري وغيره (لا يقتل مسلم بكافر) فوجب العمل بالخاص، ولكن مشكلة الأحناف أنهم يقولون بأن التخصيص نسخ والسنة لا تنسخ القرآن.
2- الحديث الذي استدل به الأحناف ضعيف فهو من رواية ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل كما في هذا الحديث45 ولهذا قال ابن المنذر : لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارض حديث (لا يقتل مسلم بكافر).
3- نقل عن الشافعي أنه قال : حديث ابن البيلماني على تقدير ثبوته منسوخ بقوله عليه السلام في زمن الفتح : " لا يقتل مسلم بكافر ".
4- أجمع العلماء -كما قال ابن عبد البر- على أنه لا يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس، فهذا تعارض بين قولهم بالقصاص في النفس دون الجراح، بل إذا لم يثبت القصاص في الجراح فالنفس أولى.
ومن خلال هذه الإيرادات والمناقشات لمذهب الأحناف تبين رجحان قول الجمهور لدلالة السنة الثابتة عليه.
الحكم الثالث: هل يقتل الجماعة بالواحد:
إذا اشترك جماعة في قتل واحد هل يقتلون جميعا؟ في المسألة أقوال:
القول الأول: أن الجماعة إذا قتلوا واحدا فعلى كل واحد منهم القصاص وهو قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد.
واستدلوا بما يلي:
1- الإجماع، فقد روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعا.(1/27)
2- عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار"46
3- لو لم يقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة47.
القول الثاني: لا تقتل الجماعة بالواحد بل تؤخذ منهم الدية، وهو قول الظاهرية ورواية عن أحمد.
القول الثالث: يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية روي هذا عن معاذ بن جبل وابن الزبير و ابن سيرين والزهري.
واستدل القولان بما يلي:
1- قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتلى) فشرطت الآية المساواة والمماثلة ولا مساواة بين الواحد والجماعة.
2- قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة.
الترجيح:
الذي يظهر رجحان قول الجمهور خاصة وأن القولين الآخرين يفضيان إلى مفاسد عظمى وهرج كبير.
الوصية للأقربين
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ{180} فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{181} فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{182}(
اشتملت هذه الآيات على جملة أحكام :
1- يجب على من حضره الموت بأن يكون مريضا مرض الموت أو كبر سنه أنه إن ترك خيرا وهو المال الوفير -واختلفوا في مقداره- أن يوصي لوالديه والأقربين من أهله بالمعروف.
2- يحرم على من سمع الوصية من الموصي أن يبدل الوصية أو يحرفها فيغير حكمها ويزيد فيها أو ينقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى(1/28)
3- إن خاف المسلمون من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه أو أوصى لبعيد وترك القريب فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح والإصلاح فرض على الكفاية فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين وإن لم يفعلوا أثم الكل48.
الحكم الأول: هل تجب الوصية؟
اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون:
القول الأول: الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك وهو قول مالك و الشافعي و الثوري موسرا كان الموصى أو فقيرا .
القول الثاني: الوصية واجبة قليلا كان المال أو كثيرا قاله الزهري.
الحكم الثاني: هل الآية محكمة أو منسوخة؟
اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ قولان:
القول الأول: محكمة :
1- قال بعضهم: يجمع للوارث بين الوصية والإرث بهذه الآية وبآية المواريث وهذا القول بعيد جدا مخالف للإجماع.
2- أن الوصية للوالدين والأقربين في هذه الآية على الندب لا على الفرض، فنسخت السنة جواز الوصية للوالدين وبقيت الوصية للأقربين على الندب، وهذا يحكى عن النخعي والشعبي، واستدلوا بقوله (بالمعروف( وبقوله (حقا على المتقين( والواجب لا يختص بالمتقين قال الموزعي: لكنه بعيد لقوله تعالى: (كتب عليكم(.
القول الثاني: منسوخة وعليه أكثر أهل العلم واختلفوا في الناسخ:
1- قال بعضهم: كانت الوصية واجبة في صدر الإسلام ثم نسختها آية المواريث.
2- الناسخ حديث: "لا وصية لوارث"49.
3- الناسخ الآية مع الحديث.
واختلفوا في المنسوخ من الآية:
1- ذهب طاووس وغيره إلى أنها منسوخة في حق الأقارب الذين يرثون وبقي وجوبها في الأقارب الذين لا يرثون كالأبوين الكافرين.(1/29)
2- نسخ منها الوصية للوالدين وبقيت للأقربين.
3- جميع ما في الآية منسوخ فالمواريث نسخت كل وصية.
فرضية الصوم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184}شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{185}(
بيان الأحكام:
اشتملت هذه الآية على جملة أحكام هي:
الحكم الأول: المرض والسفر المبيحان للإفطار:
القول الأول: مطلق المرض حتى ولو كان وجع ضرس يبيح الإفطار، ومطلق السفر حتى لو كان قصيرا وهو قول الظاهرية، وعزاه ابن قدامة لبعض السلف50.
واستدلوا بعموم الآية (فمن كان منكم مريضا).
القول الثاني: المراد بالمرض المبيح للفطر هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة العلة أو تأخر البرء، والسفر لا بد أن يكون طويلا، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
واستدلوا لقولهم بقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فدلت الآية على أن الغرض الترخيص فيما هو عسر وشاق ولا مشقة في نحو أصبع.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح، كما أن قاعدة الاحتياط تستدعي ذلك لعظم منزلة الصوم في الإسلام.(1/30)
لكن الجمهور اختلفوا في مقدار السفر الطويل على أقوال:
القول الأول: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها وهو قول أبي حنيفة.
القول الثاني: مسيرة يومين وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
ولكل قول أدلته المذكورة في كتب الفقه.
الحكم الثاني: هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أو عزيمة؟
اختلف الفقهاء هنا على قولين:
القول الأول: يجب على المريض والمسافر الفطر ويقضيان وأنهما إذا صاما لم يجزئهما، وهذا مذهب الظاهرية.
واستدلوا بما يلي:
1- بالآية (فعدة من آيام آخر)
2- بقوله(: "ليس من البر أن تصوموا في السفر"51.
القول الثاني: أن الفطر رخصة وأنه يجوز الصوم مع المرض والسفر وهو قول الجمهور.
واستدلوا بما يلي:
1- أن في الآية تقديرا هو (فأفطر فعدة من أيام أخر) نظير قوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) أي فضرب فانفجرت.
2- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة.52
3- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله(: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه53.
الترجيح:
من الواضح رجحان قول الجمهور وضعف قول الظاهرية.
الحكم الثالث: هل الصيام أفضل أم الإفطار.
اختلف الجمهور القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل:
القول الأول: الصوم أفضل لمن قوي عليه، أما إذا شق عليه فالفطر أفضل وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك.
واستدلوا بقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم).
القول الثاني: يسن للمسافر الفطر ويكره له الصوم ولو لم يجد مشقة وهو قول أحمد والأوزاعي وإسحاق.
واستدل بما يلي:
1- عملا بالرخصة فإن الله يحب أن تؤتى رخصه.(1/31)
2- قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر الصوم في السفر ".
القول الثالث: أفضلهما أيسرهما على المرء، فمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهذا قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر.
استدلوا بقول الله تعالى (يريد الله بكم اليسر(
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح لقوة أدلتهم.
الحكم الرابع: هل يجب قضاء الصوم متتابعا؟
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يجب القضاء متتابعا وهو قول علي وابن عمر والشعبي.
وحجتهم أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعا فكذلك القضاء
القول الثاني: يجوز متتابعا ومتفرقا وهو قول الجمهور.
واحتجوا بقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) فالآية لم تشترط إلا صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات فأي يوم صامه قضاء أجزأه54.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح لقوة دليلهم.
الحكم الخامس: (وعلى الذين يطيقونه):
اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه) على قولين:
القول الأول: أن المعنى: الذين يستطيعون الصوم ويفطرون بدون عذر عليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا قدر ما يأكله من يومه فدية عن الفطر وكان هذا أول ما فرض الصوم إذ كان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية فلما نزل قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } نسخ هذا الحكم وأصبح الصوم هو المحتم على المستطيع، وهذا قول الجمهور.
واستدلوا بحديث سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها55.(1/32)
القول الثاني: أن المراد بـ { الذين يطيقونه } العجوز الكبير الذي لا يستطيع الصوم والمريض مرضا مزمنا لا يبرأ منه ولا يستطيع معه الصوم فإنهما تجب عليهما الفدية ولا يكلفان بالصوم وعليه فمعنى { يطيقونه } يتكلفونه بمشقة وجهد أصلها ( يتطوقونه ) من الطوق إما بمعنى الطاقة وهي غاية الوسع وإما بمعنى القلادة وهي ما يوضع في العنق وكل منهما فيه معنى المشقة والعسر والإسلام جاء برفعهما فأباح لهؤلاء الفطر مع وجوب الفدية، وهذا مروي عن ابن عباس.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الأقرب لما ثبت عن سلمة أنها منسوخة وإن احتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه كما قال القرطبي56.
وجوب صوم رمضان
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{185}(
في هذه الآية جملة أحكام هي:
الحكم الأول: بم يثبت الشهر؟
المراد بشهود الشهر رؤية الهلال وهذا هو المعهود حين نزول الخطاب كما أنه المنصوص في السنة: "صوموا لؤيته وأفطروا لرؤيته".
وهنا ترد مسألة العمل بالحساب، وهي مسألة تعرض لها بعض الفقهاء وخاصة المتأخرين، ولهم فيها قولان:
القول الأول: العبرة بالرؤية فإن غم الهلال أكمل الشهر (ثلاثون) وهذا قول الجمهور
واستدلوا بالحديث المتفق عليه: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمى عليكم فأكملوا العدد" أي ثلاثين كما في رواية أخرى في الصحيح، ففي الحديث تعليق للصوم برؤية الهلال.
القول الثاني: يجوز العمل بالحساب الفلكي.
وكانت حججهم كما يلي:(1/33)
3- الرؤية ظنية والشهود ليسوا معصومين من الخطأ والحساب الفلكي الحديث قطعي و نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1- 100000) في الثانية.
4- الحساب الفلكي يخرج الأمة من مشكلة إثبات الهلال والفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ الفرق كما حصل في بعض الأعوام ثلاثة أيام.
5- هدف الحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال
6- الرؤية ليست عبادة في ذاتها ولكنها الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك وذلك بسبب أمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعرب بالحساب الفلكي57.
جماع الصائم والمعتكف
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ{187}(
مفردات الآية:
( أحل ) أبيح ورخص به .
( الرفث إلى نسائكم ) الإفضاء إليهن بالجماع .
( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) كناية عن كون كل من الزوجين سكنا للآخر وسترا له وأنه شديد الاحتياج إليه يماسه ويباشره كما يباشر اللباس .
( تختانون أنفسكم ) تجامعون النساء وتأكلون وتشربون في الوقت الذي كان يحرم عليكم ذلك .
( فالآن باشروهن ) بعد الحل لكم أن تجامعوهن .
( ابتغوا ) اطلبوا بمباشرتهن وجماعهن .(1/34)
( ما كتب الله لكم ) ما أحله الله ورخص لكم به من التمتع بهن أو ما قدره الله تعالى من الولد.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنه في أول شريعة محمد( كان الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات نهارا ولا يقرب شيئا منها بعد النوم ولا بعد صلاة العشاء الأخيرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صلاة العشاء فقد ارتكب محرما ونسخ هذا الحكم بهذه الآية58.
وزعم أبو مسلم الأصفهاني أن هذه الحرمة لم تكن في شرعنا بل في شرع النصارى وأن الله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان في شرع النصارى.
ورد الجمهور بما في الآية من دلالة على أن الحكم كان في الإسلام بما فيها من الخطاب للمسلمين والعفو عنهم.
بيان الأحكام :
الحكم الأول: مباشرة الزوجة في ليل رمضان:
قوله سبحانه (باشروهن) أمر فهل يفيد الوجوب؟
هو على الخلاف في حكم الأمر بعد الحضر هل هو للندب أو للوجوب أو يعيد الأمر إلى حكمه قبل الحضر.
كما دل قوله (باشروهن...( على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، فإباحة الجماع إلى آخر الليل يعنى طلوع الفجر وهو جنب وقد أمره الله بإتمام صومه (ثم أتموا الصيام إلى الليل( وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي( كان يصبح جنبا وهو صائم ثم يغتسل.
الحكم الثاني:هل يجب قضاء صوم النفل إذا أفسده؟
في هذه المسألة أقوال:
القول الأول: يجب قضاء ما شرع فيه من صوم التطوع، وهو مذهب الحنفية.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام من الليل) قالوا: هذه الآية عامة لكل صوم فكل صوم شرع فيه لزمه إتمامه.
2- قوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) فمن أبطل نافلة وجب عليه إعادتها.
القول الثاني: إن أبطله فعليه القضاء وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه، وبه قال المالكية.
القول الثالث: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
واستدلوا بجملة أدلة أقواها حديث أم هانيء أن رسول الله( قال: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام و إن شاء أفطر" وهو حديث صحيح59.(1/35)
الترجيح:
من الواضح رجحان قول الشافعي وأحمد لقوة دليلهم، "والذي يظهر أن الآية ليست بصدد بيان وجوب إتمام ما شرع فيه فرضا أو نفلا بل بصدد تحديد الزمن الذي يحل فيه تناول المفطرات والذي لا يحل، ولا تعرض فيها لنفل شرع فيه ثم أفسده، ولا لفرض شرع فيه ثم فسد بل ذلك حكم آخر يستفاد من دليل مستقل"60 فظهر بهذا بعد مأخذ الحنفية ومن وافقهم من هذه الآية، ومع هذا نقول: وعلى فرض التسليم بعموم الآيات فحديث أم هانئ خاص.
الحكم الثالث: الاعتكاف:
الاعتكاف هو في اللغة المقام والاحتباس، وفي الشرع لبث صائم في مسجد جماعة بنية.
ويشترط في الاعتكاف أن يكون في المسجد لقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) وظاهر الآية عدم التفرقة بين المساجد.
وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف على أقوال:
القول الأول: لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وهو مروي عن حذيفة.
وحجة هذا القول حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
القول الثاني: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، وبه قال الحنابلة.
وعللوا قولهم بأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف61.
القول الثالث: يصح الاعتكاف في كل مسجد، وهو قول مالك والشافعي.
واحتجوا بعموم قوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد).
القول الرابع: لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك.
وعلل بانقطاع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة.
المناقشة والترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح وما قاله الآخرون مناقش بما يلي:
1- أن الآية لم تعين مسجدا مخصوصا فبقي اللفظ على عمومه.
2- التخصيص بمسجد جماعة يحتاج إلى دليل.
3- غاية ما يدل عليه حديث شد الرحال تفضيل هذه الثلاثة على ما عداها أو عدم شد الرحال إليها.(1/36)
وقد اختلف الفقهاء في معتكف النساء على قولين:
القول الأول: للمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي.
واحتجوا بما يلي:
1- قوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد }
2- أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد فإذن لهن ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه.
3- أن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة.
القول الثاني:: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وبه قال أبو حنيفة و الثوري.
واستدلوا بما يلي:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه وقال : البر تردن ؟62
2- أن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكن موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل.
المناقشة والترجيح:
القول الأول هو الراجح لقوة أدلتهم، ولأن القول الثاني مناقش بما يلي:
1- حديث عائشة حجة للقول الأول، وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت ابنيتهن لما رأى ( من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال : "البر تردن" منكرا لذلك أي لم تفعلن ذلك تبررا ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنه تتنافس في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد .
2- قياسهم الاعتكاف على الصلاة لا يصح، فإن صلاة النفل للرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه.
الحكم الرابع: المباشرة:
اتفق الفقهاء على أن المراد بالمباشرة الجماع، واتفقوا على أن المعتكف ممنوع من الجماع ما دام معتكفا.
واختلفوا في الدواعي لها حكم الجماع بالنسبة للمعتكف فتكون حراما عليه وتفسد الاعتكاف أو ليس لها هذا الحكم:(1/37)
القول الأول: إن كانت المباشرة لغيره شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفيه أو تناوله شيئا وإن كانت على شهوة فهي محرمة، ولأنه لا يأمن افضاءها إلى إفساد الاعتكاف وما أفضى إلى الحرام كان حراما فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
واحتجوا بما يلي:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله، فهذا دليل على المباشرة بغير شهوة.
2- قول الله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } والمباشرة حقيقة في وضع البشرة علىالبشرة فيعم كل ما يتحقق فيه هذا المعنى ولا يخرج عنه شيء إلا بدليل.
3- قول عائشة : "السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها" رواه أبو داود63.
القول الثاني: يفسد في الحالين ويحكى عن مالك .
واحتج بأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل.
القول الثالث: يفسد الاعتكاف القبلة على الفم ولو لم يقصد المقبل لذة ولم يجدها ولو لم ينزل أما اللمس والمباشرة فإنهما يفسدان بشرط قصد اللذة أو وجدانها وإلا فلا، ولكن يحرم على المعتكف أن يفعل تلك الدواعي بشهوة، وهو قول المالكية.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح لقوة أدلتهم.
حرمة أكل أموال الناس بالباطل
(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( البقرة188
معنى الآية:
لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل فجعل تعالى ذكره بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل كقوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] .
وأكله بالباطل : أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.
وأما قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام } فتحتمل وجهان:(1/38)
1- وتخاصموا بها - يعني : بأموالكم - إلى الحكام، ارتكانا على الحجة الداحضة وذرابة اللسان وشهود الزور.
2- رشوة الحكام لبقضوا بأكل أموال الناس بالإثم.
{ لتأكلوا فريقا } - أي طائفة - من أموال الناس .
{ بالإثم } بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم .
{ وأنتم تعلمون } أي : وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصب لله وإثم.
بيان الأحكام:
اتفق الأئمة على أن من ادعى حقا ليس له في يد رجل وأقام بينة فقضي له بها، لا يجوز له أخذها، وحكم الحاكم لا يبيح المحظور، وقد أخرج البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ": إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار".
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما وإن كان الشهود زورا، ولمعرفة أدلته تراجع كتب الفروع.
كما دلت الآية على حرمة أكل أموال الناس بسبل باطلة مطلقا كالقمار والاختلاس، والربا وغيرها، و في صحيح مسلم حين ذكر النبي( : "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك".
مشروعية القتال(1/39)
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ{190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ{191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ{193}(
لم تختلف الأمة في أن القتال لم يكن مشروعا قبل الهجرة بل كان محظورا بقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }فصلت34 ونحوها من الآيات.
وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في الإذن بالقتال فروي عن الربيع بن أنس وغيره أنها هذه الآية، وروي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر أنها قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39، 64ورجحه ابن العربي65.
ونزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله( لما انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صده المشركون عن البيت صالحهم على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فلما كان العام القابل تجهز رسول الله( وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلوهم وكره أصحاب رسول الله( قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } أي : في دين الله وطاعته { الذين يقاتلونكم } يعني : قريشا { ولا تعتدوا } ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال66.
بيان الأحكام:(1/40)
الحكم الأول: جواز القتال في الحرم:
في هذه المسألة أقوال:
القول الأول: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ويروى عن قتادة.
واحتج بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة
القول الثاني: أن الآية محكمة، وعليه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له.
وحجة الجمهور هذه الآية والأصل عدم النسخ.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح وقول قتادة يجاب عنه بما يلي:
1- يمكن الجمع بين الآيتين ببناء العام على الخاص فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح أنه قال (: " إنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار".
2- أما حادثة ابن خطل فيجاب بأنها وقعت في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم67.
الحكم الثاني: النهي عن الاعتداء:
في المراد بالاعتداء في قوله تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } أقوال:
1- الجمهور على أنه الاعتداء أثناء القتال ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله (كان يقول : " اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا اصحاب الصوامع " .
2- النهي عن البدء بالقتال، قاله مقاتل.
3- النهي عن قتال من لم يقاتل، قاله سعيد بن جبير.
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ{194}(
معنى الآية:
اختلف في المراد بقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام) على قولين:(1/41)
1- إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم.
2- أنه ذو القعدة وهو الشهر الذي كان رسول الله (اعتمر فيه عمرة الحديبية فصده مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة سنة ست من هجرته وصالح رسول الله صلى ( المشركين في تلك السنة على أن يعود من العام المقبل فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه { الشهر الحرام } - يعني ذا القعدة الذي أوصلكم الله فيه إلى حرمه وبيته على كراهة مشركي قريش ذلك حتى قضيتم منه وطركم - { بالشهر الحرام } الذي صدكم مشركو قريش العام الماضي.
والآية تحتمل الوجهين ويمكن أن تحمل عليهما جميعا بيد أن القول الأول قريب إلى سياق الآية، والقول الثاني يؤيده ما روي أنه سبب نزول الآية.
وقوله : (والحرمات قصاص) يكون المعنى على القول الأول: إن أقدموا على مقاتلتكم ولم يراعوا حرمة الأشهر الحرم فقاتلوهم.
ويكون المعنى على القول الثاني: أن الحرمات هي: الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام والمعنى أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد عوضكم الله عنها في سنة سبع.
بيان الأحكام:
أخذ الفقهاء من قوله تعالى: (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( ما يلي:
1- جعل العلماء هذه الآية أصلا في المماثلة في القصاص فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به وهو قول الجمهور ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف68.
2- من استهلك لغيره مالا كان عليه مثله وذلك المثل ينقسم إلى وجهين أحدهما مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود والآخر مثله في قيمته.69
الإنفاق
(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{195}((1/42)
في هذه الآية دليل على وجوب الإنفاق وجوبا كفائيا على كل مناحي الخير والمنفعة، ويدخل فيها الجهاد دخولا أوليا لأن الإنفاق هنا وارد فيه.
وفي المراد بقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أقوال:
1- المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل : ليس عندي ما أنفقه قاله جمهور المفسرين.
2- لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم .
3- ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة .
4- لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا
قال الطبري : قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه إذ اللفظ يحتمله 70.
الإحصار
(وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (البقرة196
اختلف السلف في تأويل هذه الآية :
1- روي عن علي وعمر أنهم قالوا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك .
2- وقال مجاهد إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما .
3- وقال سعيد بن جبير وعطاء هو إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى لأنهما واجبان كأنهما تأولا ذلك على الأمر بفعلهما.
بيان الأحكام:
اشتملت الآية على جملة أحكام هي:
الحكم الأول: حكم العمرة:(1/43)
اختلف الفقهاء في العمرة هل هي واجبة أو سنة على قولين:
القول الأول: العمرة واجبة في العمر مرة، وهو قول الشافعي وأحمد.
واستدلوا بما يلي:
1- قول الله تعالى { وأتموا الحج والعمرة } ومقتضى الأمر الوجوب، والمعنى ائتوا بهما تامين مستجمعين للشرائط والأركان، أو يقال:" اللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما فالواجب حمله على الأمرين"71.
2- عطف العمرة على الحج في الآية، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه.
3- عن أبي رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : حج عن أبيك واعتمر72.
القول الثاني: سنية العمرة وبه قال أبو حنيفة ومالك.
واستدلوا بما يلي:
1- روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : "لا وإن تعتمروا فهو أفضل" أخرجه الترمذي ونقل عن الشافعي تضعيفه73.
2- عن طلحة أنه سمع رسول الله (يقول : "الحج جهاد والعمرة تطوع" رواه ابن ماجه74.
3- لم يرد ذكر للعمرة في الأحاديث التي بينت قواعد الإسلام.
4- أنه نسك غير موقت فلم يكن واجبا كالطواف المجرد.
المناقشة والترجيح:
هذه المسالة صعبة الترجيح لكون أدلة القولين لها وجاهتها، فالأحناف ومن وافقم كالشوكاني يجيبون عن أدلة الموجبين بأن ذلك بعد الشروع فيها وهي حينئذ واجبة، قال الشوكاني: وهذا وإن كن فيه بعد لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة وعلى هذا يحمل ما فيه دلالة على وجوبها، وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال وأنهما كفارة لما بينهما وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك75.
وأما الآية فأجابوا عنها بأن لا دلالة فيها على الوجوب، وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامها وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان76.(1/44)
كما يتوقف الأمر على صحة حديث جابر والذي اختلف في تصحيحه وتضعيفه.
والذي يترجح حاليا وجوب العمرة في العمر مرة كالحج لما يلي:
1- للأمر بإتمامها .
2- لصحة حديث أبي رزين.
3- احتياطا لهذه العبادة.
والقول الثاني مناقش بما يلي:
1- الأحاديث التي استدل بها القول الثاني ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكون العمرة لم ترد في السنة لا يستلزم عدم وجوبها.
2- ليست العمرة من قواعد الإسلام حتى يقال بأنه لم ترد في أحاديث قواعد الإسلام.
3- قياسها على الطواف المجرد غير سديد لأنه قياس في مقابل دلالة الآية.
الحكم الثاني: هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟
الإحصار لغة: المنع من المضي لأمر والحبس، وشرعا منع المضي في أفعال الحج، وهنا اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام:
القول الاول: لا يكون الإحصار إلا بالعدو، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وعللوا قولهم بان الآية نزلت في إحصار النبي( عام الحديبية عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة.
القول الثاني: يكون الإحصار بكل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدو أو مرض أو خوف أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة أو موت محرم الزوجة في الطريق وغير ذلك من الاعذار المانعة، وهذا قول أبي حنيفة.
وحجته ظاهر الآية (فإن أحصرتم) لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار وهو عام فتناول الكل.
الترجيح:
ما ذهب إليه أبو حنيفة هو الذي يظهر رجحانه لما يلي:
1- ورود الإحصار مطلقا عن أي قيد.
2- قال ابن جرير: لو كان معنى الآية العدو لوجب أن يكون حصرتم77.
3- أن هذا هو الموافق ليسر وسماحة الإسلام.
أما الاحتجاج بسبب النزول فمن المعلوم أصوليا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الحكم الثالث: ماذا يجب على المحصر واين موضع ذبح الهدي؟(1/45)
في قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) دليل على وجوب الهدي على المحصر وأقله شاة لقوله تعالى: (فما استيسر من الهدي) والأفضل بقرة أو بدنة.
وأما المكان الذي يذبح فيه هدي الإحصار فأقوال:
القول الأول: موضع الحصر سواء كان حلا أو حرما، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.
وقالوا محله موضعه، ولأن رسول الله نحر بالحديبية حين أحصر.
القول الثاني: لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) وهو قول أبي حنيفة.
القول الثالث: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه وإلا ينحره في محل إحصاره، وهو قول ابن عباس.
الترجيح:
قول الجمهور هو الراجح لدلالة السنة عليه.
الحكم الثالث: المتمتع الذي لم يجد الهدي:
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد وإلا فالصيام وقد نص الله تعالى بقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية .
وقال ابن عمر : "تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" متفق عليه
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام :
القول الأول: المراد في أشهر الحج هو ما بين إحرام العمرة وإحرام الحج فإذا انتهى من عمرته حل له الصيام وإن لم يحرم بعد الحج والأفضل أن يصوم يوم التروية ويوم عرفة ويوما قبلهما يعني السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة وبه قال الشافعي.(1/46)
القول الثاني: لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى (في الحج) وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر والأصح أنها لا تجوز يوم النحر ولا أيام التشريق والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة، وبه قال أبو حنيفة.
وسبب الخلاف بين القولين هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى: (ثلاثة أيام في الحج) فالحنفية قالوا في أشهر الحج والشافعية قالوا في إحرام الحج.
وأما السبعة الأيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها:
القول الأول: الرجوع إلى الأهل والوطن وهذا مذهب الشافعية.
واستدلوا بقوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم)
القول الثاني: يجزي الصوم في الطريق ولا يشترط الوصول إلى أهله ووطنه، قاله أحمد.
القول الثالث: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
الترجيح:
القول الأول أرجح لما يلي:
1- ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال( "فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" فبين( أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل .
2- ثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ "وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم"78.
الحكم الرابع: من هم حاضروا المسجد الحرام؟
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: الإشارة بقوله : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}
في الإشارة بقوله : { ذلك} قولان:
1- هي راجعة إلى التمتع، والتقدير: ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام وهذا قول أبي حنيفة.
2- أنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور وأقرب مذكور وجوب الهدي أو الصيام..
المسألة الثانية: المراد ب (حاضري المسجد الحرام):
1- أهل مكة بعينها، قاله مالك، واختاره الطحاوي.(1/47)
2- أهل الحرم قاله ابن عباس ، قال الحافظ: وهو الظاهر.
3- من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة، واختاره ابن جرير.
أشهر الحج ومحرمات الحج
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(البقرة197
بيان الأحكام:
الحكم الأول: المراد بأشهر الحج:
اختلف العلماء في المراد من قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) ما هي هذه الأشهر:
القول الأول: هي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
القول الثاني: هي شوال وذو القعدة و ذو الحجة كله وبه قال مالك.
قال الشوكاني: "ويظهر فائدة الخلاف في ما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت لم يلزمه دم التأخير ومن قال : ليس إلا العشر منه قال : يلزم دم التأخير"79.
الحكم الثاني: الإحرام بالحج قبل أشهر الحج:
في صحة هذا الإحرام أقوال:
القول الأول: لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج فمن أحرم بالحج قبلها أحل بعمرة ولا يجزيه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنها لا تجزيه وهذا قول الشافعي.
القول الثاني: وقال أحمد وأبو حنيفة : إنه مكروه فقط وروي نحوه عن مالك
.القول الثالث: والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة وهو قول أبي حنيفة ومشهور قول مالك
واحتج لهم بقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ولم يخص الثلاثة الأشهر، وقياسا على العمرة فكما تصح في جميع السنة فكذلك الحج.
الترجيح:
القول الأول هو الراجح، والقول بالجواز يجاب عن أدلته بما يلي:
1- يجاب عن الآية بأنها عامة وهذه خاصة والخاص يقدم على العام.(1/48)
2- أما القياس على العمرة فلا يخفى أنه قياس مصادم للنص القرآني فهو باطل80.
الحكم الثالث: حرمة الرفث في الحج
حرم الله سبحانه الرفث في الحج وهو الجماع كما فسره الجمهور، وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه المضي فيه لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله( والحج من قابل والهدي، وإنما اختلفوا في الوقت الذي يفسده فقال قوم يفسد الحج مطلقا، وقال آخرون لا يفسده إلا إذا وقع فبل التحلل الأصغر.
الحكم الرابع: ولا فسوق:
قوله تعالى : { ولا فسوق } يعني جميع المعاصي كلها قاله ابن عباس و عطاء و الحسن وكذلك قال ابن عمر وجماعة : الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر وشبه ذلك.
الحكم الخامس: ولا جدال:
نصت هذه الآية على حرمة الجدال، وفي المراد منه خلاف بين المفسرين الصحيح منه أن المعنى لا يمارين أحد أحدا فيخرجه المراء إلى الغضب وفعل مالا يليق بالحج، و إلى هذا المعنى ذهب ابن عمر و ابن عباس.
والنهي عن الفسوق والجدال لا يختص بحال وإنما خصه الله سبحانه بمن فرض الحج تعظيما وتفخيما لشأن الحج81.
الحكم السادس: التزود للحج:
ينبغي للحاج أن يتزود لأمر الله سبحانه بذلك فإن ترك الزاد واعتمد على المسألة فإن كان غنيا حرم عليه وإن كان فقيرا ولا كسب له كره ولم يحرم عليه فعله82، قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى وتزودوا فان خير الزاد التقوى.
سبل الإنفاق
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( البقرة215
أكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة، وإليه ذهب كثير من أهل العلم.(1/49)
وقال بعضهم المراد ما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى وهي النوافل فأخبر سبحانه أن من قصد ذلك ينبغي أن يبر بذلك المذكورين وعليه فلا نسخ في الآية قال ابن الجوزي: "وهذا الظاهر من الآية لأن ظاهرها يقتضي الندب"83.
القتال في الأشهر الحرم
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{216} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{217} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{218}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول: هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟
اختلف العلماء في حرمة القتال في الأشهر الحرم على قولين:
القول الأول: الحرمة وبه قال عطاء، مستدلا بهذه الآية.
القول الثاني: الجواز، وأن هذه الآية منسوخة وهو قول الجمهور.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وأن هذه الآية نسخت آية يسألونك.
2- قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)
3- أن النبي( غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم.
الترجيح:(1/50)
قول الجمهور هو الراجح لدلالة القرآن والسنة عليه، إلا قولهم بالنسخ، قال ابن العربي: "والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي( القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: (وصد عن سبيل الله وكفر به) فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعين قتالكم فيه84، وعليه فلا ناسخ ولا منسوخ.
الحكم الثاني: عمل المرتد:
اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة أم بالوفاة على الكفر؟ قولان:
القول الأول: يحبط العمل بمجرد الردة وهذا قول أبو حنيفة ومالك
واحتجوا بالآتي:
1- بقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك(
2- قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله(.
فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر.
القول الثاني: لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر، وبه قال الشافعي.
واحتج بقوله تعالى: (فيمت وهو كافر) فقيد الحبوط بالموت على الردة.
ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما ثم ارتد ثم أسلم فقال مالك عليه الحج، لأن ردته أحبطت حجه، وقال الشافعي لا حج عليه، لأن الردة لا تبطل العمل إلا إذا اتصلت بالموت.
الترجيح:
الراجح هو القول الثاني حملا للمطلق على المقيد.
تحريم الخمر والميسر
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ{219} فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ(
معاني المفردات:
الميسر:القمار ما حكمهما.
(إثم كبير) عظيم، لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش
(ومنافع للناس) بالربح في تجارة الخمر وإصابة المال بلا كد في الميسر .
(العفوَ) أي الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه وتضيعوا أنفسكم
بيان الأحكام:
الحكم الأول: تحريم الخمر:
نزلت في الخمر أربع آيات:(1/51)
1- (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا( [ النحل : 67 ]
2- ثم نزلت (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس( .
3- ثم نزلت (يا أيهاالذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى حتى تعلموا ما تقولون(
4- ثم نزل قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام( إلى قوله : (فهل أنتم منتهون(
ففي هذه الآية ذم الله سبحانه الخمر، فأما التحريم فيعلم من آية أخرى وهي آية ( المائدة ) وعلى هذا أكثر المفسرين.
الحكم الثاني: ما هي الخمر؟
اختلف العلماء في تعريف الخمر على قولين:
القول الأول: أن الخمر هو الشراب المسكر من عصير العنب فقط وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا، وبه قال الكوفيون وأبو حنيفة.
واحتجوا بأن الأنبذة لا تسمى خمرا ولا يسمى خمرا إلا الشيء المشتد من عصير العنب.
القول الثاني: أن الخمر اسم لكل شراب مسكر سواء كان من عصير العنب أم الشعير، وهذا مذهب الإئمة الثلاثة.
واستدلوا بما يلي:
1- ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله(قال: ( كل مسكر خمر).
2- وقال أنس بن مالك: لقد حرمت الخمر وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر85.
الترجيح:
الراجح ما قاله الجمهور، فقد نصت السنة على أن كل مسكر يصدق عليه اسم الخمر سواء كانت هذه التسمية شرعية أو لغوية ففي كلتا الحالتين لا يجوز تعاطي النبيذ، إما لدخوله لغة في مسمى الخمر لكونه يخامر العقل، أو لإدخال الشرع له بجعله كل مسكر خمرا، ولهذا أصبح متأخرو الأحناف يفتون بقول الجمهور -وهو قول محمد من الحنفية- لضعف القول بالجواز، ومصادمته للنصوص، يقول الآلوسي: "وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخد مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام وقليله ككثيره، ويحد شاربه، ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة"86.
الحكم الثالث: الميسر:(1/52)
ذكر الله الميسر مع الخمر هنا كما ذكره معها في آية المائدة في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(المائدة90 فما قلناه في دلالة الآية على تحريم الخمر يقال أيضا في الميسر.87
هذا وقد اتفق الفقهاء على تحريم ضروب القمار وأنها من الميسر الحرام، لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل ومن جلب العداوة والبغضاء ومن تعويد المقامرين على الكسل وانتظار الربح على القمار دون كد وعمل.
وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان88.
وأما السبق في الخيل والدواب والرمي بالنصال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه.
الحكم الرابع: إنفاق العفو:
ذهب بعض المفسرين إلى أن آية (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) منسوخة بالزكاة وكأنهم ظنوا أن الآية تدل على وجوب إنفاق ما فضل عن الأهل، والصحيح أنه ليس فيها ما يدل على ذلك بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون فبين لهم أنه لا يلزمهم أن ينفقوا الجهد من الصدقة89، فالمعنى انفقوا ندبا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة.
التصرف في مال اليتيم
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{220}((1/53)
روى أبو داود و النسائي عن ابن عباس قال : "لما أنزل الله تعالى : (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن( [ الأنعام : 152 ] و (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما( [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله ( فأنزل الله تعالى : (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير( فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه" .
بيان الأحكام:
دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يبيع ماله وأن يشتري له، وأن يقسم له وأن يدفع مالا له لمن يعمل فيه قراضا ومضاربة وأن يعمل فيه الولي نفسه قراضا، وأن يخلط ماله بماله إذا كان ذلك صلاحا.
وإذا كانت الآية قد دلت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يظن أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس فقد دلت على جواز المناهدة التي يفعلها بعض الناس في الأسفار فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه وقد يختلف أكل الناس90.
نكاح الكتابيات
(وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(البقرة221
بيان الأحكام:
الحكم الأول: حكم نكاح الكتابيات:
دلت الآية على حرمة نكاح الوثنيات والمشركات.
أما الكتابيات فقولان:
القول الأول: عدم جواز نكاح الكتابيات، ويحكى عن ابن عمر.(1/54)
ودليله هذه الآية والتي فيها النهي عن نكاح المشركات، وكان يقول: "لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : ربها عيسى" وذهب إلى هذا القول الزيدية من الشيعة وجعلوا هذه الآية ناسخة لآية المائدة.
القول الثاني: جواز نكاح الكتابيات، وبه قال الجمهور.
واستدلوا بقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ( المائدة5.
المناقشة والترجيح:
رد الجمهور على قول ابن عباس بما يلي:
1- أن المشركات لا يتناول الكتابيات لقوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين( فقد عطف المشركين على أهل الكتاب والعطف يقتضي المغايرة.
2- ما قالوه من النسخ ليس بصحيح لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل.
وعليه فالراجح قول الجمهور ، ولكن في النفس شيء من قولهم بأن الكتابيات لا تدخل في عموم المشركات، والذي يظهر هو الدخول، وأن لفظة المشركات تعم كل مشركة، كما قال الجمهور في لفظ المشركين الآتي لاحقا إذ نصوا على عمومه للكتابيين فكان الأصل أن يقال ذلك هنا، وقولهم بأن القرآن قد غاير بين المشركين والكتابيين فيقال هذا ليس من باب عطف الشيء على غيره بل هو من عطف الخاص على العام، ومما يؤيد هذا كله أن القرآن قد نص على شرك اليهود والنصارى فقال: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( التوبة31(1/55)
وعليه فالآية تدل على حرمة نكاح المشركات جميعا، ثم خص منهن الكتابيات بآية المائدة فيقضي الخاص على العام، وبهذا يعلم أيضا ألا نسخ في الآية كما ذهب إليه البعض.
ومع القول بالجواز للآية غلا أن العلماء قالوا بكراهة نكاح الكتابية لما يلي:
1. "أن عمر قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب "طلقوهن فطلقوهن إلا حذيفة فقال له عمر: طلقها. قال: تشهد أنها حرام؟ قال هي حرة طلقها. قال تشهد أنها حرام؟ قال هي حرة قال: قد علمت أنها حرة ولكنها لي حلال. فلما كان بعد طلقها، فقيل له ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي".
2. ولأنه ربما مال إليها قلبه ففتنته.
3. وربما كان بينهما ولد فيميل إليها.
4. ولأن الكتابية تتغذى بالخمر والخنزير ويتغذى الولد في بطنها منه.
قال العلماء: وهذه الكراهة إذا كانت الكتابية ذمية أما إذا كانت حربية فالكراهة اشد وعللوا الكراهة هذه بخشية رق ولدها إذا سبيت حاملا ولأن في الإقامة بدار الحرب تكثير لسوادهم91 وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر92 ولهذا كله كانت كراهة نكاح الحربية شديدة بل قال ابن تيمية:"والذي يفهم من كلام أحمد هو تحريم الزواج بالحربيات"93.
الحكم الثاني: نكاح المجوسية:
اختلف العلماء في نكاح المجوسية على قولين:-
القول الأول: عدم جواز نكاحها وهو مذهب الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة.
واستدلوا بما يلي:-
1. قوله تعالى:(ولا تنكحوا المشركات)والمجوسية مشركة.
2. قوله تعالى:( ) وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)(الممتحنة: من الآية10)والمجوسية كافرة,فرخص من ذلك في أهل الكتاب فمن عداهم يبقى على العموم كما أنه لم يثبت أن للمجوس كتابا.
3. روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم :"سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم"94(1/56)
القول الثاني: جواز نكاح المجوسية وهذا مروي عن علي وهو مذهب أبي ثور وابن حزم قال في المحلى:"وجائز للمسلم نكاح الكتابية وهي: اليهودية والنصرانية والمجوسية بالزواج95"
وقد استدل لهذا القول بما يلي:-
أ - ما أخرجه مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال:ما أدري كيف أصنع في أمرهم،فقال عبدالرحمن بن عوف :أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"96.
2- لما روي أن حذيفة تزوج مجوسية.
3- لأنهم يقرون بالجزية فأشبهو اليهود والنصارى.
المناقشة والترجيح:-
عندما يتفحص الباحث القول الثاني يجده ضعيفا لما يلي:-
1- أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب"فيه دليل على أنه لا كتاب لهم وإنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقن دمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم لنسائهم وذبائحهم.
2- "المجوس ليسوا من أهل الكتاب. قال الله تبارك وتعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاه مُبَارَكٌ} إلى قوله: {أَنْ يَقُولُوا إنّما أُنْزِلَ الكتابُ على طَائِفَتينِ مِنْ قَبْلِنا} معناه والله أعلم أي أنزلت عليكم لئلا تقولوا إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا.
3- ولو كان المجوس من أهل الكتاب لكان أهل الكتاب ثلاث طوائف فيؤدي إلى الخلف في خبره عز وجل، وذلك محال"97
4- لم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية فقد ضعف أحمد هذه الرواية وقال ابن سيرين:كانت امرأة حذيفة نصرانبة.
5- لو ثبت ذلك عن حذيف فلا يصح الاحتجاج به لمعارضته للكتاب.
6- أما إقرارهم بالجزية فلأنا غلبنا حكم التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم في ذبائحهم ونسائهم98.
الحكم الثالث:حرمة نكاح المشركين:
دلت هذه الآية على حرمة نكاح المسلمة للمشرك سواء كان كتابيا أم غيره، ويتبين مما سبق أن كلمة (المشركين) تستغرق كل مشرك ويدخل في عمومها الكتابي بنص القرآن على شركه ووصفه بذلك.(1/57)
وسياق الآية يدل على هذا المعنى، فقوله تعالى (حتى يؤمنوا) غاية لصحة النكاح وهو الإيمان، ومعلوم أن الإيمان في الشرع يراد به الأعمال الباطنة وهي أركان الإيمان، والأعمال الظاهرة وهي أركان الإسلام، لأن الإيمان في القرآن إذا أطلق ولم يقترن بالإسلام يشمل المعنيين (أعمال الظاهر والباطن) فشرطت الآية إيمان المشرك فهل الكتابي مؤمن بهذا المعنى؟ اللهم لا.
كما وصف العبد بانه مؤمن أي توفرت فيه أركان الإيمان والإسلام، فهل الكتابي مؤمن بهذا المعنى؟ اللهم لا.
ولكون العبد مؤمنا فإنه يدعو زوجته إلى الجنة بخلاف المشرك الذي يدعو إلى النار (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) فهل الكتابي يدعو إلى الجنة؟ اللهم لا.
فأنت ترى أن الآية ظاهرة الدلالة في حرمة نكاح المسلمة للكتابي وعلى هذا أجمع المسلمون، ومما علل به هذا الحكم، أن للزوج سلطة ولاية على الزوجة فربما أجبرها على ترك دينها وحملها على أن تكفر بالإسلام وقد وقع من هذا وقائع، ومن مقاصد الإسلام حفظ الدين، وحرمة هذا النكاح تندرج ضمن مفردات حفظ هذا المقصد.
الحكم الثالث: لا نكاح إلا بولي:
استنبط جمهور أهل العلم من قوله تعالى: (ولا تُنكحوا المشركين( اشتراط الولي في زواج المرأة، لأن النهي توجه هنا إلى الأولياء ولو جاز للمرأة تزويج نفسها لقال: (ولا تنكحن) كما خاطب الرجال فدل هذا على شرطية الولي.
اعتزال النساء في المحيض
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {222}(
سبب النزول:(1/58)
ثبت في صحيح مسلم "عن أنس ( أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي( النبي( فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض(.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن؟!
فتغير وجه رسول الله( حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما"(99).
ومن هنا يظهر أن دين الله وسط بين غلوين فقد " كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض؛ فأمر الله بالقصد بين هذين"(100).
معاني الكلمات:
أ - الحيض:
يقال: حاضَت المرأَة تَحِيضُ حَيْضاً ومَحِيضاً، والمَحِيض يكون اسماً ويكون مصدراً ... يقال: حاضت المرأَة تَحِيضُ حَيْضاً ومَحَاضاً ومَحِيضاً،والحَيْضات جماعة، والحيضة الاسم، بالكسر، والجمع الحِيَضُ، وقيل: الحِيضةُ الدم نفسه(101) .
وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل(102).
قال ابن عرفة :المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت (103).
وقد عرفه الفقهاء بأنه: "دم جبلة يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة"(104).
قال الماوردي: أما المحيض في قول الله تعالى: (ويسألونك عن المحيض( فهو دم الحيض بإجماع العلماء. . وأما المحيض في قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض( فقيل: إنه دم الحيض وقيل زمانه وقيل مكانه وهو الفرج"(105).
ب - الأذى:(1/59)
قال المفسرون:"المقصود بالأذى في قوله تعالى (قل هو أذى( أنه شئ تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض، والأذى كناية عن القذر على الجملة"(106).
وقالوا: سمي الحيض أذى لقبح لونه، و نتن ريحه، وقذره ونجاسته وأضراره، وهو جامع لمعان شتى من معاني الأذى(107).
بيان الأحكام:
الحكم الأول: ما يجب اعتزاله من الحائض:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: جميع بدن المرأة، وهو مروي عن ابن عباس.
وحجته أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء فوجب اعتزال جميع بدن المراة لعموم الآية.
القول الثاني: ما بين السرة والركبة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي.
وحجتهم ما يلي:
1- عن عائشة قالت : "كان رسول الله( يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض" رواه البخاري.
2- عن عمر قال : سألت رسول الله ( عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال : فوق الإزار108.
القول الثالث: موضع الأذى وهو الفرج فقط، وهو مذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق109.
وحجته ما يلي:
1- قول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } والمحيض اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على اباحته فيما عداه.
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا كل شيء غير النكاح" رواه مسلم
الترجيح:
القول الثالث هو الذي يظهر رجحانه وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ورجحه الطحاوي وهو اختيار أصبغ من المالكية وأحد القولين أو الوجهين للشافعية واختاره بن المنذر وقال النووي هو الأرجح دليلا لحديث أنس في مسلم اصنعوا كل شيء إلا الجماع110 .
ويجاب عن أدلة القول الثاني بالآتي:
1- يحمل حديث عائشة وشبهه على الاستحباب جمعا بين الأدلة111.
2- ليس في حديث عائشة وشبهة ما يقتضي منع ما تحت الإزار لأنه فعل مجرد، قاله ابن دقيق العيد.(1/60)
3- حديث عائشة دليل على حل ما فوق الإزار لا على تحريم غيره وقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض المباح تقديرا كتركه أكل الضب والأرنب112.
أما قول ابن عباس فقال فيه القرطبي:" وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه"(113)
بقي أن أشير إلى أنه لا ينبغي للزوج أن يعتزل فراش زوجته الحائض، لأن ذلك تشبه باليهود، وقد نهينا عن التشبه بهم ، وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك، فبلغ ميمونة رضي الله عنها، فأنكرت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض"(114).
الحكم الثاني: حكم إتيان الحائض:
قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض((البقرة: 222) "تنصيص على حرمة الغشيان في أول الحيض وآخره"(115)قال العلماء:"يكفر مستحله، ويفسق مباشره"(116).
قال في الإقناع:"وطؤها في الفرج كبيرة من العامد العالم بالتحريم المختار، يكفر مستحله ... بخلاف الناسي والجاهل والمكره، لخبر: "إن الله تجاوزَ عن أمتي الخطأَ والنسيان وما استكرهوا عليه"(117)" (118).
والأمر بالاعتزال أقوى من النهي عن الفعل وهذا كقول الله تعالى في شأن الخمر:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة:90).
الحكم الثالث: متى يحل قربان المرأة؟
دل قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) على رحمة قربان الرجل زوجته في حالة الحيض حتة يطهرن ولكن الفقهاء اختلفوا في المراد بالطهر على أقوال:
القول الأول: المراد به انقطاع الدم، ف إن انقطع الدم بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل وإن كان إنقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة.(1/61)
القول الثاني: الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب ولا يجزيء من ذلك تيمم ولا غيره وبه قال مالك و الشافعي.
واحتجوا بقوله { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فشرط في إباحته شيئين أحدهما انقطاع الدم والآخر الاغتسال لأن قوله ( فإذا تطهرن ) لا يحتمل غير الاغتسال.
القول الثالث: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ، قاله مجاهد و عكرمة و طاوس.
القول الرابع: ذهب الأوزاعي إلى أنها إن انقطع دمها وغسلت فرجها بالماء جاز وطؤها ، وبه قال أبو محمد بن حزم.
واحتجوا بقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } وحتى غاية تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها فذلك عموم في إباحة وطئها بانقطاع الدم119.
سبب الخلاف:
قال ابن رشد مبينا سبب الخلاف: " وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى { فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله } هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء ؟ ثم إن كان الطهر بالماء فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج ؟ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين لا على ما يكون من فعل غيرهم فيكون قوله تعالى { فإذا تطهرن } أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه ورجح أو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى { حتى يطهرن } هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء"120.
الترجيح:
الأقرب ما قاله الجمهور :
1- لدلالة التطهر المقتضي للتفعل وهو كسب العبد على الاغتسال.
2- لأن الله تعالى قد علل ذلك بقوله (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وظاهر اللفظ يدل على أن الرماد به الطهارة الحسية وهي الاغتسال بالماء121.(1/62)
الحكم الرابع: هل يجب إتيان الحائض عقب التطهر؟
أخذ ابن حزم من الأمر في الآية (فإذا تطهرن فأتوهن..) وجوب إتيان الحائض عقب طهرها.
وذهب الجماهير من أهل العلم إلى عدم وجوب إتيان الحائض عقب التطهر، لأن الأمر هنا بعد الحظر وفيه خلاف بين العلماء الكثيرون على أنه يفيد الإباحة والصحيح أنه يعيد الحكم إلى ما قبل الحظر.
نساؤكم حرث لكم
(نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( البقرة223
(الحرث) ورد في اللغة على عدة معاني منها: الزرع(122)، وهو على حذف مضاف أي موضع حرثكم، أو الحرث بمعنى المحترث والمزدرع(123) .
وإنما كانت النساء محترثاً ومزدرعاً لأنهن مكان الولد،والمعنى :نساؤكم مزدرع لكم، تثمر لكم الأولاد، فأتوا هذا المزدرع (124).
بيان الأحكام:
لقد نص العلماء على حرمة إتيان الزوج زوجته من الدبر وكانت أدلتهم كما يلي:
1- قوله (أنى شئتم(أي: من أي وجه شئتم،وذلك أن (أنى) في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدىء بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب، فإذا قال قائل لرجل: أنى لك هذا المال؟ يريد من أي الوجوه لك،ولذلك يجيب المجيب فيه بأن يقول : من كذا وكذا، كما قال تعالى مخبراً عن زكريا في مسألته مريم ( قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ((آل عمران: من الآية37).
وهي مقاربة (أين) و(كيف) في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها فأشكلت (أنى) على سامعها ومتأولها حتى تأولها بعضهم بمعنى (أين)، وبعضهم بمعنى (كيف)، وآخرون بمعنى (متى)وهي مخالفة لجميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات، وذلك أن (أين) إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها.
ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال : أين مالك ؟(1/63)
لقال : بمكان كذا، ولو قال له: أين أخوك ؟ لكان الجواب أن يقول: ببلدة كذا أو بموضع كذا.
فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله، فيعلم أن (أين) مسألة عن المحل.
ولو قال قائل لآخر: كيف أنت ؟ لقال : صالح، أو بخير، أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها.
فيعلم حينئذ أن (كيف) مسألة عن حال المسؤول.
ولو قال له : أنى يحيي الله هذا الميت ؟ لكان الجواب أن يقال : من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولاً نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال:أنى يحيى هذه الله بعد موتها فعلاً،حين بعثه من بعد مماته (125).
2- عن ابن عباس(عن النبي ( قال:"لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأة في دبرها"(126).
3- عن ابن مسعود (عن النبي (قال:"محاش النساء حرام عليكم"(127).
4- عن أبي هريرة (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد"(128).
5- عن أبي هريرة (قال: قال رسول الله (: "مَلْعُونٌ مَنْ أتى امرأةً في دبْرِها" (129).
6- عن جابر ( قال:"قالت اليهود: إذا جامعَ الرجلُ امرأته من ورائِها جاءَ ولدُها أحولَ فأنزل الله تعالى: (نساؤكم حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى? شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأنفسكم وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُو?اْ أَنَّكُم مُّلَـ?قُوهُ وَبَشِّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ((130).
7- عن عمرو بن العاص (عن النبي (أنه قال:"هي اللوطية الصغرى"يعني اتيان النساء في أدبارهن(131).
8- عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله( قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن"(132).
والأعجاز"جمع عجز بفتح الجيم على المشهور مؤخر الشيء والمراد الدبر"(133).(1/64)
9- "من المعلوم أن المرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، بل محل الحراثة هو الموضع المعين منها، فلما حمل مواضع الحراثة على ذوات النساء احتجنا إلى تقدير مضاف آخر في المبتدأ،والتقدير: أبضاع نسائكم حرث لكم، ولا شك أن موضع حراثة الولد ليس أماكن متعددة بل هو موضع معين منها،فلم يكن حمل قوله (أنى شئتم) على التخيير في الأمكنة، فيكون محمولاً على التخيير في الكيفيات"(134) (135).
ونزيد على هذا ونقول: إن قضاء الشهوة من المقاصد الأساسية للإنسان من النكاح، بيد أن حفظ النسل من المقاصد الشرعية الضرورية الكلية، وقضاء الشهوة هو من الوجهة المقاصدية مسألة تحسينية أو حاجية أومكملة لمقصد حفظ النسل، وبهذا يتضح هنا الفرق بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف .
وهنا قاعدة مقاصدية مهمة تفيدنا في هذا الموضوع،وهي أنه إذا تعارض المقصدان قدم قصد الشارع،وهنا تعارض قصد الرجل في إتيان الدبر لقضاء شهوته المريضة مع قصد الشرع الذي طلب النسل-والإتيان من الدبر يعارض هذا المقصد-والحفاظ عليه، وجعل قضاء الشهوة الحلال وسيلة لذلك فيقدم قصد الشرع ،لأن الشارع هو الحاكم، ولأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات(136).
ونقطة مهمة أخرى وهي أن للمرأة حقاً في قضاء شهوتها، لا يجوز للرجل بحال من الأحوال إغفاله،وفي إتيان المرأة من دبرها قضاء على هذه الشهوة، وإفساد للعشرة الزوجية.
النهي عن كثرة الحلف وجعلها مانعة من الخير
(وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{224}(
معنى الآية:
في معنى الآية ثلاثة أقوال:
1- لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول ابن عباس .
2- لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم وتصلحوا بينهم بالكذب روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس(1/65)
3- لا تكثروا الحلف بالله و إن كنتم بارين مصلحين فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه هذا قول ابن زيد137، وعلى هذا يكون (أن تبروا علة للنهي) إي إرادة أن تبروا لأن الحلاف مجترئ على الله غير معظم له.
والأقرب إلى سياق الآية هو المعنى الأول والثالث.
بيان الأحكام:
دلت هذه الآية على حرمة جعل اليمين مانعة من فعل الخير، فإذا سئل أحدكم عن أمر فيه بر وخير وإصلاح قال: قد حلفت بالله ألا أفعله.
كما نهت الآية عن كثرة الحلف بحيث يبتذل اسمه سبحانه، وقد ذم الله المكثرين للحلف فقال : { ولا تطع كل حلاف مهين }.
لغو اليمين
(لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ{225}(
اختلف العلماء في المراد بلغو اليمين على أقوال كثيرة أشهرها ما يلي:
القول الأول: هو اليمين في حال الغضب والضجر من غير عقد ولا عزم، ويروى عن علي وابن عباس وطاووس .
واستدل لهم بحديث عائشة: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"138.
القول الثاني:. هو قول الرجل لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريد لها، وهذا قول الشافعي .
وحجته حديث عائشة أن رسول الله (قال: "اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله"139.
القول الثالث: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك.
وعلل هذا القول بما يلي:
1- أنها يمين غير منعقدة فلم تجب فيها كفارة كيمين الغموس .
2- أنه غير مقصود للمخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا140
القول الرابع: أن اللغو يشمل المعنيين السابقين، وهو مذهب الحنابلة141.
الترجيح:
القول الثالث هو القول الراجح وهو اختيار الطبري والله أعلم.(1/66)
أما حديث الإغلاق فقد فسره علماء الغريب بالإكراه وهو قول ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم، وقيل الجنون واستبعده المطرزي، وقيل الغضب وقع في سنن أبي داود في رواية بن الأعرابي وكذا فسره أحمد ورده بن السيد فقال لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب142.
الإيلاء
(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{227}(
معاني المفردات:
الإيلاء لغة الحلف، وشرعا:أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر.
التربص: النظر أو التوقف.
فاءوا : رجعوا.
وفي هذه الآية أبطل الله سبحانه ما كانوا عليه من الضرار، فقد كان الرجل يولي من امرأته السنة والسنتين وأكثر ولا تطلق عليه، فأبطل الله ذلك وأنظر المولي أربعة أشهر فإما أن يفيء أو يطلق.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: مدة الإيلاء:
اتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يمس زوجته أكثر من أربعة أشهر كان موليا، واختلفوا فيمن حلف ألا يمسها أربعة أشهر :
القول الأول: يثبت له حكم الإيلاء، فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .
وحجة أبي حنيفة أن الله تعالى حدد المدة للفيء بأربعة أشهر فإذا لم يرجع عن يمينه في هذه المدة فكأنه أراد طلاقها وعزم عليه، والعزيمة أمر قلبي، فالمراد من قوله تعالى (عزموا الطلاق) عقدوا عليه قلوبهم، ولم تشترط الآية أن يطلق بالفعل.
القول الثاني:لا تطلق بمضي المدة وإنما يؤمر الزوج بالفيئة _أي الرجوع عن يمينه- أو بالطلاق فإذا امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه، وبه قال الجمهور.
وحجة الجمهور ما يلي:
1- هذه الآية وظاهرها أن الفيئة بعد أربعة أشهر لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب .(1/67)
2- قال تعالى : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه
3- أنها مدة ضربت له تأجيلا فلم يستحق المطالبة فيها كسائر الآجال143.
الترجيح:
الراجح قول الجمهور لقربه من دلالة الآية.
الحكم الثاني: صفة يمين الإيلاء:
اختلف الفقهاء في اشتراط أن تكون اليمين للإضرار أولا على قولين:
القول الأول: لا يشترط في الإيلاء الغضب ولا قصد الإضرار روي ذلك عن ابن مسعود وبه قال الثوري و الشافعي وأحمد.
وعللوا قولهم بالآتي:
1- عموم الآية لحالة الغضب والإضرار وغيرهما.
2- أن الزوج منع نفسه من جماع زوجته بيمينه فكان موليا كحال الغضب .
3- حكم الإيلاء يثبت لحق الزوجة فيجب أن يثبت سواء قصد الإضرار أو لم يقصد كاستيفاء ديونها وإتلاف مالها.
القول الثاني: لا يكون إيلاء إلا إذا حلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار، وبه قال مالك.
وحجته ما روي عن علي أنه سئل عن رجل حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها ولم يرد الإضرار بها وإنما قصد مصلحة الولد فقال له: إنما أردت الخير وإنما الإيلاء في الغضب.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الرجح لقوة ما استدلوا به.
الحكم الثالث: اليمين في الإيلاء:
اختلف العلماء في ضرورة اليمين لكي يكون الزوج موليا على قولين:
القول الأول: لا يكون الزوج موليا إلا باليمين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي واحمد.
واحتجوا بقوله تعالى: (يؤلون) والتي تعني اليمين.
القول الثاني: إذا امتنع الرجل عن زوجته بقصد الإضرار من غير عذر ولم يحلف كان حكمه حكم المولي لأن الإيلاء لم يرد لعينه وإنما أريد لمعنى سوء العشرة والضرر وهذا حاصل إذا ضارهن دون يمين.
الترجيح:
الراجح قول الجمهور لتأيده بلفظ الآية، وإن كان قول مالك صحيحا من حيث المعنى إلا أنه يقال إن الإيلاء الوارد في الشرع والذي بين القرآن حكمه له صفة خاصة من أركانها اليمين.(1/68)
وما ذكره المالكية له باب آخر هو الضرر فيمكن للزوجة أن ترفع أمرها للقاضي مطالبة برفع الضرر.
الحكم الرابع: المراد بالفيء:
اختلف العلماء في المراد بالفيء هنا على أقوال:
القول الأول:الجماع ليس غير، فإذا لم يغشها وانقضت المدة بانت منه، وبه قال الشعبي.
القول الثاني: الجماع، إلا إذا كان معذورا كان يكون مريضا أو مسافرا فيكفي المراجعة بالساو القلب، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
القول الثالث: المراجعة باللسان على كل حال، فيكفي أن يقول: قد فئت، ويحكى عن النخعي.
الترجيح:
قول الجمهور هو الراجح.
الحكم الخامس: هل توجب الفيئة الكفارة؟
الفيئة توجب الكفارة عند أهل العلم ، والغفران يختص بالذنب لا بالكفارة بدليل حديث"إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك"144.
وقال الحسن والنخعي لا تجب الكفارة وهو القديم من قول الشافعي145.
عدة المطلقة
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ{228}(
بينت هذه الآية عدة المطلقة غير المدخول بها وغير الحامل، ليستدل بها على براءة الرحم.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: المراد بالقروء:
يطلق القرء لغة على العادة المستمرة، فيطلق على الحيض والطهر، ولكن الفقهاء اختلفوا في تعيين المراد منهما هنا على قولين:
القول الأول: المراد به الطهر وبه قال مالك والشافعي وراوية عن أحمد.
وحجتهم ما يلي:
1- إثبات التاء في العدد (ثلاثة) وهو يدل على أن المعدود مذكر وأن المراد به الطهر.(1/69)
2- قوله تعالى: { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض.
القول الثاني: المراد بالأقراء الحيض، وبه قال أبو حنيفة ورواية عن أحمد.
واحتجوا بما يلي:
1- قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الأصل الحيض.
2- أن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض [ قال النبي صلى الله عليه وسلم : تدع الصلاة أيام أقرائها ] رواه أبو داود [ وقال لفاطمة بنت أبي حببيش فإذا أتى قرؤك ... ] رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه.
3- أن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل على الحيض فوجب أن يكون الاستبراء به146.
فائدة الخلاف:
فائدة الخلاف أنه إذا طلقها في طهر خرجت من عدتها عند الأولين بمجيء الحيضة الثالثة، لأنه يحسب لها الطهر الذي طلقت فيه ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثانية عند الآخرين147.
الحكم الثاني: حرمة كتمان ما في الأرحام:
قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فيه ثلاثة أقوال:
1- الحمل قاله عمر و ابن عباس .
2- الحيض قاله عكرمة والنخعي .
3- الحمل والحيض قاله ابن عمر وابن زيد148.
قال ابن العربي:"والثالث هو الصحيح، لأن الله جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلا بخبرها، ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها"149.
وقد حرم الله كتمان المرأة ما في رحمها لتعلق ذلك بحق الرجعة واختلاط الأنساب.(1/70)
وقوله تعالى: (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر خرج مخرج الوعيد لهن والتوكيد) وهو كما تقول للرجل إن كنت مؤمنا فلا تظلم150.
الحكم الثالث: الرجعة:
قوله : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن151.
الحكم الرابع: المعاشرة بالمعروف:
في قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) تأسيس لقاعدة أسرية مهمة بين الزوجين، وهي قاعدة التعامل بالمعروف والعشرة الحسنة، وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال وتشبيهه بما للرجال على النساء بسبب عدم الاعتناء بها والتهاون في أداء حقوقها.
عدد التطليقات، ومشروعية الخلع
(الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(البقرة229
معنى الآية:
المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية الأولى : أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان : أي الطلقة الأولى والثانية إذ لا رجعة بعد الثالثة وإنما قال سبحانه : { مرتان } ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة هكذا قال جماعة من المفسرين .(1/71)
ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة أو الإمساك لها واستدامة نكاحها وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أي فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف : أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة { أو تسريح بإحسان } أي بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها وقيل المراد : { فإمساك بمعروف } أي برجعة بعد الطلقة الثانية { أو تسريح بإحسان } أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها والأول أظهر152.
بيان الاحكام:
الحكم الأول: حكم الطلاق:
الطلاق على خمسة أضرب:
1- واجب : وهو طلاق المولي بعد التربص إذا أبى الفيئه وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأيا ذلك .
2- مكروه : وهو الطلاق من غير حاجة إليه ولأحمد رواية أنه محرم لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراما كإتلاف المال ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] وهو قول وجيه.
3- مباح وهو عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها والتضرر بها من غير حصول الغرض بها .
4- مندوب إليه وهو عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها مثل الصلاة ونحوها ولا يمكنه إجبارها عليها أو تكون له امرأة غير عفيفة .
5- محظور : وهو الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه153.
الحكم الثاني: الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثا أو واحدة فقط.
القول الأول: يقع ثلاثا، وبه قال الأئمة الأربعة.
واستدلوا بما يلي:
1- أن للزوج على زوجته ثلاث تطليقات فإما أن يجمعها أو يفرقها والإسلام قد أرشده إلى ما هو الأفضل والأصلح، فإذا جاوز هذا إلى ما فيه تضييق عليه أخذ بجريرة نفسه.
2- الإجماع حيث قضى به عمر فأقره جميع الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم.(1/72)
القول الثاني: يقع واحدة، وبه قال بعض أهل الظاهر وابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
واستدلوا بما يلي:
1- ثبت في مسلم عن بن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ( وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو امضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
2- فرق الله الطلاق بقوله: (الطلاق مرتان) أي مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لايملك الكلف إيقاعه دفعة واحدة مثل اللعان لا بد من التفريق فيه ولو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة، كما أن الشارع طلب أن يسبح العبد ريه ويحمده ويكبره ثلاثا وثلاثين ولا يكفيه أن يقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين، فكذلك هنا.
الترجيح:
هذه المسألة تعد من عويصات المسائل وبسببها قاسى بعض العلماء السجن والتعزير، والذي يجعلها كذلك كون الجمهور الساحق من أئمة المسلمين على القول بنفوذ الثلاث بلفظ واحد، بل ادعوا عليه الإجماع كما سبق.
ولكن بعد النظر يتبين رجحان القول الثاني لما يأتي:
1- لاستناده إلى الحديث الثابت في مسلم .
2- لأن في هذا القول حفظا لكيان الأسرة والتي هي نواة المجتمع من التشرد والضياع.
3- العلة التي من أجلها أمضى عمر الثلاث على أصحابها غير موجودة إذ كان الغرض الردع والزجر عن هذا الطلاق الذي عده بعض الأئمة بدعيا وعلى هذا القصد انعقد إجماع الصحابة إذا لسم بانعقاده والآن لم يعد لهذا الغرض أثر ولا للعلة وجود، بل أدى إلى نتائج عكسية إذ حلت رابطة زيجات كثيرة وشردت أسر وكثر التحليل، وعليه يعود الحكم إلي سابق عهده من كون الثلاث قبل الرجعة واحدة.
الحكم الثالث: الخلع:
دل قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } على حرمة مضايقة الزوجات ليفتدين أنفسهن بما أعطاهن الأزواج من المهر أو ببعضه.(1/73)
وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ولهذا قال تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } والمراد بعدم إقامة حدود الله ما شرعه الله من حقوق وواجبات بين الزوجين.
وقد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية .
واحتجوا بقوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة فلا يجوز في غيرها إلا بدليل والأصل عدمه ممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي : لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعيا قال مالك : وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه .
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى وهذا قول جميع أصحابه قاطبة .
وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبد الله المزني أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } ورواه ابن جرير عنه .
قال ابن كثير: وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله154.
الحكم الرابع: أخذ الزوج زيادة على ما أعطى الزوجة:
اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها على قولين:
القول الأول: لا يجوز، وهو قول الشعبي والحسن البصري.
وحجتهم أن الآية بصدد الأخذ مما أعطى الرجال النساء فلا تجوز الزيادة.(1/74)
القول الثاني: إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يجوز الزيادة عليه فإن ازداد جاز في القضاء وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز في القضاء وبه قال الحنفية.
القول الثالث: الجواز، وهو مذهب الجمور.
وحجتهم عموم قوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به} والذي يتناول القليل والكثير.
الترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح ولكن مع الكراهة.
المطلقة ثلاثا وكيف تحل للزوج الأول
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }البقرة230
معنى الآية:
أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه { حتى تنكح زوجا غيره } أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول155.
فإن طلقها يعني الثاني فلا جناح عليهما يعني المرأة والزوج الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله قال طاووس ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة156.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: ضرورة دخول الزوج الثاني:
ذكرنا أن العلماء نصوا على ضرورة وطء الزوج الثاني لكي تحل للأول، وقد اشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول : يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني قال ابن كثير: "وفي صحته عنه نظر"157، ولو صح فهو مردود بما ثبت في السنة عن عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال: "لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول"158.
الحكم الثاني: نكاح المحلل:(1/75)
المحلل بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلقة ثلاثا بقصد أن يحلها للزوج الأول، وقد اختلف العلماء في هذا النكاح على أقوال:
القول الأول: بطلان النكاح، ولا تحل به للزوج الأول، ولا تحل حتى ينكحها الثاني نكاح رغبة يقصد به ما يقصد من كل نكاح من الدوام والبقاء، وبه قال مالك وأحمد.
واستدلوا بما يلي:
1- عن ابن مسعود قال " لعن رسول الله (المحلل والمحلل له "الترمذي وصححه.
2- عن عقبة بن عامر قال " قال رسول الله (ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"159 .
3- عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول ؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله (160.
4- درءا لمفاسد التحليل الكثيرة والتي عقد ابن القيم في إعلام الموقعين فصولا في بيانها.
القول الثاني: صحة النكاح، وبه قال الشافعي.
القول الثالث: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور وبه قال ربيعة بن سعيد سالم و القاسم.
واستدلوا بأن النكاح صحيح، تكامل فيه شروطه وأركانه، كما أن الشارع محللا فهو مكروه وليس بباطل.
إمساك الزوجة ضرارا
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( البقرة231(1/76)
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح قال الله تعالى : { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } قال ابن عباس وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال : { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } أي بمخالفته أمر الله تعالى161.
وقوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } فيه قولان:
أحدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع أو يعتق ويقول كنت لاعبا، روي عن عمر .
والثاني أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق قاله مسروق و مقاتل162.
وكلاهما لا يجوز.
النهي عن العضل
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة231
العضل في اللغة يعني الحبس والمنع ظلماً يقال: "عضل المرأة عن الزوج حبسها، وعضل الرجل أيمه يعضلها ويعضلها عضلاً وعضلها منعها الزوج ظلماً"(163).(1/77)
وسبب نزولها أن معقل بن يسار رضي الله عنه قال:"كنت زوجت أختاً لي من رجل، فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها ! لا والله، لا تعود إليها أبداً، قال: وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فقلت الآن أفعل يارسول الله، فزوجتها إياه"(164).
وقد اختلف المفسرون في هذا الخطاب(فلا تعضلوهن( على ثلاثة أقوال:-
الأول: أنه خطاب للأزواج، "ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن؛ لحمية الجاهلية كما يقع كثيراً من السلاطين وغيرهم، غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم"(165) "وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخطبهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن".
بيد أن هذا القول سيقع في إشكال وهو أن قوله تعالى: (أزواجهن) يعني من قد تزوجوا بهن، وهذا القول يجعل من لم يتزوج بالمرأة قط هو الممنوع وللجواب على هذا الإشكال حملوا الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، وقالوا بأن العرب كثيراً ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه(166).
الثاني: أنه خطاب للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجا لهن و سموا أزواجاً باعتبار ما كان "ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن"(167).
الثالث: لجميع الناس، فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعاً(168) قال أبو السعود: "وإما للناس كافة فإن إسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائع مستفيض، والمعنى: إذا وجد فيكم طلاق فلا يقع فيما بينكم عضل سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج، وفيه تهويل لأمر العضل وتحذير منه وإيذان بان وقوع ذلك بين ظهرانيهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدوره عن الكل في استتباع اللائمة وسرابة الغائلة "(169).(1/78)
ولكن الذي يظهر رجحانه هو القول الثاني، لأن عليه جمهور المفسرين(170) ولتأيده بسبب النزول، والله اعلم.
أحكام الرضاع
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{233}(
في المراد بالوالدات هنا أقوال:
القول الأول: أنه خاص بالمطلقات قاله سعيد بن جبير و مجاهد.
واستدلوا :
1- بأن الآيات السابقة كانت في أ حكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها.
2- بأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن ولو كن أزواجا لما كان هناك حاجة لهذا الإيجاب.
3- تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات لأن التي في عصمة الزوجية لا تضار ولدها.
القول الثاني: خاص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح وهو اختيار الواحدي.
ودليلهم أن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى: (رزقهن وكسوتهن) دل على أن المراد بهن الأمهات الزوجات.
القول الثالث: المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواء كن مزوجات أو مطلقات عملا بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه171.
الترجيح:
القول الثالث هو الراجح.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟(1/79)
القول الأول: يجب على الأم إرضاع ولدها في حال الزوجية، واستثنوا الشريفة بالعرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي إرضاعه فهي أحق ولها أجرة المثل، وهذا مذهب مالك.
وحجته ظاهر قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) وهذا خبر يراد به أمر، أي: ليرضعن أولادهن.
القول الثاني: لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها بل يندب لها ذلك، إلا إذا تعينت مرضعا بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار مرضعة، أو قدر ولكنه لم يجد مرضعة، وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله تعالى: (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) ولو كان الإرضاع واجبا لكلفها الشرع به، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لبن الأم أصلح للطفل وشفقة الأم عليه أكثر.
الحكم الثاني: مدة الرضاع الموجب للتحريم:
القول الأول: تحريم الرضاع أن يكون في الحولين وهذا قول الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم.
واستدلوا بما يلي:
1- قول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما .
2- وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة ] متفق عليه.
3- وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ] أخرجه الترمذي
القول الثاني: يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا وبه قال أبو حنيفة .
واستدل بقوله سبحانه : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال.
القول الثالث: ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين ويحكى عن مالك.(1/80)
القول الرابع: قال زفر مدة الرضاع ثلاث سنين.
الترجيح:
الراجح قول الجمهور لدلالة الآية (حولين كاملين) .
الحكم الثالث: تقدير نفقة المرضع:
دل قوله تعالى: ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) على وجوب النفقة للمرضع على الزوج، والرزق هنا هو الطعام الكافي172،والمراد بالكسوة : ما يتعارفون به أيضا173 وقوله : ( بالمعروف ) أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله تعالى : { لا تكلف نفس إلا وسعها }.
الحكم الرابع: نفقة الولد على الوالد
أخذ الفقهاء من هذه الآية (وعلى المولود له رزقهن) وجوب نفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد فتجب نفقته على أبيه ما دام صغيرا لم يبلغ سن التكليف174.
الحكم الخامس: وعلى الوارث مثل ذلك
في المراد بالوارث أربعة أقوال:
أحدها: أنه وارث المولود وهو قوال عطاء وغيره، واختلف أرباب هذا القول على أقوال:
1- فقال بعضهم هو وارث المولود من عصبته كائنا من كان وهذا مروي عن عمر .
2- وقال بعضهم هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء روي عن أحمد بن حنبل
3- هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود روي عن أبي حنيفة وابي يوسف ومحمد.
الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا وارث الوالد روي عن الحسن والسدي .
الثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر روي عن سفيان .
الرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه والنفقة عليه فان لم يملك شيئا فعلي عصبته175.
وفي قوله تعالى: (مثل ذلك) ثلاثة أقوال:
1- أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة .
2- أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار .
3- أنه إشارة إلى جميع .
ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة و أن لا يضار فيجب أن يكون قوله مثل ذلك مشيرا إلى جميع ما على المولود له176.
أحكام أخرى:(1/81)
هذا وقد اشتملت الآية على أحكام أخرى وهي:
1- في قوله تعالى: (وعلى المولود له) دليل على نسب الأولاد للآباء ولهذا وجب عليهم الإنفاق.
2- أن الأب والأم إذا أرادا فطام الطفل قبل الحولين عن تراض وتشاور بينهما في هذا الأمر فجائز لهما ذلك ما لم يكن فيه إضرار بالطفل.
3- في الآية إشارة إلى استحباب أن تسير شؤون الأسرة بالتشاور والتراضي بين الزوجين.
4- يجوز اتخاذ الظئر -المرضع- إذا اتفق الأب والأم على ذلك دل عليه قوله تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم).
5- قوله تعالى: (إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) ليس شرطا لجواز الاسترضاع وإنما هو ندب إلى الأولى، لتكون المرضع طيبة النفس راضية، فيعود ذلك على الصبي بالنفع177.
عدة الوفاة
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{234}(
بيان الأحكام:
الحكم الاول: مدة عدة الوفاة:
لا تخلو المتوفاة عنها زوجها من أن تكون حائلا أو حاملا، وفي هذه الآية بيان لعدة الحائل وهي أربعة أشهر وعشر ليال، وأما الحامل فعدتها وضع حملها لقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فهذه الآية قد خصصت عموم (والذين يتوفون...) هذا ما قاله الجمهور.
ولكن ذهب علي وابن عباس إلى أن الحامل تعتد بأبعد الأجلين، فتكون بهذا قد عملت بالآيتين والجمع أول من الترجيح.
قال القرطبي: وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من [ حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج ] والحديث في البخاري ومسلم.(1/82)
وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } [ البقرة : 240 ] لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفي الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث .
وقال قوم ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا .
قال القرطبي: وهذا غلط بين؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج فإن خرجت لم تمنع ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا وهذا هو النسخ وليست صلاة المسافر من هذا في شيء، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحاله178.
الحكم الثاني: الإحداد:
اختلف العلماء في الذي يتربص عنه هذه المدة فقال يتربصن عن النكاح والطيب والزينة والنقلة من المسكن.
وقال آخرون: إنما عدة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل فلم تنه عن ذلك، وهو ضعيف، ويؤيد قول الجمهور حديث حفصة ابنة عمر زوج النبي (عن النبي (أنه قال : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا"179.
والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا، واستحبه الشافعية، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان للشافعي الجديد عدمه، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة لعموم الآية، وأما الحامل فتحد مدة بقاء حملها180.
خطبة المرأة(1/83)
(وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ{235}(
معنى الآية:
هذا خطاب لمن أراد الزواج بمعتدة، والتعريض الإيماء والتلويح من غير كشف فهو إشارة بالكلام إلىك أن يقول إني أريد أن أتزوج أو أن يقول إنك لجميلة و إنك لحسنة وإنك لإلى خير
قوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم أي أضمرتم
علم الله أنكم ستذكرونهن أي بالخطبة ولا تصبرون عنهن فأباح لكم التعريض
ولكن لا تواعدوهن سرا في المراد بالسر أقوال:
1- النكاح فالمعنى لا تواعدوهن بالتزويج وهن في العدة تصريحا إلا أن تقولوا قولا معروفا لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا .
2- أن يقول لها إني لك محب وعاهديني أن لا تتزوجي غيري
3- أن المراد بالسر الزنى
4- أن المعنى لا تنكحوهن في عدتهن سرا فاذا حلت أظهرتم ذلك .
وفي القول المعروف قولان:
1- التعريض لها .
2- أنه إعلام وليها برغبته فيها .
قوله تعالى و لاتعزموا عقدة النكاح قال الزجاج معناه لا تعزموا على عقدة النكاح
حتى يبلغ الكتاب أجله أي انقضاء العدة181.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: حكم خطبة النساء:
النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام:
1- تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج وليست في العدة لأنه لما جاز نكاحها جازت خطبتها.
2- تجوز خطبتها لا تصريحا ولا تعريضا وهي التي في عصمة الزوجية فإن خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام وكذلك المطلقة رجعيا فإنها في حكم المنكوحة.(1/84)
3- تجوز خطبتها تعريضا لا تصريحا وهي المعتدة في الوفاة وهي التي أشارت إليها الآية (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) ومثلها المعتدة البائن المطلقة ثلاثا فيجوز التعريض لها دون التصريح182.
الحكم الثاني: النكاح في العدة:
حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } وهذا من المحكم المجمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدة، واتفق العلماء على فساد العقد على المعتدة ووجوب فسخه ، واختلفوا في تأبيد التحريم بعد الفسخ على قولين:
القول الأول: يتأبد التحريم، فلا يحل للزوج نكاحها أبدا وهو قول مالك.
ودليله قضاء عمر بذلك، ولأنه استعجل الشيء قبل أوانه فعوقب بحرمانه.
القول الثاني: يفسخ النكاح فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطبا من الخطاب ولم يتأبد التحريم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وعللوا قولهم بأن الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع وليس في المسألة شيء من هذا، وإذا كان الزنا وهو أعظم من النكاح في العدة لا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم وأجابوا عما نقل عن عمر بأنه قد رجع عنه.
الترجيح:
قول الجمهور هو الراجح.
حكم المطلقة قبل الدخول
(لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ {236}(
لا تخلو المطلقة قبل المسيس من حالتين: إما ألا يكون قد فرض لها مهر، أو يكون قد فرض، وهذه الآية بيان للحالة الأولى، وأما الحالة الثانية فتبينها الآية اللاحقة.
معاني الآية:
- لا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق
- المراد بالمس النكاح وبالفريضة الصداق(1/85)
- ومتعوهن أي أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر والمتاع اسم لما ينتفع به فذلك - معنى قوله تعالى (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)
بيان الأحكام:
الحكم الأول: عدم تسمية المهر:
دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر، وهو المسمى بنكاح التفويض ويوضحه الحكم التالي.
الحكم الثاني: هل للمطلقة قبل الدخول مهر:
أفادت الآية حكما بمنطوقها : وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي .
وحكي القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي
وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقدا لازما بالقول واعتبرت المهر الذي هو من متماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه وهي تعيين مقداره بالقول وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات183.
الحكم الثالث: حكم المتعة:
اختلف في المتعة المطلوبة للمطلقة قبل المسيس وقبل الفرض أواجبة هي أم غير واجبة؟
القول الأول: الوجوب، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة.
وحجتهم قوله تعالى: (ومتعوهن) وقوله: (حقا على المحسنين).
القول الثاني: مستحبة وهو قول مالك.
وحجته قوله تعالى: (حقا على المحسنين) ولو كانت واجبة لكانت حقا على الخلق أجمعين.
الترجيح:
الراجح الوجوب للأمر بها (ومتعوهن) وكأن الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل للمسمى لها من نصف الصداق، لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر، وجبرا لخاطر المرأة المنكسر بالطلاق
وأما قوله: (حقا على المحسنين) فليبين أن مقتضى الإحسان ذلك184.(1/86)
الحكم الرابع: مقدار المتعة:
في مقدار المتعة أقوال:
القول الأول: أقلها درع وخمار وملحفة ولا تزاد على نصف المهر وبه قال أبو حنيفة.
القول الثاني: درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة، وهو رواية عن أحمد.
القول الثالث: يستحب أن لا تنقص المتعة " عن ثلاثين درهما " أو ما قيمته ذلك، وهذا أدنى المستحب وأعلاه خادم وأوسطه ثوب، ويسن أن لا تبلغ نصف مهر المثل، فإن بلغته أو جاوزته جاز لإطلاق الآية وهذا مذهب الشافعية.
القول الرابع: ليس للمتعة حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
القول الخامس: هي بقدر يسار الزوج وإعساره (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) وهي مقدرة باجتهاد الحاكم، وهي رواية عن أحمد.
لمن ينصف المهر؟
(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{237}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول: أنواع المطلقات:
وضحت الآيات السابقة أنواع المطلقات وأنهن أربع :
1- مطلقة مدخول بها مفروض لها وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر وأن عدتها ثلاثة قروء .
2- مطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها وهي المذكورة في الآية السابقة في شأنها وأنها لا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة ( الأحزاب ) أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها .
3- مطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرتها هذه الآية .(1/87)
4- مطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } [ النساء : 24 ] فذكر تعالى في هذه الآية والتي قبلها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض فجعل للأولى المتعة وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد وقابل المسيس بالمهر الواجب185.
الحكم الثاني: عفو الزوجة عن الصداق:
إذا عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها أو عن بعضه أو وهبته له بعد قبضه وهي جائزة الأمر في مالها جاز ذلك وصح بلا خلاف لقول الله تعالى : { إلا أن يعفون } يعني الزوجات186.
الحكم الثالث: المراد بمن بيده عقدة النكاح:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الولي، فيكون المعنى أو يسقط الولي نصف المهر إن لم تكن الزوجات مالكات أنفسهن، وذلك الأب في ابنته البكر أو السيد في أمته، فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت بلغت المحيض أم لم تبلغه، وهذا قول مالك والشافعي في القديم.
وحجتهم ما يلي:
1- أن الولي بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح لكونها قد خرجت عن يد الزوج
2- أن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهن فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا .
3- أن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله : (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن( - ثم قال: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح( وهذا خطاب غير حاضر.
ولقديم الشافعي شروط وهي:
1. أن يكون الولي أبا أو جدا لمكان شفقتهما، واقتصر أحمد على الأب.
2. أن يكون قبل الدخول .
3. أن تكون بكرا صغيرة عاقلة .
4. أن يكون بعد الطلاق .
5. أن يكون الصداق دينا في ذمة الزوج لم يقبض(1/88)
القول الثاني: الزوج، فيكون المعنى إلا أن يعفو المطلقات أو يعفو الزوج عن نصف الصداق فيجعل المهر كله لها، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد وهو المعتمد عند أصحابه.
وحجتهم ما يلي:
1- أن الخطاب في أول الآية للأزواج فلو أراد الزوج لقال: أو يعفو ، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر.
2- أن (يعفون) بمعنى يسقطن، و(يعفو الثانية بمعنى يسقط أيضا ولا يكون كذلك إلا إذا كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي أما إذا كان هو الزوج فيكون بمعنى يعطي، وهذا هو الراجح.
3- أن الله تعالى قال : (وأن تعفوا أقرب للتقوى( والعفو الذي هو أقرب إلى التقوى هو عفو الزوج عن حقه أما عفو الولي عن مال المرأة فليس هو أقرب إلى التقوى.
4- أن المهر مال للزوجة فلا يملك الولي هبته وإسقاطه كغيره من أموالها وحقوقها وكسائر الأولياء.
5- للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده .
6- أجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها والمهر مالها
7- أجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهو بنو العم وبنو الإخوة فكذلك الأب
الحكم الرابع: عفو من بيده عقدة النكاح:
بعد ذكر الخلاف في المراد بمن بيده عقدة النكاح فإن قلنا إنه الزوج فلا إشكال، وإذا قلنا بأنه الولي فهنا يتوجه إشكال هو: هل يحق للولي أن يتصرف في مال صغيرته أو يتيمته؟
الصحيح أنه ليس للولي التنازل عن حقوق موليته بتاتا إذ إن المهر حق خالص للزوجة وهي لا تخلو من حالتين: إما أن تكون بالغة راشدة فليس لأحد غيرها التصرف في مالها والعفو عنه ولو كان أباها، كما يعلم هذا من الشرع عموما ولهذا قال الله للأزواج : (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً (إلى أن قال:(افْتَدَتْ بِه(ِ وقال سبحانه في شأن المهر: ( فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً(النساء4).(1/89)
أما إذا كانت الزوجة قاصرا فلا يجوز كذلك عفو الولي إذ حرم عليه الشرع الأكل من مالها إلا إذا كان فقيرا فيأكل بالمعروف (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ( أي بقدر حاجته.
ولأجل هذا كله ذهب بعض القهاء إلى القول بأن من بيده عقدة النكاح هو الزوج، ويمكن أن يقال بأنا وإن قلنا بأن المراد به هو الولي فيجوز له العف ولكن يتحمل هو تبعات هذا العفو أي يتحمل نصف المهر يؤديه للزوجة.
أما القائلون بأنه الولي فصرح بعضهم كعيسى بن دينار بأنها لا ترجع بشيء منه على أبيها، وبعضهم لم ينقل عنه شيء.
الحكم الخامس: تقرر المهر بالخلوة:
اختلف العلماء في المسيس المراد بالآية على أقوال:
القول الأول: يتقرر المهر بالخلوة الصحيحة، وطئ أو لم يطأ وحدها أن لا يكون هناك مانع يمنعه من وطئها طبعا ولا شرعا حتى إذا كان أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صائما في رمضان أو محرما أو كانت هي حائضا لا تصح الخلوة لقيام المانع طبعا أو شرعا187، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.
وحجتهم إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقد روى الإمام أحمد و غيره بإسناده عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة، ولم يخالفهم أحد في عصرهم فكان إجماعا
القول الثاني: لا يستقر المهر إلا بالوطء، وبه قال الشافعي.
وحجته:
1- قول الله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } وهذا قد طلقها قبل أن يمسها .
2- قال تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } والإفضاء الجماع ولأنها مطلقة لم تمس أشبهت من لم يخل به.
الترجيح:
القول الثاني هو الراجح، لدلالة القرآن عليه، والخلوة ليس فيها مس.
المحافظة على الصلاة في الأمن وغيره(1/90)
(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ{238} فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ{239}(.
هذا خطاب لجمع الأمة والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه.
واختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى على عدة أقوال الصحيح منها أنها صلاة العصر لما صح في مسلم عن علي قال: قال رسول الله (يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء188.
بيان الأحكام:
دل قوله تعالى: (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) على جواز الصلاة حال القتال راجلا أو راكبا زلا تبطل بالقتال، ويسقط استقبال القبلة وهذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الصلاة تبطل بالقتال، وما قاله الجمهور هو الراجح للآية، ولما صح في مسلم عن ابن عمر: " فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا وقياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها".
متعة المطلقات
(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ{241}(
اختلف العلماء الموجبون للمتعة لأي المطلقات تجب المتعة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: واجبة لكل مطلقة وهو قول الشافعي.
واحتج بما يلي:
1- عموم تعالى : (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين( .
2- قوله تعالى لنبيه عليه السلام : { قل لأزواجك } - إلى قوله - { فتعالين أمتعكن وأسرحكن }
القول الثاني: تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقا ولم يمسها فإنه يجب لها نصف ما فرض روي عن ابن عمر والقاسم ابن محمد وشريح(1/91)
القول الثالث: تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهرا فان دخل بها فلا متعة ولها مهر المثل روي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة و أحمد بن حنبل.
واستدلوا بقوله تعالى : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن( ثم قال : (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم( فخص الأولى بالمتعة والثانية بنصف المفروض مع تقسيمه النساء قسمين وإثباته لكل قسم حكما فيدل ذلك على اختصاص كل قسم بحكمه وهذا يخص ما ذكروه ويحتمل أن يحمل الأمر بالمتاع في غير المفوضة على الاستحباب لدلالة الآيتين اللتين ذكرناهما على نفي وجوبها جمعا بين دلالة الآيات والمعنى فإنه عوض واجب في عقد فإذا سمي فيه عوض صحيح لم يجب غيره كسائر عقود المعاوضة189.
القول الرابع: مستحبة ولا تجب على احد سواء سمي للمرأة أو لم يسم دخل بها أو لم يدخل وهو قول مالك والليث.
واستدلوا بقوله تعالى: (حقا على المحسنين) (حقا على المتقين) أي على المتفضلين المتجملين وما كان من باب الإجمال والإحسان والتقوى فليس بواجب.
الربا
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{275} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{276}(
أولا: معنى الربا وأنواعه:
الربا في اللغة هو الزيادة وفي الشرع يقع على أنواع هي:(1/92)
1- ربا القرض: وهو الذي كان معروفا في الجاهلية، وهو أن يقرضه قدرا معينا من المال إلى زمن محدود كشهر أو سنة مثلا مع الاشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل، وهو الممارس الآن في البنوك الربوية.
2- ربا الفضل: كبيع الدينار بدينارين والدرهم بدرهمين.
3- ربا النسيئة كبيع دينار ناجز بدينار غائب،
وأدخل بعضهم ربا الجاهلية في ربا الفضل، وأدخله آخرون في ربا النساء، وجعلوا القسمة ثنائية.
وتحريم هذه الأصناف متفق عليه بين أهل العلم إلا ما كان من خلاف ابن عباس في ربا الفضل إذ كان يجيزه بناء على حديث أسامة "إنما الربا في النسيئة" ثم رجع عن هذا القول لما سمع حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله ( قال: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) رواه مسلم.
فنص( على ستة أعيان فحرم فيها النساء تحريما مطلقا، وحرم فيها التفاضل إذا اتفق الجنسان.
أما حديث أسامة فمحمول على اختلاف الجنس، فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير.
وقد اتفق أهل العلم على العمل بحديث عبادة إلا ما ذهب إليه مالك من أن البر والشعير جنس واحد فلا يجوز فيهما التفاضل واحتج بعمل أهل المدينة.
ثانيا: علة الربا:
اختلف العلماء في قياس غير الأصناف الستة عليها، فذهب الظاهرية إلى أنها ليست معللة وقصروا الحرمة عليها فقط.
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى إلحاق غيرها بها ولكنهم اختلفوا في العلة، والمسألة طويلة الذي وسنختصر الخلاف فيما يلي:
1- الحنفية والحنابلة: أن علة الربا الكيل والوزن مع اتحاد الجنس.
2- المالكية: علة التفاضل في الذهب والفضة اتحاد الجنس والثمنية، وفي غيرهما اتحاد الجنس والطعام المقتاد المدخر غالب العيش، وفي النساء الطعم.(1/93)
3- الشافعية: في النقدين اتحاد الجنس والثمنية، وفي غيرهما اتحاد الجنس والطعم.
وهناك أقوال أخرى ولكل دليله ولمريد المزيد مراجعة كتب الفقه.
ربوية العملات الورقية:
ذهب المالكية والشافعية إلى أن علة الثمنية في الذهب والفضة قاصرة وغير متعدية أي لا يجوز التعليل بها في غير ما ورد وهو الذهب والفضة لكونهما ثمنيان بالخلقة، ويحكى عن مالك أنه علل بالثمنية المطلقة أي يمكن التعليل بهذه العلة ويدخل الربا في كل ما اعتبر ثمنا للأشياء وقيما للمتلفات، والذي قرره المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي: أن العملة الورقية اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما190، وهذا هو الصحيح، وعليه نقول تخضع العملة الورقية لأحكام الصرف، والمقصود بالصرف هو بيع العملات بعضها ببعض، وللصرف ضوابط يجب مراعاتها وفي مخالفتها الوقوع في الربا، وهذه الضوابط وهي:
1- التقابض: إي قبض البدلين (الثمن والمثمن) قبل الافتراق بالأبدان بأن يقوم أحدهما من مجلسه أو أن يخرج من الغرفة والمسألة عرفية.
2- التماثل: أي لا يجوز أن يزيد أحدهما عن الآخر عند اتحاد الجنس فيحرم مبادلة 10 ريال يمني بعشرين ريالا يمنيا أيضا، أما إذا اختلف الجنس فيجوز التفاضل كأن يصرف 10ريال سعودي بعشرين يمني، إذ إن كل عملة تعتبر جنسا مختلفة.
3- الحلول: فلا يجوز أن يشترط أحدهما أو هما جميعا تأخير التقابض، سواء اتحدا جنسا أو اختلفا، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق.
ودليل ما سبق ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض191 ولا تبيعوا منها غائبا بناجز"192.
ثالثا: تحويل النقود:(1/94)
من الخدمات المصرفية تحويل النقود مقابل مبلغ من النقود يأخذه البنك عن عملية التحويل فيدفع البنك شيكا مقابل استلام النقود ليقبض صاحب الشيك النقود في البلد الآخر أو من بنك آخر، فيقيد هذا البنك المبلغ في سجلاته، فهل تخل هذه المعاملة في الربا؟
قرر المجمع الفقهي التابع للمؤتمر قيام الشيك مقام القبض في صرف النقود بالتحويل في المصارف، وقرر الاكتفاء بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة أخرى مودعة في المصرف193.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ{279} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{280} وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{281}(
المراد بالربا هنا هو ربا الجاهلية، وقال ( في حجة الوداع :"ألا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"194.
فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم : لا تظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم195.
فإن كانت باقية بعينها أخذوها، وإن كانت تالفة أخذوا من الغريم عوضها إن كان موسرا وإن كان ذو عسرة وجب إنظاره إلى ميسرة وحرم مطالبته وملازمته والصدقة أفضل من الصبر196.
وفي العصر الحاضر تقوم البنوك إعطاء فوائد ربوية عن المال المودع لديها فهل يجوز أخذه؟(1/95)
دل قوله تعالى: (فلكم رؤوس أموالكم( على حرمة أخذ الزيادة (الربا) وأن ليس له إلا ماله، ولكن ذهب بعض المعاصرين إلى جواز أخذ الزيادة من البنوك الربوية وتفريقها في سبل الخير في غير المساجد ونحوها، معللا قوله بأن في ترك المال لهذه البنوك إعانة لها على الاستمرار بل وعلى زيادة الاستثمار فهو ربح مجاني قدمه لها المودع التقي!!
ورد على هذا القول آخرون وشنعوا عليه بحجة مخالفته للنص القرآني الآمر بأخذ رأس المال دون زيادة.
والذي يترجح أنه إذا حصل المودع على الفائدة الربوية دون طلب أو غفلة منة منذ البداية حيث لم يذكر في أوراق المعاملة عدم رغبته في الفائدة، يجوز له أخذها ولكن يجب عليه إنفاقها على الفقراء والمساكين ودور الأيتام، والمصابين بالكوارث ونحوهم، ولا يجوز أن يبني بها مسجدا أو يطبع مصحفا، ونحوها، أو ينوي بها الزكاة، بل إخراج الفائدة هو للتخلص من المال الحرام، فلا يعني أنه مأجور بهذه الإنفاق، ولكي لا يساهم في نماء الأموال الربوية، هذا لمن يعلم من نفسه قدرته على إخراج الفائدة وعدم الانتفاع بها، فإن خشي أو ظن من نفسه استعماله والانتفاع به حرم عليه الأخذ.
آية الدَّين(1/96)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{282}(
بيان الأحكام:
اشتملت هذه الآية على جملة وفيرة من الأحكام وهي كالتالي:
الحكم الأول: الدين إلى أجل:
أحل الله سبحانه المداينة إلى أجل مسمى، فيدخل في ذلك بيع السلعة المعينة بثمن إلى أجل مسمى وبيع السلعة في الذمة إلى أجل مسمى وهو السلم197.
الحكم الثاني: الأجل(1/97)
في الآية تنبيه على أنه لا يجوز المداينة إلا إلى أجل مسمى، فأما الأجل المجهول فلا يكتب لعدم صحته لما فيه من الغرر، وعلى هذا اتفق أهل العلم وإنما اختلفوا في التوقيت بالأوقات المعلومة الوقت المجهولة المقدار كالحصاد والموسم، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وأجازه مالك ورأى غرره يسيرا كنقصان الشهور.
الحكم الثالث: كتابة الدين والإشهاد عليه:
أمر الله بكتابة الدين فاختلف العلماء في وجوبه وندبه على قولين:
القول الأول : الوجوب، فيجب على من له أو عليه الدين أن يكتبه إذا وجد كاتبا وأن يشهد وبه قال الظاهرية.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب).
2- قوله تعالى: (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) فلما رخص في ترك الكتابة عند حضور التجارة برفع الجناح دل على أن الأمر على الحتم.
القول الثاني: الكتابة والإشهاد بالدين غير منسوخ، وبه قال الجمهور.
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا) وهذا إرشاد إلى دفع التظالم وحفظ المال، وعدم الريبة في حفظه بالشهادة وتقويم الشهادة على وجهها.
2- قوله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)
الترجيح:(1/98)
ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح ويدل له ما صح في السنة عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي (ابتاع فرسا من أعرابي واستتبعه ليقبض ثمن فرسه فأسرع النبي (وأبطأ الأعرابي وطفق الرجال يتعرضون للأعرابي فيسومونه بالفرس وهم لا يشعرون أن النبي (ابتاعه حتى زاد بعضهم في السوم على ما ابتاعه به منه فنادى الأعرابي النبي (فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي (حين سمع نداءه فقال أليس قد ابتعته منك قال لا والله ما بعتكه فقال النبي (:قد ابتعته منك فطفق الناس يلوذون بالنبي (وبالأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أني قد بعتكه قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته قال: فأقبل النبي (على خزيمة فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقك يا رسول الله، قال فجعل رسول الله (شهادة خزيمة شهادة رجلين198.
فلو كان الإشهاد واجبا لما بايع رسول الله( من غير شهود.
الحكم الرابع:الكتابة:
ذكر الله سبحانه الأمر بالكتابة ونهى الكاتب عن الامتناع من أن يكتب كما علمه الله فقال (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ) ولا يحفى أن القيام بالكتابة للصكوك وحفظ الحقوق فرض على الكفاية كالقيام بالشهادة قد جعلها الله سبحانه قرينة للشهادة وإن كانت الشهادة آكد بدليل شرطيتها في النكاح، وبأنه يجب على الحاكم الإشهاد بما تقرر عنده من الحق وفي وجوب الكتابة خلاف والأصح عند الشافعية والجمهور الندب199.(1/99)
الحكم الخامس: العدل في الكتابة: أوجب الله سبحانه على الكاتب العدل فيما يكتب وبين الله سبحانه طريق العدل فأمر الرشيد الكامل أن يملي بنفسه وليتق الله ولا يبخس منه شيئا وأمر الولي أن يملي عن المولى عليه إذا كان سفيها أو مبذرا مفسدا للمال أو ضعيفا غبيا أحمق أو لا يستطيع الإملاء لجنون أو صغر أو عي فأقام القيم عليهم مقامهم200.
الحكم السادس: الحجر على السفيه:
هذا الخطاب ظاهر في أن السفيه الذي لا يصلح المال يكون أمره إلى وليه وأنه يرد عليه الحجر بعد البلوغ إما ابتداء أو دواما مع حجر الصبا وبهذا قال مالك والشافعي.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبتدأ عليه بعد البلوغ رشيدا وإن بذر واستدلوا بحديث حبان بن منقذ فقد كان يخدع في البيع والشراء فقال له رسول الله(: "قل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا"201 ولم يمنعه من التصرف، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في أوائل سورة النساء202.
الحكم السابع: حكم الاستشهاد:
قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) اشتملت هذه الجملة على جملة أحكام:
الحكم الثامن: شهادة الكافر:
تخصيص الشهادة برجالنا يقتضي أنه لا يجوز شهادة غير رجالنا، وقد اتفق أهل العلم على أن شهادة الكافر غير جائزة في الديون والمعاملات، لكنهم اختلفوا في جواز شهادة أهل الذمة على مثلهم فأجازها الحنفية203 خلافا للجمهور.
الحكم التاسع: شهادة الصبيان:
تخصيص الشهادة بالرجال يقتضي أن الصبيان لا تجوز شهادتهم وعلى هذا اتفق أهل العلم إلا في شهادة بعضهم على بعض في القتال والجراح فخلاف:
القول الأول: تجوز شهادة الصبيان مالم يتفرقوا أو يختلفوا وبه قال مالك.
واستدل بعمل أهل المدينة فقال: " هو الأمر عندنا المجتمع عليه"204.(1/100)
قال ابن رشد: "ليست في الحقيقة شهادة عند مالك وإنما هي قرينة حال ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا"205.
وقد ذكر المالكية تسعة شروط في قبول شهادة الصبيان وهي: 1- أن يكونوا ممن يعقل الشهادة 2- وأن يكونوا أحرارا 3- ذكورا 4- محكوما لهم بالإسلام 5- وأن يكون المشهود به جرحا أو قتلا 6- وأن يكون ذلك بينهم خاصة لا لكبير على صغير ولا لصغير على كبير 7- وأن يكونوا اثنين فأكثر 8- وأن يكون ذلك قبل تفرقهم وتحبيهم 9- وأن تكون شهادتهم متفقة غير مختلفة206.
القول الثاني: عدم قبولها وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
واستدلوا بقوله تعالى: (من رجالكم) وقوله: (ممن ترضون) وقوله: (ذوي عدل منكم) وهذه الصفات ليست في الصبي207.
القول الثالث: قبولها مطلقا، ويحكى عن إياس بن معاوية208.
الحكم العاشر: شهادة الفاسق:
تخصيص الشهادة بالمرضي من الشهداء يقتضي أنه لا يجوز غيره، وقد أجمع أهل العلم على قبول شهادة العدل لهذه الآية ولقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وعلى رد شهادة الفاسق لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق فتبينوا) وإنما اختلفوا في تفصيل العدالة فذهب الجمهور إلى أنها امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
وذهب أبو حنيفة إلى أنها ظاهر الإسلام ما لم يعلم جرحه أو فسقه، وهو محجوج بهذه الآية لأن الله سبحانه شرط في الشهيدين أن يكونا ممن نرضاهما والرضا صفة زائدة عليهما209.
الحكم الحادي عشر: شهادة النساء مع الرجال:
شهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة والعتق وكل شيء إلا الحدود والقصاص.
وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة والعتق.
وقال الشافعي لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال.(1/101)
قال ابن المنذر: واتفقوا جميعا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء210، ولكنهم اختلفوا في العدد المقبول:
7- فعند الجمهور لا بد من أربع.
8- وعن مالك وبن أبي ليلى يكفي شهادة اثنتين .
9- وعن الشعبي والثوري تجوز شهادتها وحدها في ذلك وهو قول الحنفية211.
كما اختلفوا في بعض الصور التي يذهب البعض إلى أنها مما يطلع عليها الرجال كالرضاع حيث ذهب أبو حنيفة على أنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلا يثبت بالنساء منفردات كالنكاح، كما روي عنه أن شهادتهن منفردات لا تقبل في استهلال المولود عند الولادة بحجة أنه يكون بعد الولادة وخالفه في ذلك صاحباه وأكثر أهل العلم، لأنه يكون حال الولادة ويتعذر حضور الرجل فأشبه الولادة نفسها.
قال أبو عبيد أما اتفاقهم على جواز شهادتهن في الأموال فللآية المذكورة وأما اتفاقهم على منعها في الحدود والقصاص فلقوله تعالى: (فان لم يأتوا بأربعة شهداء)
وأما اختلافهم في النكاح ونحوه فمن ألحقها بالأموال فذلك لما فيها من المهور والنفقات ونحو ذلك ومن ألحقها بالحدود فلأنها تكون استحلالا للفروج وتحريمها بها212.
الحكم الثاني عشر: اليمين مع الشاهد:
تدل الآية على أن الشهادة نوعان: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين وهذه الدلالة تقتضي حصر الحجة في ذلك، وأن اليمين مع الرجل الواحد لا يقوم بها الحق، والمسألة فيها قولان:
القول الأول: لا يجوز القضاء بالشاهد واليمين، وبه قال أبو حنيفة.
واستدلوا بما يلي:
1- أن الشهادة قسمان كما ذكرها الله في هذه الآية ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء بالشاهد واليمين لأنه حينئذ يكون قسما ثالثا للشهادة مع أن الله لم يذكر لها إلا قسمين.
2- حديث "شاهداك أو يمينه" ولا يجوز عليه( ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي لأنه وقت البيان.
القول الثاني: يجوز القضاء بالشاهد واليمين، وبه قال الجمهور.(1/102)
واستدلوا بحديث ابن عباس في مسلم أن رسول الله( قضى باليمين مع الشاهد.
الترجيح:
قول الجمهور هو الراجح لدلالة السنة، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يعني عدم مشروعيته بل للسنة التشريع كالقرآن، وقد أتي الأحناف من قاعدتهم التي خالفهم فيها جماهير أهل العلم بأن الزيادة على النص نسخ، ولما رأوا أن في الحديث زيادة على النص القرآني ردوه لكونه من وجهة نظرهم ناسخ لنص القرآن، ومع رد الجمهور لهذه القاعدة فقد جاروا الأحناف هنا وقالوا بأن الشاهد واليمين ليس قسما ثالثا للشهادة إنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدعي، كما ردوا على قول الحنفية من عدم ذكر هذا في القرآن إضافة إلى الرد السابق من كون السنة تستقل بالتشريع أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر.
الحكم الثالث عشر: شهادة العدل مع قيام التهمة:
تعميم الخطاب يقتضي قبول شهادة العدل مع قيام التهمة كشهادة الوالد لولده والعدو على عدوه والمسألة خلافية:
القول الأول: تقبل شهادة العدل في الحالات السابقة وهو قول داود.
واستدلوا بعموم الآيات، ولأنه تقبل شهادته في غير هذا فتقبل شهادته فيه كالأجنبي
القول الثاني: لا تقبل شهادة الوالد لولده، وتقبل شهادة العدو على عدوه، ويحكى عن أبي حنيفة.
وعلل هذا القول بأن العداوة لا تمنع الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة كالصداقة.
القول الثالث: لا تقبل شهادة العدل في الحالات السابقة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
واستدلوا بما يلي:
1- ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء"213 و الظنين المتهم والأب يتهم لولده، لأن ماله كماله، والحديث أخص من الآيات فتخص به.
2- أن بين الوالد وولده بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه السلام : "فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها" .(1/103)
3- أن الوالد متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه 214.
الترجيح:
الحق عدم قبول شهادة الأب لابنه والعكس، وعدم قبول شهادة "العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك والأدلة لا تعارض بمحض الآراء وليس للقائل بالقبول دليل مقبول"215.
الحكم الرابع عشر: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا):
اختلف العلماء في المراد بهذه الجملة على أقوال:
الأول: لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة إذا تحملوا، وسموا شهداء هنا مجازا باعتبار ما سيؤولون إليه.
الثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها، والتسمية بشهداء هنا حقيقية.
الثالث: إلى تحملها و إلى أدائها.
رجح البعض كابن العربي حملها على المعنى الأول لكون حالة الأداء مبينة في قوله تعالى: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)216.
ورجح آخرون كالآلوسي حملها على المعنى الثاني لعدم إحتياجه إلى إرتكاب المجاز217.
ويحتمل أن يراد المعنيان بناء على قاعدة عموم المجاز فيحمل اللفظ على حقيقته ومجازه.
واختلفوا في اقتضاء هذا النهي على أقوال:
1- أن فعل ذلك ندب.
2- فرض كفاية.
3- فرض عين.
قال الشوكاني: "وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام"218 والصحيح التفصيل فيقال بأنه "إذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية"219.
الحكم الخامس عشر: كتابة البيع الناجز:
دل قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } أنه إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد فلا بأس بعدم الكتابة لبعده حينئذ عن التنازع، "والحرج هنا ليس الإثم إنما هو الضرر الطارئ بترك الإشهاد من التنازع220.
الحكم السادس عشر: مضارة الكاتب والشهيد:
قوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول:(1/104)
فعلى الأول معناه : لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابه ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر -بكسر الراء الأولى-.
وعلى الثاني لا يضارر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر -بفتح الراء الأولى- وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا221.
ثم قال سبحانه: { وإن تفعلوا } يعني المضارة { فإنه فسوق بكم } أي معصية، فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان وفيه إبطال الحق وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله222.
الرهن
(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (البقرة283
بيان الأحكام:
الحكم الأول: مشروعية الرهن ولزومه:
في هذه الآية دليل على مشروعية الرهن في السفر، وعلى اشتراط قبضه (فرهان مقبوضة) وهذا مما لا خلاف فيه لكنهم اختلفوا في وجه الاشتراط على قولين:
القول الأول: أن القبض شرط في لزوم الرهن وصحته، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وحجتهم ما يلي:
1- قول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } وصفها بكونها مقبوضة .
2- أنه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض.
القول الثاني: أن الرهن صحيح لازم ولكنه لا يتم إلا بالقبض فيجبر السلطان الراهن على الإقباض عند الامتناع.
وعمدة مالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول.(1/105)
والفرق بين القولين "أن من قال شرط صحة قال : ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن ومن قال شرط تمام قال : يلزم بالعقد ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت"223.
الحكم الثاني: استدامة قبض الرهن:
اختلف الفقهاء في اشتراط استدامة القبض على قولين:
القول الأول: لا يشترط استدامة القبض وبه قال الشافعي.
وعلل قوله بأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم يشترط استدامته كالهبة
القول الثاني: .يشترط استدامة القبض فمتى خرج الرهن إلى يد الراهن بعارية أو غيرها خرج الرهن عن اللزوم، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد.
واستدلوا بقول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } وقالوا: "بأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها شرطا كالابتداء ويفارق الهبة لأن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم تحصل وثيقة"224.
الحكم الثالث: اشتراط السفر وعدم الكاتب:
ذهب أهل الظاهر إلى اشتراط السفر وعدم الكاتب لصحة الرهن، فلا يجوز الرهن عندهم عند وجود الكاتب ولا يجوز في الحضر.
وخالفهم الجمهور وقالوا بأن ذكر هذه الخصال الكتابة والإشهاد والرهن على سبيل الإرشاد والحزم لا على سبيل العزم225، لاسيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن226.
واستدلوا بما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة :أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد.
سورة آل عمران
النهي عن موالاة الكافرين(1/106)
(لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ{28}(
معنى الآية:
لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم فإنه من يفعل ذلك فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر (إلا أن تتقوا منهم تقاة( أي: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل227.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: حكم الاستعانة بالكفار في الحرب:
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب، وهو مذهب المالكية.
واستدلوا بما يلي:
1- ظاهر الآية .
2- عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي (معه فقال له :ارجع فإنا لا نستعين بمشرك228.
القول الثاني: يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين: الحاجة إليهم والوثوق من جهتهم، وهو قول الجمهور.
واستدلوا بفعل النبي( فقد استعان بيهود قينقاع وقسم لهم، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن.
الحكم الثاني: التقية:
دلت هذه الآية على جواز التقية ولكن ما هي التقية؟
قال ابن عباس : هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثما، وقيل : إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان، قال العلماء: والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم229.(1/107)
قال الجصاص: "وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب بل ترك التقية أفضل، قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل: إنه أفضل ممن أظهر، وقد أخذ المشركون خبيب بن عدي فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعطى التقية وأظهر الكفر فسأل النبي (عن ذلك فقال: كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال (- وإن عادوا فعد وكان ذلك على وجه الترخيص"230.
فريضة الحج
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ{97}(
الحكم الأول: وجوب الحج:
أوجب الله سبحانه حج البيت وهو ركن من أركان الإسلام فمن جحد وجوبه فهو كافر لقوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ويؤخذ من هذا أن كل من جحد حكما معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، وأما من ترك الحج تهاونا أو بخلا أو تسويفا فهو عاص بفعله وليس بكافر بإجماع المسلمين231.
الحكم الثاني: حكم الجاني في الحرم:
اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم فإنه يقتص منه سواء كانت الجناية في النفس أم في الأطراف وعللوا ذلك بأن الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه.
واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على قولين:
القول الأول: لا يقتص منه في الحرم وهو قول الحنفية والحنابلة.(1/108)
واستدلوا بقوله تعالى(ومن دخله كان آمنا) وقالوا بأنه خبر يقصد به الأمر فيكون المعنى من دخله فأمنوه.
القول الثاني: يقتص منه، وبه قال المالكية والشافعية.
واستدلوا بما يلي:
1- ما صح في البخاري ومسلم : "إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة".
2- عموم الأمر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان.
المناقشة والترجيح:
ما قاله المالكية والشافعية هو الراجح لقوة تعليلهم، ولضعف ما قاله الحنفية:
1- أن قوله: (ومن دخله كان آمنا) كان في الجاهلية لو أن إنسانا ارتكب جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم.
2- فسر بعض العلماء الأمن بالأمن في الآخرة لمن دخل الحرم معظما له مؤديا النسك لا مجرما فارا من وجه العدالة.
3- لو أخذنا بالقول الأول لأصبح الحرم مركزا لاجتماع الجناة والمجرمين ولاختل الأمن، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم لأنه يعلم أنه يحميه وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد232.
الحكم الثاني: شرط الاستطاعة:
بينت هذه الآية شرط الاستطاعة لوجوب الحج، وهي ملك الزاد والراحلة، ونفقة الأهل فترة غيابه، وأمن الطريق، والمحرم للمرأة.
سورة النساء
مال اليتيم
(وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً{2}(
لما علم الله جل جلاله ضعف اليتامى وعجزهم عن دفع بأس الظالمين لهم نهى العباد عن أخذ أموالهم وتوعد على ذلك بما لم يتوعد على غيره فجعل آكلها إنما يأكل نارا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً{10}( وسمى أموال اليتامى خبيثة لينفر القلوب عن تناولها استقذارا لها من خبثها233.(1/109)
ودل قوله تعالى: ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ( على وجوب دفع المال لليتيم، وقد اتفق أهل العلم على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ وإيناس الرشد لقوله تعالى في الآيات التالية: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ( والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان:
الأول: أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد، وسموا يتامى باعتبار ما كانوا عليه أي الذين كانوا يتامى.
الثاني: المراد باليتامى الصغار الذين هم دون سن البلوغ والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة234.
تعدد الزوجات
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ{3}(
قوله تعالى (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى( اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على أقوال:
1- أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية ولا يتحرجون من ترك العدل بينهن وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى فقيل لهم بهذه الآية احذروا من ترك العدل بين النساء كما تحذرون من تركه في اليتامى.
2- أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى فلما كثر النساء مالوا على أموال اليتامى فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى.
3- أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم فرخص الله لهم بهذه الآية وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه فكأنه قال وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن فانكحوهن ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا فان خفتم أن لا تعدلوا فيهن فواحدة.(1/110)
4- في البخاري: كان عروة بن الزبير يحدث: أنه سأل عائشة رضي الله عنها (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء( قالت: هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء.
قالت عائشة ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فأنزل الله عز وجل (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن( قالت: فبين الله في هذه أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال ورغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق فإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها235.
فيكون معنى الآية على هذا القول: و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل الله لكم.
والمقصود النهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل إلا أنه أوثر التعبير عنه بالأمر بنكاح الأجنبيات كراهة النهي الصريح عن نكاح اليتيمات236.
وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله( ولكن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول وأفهام المسلمين التي أقرها الرسول عليه السلام لا سيما وقد قالت : ثم إن الناس استفتوا رسول الله وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقها البنات اليتامى من مهور أمثالهن237.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: من يجوز له تزويج الصغيرة
في هذه المسالة أقوال:(1/111)
القول الأول: لغير الأب تزويج الصغيرة ولها الخيار إذا بلغت وبه قال أبو حنيفة.
وحجته أن الله تعالى قال : (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء( ومفهومه أنه إذا لم يخف فله تزويج اليتيمة واليتيم من لم يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يتم بعد احتلام" وهذا بناء على تأويل عائشة.
القول الثاني: ليس لغير الأب إجبار كبيرة ولا تزويج صغيرة جدا كان أو غيره وبهذا قال مالك وأحمد.
القول الثالث: ليس لغير الأب والجد إجبار كبيرة ولا تزويج صغيرة، وبه قال الشافعي.
وحجة القولين ما يلي:
1- قوله (: "تستأمر اليتيمة في نفسها وإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها"238.
2- عن ابن عمر " أن قدامة بن مظعون زوج ابن عمر ابنة أخيه عثمان فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها"239.
3- أن غير الأب -والجد على مذهب الشافعي- قاصر الشفقة فلا يلي نكاح الصغيرة كالأجنبي.
الترجيح:
قول الجمهور هو الراجح لقوة أدلتهم، كما أن باب الجواز لو فتح فسيكون منفذا لفساد كثير.
أما الآية فمحمولة على البالغة بدليل قول الله تعالى : (تؤتونهن ما كتب لهن( وإنما يدفع إلى الكبيرة240.
الحكم الثاني: حكم النكاح:
أخذ الظاهرية من هذه الآية وجوب النكاح بناء على ظاهر الأمر الذي يفيد الوجوب في قوله تعالى: (فانكحوا(.
وذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا(، والذي صرفه عن الوجوب قوله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً( إلى قوله: (وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ(.
قال الرازي: "فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلا عن أنه واجب"241.
الحكم الثالث: حكم الزواج بأكثر من واحدة:(1/112)
في هذه الآية دلالة على جواز تعدد الزوجات إلى أربع، وعليه أجمع أهل العلم، كما أجمعت الأمة على حرمة نكاح أكثر من أربع242 ولكن الفقهاء اختلفوا من أين يستنبط هذا الحكم هل من القرآن والسنة والإجماع أو من السنة والإجماع فقط .
ذهب الجمهور إلى استنباطه من القرآن والسنة والإجماع :-
1- أما القرآن فمن هذه الآية (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع)(النساء: من الآية3) وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ...درهمين درهمين وثلاثة وثلاثة وأربعة أربعة، وقد انتقد الشوكاني هذا التوجيه وقال:"وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه أما لو كان مطلقا كما يقال:اقتسموا الدراهم ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كثيرا :اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي ومعلوم أنه إذا قال القائل :جائني القوم مثنى وهم ألف كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين ... والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى:( اقتلوا المشركين) فقوله : (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ(معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا هذا ما تقتضيه لغة العرب فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه ... فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن"243.(1/113)
كان هذا هو نقد الشوكاني لاستدلال البعض بالآية على حرمة الزيادة على أربع بيد أن انتقاد الشوكاني لا يسلم من النقاش إذ الآية"تدل كلها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى: (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ((فاطر: من الآية1) أي لطائفة جناحان ولطائفة ثلاثة ولطائفة أربعة والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطول ... كقولك لجماعة:اقتسموا هذا المال درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على حسب أكبركم سناً"244.
ولكن وإن سلم أن الآية تدل على جواز نكاح أربع فقط إلا أن الاستدلال بها على تحريم الزيادة بعيد، لأنها لا تدل بمنطوقها على ذلك الحكم لأن مجرد الاقتصار على أربع ليس كافيا في الاستدلال على الزيادة .
ولهذا جاء دليل السنة فقد ورد فيها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخير أربعا منهن245.
ولصحة وصراحة الحديث أجمع العلماء على حرمة نكاح مازاد على الأربع.
وهنا شذوذان:
الشذوذ الأول: ذهب البعض إلى جواز نكاح تسع باعتبار أن الواو جامعة وجعل مثنى مثل اثنين وهكذا ثلاث ورباع فيكون العدد تسعة فكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور246 ونسبه بان العربي إلى قوم من الجهال ولم يعينهم ونسبه القرطبي إلى الرافضة وبعض أهل الظاهر، وقال الفخر الرازي :هم قوم سدى ولهذا لم يذكر الكثير من العلماء مخالفا أصلاً 247.
وقد وصف القرطبي هذا القول بالجهالة248 وقال الشوكاني فيه:"إنه جهل بالمعنى العربي"249وهو كذلك لما يلي:-
1- أن العرب لا تدع لفظة قريبة مختصرة لتعبر عنها بألفاظ مطولة دون داع، فلم يعرف عن العرب أنها إذا أرادت مثلا تسعة تقول اثنان وثلاثة وأربعة بل تستقبح من يقول هذا ولا يقول تسعة، فالواو هنا بدل أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث .(1/114)
2- أن :مثنى وثلاث ورباع ... إلى عشار كما هو مذهب الكوفيين وخالفهم البصريون فقالوا إلى أربع وقال آخرون منهم إلى ستة إلا أنهم متفقون عل أن صيغتا (فُعال ومُفعل) في أسماء الأعداد معدولة عن واحد واثنين وثلاثة إلى عشرة لزيادة معنى فالعرب تقول :جاء القوم مثنى أي اثنين اثنين فعدلوا عن لفظ :اثنين اثنين ونحوه فقالوا :مثنى، ثلاث،رباع وهكذا.
وقد ذهب آخرون من أهل الظاهر إلى إباحة الجمع بين ثماني عشرة من النساء تمسكا منهم بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع فجعلوا مثنى بمعنى اثنين اثنين وهكذا ثلاث و رباع250، والعجيب الغريب جعل الشوكاني لهذا القول وجها251.
والصواب خطأ هذا القول قال القرطبي فيه:"وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة"252،أما بالنسبة لقولهم مثنى تدل على اثنين اثنين أي أربعة فقط فليس كذلك بل تدل على اثنين اثنين مطلقا ولو إلى ألف لا إلى أربعة فقط ومن هنا قال القرطبي :"إنه جهل باللسان".
الشذوذ الثاني: قول بعض المعاصرين بأن تعدد الزوجات مشروط بالعدل ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً( وبأن القرآن قد نص على عدم استطاعة العدل (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم( وعليه فيحرم على الزوج أن يعدد وهذا الشذوذ ليس من فقيه مسلم بل هو من بعض المتشبهين بالآخر والمتأثرين به، وبما أنهم لا يستطيعون رد هذا الحكم علنا راحوا يبحثون عن تأويلات تضفي على قولهم شيئا من الشرعية، وزيادة في التهويل يحتجون ببعض الحكايات لتعددات فاشلة ويجعلون منها أمثلة لأضرار التعدد!!!
وهذا القول مردود لما يلي:(1/115)
1- أن ربطهم بين الآيتين غير صحيح ويستغلون جهل الناس بالقرآن فلا يذكرون بقية الآية وهي (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ( ويتناسى هؤلاء أن النبي( كان يعدل القسمة بين نسائه ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)، وكان معروفا ميله إلى السيدة عائشة رضي الله عنها.
2- انعقد الإجماع من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا على إباحة التعدد بناء على نص القرآن والسنة، وكفى بهما دليلان فهل هؤلاء اعلم بالشرع من الصحابة وأئمة المسلمين.
3- الاحتجاج ببعض حوادث التعدد الفاشلة غير سديد ويخالف المنطق لأننا سنقول وبنفس هذا المنطق لا يجوز الزواج لأن كثيرا من حالاته اليوم تؤول إلى الفشل بل لقد ارتفعت نسبة الطلاق في بعض دول العرب إلى أكثر من 55% فهل يعني هذا حرمة الزواج؟ فالصواب أن يقال بأن الحل هو زيادة التوعية الدينية وتعريف الزوج بحقوق الزوجات وواجبه تجاههن ونفس الكلام يقال للزوجات، أما التحريم فلا يجرؤ أحد عليه.
4- الغريب أنه بدلا من أن يكون هذا التشريع شيئا يفاخر به المسلم لأن فيه حلا لمشاكل اجتماعية عديدة لعل من أهمها مشكلة العنوسة والتي وصلت إلى نسب هائلة كالثلاثينات والأربعينات في المائة، وبلغ عدد العوانس الملايين ففي الجزائر وحدها يفوق عدد العوانس الـ 11 مليونا، وفي مصر العشرة ملايين، والسؤال أين يذهبن هؤلاء؟ أليس من حقهن أيضا الزواج والأمومة؟ أم هي حكر على الزوجات الغاضبات؟
أليس في التعدد حلا ولو جزئيا لهذه المشكلة التي قد تودي بالمجتمع ويفشوا فيه الجرائم والموبقات، أم أن هذه الجرائم شؤون شخصية ومباحة، والتعدد مذمة وقبح.
لقد راع بعض النساء هذه الأعداد الضخمة من العوانس فقامت بتأسيس جمعيات تدعو للتعدد وتشجع عليه لضرورته الملحة للمجتمع.
وبقي أن أشير إلى نقاط:(1/116)
الأولى: ليس إباحة التعدد مقصورا على حالات مرض الزوجة الأولى أو كبر سنها أو نحو هذا الكلام الذي يذكره البعض لسبب أو لآخر، بل التعدد مباح مطلقا حتى وإن كانت الأولى سليمة معافاة لا عيب فيها، لأن الشرع لم يقيد بهذه القيود، فلا نقيده نحن، ثم هل كانت زوجات الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ذوات الأعذار!!!
الثانية: أن الحديث عن الزوجات الحزينات وما تجره الزيجة الثانية من كمد وضيق وغضب للأولى كل هذا وغيره يقال بغرض تشويه هذا الحكم وهو زعم مبطن بأنه تشريع جائر، وهذا فيه ما فيه، ومع هذا نقول لماذا لا تنظرون إلى الطرف الآخر من النساء يا من يطالب بحقوق النساء، ما حال العوانس والأرامل وغيرهن؟ ألسن أهلا لأن تنظرن إلى حالهن أيضا؟ أم أن المسألة هنا تتعلق بتشريع إسلامي؟
ثم هذه الحادثة بالنسبة للزوجة الأولى تدخل في دائرة الابتلاء والاختبار التي تقوم عليها الدنيا برمتها، والابتلاءات تختلف باختلاف الناس والأجناس، ولله أن يبتلي عباده بما أراد وكيف أراد.
الثالثة: أن التعدد حكم شرعي لا يجوز لأحد أن ينكره كما لا يجوز لأحد أن يلتف عليه، والنفس قد تكره أحيانا بعض التكاليف قال تعالى في شأن القتال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم( ولكن لا يتم الإيمان إلا بالتسليم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً(النساء65(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً( الأحزاب36.
الحكم الرابع: الاقتصار على واحدة عند خوف العدل:(1/117)
دل قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ( على أن من علم من نفسه أو خشي عدم عدله بين زوجاته في النفقة والقسم الاقتصار على واحدة أو على ملك اليمين وأنه أولى وأفضل لأنه أقرب إلى عدم الجور.
وجوب إيتاء الصداق
(وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئا(4)ً(
اختلف في توجه الخطاب على قولين:
1- الأزواج : أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم .
2- الأولياء: فقد كان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن .
قال القرطبي: "والأول أظهر فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد لأنه قال : (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى( إلى قوله : (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة( وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر"253.
والنحلة هي العطية، فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة وقيل : نحلة أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع وقال قتادة : معنى نحلة فريضة واجبة، ولا تعرض بين الأقوال فالنحلة عطية من الله فرضها على الزوج يعطوها لزوجاتهم من غير تنازع.
ثم أباح الله للأزواج ما طابت به نفوسهن أي عن رضا كامل لا يشوبه سخط وهذا هو سر التعبير بالطيبة، دون الهبة أو الإعطاء، لأن الزوج قد يمارس ضغوطا متنوعة كي يجعل الزوجة توافق على إعطائه المال فتعطيه محرجة أو لترتاح من ضغوطه، أو سوء خلقه ومعاشرته.
بيان الأحكام:
1- هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه254.
2- أن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع لأن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء255.(1/118)
3- يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها أو جزءا منه سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة فشمل ذلك الهبة والإبراء256.
4- يحل للزوج أخذ ما وهبت زوجته بالشرط السابق وهو أن يكون عن طيبة من نفسها وليس عليه بعد ذلك تبعه في الدنيا أو الآخرة257.
5- تدل الآية بعمومها على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة وبه قال جمهور الفقهاء ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها.
6- اتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها ولا رجوع لها فيه إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه واحتج بقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا قال ابن العربي : وهذا باطل لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها إذ ليس المراد صورة الأكل وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال وهذا بين258.
الحجر على السفيه
(وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً{5}(
معاني الكلمات:
- السفهاء: أصل السفة الخفة والحركة، والمراد هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله أو يبذره في غير الطرق المشروعة.
- قياما: مصدر قام ، أي تقوم بمعاشكم.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: ما المراد بالسفهاء في هذه الآية؟
في المراد بالسفهاء خمسة أقوال
1- أنهم النساء قاله ابن عمر
2- النساء والصبيان
3- الأولاد الصغار
4- اليتامى
5- القول على إطلاقه والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه.
قال ابن جرير: " والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } فلم يخصص سفيها دون سفيه فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا كان أو أنثى(1/119)
والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق الحجر بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره"259.
الحكم الثاني: وجوب المحافظة على المال:
في هذه الآية دلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره وحسن القيام عليه حيث قد جعله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الامور وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن260.
الحكم الثالث: الحجر على السفيه:
استدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب الحجر على السفيه لأن الله نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد ويبلغوا سن الإحتلام كما في الآية التالية.
وأسباب الحجر هي: الصغر، والجنون والسفه والإفلاس، وكلها مبينة في الكتب الفقهية.
الحكم الرابع: ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً(:
الحكم هنا يعود إلى المراد بالسفهاء سابقا وعلى ترجيح الطبري بأن المراد به العموم فنقول تجب النفقة على الزوج لزوجته، وعلى ولي مال اليتيم على اليتيم وعلى الأب لابنه وعلى أولياء المحجور لمحجورهم.
أما قوله تعالى : (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( أراد تليين الخطاب والوعد الجميل واختلف في القول المعروف فقيل : معناه ادعوا لهم : بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم وأنا ناظر لك وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك وقيل : معناه وعدوهم وعدا حسنا أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك261.(1/120)
(وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً{6}(
معاني الكلمات:
(وابتلوا) اختبروا
(اليتامى) قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أحوالهم
(بلغوا النكاح) أي صاروا أهلاً له .
(آنستم) أبصرتم .
(رُشْداً) صلاحاً
(إسرافا) بغير حق حال
(وبداراً) أي مبادرين إلى إنفاقها مخافة أن يكبروا وينتزعوا المال
(أن يكبروا) رشداء
بيان الأحكام:
الحكم الأول: متى يسلم لليتيم ماله؟
لما أمر الله بإيتاء اليتامى أموالهم بقوله: (وآتوا اليتامى أموالهم( شرع في تعيين وقت تسليمهم أموالهم وبيان شرط ذلك الدفع، فأمر الأولياء باختبار اليتامى في عقولهم وأحوالهم حتى إذا علموا منهم بعد البلوغ أن لهم فهما وعقلا وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد دفعوا إليهم أموالهم.
واتفق أبو حنيفة والشافعي على أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ وتشهد لهم الغاية، ويحكى عن مالك أنه بعد البلوغ262.
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء: الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض، والحمل.
وعموم اللفظ يتناول ذكور اليتامى وإناثهم، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الأمر فيهم واحد لكن مالك خالف في سن رشد المرأة فقال لا بد من دخول زوجها عليها ومضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال، واختلف المالكية في هذا التحديد: عام -عامان- سبعة أعوام، قال ابن العربي: وليس في تحديد المدة دليل263.(1/121)
وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال، وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس أما مخالفتها النص فإنهم لم يشترطوا الرشد وأما مخالفتها للقياس فلأن الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة264.
أما كيفية الاختبار فيكون بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثال اليتيم فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء فإذا تكررت منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يده فهو رشيد وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواقعها ويستوفي على وكيله ويستقصى عليه فهو رشيد والمرأة يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء وأشباه ذلك فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيده265.
ويشترط تكرر الاختبار مرتين أو أكثر بحيث يغلب على الظن رشده فلا يكفي مرة لأنه قد يصيب فيها اتفاقا ووقته266.
وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سن الاحتلام ويؤنس منه الرشد فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال لهذه الآية، ولأبي حنيفة خلاف سيأتي.
بيد أن الشافعي يجعل الرشد صلاح الدين والمال وأبو حنيفة يخصه بصلاح المال فقط، وبكلا القولين قال ناس من المفسرين، وسبب الخلاف يرجع إلى معنى الرشد.
الحكم الثاني: الحجر على الكبير:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيها.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمسا وعشرين سنة سلم له ماله سواء كان رشيدا أو غير رشيد.
والراجح قول الجمهور لأن المدار على السفه لا على السن، وما يحكى من أن أبا حنيفة قال بأنه يصير في هذه السن جدا وهو يستحي أن يحجر على جد حجة غير سديدة لأنه لا علاقة بالجدودة بما نحن فيه.(1/122)
ثم إن الصبي إنما منع منه ماله لفقدان العقل الهادي إلى حفظ المال وكيفية الانتفاع به فإذا كان هذا المعنى قائما بالشيخ والشاب كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما ما لم يؤنس منهما الرشد267.
ولهذا قال القرطبي بأن هذا التعليل يدل على ضعف هذا القول268.
الحكم الثالث: هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟
في قوله تعالى: ( وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ( تقسيم الأوصياء إلى صنفين:
1- غني: أمره الله بالاستعفاف.
2- فقير: يجوز له الأكل من مال اليتيم بالمعروف
ولكن وقع بين أهل العلم خلاف في دلالة هذه الآية نذكرها في الأحكام اللاحقة.
الحكم الرابع: استعفاف الغني:
العفة : الامتناع عما لا يحل، وقد اختلف أهل العلم في دلالة أمر الغني بالاستعفاف على قولين:
القول الأول: الوجوب: فلا يجوز للغني أن يأخذ من مال اليتيم بأي حال من الأحوال.
القول الثاني: الندب: أي الأفضل له ألا يأخذ، فإذا ما أخذ يجوز له ويكون أجرة في مقابل العمل، أي إذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة أما إذا كان عمله مجرد التفقد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له269.
الحكم الخامس: هل يجوز للفقير الأكل من مال اليتيم؟
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: لا يجوز له الأكل مطلقا، واستثنى أبو حنيفة وصاحباه من المنع حالة السفر فقالوا: لا يأخذ إلا إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر.
وافترق هؤلاء في تأويل هذه الآية إلى أقوال:
الأول: إن له أن يأخذ من مال اليتيم قرضا بقدر ما يحتاج إليه ثم إذا أيسر قضاه وهذا قول ابن جبير ومجاهد.
الثاني: ذهبت إلى أن ذلك حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وهو بعيد لا ينتظم مع قوله: (ومن كان غنيا فليستعفف(.(1/123)
الثالث: ادعى نسخ هذه الآية بقوله تعالى بعدها: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما(270 وهذا مروي عن ابن عباس قال ابن الجوزي: "ولا يصح"271.
القول الثاني: يجوز للفقير الأكل بالمعروف من مال اليتيم وهذا قول الجمهور.
وحجتهم الآية الكريمة.
المناقشة والترجيح:
ما قاله الجمهور هو الراجح بنص القرآن، وادعاء النسخ بعيد لعدم التعارض بين الآيتين "وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الكل وهو أن يأكل الوصي الفقير من مال محجوره بالمعروف، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته، لأنه إذا لم يعط الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره"272.
الحكم السادس: معنى الأكل بالمعروف:
في الأكل بالمعروف أربعة أقوال:
أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض وهذا مروي عن عمر وابن عباس.
والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف وهذا مروي عن ابن عباس والنخعي
والثالث: أنه الأخذ بقدر أجرة المثل وهو مذهب مالك273.
والرابع: له أقل الأمرين من أجرته أو قدر كفايته، وهذا مذهب الشافعي274 وأحمد275.
وعلل بأن الوصي يستحقه بالعمل والحاجة جميعا فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه.
الحكم السابع : هل على الفقير الآكل الضمان إذا أيسر؟
ذكرنا أن للفقير الذي لا يجد ما يكفيه وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف، ولكن هل عليه الضمان إذا أيسر أقوال:
القول الأول: أنه لا ضمان عليه وهو قول الشعبي والنخعي.
وعلل قولهم بأن الله تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عوض، بل هو عوض عن عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب276.
القول الثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء روي عن عمر وغيره.
وعلل هذا القول بأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره277.(1/124)
القول الثالث: وهو للإمام أحمد وهو التفريق بين الأب وغيره، فإن كان أبا لم يلزمه عوضه رواية واحدة، لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها، وإن كان غير الأب روايتان278.
الحكم الثامن: الإشهاد على تسليم المال لليتيم:
قوله تعالى : (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم( أي : إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم.
وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم .
وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم .
وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعم الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد279.
والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب وبكل قالت طائفة من العلماء لم يسم أصحابها : فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحق الوصي كان الإشهاد مندوبا، لأنه حقه فله أن لا بفعله .
وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقطع الخصومات كان الإشهاد واجبا نظير ما تقدم في قوله تعالى ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق، لأن ذلك أقوم لنظام المعاملات، وأيا ما كان فقد جعل الوصي غير مصدق في الدفع إلا ببينة عند مالك280 والشافعي281 لهذه الآية، ولأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي ائتمنه كالوكيل بدفع المال إلى غيره لا يصدق إلا ببينة.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه أنه يصدق، وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره صدق في نفقة مثله وكذلك لو قال هلك المال282، وعلله الجصاص بأنه بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة283.(1/125)
(لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً( النساء7
هذا شروع في بيان أحكام المواريث التي تضمنتها الآيات التالية لهذه الآية بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث.
وسبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه يقال لهما قتادة وعرفطة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك وشكت الفقر فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس.
وقال قتادة وابن جبير أن الجاهليين ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة وللرد عليهم نزلت هذه الآية.
قال ابن عاشور: ومناسبة تعقيب الآي السابقة بهذه الآية أنهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشداء بالأموال وحرمان الضعفاء وإبقاءهم عالة على أشدائهم حتى يكونوا في مقاتهم فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه فكانوا لضعفهم يصبرون على الحرمان ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم، لأنهم إن نازعوهم طردوهم وحرموهم فصاروا عالة على الناس.
وأخص الناس بذلك النساء فإنهن يجدن ضعفا من أنفسهن ويخشين عار الضيعة ويتقين انحراف الأزواج فيتخذن رضا أولياءهن عدة لهن من حوادث الدهر، فلذا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم وعقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون، فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه مما ترك له الوالدان والأقربون وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم مما ترك الوالدان والأقربون وذكر النساء هنا تمهيدا لشرع الميراث284.(1/126)
وظاهر الآية يشهد للحنفية القائلين بتوريث ذوي الأرحام لأن العمات و الخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ...( فثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فمستفاد من دلائل أخر كما هو الحال في غيرهم285.
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (
المراد بالقرابة هنا غير الوارثين وكذا اليتامى والمساكين286 والمعنى : أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يعطونه، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم287.
وقد اختلف العلماء في كون هذه الآية منسوخة أو محكمة، فذهب جمهور المفسرين إلى أنها محكمة وذهب ابن المسيب والضحاك إلى أنها منسوخة بآية المواريث، وقيل آية المواريث والوصية، وقيل نسختها الزكاة288، ومآل هذا الأقوال إلى موافقة قول الجمهور أهل العلم289.
ثم اختلف الجمهور في الأمر هنا هل هو للوجوب أو للندب:
القول الأول: الوجوب، فيجب الصلة بما طابت به أنفس الورثة عند القسمة وبه قال الحسن والزهري.
القول الثاني: الندب، وبه قال الجمهور.
وعللوه بأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة، ومشاركة في الميراث لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة وسبب للتنازع والتقاطع290.
ويدل على صحة قول الجمهور إجماع الأمة على أنهم إذا لم يحضروا القسمة لا يرزقون شيئا كما اقتضاه الخطاب في الآية، ولو كان واجبا لوجب لهم وإن لم يحضروا كسائر الفرائض الواجبات.(1/127)
ولأنه لو كان واجبا لكان مقدرا محدودا كسائر الفرائض الواجبات فدلنا ذلك على أنه على الندب291.
أما القول المعروف فهو: ألا يتبع العطية بالمن والأذى بالقول وبأن يعتذر لمن لا يعطيه شيئا292.
هذا وقد ذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية لا الورثة وروي عن ابن عباس و سعيد بن المسيب، فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه293.
(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( النساء15
معنى الآية:
والنساء اللاتي يزنين من نسائكم فأشهدوا على زناهن أربعة من رجالكم، فإن شهدوا بذلك فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهن ملك الموت أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.
وقد كان ذلك أول الأمر ثم جعل الله لهن سبيلا، وفي هذا إشارة إلى أن إمساكهن في البيوت زجر مؤقت سيعقبه حكم آخر، وهو الجلد والرجم وثبت في مسلم من حديث عبادة أن رسول الله( قال : "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".
(وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً{16}(
اختلف في المراد باللذين يأتيان الفاحشة على أقوال:
1- الرجل والمرأة البكران.
2- الرجلان الزانيان.
3- الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب.
والمختار أنهما الرجل والمرأة البكران، أما أنه لم يرد الرجلين فلأنه قال: واللذان والعرب تعبر في مثل هذا إما بالمفرد وإما بالجمع و تعبر بالتثنية إلا إذا كان الفعل لا يكون إلا من إثنين كالزنى وأرادت أن تبين حكم الفاعل والمفعول.(1/128)
وأما أنهما بكران دون الثيبين فلأن الله ذكر حكمين: أحدهما: الحبس في البيوت والثاني الإيذاء ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني، والشرع يخفف في البكر ويشدد في الثيب ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب والحكم الأخف وهو الإيذاء على البكر294.
وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور فجعل حكم الزانيين البكرين جلد مائة.
وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ -بناء على مذهبه المعروف- لحكم الآيتين بل الآية التي قبل هذه في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس .
وهذه الآية في اللائطين وحدهما الإيذاء، وأما حكم الزناة فبين في سورة النور .
وزيف هذا القول لما يلي:
1- بأنه لم يقل به أحد .
2- انه لا أمكان له في الأولى ويأباه الأمر باستشهاد الأربعة فإنه غير معهود في الشرع فيما عدا الزنا295
3- بأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك
4- جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له، لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتي يأتين الفاحشة الزانيات296
هذا وقد اختلف المفسرون في تفسير الأذى على أقوال:
1- التوبيخ والتعيير
2- السب والجفاء من دون تعيير .
3- النيل باللسان والضرب بالنعال297.
توبة الزاني هل تسقط الحد؟
اختلف الفقهاء فيما لو تاب الزاني قبل أن يقام عليه الحد هل يسقط بسبب هذه التوبة؟ قولان:
القول الأول: يسقط الحد، وهو أحد قولي الشافعي ورواية عن أحمد298.(1/129)
وحجته هذه الآية في قوله تعالى: (فإن تابا فأعرضوا عنهما( فالله أمرنا بالإعراض عنهما إذا تابا، ولو كان واجبا لم يسقط، ولما أمرنا بالإعراض.
القول الثاني: لا يسقط الحد بالتوبة، وهو قول الثلاثة والشافعي في الجديد.
وحجتهم قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما(.
ولكن أجيب بأنه لا يدل على المدعى لأنه مطلق وهذا مقيد بالتوبة والمقيد قاض على المطلق.
ولكن لا تكفي التوبة فقط بل لا بد أن يضم إليها الإصلاح أي في العمل، ولما أطلق سبحانه الإصلاح في الأزمان ولم يقيده فوجد أن الشرع قد قدر حولا في فراق الأمر المألوف امتحانا للإنسان فغرب البكر إذا زنى عاما فاستدل بذلك على أن من ادعى نفي نفسه عن مألوفها وشهوتها فلا بد من امتحانه بعام299.
قال الموزعي: "وظاهر اطلاق الآية أن التوبة تسقط الحد سواء تاب قبل الوصول إلى القاضي أو بعده، وفيه خلاف واتباع الظاهر أولى وأليق بباب الحدود"300.
من مظاهر إكرام المرأة
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً( النساء19
كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحق يعتدى عليها بأنواع من الاعتداء فرفعها الله من تلك الهوة التي كانت فيها وقرر لها حقوقها ونهى عن الاعتداء عليها فكان ذلك من أنعم الشريعة الإسلامية على المرأة.
بيان الأحكام:
وقد اشتملت هذه الآية على جملة أحكام مهمة .
الحكم الأول: وراثة النساء كرها:(1/130)
لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الإستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن301 فقد كان الرجل في الجاهلية يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه لا تستطيع أن تمتنع فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها وإن كره فارقها وإن كان صغيرا حبست عليه حتى يكبر فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها أو زوجها من أحب وأخذ مهرها فكانوا يرثونها كما يرثون المال، فأنزل الله هذه الآية فبين بذلك أنها ليست متعا يورث.
والمعنى على هذا: لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم وهن لذلك كارهات.
فترك ذكر الآباء والأقارب والنكاح ووجه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى الكلام إذ كان مفهوما معناه عندهم.
واخرج ابن جرير عن الزهري أنه هذه الآية نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه فيمسكها حتى تموت فيرثها302.
والظاهر الأول لأن مآل الثاني بيان أنهم ليسوا من ورثتها وذلك معلوم من آيات الميراث فإنها بينت من ترث بخلاف حمله على المعنى الأول فإنه يؤدي معنى جديدا303.
الحكم الثاني: حرمة عضل المرأة:
العضل لغة هو المنع، وقد اختلف العلماء فيمن خوطب بقوله (ولا تعضلوهن( على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال:
1- أن الرجل كان يكره صحبة امرأته ولها عليه مهر فيحبسها ويضربها لتفتدي قاله ابن عباس.
2- أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ويشهد على ذلك فإذا خطبت فأرضته أذن لها وإلا عضلها قاله ابن زيد
3- أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون كما كانت الجاهلية تفعل أي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يراجعها ثم يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية يقصد إضرارها حتى نزلت الطلاق مرتان البقرة 229فنهوا عن ذلك روي عن ابن زيد أيضا.(1/131)
القول الثاني: أنه خطاب للأولياء ثم في ما نهوا عنه قولان:
1- أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة ألقى عليها ثوبه فلم تتزوج أبدا غيره إلا بإذنه قاله ابن عباس
2- أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل فيحبسها حتى تموت أو تتزوج بابنه قاله مجاهد أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج ليرثوهن روي عن مجاهد أيضا
القول الثالث: انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها( كان الرجل يرث امرأة قريبة فيعضلها حتى تموت أو ترد عليه صداقها، وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله أن ترثوا النساء304.
والفاحشة قيل هي الزنا وقيل النشوز والأولى أن تعم كل ذلك305.
قال بعضهم كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ زوجها ماساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحد قال ابن جرير وهذا القول ليس بصحيح لأن الحد حق الله والافتداء حق للزوج وليس أحدهما مبطلا للآخر والصحيح أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت من زنى الفرج أو بذاءة اللسان جاز له أن يعضلها حتى تفتدي306.
الحكم الثالث: وجوب معاشرة الزوجة بالمعروف:
لقد وضع الخالق سبحانه قاعدة عظيمة في التعامل بين الزوجين، وهي في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً((النساء: من الآية19)
وللمفسرين في معنى المعاشرة أقوال أجملها فيما يلي:-
القول الأول: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم، وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحبون ذلك منهن، فافعلوا أنتم بهن مثله(307).
القول الثاني: النصفة في المبيت، والنفقة، والإجمال في القول(308).
القول الثالث: أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب، وما جرى مجرى ذلك(309).(1/132)
أي: "وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهن بما تألفه طباعهن، ولا يستنكره الشرع ولا العرف، ولا تضيقوا عليهن في النفقة، ولا تؤذوهن بقول ولا فعل، ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين"(310).
والمعاشرة بالمعروف واجبة بنص الآية؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب، وقد دلت السنة على ذلك أيضاً، فقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"استوصوا بالنساء خيراً"(311)(312).
الحكم الرابع: الخلع بأكثر من المهر:
أخذ الشعبي وغيره من قوله تعالى: (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن( عدم جواز الافتداء إلا ببعض المهر.
وذهب الجمهور إلى جواز أخذ مال أزيد مما آتاها لقوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ(.
وأجابوا عن التقييد بالبعضية هنا بأنه جري على الغالب في الوجود فإن المرأة لا تختلع إلا بدون ما تأخذ غالبا، قال الموزعي: "وهو خلاف الظاهر ولكنا عدلنا إليه للدليل الذي قدمناه في سورة البقرة"313.
(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً{20} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{21}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول: أخذ الزوج مهر زوجته:
كان من ظلم الرجال للنساء أن الرجل إذا أراد طلاق امرأته استرد ما دفعه من مهر وربما توسل إلى ذلك برميها بالفاحشة أو تهديدها بذلك فنهى الله عن ذلك في هاتين الآيتين وجعله بهتانا وإثما مبينا وأنكر عليهم أخذه ووبخهم على ذلك بعد أن أفضوا إليهن وأخذن منهم ميثاقا غليضا314، وهو ما أمر الله به من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان.
وخلاصة ما ورد في شأن أخذ الزوج من المهر يتلخص فيما يلي:
1- إذا أتين بالفاحشة يحل للزوج أخذ المال.(1/133)
2- إذا لم يأتين بفاحشة فيحل إذا خافا ألا يقيما حدود الله كما في آية سورة البقرة.
3- لم يأتين بفاحشة ولم يخافا ألا يقيما حدود الله فلا يحل للأزواج الأخذ كما بينه الله في هذه الآية، فحرمه تحريما مطلقا وقد علمنا أن الله سبحانه إنما أراد تحريم ذلك إذا لم يأتين بالفاحشة المبينة وإذا لم يخافا ألا يقيما حدود الله فإطلاق هذه الآية مقيد بالتي قبلها وبآية البقرة315.
الحكم الثاني: المغالاة في المهور:
في قوله تعالى : (وآتيتم إحداهن قنطارا( الآية دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح، وهنا تحكى قصة وهي أن عمر خطب فقال :ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا( فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر316، وقد وقع الإجماع على أن المهر لأحد لأكثره بحيث تضير الزيادة على ذلك الحد باطلة للآية، ولا تعارض بين هذه الآية والأحاديث الحاثة على عدم المغالاة في المهور لأن الآية هنا تفيد الجواز أما الأفضل والأولى فهو ما دلت عليه السنة من التيسير في المهر.
الحكم الثالث:الخلوة الصحيحة هل تقرر المهر؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يستقر عليه مهرها ووجبت عليها العدة وإن لم يطأ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وحجتهم:
1- قوله تعالى: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض( ونقلوا عن الفراء أنه قال : الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل، قال ابن قدامة: فإن الإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو الخالي فكأنه قال وقد خلا بعضكم إلى بعض.
2- إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقد قضى بها الخلفاء الأربعة ولم يعلم لهم مخالف.(1/134)
القول الثاني: لا يستقر إلا بالوطء، وبه قال الشافعي.
وحجتهم ما يلي:
1- قول الله تعالى : (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم( وهذا قد طلقها قبل أن يمسها .
2- قوله تعالى : (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض( والإفضاء الجماع
3- أنها مطلقة لم تمس أشبهت من لم يخل بها317.
حرمة نكاح زوجة الأب
(وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً{22}(
دلت هذه الآية على أنه تحرم على الرجل امرأة أبيه قريباً أو بعيداً وارثاً أو غير وارث من نسب أو رضاع، والنكاح يراد به هنا العقد، "وسواء كان الأب دخل بها أو لا، لأن اسم النكاح يقع على العقد والوطء فتحرم بكل واحد منهما"318.
وسبب نزول الآية ما جاء عن "ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} وقوله تعالى {إلا ما قد سلف} معناه أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل غير ذلك.
المحرمات من النساء بسبب النسب
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ(
نصت هذه الآية على المحرمات من النسب وهن:
1- الأم: وهو اسم لكل أنثى لها عليك ولادة فيدخل في ذلك الأم وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون .
2- البنت: وهو اسم لكل أنثى لك عليها ولادة وإن شئت قلت : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن
3- الأخت: اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما .(1/135)
4- العمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما وإن شئت قلت : كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب أمك.
5- الخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما وإن شئت قلت : كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك .
6- بنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة .
7- بنت الأخت: اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة .
هؤلاء هن المحرمات من النسب تأبيدا بالنص والإجماع ،وقد ضبط بعض العلماء هذه المحرمات:-
ا- فقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وأما المحرمات بالنسب فالضابط فيه أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا بنات أعمامه وأخواله وعماته وخالاته "319
ب- وقال أبو إسحاق الإسفراييني حيث قال:"تحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول .
فالأصول الأمهات والفصول البنات وفصول أول الأصول الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول العمات والخالات320
ج- وقال أبو منصور البغدادي حيث قال:"تحرم نساء القرابة إلا من دخلت في اسم ولد العمومة أو ولد الخؤولة "321.
وهذا الضبط أرجح :-
1. لأنه أكثر إيجازا.
2. أن ضبط الشيخ أبي إسحق لا ينص على الإناث، لأن لفظ الأصول والفصول يتناول الذكور والإناث .
3. أن الأليق بالضابط أن بكون أقصر من المضبوط322
4. "لمجيئه على نمط قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ((الأحزاب: من الآية50) فدل على أن ما عداهن من الأقارب ممنوع"323.(1/136)
وقد عبروا عن أصول الرجل بأنه من ينسب الرجل إليه بالبنوة وعن فصوله بأنه من ينسب إلي الرجل بالأبوة وأن فصول أول أصوله بمعنى الأخوات وأولادهن وبنات الأخوة
طبقات القرابة:-
وفي الآية التي ذكر فيها التحريم من جهة النسب نجد أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب فحرم أولا" أصول الإنسان عليه وفصوله وفصول أصوله الأولى بلا نهاية وحرم فصول فصوله بلا نهاية وحرم فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية وهو أولاد الأخوة والأخوات وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح وهو أولاد الجد وأبو الجد فإن التحريم مقصور وابنة الخال على أول فصل فابنة العم وابنة العمة وابنة الخال حلال"324
ومن هذا يمكن أن نلخص أقسام المحرمات من النسب في أربع طبقات :-
1. الأصول مهما علوا فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون
2. الفروع مهما نزلوا فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا
3. فروع أبويه مهما نزلوا فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات أخته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته.
4. الفروع المباشرة لأجداده فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه، وعمة أمه، وعمة جدته لأبيه أو أمه أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم ولذلك يباح التزواج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال و الخالات325.
نكاح البنت من الزنا:
وقد اختلف في البنت من الزنا أهي داخلة في قوله: (وبناتكم( قولان:
القول الأول:عدم حرمة نكاح البنت من السفاح مطلقا وهو مذهب الشافعي
وعندهم وجه بالحرمة إذا تحقق أنها من ماء زناه ويضربون مثلا للتحقق بأن يخبره بذلك نبي كعيسى إذا كان في زمنه326
هذا وعمم الشافعية الحكم في صور كثيرة فقد جاء في حاشية البيجوري ما لفظه:"ومثل المخلوقة من ماء زناه المخلوقة من ماء استمنائه بغير يد حليلته ومثلها أيضا المرتضعة بلبن الزنا"327(1/137)
وتتلخص أدلة الشافعية فيما يلي:-
1. أن الشرع قطع النسب بينها وبينه .
2. قاعدة الحرام لايحرم الحلال.
3. لا حرمة لماء الزنا بدليل انتفاء سائر الأحكام عنها.
4. في القول بالحرمة تبعيض للأحكام إذ كيف يقال تحرم عليه لأنها بنته ويقال لا تنتسب إليه ولاترث منه فهذا تبعيض غير مقبول لأنه إما أن يجعل لها أحكام البنت كلها أو ينفيها كلها.
ولكن مع قول الشافعية بالحل إلا أنهم كرهوه واختلفوا في توجيه هذه الكراهة فقيل خروجا من الخلاف وهذا ما اختاره السبكي وذكره الرملي في شرحه على المنهاج مقتصرا عليه فقال:"نعم يكره له نكاحها خروجا من الخلاف".
وقيل لاحتمال كونها منه فإن تيقن أنها منه حرمت وهو اختيار جماعة من الشافعية منهم الروياني328 .
القول الثاني:حرمة نكاح البنت من السفاح وهو مذهب الجمهور.
وحجتهم ما يلي:
1. أنها مخلوقة من مائه فكانت بنته حقيقة.
2. قوله تعالى:(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم)وهي بنته وهذه الحقيقة لا تختلف بالحل والحرمة.
3. أنها بضعة منه.
4. لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه أباح أن ينكح الرجل بنته من الزنا329
5. مما يدل على حرمة البنت من الزنا حرمت البنت من الرضاعة بل تحريم بنت الزنا أولى330
المناقشة والترجيح:-
مما سبق يتبين رجحان مذهب الجمهور وهو حرمة نكاح البنت من الزنا ويجاب على أدلة قول الشافعية في تجويزهم ذلك بما أجاب به الجمهور:-
1. أن الشرع إنما قطع النسب بينها وبينه لما في الإضافة إليه من إشاعة الفاحشة وهذا لا ينفي النسبة الحقيقة، لأن الحقائق لامرد لها.
2. أما علة انتفاء سائر الأحكام عنها فيقال فيه مثل ما سبق.
3. قولهم إن في ذلك تبعيض للأحكام يجاب بأنه لامانع منه حيث بعض الشارع ويقال أيضا إن النسبة الحقيقية ثابتة إلا أن الشرع اعتبر في الإرث ثبوت النسب شرعا لجريان الإرث والنفقة فمن ادعى ذلك في النكاح فعليه الدليل كماأن تخلف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنته331(1/138)
المحرمات من النكاح بسبب الرضاع
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ(
بعد أن ذكر الله المحرمات بسبب النسب أعقبه بذكر المحرمات بسبب الرضاع، ولم يذكر في القرآن من المحرم بالرضاع إلا الأم والأخت، فالأم أصل والأخت فرع فنبه تعالى بذلك على جميع الأصول والفروع.
تعريف الرضاع:-
الرضاع لغة:مص الثدي ونقول الرضاع والرضاعة بفتح الراء وكسرها332.
واصطلاحا: وصول لبن امرأة أو ما حصل منه الغذاء في جوف طفل في الحولين333 .
والرضاع ينشر الحرمة كما ينشره النسب كما نصت عليه الآية الكريمة إذ" سمى المرضعة أٌما للرضيع وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها"334لكن هذا "فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر والخلوة والمسافرة ولكن لا يترتب عليه باقي أحكام الأمومة من التوارث، ووجوب الإنفاق، والعتق بالملك والشهادة والعقل، وإسقاط القصاص"335لأن النسب أقوى من الرضاع، فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما يشه به فيما نص عليه فيه 336كما أن هناك صورا من الرضاع يحل النكاح فيها دون النسب.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: رضاع الكبير :-
اختلف أهل العلم في رضاع الكبير هل يحرم أولا قولان:-
الأول: أن رضاع الكبير لايحرم وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم .
الثاني: أنه يحرم وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء وقد عزا ابن رشد الحفيد هذا المذهب إلى داود وأهل الظاهر
استدل أصحاب هذا القول بحديث سالم والذي رواه مسلم أن أم سلمة قالت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :إنه يدخل علي الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي .
فقالت عائشة :أمالك في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة(1/139)
وقالت:إن امرأة أبي حذيفة قالت:يارسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :أرضعيه حتى يدخل عليك
فهذا الحديث قد عارضه حديث عائشة السابق أنها قالت:دخل علي رسول الله وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه فقلت يارسول الله :إنه أخي من الرضاعة قال:انظرن إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة "
قال ابن رشد فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال:لايحرم اللبن الذي لا يقوم للرضيع مقام الغذاء ...ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال :يحرم رضاع الكبير "337.
مناقشته:-
ناقش الجمهور هذا القول وحاولوا دفعه وكان لهم في ذلك مسالك كمايلي:-
المسلك الأول:القول بأن هذا خاص بسالم وهذا مسلك الإمام الشافعي فقد قال في الأم:"هذا والله أعلم في سالم مولى أبي حذيفة خاصة"338ودلل على قوله هذا بقول أم سلمة:وكان ذلك في سالم خاصة" وقال:"وإني قد حفظت عن عدة ممن لقيت من أهل العلم أن رضاع سالم خاص ثم قوى قوله بنقل أقوال عن الصحابة كقول عمر :"إنما الرضاع رضاع الصغير "وعن ابن عمر أنه كان يقول :"لا رضع إلا لمن أرضع في الصغر"339.
المسلك الثاني:القول بجواز ذلك ثم نسخ بما جاء من أحاديث من أن الرضاع لا يحرم إلا في الصغر كحديث:" لا رضاع بعد الفصال"340وغيره مما سبق ذكره.
فهذا الحديث وغيره وكذا الآثار التي وردت عن الصحابة تفيد اتفاقهم على النسخ341، وهذا مسلك الحنفية ولما ورد على مسلكهم قول أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصيص وجهوه بقولهم:"لعل سببه ما تضمنه مما يخاف أصول الشرع حيث يستلزم مس عورتها بشفتيه فحكمن بأن ذلك خصوصية"342.(1/140)
المسلك الثالث:وهو تضعيف الحديث فقد أعله صاحب الجوهر النقي بالاضطراب سندا ومتنا، وقال في هذا الشأن :"ثم إنه حديث مضطرب الإسناد والمتن، فقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لها :أرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك"343.
القول الثالث: وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشوكاني أن رضاع الكبير يحرم في الحالات التي تشبه حالة سالم مولى أبي حذيفة وذلك للحاجة قال ابن تيمية:"ورضاع الكبير تنتشر به الحرمة من حيث الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت بحيث لا يحتشموا منه للحاجة لقصة سالم مولى أبي حذيفة"344قال الفقيه الشوكاني :"وهو الراجح عندي"345.
هذا وقد ناقش ابن القيم في الزاد قول المحرمين مطلقا ورد على مسلكي النسخ والتخصيص السابقين في دفع الحديث بما ملخصه:-
1. أن القائلين بالنسخ لم يأتوا بحجة سوى الدعوى فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم الأخر بينه وبين تلك الأحاديث ولو قلب أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة لكانت نظير دعواهم .
2. أما القائلون بالخصوصية لسالم دون من عداه وهذا مسلك أم سلمة وهذا أقوى مما قبله بيد أن تخصيص حال سالم وأمثاله أولى من تخصيص شخص بعينه وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له346.
الترجيح:-
من خلال عرض الأقوال الثلاثة وحججها ومنا قشتها يتبين رجحان القول الثالث والله أعلم علما أنه الجاري على القواعد الأصولية مع ملاحظة أن الشريعة حاكمة لكل زمان ومكان فهي مستمرة إلى قيام الساعة ولهذا نقول بتخصيص الحال لا بتخصيص الشخص أي لا يحرم رضاع الكبير كما هو نص الأدلة العامة ونخصص من حالات أفرادها ما كان مثل حالة سالم ونحن هذا نكون:-
1. قد أعملنا القواعد الأصولية من التوفيق والجمع بين الأدلة قدر الإمكان وهو هنا التخصيص من العموم فيعمل بالخاص فيما تناوله والعام في الباقي.(1/141)
2. عملنا بحديث سالم ولم نهمله وإعمال الدليل أولى من إهماله.
وبهذا يظهر رجحان هذا القول عن غيره حيث إن القول الأول أهمل حديث سالم وإن قال بأنه خاص به فهو إهمال له من جهة كونه غير معمول به بعد سالم كما أننا نحاول الابتعاد قدر الإمكان من اللجوء إلى القول بالنسخ أو التخصيص بالأفراد إذ فيهما نوع تحجيم للشرع، وأما القول الثاني فقد أهمل الأحاديث ودلالة الآيات في أن رضاع الكبير لا يحرم فالأولون ردوا دليلا خاصا والآخرون ردوا أدلة عامة.
3. أن فيه رفعا للمشقة وقد اتفقوا على أن المشقة تجلب التيسير وأن الحرج مرفوع وإذا كنا نستدل بهذه القواعد في حالات لربما تكون أهون من هذه ولم يرد عليها دليل بخصوصها يخرجها من حكمها العام بيد أن الفقهاء أعملوا فيها هذه القاعدة فهنا أولى إعمالا للدليل مع القاعدة إذ كيف يتربى الطفل على امرأة يحسبها أمه لسنوات طوال ثم ما إن يطر شاربه أو يكاد حتى تحتجب عنه ولربما طرد من البيت الذي عاش طفولته فيه وفارق الأسرة التى قضى معها صغره ثم بين ليلة وضحاها يجد نفسه غريبا وحيدا طريدا لا أسرة تحتويه ولا بيت يؤويه ثم هو لا يزال قليل المعرفة بالحياة وتقلباتها مما يجعله عرضة لتجار الجريمة ولهذا إذا كان قول الجمهور وجيها في السابق فقول شيخ الإسلام هو الوجيه في هذا العصر إذ به يحمى أطفال وتلتئم أسر ونحمي المجتمع.
الحكم الثاني: المقدار المحرم من اللبن:-
اختلف الفقهاء في المقدار المحرم من اللبن على أقوال:-
القول الأول:لا يحد بمقدار معين روي هذا المذهب عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر والحسن حكي و عن الثوري والأوزاعي والليث وهو مذهب الحنفية والمالكية جاء في الهداية :"قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع تعلق به التحريم"347
وفي مدونة الفقه المالكي:"لبن المرضع يحرم إذا وصل إلى الجوف قليلا كان أو كثيرا ولو كان بمقدار ما يفطر الصائم "348.(1/142)
إذا مذهب من سبق أن اللبن إذا وصل إلى الجوف ولو كان متناهيا في القلة بحيث يفطر الصائم فإنه يحرم وتثبت له جميع أحكام الرضاع .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:-
1. قوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ( قالوا هذه الآية عامة في قليل الرضاع وكثيره.
2. أن اسم الرضاع في الشرع واللغة يتناول القليل والكثير وذلك يقتضي صيرورة المرضع أما للراضع لمجرد وجود الرضاعة349 .
3. ما ورد عن السلف مؤيدا لهذا القول نحو ماروي عن ابن عمر :"إن القليل يحرم"350 وجاء عن علي وابن مسعود كما في التمهيد أنهما قالا :يحرم قليله وكثيره.
4. اعتصاما بالإحتياط كما هي قاعدة المالكية في مسائل التحريم351.
5. الإجماع فقد نقلوا عن الليث قوله:"اجتمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم"352.
القول الثاني: أن الرضاع المحرم خمس رضعات فصاعدا وهذا مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وابن حزم.
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:-
1. حديث سهلة في سالم في الموطأ أنه قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم :"أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها"
2. عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن" رواه مسلم
وردوا على أصحاب القول الأول بأن:-
1. الآية التي استدلوا بها قد فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة، والسنة تثبت الأحكام كآية السرقة
2. دليل القول الأول عام ودليل هذا القول خاص والخاص مقدم على العام .
القول الثالث: أنه لايحرم إلا ثلاث رضعات فصاعدا، أما الرضعة والرضعتان فلا تحرمان،وهذا مذهب زيد بن ثابت وأبو ثور وابن المنذر وأبو عبيد وداود وأحمد في رواية353.
استدل لهذا القول بما يلي:-(1/143)
1-…عن أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :"لاتحرم الرضعة والرضعتان أو المصة والمصتان " رواه مسلم.
2-…عن عبدالله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان"
مناقشته:-
وهذا القول وإن استند في استدلاله إلى السنة إلا أن أدلته لا تفي بمدعاه ذلك أن هذه الأحاديث تدل بمفهومها على أن الثلاث من الرضعات أو المصات أو الإملاجات تقتضي التحريم فهي إذن لا تدل بمنطوفها على أن ما زاد على الثلاث يحرم، وهذا بعكس حديث عائشة في الرضعات الخمس فهو يدل على"أن ما دونها لا يقتضي التحريم فيتعارض المفهومان ويرجع إلى الترجيح"354ومعلوم أصوليا أن المنطوق مقدم على المفهوم حين التعارض وبناء عليه ف"إن الآية فرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة"355وصريح منطوق حديث عاءشة يخص مفهوم ما رووه واستدلوا به فنجمع الأخبار ونحملها على الصريح الذي رويناه356.
الترجيح:-
من خلال عرض أدلة كل قول ومناقشتها تبين رجحان قول القائلين بأن الخمس الرضعات فصاعدا يحرمن لقوة حججهم وبه نجمع بين الأدلة .
الحكم الثالث: لبن الزنا:-
والمراد هنا أن المرأة إذا ولدت ابنا من زنا ثم أرضعت آخر فهل يصبح الرضيع الآخر ابنا للزاني بحيث لو كانت أنثى تحرم عليه أم لا
اختلف الفقهاء هنا على قولين مشهورين هما:-
القول الأول :أنه لا صلة بينهما وعليه فإن هذا الرضيع لايحرم على الأب لو كان أنثى وإنما تكون صلة الرضيع بمن أرضعته فقط وهذا مذهب الشافعي ومالك في رواية عنه وذهب إليه بعض الحنابلة357.(1/144)
أما دليل هذا القول فقد استند الإمام الشافعي لقضاء رسول الله صلى الله عله وآله وسلم بابن أمة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى منه من شبهه بعتبة فلم يرها، قال الشافعي : وقد قضى أنه أخوها حتى لقيت الله عز وجل، لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخا لها وكذلك ترك رؤية المولود من نكاح أخته مباح وإنما منعني من فسخه أنه ليس بابنه إذا كان من زنا358.
القول الثاني: أنه يحرم وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
الترجيح:-
يلاحظ تشابه هذه المسألة مع مسألة نكاح البنت من الزنا إلا أن بعض الحنابلة وافق الشافعي هنا وخالفه هناك وفرق بينهما بأن البنت هناك من نطفته حقيقة بخلاف هذه359 والذي أراه ـوالله أعلم ـ رجحان مذهب الجمهور هنا كما في مثيلتها والفرق الذي أبداه بعض الحنابلة ليس بذي طائل.
المحرمات بسبب المصاهرة
(وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً{23}(
"المصاهرة كالنسب في ثبوت الحرمة المؤبدة بها بطريق الإكرام فإن الله تعالى جمع بينهما فقال: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً( .
وقد نص الآية على أربع من النساء بسب المصاهرة سنذكرهن ونفصل كل واحدة على حدة فيما يلي:-
أولا : أم الزوجة ودليل تحريمها قول الله تعالى:(وأمهات نسائكم(.
ويدخل في الأمهات أم المرأة التي يتزوجها الرجل وجداتها.
ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بها لأن القرآن لم يشترط الدخول هنا كما اشترطه في بنتها وهي بمجرد العقد تكون من نسائه وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم من علماء الملة ومنهم أئمة الفقه الأربعة360.(1/145)
استدل لهذا القول بما يلي:-
1. عموم قوله تعالى :"وأمهات نسائكم"والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية قال ابن عباس:"أبهموا ما أبهم القرآن "يعني عمموا حكمها في كل حال ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها".
2. مارواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من تزوج امرأة فطلقها قبل أن دخل بها فلا بأس أن يتزوج ربيبته ولا يحل له أن يتزوج أمها"361.
هذا وقد روى عن بعض الصحابة خلاف ذلك فروي"أن عليا رضي الله عنه قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول بها :فله أن يتزوج أمها وإن تزوج أمها ثم طلقها قبل الدخول يتزوج بنتها تجريان مجرى واحدا"362"بيد أن هذه الرواية يرويها خلاس عن علي وأهل النقل يضعفون حديثه عن علي"363 وخلاس هذا هو خلاس بن عمرو الهجري البصري قال أحمد :"ثقة ثقة وروايته عن علي كتاب وكان يحي القطان يتوقى حديثه عن علي خاصة وقال أبو داود:"ثقة لم يسمع من علي "364.
إذن حديث خلاس عن علي ضعيف وإن كان ثقة في نفسه وفي روايته عن غير على رضي الله عنه وكم من راو ثقة في بعض شيوخه ضعيف في آخرين هذا وقد روى له البخاري مقرونا بغيره365،وبناء على ما سبق فإن هذه الرواية لا تصح.
ويروى عن جابر بن عبدالله مثل ذلك وهو قول مجاهد وابن الزبير وعن ابن عباس روايتان الأولى أن أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول والأخرى:أنها تحرم بنفس العقد وقال عمر وعبدالله بن مسعود وعطاء والحسن :تحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل.
واستدل لهذا القول بقوله تعالى:(اللاتي دخلتم بهن) وجعله عائدا إلى المذكور سابقا أي إلى الربائب والأمهات المذكورات سابقا في الآية366
وهناك قول ثالث لزيد حكاه ابن قدامة في المغني أنها تحرم بالدخول أو بالموت وعلل قوله بأنه يقوم مقام الدخول
الترجيح:-
يتبين مما سقناه سابقا قوة ورجحان مذهب الجمهور كما أن هذا النقول عن الصحابة السابق ذكرهم جاءت من طرق ضعيفة كما قال ابن رشد.(1/146)
ثانيا :بنت الزوجة:-
وهي الربيبة في قوله تعالى:(وربائبكم اللاتي في حجوركم)وهي جمع ربيبة فعيلة بمعنى مفعولة أي مربوبة من قولهم ربها يربها إذا ولي أمرها سميت ربيبة، لأن زوج أمها يربيه كما يربي ولده في غالب الأمر ثم اتسع فيه وسميت بذلك وإن لم يربها وتشمل بنت الزوجة: كل بنت للزوجة من نسب أو رضاع قريبة أو بعيدة وارثة أو غير وارثة،ويدخل في الربيبة بنت الربيب كما قال الماوردي في تفسيره وقال الخطيب الشربيني:هي مسألة نفيسة يكثر السؤال عنها.
ومقتضى ظاهر التلاوة أن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا بشرطين:
1- كونها في حجره.
أن يكون دخل بأمها.
أما الأول: فالربيبة تحرم سواء رباها زوج الأم أم لم يربها وهذا هو مذهب الجماهير من أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع على هذا القول،ونسبه ابن قدامة إلى عامة الفقهاء، وقال ابن المنذر: والتحريم المطلق عن قيد التربية(الحجر)هو مذهب الأئمة الأربعة.
القول الثاني: لا تحرم إلا من رباها الزوج نسب هذا القول لـ: عمر وعلي رضي الله عنهما وهو مذهب داود.
استدل لهذا المذهب بما يلي:-
1. التقييد بالحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ} (النساء: 23).
2. أن التربية لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات.
المناقشة والترجيح:-
1. ضعف الجصاص في تفسيره الروايات السابقة عن الصحابة الموافقة لمذهب داود.
2. ذكر الحجور في الآية خرّج مخرج الغالب فلا مفهوم له،فالآية لم تخرج مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفاً لها بغالب حالها، وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه كما هو معلوم من علم الأصول.
وبهذا يتبين رجحان مذهب الجمهور والله أعلم.
وأما الشرط الثاني فمتفق عليه، إلا أنهم اختلفوا في الدخول فقال الشافعي إنه الجماع.
وقال مالك وأبو جنيفة هو التمتع من اللمس والقبلة.
وقال عطاء هو النظر إليها بشهوة، وفيه ضعف.(1/147)
قد يقال: لِم اعتبروا الدخول في تحريم الأصول واعتبروا في تحريم البنت الدخول؟
والجواب :أن الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمها عقب العقد لترتيب أموره، فحرمت بالعقد ليسهل ذلك بخلاف بنتها.
ثالثا: حلائل الأبناء يعني أزواجهم وسميت امرأة الرجل حليلة لأنها محل إزار زوجها وهي محللة له،فيحرم على الرجل أزواج أبنائه وأبناء بناته من نسب أو رضاع قريباً كان أو بعيداً بمجرد العقد لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ} (النساء: 23) قال ابن قدامة:" ولا نعلم في هذا خلافاً".
وقد كانت الجاهلية تحرم زوجة الابن بالتبني على من تبناه فأحلها الإسلام.
أما زوجة الابن من الرضاع فقد حرمت بحديث "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"
رابعا: الجمع بين الأختين: وهو تحريم مؤقت، فيحرم للرجل أن يجمع في عصمة الزوجية بين الأختين.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.
واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها :
القول الأول: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق وهو مذهب أحمد وأصحاب الرأي .
وحجتهم أن الأولى محبوسة عليه بالعدة والثانية محبوسة عليه أيضا بالزوجية.
القول الثاني: له أن ينكح أختها وأربعا سواها وبه قال مالك والشافعي.
وحجتهم أن الله حرم الجمع في الزوجية ولا زوجية للبائن، وهذا هو الراجح.
تحريم ذوات الأزواج
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً{24}(
بيان الأحكام:(1/148)
الحكم الأول: تحريم نكاح ذوات الأزواج:
مما يشترط لصحة النكاح أن تكون الزوجة خلية من الزوج وإلا فلا يصح الزواج، لأن المرأة حينئذ في ذمة رجل آخر والمرأة لا تكون لرجلين في آن واحد، فالتلفظ بالإنكاح والقبول مع حضور الشهود في حكم لا شيء والحالة هذه، والدليل على ذلك هذه الآية (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ((النساء: من الآية24)" أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات إلا ما ملكت أيمانكم367.
وهذا الشطر من الآية في سياق عد المحرم نكاحهن، والمحصنات عام يدخل فيه كل محصنة لكن جاء الاستثناء فأخرج ما ملكت اليمين وهن النساء المسبيات، وقد استشكل هذا الاستثناء فإن ذوات الأزواج إذا كن من إمائه فهن محرمات على مالكيهن ولأجل هذا اختلف في تأويل الآية على أقوال وهي:-
1- المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات عليكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج أي أن السباء يقطع العصمة368كما هو مذهب الشافعي.
2- أن المقصود بالمحصنات هنا العفائف من المسلمين وأهل الكتاب، قال ابن عباس:"العفيفة العاقلة من مسلم أو من أهل الكتاب قالوا: وتأويل الآية والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم إلا ما ملكت أيمانكم منهن بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع، وقال بعضهم: أحل الله لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك"369
3- نساء أهل الكتاب370 .
4- أنهن الحرائر371، وقوله (إلا ما ملكت أيمانكم( إلا ما ملكتموهن بعقد زواج صحيح، وهذا ليس بظاهر أن قوله تعالى: (والين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم( فجعل ما ملكت أيمانهم مقابلا للأزواج والقرآن يفسر بعضه بعضا372.(1/149)
5- هن ذوات الأزواج غير أن الذي حرم الله منهن في هذه الآية الزنا بهن وأباحهن بقوله:(إلا ما ملكت أيمانكم)أي بالنكاح أو بالملك،وهذا القول نقل عن مجاهد وأنه قال في قوله تعالى والمحصنات قال نهى عن الزنا أن تنكح المرأة زوجين373.
6- المقصود بالمحصنات هن العفائف وذوات الأزواج وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين،وممن قال هذا ابن شهاب الزهري فقد سئل عن قوله تعالى:( والمحصنات...الآية) قال:"نرى أنه حرم في هذه الآية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحهن مع أزواجهن والممحصنات العفائف، ولا يحللن إلا بنكاح أو ملك يمين والإحصان إحصانان :إحصان تزويج وإحصان عفاف في الحرائر والمملوكات كل ذلك حرم الله إلا بنكاح أو ملك يمين"374.
7- قال آخرون :نزلت هذه الآية في نساء كن يهاجرن إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولهن أزواج قيتزوجن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى المسلمون عن نكاحهن وممن نقل عنه هذا أبو سعيد الخدري ،فقد نقل عنه قوله:"كان النساء يأتيننا ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن يعني بقوله:(والممحصنات...)375،وهذا لا يتفق مع ما صح سابقا عنه من أن سببب نزول الآية سبايا أوطاس مع أنه من الممكن أن تكون نزلت الآية مرتين والله أعلم.
هذا وقد ذكر ابن عباس وجماعة أنه كان ملتبسا عليهم تأويل ذلك376.
بعد سرد تلك الأقوال في تفسير (والمحصنات...الآية) لربما نتساءل عن سبب هذا الاختلاف والجواب أن السبب يرجع إلى أمرين :الأول لغوي والثاني الاستعمال القرآني وهو يرجع إلى الأول، لأن القرآن عربي.
أولا:السبب اللغوي:-
أن أصل الإحصان لغة المنع فيقال:حصن-بضم الصاد-المكان يحصن حصانة فهو حصين ومنه الحصن ويقال حصنت القرية إذا بنيت حولها وتحصن العدو وسمي الحصان حصانا لأنه يمنع صاحبه الهلاك.(1/150)
وبما أن (حصن)يدل على المنع فإن المرأة تكون محصنة بالإسلام والعفاف والحرية والتزويج ولهذا يقال : امرأة حصن -بفتح الحاء- للعفيفة والمتزوجة أيضا377.
ثانيا السبب القرآني:-
فنحن إذا تتبعنا استخدام هذه الكلمة في القرآن وجدناها أتت على أربعة معاني وهي كالتالي:-
1- بمعنى العفة كما في قوله سبحانه :(مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ((النساء: من الآية25) وفي قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ( (الأنبياء:91)أي أعفته.
2- بمعنى الحرية كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ((النور: من الآية4) أي الحرائر لأنه لو قذف غير الحرة لم يجلد ثمانين، وكذا قوله تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ((النساء: من الآية25).
3- بمعنى الإسلام كما في قوله تعالى:(فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ((النساء: من الآية25) قيل في تفسيرها:إذا اسلمن378بيد أنه "لا يليق بهذا المقام غير معنى التزويج لأنه عطف المحصنات على المحرمات فلا بد أن يكون الإحصان سببا للحرمة ومعلوم أن الحرية والعفاف والإسلام لاتأثير لها في الحرمة بخلاف التزوج فإن المرأة المزوجة محرمة على الغير"379.
4- بمعنى التزوج كما في هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عنها.
ولهذين السببين اختلف المفسرون في تفسير(المحصنات).(1/151)
ولكن الذي يترجح في معنى الآية هو"وحرمت عليكم المحصنات من النساء أي المزوجات أعم من أن يكون مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن إما بسبي فإنها تحل ولو كانت ذات زوج، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها"380.
وقد رجح هذا لما يلي:-
1- لموافقته ظاهر الآية.
2- لموافقته سبب النزول ولهذا قال في التمهيد:" وفي حديث أبي سعيد الخدري هذا دليل واضح على ذلك وفيه تفسير الاية وهو أولى ما قيل في تفسيرها"381.
3- لأنه قول كثير من المفسرين.
الحكم الثاني: (وأحل لكم ما وراء ذلكم(:
اسم الإشارة يرجع إلى المحرمات المذكورة قبل وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي (من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها382.
وذهب بعضهم إلى أن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها فهم تحريمه من قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين( بطريق القياس، لأن العلة في تحريم الجمع هي القرابة القريبة، فكل من بينهما قرابة قريبة حرم الجمع بينهما فجاز أن يقال: (وأحل لكم ما وراء ذلكم( أي من ذكرن أي إما بطريق النص أو بطريق القياس383، واستبعده الشوكاني384.
ومن عجائب زماننا ذهاب بعض الموسومين بالمفكرين -وما أكثرهم في هذا العصر- إلى جواز الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مستدلا بهذه الآية (وأحل لكم ما وراء ذلكم( وعندما ووجه بالسنة رفضها جملة وتفصيلا وطعن فيها، وهذا يخشى عليه الكفر385.
الحكم الثالث: معنى قوله تعالى: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(
أمر الله بإيتاء الأزواج مهورهن وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف.(1/152)
وقيل نزلت في المتعة، وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرا ويتركها.
وانقسم هؤلاء فريقين: فالجمهور قالوا بنسخها، وحكي عن ابن عباس أنا محكمة وأن المتعة باقية لكنها خاصة بالمضطر وحكي عنه الرجوع عن هذا القول.
والصواب أن هذه الآية لا علاقة لها بالمتعة لا من قريب ولا من بعيد وإنما هي في سياق الكلام على أحكام الزوجات كما بينا سابقا، وورد كلمة (استمتعتم( و (أجورهن( لا يعني المتعة، لأن الاستمتاع هنا المراد به التلذذ والأجور هي المهور، وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع فيكون المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح (فآتوهن أجورهن( أي مهورهن.
والصواب أيضا هو قول أئمة المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن بأن نكاح المتعة كان جائزا في صدر الإسلام ثم نسخ فهي حرام إلى يوم القيامة وأدلتهم ما يلي:
1- عن علي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهل زمن خيبر " وفي رواية " نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية "متفق عليهما.
2- عن سلمة بن الأكوع قال: " رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها ".(1/153)
3- عن سبرة الجهني " أنه غزا مع النبي (فتح مكة قال: فأقمنا بها خمسة عشر فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء " وذكر الحديث إلى أن قال " فلم أخرج حتى حرمها رسول الله (" وفي رواية " أنه كان مع النبي (فقال يا أيها الناس أني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"رواهن أحمد ومسلم، وفي لفظ عن سبرة قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها "رواه مسلم .
قال الشوكاني: "وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا حتى قال ابن عمر فيما أخرجه عنه ابن ماجه بإسناد صحيح " إن رسول الله (أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها والله لا أعلم أحد تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة " وقال أبو هريرة فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " هدم المتعة الطلاق العدة والميراث " أخرجه الدارقطني وحسنه الحافظ"386.
الحكم الرابع: مالية المهر:
في قوله تعلى : (بأموالكم( أباح الله الفروج بالأموال ولم يفصل فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به لأنها على الشرط المأذون فيه كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه، فهذه لا تعد اموالا387.
الحكم الخامس: هل يكون المهر منفعة؟
قد يقول قائل تقييد الابتغاء بالأموال يقتضي أنه لا يجوز بغير الأموال والمسألة فيها خلاف:
القول الأول: يصح أن يكون المهر منفعة، وهو قول الشافعي وأحمد.
ودليله حديث سهل بن سعد: "قد زوجناكها بما معك من القرآن"388 والباء للعوض.(1/154)
فإن أصدقها تعليم صناعة صح، لأنه منفعة معلومة معلومة يجوز بذل العوض عنها فجاز جعلها صداقا كخياطة ثوبها، وإن أصدقها تعليمها شعرا مباحا معينا أو فقها أو أخذ الأجرة عليه جاز صداقا كمنافع الدار، أما تعليم القرآن فاختلفت الرواية عن أحمد في جعله صداقا فقال في موضع : أكرهه وقال في موضع: لا بأس389.
القول الثاني: لا يصح أن يكون المهر منفعة، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه قال : إذا تزوج على ذلك فالنكاح جاز وهو في حكم من لم يسم لها ولها مهر مثلها إن دخل بها وإن لم يدخل بها فلها المتعة.
وحجته:
1- أن منافع الحر لا تكون صداقا لأنها ليست مالا وإنما قال الله تعالى : (أن تبتغوا بأموالكم(
2- تحقيق المال ما تتعلق به الأطماع ويعد للانتفاع ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال
3- الإجارة مخالفة للقياس فلا يقاس عليها.
4- الحديث في حد الآحاد و لا يترك نص الكتاب بخبر الواحد390
القول الثالث: الكراهة ، ولذلك رأى فسخه قبل الدخول وبه قال مالك.
وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا والإجارة والحج في معنى المؤجل391.
وسبب اختلافهم سببان : أحدهما هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه أم الأمر بالعكس ؟ فمن قال هو لازم أجازه لقوله تعالى { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } الآية ومن قال ليس بلازم قال : لا يجوز النكاح بالإجارة .
والسبب الثاني هل يجوز أن يقاس النكاح في ذلك على الإجارة ؟ وذلك أن الإجارة هي مستثناة من بيوع الغرر المجهول392.
الترجيح:(1/155)
القول الأول هو الراجح فيجوز أن تكون المنفعة مهرا سواء قام بها الزوج كأن يخدمها سنة في عمل لها، أو على أن يعلمها القرآن، أو العلم الشرعي أو أن يهبها منفعة دار لفترة من الزمن معلومة كسنة، ويجب عليه الإيفاء في تلك الحالات كلها، والدليل على ذلك الحديث السابق، ولأن المنفعة مال في حقيقة الأمر بدليل أنها متقومة يبذل في مقابلها الذهب والفضة، كما أن الواقع يثبت مالية المنفعة بل قد تكون أغلى من كثير من الأعيان، والقول بأن الإجارة مخالفة للقياس لا يسلم بل القياس يقتضي مالية المنفعة وهي عقد مستقل بذاته لا تستثنى من غيرها كما هو الصحيح من أقوال أهل العلم، بل هذه المسألة ليست من باب القياس إنما النظر فيها من جهة تحقق الوصف في المهر من كونه مالا فإذا ما ثبت ذلك عقلا وشرعا وعملا فلا مجال للحديث عن القياس واستثناءاته.
كما أن سياق الحديث يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن أي لما حفظه فتكون الباء بمعنى اللام.
أما القول بأن الحديث آحاد فلا يترك نص الكتاب له فقول لا يصح البتة لأمرين:
الأول: أن السنة تشرع كالقرآن تماما (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى( ونحن مخاطبون بما ثبت من قوله( ومأمورون بالطاعة والانقياد (وأطيعوا الله والرسول(.
الثاني: لا تعارض بين القرآن والحديث، فالقرآن يشترط كون المهر مالا والحديث بيّن أن المنفعة من المال، فهو من باب ذكر بعض أفراد العام، ومن المعلوم ألا تعارض بين العام والخاص، والمشكلة أن يفهم من النص شيء ثم يراد من السنة أن تجاري هذا الفهم وهذا غير سديد.
الحكم السادس: الزيادة والنقصان في المهر:(1/156)
دل قوله تعالى : (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة( على جواز الزيادة والنقصان في المهر، وأن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة، والمراد إبراء المرأة عن المهر أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول .
وقال القائلون بأن الآية في المتعة هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام، فإنه كان يتزوج الرجل المرة شهرا على دينار مثلا فإذا انقضى اشهر فربما كان يقول : زيديني في الأجل أزدك في المهر، فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي.393
متى يجوز أن ينكح الحر الأمة
(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{25}(.
اشتملت هذه الآية على جملة أحكام هي:
1- جواز أن ينكح الحر الأمة بشروط: أن لا يوجد معه من المال ما ينكح به الحرة، وان يخشى العنت، وأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة.
2- في قوله تعالى: (فانكحوهن بإذن أهلهن( دليل على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها لا يجوز.
3- يجب إيتاء الأمة مهرها بالمعروف وهو مهر المثل أو إيصال المهر إليها على العادة عند المطالبة من غير مطل ولا تأخير، ويكون مهرها لها عند مالك وقال الجمهور بل للسيد، لأن البضع مملوك له.
4- دلت الآية على منع نكاح الأمة الزانية.(1/157)
5- إذا أحصن بالتزوج فحدهن نصف حد الحرائر، وهو خمسون مطلقا لأن الرجم لا يتنصف.
6- الصبر عن نكاح الإماء خير من نكاحهن لما فيه من تعريض الولد للرق.
حرمة أكل المال بالباطل
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (
بيان الأحكام:
الحكم الأول: أكل المال بالباطل:
ينهى الله كل أحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل وعن أكل مال نفسه بالباطل، لأن قوله تعالى: (بأموالكم( يقع على مال نفسه ومال غيره، وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في المعاصي.
وأكل مال غيره بالباطل فيه وجهان:
1- أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، قاله السدي.
2- أن يأكل بغير عوض، قاله الحسن.
والصواب أنه نهي عام عن أخذ المال من غير الطرق الشرعية فيتضمن أكل أبدال العقود الفاسدة كبيع ما لا يملك، وبيع ما لا قيمة له إما لفساده كبيض وبطيخ فاسدين، أو لعدم ماليته والانتفاع به كالذباب، وكذلك أجرة النائحة وغيرها394، والربا والرشا والانتهاب وغيرها مما حرمه الله، ولو سماه البعض بغير اسمه.
الحكم الثاني: أكل المال بالتجارة وغيرها من السبل الحلال:
التجارة في اللغة عبارة عن المعارضة والاستثناء في الآية منقطع : أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها395،أو لأنها أشد أنواع أكل الأموال شبها بالباطل إذ التبرعات كلها أكل أموال عن طيب نفس والمعاوضات غير التجارات كذلك لأن أخذ كلا المتعاوضين عوضا عما بذله للآخر مساويا لقيمته في نظره يطيب نفسه . وأما التجارة فلأجل ما فيها من أخذ المتصدي للتاجر مالا زائدا على قيمة ما بذله للمشتري قد تشبه أكل المال بالباطل396.(1/158)
وقد دل ظاهر قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة ع تراض منكم( على إباحة جميع أنواع التجارات إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسول ( فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها، لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع وقال النبي(: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وقال في الخمر: "إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها"، ونهى رسول الله ( عن البيع الغرر، وبيع العبد الآبق، وبيع مالم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم(397.
الحكم الثالث: التراضي وصيغة العقد:
اشترطت الآية كون البيع عن تراضي قال الشافعية: ولما كان الرضا أمرا يتعلق بالباطن لا يطلع عليه أحد في الظاهر إلا ببيان اللسان اشترطنا النطق واكتفينا به دليلا على الرضا صريحا كان النطق أو كناية.
وخالفهم الجمهور فلم يشترطوا وجود الصيغة في العقد واكتفوا بدلالة الفعل كالأخذ ونحوه، مقتضى هذا جواز بيع المعاطاة إذا دلت القرائن وشواهد الأحوال على الرضا وهذا هو الراجح، واختاره جماعة من الشافعية.
الحكم الرابع: خيار المجلس:
اختلف الفقهاء في ثبوت خيار المجلس على قولين:
القول الأول: يلزم العقد بالإيجاب والقبول ولا خيار لهما، وهو قول أبي حنيفة ومالك.
وحجتهم: أنه روي عن عمر رضي الله عنه : البيع صفقة أو خيار، ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع.
وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يشهد لهذا القول لأن الآية تقتضي حل التصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض ساء تفرق المتبايعان أم لا، فإن الذي يسمى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء398.(1/159)
القول الثاني: أن البيع يقع جائزا ولكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ماداما مجتمعين لم يتفرقا بأبدانهما، وهو قول الشافعي وأحمد.
وحجتهم: ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن لم يتفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع" متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".
الترجيح:
القول الثاني هو الراجح، لصحة دليله، وما قاله الأولون فمناقشون بما يلي:
1- أن السنة الثابتة لا تقابل بالقياسات ونحوها، ولهذا عاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته للحديث مع روايته له وثبوته عنده399.
2- قول عمر : البيع صفقة أو خيار معناه أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشترط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه، ولو أراد ما قالوه لم يجز أن يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله(400.
3- لا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع غالبا إلا بعد روية ونظر وتمكث فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت فيه خيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط ولا خيار الرؤية401.
4- أن خيار المجلس من التراضي بدلالة السنة إذ "بيّن النبي( مدة تندفع بها معرة الندامة والخداع ويستدرك بها الغبن والظلامة ليتحقق بهذه المدة الرضا الباطني"402.(1/160)
5- حمل الأحناف التفرق في الحديث على التفرق بالأقوال لا الأبدان غير صحيح إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف، كما أن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه403.
حرمة قتل النفس
(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً{29}(
حرم الله هنا قتل النفس سواء أريد بالنفس المفهوم الخاص أو العام.
الحكم الأول: الانتحار:
نهى الله عز وجل المسلمين عن قتل أنفسهم فلا يجوز للمسلم الانتحار بأي وسيلة كالسكين والسم وغيرهما، والانتحار من أكبر الكبائر بعد الشرك، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا"404.
الحكم الثاني: الإضراب عن الطعام حتى الموت:
يحصل أحيانا أن بعض السجناء يضربون عن الطعام والشراب حتى الموت احتجاجا على على التعذيب أو أوضاع سجنه السيئة والقاسية، وفاعل ذلك يدخل في عموم هذه الآية فهو بلا شك قاتل لنفسه إذا مات بسبب الإضراب.
الحكم الثالث: ترك تناول الدواء أو الإضراب عنه:
من ترك الدواء أو أضرب عنه أو ترك التداوي أصلا حتى مات هل يعد منتحرا؟
أما الدواء فلو كان غالب ظنه شفاءه لو تناوله فيجب عليه تناوله ولو تركه عامدا عالما مختارا
فهو قاتل لنفسه، أما إذا لم يغلب على ظنه شفاءه فتركه حتى مات فلا يعد قاتلا لنفسه، إلا أنه لن يسلم من الإثم لأنه ألقى بنفسه في التهلكة.
أما ترك التداوي ففي وجوب التداوي وعدمه خلاف بين أهل العلم.
الحكم الثامن: الانتحار كتما لأسرار الدولة:(1/161)
جرت عادة الجيوش في معظم دول العالم إعطاء قادة الجيش ومن يحملون أسرار الدولة حبوبا سامة سريعة المفعول يتناولونها إذا ما تعرضوا للأسر، وخشوا أن يمارس ضدهم وسائل تعذيب لاستخراج ما بحوزتهم من أسرار تخص الدولة وتجهيزاتها، وربما كانت أسرارا خطيرة للغاية إذا ما عرفها العدو أصاب الأمة في مقتل، فهل يجوز للمسلم أن ينتحر في مثل هذه الحالة؟
ما تدل عليه هذه الآية هو عموم حرمة قتل النفس وتدخل فيها هذه الحالة، ولكن ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى جوازه في مثل هذه الظروف لما فيه من دفع ضرر أكبر بضرر أقل.
الحكم الرابع: العمليات الاستشهادية:
اختلف المعاصرون في حكم العمليات الاستشهادية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: حرمة العمليات الاستشهادية وحجته هذه الآية الناهية عن قتل النفس، وما العمل الاستشهادي إلا قتل للنفس.
القول الثاني: جواز هذه العمليات، واحتجوا بالآيات الدالة على شراء الله من المؤمنين أنفسهم: ( إنَّ اللَّهِ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة : 111 ] ، كما احتج بعضهم بقصة الغلام المؤمن، وبفعل بعض السلف وتغريرهم بأنفسهم واقتحامهم حصون الأعداء.
القول الثالث: التوقف.
الترجيح:
لا يمكن أن ينكر أحد أن الأصل حرمة الانتحار، كما لا يجادل أحد في مشروعية الجهاد بل ووجوبه عينيا في الدفع، والحقيقة أن العمليات الاستشهادية بين هذين الأمرين فمن ناحية هي قتل نفس يقينا فيقربها هذا من طرف الأول، ومن ناحية أن الجهاد مبناه على التغرير بالنفس فتقترب منه هذه العمليات، وبسبب هذا التردد وقع الخلاف والتوقف.(1/162)
ولكن لدينا معيار مهم للغاية يمكن من خلاله الحكم في هذه المسألة وهي المعيار المقاصدي والمصلحي، ومن المقاصد الشرعية حفظ الدين والنفس والمجتمع من غزو الأجنبي، ولهذا شرع الجهاد وجعله عينيا، بل نص الفقهاء على ضرورة الجهاد بأي وسيلة متاحة ولو بالحجارة، وفي سبيل حفظ الدين والنفس الكلي (المجتمع) أمر الشرع ببذل النفس، والعمليات الاستشهادية لا تخرج عن هذا الإطار، كما أنها دفع أشد الضررين بأدناهما وهذا مما يتفق عليه العقلاء بله العلماء.
كما أن هناك مسألة أخرى وهي ضعف جانب المسلمين عدة وعتادا مما اضطرهم لمثل هذه العمليات، فلو قلنا بحرمتها لكان معنى هذا القضاء على أخر وسيلة مؤثرة في الغازي، ويكفي أثر هذه العمليات باديا على الأعداء لكي يحكم بجوازها.
أما تشبيهها بالانتحار ففيه بعد لأنّ الانتحار لا يفعله إلا شخص غضبان على ربه غير راض بقضاء الله وقدره، أما هذا فطال لرضوان الله تائقة نفسه للجنة، حسن النية في ربه، بل هو ملبي لنداء الجهاد في سبيله، فأين هذا من ذاك.
هذا وقد نص الفقهاء على جواز مهاجمة العدو مع غلبة الظن باستشهاده، إلا أن بعضهم اشترط تأثيره في العدو، ولم يشترطه آخرون منهم القرطبي حيث قال: "و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :الأول: طلب الشهادة، الثاني: وجود النكاية الثالث : تجرئة المسلمين عليهم، الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع"405.
اجتناب الكبائر
(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً{31}(
هذه الآية أصل في العدالة والفسق عند أهل العلم،فمن اجتنب الكبائر فهو عدل ومن ارتكبها فهو فاسق.
وقسم الله سبحانه المنهيات على كبائر وغيرها، وبظاهر التقسيم على كبائر وصغائر قال الجمهور406.(1/163)
وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة وقالوا : بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره فقال : معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بالإضافة وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها407.
و لا خلاف بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق لإجماع الكل على أن المعاصي منها ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأي كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار لا سيما هذه الآية408.
وقد اختلف العلماء في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد، فقال الجمهور: إنها تعرف بالحد، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال:-
1. المعاصي الموجبة للحد.
2. ما يلحق صاحبها وعيد شديد.
3. ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين.
4. ما نص الكتاب أو وجب في حقه حد.
5. ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكِبَر .(1/164)
وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا على أقوال: سبع، تسع، عشر، اثنتا عشرة، أربع عشرة، ست وثلاثون، والى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك، وقد جمع ابن حجر الهيتمي فيها مصنفا حافلاً سماه الزواجر، وذكر فيه نحو أربعمائة معصية، وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين، ومن المنصوص عليه: القتل، والزنا، واللواطة وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار من الزحف، وأخذ مال اليتيم، وخيانة الكيل والوزن، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديم الصلاة وتأخيرها، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة، وأمن المكر، وأكل لحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والربا، والسحر، وامتناع الزوجة من زوجها بلا سبب(409).
والتعريف الذي اختاره ورجحه بعض العلماء ويجمع كل ما سبق، هو التعريف المروي عن ابن عباس أن الكبائر هي : "كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنه أو عذاب"(410)، وبمعناه ما روي عن الإمام أحمد أنها ما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة.
ويدخل في الكبائر -كذلك- كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر ومن أمثلته: قوله(: (لا يدخل الجنة قاطع) (411) .
وقال شيخ الإسلام البارزي : التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك412.(1/165)
أما الإصرار على الصغيرة فهل يحولها إلى كبيرة؟ يقول الإمام الشوكاني: " وقد قيل إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثاً، ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة"(413) وهذا هو الصواب، ويضاف عليه بأن الصغائر تكفر دائماً بالوضوء والصلاة وأفعال الخير كما جاءت بهذا الأحاديث.
قوامة الرجل
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً{34}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول:القوامة:
"(قوام( فعال للمبالغة من القيام على الشئ فيه، وحفظه بالإجتهاد"(414).
وقوامية الرجل على المرأة هي:أن يقوم بتدبيرها وتأديبها،وتولي أمرها وإصلاح حالها آمراً ناهياً لها، كما يقوم الولاة على الرعايا، وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز(415)،وبما أن المراد بالقيام هنا هو الرئاسة، فليس معناها التصرف بالمرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناها-أيضاً- أن يكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الإرادة لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيماً على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه،أي ملاحظته في أعماله وتربيته(416) .
هذا وقد بين القرآن سبب القوامية هذه وأنه سببان هما :-(1/166)
السبب الأول : فطري ، فالله عز وجل"فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة وأعطاهم من الحول والقوة مالم يعطهن،فكان من أجل ذلك التفاوت في التكاليف والأحكام الشرعية وفي الحقوق والواجبات مترتباً على هذا التفاوت في فطرتهم وأصل خلقتهم وجبلتهم واستعدادهم"(417) فالرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير فجعل الله لهم حق القيام عليهن لذلك، كما أن للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف؛فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك(418).
السبب الثاني : كسبي، وهو بما أنفقه وينفقه الرجل على امرأته من مهر ونفقة وتكاليف أخرى ألزمه الشرع بها(419) ، فعن ابن عباس( قال: فضله عليها بنفقته وسعيه(420) ، وفسر سفيان(وبما أنفقوا من أموالهم( بما ساقوا من المهر (421).
ويلخص الطبري معنى الآية فيقول :" فتأويل الكلام إذاً أن الرجال قوامون على نسائهم بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاقهم عليهن من أموالهم"(422).
الحكم الثاني: وجوب طاعة المرأة زوجها.
إن القوامية للرجل لا تستقيم كاملة مالم تكن المرأة مطيعة لزوجها بل إن الطاعة من لوازم القوامية،قال القرطبي عند تفسير هذه الآية :" وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية"(423).
وقوله تعالى :( فالصالحات قانتات حافظات للغيب( خبر"مقصوده الأمر بطاعة الزوج، والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج"(424).
و دلت السنة -أيضاً- على ما دل عليه القرآن هنا، فعن أبي هريرة( قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك، قال: وتلا هذه الآية(الرجال قوامون على النساء( إلى آخر الآية"(425).
الحكم الثالث: تأديب المرأة الناشز.
وفي هذا الحكم فروع:(1/167)
الفرع الأول: حكم تأديب الناشز ووسائله:
دلت هذه الآية على جواز تأديب المرأة الناشز في قوله تعالى :(وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً((النساء: من الآية34) والنشوز هو: معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح(426).
فللزوج حق تأديب زوجته إذا قصرت في أداء الحق عليها، أو إذا قصرت في أداء حقوقه التي أوجبها الشرع عليها وحق الله عليها، هو فعل ما أمرها به وترك ما نهاها عنه(427) .
وقد ذكرت الآية وسائل التأديب الشرعي وهي : -
1- الوعظ.
2- الهجر في المضاجع.
3- الضرب.
أولاً : الوعظ :-
قال ابن عباس :"(فعظوهن( يعني:عظوهن بكتاب الله، أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله ويعظم حقه عليها"(428).
وقال القرطبي:"(فعظوهن( أي: بكتاب الله، وذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة، وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها"(429).
ويجب أن يكون الوعظ بالتي هي أحسن، هيناً لينا خالياً من التعنيف والشدة، وأن يشعر زوجته أنه يريد الخير لها، ويقيها الضرر بسبب تقصيرها فيما أوجبه الله عليها(430) .
ثانيا الهجر في المضاجع :-
إن لم ينفع الوعظ تحول الزوج إلى الوسيلة الثانية، وهي الهجر في المضاجع (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ( وللمفسرين أقوال في المراد بالهجر وهي:-
1. هو أن يضاجعها ويوليها ظهره، ولا يجامعها،روي هذا عن ابن عباس وغيره(431).
2. القبيح من الكلام، أي:غلظوا عليهن في القول، وضاجعوهن للجماع وغيره قال معناه سفيان، وروى عن ابن عباس.(1/168)
3. شدوهن وثاقاً في بيوتهن من قولهم:هجر البعير،أي ربطه بالهجار،وهو حبل يشد به البعير،وهو اختيار الطبري(432)،وقدح في سائر الأقوال ونظر القرطبي في كلامه(433)، ورد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه، وقال: يالها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة(434).
4. أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها، ويوليها ظهره، ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، روي هذا عن السدي .
5. اهجروا حجرهن.
6. ترك الدخول عليهن والإقامة عندهن(435).
والذي يظهر أن المراد الهجر في المضجع نفسه، وهو الفراش أي هجرها في النوم بأن يوليها ظهره،ولا يجامعها،ولا يكلمها إلا بقدر قليل جداً حتى لا يضطر إلى كلامها بعد ثلاثة أيام، لأنه لا يجوز هجر كلامها أكثر من ذلك(436)،كما جاء في السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"(437).
ثالثا الضرب :-
الضرب هو الوسيلة الثالثة إذا لم ينفع مع الزوجة وعظها وهجرها في المضجع قال تعالى:(واضربوهن( والضرب في هذه الآية هو الضرب غير المبرح وهو الذي لايجرح، ولا يكسر عظماً، ولا يشين جارحة، كاللكزة ونحوها،فإن المقصود منه الصلاح(438) .
وهذا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع:"واتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن غير مبرح".
قال النووي:"وأما الضرب المبرح فهو:الضرب الشديد الشاق، ومعناه: اضربوهن ضرباً ليس بشديد ولا شاق، والبرح المشقة"(439).
وضبطه بعضهم بأنه "ما يعظم ألمه بأن يخشى منه مبيح تيمم"(440) .
إذن المقصود من الضرب هنا هو الضرب غير المبرح ، ومثل له بعض العلماء بالضرب بالسواك أو القصبة الصغيرة والمنديل الملفوف ونحوها(441).(1/169)
فعن عطاء قال: "قلت لابن عباس ما المبرح؟ قال بالسواك ونحوه"(442)،وروي نحو هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما(443).
ونقل الرازي عن بعضهم قوله:"ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف بيده ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا " .
قال الرازي:"وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه"(444)، ويظهر بهذا أن المقصود الأول بالعقاب هو العقاب المعنوي لا الحسي،وإلا ما الذي يفعله سواك أومنديل.
لكن إذا خرج الضرب عن حده التأديبي، أو"أدى إلى الهلاك وجب الضمان"(445).
هذا وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الضرب لا يكون إلا إذا تكرر النشوز وهو ما رجحه جمهور العراقيين من الشافعية وتبعهم الرافعي، والذي صححه النووي جواز الضرب وإن لم يتكرر النشوز لظاهر الآية(446).
والضرب وإن كان مباحاً إلا أن تركه أفضل، كما قال الشافعي(447).
وجاء في السنة عن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت:"ثم كان الرجال نهوا عن ضرب النساء،ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلى بينهم وبين ضربهن.
ثم قلت: لقد طاف الليلة بآل محمد صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن قد ضربت قال القاسم: ثم قيل:لهم بعد ولن يضرب خياركم"(448).
وللحافظ هنا كلام جميل إذ يقول: "وفي قوله أن يضرب خياركم دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديباً إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل؛ لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله"(449).
وقال المناوي في فيض القدير:" أما الأخيار فيرون اللائق سلوك سبيل العفو والحلم والصبر عليهن، وملاينتهن بالتي هي أحسن، واستجلاب خواطرهن بالإحسان بقدر الإمكان"(450).
الفرع الثاني: ترتيب الوسائل:-(1/170)
هذه الوسائل الثلاث السابقة مرتبة ترتيباً تصاعدياً فالذي"يدل عليه نص الآية أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخص وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق"(451)
لكن قال الشوكاني:"وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز"(452).
ويبدو أن الشوكاني فهم هذا من حرف العطف(و) الذي يدل على مطلق الجمع كما هو مذهب جماهير النحاة، ولا يدل على الترتيب كما ذهب إليه قلة من النحاة(453) وعزي إلى الشافعي، والذي يظهر-والله أعلم- أن ترتيب هذه الوسائل يلاحظ من قوتها بحيث ترى الثانية أوى من الأولى، والثالثة أقوى من الثانية وحرف العطف(و) هنا لا يضاد هذا كما أنه لا يؤيد ما قاله الشوكاني.
الفرع الثالث: التأديب والبغي:-
مما يعنينا هنا سؤال مهم وهو: أن وسائل التأديب هذه هل تتنافى مع البغي؟
والجواب عليه: أن الإسلام جاء ليصلح المجتمع برمته ويصلح نواته وجعل لذلك سبلاً وطرقاً عدة إذ إنه يريد الصلاح للإسرة والمجتمع .
وكان من تلك الوسائل الضرب ومعلوم أن الضرب عقاب تعزيري ولا يكون العقاب إلا على خطأ، وهذا بخلاف البغي، الذي يعني مجاوزة الحد فبين العقاب ومجاوزة الحد بون شاسع .
لقد شرع العقاب لكي يستقيم حال المعاقب، ويقر بخطئه، ويتركه فهو إذن في صالح المعاقب.
ونهى الله عن البغي، الذي هو محض ظلم على الآخر دون موجب.
ومن هنا يتبين أن الضرب يجب ألا يجاوز حدوده التعزيريه المنصوص عليها، وبينها العلماء ذلك أن الغرض الأول والأخير هو الإصلاح لا مجرد العقاب، ولهذا لا بد أن يغلب على الزوج أن الضرب سيؤدي إلى نتيجة مرضية أما إذا غلب على ظنه العكس فلا يجوز له ذلك حينئذٍ .
الفرع الرابع: شبهة وردها:-(1/171)
هذا الحكم الذي جاء به القرآن حاول بعض المتأثرين بالغرب أن ينتقدوه ويردوه أو يوءولوه بحجة مصادمته للتطور، وأن فيه إهداراً لآدمية المرأة.
والجواب على هذه الترهة ليس بالأمر العسير ذلك "أن مشروعية ضرب النساء ليس بالأمر المستنكر في العقل أو في الفطرة، فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج غليه في حال فساد البيئة، وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة وصار النساء يفعلن بالنصيحة ويستجبن للوعظ، أو يزجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب"(454).
أما القول بأن فيه إهداراً لآدميتها، فنقول هل في عقاب المخطيء إهدار لآدميته، إن المسالة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
ومما ينبغي أن يعلم هنا أن النساء يختلفن نفسياً من حيث تقبل التأديب بالضرب، فهناك من لا ييفيدها ذلك بل قد يزيدها عتواً، وذكرت أنه لا يجوز استعمال الضرب مع هذه.
ومنهن من لا ينفع معها إلا هذه الوسيلة، بل من النساء من لا تحس برجولة الرجل وتسلم له زمامها وتنقاد له إلا إذا قهرها عضلياً(455)
يقول ابن العربي:" ومن النساء بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب "(456) وهذا أمر لا ينكره العامي بله من يدعي التطور والثقافة.
إن هذا الحكم جاء في القرآن الذي هو(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ((فصلت:2)و(تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ((فصلت: من الآية42) فالذي قرر هذا الحكم هو من يعلم دخائل النفوس ودغائلها، ويعلم ما يصلحها وما يفسدها وكل قول بعد قوله مردود.
ومع هذا يمكن أن نقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج لا سيما عند ضعف الوازع457.
الحكم الرابع: البغي على الزوجة:(1/172)
نهى الله عز وجل في هذه الآية الأزواج عن البغي على زوجاتهم، قال تعالى :( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً((النساء: من الآية34).
وقد اختلف المفسرون في تفسير البغي على أقوال متقاربة هي :-
1. إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها(458).
قال القرطبي :" أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل، وهذا نهى عن ظلمهن"(459).
قال البيضاوي: "التوبيخ والإيذاء والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(460).
2. لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن(461)، قال سفيان :"إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه لأن قلبها ليس في يديها"(462).
3. فلا تطلبوا طريقاً إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلاً إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن-وهي له مطيعة-:إنك لست تحبيني، وأنت لي مبغضة؛ فيضربها على ذلك، أو يؤذيها فقال الله تعالى للرجال:(فإن أطعنكم( أي:على بغضهن لكم؛ فلا تجنوا عليهن ولا تكلفوهن محبتكم، فإن ذلك ليس بأيديهن، فتضربوهن أو تؤذوهن عليه(463).
وختم سبحانه الآية بقوله:(إن الله كان علياً كبيرا( " تهديداً للرجال إذا بغوا على النساء بغير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن، وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن"(464) وفيها "إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب"(465).
وقيل المقصود منه حث الأزواج وبعثهم على قبول توبة النساء والمعنى أنه تعالى مع علوه وبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب بل يغفر له فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتركوا معاقبتها466.
معالجة الشقاق بين الزوجين(1/173)
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً{35}(
المراد بالخوف هنا العلم، والشقاق هو الخلاف والعداوة، فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه أي ناحية غير ناحية صاحبه.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: لمن الخطاب؟
ذهب الجمهور إلى أن المخاطب هنا هم الحكام، لأنه سبحانه لما ذكر نشوز المرأة وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة467.
ففي الآية أمر للحكام عند العلم بالشقاق بينهما وأشكال الظالم منهما بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ليطلعا على باطن أحوالهما وحقيقة أمرهما فيحكما بينهما468
الحكم الثاني: اشتراط كون الحكمين من أهل الزوجين:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول: اشتراط كون الحكمين من أهل الزوج والزوجة، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين469 وهذا مذهب المالكية.
وحجتهم التقييد الوارد في الآية، وأنهما أقعد بأحوال الزوجين.
القول الثاني: لا يشترط ذلك، وحملوا التقييد في الآية على الاستحباب، وانه إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، وقالوا إنما خص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض وإرادة وصحبة أو فرقة، وهذا قول الجمهور.
الحكم الثالث: بعث الحكمين:
الآية دالة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق وظاهرها أن الباعث هو الحاكم وولي الأمر لا الزوجان لأن فعل ( ابعثوا ) مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين فلو كانا معينين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى470 .
الحكم الرابع: بعث الحكمين في غير ديار الإسلام:(1/174)
قلنا بأن من يأمر ببعث الحكمين هو ولي الأمر، وهذا ظاهر في ديار الإسلام ولكن المشكلة تقع في غير ديار الإسلام، والذي يتجه هنا أن يعمل المسلمون على إنشاء هيئة تعمل على إدارة شؤونهم يرجعون إليها في قضاياهم ومشكلاتهم، وقراراتها ملزمة، كما تكون معترفا بها رسميا، وحينئذ يصح أن يكون الخطاب موجها إليها.
الحكم الخامس: ما يليه الحكمان:
اختلف العلماء فيما يليه الحكمان: أيليان الجمع والتفريق دون إذن الزوجين لكونهما منصوبان من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان، أم ليس لهما تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون إذن منهما لأنهما وكيلان من جهتهما؟ قولان:
القول الأول: لهما أن يلزما الزوجين دون إذنهما ما يريان فيه المصلحة مثل أن يطلق الرجل أو تفتدي المرأة بشيء من مالها فهما عندهم حاكم موليان من قبل الإمام، وبه قال مالك.
القول الثاني: أن المقصود من بعث الحكمين الإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما كقطع النفقة عن المرأة مدة حتى يصلح حالها وليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين فهما عندهم وكيلان للزوجين، وهو قول أبي حنيفة، وللشافعي قولان كالمذهبين471.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر بل فيها ما يشهد لكل من الرأيين:
فالشهادة للرأي الأول أن الله تعالى سمى كلا منهما حكما والحكم هو الحاكم وإذا جعلهما الله حاكمين فقد مكنهما من الحكم.
والشهادة للرأي الثاني أنه تعالى لم يضف إليهما إلا الإصلاح وهذا يقتضي أ يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما.
الترجيح:
الذي يظهر أن القول الثاني هو الراجح لما يلي:
1- أنه لا خلاف أن الزوج لو أقر قبل التحكيم بالإساءة إليها لم يجبرها الحاكم على الطلاق، وأن الزوجة لو أقرت كذلك قبل التحكيم بالإساءة إليها لم يجبرها الحاكم على الافتداء، فإذا كان ذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك يكون الحكم بعد بعثهما.(1/175)
2- لا يجوز إيقاع الطلاق من غير رضا الزوج وتوكيله ولا إخراج عن ملكها من غير رضاها472.
والأوفق جعل الضمير الأول في قوله تعالى: (إن يريدا إصلاحا( للحكمين لأنهما المسوق لهما الكلام، والثاني (يوفق الله بينهما( للزوجين، أي إن يقصد الحكمان إصلاح ذات البين بنية صحيحة مع إخلاص النصيحة لوجه الله تعالى، إن يقصدا ذلك يوفق الله بين الزوجين بالألفة والمحبة ويلقي في نفسيهما الموافقة وحسن العشرة473.
وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً{43}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول: (لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى(:
اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا على قولين:
القول الأول: حقيقة الصلاة، وهذا قول أبي حنيفة.
واستدل بقوله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون( فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر.
القول الثاني: مواضع الصلاة وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف وهو قول الشافعي.
ودليله أنا لو حملناه على الصلاة لم يصح الاستثناء في قوله: (إلا عابري سبيل(وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء.
وفسر الحنفية (عابر السبيل( بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي.
وثمرة الخلاف بين القولين تظهر في حكم دخول المسجد للجنب:(1/176)
فعلى القول الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما ثبت الحرمة بالسنة المطهرة كحديث: "فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض".
وعلى القول الثاني تكون الآية نصا في الحرمة إلا في حالة العبور فيجوز له دون أن يمكث.
هذا ورخصت طائفة في دخول الجنب والمسجد واحتج بعضهم بقول النبي ("المؤمن ليس بنجس" قال ابن المنذر : وبه نقول.
وذهب أحمد إلى أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ.
الحكم الثاني: الأسباب المبيحة للتيمم:
ذكرت الآية بعض أسباب التيمم وهي:
1- المرض: فالمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم، لأنه في حكم العادم للماء.
2- السفر: يباح التيمم في السفر إذا انعدم الماء.
3- المجيء من الغائط: هو كناية عن الحدث.
4- ملامسة النساء.
بقي أنه ما الفائدة من ذكر السفر والمرض في جملة الاسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح كلهم على السواء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
أجاب المفسرون بأن المسافر لما كان غالب حال عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية474.
الحكم الثالث: (أو لامستم النساء(:
اختلف المفسرون في المراد بالملامسة هنا على قولين: الجس باليد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هو: الجماع.
وعليه اختلف الفقهاء في كون لمس الرجل المرأة والعكس ناقض للوضوء أو لا أقوال:
القول الأول: التقاء البشرة بين الجنسين ناقض للوضوء، وهو قول الشافعي.
وحجته أن اللمس حقيقة في ملاقاة البشرتين مجاز في الجماع والأصل حمل الكلام على الحقيقة.
القول الثاني: التقاء بشرتي الجنسين غير ناقض للوضوء، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر وهو قول أبي حنيفة.
وحجته: ما صح عن عائشة أن النبي( قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ475.
وحمل اللمس على الجماع بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين.(1/177)
القول الثالث: ينقض اللمس بشهوة ولو من وراء حائل لا يمنع اللذة، وإن كان بغير شهوة فلا ينقض وهذا مذهب مالك.
القول الرابع: مس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة، وهو مذهب الحنابلة.
وعللوا قولهم بأن اللمس ليس يحدث في نفسه وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تفضي إلى الحدث فيها وهي حالة الشهوة.
الترجيح:
القول بأن المراد باللمس هنا الجماع هو الراجح لما يلي:
1- لما ثبت من تقبيل رسول الله( لنسائه، دون إعادة الوضوء ففيه رد على من جعل اللمس ناقضا، وعلى من اشترط اللذة إذ ليس فيه تفصيل، بل في مختصر خليل: "وقبلة بفم" أي أن القبلة ناقضة للوضوء سواء وجد اللذة أم لا وهذا الحديث ناقض لهذا القول.
2- أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء إلا أنه أظهر في الجماع وإن كان مجازا، لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس476.
3- أنه قد تعورف عند إضافة المس على النساء معنى الجماع حتى كاد يكون ظاهرا فيه477.
4- أن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة478.
الحكم الرابع: معنى الصعيد الطيب:
اختلف أهل اللغة في المراد بالصعيد على أقوال:
1- التراب.
2- وجه الأرض ترابا كان أم غيره.
3- الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس.
وبناء على هذا الاختلاف اللغوي اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به:
القول الأول: جزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة ، وبه قال الحنفية.
وحجتهم ظاهر الآية وأن الصعيد هو كل ما صعد على وجه الأرض، وحملوا قوله (طيبا( على الطاهر الذي ليس بنجس.
القول الثاني: لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط وبه قال الشافعي وأحمد.
وحجتهم ما يلي:(1/178)
1- أن الله أوجب كون الصعيد طيبا والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه( فوجب في التي لا تنبت ألا تكون طيبة.
2- أن الآية -هنا- مطلقة ومقيدة في سورة المائدة بكلمة (منه( في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه( وكلمة منه تفيد التبعيض، وذلك يقتضي أن يصير على الوجه والأيدي شيء من الصعيد ولا يكون ذلك إلا في التراب479 فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب.
3- روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي ( قال : "فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض مسجدا وجعل ترابها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة"480.
الترجيح:
القول الثاني هو الراجح لقوة أدلتهم خاصة حديث حذيفة.
الحكم الخامس: كيفية التيمم:
في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم( بيان لكيفية التيمم وقد اختلف فيها فقهاء الأمصار:
القول الأول: التيمم ضربتان ضربة للوجه يمسحه بها وضربة لليدين يمسحهما بها إلى المرفقين، وهذا مذهب الحنفية والشافعية.
وحجتهم ما يلي:
1. عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : في التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين481ولهم أحاديث أخر.
2. وكون التيمم بدلا عن الوضوء فيأخذ البدل حكم المبدل.
3. جاءت الآية في اليدين مطلقا بينما جاءت آية الوضوء مقيدة بالمرفقين فحمل المطلق على المقيد
القول الثاني: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين ويندب إلى المرفق وبه قال المالكية.
القول الثالث: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وبه قال أحمد.
وحجته حديث عمار قال : "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" متفق عليه.
الترجيح:
القول الثالث هو الراجح لما يلي:(1/179)
1- أن الأحاديث التي فيها حكاية الضربتين كلها معلولة كما قال الحافظ في التلخيص.
2- عملا بما صح من السنة وهو حديث عمار في مسح الوجه والكفين وكونه بضربة واحدة.
طاعة ولي الأمر
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(النساء59
بيان الأحكام:
الحكم الأول: حجية السنة:
دل قوله تعالى: (وأطيعوا الرسول( على حجية السنة ووجوب اتباعها، بما في ذلك خبر الواحد لأن النص لم يفرق بين آحاد ومتواتر، ومن المعلوم أن معظم السنة آحاد ولا يشكل المتواتر إلا النزر اليسير، فرد السنة جملة أو الآحاد هو رد للشرع والدين برمته، ولهذا جاء الأمر الإلهي بطاعته وكرر لفظ الطاعة مع رسوله.
الحكم الثاني: معنى أولي الأمر وطاعتهم:
أمر الله سبحانه وتعالى عباده بطاعته وطاعة رسوله( وأولي الأمر واختلف في المراد بهم على قولين مشهورين:
1- الأمراء وبه قال الشافعي.
2- العلماء وبه قال مالك، استدلالا بقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم(.(1/180)
وأي الأمرين كان فهو واجب إجماعا، وحمله الكثير -وليس ببعيد- على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز وما لا يجوز، ولكن استشكل إرادة العلماء لقوله تعالى : (فإن تنازعتم في شئ( فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وألوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردوه أي فراجعوا فيه إلى الله أي إلى كتابه والرسول أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم482.
وطاعة أولي الأمر تكون فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم483.
الحكم الثالث: طاعة ولي الأمر هل تشمل المباح؟
في هذه المسألة خلاف:
قيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه، لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى .
وقيل : تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره وقال بعض محققي الشافعية : يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم .
وقال بعضهم : الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به .
ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك؟ كل محتمل وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أولا484.
الحكم الرابع: تضمن الآية للأدلة الشرعية:(1/181)
استدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنة وبالرد إليهما القياس أن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وليس القياس شيئا وراء ذلك وقد علم من قوله سبحانه : إن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع485.
وجوب تحرير الأسرى
( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً( النساء75
أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال لاستنقاذ الأسرى من يد العدو مع ما في القتال من تلف النفس فكان بذل المال في فدائهم أوجب لكونه دون النفس وأهو منها، وقد قال مالك: على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم ولذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة486.
رد التحية
(وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً( النساء86
أمر الله في هذه الآية برد التحية، ولكنهم اختلفوا في معناها على أقوال:
1- تشميت العاطس والرد على المشمت، وهو محكي عن مالك.
2- الهدية، وهو محكي عن الحنفية، لقوله تعالى: (أو ردوها( استدلالا بأن السلام لا يمكن رده بخلاف الهدية.
3- السلام وبه قال الجمهور، وهو الراجح.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: حكم رد السلام:
نقل القرطبي وغيره الإجماع على وجوب رد السلام للآية، ولما ثبت في السنة من كونه حقا من حقوق المسلم.(1/182)
ولكنهم اختلفوا في صفة الوجوب على قولين:
الأول: كفائي وذهب إليه الحمهور.
الثاني: عيني، قاله أبو يوسف.
والراجح قول الجمهور لما صح في أبي داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله(: "يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم"487.
الحكم الثاني: صفة التحية:
أطلق الله سبحانه التحية هنا وقيدها في موضع آخر فقال سبحانه: (َإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً( فخرج من الإطلاق تحية العرب كقولهم أطال الله بقاءك وأسعد مساءك، وما أشبه ذلك فإنه لا تجب إجابته، بل قال بعض العلماء لا يستحق جوابا488.
الحكم الثالث: صفة المحيي:
أطلق الله سبحانه صفة المحيي وأوجب الرد عليه سواء كان صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا.
أولا: الصبي: يجب الرد على سلامه إلا ما نقل عن بعض الشافعية من تخريج وجه ضعيف أن لا يجب.
وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان قال : لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم وقال أكثر العلماء : التسليم عليهم أفضل من تركه489
ثانيا: المرأة: ولها حالات:
1- إذا كان السلام من نسوة لنسوة وجب الرد.
2- إن كان من امرأة لرجل فلا يخلو الأمر من حالتين:
- فإن كانت زوجته أو محرما له أو عجوز غير مشتهاة وجب الرد.
- وإن كانت شابة فسلام أحدهما على الآخر مكروه ولا يستحق المسلم منهما جوابا، بل الجواب منها حرام ومنه مكروه، وسيأتي مزيد تفصيل في سورة النور بإذن الله.
ثالثا: الكافر:
إذا سلم الكافر السلام الشرعي ففي وجوب الرد عليه وعدمه خلاف:(1/183)
القول الأول: لا بأس بالرد عليه مجازاة له و لكن لا يزيد على قوله : و عليك لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا و عليكم ] وبه قال الحنفية490.
القول الثاني: يندب الرد وبه قال المالكية.
القول الثالث: يجب الرد، ويقول: وعليك فقط لخبر الصحيحين "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم".
وروى البخاري خبر إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقولوا وعليك وبه قال الشافعية 491والحنابلة.
الترجيح:
أن الذمي إذا سلم السلام المذكور عن يهود المدينة من قولهم: السام عليك، فيباح الرد ب: وعليك والأمر الوارد في الحديث للتعليم، ولتفطين الصحابة، ولأن قولهم ليس تحية حتى يجب الرد عليها، وأما إذا سلم السلام الشرعي فيجب الرد لعموم الآية.
الحكم الرابع: صفة رد السلام:
رد الأحسن أن يزيد فيقول : عليك السلام ورحمة الله لمن قال : سلام عليك فإن قال : سلام عليك ورحمة الله زدت في ردك : وبركاته وهذا هو النهاية فلا مزيد.
والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك : عليك السلام إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة وإن كان المسلم عليه واحدا.
والسنة في السلام والجواب الجهر ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي وعند المالكية تكفي إذا كان على بعد492.
عقوبة القتل الخطأ(1/184)
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً{92}(
هذه الآية من أمهات الأحكام ومعناها: ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ فقوله: (وما كان( ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي، ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط لأن ما نفاه الله يجوز وجوده493.
بيان الأحكام:
الحكم الأول: أنواع القتل:
أوجب الله القصاص في القتل في آية البقرة (كتب عليكم القصاص في القتلى( وأوجب الدية والكفارة في القتل الخطأ في الآية التي معنا فيعلم أن الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ494 وقد رأى مالك في بعض الروايات عنه أن القتل إما عمد وإما خطأ ولا ثالث لهما، لأنه إما يقصد القتل فيكون عمدا أو لا يقصده فيكون خطأ.
أما سائر فقهاء الأمصار فقد أثبتوا واسطة بين العمد والخطأ وهو شبه العمد، وبيانها كما يلي:
1- العمد: أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت غالبا كسيف.
2- الخطأ وهو ضربان: أحدهما: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلما، والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم، فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
3- شبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاح من حجر أو عصا.
الحكم الثاني: كفارة القتل الخطأ:
أوجب الله سبحانه في القتل الخطأ أمرين: عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب.(1/185)
والدية تتحملها العاقلة كما دلت عليه السنة، ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد العاقلة:
فقال أبو حنيفة هم أهل ديوانه .
وقال الجمهور هم قرابته من جهة أبيه وهم عصبته، وحجتهم أنه تعاقل الناس في زمن النبي( وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان، وإنما كان الديوان في زمن عمر.
وتحميل العاقلة الدية من باب المعاونة، وقد كان تحمل العاقلة الدية معروفا عند العرب -بل لا زال في اليمن إلى اليوم- وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق فجاء الإسلام وأقرهم على ذلك.
بقي أن أشير إلى أن الأصم والخوارج منعوا تحمل العاقلة الدية متمسكين بالآية، ولا دليل لهم مع قياس النص والإجماع والحكمة في ذلك أن دية المسلم كثيرة لا يطيقها القاتل وحده إلا نادرا، ولا يمكن إهدار دم المقتول عند فقر القاتل فكانت على عاقلته حفظ الدماء495.
الحكم الثالث:مقدار دية الخطأ:
أجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل والجمهور أنها مخمسة كما في أثر ابن مسعود أنه قال :
"دية الخطأ خمسة أخماس : عشرون حقه، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون ذكور" قال الدارقطني : هذا إسناد حسن.
واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل على أقوال:
1. قال مالك والشافعي في القديم: على أهل الذهب ألف دينار ، وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وحجتهم ما جاء عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم
2. وقال الشافعي في الجديد: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الفضة إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
3. وقال أبو حنيفة وأصحابه و الثوري : الدية من الورق عشرة آلاف درهم رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقرة مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة(1/186)
ودية الخطأ مخففة من ثلاثة أوجه : كونها مخمسة، وكونها على العاقلة، وكونها مؤجلة في ثلاث سنين.
الحكم الرابع: دية الذمي:
اختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية الذمي على أقوال:
القول الأول: هي على النصف من دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم ودية نسائهم على النصف من ذلك، وهو قول مالك وأحمد496.
ودليله ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم497.
القول الثاني: مثل دية المسلم، وهو قول أبي حنيفة.
ودليله قوله تعالى : (فدية( وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم498.
القول الثالث: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وهو قول الشافعي وروي هذا القول عن عمر وعثمان
وحجته أن ذلك أقل ما في قيل في ذلك والذمة برئة إلا بيقين أو حجة499.
الحكم الخامس: عموم المجني عليهم:
علق الله سبحانه هذه الأحكام بقتل المؤمن وأطلقه فوقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد والحكم كذلك بإجماع المسلمين إلا في العبد، فقالت طائفة من الكوفيين تجب فيه الدية لظاهر الآية، ولا تبلغ دية الحر، وقال الشافعي ومالك: تجب فيه القيمة بالغة ما بلغت قياسا على سائر الأموال، وقال أبو حنيفة: تجب في القيمة ولا يزاد بها على دية الحر.
الحكم السادس: المؤمن الذي أهله كفار:
هذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه فهل فيه دية مع الكفارة:
القول الأول:تجب الدية دون الكفارة، وهو قول أبي حنيفة والحنابلة.
وحجتهم قول الله تعالى : (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة( ولم يذكر دية وتركه ذكرها في القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعده ظاهر في أنها غير واجبة.(1/187)
القول الثاني: تجب الدية والكفارة وهو قول مالك و الشافعي، وهي عند الشافعي لبيت المال.
وحجتهم :
1- عموم قول الله تعالى : (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله( .
2- قال عليه السلام : [ ألا أن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ] .
3- أنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام
واختلفوا في وجه سقوط الدية على قولين:
1- أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية .
2- أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء(
الحكم السابع :قتل المعاهد خطأ:
قوله تعالى : (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق( هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة قاله ابن عباس و الشعبي و النخعي و الشافعي واختاره الطبري قال : "إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل: وهو مؤمن كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب، وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه"500.
القتل العمد
(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً{93}(
بيان الأحكام:
الحكم الأول: ماهو القتل العمد:
اختلف العلماء في معنى العمد على أقوال:
القول الأول: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدد أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها، وهو قول النخعي.
القول الثاني: ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروة المحددة والنار، وبه قال أبو حنيفة.
القول الثالث: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة، وهذا مذهب الجمهور.
الترجيح:(1/188)
الراجح ما ذهب إليه الجمهور لأن المقصود بالقصاص صيانة الدماء من الإهدار والقتل بالمثقل كالقتل بالمحدد في إتلاف النفوس فلو لم يجب به القصاص كان ذلك ذريعة إلى إزهاق الأرواح والأدلة الكلية القاضية بوجوب القصاص كتابا وسنة وردت مطلقة غير مقيدة بمحدد أو غيره501.
الحكم الثاني: القتل بالإيدز:
يعتبر مرض الإيدز مرضا قاتلا لا شفاء منه إلا أن يشاء الله سبحانه، ولهذا تجهز الدول مصحات خاصة لمرضى هذا المرض يقضي فيه بقية حياته متنقلا بين العلل والأمراض بعد أن يتركه الأقربون له.
وهنا نقول ماذا لو اتخذ هذا المرض وسيلة للقضاء على الآخرين وإنهاء حياتهم كما حدث في كثير من الحالات والتي اشتهر بعضها دوليا حيث قامت بعض الممرضات بتلقيح العشرات من الأطفال بلقاح موبوء بهذا المرض فأصيبوا جميعا وكان الموت مصيرهم.
هل يعتبر فاعل هذه الجريمة قاتلا للنفس، أم يقتصر الأمر على الخناجر والأسلحة النارية ونحوها؟
من المعلوم أن الوسائل مما تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص بل والمستوى الثقافي والاجتماعي، والضابط هو أنها وسيلة تقتل غالبا، كم ذكر أهل العلم، ولا شك أن الإيدز يقتل غالبا، بيد أن الموت قد يتأخر لسنوات، والذي يظهر والله أعلم أن مرتكب هذه الجريمة يحبس حتى يظهر أمران:
1- شفاء المجني عليه، وحينئذ تسقط عنه تهمة القتل العمد ويستحق العقوبة التعزيرية، ولا يخلو معها من الإثم،فهو مدان ديانة وقضاء.
2- موت المجني عليه بسبب المرض وتداعيات الكثيرة، والتي يعبر عنها الفقهاء بالموت سراية، وفي هذه الحالة تثبت على الجاني جريمة القتل العمد وإثمه فيقام عليه حد القتل قصاصا جزاء ما اقترفت يداه لعموم قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا(.
ونحن لو قلنا بغير هذا لفتحنا الباب واسعا لمرتكبي الجرائم ولأصبح القتل بهذه الطريقة أسهل بكثير من الوسائل التقليدية الأخرى.
الحكم الثالث: القتل الرحيم:(1/189)
قد يعاني البعض من مراض ميؤوس من شفائه وتشتد وطأته على المريض مما يجعل المريض يفضل الموت على الحياة فيترجى الأطباء بأن ينهوا حياته رحمة له من آلامه المبرحة -عافانا الله- ولهذا سمي القتل الرحيم.
وللقتل الرحيم صور:
1- إعطاء المريض جرعة كبيرة من دواء قوي مخفف للألم بحيث تقضي هذه الجرعة عليه
2- أن يكون المريض غير قادر على التنفس إلا بواسطة المنفاس فإذا فصل عنه هذا الجهاز توقف تنفسه ومات.
3- أن يكون علاج المريض سببا في استمرار حياته دون شفائه فإذا أوقف عنه العلاج مات.
هذه المسائل تعتبر من عويصات المسائل والتي دار حولها جدل كبير ليس على المستوى الشرعي بل والقانوني الدولي، وكانت دول أوروبا تحرم وتجرم هذا القتل بيد أن كثرة المطالبات والضغوط المتكررة من جماعات مؤيدة لهذه الجريمة محتجة بكونه حقا إنسانيا لا دخل لأحد فيه رضخت بعض الدول وأباحته.
أما من وجهة النظر الشرعية فقد ذكر الفقهاء صورة قريبة من هذه وهي ما لو قال شخص لأخر اقتلني فقتله هل يقاص به أم لا خلاف:
القول الأول: ذكر الشافعية والحنابلة إلى أنه لو قال المجني عليه للجاني اقتلني ففعل فلا شيء عليه، قال النووي في المنهاج:"لو قال: اقتلني ففعل فهدر" أي لو قال المجني عليه للجاني اقتلني فقتله فلا قصاص وفي وجوب الدية قولان المعتمد لا تجب ورأوا في الإذن شبهة دارئة للحد، وأوجبوا عليه الكفارة فقط لحق الله تعالى لأن الإذن لا يؤثر فيه502.
القول الثاني: ذهب الأحناف إلى وجوب الدية فقط503، لنفس الدليل السابق.
وسبب الخلاف في الدية مبني على أن الدية ثبتت لميت ابتداء في آخر جزء من حياته ثم يتلقاها الوارث أو على أن الدية ثبتت للوارث ابتداء عقب هلاك المقتول ؟ إن قلنا بالأول لم تجب الدية في حال السراية، لأنه أذن فيما يملك وإلا وجبت504.
القول الثالث: عليه القصاص، وهو قول المالكية وزفر من الحنفية505 وبعض الحنابلة506(1/190)
ويمكن أن يستدل لهم بأن الإنسان لا يملك حياته ولا جسمه، وعليه لا يجوز أن يأذن لغيره إنهاء حياته.
القول الرابع: للمالكية ولهم تفصيل فيه
الترجيح:
يبدو أن قول الحنفيه هو الراجح والله أعلم، لأن مبنى الحدود على درء الشبهات فإذا ما وجدت شبهة وهي هنا الإذن درأت الحد ولكن تجب الدية لأنها حق الورثة، والكفارة لأنها حق الله، وتكون هذه الصورة مستثناة أو غير داخلة في عموم الآية.
ومذهب مالك مبني فيما يبدو على سد الذرائع إذ يخشى أن يرتكب أحدهم هذه الجريمة ويقول أذن لي المجني عليه، وهذا قد يفتح باب فساد كبير، ولهذا كان قول المالكية أوفق بالأصل التشريعي الكبير سد الذرائع، وقول غيرهم أوفق بالنص الجزئي وهو درء الحدود بالشبهات، والنص الجزئي يقدم على الكلي في الغالب، والمسألة اجتهادية، ولهذا فهي تحتاج إلى مزيد من الدراسة وخاصة في تداعياتها، ومآلاتها، لكونها تتعلق بالدماء وهي مما يتحرز فيها أشد التحرز.
بناء على الخلاف السابق نقول في مسألة القتل الرحيم:
لو أخذنا بقول المالكية نقول إن الطبيب الذي يرتكب صورة من الصور الماضية عامدا عالما مختارا يكون قد ارتكب جريمة القتل الذي يعاقب عليها الشرع بالقصاص، ولا يشفع له إذن المجني عليه "لأن الدماء لا تستباح بالاستباحة والبذل"507 ولا يشفع له شدة ألم المريض أو مشاعر الشفقة والرحمة التي حملته على هذا الجرم، لأنه داخل في عموم الآية: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا(.
ولو أخذنا بقول الجمهور لم نوجب عليه شيء إلا الكفارة كما هو مذهب الشافعية، أو الدية كما هو مذهب بالأحناف.
ولكن لا ننسى أنه إذا أخذنا بهذا القول فلا يكفي قول الطبيب فلا يصدق الطبيب بأنه مأذون له، بل لابد من وجود بينة وهذا معلوم.
تم القسم الأول
والحمد لله أولا وآخرا.
1)) انظر أحكام القرآن للشافعي 19
2 المستصفى342
3 المحصول135
4 إرشاد الفحول 370، وانظر إجابة السائل384(1/191)
5 سنن الدارقطني1/312 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 729.
6 مسلم1/300
7 المجموع 3/293
8 سنن أبي داود1/269 وصححه الألباني.
9 تفسير الطبري1/491
10 انظر تذكرة الموضوعات 759
11 انظر كشف الخفاء 2/1870
12 انظر فتح الباري
13 مجمع الزوائد5/105 وانظر الفوائد المجموعة491
14 روح المعاني 1/340
15 عمدة القاري14/63
16 البخاري 6/2515 ومسلم 1/92
17 روح المعاني 1/340
18 المرجع السابق.
19 الوجيز للواحدي 123
20 إرشاد الفحول276
21 البخاري1/398 ومسلم 2/1012
22 المغني1/490، ابن العربي 1/65، والجصاص1/128
23 روائع البيان 1/127
24 الوجيز للواحدي 140
25 مسند أحمد6/421 وصححه ابن خزيمة4/233 والألباني في الإرواء4/268
26 التحرير والتنوير1/266
27 أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
28 الجصاص 1132
29 أخرجه البخاري 2/779 ومسلم3/1207
30 ابن العربي 1/79
31 السابق
32 الجصاص1/154
33 التحرير والتنوير1/493
34 انظر ابن العربي 1/83، والمغني11/74
35 تيسير البيان للموزعي 1/291
36 ابن كثير 1/284
37 انظر ابن العربي 1/90
38 القرطبي2/239
39 سنن البيهقي الكبرى 8/30، وضعفه الألباني في الضعيفة1/669
40 المغني 10/299
41 القرطبي2/239
42 انظر: أشرف المسالك1/160، مغني المحتاج4/13، والمغني9/342
43 أبو داود 2/89 وصححه ابن حبان و الألباني
44 البخاري 1/53
45 المغني 10/299
46 الترمذي4/17 وصححه الألباني
47 انظر المغني 5/ 142 والقرطبي2/239والمهذب 3/190
48 القرطبي 2/275
49 أبو داود 2/127 وحسنه الحافظ في التلخيص 3/92
50 المغني3/88
51 مسلم 2/786
52 مسلم2/790
53 مسلم2/789
54 روائع البيان 1/208
55 البخاري4/1638 ومسلم2/801
56 2/272
57 انظر الحساب الفلكي بين القطعية والاضطراب 3،
58 السايس وزملاؤه 1/169
59 أخرجه الترمذي وصححه الحاكم والألباني.
60 السايس 1/177
61 المغني3/127
62 مسلم 2/830
63 صححه الألباني
64 انظر الطبري2/195
65 1/102(1/192)
66 الوجيز للواحدي154
67 انظر فتح القدير1/239
68 القرطبي2/351
69 الجصاص1/326
70 2/206 وانظر القرطبي2/359
71 الجصاص1/329
72 أبو داود 1/562 وصححه الألباني في الصحيحة 3/464.
73 ضعيف الترمذي 1/108
74 ضعيف ابن ماجة1/237
75 فتح القدير1/299
76 الجصاص1/329
77 نظر توجيه ما قاله في تفسيره 2/215
78 فتح القدير 1/299
79 فتح القدير1/306
80 فتح القدير1/306
81 الموزعي 1/398
82 السابق.
83 زاد المسير1/234
84 ابن العربي 1/207
85 البخاري3/1570
86 روح المعاني 2/113
87 انظر زاد المسير 1/239، والسايس 1/236
88 روح المعاني2/114
89 السايس 1/239
90 السايس 1/241
91 انظر تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني وابن قاسم 7/322.
92 انظر فتح القدير لابن الهمام 3/135.
93 الفتاوى الكبرى 5/455
94 الموطأ278 لكنه ضعيف انظر التلخيص 3/172
95 المحلى 9/445.
96 الموطأ2/186 بشرح الزرقاني.
97 البدائع 2/552
98 انظر مغني ابن قدامة 9/545.
(99) أخرجه مسلم (1/246)
(100) الجامع لأحكام القرآن (3/81)
(101) لسان العرب (7/142) والقاموس المحيط (826) م حيض.
(102) ينظر روح المعاني لأبي الفضل محمود الآلوسي (1/124) دار إحياء التراث العربي ، بيروت لبنان ، ط4، 1405هـ،1985م. وغاية البيان شرح زبد ابن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي (98) تخريج وتعليق وضبط: خالد عبد الفتاح شبل ، مؤسسة الكتب الثقافية ، ط1 ، 1411هـ- 1991م.
(103) لسان العرب (7/142) م حيض، و الجامع لأحكام القرآن (3/81)
(104) غاية البيان شرح زبد ابن رسلان لمحمد بن أحمد الرملي (98) وروح المعاني(1/124).
(105) المجموع (2/290)
(106)المصدر السابق.
(107) ينظر جامع البيان (2/381) والمجموع (2/290)
108 أخرجه أبو داود1/104 وضعفه الألباني.
109 الفتح1/404
110 انظر المرجع السابق، وشرح النووي على مسلم 3/205
111 الفتح 1/404 وشرح النووي على مسلم 3/205
112 المغني 1/384
(113) الجامع لأحكام القرآن (3/86)(1/193)
(114) المبسوط(10/146)
(115) المبسوط (3/147)
(116) المصدر السابق (10/146)، وينظر (3/147) منه، والمهذب (1/44)
(117) أخرجه أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في الأوسط (2/331) تحقيق : طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين القاهرة 1415هـ.
(118) الإقناع (1/24)
119 النيل1/351
120 بداية المجتهد1/88
121 روائع البيان 1/302.
(122) ينظر القاموس المحيط (214) م حرث، مؤسسة الرسالة، ط2، 1407م.
(123) ينظر الطبري (2/392)
(124) ينظر الكشاف عن حقائق التنزيل لجارالله محمود الزمخشري(1/134) والأساس لسعيد حوى (1/518)
(125) جامع البيان (2/397) وما بعدها ، وينظر المحلى (10/69)
(126) صحيح ابن حبان ( 9/517) ونحوه الترمذي (3/468) وحسنه.
(127) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/46) والدارمي في سننه (1/276) ، والبيهقي في الكبرى 7/199، وأبو القاسم سليمان الطبراني في الأوسط (7/357)
(128) أخرجة الترمذي (1/243) وصححه الألباني
(129) أخرجه أبو داود ( 2/249) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/406).
(130) تقدم تخريجه.
(131) أخرجه أحمد (2/182،210) قال الحافظ عبد العظيم المنذري : ورجاله رجال الصحيح، الترغيب (3/198) تحقيق: إبراهيم شمس الدين ، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1417هـ.
(132) أخرجه الدارمي (1/277)واللفظ له، والترمذي(3/463) وصححه ابن حبان (1/169)
(133) تحفة الأحوذي (4/275)
(134) حاشية شيخ زاده على البيضاوي (2/536) بتصرف وحذف يسيرين.
(135) للمزيد حول هذا الموضوع ينظر محرمات العلاقة الزوجية في القرآن الكريم.
(136) ينظر الموافقات (2/177) حققه : خالد شبل،مؤسسة الرسالة1420هـ-1999م.
137 زاد المسير1/235
138 ابن ماجه 1/660 وصححه الحاكم على شرط مسلم وخالفه الذهبي والحافظ وحسنه الألباني.
139 البخاري 4/1686
140 المغني 11/167
141 المرجع السابق 11/180
142 التلخيص الحبير3/210
143 المغني 8/529(1/194)
144 البخاري6/2613
145 الموزعي 1/428
146 انظر المغني 9/81
147 السايس 1/257
148 زاد المسير 1/260
149 1/254
150 زاد المسير 1/260
151 ابن كثير1/363
152 فتح القدير 1/362
153 انظر المغني 8/235
154 تفسير ابن كثير1/365
155 السابق
156 زاد المسير1/266
157 1/373
158 البخاري5/2014
159 ابن ماجه 1/623، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني
160 الحاكم 2/217 وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي
161 ابن كثير 1/378
162 زاد المسير1/267
(163) لسان العرب (11/451)
(164) صحيح البخاري رقم (4837) وأسباب النزول للواحدي (67)
(165) فتح القدير (1/279) بتصرف يسير، وينظر روح المعاني (2/144)
(166) انظر روح المعاني (2/144)
(167) فتح القدير (1/279) وينظر زاد المسير (1/269) وروح المعاني (2/144)
(168) اختار الزمخشري هذا القول (الكشاف 1/140) وينظر روح المعاني (2/144)
(169) تفسير أبي السعود (1/229)
(170) ينظر المصادر السابقة، والتي قبلها.
171 روائع البيان 1/352
172 القرطبي2/152
173 فتح القدير 1/371
174 روائع البيان 1/355 والقرطبي 2/152
175 زاد المسير1/270
176 المرجع السابق
177 السايس 1/277
178 الجامع لأحكام القرآن 3/165
179 أخرجه مسلم 2/1123
180 انظر تفسير القرآن العظيم1/382، ومغني المحتاج3/393، والمغني9/167
181 انظر زاد المسير1/275
182 روائع البيان 1/377
183 التحرير والتنوير1/676
184 السايس 1/283
185 الجامع لأحكام القرآن 3/158
186 المغني 8/70
187 المبسوط4/81
188 مسلم 1/463
189 المغني8/47
190 القرار التاسع.
191 أي لا تفضلوا والشف الزيادة.
192 مسلم 3/1208
193 مجلة المجمع ع 8/72
194 أبو داود2/264
195 القرطبي 3/240
196 تيسير البيان للموزعي 1/506
197 الموزعي 1/507
198 أبو داود 3/208، والنسائي7/301، وصححه الألباني
199 الموزعي 1/511
200 الموزعي 1/511
201 أخرجه البخاري 2/745 ومسلم 3/1165
202 الموزعي 1/511(1/195)
203 المبسوط6/148
204 القرطبي 1/355
205 بداية المجتهد1/1273
206 التلقين 538
207 انظر القرطبي 1/355، والموزعي1/512
208 الجصاص 2/225
209 الموزعي1/512
210 الفتح 5/266
211 السابق 5/266
212 السابق 5/266
213 رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.
214 انظر المغني 12/65
215 نيل الأوطار9/154
216 ابن العربي 1/338
217 روح المعاني 3/60
218 فتح القدير1/452
219 تفسير ابن كثير1/446
220 ابن العربي 1/342
221 فتح القدير1/452، والقرطبي 1/3/372
222 القرطبي 1/372
223 بداية المجتهد 1/1082
224 المغني 4/401
225 الموزعي 1/519
226 القرطبي 3/386
227 الطبري3/227
228 مسلم 3/1449
229 القرطبي 4/60
230 2/290، ولمعرفة الفرق بين ما قاله علماء الإسلام في شأن التقاة هنا وما يقوله الرافضة يراجع كتاب أصول الشيعة للقفاري.
231 الموزعي 1/522، وللمزيد حول مسألة التكفير وضوابطه يراجع كتاب ضوابط التكفير، وكتاب مسألة التكفير عند ابن تيمية، وكتاب التكفير: حكمه وضوابطه والغلو فيه.
232 روائع البيان 1/412
233 الموزعي 1/531
234 روائع البيان 1/425
235 البخاري3/1016
236 السايس 1/359
237 التحرير والتوير 1/886
238 رواه أبو داود1/637 و النسائي 6/87، وقال الهيثمي4/514: رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/394
239 أخرجه أحمد وقال الهيثمي 4/514: رجاله ثقات وحسنه الألباني في الإرواء6/233
240 المغني 7/379
241 مفاتيح الغيب 9/172
242 انظر تفسير القرطبي 3/17.
243 فتح القدير 1/483.
244 التحرير والتنوير 3 /225.
245 أخرجه الترمذي 3/435،وصححه ابن حبان 9/554
246 انظر فتح القدير 1/483 والقرطبي 3/17.
247 انظر التحرير والتنوير 3/225.
248 انظر تفسير القرطبي 3/17.
249 انظر فتح القدير 1/483.
250 انظر تفسير القرطبي 3/17 فتح القدير 1/483.
251 انظر فتح القدير 1/483.
252 تفسير القرطبي 3/17.
253 الجامع لأحكام القرآن 5/25
254 السابق(1/196)
255 السايس 1/366
256 السابق.
257 السابق
258 الجامع لأحكام القرآن 5/25
259 3/586
260 السايس 1/367
261 القرطبي 5/30
262 السايس 1/369
263 ابن العربي 1/ 419
264 بداية المجتهد 1/1090
265 المغني4/566
266 مغني المحتاج 2/165
267 السابق
268 5/35
269 التحرير والتنوير1/898
270 السايس 1/374
271 زاد المسير 2/17
272 التحرير والتنوير1/897
273 السابق.
274 مغني المحتاج 2/173
275 المغني 4/319
276 السابق
277 السابق
278 السابق
279 فتح القدير1/641
280 التحرير والتنوير1/898
281 مغني المحتاج1/432
282 الجصاص2/364
283 2/365
284 التحرير والتنوير1/898
285 السايس 1/377 وانظر الجصاص2/366
286 فتح القدير1/645
287 مختصر ابن كثير1/271
288 القرطبي 5/48، والموزعي 1/548
289 التحرير والتنوير1/900
290 القرطبي5/48
291 الموزعي 1/549
292 السايس 1/379
293 القرطبي 5/48
294 السايس 1/401
295 أبو السعود2/155
296 روح المعاني 4/236
297 فتح القدير 1/659
298 انظر المهذب3/366 والمغني10/311
299 تيسير البيان 1/579
300 تيسير البيان 1/579
301 روح المعاني4/241
302 الطبري3/646
303 السايس 1/407
304 زاد المسير 2/40
305 السايس 1/407
306 زاد المسير 2/41
(307) ينظر تفسير ابن كثير (1/466)
(308) ينظر الكشاف (1/140)
(309) ينظر أحكام القرآن للجصاص (2/109) وتفسير البيضاوي (3/285) والظلال (1/606).
(310) تفسير المراغي لأحمد مصطفى المراغي (4/213) دار إحياء التراث العربي، بيروت، وينظر المفصل (7/235)
(311) أخرجه مسلم (10/58) مع شرح النووي.
(312) انظر محرمات العلاقة الزوجية في القرآن الكريم 119
313 تيسير البيان 1/584
314 السايس 1/409
315 انظر الموزعي 1/583
316 أخرجه البيهقي ( 7 / 233 ) وقال : " هذا منقطع " . قال في الإرواء6/348: ومع انقطاعه ضعيف من أجل مجالد وهو ابن سعيد ليس بالقوي.
317 المغني8/62، وروح المعاني 4/244
318 البدائع(1/197)
319 مجموع الفتاوى 32/62
320 انظر شرح زبد ابن رسلان للرملي، ومغني المحتاج3/232.
321 انظر المصدرين السابقين.
322 انظر المصدرين السابقين.
323 مغني المحتاج 3/232.
324 أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/192
325 انظر في ظلال القرآن 1/608
326 انظر مصدر سابق
327 2/161
328 انظر مغني المحتاج 3/233
329 تفسير المنار 4/318
330 تفسير المنار 4/318
331 مغني ابن قدامة9/530
332 القاموس المحيط
333 أسهل المدارك 2/48
334 تفسير المنار 4/382
335 فتح الباري 9/ 177
336 انظر المغني 11/309
337 بداية المجتهد 3/67
338 الأم 5/28
339 انظر الأم 5/28.
340 اخرجه البيهقي من حديث علي.
341 انظر فتح القدير لابن الهمام 3/310.
342 مصدر سابق 3/310.
343 الجوهر النقي للمارديني ومعه السنن الكبرى 7/456.
344 الإختيارات الفقهية
345 نيل الأوطار 6/752.
346 انظر زاد المعاد 4/182:180
347 الهداية مع فتح القدير 3/305
348 3/145
349 انظر الأنكحة الفاسدة 1/150،ومدونة الفقه المالكي 3/145
350 انظر فتح القدير لابن الهمام 3/306.
351 انظر مدونة الفقه المالكي 3/146.
352 انظر أحكام القرآن للجصاص 2/156.
353 انظر المغني لابن قدامة 11/310 وما بعدها.
354 نيل الأوطار 6/749.
355 مغني ابن قدامة 11/312.
356 انظر شرح الخرشي 5/180.
357 انظر الكافي 5/61،والمغني 11/321.
358 انظر الأم 6/30.
359 انظر مغني ابن قدامة 11/322.
360 انظر تفسير المنار 4/390 والمغني 9/515.
361 أخرجه الترمذي3/425وقال الترمذي :لا يصح،وأخرجه البيهقي7/40
362 أحكام القرآن للجصاص 2/160.
363 المصدر السابق.
364 ميزان الإعتدال 2/448.
365 انظر المصدر السابق.
366 انظر بداية المجتهد 3/62.
367 أخرجه مسلم 2/1079.
368 نقل هذا القول عن ابن عباس وأبوسعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري انظر تفسير الطبري 4/3،و فتح القدير1/516.
369 تفسير الطبري 4/3.(1/198)
370 ونقل هذا القول عن أبي مجلز انظر تفسير الطبري 4/7.
371 انظر المصدر السابق 4/8.
372 السايس 1/428
373 السابق
374 السابق
375 انظر المصدر السابق 4/8.
376 السابق
377 انظر لسان العرب م حصن.
378 حاشية ملا زادة على البيضاوي 2/296.
379 انظر المصدر السابق 2/296.
380 فتح القدير 1/523.
381 3/144.
382 فتح القدير1/675
383 السايس 1/429
384 فتح القدير1/675
385 بل نص ابن حزم في الفصل على ردة منكر سنة الآحاد ، ونص السيوطي في ظلال الجنة على ردة منكر السنة مطلقا.
386 نيل الأوطار6/194
387 القرطبي5/115
388 البخاري2/811 ومسلم 2/1040
389 المغني8/7
390 البدائع2/564
391 القرطبي5/115
392 بداية المجتهد 1/688
393 القرطبي5/115
394 السايس 1/442
395 فتح القدير1/688
396 التحرير والتنوير1/935
397 الجصاص3/131
398 السايس 1/443
399 المغني4/7
400 السابق
401 السابق
402 الموزعي 1/611
403 المغني4/7
404 البخاري5/2179 ومسلم 1/103
405 2/364
406 انظر الموزعي 1/613
407 روح المعاني 5/18
408 روح المعاني 5/18
(409) انظر إرشاد الفحول 99
(410) مجموع الفتاوى 11/652
(411) البخاري 5/2231 ومسلم 4/1981
412 روح المعاني 5/17
(413) إرشاد الفحول 99
(414) الجامع لأحكام القرآن (5/169)
(415) ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/169) وأحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي (1/530) والكشاف للزمخشري (1/265) .
(416) ينظر تفسير المنار (5/56)
(417) المفصل (7/277)
(418) ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/169) ، المنار (5/56)
(419)ينظر تفسير ابن كثير (1/492) والمنار (5/56) والمفصل (7/277)
(420)جامع البيان (5/59)
(421) المصدر السابق.
(422) المصدر السابق
(423) الجامع لأحكام القرآن (5/169)
(424) الجامع لأحكام القرآن (5/169)
(425) مسند الطيالسي (1/306) والفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي (2/181) تحقيق :السعيد بسيوني، دار الكتب العلمية،بيروت،ط1، 1986م.(1/199)
(426) المغني (8/189)
(427) المفصل (7/309)
(428)جامع البيان (5/62)
(429)الجامع لأحكام القرآن (5/171) وينظر المغني (7/242)
(430)ينظر المفصل (7/313)
(431)الجامع لأحكام القرآن (5/171)
(432)ينظر جامع البيان (5/63)
(433)ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/171)
(434)أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي(1/532) مراجعة وتعليق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1408هـ-1988م.
(435) ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/171) والطبري (5/66) والمنار (5/60) وابن كثير(1/493) وعون المعبود (6/129)
(436) ينظر مفاتيح الغيب(10/93)
(437) البخاري (5/2253) ومسلم (4/1993) وينظر المنار (5/60) والمفصل (7/315)
(438) ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/172) وابن كثير (1/493)
(439) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، ليحي النووي (8/184) دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ.
(440) حواشي البجيرمي على الإقناع (3/599)
(441) ينظر المصدر السابق، وتفسير المنار (5/60)
(442)الجامع لأحكام القرآن (5/173)
(443) ينظر الجامع لأحكام القرآن (5/173)
(444) مفاتيح الغيب (10/93)
(445)الجامع لأحكام القرآن (5/172)
(446) الإقناع للشربيني (3/599)
(447)ينظر مفاتيح الغيب للفخر الرازي (10/90) دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،ط1، 1411هـ-1990م.
(448)أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/304) والحاكم (2/208) ومصنف ابن أبي شيبة (5/223)
(449)فتح الباري (9/304)
(450)فيض القدير (1/534)
(451) مفاتيح الغيب (10/93)
(452) فتح القدير (1/532)
(453) ينظر مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري (2/408) تحقيق: محمد عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1992م.
(454) تفسيرالمنار (5/61)
(455) ينظر في ظلال القرآن الكريم لسيد قطب(2/654) دار الشروق، ط16، 1410هـ-1990م.
(456) أحكام القرآن لابن العربي (1/536)
457 التحرير والتنوير 1/945
(458) تفسير ابن كثير (1/493)(1/200)
(459) الجامع لأحكام القرآن (5/173)
(460) تفسير البيضاوي (2/185)
(461) الجامع لأحكام القرآن (5/173)
(462) جامع البيان (5/70)
(463) المصدر السابق
(464) تفسير ابن كثير (1/493)
(465) الجامع لأحكام القرآن (5/173)
466 السايس 1/460
467 السايس 1/461
468 الموزعي 1/621
469 القرطبي 5/167
470 التحرير والتنوير1/945
471 انظر أحكام القرآن للشافعي 212، والمهذب2/486
472 السايس 1/462
473 السابق، والتحرير والتنوير1/946.
474 السايس 1/470
475 صحيح ابن ماجه 1/82
476 بداية المجتهد 1/45
477 الجصاص4/5
478 بداية المجتهد1/45
479 الموزعي 1/638، وانظر الكشاف 1/256
480 مسلم 1/371
481 الدارقطني1/181
482 روح المعاني 5/66
483 فتح القدير1/726
484 روح المعاني5/66
485 روح المعاني 5/67
486 ابن العربي 1/583، والموزعي 1/640
487 أبو داود2/775 وصححه الألباني.
488 الموزعي 1/642
489 القرطبي5/283
490 البدائع4/306
491 مغني المحتاج4/211
492 القرطبي 5/283
493 القرطبي5/297
494 السايس 1/492
495 الموزعي 1/656
496 المغني9/528
497 سنن الترمذي4/25 وحسنه، كما حسنه الألباني في الإرواء 7/307
498 البدائع6/304
499 كفاية الأخيار602
500 القرطبي5/297
501 النيل7/99
502 انظر مغني المحتاج 4/48، ودليل الطالب2/215
503 اللباب 4/5، والبدائع6/174
504 الفقه على المذاهب الأربعة5/130
505 البدائع 6/174
506 الإنصاف9/454
507 المغني 9/439
??
??
??
??
- 8 -(1/201)