صفحة رقم 311
ولما ذكر الصيحة الأولى ، أتبعها الثانية حالاً منها دلالة على قربها قرباً معنوياً لتحقق الوقوع ، ولأن ذلك كله في حكم يوم واحد ، فصح مجيء الحال وإن بعد زمنه من زمن صاحبه فقال : ( تتبعها الرادفة ) أي الصيحة التابعة لها التي يقوم بها جميع الأموات وتجتمع الرفات ، وتضطرب من هولها الأرض والسماوات ، وتدك الجبال ويعظم الزلزال ، ويكون عنها التسيير بعد المصير إلى الكثيب المهيل ، ونحو ذلك من الأمر الشديد الطويل ، قال حمزة الكرماني : روى السدي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فبينما هم في قبورهم نفخ في الصور ثانية فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم .
ولما ذكر البعث ، ذكر حال المكذب به لأن السياق له ، فقال مبتدئاً بنكرة موصوفة : ( قلوب يومئذ ) أي إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى ) واجفة ) أي شديدة الاضطراب ، وكان قد يخفى سببه لكونه قد يكون عند السرور العظيم كما قد يكون عند الوجل الشديد ، أخبر عنه بما يحقق معناه فقال : ( أبصارها ) أي أبصار أصحابها فهو من الاستخدام ) خاشعة ) أي ذليلة ظاهر عليها الذل واضطراب القلوب من سوء الحال ولذلك أضافها إليها .
ولما وصفها بالاضطراب الذل ، علله ليعرف منه أن من يقول ضد قولهم يكون له ضد وصفهم من الثبات والسكون والعز الظاهر فقال : ( يقولون ) أي في الدنيا قولاً يجددونه كل وقت من غير خوف ولا استحياء استهزاءً وإنكاراً .
) إنا لمردودون ) أي بعد الموت ممن يتصف بردنا كائناً من كان ) في الحافرة ) أي في الحياة التي كنا فيها قبل الموت هي حالتنا الأولى ، من قولهم : رجع فلان في حافرته ، أي طريقته التي جاء بها فحفرها أي أثر فيها بمشيه كما تؤثر الأقدام ، والحوافر في الطرق ، أطلق على المفعولة فاعلة مبالغة وذلك حقيقته ، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم رجع إليه : رجع إلى حافرته ، وقيل : الحافرة الأرض التي هي محل الحوافر .
ولما وصف قلوبهم بهذا الإنكار الذي ينبغي لصاحبه أن يذوب منه خجلاً إذا فرط منه مرة واحدة ، وأشار إلى شدة وقاحتهم بتكريره ، أتبعه التصريح بتكريرهم له على وجه مشير إلى العلة الحاملة لهم على قوله وهو قولهم : ( أإذا كنا ) أي كوناً صار جبلة لنا ) عظاماً نخرة ) أي هي في غاية الانتخار حتى تفتتت ، فكان الانتخار وهو البلى(8/311)
صفحة رقم 312
والتفتت والتمزق كأنه طبع لها طبعت عليه ، وهي أصلب البدن فكيف بما عداها من الجسم ، وعلى قراءة ( ناخرة ) المعنى أنها خلا ما فيه فصار الهواء ينخر فيها أي يصوّت .
النازعات : ( 12 - 19 ) قالوا تلك إذا. .. . .
) قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ( ( )
ولما كان العامل في ( إذا ) مقدراً بنحو أن يقال : نرد إذ ذاك إلى حالتنا الأولى ونقوم كما كنا ؟ دل على هذا المحذوف قوله تعالى عنهم : ( قالوا ) أي مرة من المرات : ( تلك ) أي الردة إلى الحالة الأولى العجيبة جداً البعيدة من العقل في زعمهم ) إذاً ) أي إذ نرد إلى حياتنا الأولى لا شيء لنا كما ولدنا لا شيء لنا ، ونفقد كل ما سعينا في تحصيله وجمعه وتأثيله ) كرة ) أي رجعة وإعادة وعطفة ) خاسرة ) أي هي لشدة خسارتنا فيها بما فقدنا مما حصلناه من الحال والمآل وصالح الخلال ، عريقة في الخسارة حتى كأنها هي الخاسرة ، ولعله عبر بالماضي لأنهم ما سمحوا بهذا القلو إلا مرة من الدهر ، وأما أغلب قولهم فكان أنهم يكونون على تقدير البعث أسعد من المؤمنين على قياس ما هم عليه في الدنيا ونحو هذا من الكذب على الله .
ولما كان التقدير : نعم والله لتردن يا هؤلاء ، إنما هذا الذي تقولونه كله استبعاد منكم كما أنكم مقرون بسهولته لو عقلتم ، أما من جهة القدرة فلأن الابتداء أصعب من الإعادة وأنتم مقرون بالابتداء ولأن الاستبعاد إن كان من جهة وقوع الظن بأن من صار تراباً يصير عوده محالاً من جهة تعذر تمييز ترابه من تراب غيره ، فتمييز النازع والناشط من الملائكة للروح من الجسد أصعب من ذلك بكثير ، وكذا غير هذا مما تدبره الملائكة من الأمور ، فكيف يصعب على ربهم سبحانه شيء يسهل مثله عليهم ، وأما من جهة العوائد فإن أحداً لا يدع رعية له بغير حساب أصلاً ، وأما من جهة الوعد فقد تقدم به ، وليس من شيم الكرام فضلاً عن الملوك إخلاف الوعد ولا إقرار الظلم فلا تكذبوا به ، وليس من شيم الكرام فضلاً عن الملوك إخلاف الوعد ولا إقرار الظلم فلا تكذبوا بها ولا تستصعبوها ، قال مسبباً عن هذا المدقر مهدداً لأصحاب الشبهة المقلدين : ( فإنما هي ) أي القيامة ) زجرة ) أي صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف ) واحدة ( عبر بالزجر وهو أشد من النهي لأنه يكون للعرض لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً ، فكان كأن لسان الحال قال عن تلك الصيحة : أيها الأجساد البالية انتهى عن الرقاد ، وقومي إلى الميعاد ، بما حكمنا به من المعاد ، فقد انتهى زمان الحصاد ، وآن أوان الاجتناء لما قدم من الزاد ، فيا ويل من ليس له زاد(8/312)
صفحة رقم 313
) فإذا هم ) أي فتسبب عن هذه النفخة وهي الثانية أنهم فاجؤوا بغاية السرعة كونهم أحياء قائمين ) بالساهرة ) أي على ظهر الأرض البيضاء المستوية الواسعة التي يجددها الله للجزاء فتكون سعتها كأنها قد ابتلعتهم على كثرتهم التي تفوت العد ، وتزيد على الحد ، سميت بذلك لأن الشراب يجري فيها من الساهرة وهي العين الجارية ، أو لأن سالكها يسهر خوفاً كما أن النوم يكون آمنة ، أو لأن هذه الأرض بالخصوص لا نوم فيها مع طول الوقوف وتقلب الصروف الموجبة للحتوف .
ولما كانت قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع القبط أشبه شيء بالقيامة لما حصل فيها من التقلبات والتغيرات وإيجاد المعدومات من الجراد والقمل والضفادع على تلك الهيئات الخارجة عن العادات في أسرع وقت .
وقهر الجبابرة والمن على الضعفاء حتى كان آخر ذلك أن حشر بني إسرائيل فنشطهم من القبط نشطاً رقيقاً كلهم وجميع ما لهم مع دوابهم إلى ربهم وحشر جميع القبط وراءهم فنزعهم نزعاً كلهم بحشر فرعون لهم بأصوات االمنادين عنه في أسرع وقت وأيسر أمر إلى هلاكهم كما يحشر الأموات بعد إحيائهم بالصيحة إلى الساهرة ، ثم كانت العاقبة في الطائفتين بما للمدبرات أمراً أن نجا بنو إسرائيل بالبحر كما ينجو يوم البعث المؤمنون بالصراط ، وهلك فرعون و آله به كما يتساقط الكافرون بالصراط ، وذلك أنه رأى فرعون وجنوجه البحر قد انفلق لبني إسرائيل فلم يعتبروا بذلك ثم دخلوا فيه وراءهم ، ولم يجوزوا أن الذي حسره عن مكانه قادر على أن يعيده كما ابتدأه فيغرقهم واستمروا في عماهم حتى رده الله فأغرقهم به كما أن من يكذب بالقيامة رأى بدء الله له ولغيره وإفناءه بعد إبادائه ثم إنه لم يجز أن يعيده كما بدأه أول مرة ، وصل بذلك قوله تعالى جواباً لمن يقول : هل لذلك من دليل ؟ مخاطباً لأشرف الخلق إشارة إلى أنه لا يعتبر هذا حق اعتباره إلا أنت ، مستفهماً عن التيان للتنبيه والحث على جمع النفس على التأمل والتدبر والاعتبار مقرراً ومسلياً له ( صلى الله عليه وسلم ) ومهدداً للمكذبين أن يكون حالهم وهم أضعف أهل الأرض لأنه لا ملك لهم حكال فرعون في هذا ، وقد كان أقوى أهل الأرض ، بما كان له من الملك وكثرة الجنود وقوتهم وسحرهم ومرودهم في خداعهم ومكرهم ورأى من الآيات ما لم يره أحد قبله ، فلما أصر على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأدجيب أغرقه الله وآله فلم يبق منهم أحداً وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث إنه قيل : إن طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف : ( هل أتاك ) أي يا أعلم الخلق ) حديث موسى ) أي ما كان من أمره الذي جددناه له حين أردناه فيكون كافياً لك في التسلية ولقومك في الحث على التصديق والتنبيه على الاعتبار والتهديد على الكذيب والإصرار ) إذ ) أي حين ) ناداه ربه ( أى(8/313)
صفحة رقم 314
المحسن إليه بإيجاده وتقريبه وتدبيره أمر إرساله وتقديره ) بالواد المقدس ) أي المطهر غاية التطهر بتشريف الله له بإنزال النبوة المفيضة للبركات ، ثم بينه بقوله : ( طوى ( وهو الذي طوى فيه الشر عن بني إسرائيل ومن أراد الله من خلقه ونشر بركات النبوة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه ، وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه ، فإن العلماء قالوا : إن عذاب القبر أي عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة .
وهو واد بالطور بين أيلة ومصر .
ولما ذكر المناداة فسر ثمرتها بقوله مستأنفاً منبهاً لأصحاب الشهوة المعجبين المتكبيرين ، وقد أرشد السياق إلى أن التقدير ، نناداه قائلاً : ( اذهب إلى فرعون ) أي ملك مصر الذي كان استعبد بني إسرائيل ثم خوّف من واحد منهم فصار يذبح أبناءهم خوفاً منه وهو أنت فربيناك في بتيه لهلاكه حتى يعلم أنه لا مفر من قدرنا ، فكنت أعز بني إسرائيل ، وكان سبب هلاكه معه في بتيه بمرأىً منه ومسمع وهو لا يشعر بذلك ثم قتلت منهم نفساً وخرجت من بلدهم خائفاً تترقب .
ولما أمره بالذهاب إليه ، علله بما يستلزم إهلاكه على يده عليه الصلاة والسلام إشارة له بالبشارة بأنه لا سبيل له عليه ، ولذلك أكده لأن مثل ذلك أمر يقتضي طبع البشر التوقف فيه فقال : ( إنه طغى ) أي الحد وتجاوز الحد فاستحق المقابلة بالجد ، ثم سبب عن الذهاب إليه قوله ) فقل ) أي له تفصيلاً لبعض ما تقدم في ( طه ) من لين القول ولطف الاستدعاء في الخطاب : ( هل لك ) أي ميل وحاجة ) إلى أن تزكّى ) أي تتحلى بالفضائل ، وتتطهر من الرذائل ، ولو بأدنى أنواع التزكي : الطهارة الظاهرة والباطنة الموجبة للنماء والكثرة ، وإفهام الأدنى بما يشير إليه إسقاط تاء التفعل المقتضي للتخفيف ، وذلك بالإذعان المقتضي للإيمان وإرسال بني إسرائيل ، وقرأ الحجازيان ويعقوب بالتشديد أي تزكية بليغة لأن من دخل في التزكي على يد كامل لا سيما بني من أولي العزم أوشك أن يبلغ الغاية في الزكاء .
ولما أشار له الطهارة عن الشرك ، أتبعها الأعمال فقال : ( وأهديك ) أي أبين لك بعد التزكية بالإيمان الذي هو الأساس : كيف المسير ) إلى ربك ) أي الموجد لك والمحسن إليك والمربي لك بتعريفك ما يرضيه من الأعمال وما يغضبه من الخصال بعد أن بلغك في الدنيا غاية الآمال ) فتخسى ) أي فيتسبب عن ذلك أنك تصير تعمل أعمال من يخاف من عذابه خوفاً عظيماً ، فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات وسائر المنهيات ، فتصير إلى أعلى رتب التزكية فتجمع ملك الآخرة إلى ملك الدنيا ، فإن الخشية هي الحاملة على كل خير ، والآمن هو الحامل على الشر .(8/314)
صفحة رقم 315
النازعات : ( 20 - 28 ) فأراه الآية الكبرى
) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( ( )
ولما كان التقدير : فذهب إليه كما أمره الله تعالى ، فقال له ذلك فطلب الدليل على صحة الرسالة واستبعد أن يختص عنه بهذه المنزلة العلية وقد رباه وليداً ) فأراه ) أي فتسبب عن طلبه له أنه دل على صدقه بأنه أراه ) الآية ) أي العلامة الدالة على ذلك ) الكبرى ( وهي قلب العصا حية أو جميع معجزاته ) فكذب ) أي فتسبب عن رؤية ذلك أنه أوقع التكذيب بشيء إنما يقتضي عند رؤيته التصديق ) وعصى ) أي أوقع العصيان ، وهو الإباء الكبير والتكبر عن امتثال مادعي إليه مجموعاً إلى التكذيب بعد إقامة الدليل على الصدق وتحقق الأمر .
ولما كان التمادي على التكذيب ممن رأى وعرف الحق ولا سيما إذا كان كبيراً مستبعداً جداً ، أشار إليه بأداة التراخي مع دلالتها على حقيقة التراخي أيضاً فقال : ( ثم أدبر ) أي فرعون بعد المهلة والأناة إدباراً عظيماً بالتمادي على أعظم مما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة .
حال كونه ) يسعى ) أي يعمل بغاية جهد عمل من هو مسرع غاية الإسراع في إبطال الأمر الرباني بقلة عقله وفسد رأيه وأبى أن يقبل الحق ) فحشر ) أي فتسبب عن إدباره ساعياً وتعقبه أنه جمع السحرة طوعاً وكرهاً وزاد عليهم أيضاً جنوده ) فنادى ) أي في المجامع ) فقال ) أي مناديه الذي لا يشك أنه عنه ، فكان قوله كقوله : ( أنا ( وقال حمزة الكرماني : قال له موسى عليه السلام : إن ربي أرسلني إليك ، لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في السرور والنعيم ، ثم تموت فتدخل الجنة ، فقال : حتى أستشير هامان ، فاستشاره فقال : أتصير عبداً بعد ما كنت رباً تعبد ، فعند ذلك بعث الشرط وجمع السحرة والجنود ، فلما اجتمعوا قام عدو الله على سريره فقال : أنا ) ربكم الأعلى ( فكان هذا نداؤه يعني كلكم أرباب بعضكم فوق بعض وأنا أعلاكم ، ولا رب فوقي أصلاً ، وذلك لأن الإله عنده الطبيعة ، وهي مقسمة في الموجودات ، فهم كلهم أرباب ، ومن كان أعلى كان أقعد في المراد ، وهو كان أعلى منهم فقبحه الله ولعنه ولعن من تمذهب بمذهبه كابن عربي وابن الفارض وأتباعهما حيث أنكروا المختار الملك ثم الحلاج بعد فرعون هذا الذي لم يصرح الله بذم أحد ما صرح بذمه ، ولم يصرح بشاق أحد ما صرح بشقائه ، كهذه الآية فإنها مصرحة بوقوع نكاله في الآخرة كما وقع في الدنيا ، وقوله تعالى : ( ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان(8/315)
صفحة رقم 316
عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم المقبوحين ( ) 7
[ القصص : 40 - 42 ] إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلائل الواضحات التي لا تحصى وهي كثيرة ، وأعظمها القياس البديهي الإنتاج
77 ( ) وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( ) 7
[ يونس : 83 ]
77 ( ) وإن المسرفين هم أصحاب النار ( ) 7
[ غافر : 43 ] ويروى أن إبليس لما سمع منه قوله هذا قال : إني تجبرت على آدم قلقيت ما لقيت ، وهذا يقول هذا ؟ وهذا دعاه إليه الكبر الناشئ من فتنة السراء التي الصبر فيها أعظم من الصبر في الضراء ، قال الإمام الغزالي في كتاب الصبر من الإحياء : فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية ، ولذلك قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله ) أنا ربكم الأعلى ) [ النازعات : 24 ] ولكن فرعون وجد له مجالاً وقوبولاً فأظهره إذ استحف فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحن قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره ، فإن امتعاضه وغيظه عند تقصيرهم في خدمته لا يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء انتهى .
ويؤيده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما لام خادمه في شيء قط والله تعالى هو الموفق للصواب .
ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك ، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه ، سبب عنها وعقب قوله : ( فأخذه الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له : ( نكال الآخرة ( فهو مصدر من المعنى ، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون ، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بلالموت ، وتنبهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن ، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل : ( الأخرى ) لوافقت ) والأولى ) أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن نم سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه ، قال الضحاك : أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاء بنجوة من الأرض ، أما في العقبى فيدخله الله تعالى النار ويجعله ظاهراً على تل منها مغلولاً مقيداً ينادي عليه هذا الذي ادعى الربوبية دجون الله انتهى .
وأنا لا أشك أن الحلاج وابن عربي وابن الفارض ، وأتباعهم يكونون في النار تحتهم وتحت آلهة يشربون عصارتهم ، فإنهم ادعوا أنه ناج وصدقوه فيما ادعاه وادعوا لأنفسهم وغيرهم مثل ما ادعاه تكذيباً للقرآن وإغراقاً في العدوان ، وزادوا عليه بابتذال الاسم الأعظم الذي حماه(8/316)
صفحة رقم 317
الله من أن يدعيه أحد قبل إرسال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فادعوا أنه يطلق عليهم وعلى كل أحد بل كل شيء ، وأمارة هذه الطائفة الخبيثة التي لا تتخلف أن تقول لأحدهم : العن فرعون الذي أجمع على لعنه جميع الطوائف. وهو مثل عندهم في الشرارة والخبث فلا يلعنه ، وإن لعنه فبعد توقف .
ولما لخص سبحانه وتعالى ما مضى من قصصه في هذه الكلمات اليسير أحسن تلخيص وأقربه مع عدم المخالفة لشيء مما مضى لأن المفصل موضع الاختصار أما باعتبار النزول فإنه نزل أولاً فكان تقريب القصص للناس بالاقتصار على ما لا بد منه أولى ليستأنسوا به ، وأما من جهة الترتيب فلتذكيرهم بما مضى ليجتمع في المخيّلة في أقرب وقت ويتذكر به ذلك المبسوط ، وختمه بأخذه هذها الأخذ الغريب أرشد إلى ما في القصة من العبرة ، مشيراً إلى استحضار ما مضى كله ، فقال مؤكداً مقرراً للمكذب ومنهباً للمصدق : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم الذي فعله والذي فعل به ) لعبرة ) أي أمراً عظيماً يتعمد الاعتبار به من معنى إلى معنى حتى يقع به الوصول إلى كثير من المعارف عظيماً يتعمد الاعتبار به من معنى إلى معنى حتى يقع به الوصول إلى كثير من المعارف ) لمن يخشى ) أي من شأنه الخوف العظيم من الله لأن الخشية كما تقدم هي أساس الخير ، فأول العبور أن ينقل السامع حال غيره إليه فيتذكر بإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم منهم على قوتهم ثم بقوة ما حصل لهم من القهر من ذلك حتى أوجب اتباعهم بالجنود ثم بفرق البحر ثم بإيرادهم إياه ثم بإغراقهم فيه كلمح البصر لم يخرج منهم مخبر قدرة الله تعالى على إيراد الكفار النار وقهر كل جبار وبجعل العصا حية وإخراج القمل والضفادع من الأرض وتحويل الماء دماً قدرته سبحانه وتعالى على ذلك السامع بالعذاب وغيره وعلى خصوص البعث إلى غير ذلك من العبر وواضح الأثر .
ولما ختم قصة فرعون لعنه الله بالعبرة ، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لا سيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها ، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير ، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه ، وصل به ما هو كالنتيجة منه ، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به ( صلى الله عليه وسلم ) لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ : ( أأنتم ) أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً ) أشد خلقاً ) أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد ) أم السماء ( على ما فيها من السعة والكبر ولعلو والمنافع .
ولما كان الجواب قطعاً : السماء لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني(8/317)
صفحة رقم 318
مختصر العالم الآفاقي ، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر ، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر ، مبيناً لكيفية خلقه لها : ( بناها ) أي جعلها سقفاً للأرض على ما لها من العظمة ، ثم بين البناء بقوله : ( رفع سمكها ) أي جعل مقدار ارتفاها من الأرض أو سمنها الذاهب في العلو رفيعاً ، قال في القاموس : السمك السقف ، أو من أعلى البيت إلى أسفله ، أو القامة من كل شيء ، وقال أبو حيان : السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها : ( فسواها ) أي عدلها عقب ذلك بأن جعلها مستوية لا شيء فيها أعلى من شيء ولا أخفض ولا فطور فيها ، وأصلحها بما تم به كمالها من الكواكب وغيرها ، وجعل مقدار تخن كل سماء وما بين كل سماءين وتخن كل أرض وما بين كل أرضين على السواء لا يزيد شيء من ذلك على الآخر أصلاً .
النازعات : ( 29 - 37 ) وأغطش ليلها وأخرج. .. . .
) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى ( ( )
ولما كان كل من ذلك يدل على القدرة على البعث لأنه إيجاد ما هو أشد من خلق الآدمي من عدم ، أتبعه ما يتصور به البعث في كل يوم وليلة مرتين فقال : ( وأغطش ) أي أظلم إظلاماً لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء ) ليلها ) أي بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه .
وأضافه إليها لأنه يحدث بحركتها ، وبدأ به لأنه كان أولاً ، والعدم قبل الوجود ) وأخرج ضحاها ( بطلوع شمسها فأضاء نهارها ، فالآية من الاحتباك : دل ب ( أغطش ) على ( أضاء ) وبإخراج الضحى على إخفاء الضياء ، ولعله عبر بالضحى عن النهار لأنه أزهر ما فيه وأقوى نوراً .
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف ، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر ، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال : ( والأرض ( ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو ، حذف الخافض فقال : ( بعد ذلك ) أي المذكور كله ) دحاها ) أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة .
ولما ذكر الدحو ، أتبعه ما استلزمه من المناف لتوقف السكنى المقصود بالدحو(8/318)
صفحة رقم 319
عليه فقال كالمبين له من غير عاطف : ( أخرج منها ) أي الأرض ) ماءها ( بتفجير العيون ، وإضافته إليها دليل على أنه فيها ) ومرعاها ( الذي يخرج بالماء ، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه .
ولما ذكر الأرض ومنافعها ، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال : ( والجبال ) أي خاصة ) أرساها ) أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة .
ولما كانت الإعادة واضحة من تناول الحيوان المأكل والمشرب وغيرهما من المتاع فإنه كلما نقص منه شيء تناول ما قدر له ليعود ذلك أوبعضه ، قال منبهاً على أنه كل يوم في إعادة بانياً حالاً مما تقدم تقديره : حال كونها ) متاعاً ( مقدراً ) لكم ( تتمتعون بما فيها من المنافع ) ولأنعامكم ) أي مواشكيم بالرعي وغيره .
ولما ذكر ما دل على البعث ، أتبعه ما يكون عن البعث مسبباً عنه دلالة على أن الوجود ما خلق إلا لأجل البعث لأنه محط الحكمة : ( فإذا جاءت ) أي بعد الموت ) الطامة الكبرى ) أي الداهية الدهياء التي تطم أي تعلو كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، والعامل في ( إذا ) محذوف تقديره : فصل الناس إلى شقي وسعيد .
ولما كان الشيء لا يعرف قدره إذا كان غائباً إلا بما يكون فيه ، قال مبدلاً منه : ( يوم يتذكر ) أي تذكراً عظيماً ظاهراً بما أشار إليه الإظهار ) الإنسان ) أي الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له ) ما سعى ) أي عمل كله من خير وشر لأنه يراه في صحيفة أعماله ، والإخبار عن تذكره منبهاً على ما في ذلك اليوم من الخطر لأن أحداً لا يعمل جهده في تذكره إلا لمحوج إلى ذلك وهو الحساب وتدوينه في صحيفة أعماله .
ولما أشار إلى الحساب ذكر ما بعده فقال : ( وبرزت ) أي أظهرت إظهاراً عظيماً ، وبناه للمفعول لأن الهائل مطلق تبريزها لا كونه من معين ، مع الدلالة على الخفة والسهولة لكونه على طريقة كلام القادرين ) الجحيم ) أي النار التي اشتد وقدها وحرها ) لمن يرى ) أي كائناً من كان لأنه لا حائل بين أحد وبين رؤيتها ، لكن الناجل لا يصرف بصره إليها فلا يراها كما قال تعالى :
77 ( ) ا يسمعون حسيسها ( ) 7
[ الأنبياء : 102 ] .
ولما كان جواب ( إذا ) كما مضى محذوفاً ، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين : قسم للجحيم وقسم للنعيم ، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً : ( فأما من طغى ) أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه ، قال في القاموس : طغى : جاوز القدر(8/319)
صفحة رقم 320
وارتفع وطغى : إلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم ، والماء : ارتفع .
النازعات : ( 38 - 41 ) وآثر الحياة الدنيا
) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ( ( )
ولما كان الذي بعد حدود الله هو الدنيا ، صرح به فقال : ( وآثر ) أي أكرم وقدم واختار ) الحياة الدنيا ( بأن جعل أثر العاجلة الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها ، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة ، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى .
ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب ، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك : ( فإن الجحيم ) أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها ) هي ) أي لا غيرها ) المأوى ) أي المسكن له هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف ، وعند الكوفيين أن ( أل ) نائب عن الضمير قاله أبو حيان .
ولما ذكر الطاغي ، أتبه المتقي فقال : ( وأما من خاف ( ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال : ( مقام ربه ) أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه ، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان ، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه ، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد .
ولما ذكر الخوف ذكر ما يتأثر عنه ولم يجعله مسبباً عنه ليفهم أن كلاًّ منهما فاصل على حياله وإن انفصل عن الآخرة فقال : ( ونهى النفس ) أي التي لها المنافسة ) عن الهوى ) أي كل ما تهواه فإنه لا جر إلى خير لأن النار حفت بالشهوات ، والشرع كله مبني على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس ، وذلك هو المحارم التي حفت بها النار فإنها بالشهوات ، قال الرازي : والهوى هو الشهوة المذمومة المخالفة لأوامر الشرع قال الجنيد : إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها ، أي فأفاد ذلك أنه لم يؤثر الحياة الدنيا ، فالآية من الاحتباك : أتى بطغى دليلاً على ضده ثانياً ، وبالنهي عن الهوى ثانياً دلالة على إيثار الدنيا أولاً .
ولما كان مقام ترغيب ، ربط الجزاء بالعمل كما صنع في الترهيب فقال وأكد لأجل تكذيب الكفار : ( فإن الجنة ) أي البستان الجامع لكل ما يشتهي ) هي ) أي خاصة ) المأموى ) أي له ، لا يأوي إلى غيرها ، وهذا حال المراقبين .(8/320)
صفحة رقم 321
النازعات : ( 42 - 46 ) يسألونك عن الساعة. .. . .
) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( ( )
ولما قسمهم هذا التقسيم المفهم أن هذا شيء لا بد منه ، استأنف ذكر استهزائهم تعجيباً منهم فقال : ( يسئلونك ) أي قريش على سبيل التجديد والاستمرار سؤال استهزاء وإنكار واستبعاد : ( عن الساعة ) أي البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم بها عن أمرنا .
ولما كان السؤال عنها مبهماً بينه بقوله : ( أيان مرساها ) أي في أي وقت إرساؤها أي وقوعها أو ثباتها واستقرارها .
ولما كان إيراد هذا هكذا مفهماً للإنكار عليهم في هذا السؤال ، وكان من المعلوم أنه يقول : إنهم ليسألونني وربما تحركت نفسه الشريفة ( صلى الله عليه وسلم ) إلى إجابتهم لحرصه على إسلامهم شفقة عليهم ، فطمه عن ذلك وصرح بالإنكار بقوله : ( فيم ) أي في أي شيء ) أنت من ذكراها ) أي ذكرها العظيم لتعرفها وتبين وقتها لهم حرصاً على إسلامهم ، وذلك لا يفيد علمها ، ثم عرفها بما لا يمكن المزيد عليه مما أفادته الجملة التي قبل من لأنه لا يمكن علمها لغيره سبحانه وتعالى فقال : ( إلى ربك ) أي المحسن إليك وحده ) منتهاها ) أي منتهى علمها وجميع أمرها .
ولما كان غاية أمرهم أنهم يقولون : إنه متقول من عند نفسه ، قلب عليهم الأمر فقال : ( إنما أنت ) أي يا أشرف المرسلين ) منذر ) أي مخوف على سبيل الحتم الذي لا بد منه مع علمك بما تخوف به العلم الذي لا مرية فيه ) من يخشاها ) أي فيه أهلية أن يخافها خوفاً عظيماً فيعمل لها لعلمه بإتيانها لا محالة وعلمه بموته لا محالة وعلمه بأن كل ما تحقق وقوعه فهو قريب ، وذلك لا يناسب تعيين وقتها فإن من فيه أهلية الخشية لا يزيده إبهامها إلا خشية ، وغيره لا يزيده ذلك إلا اجتراء وإجراماً ، فما أرسلناك إلا للإنذار بها لا للإعلام بوقتها ، فإن النافع الأول دون الثاني ، ولست في شيء مما يصفونك به كذباً منهم لأنا ما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ولا أنت مبعوث لتحرير وقت الساعة وعلم عينه ، وإنما قصره على من يخشى لأن غيره لا ينتفع بإنذاره ، فكان كأنه لم يحصل له الإنذار ، ولهذا المعنى أضاف إشارة إلى أنه عريق في إنذار من يخشى ، وأما غيره فهو منذر له في الجملة أي يحصل له صورة الإنذار لأنه منذره بمعنى أنه لا يحصل له معنى الإنذار .
ولما أثبت أنه منذر ، وكان أخوف الإنذار الإسراع ، قال مستأنفاً محقراً لهم الدنيا مزهداً لهم فيها : ( كأنهم ) أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها ) يوم يرونها ) أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من(8/321)
صفحة رقم 322
القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي منه ) لم يلبثوا ) أي في الدنيا وفي القبور ) إلا عشية ) أي من الزوال إلى غروب الشمس .
ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال : ( أو ضحاها ) أي ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال ، والعشية ما بعد ذلك ، أضيف إليها لاضحى لأنه من النهار ، ولإضافة تحصل بأدنى ملابسة ، وهي هنا كونهما من نهار واحد ، فالمارد ساعة من نهار أوله أو آخره ، لم يستكملوا نهاراً تاماً ولم يجمعوا بين طرفيه ، وهذا كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبه في اليم فلينظر بما يرجع ) وهذا تعبير لنا بما نحسه تقريباً لعقولنا وإن كانت القاعدة أنه لا نسبة لما يتناهى إلى ما لا يتناهى على أن الكفار أيضاً يستقصرون مدة لبثهم ، فكأنهم أصناف : بعضهم يقول : إن لبثتم إلا عشراً ، وبعضهم يقول : إن لبثتم إلا يوماً ، وبعضهم يتحير فيقول : اسأل العادين ، أو أن تلك أقوالهم ، والحق من ذلك هو ما أخبر الله به غير مضاف إلى أقوالهم من أن ما مضى لهم في جنب ما يأتي كأنه ساعة من نهار بالنسبة إلى النهار الكامل كما قال تعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام
77 ( ) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ( ) 7
[ يونس : 45 ] على أن منهم من يقول ذلك أيضاً كما قال تعالى في سورة المؤمنين حين قال تعالى
77 ( ) كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم اسأل العادين ( ) 7
[ المؤمنون : 112 113 ] وذلك بالنسبة إلى ما كشف لهم عن أنهم يستقبولنه مما لا آخر له أو أنهم لما نزعتهم نفحة إسرافيل عليه الصلاة والسلام بيد القدرة من قبورهم غرقاً نزعاً شديداً فقاموا ورأوا تلك الأهوال وعلموا ما يستقبلونه من الأوجال استقصروا مدة لبثهم قبل ذلك لأن من استلذ شيئاً استقصر مدته وهم استلذوةا ذلك وإن كان من أمرّ المرّ في جنب لهم عن أنهم لاقوه ، فقد رجع آخرها بالقيامة على أولها ، والتف مفصلها بنزع الأنفس اللوامة على موصلها ، واتصلت بأول ما بعدها من جهة الخشية والتذكر فيا طيب متصلها ، فسبحان من جعله متعانق المقاطع والمطالع ، وأنزله رياضاً محكمة المذاهب والمراجع ، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب .
.. .(8/322)
صفحة رقم 323
سورة عبس
وتسمى الصاخة .
مقصودها شرح ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان ، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور ، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأ " مال ، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبيه أرق وألطف فكان أخشى ، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ، واسمها عبس هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته ، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة ) بسم الله ( الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة ، ا ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم ، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة .
عبس : ( 1 - 6 ) عبس وتولى
) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ( ( )
ولما قصره سبحانه على إنذاره من يخشى ، وكان قد جاءه ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله تعالى عنه ، وكان من السابقين ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين مجيئه مشتغلا بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله تعالى ، وقد وجد منهم نوع لين ، فشرع عبد الله رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل ، يسأله أن يقرئه ويعلمه مما عمله الله فكره أن يقطع كلام مع أولئك خوفاً من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم المستتبع لإسلام ناس كثير من أتباعهم ، ان يعرض عنه ويقبل عليهم ، وتظهر الكراهة في وجهه ، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتصدي لمن شأنه أن لا يشخى لافتتانه بزينة الحياة الدنيا وإقباله بكليته على ما يفنى ، فقال مبيناً لشرف الفقر وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا ، وخسة أهل الدنيا وإن زانوا ، معظماً له(8/323)
صفحة رقم 324
( صلى الله عليه وسلم ) بسياق الغيبة كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة : وعلى من ههنا يشير إلى ناحية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو معرض عنها حياء منه ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلالاً له : ( عبس ) أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده ، وآذن بمدحه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من حرمة المساكين ومحبتهم والسرور بقرهم وصحبتهم بقوله ) وتولى ) أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتلعو كلمة الله لأجل ) أن جاءه الأعمى ( الذي ينبثي أن يبالغ في العطف عليه وفي إكرامه جبراً لكسره واعترافاً بحقه في مجيئه ، وذكره بالوصف للإشعار بعذره في الإقدام على قطع الكلام والبعث على الرأفة به والحرمة له ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآه بعد ذلك قال : ( مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ) واستخلفه على المدينة الشريفة عند غزوه مرتين ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ورأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سواداء رضي الله عنه .
ولما عرف بسياق الغيبة ما أريد من الإجلال ، وكان طول الإعراض موجباً للانقباض ، أقبل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( وما يدريك ) أي وأي شيء يجعلك داراً بحاله وإن اجتهدت في ذلك فإن ذوات الصدور لا يعلمها إلا الله تعالى ) لعله ) أي الأعمى ) يزكى ) أي يكون بحيث يرجى تطهره ونمو أحواله الصالحة بما يسمع منك ولوعلى أدنى الوجوه بما يشير إليه إدغام تاء الافتعال ، وكذا قوله : ( أو يذكر ) أي أو يقع منه التذكر لشيء يكون سبباً لزكائه وتذكره ولو كان ذلك منه على أدنى الوجوه المخرجة من الكفر فإن الخير لا يحقر شيء منه ، وسبب عن تزكيه وتذكره قوله : ( فتنفعه ) أي عقب تذكره وسببه ) الذكرى ( وفي ذلك إيماء إلى أن الإعراض كان لتزكية غيره وتذكره ، وقراءة النثب على أنه جواب ( لعل ) .
ولما ذكر العبوس والتولي عنه فأفهما ضدهما لمن كان مقبلاً عليهم ، بين ذلك فقال : ( أما من استغنى ) أي طلب الغنى وهو المال والثورة فوجده وإن لم يخش ولم يجئ إليك ) فأنت له ) أي دون الأعمى ) تصدى ) أي تتعرض بالإقبال عليه والاجتهاد في وعظه رجاء إسلامه وإسلام أتباعه بإسلامه وهم عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ابنا خلق ، وأشار حذف تاء التفعل في قراءة الجماعة وإدغامها في قراءة نافع وابن كثير إلى أن ذلك كان على وجه خفيف كما هي عادة العقلاء .(8/324)
صفحة رقم 325
عبس : ( 7 - 16 ) وما عليك ألا. .. . .
) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ( ( )
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال سبحانه ) ) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ( ) [ النازعات : 26 ] وقال بعد ) ) إنما أنت منذر من يخشاها ( ) [ النازعات : 45 ] افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهله لطاعته وإجابة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعلى منزلته لديه ( رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) ومنهم ابن مكتوب الأعمى مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت بطريق العتب وصاة لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وتنبيهاً على أن يعمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن مكتوم وأن لا يحتقر حذر ، ومنه قوله سبحانه ) ) لئن أشركت ليحبطن عملك ( ) [ الزمر : 65 ] و ) ) لا تدع مع الله إلهاً آخر ( ) [ ص : 88 ] و ) ) لا تمش في الأرض مرحاً ( ) [ لقمان : 18 ] وهو كثير ، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق ، لما دخل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ابن أم مكتون سائلاً ومسترشداً وهو ( صلى الله عليه وسلم ) يكلم رجلاً من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجاء إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه ، فتمادى على طلبه هذا الرجل لما كان يرجوه ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه فأغفل فورية مجاوته وشق عليه إلحاحه خوفاً من تفلت الآخرة ومضيه على عقبه وهلاكه عتب سبحانه وتعالى عليه فقال : ( ) عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر ( ) [ عبس : 1 4 ] وهي منه سبحانه واجبة ، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام ) ) هل لك إلى أن تزكى ( ) [ النازعات : 18 ] فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعد صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال ) ) ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى ( ) [ القصص : 38 ] ) ) وإني لأظنه كاذباً زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل ( ) [ غافر : 37 ] فأنى يزكى ؟ ولو سبقت له سبعادة لأبصر من حاله عين اللهو وللعب حين مقالته الشنعاء ) ) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ( ) [ الزخرف : 52 ] .(8/325)
صفحة رقم 326
ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره عدم الصيت الدنياوي ولا أخل به عماه بل عظّم ربه شأنه لما نزل في حقه
77 ( ) وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ( ) 7
[ عبس : 2 4 ] فيا له صيتاً ما أجله بخلاف من قدم ذكره ممن طرد فلم يتزك ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها
77 ( ) إنما أنت منذر من يخشاها ( ) 7
[ النازعات : 45 ] كابن أم مكتوم ، من نمط ما نزل في ابن أم مكتوم قوله تعالى :
77 ( ) واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( ) 7
[ الكهف : 28 ] وقوله :
77 ( ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( ) 7
[ الأنعام : 52 ] فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقنطنا من لطفك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك انتهى .
ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة ، بين له أنه سالم من ذلك فقال : ( وما ) أي فعلت ذلك والحال أنه ما ) عليك ) أي من بأس في ) ألا يزكّى ( ورأساً ولو بأدنى تزك بما أشار إليه الإدغام إن عليك إلا البلاغ ، ويجوز أن يكون استفهاماً أي وأي شيء يكون عليك في عدم تزكيه وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول .
ولما ذكر المستغني ، ذكر مقابله فقال : ( وأما من جاءك ( حال كونه ) يسعى ) أي مسرعاً رغبة فيما عندك من الخير المذكر بالله وهو فقير ) وهو ) أي والحال أنه ) يخشى ) أي يوجد الخوف من الله تعالى ومن الكفار في أذاهم على الإتيان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معاثر الطريق لعماه ) فأنت عنه ) أي خاصة في ذلك المجلس لكونه في الحاصل ) تلهّى ) أي تتشاغل لأجل أولئك الأشراف الذين تريد إسلامهم لعلو بهم الدين تشاغلاً حفيفاً بما أشار إليه حذف التاء ، من لهى عنه كرضى إذا سلى وغفل وترك ، وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لا فائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم ، والآية من الاحتباك : ذكر الغنى أولاً يدل على الفقر ثانياً ، وذكر المجيء والخسية ثانياً يدل على ضدهما أولاً ، وسر ذلك التحذير مما يدعو إليه الطبع البشري من الميل إلى الأغنياء ، ومن الاستهانة بحق الآتي إعظاماً لمطلق إتيانه .
ولما كان العتاب الذي هو من شأن الأحباب ملوحاً بالنهي عن الإعراض عمن وقع العتاب عليه ، وكل من كان حاله كحاله والتشاغل عن راغب ، صرح به فقال : ( كلا ) أي لا تفعل ذلك أصلاً فإن الأمر في القضاء والقدر ليس على ما يظن العباد ولا هو جار على الأسباب التي تعرفونها بل هو من وراء علومهم على حكم تدق عن(8/326)
صفحة رقم 327
أفكارهم وفهومهم : ثم علل ذلك فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك ، ) إنها ) أي القرآن ، ولعله أنث الضمير باعتبار ما تلي عليهم في ذلك المجلس من الآيات أو السور ) تذكرة ) أي تذكرهم تذكيراً عظيماً بما إن تأملوه شاهدوه في أنفسهم وفي الآفاق ، ليس فيه شيء إلا وهم يعرفونه لو أقبلوا بكليتهم عليه ، فما على المذكر بها غير البلاغ ، فمن أقبل عليه فأهلاً وسهلاً ، ومن أعرض فبعداً له وسحقاً .
ولما كان سبحانه قد خلق للإنسان عقلاً واختياراً ، ويسر أمر القرآن في الحفظ والفهم لمن أقبل عليه ، سبب عن ذلك قوله : ( فمن شاء ) أي ذكره بعد مشيئة الله تعالى كما تقدم تقييده في القرآن غيره مرة ) ذكره ) أي حفظ القرآن كله وتذكر ما فيه من الوعظ من غير تكرير ولا معالجة تحوج إلى الإعراض عن بعض المقبلين الراغبين ، واللإشارة إلى حفظه كله ذكر الضمير .
ولما كان التقدير : حال كون القرآن مثبتاً أو حال كون الذاكر له مثبتاً ، قال وصافاً لتذكرة مبيناً لشرفها بتشريف ظرفها وظرف ظرفها ) في صحف ) أي أشياء يكتب فيها من الورق وغيره ) مكرمة ) أي مكررة التكريم ومعظمة في السماء والأرض في كل أمة وكل ملة ) مرفوعة ) أي عليه المقدار بإعلاء كل أحد لا سيما من له الأمر كله ) مطهرة ) أي منزهة عن أيدي أهل السفول وعن قولهم إنها شعر أو سحر ونحو ذلك ، وعلق أيضاً بمثبت بالفتح أو الكسر على اختلاف المعنيين قوله مبيناً شرف ذلك الظرف لذلك الظرف إشارة إلى نهاية الشرف للمظروف : ( بأيدي سفرة ) أي كتبه يظهرون الكتابة بما فيها من الأخبار الغريبة والأحكام العلية في كل حال ، فإن كان ما تعلق به الجار بالفتح فهو حقيقة في أنهم ملائكة يكتبونه من اللوح المحفوظ ، أو يكون جمع سافر إما بمعنى الكتاب أو المسافر أي القطع للمسافة أو السفير الذي هو المصلح لأنهم سفراء بين الله وأنبيائه ، وبهم يصلح أمر الدين والدنيا ، وإن كان بالكسر فهو مجاز لأن من أقبل على كتابة الذكر يكون مهذباً في الحال أو في المآل في الغالب ، وتركيب سفر للكشف ) كرام ) أي ينطوون على معالي الأخلاق مع أنهم أعزاء على الله ) بررة ) أي أتقياء في أعلى مراتب التقوى والكرم وأعزها وأوسعها
عبس : ( 17 - 27 ) قتل الإنسان ما. .. . .
) قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ( ( )
ولما كان الوصف بهذه الأوصاف العالية للكتبة الذين أيديهم ظرف للصحف التي(8/327)
صفحة رقم 328
هي ظرف للتذكرة للتنبيه على علو المكتوب وجلالة مقداره وعظمة آثاره وظهور ذلك لمن تدبره وتأمله حق تأمله وأنعم نظره ، عقبه بقوله ناعياً على من لم يقبل بكليته عليه داعياً بأعظم شدائد الدنيا التي هي القتل في صيغة الخبر لأنه أبلغ : ( قتل الإنسان ) أي هذا النوع الآنس بنفسه الناسي لربه المتكبر على غيره المعجب بشمائله التي أبدعها له خالقه ، حصل قتله بلعنه وطرده وفرغ منه بأيسر سعي وأسهله من كل من يصح ذلك منه لأنه أسرع شيء إلى الفساد لأنه مبني على النقائص إلا من عصم الله ) ما أكفره ) أي ما أشد تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك من أمره ، فهو دعاء عليه بأشنع دعاء وتعجيب من إفراطه في ستر محاسن القرآن التي لا تخفى على أحد ودلائله على القيام وكل شيء لا يسمع أحداً التغبير في وجه شيء منها ، وهذا الدعاء على وجازته يدل على سخط عظيم وذم بليغ وهو وإن كان في مخصوص فالعبرة بعمومه في كل من كفر نعمة الله ، روي أنها نزلت في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصحله أبوه وأعطاء مالاً وجهزه إلى الشام فبعث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كافر برب النجم إذا هوى ، وأفحش في غير هذا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أبعث عليه كلباً من كلابك ) فلما انتهى إلى مكان من الطريق فيه الأسد ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن إصبح حياً فجعلوه في وسط الرفقة والمتاع والرحال فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه وقال : ما قال محمد شيئاً إلا كان ، ومع ذلك فما نفعه ما عرف من ذلك ، فسبحان من بيده القلوب يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وكل ذلك من هدايته وإضلاله شاهد بأن له الحمد .
ولما كان اكثر انصاب التعجيب منه ناظراً إلى تكذيبه بالساعة لأجل ظهور أدلتها في القرآن جداً ولأنه توالت في هذه السور إقامة الأدلة عليها مما لا مزيد عليه ، شرع في إقامة الديل عليها بآية الأنفس من ابتداء الخلق في أسلوب مبين لخسته وحقارته وأن من ألبسه أثواب الشرف بعد تلك الخسة والحقارة جدير منه بالشكر لا بالكفر ، فقال منبهاً له بالسؤال : ( من أي شيء ( والاستفهام للتقرير مع التحقير ) خلقه ( ثم أجاب إشارة إلى الجواب واضح لا يحتاج فيه إلى وقفة أصلاً فقال مبيناً حقارته : ( من نطفة ) أي ماء يسير جداً لا من غيره ) خلقه ) أي أوجده مقداراً على ما هو عليه من التخطيط ) فقدره ) أي هيأه لما يصلح من الأعضاء الظاهرة والباطنة والأشكال والأطوار إلى أن صلح لذلك ثم جعله في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ثم الرحمن ثم المشيمة ، أو هي(8/328)
صفحة رقم 329
على ما قال أهل التشريح ثلاثة أغشية : أحدها المشيمة تتصل بسرة الجنين تمده بالغذاء ، والثاني يقبل بوله ، والثالث يقبل البخارات التي تصعد منه بمنزلة العرق والوسخ في أبدان الكاملين ، وأعطاه قدرة لما أراده منه ) ثم ) أي بعد انتهاء المدة ) السبيل ) أي الأكمل في العموم والاتساع والوضوح لا غيره ، وهو مخرجه من بطن أمه وطريقه إلى الجنة أو النار ) يسره ) أي سهل له أمره في خروجه بأن فتح فم الرحم وألهمه أن ينتكس ، وذلل له سبيل الخير والشر ، وجعل له عقلاً يقوده إلى ما يسر له منهما ، وفيه إيماء إلى أن الدنيا دار الممر ، والمقصد غيرها وهو الأخرى التي تدل عليها الدنيا ، ولذلك عقبه بقوله عاداً الموت من النعم لأنه لو دام الإنسان حياً مع ما يصل إليه من الضغف والخوف لكان في غاية البشاعة والشماتة لأعدائه والمساءة لأوليائه على أن الموت سبب الحياة الأبدية : ( ثم ) أي بعد أمور قدرها سبحانه من أجل وتقلبات ) أماته ( وأشار إلى إيجاب المبادرة إلى التجهيز بالفاء المعقبة في قوله ) فأقبره ) أي جعل له قبراً فغيبه فيه وأمر بدفنه تكرمة له وصيانة عن السباع ، والإقبار جعلك للميت قبراً وإعطاؤك القتيل لأهله ليدفنوه ، والمعنى الامتنان بأنه جعل للأنسان موضعاً يصلح لدفنه وجعله بعد الموت بحيث يتمكن من دفه ، ولو شاء لجعله يتفتت مع النتن ونحوه مما يمنع من قربانه ، أو جعله بحيث يتهاون به فلا يدفن كبقية الحيوانات ، فقد عرف بهذا أن أول الإنسان نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة ، فما شرفه بالعلم إلا الذي أبدعه وصوره ، وذلك موجب لان يشكره لا أن يكفره .
ولما كانت مدة البرزخ طويلة ، وكان البعث أمراً محققاً غير معلوم الوقت بالعين بغيره تعالى ، عبر عن المعاني الثلاثة بأداتي التراخي والتحقق فقال : ( ثم إذا شاء ) أي إنشاره ) أنشره ) أي بعثه من قبره كما كان في دنياه بزيادة أنه على تركيب قوي لا يتهيأ فيه فراق الروح الجسد .
ولما كان إخباره بأنه مع الذي يسر له السبيل قد يفهم أنه لا يعمل إلا بما يرضيه ، نفى ذلك على سبيل الردع فقال : ( كلا ) أي ليرتدع هذا الإنسان الذي عرف أن هذا حالاته أولاً وآخراً واثناءً ومخرجاً تارة من مخرج البول وأخرى من مخرج الحيض ومقبراً ، ولينزجر وليعرف ، نفسه بالذلة والخسة والحاجة والعجز ، وليعرف ربه سبحانه بالعزة والعظمة والكبرياء والفناء والقدرة على تشريف الحقير وتحقير الشريف ، وبأنه سبحانه لا يلزمه شيء فلا يلزم من تعريف هذا الإنسان السبيل وتمييزه له لأنه لا يفعل إلا ما لا يعاتب عليه ، فإنه لا يكون من الإنسان وغيره إلا ما يريده ، وتارة يريد هداه ، وتارة يريد ضلاله ، فقد يأمر بما لا يريده ويريد ما لا يأمر به ولا يرضاه ، ولذلك قال مستأنفاً(8/329)
صفحة رقم 330
نفي ما أفهمه بتيسيره للسبيل من أن الإنسان يفعل جميع ما أمره به الله الذي يسر له السبيل : ( لما يقض ) أي يفعل الإنسان فعلاً نافذاً ماضياً ) ما أمره ) أي به الله كله من غير تقصير ما من حين تكليفه إلى حين إقباره بل من حين وجد آدم عليه الصلاة والسلام إلى حين نزول هذه الآية آخر الدهر ، لأن الإنسان مبني على النقصان والإله منزه التنزه الكمل ، وما قدروا الله حق قدره ، وأيضاً الإنسان الذي هو النوع لم يعمل بأسره بحيث لم يشذ منه فرد جميع ما أمره ، بل إغلب الجنس عصاه وكذب بالساعة التي هي حكمة الوجود ، وإن صدق بها بعضهم كان تصديقه بها تكذيباً لأنه يعتقد أشياء منها على خلاف ما هي عليه .
ولما ردعه بعد تفصيل ما له في نفسه من الآيات ، وأشار إلى ما له من النقائص ، شرع يقيم الدليل على تقصيره لأنه لا يقدره على شكر نعمة المنعم فيما له من المطعم الذي به قوامه فكيف بغيرها في أسلوب دال على الإنتشار بآيات الآفاق منبه على سائر النعم في مدة بقائه المستلزم لدوام احتياجه إلى ربه فقال مسبباً عن ذلك : ( فلينظر الإنسان ) أي يوقع النظر التام على كل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته ومدّ له المدى فقال : ( إلى طعامه ( يعني مطعومه وما يتصل به ملتفتاً إليه بكليته بالاعتبار بما فيه من العبر التي منها أنا لو لم نيسره له هلك .
ولما كان المقصود النظر إلى صنائع الله تعالى فيه .
وكانت أفعال الإنسان وأقواله في تكذيبه بالعبث أفعال من ينكر ذلك الصنع ، قال سبحانه مفصلاً لما يشترك في علمه الخاص والعام من صنائعه في الطعام ، مؤكداً تنبيهاًعلى أن التكذيب بالعبث يستلزم التكذيب بإبداع النبات وإعادته ، وذلك في أسلوب مبين أن الإنسان محتاج إلى جميع ما في الوجود ، ولو نقص منه شيء اختل أمره ، وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف ، وبالماء الذي هو حياة كل شيء ، تنبيهاً له على ابتداء خلقه : ( أنّا ) أي على ما لنا من العظمة ) صببنا الماء ) أي الذي جعلنا منه كل شيء حي ) صباً ( وثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال : ( ثم ) أي بعد مهلة من إنزال الماء ، وفاوتنا بينها في البلاد والنبات ) شققنا ) أي بما لنا من العظمة ) الأرض ( بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أصعب الأشياء فكيف بالأرض اليابسة المتركزة جداً عند مخالطتة الماء ، وحقق المعنى فقال : ( شقاً ( ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له مبيناً الاحتياج إلى النبات بقوله ) فأنبتنا ) أي أطلعنا على وجه الاتصال الموجب للتغذي والنمو ) فيها ( بسبب ) حباً ) أي لاقتيات الإنسان وغيره من الحيوان كالحنطة والشعير والزر وغيرها .(8/330)
صفحة رقم 331
عبس : ( 28 - 32 ) وعنبا وقضبا
) وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ( ( )
ولما كان الحب قوتاً فبدأ به لأنه الأصل في القوام ، عطف عليه ما هو فاكهة وقوت فقال : ( وعنباً ( هو فاكهة في حال عنبيته وقوت باتخاذه زبيباً ودبساً وخلاً .
ولما كان لذلك في بيان عجائب الصنع ليدل على القدرة على كل شيء فيدل على القدرة على البعث فذكر ما إن أخذ من منبته قبل بلوغه فسد ، وإن أخذ وعولج صلح للادخار ، أتبعه ما لا يصلح للادخار بوجه فقال : ( وقضباً ( وهو الرطب من البقل وغيره ، وهو يزيد على الماضيين بأنه فيه ما هو دواء نافع وسم ناقع ، وبأنه يقطع مرة بعد أخرى فيخلف ، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه بحصد أو قلع .
ولما ذكر ما لا يصلح أن يؤكل إلاّ رطباً من غير تأخير ، أتبعه ما لا يفسد بحال لا على أمه ولا بعد القطاف ويصلح بعد القطاف فيؤكل أو يعصر ، فيكون له دهن للاستصباح والإدهان والائتدام ، وفيه تقوية للعظام والأعظام والأعصاب ولا يفسده الماء بوجه كما أن العنب يعصر فيكون منه دبس وخل وغيرهما ، ومتى خالطه الماء فسد ، فقال : ( وزيتوناً ( يكون فيه مع ما مضى حرافة وغضاضة فيها يأكل على أمة ويقطع فيدخر ، فهو جامع بين التحلي والتحمض بالخل التفكه والتقوي والتداوي للسم الناقع والسحر الصارع من عجوة المدينة الشريفة وغير ذلك من ثمرة وشجرة ، ولا يصبر شجره على البرد فقال : ( ونخلاً ( وكل من هذه الأشجار مخالفة للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع الموافقة في الأرض والسقي .
ولما ذكر هذه الأشياء من الأقوات والفواكه لكثرة منافعها ، وكانت البساتين تجمعها وغيرها مع ما لها من بهجة العين وسرور النفس وبسط الخاطر وشرح القلب قال : ( وحدائق ( جمع حديقة وهي الروضة ذات النخل والشجر ، أو كل ما أحاط به البناء وهي تجمع ذلك كله ) غلباً ( جمع غلباء بفتح الغين والمد ، وهي الحديقة ذات أشجار كثيرة عظام غلاظ طوال ملتفة الأغصان متكاثرة ، مستعار من وصف الرقاب ، يقال : غلب فلان كفرح أي غلظ عنقه ، والغلباء أيضاً من القبائل العزيزة الممتنعة ، ومن الهضاب المشرفة .
ولما ذكر ما يتفكه ويدخر جمع فقال : ( وفاكهة ) أي ثمرة رطبة يتفكه بها كالخوخ والعنب والتين والتفاح والكمثرى والبرقوق مما يمكن أن يصلح فيدخر ومما لا(8/331)
صفحة رقم 332
يمكن .
ولما ذكر فاكهة الناس ، ذكر فاكهة بقية الحيوان فقال : ( وأبّاً ) أي ومرعىً ونباتاً وعشباً وكلأ ما دام رطباً يقصد ، من أب الشيء إذا أمه .
لما جمع ما يقتات وما يتفكه ، فدل دلالة واضحة على تمام القدرة ، ذكر بالنعمة فيه قارعاً بأسلوب الخطاب لتعميم الأفراد بعد سياق العتاب للتصريح بأن الكل عاجزون عن الوفاء بالشكر فكيف إذا انضم إليه الكفر فقال : ( متاعاً ( وهو منصوب على الحال .
ولما ذكر ما يأكله الناس وما يعلف للدواب ، وكان السياق هنا لطعام الإنسان ، قال مقدماً ضميرهم : ( لكم ولأنعامكم ( بخلاف ما في السجدة وقد مضى ، والأنعام بها يكون تمام الصلاح للإنسان بما له فيها من النعم بالركوب والأكل والشرب والكسوة والجمال وسائر المنافع ، وذكر هذا ذكراً ظاهراً مشيراً إلى المعادن لأن منها ما لا يتم ما مضى إلا به وهي آلات الزرع والحصد والطبخ والعجن وغير ذلك ، والملائكة المدبرة لما صرفها الله فيه من ذلك ، فدل ذلك على أن الوجود كله خلق لأجل منافع الإنسان ليشكر لا ليكفر ، ودلت القدرة على ذلك قطعاً على القدرة على البعث .
عبس : ( 33 - 42 ) فإذا جاءت الصاخة
) فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( ( )
ولما ذكر عجائب الصنع في الطعام ، وكان ذلك يقطع فيعود لا سيما المرعى فإنه يأتي عليه الخريف فينشف ثم يتحطم من الرياح ويتفرق في الأرض ثم يصير تراباً ثم يبعث الله المطر فيجمعه من الأرض بعد أن صار تراباً ثم ينبته كما كان ، وكان ذلك مثل إحياء الموتى سواء ، فتحقق لذلك ما تقدم من أمر الإنشار بعد الإقبار ، وكان ذلك أيضاً مذكراً بأمر أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالأكل من الجنة إلا من الشجرة التي نهاه عنها ، فلما أكل منها أخرجه من الجنة فسبجنه في دار ليست بجنة ولا نار ولا غيرهما بل هي ممن ممتزج الدارين وكالبرزخ بينهما ، فيها ما يذكر بهذه وما يذكر بتلك وفيها أمثلة الموجدات كلها ، قال مسبباً عما ثبت به الإحياء للبعث إلى المحشر معبراً بأداة التحقق لأن الساعة ممن لا بد منه ولا محيد عنه لأنها سر الكون فإن فيها حساب الذين استخلفوا في هذا الوجود وأفيضت عليهم النعم التي أودعها فيه ، وأشار إلى أنهم عاجزون عن القيام بشكرها ، وكثير منهم بل أكثرهم زاد على ذلك بكفرها ، فأوجب ذلك ولا بد حسابهم على ما فعلوا فيما استخلفوا فيه واسترعوه كما هي عادة كل مسترع ومستخلف : ( فإذا جاءت ) أي كانت ووجدت لأن كل ما هو كائن كأنه لاقبك وجاء إليك ) الصآخة ) أي الصرخة العظيمة التي يبالغ في إسماع الأسماع بها حتى(8/332)
صفحة رقم 333
تكاد تصمها لشدتها ، وكأنها تطعن فيها لقوة وقعتها وعظيم وجبتها ، وتضطر الآذان إلى أن تصيخ إليها أي تسمع ، وهي من أسماء القيامة ، وأصل الصخ : الضرب بشيء صلب على مصمت .
ولما كان وصفها بما يقع فيها أهيب ، قال مبدلاً من ( إذا ) ما يدل على جوابها من نحو : اشتغل كل بنفسه ولم يكن عنده فراغ ما لغيره : ( يوم يفر المرء ) أي الذي هو أعظم الخلق مروءة : ولما كان السياق للفرار ، قدم أدناهم رتبة في الحب والذب فأدناهم على سبيل الترقي ، وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في ( سأل ) كما مضى فقال : ( من أخيه ( لأنه يألفه صغيراً وقد يركن إليه كبيراً مع طول الصحابة وشدة القرب في القرابة فيكون عنده في غاية العزة .
ولما كانت الأم مشاركة له في الإلف ، ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم الأخ وهو لها آلف وإليها أحنّ وعليها أرق وأعطف قال ) وأمه ( ولما كان الأب أعظم منها في الإلف لأنه أقرب في النوع وللولد عليه من العاطفة لما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله قال : ( وأبيه ( ولما كانت الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد ، وكان الإنسان أذب عنها عند الاشتداد ، قال : ( وصاحبته ( ولعله أفردها إشارة إلى أنها عنده في الدرجة العليا من المودة بحيث لا يألف غيرها .
ولما كان للوالد إلى الولد من المحبة والعاطفة والإباحة بالسر والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره ، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره قال : ( وبنيه ( وإن اجتمع فيها الصغير الذي هو عليه أشفق والكبير الذي هو في قلبه أجل وفي عينه أنبل ومن بينهما من الذكر والأنثى .
ولما ذكر فراره الذي منعه قراره ، علله فقال : ( لكل امرئ ) أي وإن كان أعظم الناس مروءة ) منهم يومئذ ) أي إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام ) شأن ) أي أمر بليغ عظيم ) يغنيه ) أي يكفيه وهو المنزل الذي يرضيه مع أنه يعلم أنه يتبعونه ويخاف أن يطالبوه لما هم فيه من الكرب بما لعله قصر فيه من حقوقهم .
ولما ذكر اليوم ، قسم أهله إلى القسمين المقصودين بالتذكرة أول السورة ، فقال دالاًّ على البواطن بأشرف الظواهر : ( وجوه يومئذ ) أي إذ كان ما تقدم من الفرار وغيره ) مسفرة ) أي بيض مضيئة بالإشراق والاستنارة ، ومن أسفر الصبح إذا أشرق واستنار ) ضاحكة ( لما علمت من سعادتها ) مستبشرة ) أي طالبة للبشر وهو تغير البشرة من(8/333)
صفحة رقم 334
السرور وموجدة لذلك ، وهي بيضاء نيره بما يرى من تبشير الملائكة ، وذلك بما كانت فيه في الدنيا من عبوس الوجوه وتغيرها وشحوبها من خشية الله تعالى وما يظهر من جلاله في الساعة كابن أم مكتوم رضي الله عنه الذي كان يحمله خوف الساعة على حمل الراية في أشد الحروب كيوم القادسية والثبات بها حتى يكون كالعمود ، لا يزول عن مركزه أصلاً ليرضي المعبود .
ولما ذكر أهل السعادة الذين هم القبلون على الخير المصابون في أنفسهم بما يكفر سيئاتهم ويعلي درجاتهم ، ذكر أضدادهم فقال تعالى : ( ووجوه ( وأكد بإعادة الظرف لإزالة الشبهة فقال : ( يومئذ ) أي إذ وجد ما ذكر ) عليها ) أي ملاصقة لها مع الغلبة والعلو ) غبرة ) أي اربداد وكأنه بحيث يصير كأنه قد علاها غبار وهي عابسة حذرة وجلة منذعرة ، وذلك مما يلحقها من المشقات وكثرة الزحام مع رعب الفؤاد ، وتذكر ما هي صائرة إليه من الأنكاد الشداد ) ترهقها ) أي تغشاها وتقهرها وتعلوها ) قترة ) أي كدورة وسواد وظلمة ضد الإسفار فهي باكية عابسة مما كانت فيه في الدنيا من الفرح واللعب والضحك والأمن من العذاب ، فالآية من الاحتباك : ذكر الإسفار والبشر أولاً يدل على الخوف والذعر ثانياً ، وذكر الغبرة ثانياً يدل عل البياص والنور أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر دليل الراحة ودليل التعب لظهورهما ترغيباً وترهيباً .
ولما كان هذا الأمر هائلاً ، وكان الفاجر ، لما علا قلبه من الرين وله من القساوة ، قليل الخوف من الأجل عديم الفكر فيما يأتي به غد لما غلب عليه من الشهوتين : السبيعة والبهيمية بخلاف المتقي في كل ذلك ، استأنف الإخبار زيادة في التهويل فقال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم ) أي خاصة لا غيرهم ) الكفرة ) أي الذين ستروا دلائل إلإيمان ) الفجرة ) أي الذين خرجوا عن دائرة الشرع خروجاً فاحشاً حتى كانوا عريقين في ذلك الكفر والفجور ، وهم في الأغلب عن دائرة الشرع خروجاً فاحشاً حتى كانوا التكبر والأشر والبطر ، فلجمعهم بين الكفر والفجور جمع لهم بين الغبرة والقترة ، كما يكون للزنوج من البقاعة إذا علا وجوههم غبار ووسخ ، فقد عاد آخرها على أولها فيمن يستحق الإعراض عنه ومن يستحق الإقبال عليه والله الهادي .
.. .(8/334)
صفحة رقم 335
سورة التكوير
مقصودها التهديد الشديد بيوم الوعيد الذي هو محط الرحال ، لكونه أعظم مقام لظهور الجلال ، لمن طذب بأن هذا القرآن تذكرة لمن ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة ، والدلالة على حقية كونه كذلك بأن السفير به أمين في الملأ الأعلى مكين المكانف فيما هنالك والموصل بعه إلينا منزه عن التهمة برئ من النقص لما يعلمونه من حاله قبل النبوة وما كانوا يشهدون له به من أمره ولم يأتهم بعدها إلا بما هو شرف له وتذكير بما في أنفسهم وفي الآفاق ومن الآيات ، وذلك كاف لهم في الحكم بأنه صدق والعم اليقين بأنه حق ، واسمها التكوير أدل ما فيها على ذلك بتأمل الظرف وجوابه وما فيه من بديع القول وصوابه ، وما تسبب عنه من عظم الشأن لهذا القرآن ) بسم الله ( الواحد القهار ) الرحمن ( الذي عمت نعمة إيجاده وبيانه الأبرار والفجار ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده بما أسعدهم في دار القرار .
التكوير : ( 1 - 9 ) إذا الشمس كورت
) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( ( )
ولما ختمت سورة عبس بوعيد الكفرة الفجرة بيوم الصاخة لجحودهم بما لهذا القرآن من التذكرة ، ابتدئت هذه بإتمام ذلك ، فصور ذلك اليوم بما يكون فيه من الأمور الهائلة من عالم الملك والملكوت حتى كأنه رأى عين كما رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) برجال ثقات أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة رأي العين فليقرأ ) إذا الشمس كورت ( )(8/335)
صفحة رقم 336
[ التكوير : 1 ] فقال بادئاً بعالم الملك والشهادة لأنه أقرب تصوراً لما يغلب على الإنسان من الوقوف مع المحسوسات ، معلماً بأنه سيخرب تزهيداً في كل ما يجر إليه وحثاً على عدم المبالاة والابتعاد من التعلق بشيء من أسبابه : ( إذا الشمس ) أي التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس .
ولما كان المهمول مطلق تكويرها الدال على عظمة مكورها ، بني للمفعول على طريقة كلام القادرين قوله : ( كورت ) أي لفت بأيسر أمر من غير كلفة ما أصلاً ، فأدخلت في العرش كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فذهب ما كان ينبسط من نورها ، من كورت العمامة إذا لففتها فكان بعضها على بعض وانطمس بعضها ببعض ، والثوب إذا جمعته فرفعته ، فالتكوير كناية عن رفعها أو إلقائها في جهنم زيادة في عذاب أهلها ولا سيما عبدتها ، أو ألقيت عن فلكها ، من طعنه فكوره أي ألقاء مجتمعاً ، والتركيب للإدارة والجمع والرف للشمس ، فعل دل عليه ( كورت ) لأن ( إذا ) تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط ، ولما كان التأثير في الأعظم دالاًّ على التأثير فيما دونه بطريق الأولى ، أتبع ذلك قوله معمماً بعد التخصيص : ( وإذا النجوم ) أي كلها صغارها وكبارها ) انكدرت ) أي انقضّت فتاهوت وتساقطت وتناثرت حتى كان ذلك كأنه بأنفسها من غير فعل فاعل في غاية الإسراع ، أو أظلمت ، من كدرت الماء فانكدر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يكون الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً ، وقال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذ نجوماً ، لا يبقى نجم إلاّ وقع .
ولما بدأ بأعلام السماء لأنها أشهر وأعم تخويفاً وإرهاباً ، وذكر منها اثنين هما أشهر ما فيها وأعمها نفعاً ، أتبعها أعلام الأرض فقال مكرراً للظرف لمزيد الاعتناء بالتهويل : ( وإذا الجبال ) أي التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي ، وهي أصلب ما في الأرض ، ودل على عظمة القدرة بالبناء للمفعول فقال : ( سيرت ) أي وقع تسييرها بوجه الأرض فصارت كأنها السحاب في السير ولاهباء في النثر لتستوي الأرض فتكون قاعاً صفصفاً لا عوج فيها ، لأن ذلك اليوم لا يقبل العوج في شيء من الأشياء بوجه .
ولما ذكر أعلام الجماد ، أتبعه أعلام الحيوان النافع الذي هو أعز أموال العرب وأغلبها على وجه دل على عظم الهول فقال : ( وإذا العشار ) أي النوق التي أتيى على(8/336)
صفحة رقم 337
حملها عشرة أشهر ، جمع عشراء مثل نفساء ، وهي أحب أموال العرب إليهم وأنفسها عندهم لأنها تجمع اللحم والظهر واللبن الوبر ، ( روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر في أصحابه بعشار من النوق حفّل ، فأعرض عنها وغض بصره فقيل له : يا رسول الله هذا أنفس أموالنا ، لم لا تنظر إليها ؟ فقال : ( قد نهاني الله عن ذلك ، ثم تلا ) ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا ) [ طه : 131 ] الآية ( ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام السنة ) عطلت ) أي تركت مهملة كأنه لا صاحب لها مع أنها أنفس أموالهم ، فكانت إذا بلغت ذلك أحسنت إليها وأعزتها واشتد إقبالها عليها : وقالت : جاء خيرها من ولد ولبن ، لأن الأمر ، لاشتغال كل أحد بنفسه ، أهول من أن يلتفت أحد إلى شيء وإن عز .
ولما ذكر المقرعات الدلالت على إرادة أمر عظيم ، قرب ذلك الأمر بإفهام أنه الحشر ، ودل على عمومه بذكر ما يظن إهماله فقال : ( وإذا الوحوش ) أي دواب البر التي لا تأنس بأحد التي يظن أنه لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها ) حشرت ) أي بعثت وجمعت من كل أوب قهراً لإرادة العرض على الملك الأعظم والفصل فيما بينها في أنفسها حتى يقتص للجماء من القرناء وبينها وبين غيرها أيضاً حتى يسأل العصفور قاتله ، لم قتله ؟ قال قتادة : يحشر كل شيء للقصاص حتى الذباب انتهى .
ولا يستوحش الوحش من الناس ولا الناس من الوحوش من شدة الأهوال ، وذلك أهول وأفزع وأخوف وأفظع ، قال القشيري : ولا يبعد أن يكون ذلك بإيصال منافع إليها جوازاً لا وجوباً كما قاله أهل البدع انتهى .
وكل شيء في الدنيا يحضر في تلك الدار ، فإذا وقع الفصل جعل الخبيث في جهنم زيادة في عذاب أهلها ، والطيب في الجنة زيادة في نعيم أهلها .
ولما أفهم هذا الحشر ، ذكر ما يدل على ما ينال أهل الموقف من الشدائد من شدة الحر فقال : ( وإذا البحار ) أي على كثرتها ) سجرت ) أي فجر بعضها إلى بعض حتى صارت بحراص واحداً وملئت حتى كان ما فيها أكثر منها وأحمئت حتى كان كالتنور التهاباً وتسعراً فكانت شراباً لأهل النار وعذابا عليهم ، ولا يكون هذا إلا وقد حصل من الحر ما يذيب الأكباد .
ولما ذكر من الآيات العلوية من عالم الملك اثنين ومن السفلية أربعة ، فأفهم جميع الخلق أن الأمر في غاية الخطر فتشوفت النفوس إلى ما يفعل ، قال ذاكراً لما أراد(8/337)
صفحة رقم 338
من عالم الغيب والملكوت ، وهو أمور ستة على عدد ما مضى من عالم الملك والشهادة ترغيباً في الأعمال الصالحة والقرناء الصالحين لئلا يزوج بما يسوءه وابتدأ بما يناسب تكوير الشمس : ( وإذا النفوس ) أي من كل ذي نفس من الناس وغيرهم ) زوجت ) أي قرنت بأبدانها وجمع كل من الخلق إلى ما كانت نفسه تألفه وتنزع إليه ، فكانوا أصنافاً كما قال تعالى ) ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله ( ) [ الصافات : 22 ، 23 ] والتفاف الأزواج كالتفاف الشمس حتى يذهب نورها .
ولما صرح الأمر فكانت القلوب أحر من الجمر ، ذكر ما هو المقصود الأعظم وهو السؤال على وجه يفهم العموم فقال : ( وإذا الموءودة ) أي ما دفن من الأولاد لما يوضع عليها من التراب فيثقلها فيقتلها ( وأداً ) مقلوب ( آداً ) إذا أثقل ، وإلقاؤها في البئر المحفور لها قرب من انكدار النجوم وتساقطها .
ولما كان هذا أهون القتل عندهم وكانوا يظنون أنه مم لا عبرة به ، بين أنه معتنىً به وأنه لا بد من بعصها وجعلها بحيث تعقل وتجيب وإن كان نفخ الروح فيها في زمن يسير فقال : ( سئلت ) أي وقع سؤالها عما يليق أن تسأل عنه ، ثم قيل على طريق الاستئناف تخويفاً للوالدين : ( بأي ) أي بسبب أيّ ) ذنب ( يا أيها الجاهلون ) قتلت ) أي استحقت به عندكم القتل وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حد التكليف ، فما ظنك بمن هو فوقها وبمن هو جان ، وسؤالها هو على وجه التبكيت لقاتلها ، فإن العرب كانت تدفن النبات أحياء مخافة الإملاق أو لحوق العار بهن ، ويقولن : نردها إلى الله هو أولى بها ، فلا يرضون البنات لأنفسهم ويرضونها لخالقهم ، وكان فيهم من يتكرم عن ذلك ومن يفدي الموءودات ويربيهن ، وليس في الآية دليل على تعذيب أطفال الكفرة ولا عدمه ، فإن الكافر الذي يستحق الخلود قد يكون مستأمناً فلا يحل قتله ، والأطفال ما عملو ما يستحقون به القتل ، ويؤخذ من سؤال المؤدة تحريم الظلم لكل أحد وكف اليد واللسان عن كل إنسان .
التكوير : ( 10 - 19 ) وإذا الصحف نشرت
) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( ( )
ولما دل هذا على عموم السؤال ، ذكر ما ينشأ عنه مما يدل على النعيم أو النكال فقال : ( وإذا الصحف ) أي الأوراق التي كتبت فيها أعمال العباد ) نشرت ) أي فرقت مفتحة تفتيحاً عظيماً على أربابها بأيسر أمر فتأتي السعيد في يمينه من تلقاء وجهه على وجه يكون فيه بشارة له ، وتأتي الشقي من وراء ظهره وفي شماله بعد أن كانت طويت(8/338)
صفحة رقم 339
عند موته ، ونشرها مثل تسيير الجبال وتطايرها ، فمن اعتقد أن صحيفته ثابتة فترديه أو تنجيه لم يضع فيها إلا حسناً من قول أو عمل أو اعتقاد .
ولما ذكر ما يطلق وينشر ، أتبعه ما يطوى ويحصر ، ليبدو ما فوقه من العجائب وينظر ، فقال : ( وإذا السماء ) أي هذا الجنس كله ، أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي ) كشطت ) أي قلعت بقوة عظيمة وسرعة زائدة وأزيلت عن مكانها التي هي ساترة له محيطة به ، أو عن الهواء المحيط بسطحها الذي هو كالروح لها كما يكشط الإهاب عما هو ساتر له ومحيط به مع شدة الالتزاق به لأن ذلك يوم الكشف والإظهار
77 ( ) فكشفنا عنك غطاءك ( ) 7
[ ق : 22 ] وكشطها هو مثل انكشاف الناس عن العشار وتفرقهم عنها ، فنم اعتقد زوالها أعرض عن ربط همته بشيء منها وناط أموره كلها بربها .
ولما زالت الموانع ظهرت عجائب الصنائع التي هي غايا المطالب ، ونهايات الرغاب والرهائب ، فقال : ( وإذا الجحيم ) أي النار الشديدة التأجج والتي بعضها فوق بعض والعظيمة في مهواة عميقة ) سعرت ) أي أوقدت إيقاداً شديداً بأيسر أمر وقربت من الكافرين بغاية السرعة ، فكان الأمر في غاية العسر ، وذلك قريب من نتيجة ما يحصل من الهول من حشر الوحوش .
ولما ذكر جار الأعداء البعداء ترهيباً ، أتبعه دار المقربين السعداء ترغيباً ، فقال : ( وإذا الجنة ) أي البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة ) أزلفت ) أي قربت من المؤمنين ونعمت ببرد العيش وطيب المستقر ، ودرجت درجاتها وهيئت ، وملئت حياضها ومصنعها ، وزينت صافها ونظفت أرضها وطهرت عن كل ما يشين ، وحسنت رياضها بكل ما يزين ، من قول أهل اللغة ، الزلف محركة : القربة والدرجة والحياض الممتلئة والزلفة : المصنعة الممتلئة والصحف والأرض المنكوسة ، والزلف بالكسر .
الروضة ، ومعنى هذا ضد سجر البحار ، فالآية من الاحتباك : ذكر التسعير أولاً دال على ضده في الجنة ثانياً ، وذكر التقريب ثانياً دال على مثله أولاً .
ولما كانت هذه الأشياء لهولها موجبة لاجتماع الهم وصرف الفكر عما يشغله من زينة أو لهو أو لعب أو سهو ، فكان موجباً للعلم بما يرجى نعيماً أو يوجب جحيماً ، وكان ذلك موجباً لتشوف السامع إلى ما يكون ، قال تعالى كاشفاً تلك النعمة بالعامل في ( إذا ) وما عطف عليها : ( علمت نفس ) أي كل واحدة من النفوس ، فالتنكير فيه مثله في ( ثمرة خير من جرادة ) ودلالة هذا السياق المهول على ذلك يوجب اليقين فيه ) ما ) أي كل شيء ) أحضرت ) أي عملت وأوجدت ، فكان أهلاً للحضور ، وكان عمله لها(8/339)
صفحة رقم 340
سبباً للإحضار إياه لها في ذلك اليوم محفوظاً لم يغب عنه منها ذرة من خيره وشره ، فلأجل ذلك كان لكل امرئ شأن يعنيه ، فإنه لا بد أن يكون في أعماله ما لا يرضيه وما يستصغره عن حضرة العلي الكبير ، فمن اعتقد ذلك رغب في أن لا يحضر إلا ما يسره ، ورهب في إحضار ما يسوء فيضره ، وجميع هذه الأشياء الاثني عشر المعدودة المذكورة في حيز ( إذا ) في الآخرة بعد النفخة الثانية على ما تقدم في الحاقة أنه الظاهر ، وأنه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، لأن التهويل بعد القيام أنسب ، وأدخل في الحكمة وأغرب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال سبحانه
77 ( ) فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه ( ) 7
[ عبس : 33 34 ] الآيات إلى آخر السورة ، كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع متى يكون ؟ فقال تعالى :
77 ( ) إذا الشمس كورت ( ) 7
[ التكوير : 1 ] ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كل ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه إلى ما ذكر إلى آخر السورة لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة ، فيصح أن يكون أمارة للأول وعلماً عليه انتهى .
ولما كان السياق للترهيب ، وكان الأليف بآخر عبس أن يكون للكفر ، وكان أعظم ما يحضره الكفرة من أعمالهم بعد الشرك التكذيب بالحق ، وأعظمه التكذيب بالقرآن ، وذلك التكذيب هو الذي جمع الخزي كله للمكذب به في قوله
77 ( ) قتل الإنسان ما أكفره ( ) 7
[ عبس : 17 ] الذي السياق كله له ، وإنما استحق المكذب به ذلك لأن التكذيب به يوقع في كل حرج مع أنه لا شيء أظهر منه في أنه كلام الله لما له من الرونق والجمع للحكم والأحكام والمعارف التي لا يقدر على جمعها على ذلك الوجه وترتيبها ذلك الترتيب إلا الله ، ثم وراء ذلك كله أنه معجز ، سبب عن هذا التهديد قوله مقسماً بما دل على عظيم قدر المقسم عليه بترك الإقسام بأشياء هي من الإجلال والإعظام في أسنى مقام : ( فلا أقسم ) أي لأجل حقية القرآن لأن الأمر فيه غنىً عن قسم لشدة ظهوره وانتشار نوره ، ولذلك أشار إلى عيوب تلحق هذه الأشياء التي ذكرها والقرآن منزه عن كل شائبة نقص ، لأنه كلام الملك الأعلى فقال : ( بالخنس ) أي الكواكب التي يتأخر طلوعها عن طولع الشمس فتغيب في النهار لغلبة ضياء الشمس لها ، وهي النجوم ذوات الأنواء التي كانوا يعظمونها بنسبة الأمطار والرحمة التي ينزلها الله إليها ، قالوا : وهي القمر فعطارد فالزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل وقد نظمها بعضهم متدلياً فقال :
زحل اشترى مريخه من شمسه فتزهرت لعطارد الأقمار
ثم أبدل منها أعظمها فقال : ( الجوار الكنس ) أي السيارة التي تختفي وتغيب(8/340)
صفحة رقم 341
بالنهار تحت ضوء الشمس ، من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الأشجار ، وقال الرازي : يكنس ويستتر العلوي منها بالسفلي عند القرانات كما تستتر الظباء في الكناس ، وقال قتادة : تسير بالليل وتخنس بالنهار فتخفى ولا ترى ، وروي ذلك أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال البغوي : وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء والكنوس أن تأوي إلى مكانسها .
وقال القشيري : إن ذلك غروبها ، وإنما نفى الإقسام بها لأنها وإن كانت عظيمة في أنفسها بما ناط بها سبحانه من المصالح وأنتم تعظمونها وتغلون فيها لأن فيها نقائص الغيبوبة وانبهار النور ، والقرآن المقسم لاجله منزه عن ذلك ، بل هو الغالب على كل ما سواه من الكلام غلبة هي أعظم من غلبة ضياء الشمس لنور ما سواها من الكواكب ، فلذلك لا يليق أن يقسم بها لأجله .
ولما ذكر غيابها ففهم منه محله وهو النهار ، ذكر محل ظهورها فأفهم الظهور فقال : ( والّيل ) أي الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها ) إذا عسعس ) أي أقبل ظلامه ، واعتكر سواده وقتامه ، فظهرت الكواكب زهراً منثوراً في بيداء تلك الغياهب ، فإن فيه نقصاناً بالظلام وغير ذلك من الأحكام ، وقيل : معناه أدبر ، وقيل : أظلم ، وقيل : انتصف ، وقيل : انقضى ، وسعسع بمعناه فهو ما لا يستحيل بالانعكاس ، والآية من الاحتباك : ذكر خنوس الكواكب وكنوسها أولاً يفهم ظهورها ثانياً ، وذكر الليل ثانياً يفهم حذف النهار أولاً .
ولما كان ربما ظن ظان أن ما نقص بالظلام عن صلاحية الإقسام يتأهل ذلك بزواله ، قال نافياً لذلك : ( والصبح ) أي الذي هو أعدل أوقات النهار ) إذا تنفس ) أي أضاء وأقبل روحه ونسيمه ، وأنسه ونعيمه ، واتسع نوره ، وانفرج به عن الليل ديجوره ، وذلك بعد إقبال الليل ثم إدباره أي لا أقسم به لأنه وإن كان ذا نور ونعمة وحبور وبهجة وسرور إذن ذلك يتضاءل عن نور القرآن ، وما فيه من النعيم والرضوان ، ( وأين الثريا من يد المتناول ) على أن تنفسه بالبرد واللطافة تنسخه الشمس بالحر والكثافة ، وتنفس القرآن بنفحات القدس ونعيم المواعظ والأنس لا ينسخه شيء .
ولما بين أن هذه الأشياء التي لولاها لما طاب لهم عيش ولا تهنؤوا بحاية ، وهي من الفضل بحيث لا يعلمه إلا خالقها تصغر عن أن يقسم بها على شيء من فضائل القرآن لما له من عظيم الشأن الذي لا يطيق التعبير عنه البيان ، ويتضاءل دونه اللسان ، قال مجيباً لذلك إخباراً عما هو محقق في نفسه الأمر أعظم من تحقق هذه الأشياء المقسم بها ، هادٍ إلى مصالح الدارين أكثر من هدايتها ، مبيناً للسفيرين به المليكي والبشري عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام مؤكداً لما يستحقه السياق كما يستحقه مع ما له من الإنكار تنبيهاً على ضعف عقولهم وعظيم سفههم بعد أن أقسم بثلاثة(8/341)
صفحة رقم 342
أقسام ، فإن نفي الإقسام بها بما ذكر من نقائصها كالإقسام بها مع بيان أن المقسم عليه أعظم منها بما لا يقايس : ( إنه ) أي هذا الذكر الذي تقدم في عبس بعض ما يستحق من الأوصال الجميلة والنعوت الجليلة ) لقول رسول ( وهو جبريل عليه الصلاة والسلام نحن أرسلناه به إلى خير خلقنا وجعلناه بريداً بيننا وبينه لاقتضاء الحكمة ذلك ، وهي أن يكون خلاصة الخلق ذا جهتين : واحدة ملكية يتلقى بها من الملائكة عليهم السلام لكون غيره من البشر لا يطيق ذلك ، وأخرى بشرية يتلقى بها من المبعوث إليهم ، ومن المعلوم أن الرسول إنما وظيفته تبليغ ما أرسل به فهو سفير محض ، والذي أوحاه وإن كان قوله لكونه نطق به وبلغه من غير مشاركة شيطان ولا غيره هو قول الله من غير شك لكونه معبراً عن السفة القديمة النفسية ، ولو كان قول الرسول مستقلاً به لما كان لوصفه بالرسالة مدخل فيما كانت البلاغة تقتضي ذكره بالوصف .
ولما بين بوصف الرسالة أنه ليس بقوله إلا لكونه مرسلاً به ومبلغاً له ، وأنه في الحقيقة قول من أرسله ، وصفه بما أفهمه الوصف مما يوجب حفظه من غير تحريف ما ولا تغيير أصلاً بوجه من الوجوه ، وذلك ببيان منزلته عند الله ووجاهته وبيان قدره ونفوذ كلمته فقال : ( كريم ) أي انتفت عنه وجوه المذام كلها وثبتت له وجوه المحامد كلها ، فهو جواد شريف النفس ظاهر عليه معالي الأخلاق بريء من أن يلم شيء من اللوم بساحته ، فلذلك هو يفيض الخيرات بإذن ربه على من أمر به العالمين ، فيؤدي ما أرسل به كما هو لقيامه بالرسالة قيام الكرام فلم يغير فيها شيئاً أصلاً ولا فرط حتى يمكن غيره أن يحرف أو يغير ، والكرم اجتماع كمالات الشيء اللائقة به .
التكوير : ( 20 - 29 ) ذي قوة عند. .. . .
) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما اقتضى هذا القوة ، صرح به تأكيداً فقال : ( ذي قوة ) أي على ضبط ما أرسل به بنفسه وعلى المدافعة للغير عن أن يدخل فيه شيئاً من نقص ، وأكد القوة بقوله : ( عند ذي العرش ) أي الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عندية في الحقيقة إلا له ) مكين ) أي بالغ المكنة عنده عظيم المنزلة جداً بليغ فيها فهو بحيث لا يتأتى منه تفريظ ما في إبلاغ شيء مما أرسل به لأنه لا يغيره الأحوال ولا يعمل فيه تضاد الشهوات ، لأنه لا شهوة له إلاّ ما يأمر به مرسله سبحانه وتعالى .(8/342)
صفحة رقم 343
ولما كان المتمكن في نفسه قد لا يكون له أعوان ، قال : ( مطاع ثم ) أي في الملأ الأعلى فهم عليه السلام أطوع شيء له ، قال الحسن : فرض الله على أهل السماوات طاعة جبريل عليه الصلاة والسلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان ذلك يقتضي الأمانة ، صرح بها فقال : ( أمين ) أي بليغ الأمانة فهو مصدق القول مقبول الأمر موثوق به في أمر الرسالة وإفاضة العلوم على القلوب روحاني مطهر جوهراً وفعلاً وحالاً ، ومن كان بهذه الصفات العظيمة كان بحيث لا يأتي إلاّ في أمر مهم جداً لأن الملوك لا يرسلون خواصهم إلا في مثل ذلك ، ولذلك ائتمنه الله تعالى على رسالته .
ولما وصفه السفير الملكي وهو جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات الخمس التي أزالت عن القرآن كل لبس ، وكان وصفه بها إنما هو لأجل إثبات شرف الرسول البشري الذي هو بين الحق وعامة الخلق ، وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ما يقوله كلام الله حقاً ، وكانوا يصفونه بما هو في غاية النزاهة عنه وهم يعلمون ذلك ، أبطله مبكتاً لهم بالكذب وموبخاً بالبلادة بقوله زيادة في شرفه حيث كان هو المدافع عنه : ( وما صاحبكم ) أي الذي طالت صحبته لكم وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى أنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين ، وأعرق في النفي فقال : ( بمجنون ) أي كما تبتهونه به من غير استحياء من الكذب الظاهر مع ظهور التناقض فعل ألأم اللئام ، بل جاء بالحق وصدق المرسلين ، فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكملاء ، وهذا النفي المؤكد ثابت له دائماً على سبيل الاستغراق لكل زمان هذا ما دل عليه الكلام لا ما قال الزمخشري أنه يدل على أفضلية جبريل عليه السلام على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى بقية الملائكة ، فإنه ما سيق لذلك ولا هو الله مما يرضي جبريل عليه السلام ، قال الأصبهاني هنا : هذايدل على فضله وأما أنه يدل على أنه أفضل من جميع الملائكة ومن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يمكنه ، وقال في قوله تعالى في البقرة :
77 ( ) وملائكته ورسله ( ) 7
[ البقرة : 285 ] : ولم يلزم من تقديم الملائكة في الذكر تفضيلهم على الرسل ، وأما تقديم جبريل على ميكائل فليس ببعيد أن يكون للشرف كما أن تخصيصهما بالذكر لفضلما ، وقال في النجم : ثم دنا جبريل من ربه عز وجل ، وهذا قول مجاهد يدل عليه ما روي في الحديث : ( إن أقرب الملائكة إلى الله عز وجل جبريل عليه السلام ) انتهى .
ولو صح هذا الحديث لكان فيه كفاية لكن لم أجده .(8/343)
صفحة رقم 344
أًصلاً ، وقال الأصبهاني في عم في قوله :
77 ( ) يوم يقوم الروح ( ) 7
[ النبأ : 38 ] عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو أعظم الملائكة خلقاً وأشرف منهم ، وأقرب من رب العالمين انتهى .
فهذا كما ترى صريح في تفضيل الروح ، وقال السهيلي في غزوة بدر في كتابه الروض : ونزل جبريل عليه السلام بألف من الملائكة فكان في خمسمائة في الميمنة ، ومكائيل عليه السلام في خمسمائة في الميسرة ، ووراءهم مدد من الملائكة لم يقاتلوا وهم الآلاف المذكورون في وسرة آل عمران ، وكان إسرافيل عليه السلام وسط الصف لا يقتال كما يقاتل غيره من الملائكة عليهم الصلاة والسلام انتهى .
وهذا يدل على شرف إسرافيل عليه السلام لأن موقفه موقف رئيس القوم وفعله فعله والله أعلم .
ولما كان المجنون لا يثبت ما يسمعه ولا ما يبصره حق الإثبات ، فكان التقدير بعد هذا النفي : فلقد سمع من رسولنا إليه ما أرسل به حق السمع ، ما التبس عليه فيه حق بباطل ، عطف عليه الإخبار برفعه شأنه في رؤية ما لم يره غيره وأمانته وجوده فقال : ( ولقد رآه ) أي المرسل إليه وهو جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته الحقيقية ليلة المعراج وبعرفات ، جامعاً إلى حس السمع حس البصر ) بالأفق المبين ) أي الأعلى الذي هو عند سدرة المنتهى ، حيث لا يكون لبس أصلاً ، ولا يكون لشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة ، وقال البيضاوي : بمطلع الشمس الأعلى يعني وهو مشرق الأنوار ، والأفق : الناحية التي تفوق وتعلو .
ولما انتفى ما يظن من لبس السمع وزيغ البصر ، لم يبق إلا ما يتعلق بالتأدية فنفى ما يتوهم من ذلك بقوله : ( وما ) أي سمعه ورآه والحال أنه ما ) هو على الغيب ) أي الأمر الغائب عنكم في النقل عنه ولا في غيره من باب الأولى ) بضنين ) أي بمتهم ، من الظنة وهي التهمة ، كما يتهم الكاهن لأنه يخطئ في بعض ما يقول ، فهو حقيق بأن يوثق بكل شيء يقوله يف كل أحواله ، هذا في قراءة ابن كثير وأب عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء ، والمعنى في قراءة الباقين بالضاد : ببخيل كما يبخل الكاهن رغبة في الحلوان ، بل هو حريص على أن يكون كل من أمته عالماً بكل ما أمره الله تعالى بتبليغه .
ولما أثبت له الأمانة والجود بعد أن نفى عنه ما بهتوه به ، وكان الجنون أظهر من قول المجنون لأن بعض المجانين ربما تكلم الكلام المنتظم في بعض الأوقات فنفاه لذلك ، وكان قول الكاهن أظهر من الكهانة ، نفى القول فقال : ( وما هو ) أي القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات ، وأعرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال : ( بقول شيطان ( .
ولما كان الشيطان لا ينفك عن الطرد لأن اشتقاقه من شطن وشاط ، (8/344)
صفحة رقم 345
وذلك يقتضي البعد والاحتراق ، وصفه بما هو لازم له فقال : ( رجيم ) أي مرجوم باللعن وغيره من الشهب لأجل استراق السمع مطرود عن ذلك ، لأن القائل له ليس بكاهن كما تعلمون ، وبقي مما قالوه السحر وهو لا يحتاج إلى نفيه لأنه ليس بقول ، بل هو فعل صرف أو قول مقترن به ، والأضغاث وهي لذلك واضحة العوار فلم يعدها ، فمن علم هذه الأوصاف للقرآن والرسولين الآتيين به الملكي والبشري أحبه وأحبهما ، وبالغ في التعظيم والإجلال ، وأقبل على تلاوته في كل أوقاته ، وبالغ في السعي في كل ما يأمر به والهرب مما ينهى عنه ، ليحصل له الاستقامة رغبة في مرافقة من أتى به ورؤية من أتى من عنده .
ولما لم يدع وجهاً به على من لا يعرف حاله ( صلى الله عليه وسلم ) ، سبب عنه قوله موبخاً منكراً : ( فأين تذهبون ) أي بقلوبكم عن هذا الحق المبين يا أهل مكة المجعين لغاية الفطنة وقد علمتم هذا الحفظ العظيم في الرسولين الملكي والبشري فمن أين يأتي ما تدعون من التخليط في هذا الكتاب العظيم الذي دل على حفظه ببرهان عجزكم عن معارضة شيء منه ؟ وهو استضلال لهم واستجهال على أبلغ وجه في كل ما كانوا ينسبونه إليه بحيث صار ضلالهم معروفاً لا لبس فيه .
ولما كان الحال قد صار في الوضوح إلى أنه إذا نبه صاحبه بمثل هذا القول نظر أدنى نظر ، فقال من غير وقفة : لا أين ، قال : ( إن ) أي ما ) هو ) أي القرآن الذي أتاكم به ) إلا ذكر للعالمين ) أي شرف للخق كلهم من الجن والإنس والملائكة وموعظة بليغة عظيمة لهم .
ولما تشرف الوجود كله بإظهاره فيه نوع تشرف ، أطلق هذه العبارة .
ولما كان الذي ثم شرفه المهتدي ، فكان الوعظ والشرف إنما هو له في الحقيقة قال : ( لمن شاء منك ) أي أيها المخاطبون ) أن يستقيم ) أي يطلب القوم ويوجده .
ولما كان ذلك ربما تعنت به المتعنت في خلق الأفعال ، قال نافياً لاستقلالهم ومثبتاً للكسب : ( وما تشاءون ) أي أيها الخلائق الاستقامة ) إلا أن يشاء الله ) أي الملك الأعلى الذي لا حكم لأحد سواه مشيئتكم ، وإن لم يشأها لم تقدروا على مشيئة ، فادعوه مخلصين له الدين يشأ لكم ما يرضيه فيفقكم إليه ، وعن وهب بن منبه أنه قال : الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها : من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر انتهى .
ومن تأمل هذه الآية أدنى تأمل علم أن كلام المعتزلة بعدها في القدر دليل على أن الإنسان إذا كان له هوىً لا يرده شيء أصلاً
77 ( ) ومن يضلل الله فما له من هاد ( ) 7
[ الرعد : 33 ] .(8/345)
صفحة رقم 346
ولما وصف نفسه سبحانه بأنه لا يخرج شيء عن أمره ، أتبع ذلك الوصف بما هو كالعلة لذلك فقال : ( رب العالمين ) أي الموجد لهم والمالك والمحسن إليهم والمربي لهم وهو أعلم بهم منهم ، فلأجل ذلك لا يقدرون إلا على ما قدرهم عليه ، ويجب على كل منهم طاعته والإقبال بالكلية عليه سبحانه وتعالى وشكره استمطاراً للزيادة ، فلهذه الربوبية صح تصرفه في الشمس وما تبعها مما ذكر أول السورة لإقامة الساعة لأجل حساب الخلائق ، والإنصاف بينهم بقطع كل العلائق ، كما يفعل كل رب مع من يربيه فكيف بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فقد التقى طرفاها على أشرف الوجوه وأجلاها ، وانتظم أول الانفطار بما له من بديع الأسرار ، فالتكوير كالانشقاق والتفطير ، والانكدار مثل التساقط والانتشار ، والله سبحانه هو أعلم بالصواب .
.. .(8/346)
صفحة رقم 347
سورة الانفطار
مقصودها التحذير من الانهماك في الأعمال السيئة اغترارا بإحسان الرب وكرمه ونسيانا ليوم الدين الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير ، ولا تغني فيه نفس عن نفس شيئا ، واسمها الانفطار أدل ما فيها على ذلك ) بسم الله ( الذي له الجلال كما أن له الجمال ) الرحمن ( الذي عم بالرحمة ليشكر فغر ذلك أهل الضلال ) الرحيم ( الذي خص من أراد بالتوفيق لما يرضى من الخصال
الإنفطار : ( 1 - 7 ) إذا السماء انفطرت
) إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( ( )
ولما ختمت التكوير بأنه سبحانه لا يخرج عن مشيئته وأنه موجد الخلق ومدبرهم ، وكان من الناس من يعتقد أن هذا العالم هكذا بهذا الوصف لا آخر له ( أرحام تدفع وأرض تبلع ومن مات فات وصار إلى الرفات ولا عود بعد الفوات ) افتتح الله سبحانه هذه بما يكون مقدمة لمقصود التي قبلها من أنه لا بد من نقضه لهذا العالم وإخرابه ليحاسب الناس فيجزي كلاًّ منهم من المحسن والمسيء بما عمل فقال : ( ) إذا السماء ( ) أي على شدة إحكامها واتساقها وانتظامها ) إنفطرت ) أي انشقت شقوقاً أفهم سياق التهويل أنه صار لبابها أطراف كثيرة فزال ما كان لها من الكرية الجامعة للهواء الذي الناس فيه كالسمك في الماء ، فكما أن الماء إذا انكشف عن الحيوانات البحرية هلكت ، كذلك يكون الهواء مع الحيوانات البحرية هلكت ، كذلك يكون الهواء مع الحيوانات البرية ، فلا تكون حياة إلا ببعث جديد ونقل عن هذه الأسباب ، ليكون الحساب بالثواب والعقاب .
ولما كان يلزم من انفطارها وهيها وعدم إمساكها لما أثبت بها ليكون ذلك أشد تخويفاً لمن تحتها بأنهم يترقبون كل وقت سقوطها أو سقوط طائفة منها فوقهم فيكونون(8/347)
صفحة رقم 348
بحيث لا يقر لهم قرار ، قال : ( وإذا الكواكب ) أي النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير في الأشياء المتماسكة التي دبر الله في دار الأسباب بها الفصول الأربعة والليل والنهار ، وغير ذلك من المقاصد الكبار ، وكانت محفوظة بانتظام السماء ) انتثرت ) أي تساقطت متفرقة كما يتساقط الدر من السلك إذا انقطع تساقطاً كأنه لسرعته لا يحتاج إلى فعل فاعل لقوة تداعيه إلى التساقط .
ولما كان إخباره بمادل على وهي السماء مشعراً بوهي الأرض لأنها أتقن منها وأشرف إذ هي للأرض بمنزلة الذكر للأنثى ، وكان الانفعال ربما أوهم أن ذلك يكون بغير فاعل ، صرح بوهي الأرض معبراً بالبناء للمفعول دلالة على أن الكل بفعله ، وأن ذلك عليه يسير ، فقال مخبراً بانفطار الأراضي أيضاً ليجمع بين التخويف بالمطل والترويع بالمقل : ( وإذا البحار ( المتفرقة في الأرض وهي ضابطة لنفع العباد على كثرتها ) فجرت ) أي تفجيراً كثيراً بزوال ما بينها من البرازخ الحائلة ، وقال الربيع : بفيضها وخروج مائها عن حدوده فاختلط بعها ببعض من ملحها وعذبها فصارت بحراً واحداً ، فصارت الأرض كلها ماء ولا سماء ولا أرض فأين المفر .
ولما كان ذلك مقتضياً لغمر القبور فأوهم أن أهلها لا يقومون كما كان العرب يعتقدون أن من مات فات ، قال دافعاً لذلك على نمط كلام القادرين إشارة إلى سهولة ذلك عليه : ( وإذا القبور ) أي مع ذلك كله ) بعثرت ) أي نبش ترابها على أسهل وجه عن أهلها فقاموا أحياء كما كانوا ، فرأوا ما أفظعهم وهالهم وروّعهم .
ولما كانت هذه الشروط كلها التي جعلت أشراطاً على الساعة موجبة لعلوم دقيقة ، وتكشف كل واحدة منها عن أمور عجيبة ، وكانت كلها دالة على الانتقال من هذه الدار إلى دار أخرى لخراب هذه الدار ، ناسب أن يجب ( إذ ) بقوله : ( علمت نفس ) أي جميع النفوس بالإنباء بالحساب وبما يجعل لها سبحانه بقوة التركيب من ملكة للاستحضار كما قال تعالى : ( فكشفنا عنك غطاءك ( والدال على إرادة العموم التعبير بالتنكير في سياق التخويف والتحذير مع العلم بأن النفوس كلها في علم مثل هذا وجهله على حد سواء ، فمهما ثبت للبعث ثبت للكل ، ولعله نكر إشارة إلى أنه ينبغي لمن وهبه الله عقلاً أن يجوّز أنه هو المراد فيخاف : ( ما قدمت ) أي من عمل ) وأخرت ) أي جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما ، أو ما قدمت قبل الموت وما أخرت من سنة تبقى بعده .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة كأنها من تمام سورة التكوير لاتحاد القصد فاتصالها بها واضح وقد مضى نظير هذا انتهى .(8/348)
صفحة رقم 349
ولما كان ذلك خالعاً للقلوب ، وكان الإنسان إذا اعتقد البعث قد يقول تهاوناً ببعض المعاصي : المرجع إلى كريم ولا يفعل بن إلا خيراً ، أنتج قوله منادياً بأداة البعد لأن أكثر الخلق مع ذلك معرض ، منكراً سبحانه وتعالى على من يقول هذا اغتراراً بخدع الشيطان إنكاراً يهد الأركان : ( يا أيها الإنسان ) أي البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه ) ما غرك ) أي أدخلك في الغرة ، وهي أن ترى فعلك القبيح حسناً أو ترى أنه يعفى عنك لا محالة ، وذلك بمعنى قراءة سعيد بن جبير والأعمش : أغرك بهمزة الإنكار ، وتزيد المشهورة معنى التعجب ) بربك ) أي المحسن إليك الذي أنساك إحسانه ما خلقت له من خلاص نفسك بعمل ما شرعه لك .
ولما كان التعبير بالرب مع دلالته على الإحسان يدل على الانتقام عند الإمعان في الإجرام لأن ذلك شأن المربي ، فكان ذلك مانعاً من الاغترار لمن تامل ، أتبعه ما هو كذلك أيضاً ظاهره لطف وباطنه جبروت وقهر ، فقال للمبالغة في المنع عن الاغترار ، ) الكريم ) أي الذي له الكمال كله المقتضي لئلا يهمل الظالم بل يمهله ، ولا يسوي بين المحسن والمسيء والموالي والمعادي والمطيع والعاصي ، المقتضي لأن يبالغفي التقرب إليه بالطاعة شكراً له ، وأن لا يعرض أحد عنه لأن بيده كل شيء ولا شيء بيد غيره ، فجب أن يخشى شدة بطشه لأنه كذلك يكون المتصف بالكرم لا يكون إلا عزيزاً ، فإنه يكون شديد الحلم عظيم السطوة عند انتهاك حرمته بعد ذلك الحلم فإنه يجد أعواناً كثيرة على مراده ، ولا يجد المعاقب عذراً في تقصيره بخلاف اللئيم فإنه لا يجد أعواناً فلا يشتد أخذه ، فصار الإنكار بواسطة هذين الوصفين أشد وأغلظ من هذه الجهة ، ومن جهة أنه كان ينبغي أن يستحيي من المحسن الذي لا تكدير في إحسانه بوجه ، قال أبو بكر الوراق : لو سألني لقلبت : غرني كرم الكريم وحلمه ، وقال علي رضي الله عنه : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وقال الإمام الغزالي في شرحه للأسماء : هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجال ، ولا يبالي لمن أعطى ولا كم أعطى ، وإذا رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى ، وإذا جفى عاتب وما استقصى ، ولا يضيع من لاذ به وإليه التجأ ، ويغنيه عن الوسائل وشفعاء .
ولما ذكر هذين الوصفين الدالين على الكمالين ، بالجلال ، دل عليهما تقريراً لهما بإفاضة الجود في التربية بوصف الجمال بالإكرام لئلا يعتقد الإنسان بما له من الطغيان أنه حر مالك لنفسه يفعل ما يشاء فقال : ( الذي خلقك ) أي أوجدك من العدم مهيئاً لتقدير الأعضاء ) فسوّاك ( عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل(8/349)
صفحة رقم 350
) فعدلك ) أي جعل كل شيء من ذلك سلماً مودعاً فيه قوة المنافع التي خلقه الله لها ، وعدل المزاج حتى قبل الصورة ، والتعديل جعل البنية متناسبة الخلقة ، وكذا العدل في قراءة الكوفيين بالتخفيف أي فأمالك عن تشويه الخلقة وتقبيح الصورة ، وجعلك معتدلاً في صورتك ، وكل هذا يقتضي غاية الشكر والخوف منه إن عصى ، لأنه كما قدر على التسوية يقدر على التشويه وغيره من العذاب .
الإنفطار : ( 8 - 16 ) في أي صورة. .. . .
) فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ( ( )
ولما أضاء بهذا إضاءة الشمس أنه عظيم القدرة على كل ما يريد ، أنتج قوله معلقاً ب ( ركب ) : ( في أيّ صورة ( من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان ، ولما كان المراد تقرير المعنى غاية التقرير ، أثبت النافي في سياق الإثبات لينتفي ضد ما ثبات المعنى على غاية من القوة التي لا مزيد عليها ، فقال : ( ما شاء ركبك ) أي ألف تركيب أعضائك وجمع الروح إلى البدن ، روى الطبراني في معاجمه الثلاثة برجال ثقات عن مالك بن الحيرث رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا أراد الله جل اسمه أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها ، فلما كان اليوم السابع أحضر الله له كل عرق بينه وبين آدم ، ثم قرأ ) في أي صورة ما شاء ركبك ) [ الانفطار : 8 ] ) فتحرر بهذا الإنسان رقيق رقاً لازماً ، ومن خلع ربقة ذلك الرق اللازم وكل إلى نفسه فهلك .
ولما أوضح سبحانه غاية الإيضاح الدليل على قدرته على الإعادة بالابتداء ، وبين تعالى أنه ما أوجب للإنسان ، الخسار بنسيان هذا الدليل الدال على تلك الدار إلا الاغترار ، وكان الاغترار يطلق على أدنى المعنى ، بين أنه ارتقى به الذروة فقال : ( كلا ) أي ما أوقعكم أيها الناس في الإعراض عمن يجب الإقبال عليه ويقبح غاية القباحة الإعراض بوجه عنه مطلق الغرور ) بل ( أعظمه وهو أنكم ) تكذبون ) أي على سبيل التجديد بتحدد إقامة الأدلة القاطعة وقيام البراهين الساطعة ) بالدين ) أي الجزاء الذي وظفه الله في يوم البعث ، فارجعوا عن الغرور مطلقاً خاصاً وعاماً ، وارتدعوا غاية الارتداع ) وإنّ ) أي والحال أن ) عليكم ) أي ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة(8/350)
صفحة رقم 351
) لحافظين ( لهم على أعمالكم غاية العلو فهم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير .
ولما أثبت لهم الحفظ ، نزههم عن الزيادة والنقص فقال : ( كراماً ) أي فهم في غاية ما يكونون من طهارة الأخلاق والعفة والأمانة .
ولما ثنبت الحفظ والأمانة بغاية الإبانة ، وكان الحافظ ربما ينسى قال : ( كاتبين ) أي هم راسخون في وصف الكتابة يكتبونها في الصحف كما يكتب الشهود بينكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير .
ولما أفهم الاستعلاء والتعبير بالوصف إحاطة الاطلاع على ما يبرز من الأعمال ، صرح به فقال : ( يعلمون ) أي على التجدد والاستمرار ) ما تفعلون ) أي تجددون فعله من خير وشر بالعزم الثابت والداعية الصادقة سواء كان مبيناً على علم أو لا ، فكيف يكون مع هذا تكذيب بالجزاء على النقير والقطمير هل يكون إحصاء مثاقيل الذر من أعمالكم عبثاً وهل علمتم بملك يكون له رعية يتركهم هملاً فلا يحاسبهم على ما في أيديهم وما عملوه ، ولأجل تكذيبهم بالدين أكد المعنى المستلزم له وهو أمر الحفظة غاية التأكيد ، والتعبير بالمستقبل يدل على أنهم يعلمون كل ما انقدح في القلب وخطر في الخاطر قبل أن يفعل ، وأما ما لم يجر في النفس له ذكر فلا يعلمونه كما بينه حديث : ( ومن هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ) ولما كانت نتيجة حفظ الأعمال الجزاء عليها ، أنتج ذلك بيان ما كانت الكتابة لأجله تفريقاً بين المحسن والمسيء الذي لا يصح في حكمة حكيم ولا كرم كريم غيره بقوله على سبيل التأكيد ، لأجل تكذيبهم : ( إن الأبرار ) أي العاملين بما هو واسع لهم مما يرضي الله جلت قدرته ) لفي نعيم ) أي محيط بهم لا ينفك عنهم ولا ينفكون عنه أصلاً في الدنيا في نعيم الشهود ، وفي الآخرة في نعيم الرؤية والوجود في هذه الدار معنىً وفي الآخرة حساً ، فكل نعيم في الجنة لهم من المنح الآجلة فرقائقه في هذه الدنيا لهم عاجلة ) وإنّ الفجار ) أي الذي شأنهم الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله إلى سخطه ) لفي جحيم ) أي نار تتوقد غاية التوقد يصلون بها جحيم العقوبة الفظيعة كما كانوا في الدنيا في جحيم البعد والقطيعة .
ولما كان السياق للترهيب ، وصف عذاب الفجار فقال : ( يصلونها ) أي يغمسون فيها كالشاة المصلية فيباشرون حرها ) يوم الدين ) أي الجزاء على الأعمال المضبوطة على مثاقيل الذر .
ولما كان العذاب على ما نعهده لا بد أن ينقضي ، بين أن عذابه على(8/351)
صفحة رقم 352
غير ذلك فقال : ( وما ) أي والحال أنهم ما ) هم عنها ) أي الجحيم ) بغائبين ) أي بثابت لهم غيبة ما عنها في وقت ما ، بل هم فيها خالدون جزاء لأعمالهم وفاقاً وعدلاً طباقاً حتى الآن في دار الدنيا وإن كانوا لا يحسون بها إلا بعد الموت لأن الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .
الإنفطار : ( 17 - 19 ) وما أدراك ما. .. . .
) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( ( )
ولما علم أن الوعيد الأعظم يوم الدين ، هول أمره بالسؤال عنه إعلاماً بأنه أهل لأن يصرف العمر إلى الاعتناء بأمره والسؤال عن حقيقة حاله سؤال إيمان وإذعان لا سؤال كفران وطغيان ، ليكون أقعد في الوعيد به فقال : ( وما أدراك ) أي أعلمك وإن اجتهدت في طلب الدراية به ) ما يوم الدين ) أي أيّ شيء هو في طوله وأهواله وفظاعته وزلزاله .
ولما كانت أهواله زائدة على الحد ، كرر ذلك السؤال لذلك الحال فقال معبراً بأداة التراخي زيادة في التهويل : ( ثم ما أدراك ) أي كذلك ) ما يوم الدين ( .
ولما بين أنه من العظمة بحيث لا تدركه دراية دار وإن عظم وإن اجتهد ، لخص أمره في شرح ما يحتمله العقول منه على سبيل الإجمال دافعاً ما قد يقوله بعض من لا عقل له : إن كان انضممت والتجأت إلى بعض الأكابر وقصدت بعض الأماثل فأخلص قهراً أو بشفاعة ونحوها ، فقال مبدلاً من ( يوم الدين ) في قراءة ابن كثير والبصريين بالرفع : ( يوم ( وهو ظرف ، قال الكسائي : العرب تؤثر الرفع إذا أضافوا الليل واليوم إلى مستقبل ، وإذا أضافوا إلى فعل ماض آثروا النصب ) لا تملك ) أي بوجه من الوجوه في وقت ما ) نفس ( أيّ نفس كانت من غير استثناء ، ونصبه الباقون على الظرف ، ويجوز أن تكون الفتحة للبناء لإضافته إلى غير متمكن ) لنفس شيئاً ) أي قل أو جل ، وهذا وإن كان اليوم ثابتاً لكنه في هذه الدار بطن سبحانه في الأسباب ، فتقرر في النفوس أن الموجودين يضرون وينفعون لأنهم يتكلمون ويبطشون ، وأما هناك فالمقرر في النفوس خلاف ذلك من أنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه إذناً ظاهراً ، ولا يكون لأحد فعل ما إذا بإذنه كذلك ، فالأمر كله له دائماً ، لكن اسمه الظاهر هناك ظاهر واسمه الباطن هذا مقرر لموجبات الغرور .
ولما كان التقدير : فلا أمر لأحد من الخلق أصلاً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، عطف عليه قوله : ( والأمر ) أي كله ) يومئذ ) أي إذ كان البعث للجزاء ) لله ) أي مختص(8/352)
صفحة رقم 353
به لا يشاركه فيه مشارك ظاهراً كما أنه لا يشاركه فيه باطناً ، ويحصل هناك الكشف الكلي فلا يدعي أحد لأحد أمراً من الأمور بغير إذن ظاهر خاص ، وتصير المعارف بذلك ضرورية ، فلذلك كان الانفطار والزلازل الكبار ، والإحصاء لجميع الأعمال الصغار والكبار ، وقد رجع أخرها ، وقد رجع آخرها كما ترى إلى أولها ، والتف مفصلها بموصلها والله الهادي للصواب .
.. .(8/353)
صفحة رقم 354
سورة المطففين
مقصودها شرح آخر الانفطار بأنه لا بد من دينونة العباد يوم التناد بإسكان الأولياء أهل الرشاد دار النعيم ، والأشقياء أهل الضلال والعناد غار الجحيم ، ودل على ذلك بانه مربيهم والمحسن إليهم بعموم النعمة ، ولا يتخيل عاقل أن أحدا يربي أحدا من غير سؤال عما حمله إياه وكلفه به ولا أنه لا ينصف بعض من يربيهم من بعض ، واسمها التطفيف أدل ما فيها على ذلك ) بسم الله ( الذي له الحكمة البالغة والقدرة الكاملة ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان الشاملة ) الرحيم ( الذي أكرم حزبه بالتوفيق لحسن المعاملة .
المطففين : ( 1 - 5 ) ويل للمطففين
) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما ختم الانفطار بانقطاع الأسباب وانحسام الأنساب يوم الحساب ، وأبلغ في التهديد بيوم الدين وأنه لا أمر لأحد معه ، وذكر الأشقياء والسعداء ، وكان أعظم ما يدور بين العباد المقادير ، وكانت المعصية بالبخس فيها من أخس المعاصي وأدناها ، حذر من الخيانة فيها وذكر ما أعد لأهلها وجمع إليهم كل من اتصف بوصفهم فحلمه وصفه على نوع من المعاصي ، كل ذلك تنبيهاً للأشقياء الغافلين على ما هم فيه من السموم الممرضة المهلكة ، ونبه على الشفاء لمن أراد فقال : ( ويل ) أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة ) للمطففين ) أي الذين ينقصون المكيال والمزيان ويبخسون حقوق الناس ، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيىء وهو حب الدنيا الموقع في جمع الاموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه : التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون ، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل ، من الطف ، وهو ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق ، ومنه ما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : كنت فارساً(8/354)
صفحة رقم 355
فسبقت الناس حتى طفت لي الفرس مسجد بني زريق يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي المسجد ، ويقال : طف الرجل الحائط إذا علاه ، أو من القرب ، من قولهم : أخذت من متاعي ما خف وطف ، أي قرب مني ، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته ، والطفاف من الإناء وغيره : ما قارب أن يملأه ، ولا يتم ملأه ، وفي الحديث : ( كلكم بنو آدم طف الصاع ) ، أو من الطفف وهو التقتير ، يقال : طفف عليه تطفيفا إذا قتر عليه ، أو من الطفيف وهو من الأشياء الخسيس الدون والقليل ، فكأن التضعيف للإزالة على المعنى الأول كما مضى ، وللمقاربة الكثيرة على المعنى الثاني أي أنه يقار ملء المكيال مقاربة كبيرة مكراً وخداعاً حتى يظن صاحب الحق أنه وفى ولا يوفي ، يقال : أطف فلان لفلان إذا أراد ختله ، وإذا نهى عن هذا فقد نهى عما نقص أكثر بمفهوم الموافقة ، وعلى المعنى الثالث بمعنى التقتير والمشاححة في الكيل ، وعلى المعنى الرابع بمعنى التنقيص والتقليل فيه ، وكأنه اختير هذا اللفظ لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء اليسير جداً ، هذا أصله في اللغة وقد فسره الله سبحانه وتعالى فقال : ( الذين إذا اكتالوا ) أي عالجوا الكيل أو الوزن فاتزنوا بما دل عليه ما يأتي ، وعبر بأداة الاستعلاء ليكون المعنى : مستعلين أو متحاملين ) على الناس ) أي خاصة بمشاهدتهم كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً ولا يراعون أحداً ، بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً ، وهذا الفعل يتعدى بمن وعلى ، يقال : اكتال من الرجل وعليه ، ويجوز أن يكون اختيار التعبير بعلى هنا مع ما تقدم للإشارة إلى أنهم إذا كان لهم نوع علو بأن كان المكتال منه ضعيفاً خانوه فيكون أمرهم دائراً على الرذالة وسفول الهمة التي لا أسفل منها ) يستوفون ) أي يوجدون لأنفسهم الوفاء وهو تمام الكيل بغاية الرغبة والمبالغة في الملء ، فكأنه ذكر ( اكتالوا ) ولم يذكر ( اتزنوا ) لأنه لا يتأتى في الوزن من المعالجة ما يتأتى في الكيل ، ولأنهم يتمكنون في الاكتيال من المبالغة في استيفاء المؤدي إلى الزيادة ما لا يتمكنون من مثله في الاتزان ، وهذا بخلاف الإخسار فإن التمكن بسببه حاصل في الموضعين فلذلك ذكرهما فيه .
ولما أفهم تقديم الجار الاختصاص فأفهم أنهم إذا فعلوا من أنفسهم لا يكون كذلك ، صرح به فقال : ( وإذا كالوهم ) أي كالوا الناس أي حقهم أي ما لهم من الحق ) أو وزنوهم ) أي وزنوا ما عليهم له من الحق ، يقال : اكتال من الرجل وعليه وكالة له الطعام وكاله الطعام ، ووزنت الرجل الشيء ووزنت له الشيء ، ولعله سبحانه اختار(8/355)
صفحة رقم 356
( على ) في الأول والمعدى إلى اثنين في الثاني لأنه أدل على حضور صاحب الحق ، فهو في غيبته أولى ، فهو أدل على المرون على الوقاحة ، فهما كلمتان لا أربع لأنه ليس بعد الواو ألف جمع ، قال البغوي : وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدئ هم ، قال أبو عبيدة : والاختيار الأولى ، قال البغوي : يعني أن كل واحدة كلمة لأنهم كتبوهما بغير ألف باتفاق المصاحف ، وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً للمطففين لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس اتوفوا وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر ، والتعلق في إبطاله بخط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط انتهى .
ولا شك أن في خط المصحف تقوية لهذا الوجه المعنوي وتأكيداً ) يخسرون ) أي يوجدون الخسارة بالنقص فيما يكيلون لغيرهم ، والحاصل أنهم يأخذون وافياً أو زائداً ويعطون ناقصاً .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال سبحانه وتعالى في سورة الانفطار
77 ( ) وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ( ) 7
[ الانفطار : 10 ] الآية وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزيئات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى :
77 ( ) وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين ( ) 7
[ الأنبيا : 47 ] أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم ، وذلك التطفيف في المكيال والميزان والانحراف عن إقامة القسط في ذلك ، فقال تعالى : ( ويل للمطففين ) [ المطففين : 1 ] ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال : ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) [ المطففين : 4 5 ] ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى ختامها انتهى .
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنهم أدمنوا على هذه الرذائل حتى صارت لهم خلقاً مرنوا عليه وأنسوا به وسكنوا إليه ، وكان ذلك لا يكون إلا ممن أمن العقاب وأنكر الحساب ، أنتج ذلك الإنكار عليهم على أبلغ الوجوه لإفهامه أن حالهم أهل لأن يتعجب منه ويستفهم عنه وأن المستفهم عن حصوله عندهم الظن ، وأما اليقين فلا يتخيل فيهم لبعد أحوالهم الجافية وأفهامه الجامدة عنه فقال تعالى : ( ألا يظن أولئك ) أي الأخساء البعداء الأرجاس الأرذال يتجدد لهم وقتاً من الأوقات ظن أن لم يتيقنوا بما مضى من البراهين التي أفادت أعلى رتب اليقين ، فإنهم لو ظنوا ذلك ظناً نهاهم إن كان لهم نظر(8/356)
صفحة رقم 357
لأنفسهم عن أمثال هذه القبائح ، ومن لم تفده تلك الدلائل القاطعة ظناً يحتاط به لنفسه فلا حس له أصلاً ) أنهم ( وعبر باسم المفعول فقال : ( مبعوثون ( إشارة إلى القهر على أهون وجه بالبعث الذي قد ألفوا مثله من القهر باليقظة بعد القهر بالنوم ) ليوم ) أي لأجله وفيه ، وزاد التهويل بقوله : ( عظيم ) أي لعظمة ما يكون فيه من الجمع والحساب الذي يكون عنه الثواب والعقاب مما لا يعلمه على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى .
المطففين : ( 6 - 12 ) يوم يقوم الناس. .. . .
) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ( )
ولما عظم ذلك اليوم تحذيراً منه ، وزاده تعظيماً بأن أتبعه على سبيل القطع قوله ناصباً بتقدير ( أعني ) إعلاماً بأن الجحد فيه بأعين جميع الخلائق فهو فضيحة لا يشبهها فضيحة : ( يوم يقوم ) أي على الأرجل ) الناس ) أي كل من فيه قابلية الحركة ، وذلك يوم القيامة خمسين ألف سنة لا ينظر إليهم سبحانه رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو رفعه ورجاله ثقات ) لرب العالمين ) أي لأجل حكم موجد الخلائق ومربيهم كلهم فلا ينسى أحداً من رزقه ولا يهمله من حكمه ولا يرضى بظلم أحد ممن يربيه فهو يفيض لكل من كل بحكم التربية ، كل ذلك من استفهام الإنكار وكله الظن ، ووصف اليوم بما وصف غير ذلك للإبلاغ في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه ، وروى الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه رفعه : ( ما نقض قوم العهد إلى سلط عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذو بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ) ومن طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً نحوه ، وللطبراني من طريق الضحاك عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً نحوه .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من تعظيم ذلك اليوم والتعجيب ممن لم يفده براهينه أن يجوزه والإنكار عليه ، وكان مع ما فيه من التقريع مفهماً للتقرير ، نفى بأداة الرجع للمبالغة في النفي مضمون ما وقع الاستفهام عنه فقال : ( كلا ) أي لا يظن أولئك ذلك(8/357)
صفحة رقم 358
بوجه من الوجوه لكثافة طباعهم ووقوفهم مع المحسوس دأب البهائم بل لا يجوزونه ، ولو جوزوه لما وقعوا في ظلم أحد من يسألون عنه في ذلك اليوم المهول ، وما أوجب لهم الوقوع في الجرائم إلا الإعراض عنه ، وقال الحسن رحمه الله تعالى : هي بمعنى حقاً متصلة بما بعدها انتهى .
وهي مع ذلك مفهمة للردع الذي ليس بعده ردع عن اعتقاد مثل ذلك والموافقة لشيء مما يوجب الخزي فيه .
ولما أخبر عن إنكارهم ، استأنف إثبات ما أنكروه على أبلغ وجه وأفظعه مهولاً لما يقع لهم من الشرور وفوات السرور ، مؤكداً لأجل إنكارهم فقال : ( إن كتاب ( وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( الفجار ) أي صحيفة حساب هؤلاء الذين حملهم على كفرهم مروقهم وكذا كل من وافقهم في صفاتهم فكان في غاية المروق مما حق ملابسته وملازمته ، وأبلغ في التأكيد فقال : ( لفي سجين ( هو علم منقول في صيغة المبالغة عن وصف من السجن وهو الحبس لأنه سبب الحبس في جهنم أي إنه ليس فيه أهلية الصعود غلى محل الأقداس إشارة إلى أن كتابهم إذا كان في سجن عظيم أي ضيق شديد كانوا هم في أعظم ، قال ابن جرير : وهي الأرض السابعة انتهى وهو يفهم مع هذه الحقيقة أنهم في غاية الخسارة لأنه يقال لكل من انحط : صار تراباً ولصق بالأرض ونحو ذلك ، ثم زاد في هوله بالإخبار بأنه أهل لأن يسأل عنه ويضرب إلى العالم به إن كان يمكن آباط الإبل فقال : ( وما أدراك ) أي جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك ) ما سجين ) أي أنه بحيث لا تحتمل وسائر الظالمين ، يصعد بالميت منهم إلى السماء فتغلق أبوابها المبعدون من الشياطين وسائر الظالمين ، يصعد بالميت منهم إلى السماء فتغلق أبوابها دونه فيرد تهوي به الريح تشمت به الشياطين .
وكل ما قاله فيه : ( وما أدراك ) فقد أدراه به بخلاف ( وما يدريك ) .
ولما أتم ما أراد من وصفه ، أعرض عن بيانه إشارة إلى أنه من العظمة بحيث إنه يكل عنه الوصف ، واستأنف أمر الكتاب المسجون فيه فقال محذراً منه مهولاً لأمره : ( كتاب ) أي عظيم لحفظه النقير والقطمير ) مرقوم ) أي مسطور بين الكتابة كما تبين الرقمة البيضاء في جلد الثور الأسود ، ويعلم كل من رآه أنه غاية في الشر ، وهو كالرقم في الثوب والنقش في الحجر لا يبلى ولا يحمى .
ولما أعلم هذا بما للكتاب من الشر ، استأنف الإخبار بما أنتجه مما لأصحابه فقال : ( ويل ) أي أعظم الهلاك ) يومئذ ) أي إذ يقوم الناس لما تقدم : ولما كان الأصل : لهم ، أبدله بوصف ظاهر تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال : ( للمكذبين ( الراسخين في التكذيب بكل ما ينبغي التصديق به .(8/358)
صفحة رقم 359
ولما أخبر عن ويلهم ، وصفهم بما يبين ما كذبوا به ويبلغ في ذمهم فقال : ( الذين يكذبون ) أي يوقعون التكذيب لكل من ينبغي تصديقه ، مستهينين ) بيوم ) أي بسب الإخبار بيوم ) الذين ) أي الجزاء الذي هو سر الوجود ) وما ) أي والحال أنه ما ) يكذب ) أي وقع التكذيب ) به إلا كل معتد ) أي متجاوز للحد في العناد أو الجمود والتقليد لأن محطة نسبة من ثبت بالبراهين القاطعة أنه على كل شيء قدير إلى العجز عن إعادة ما ابتدأه ) أثيم ) أي مبالغ في الانهماك في الشهوات الموجبة للآثام ، وهي الذنوب ، فاسود قلبه فعمي بنظر الشهوات التي حفت بها النار عما عداها .
المطففين : ( 13 - 17 ) إذا تتلى عليه. .. . .
) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ( )
ولما أثبت له الإبلاغ في الإثم ، دل عليه بقوله بأداة التحقق : ( إذا تتلى ) أي من أي تال كان ، مستعلية بما لها من البراهين ) عليه آياتنا ) أي العلامات الدالة على ما أريد بيانها له مع ما لها من العظمة بالنسبة إلينا ) قال ) أي من غير توقف ولا تأمل بل بحظ نفس أوقعه في شهة المغالبة التي سببها الكبر : ( أساطير الأولين ) أي من الأباطيل وليست كلام الله ، فكان لفرظ جهله بحيث لا ينتفع بشواهد النقل كما أنه لم ينظر في دلائل العقل .
ولما كان هذا قد صار كالأنعام في عدم النظر بل هو أضل سبيلاً لأنه قادر على النظر دونها ، قال رادعاً له ومكذباً ومبيناً لما أدى به إلى هذا القول وهو لا يعتقده : ( كلا ) أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً ، فليس الأمر كما قال في المتلو وهو معتقد له اعتقاداً جازماً لأنه لم يقله عن بصيرة ) بل ران ) أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة ، وجمع اعتباراً بمعنى ( كل ) لئلا يتعنت متعنت ، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم : ( على قلوبهم ) أي كل من قال هذا القول ) ما كانوا ) أي بجلاتهم الفاسدة ) يكسبون ) أي يجددون كسبه مستمرين عليه نم الأعمال الردية ، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً ، فيتراكم الذنب على القلب فيسود ، فلذلك كانوا يقولون مثل هذا الإعتقاد ، بل هو شيء يسدون به المجلس ويقيمون لأنفسهم عند العامة المعاذير ويفترون به عزائم التاليين بما يحرقون من قلوبهم أحرق الله قلوبهم وبيوتهم بالنار فإنهم لا ينقطعون في عصر من الأعصار ولا يخشون من عار ولا شنار ، روي أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبير هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة(8/359)
صفحة رقم 360
سوداء فإن تاب صقل منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله سبحانه وتعالى ) وقال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء : قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته عن اتباع الشهوات ، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآه الصقيلة ، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً ، فإذا تراكم الرين صار طبعاً كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل التصقيل بعده ، وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار ، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة ، وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( واتبع السيئة الحسنة تمحها ) ولما كان ادعاؤهم إنما هو قول قالوه بأفواههم لا يتجاوزها عظيماً جداً ، أعاد ردعهم عنه وتكذيبهم فيه فقال : ( كلا ) أي ليس الأمر كما قالوا من الأساطير لا في الواقع ولا عندهم فليرتدعوا عنه أعظم ارتداع .
ولما كان قول الإنسان لما لا يعتقده ولا هو في الواقع كما في غاية العجب لا يكاد يصدق ، علله مبيناً أن الحامل لهم عليه إنما هو الحجاب الذي ختم به سبحانه على قلوبهم ، فقال مؤكداً لمن ينكر ذلك من المغرورين : ( إنهم عن ربهم ) أي عن ذكر المحسن إليهم وخشيته ورجائه ) يومئذ ) أي إذ قالوا هذا القول الفارغ .
ولما كان المانع إنما هو الحجاب ، بني للمفعول قوله : ( لمحجوبون ( فلذلك استولت عيلهم الشياطين والأهوية ، فصاروا يقولون ما لو عقلت البهائم لاستحيت من أن توقوله ، والأحسن أن تكون الآية بياناً وتعليلاً لويلهم الذي سبق الإخبار به ، ويكون التقدير : يوم إذ كان يوم الدين ، ويكون المراد الحجاب عن الرؤية ، ويكون في ذلك بشارة للمؤمنين بها .
وقال البغوي : قال أكثر المفسرين : عن رؤيته ، وقال : إن الإمامين الشافعي وشيخه مالكاً استدلا بهذه الآية على الرؤية ، وأسند الحافظ أبو نعيم في الحلية في ترجمة الشافعي أنه قال : في هذه الآية دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته ، وقال ابن الفضل : كما(8/360)
صفحة رقم 361
حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآرخرة عن رؤيته ، وقال الحسن : لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا .
وقال القشري : ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه كما يعرفونه اليوم انتهى .
وفيه تمثيل لإهانتهم بإهانة من يمنع الدخول على الملك .
ولما بين ما لهم من العذاب بالحجاب الذي هو عذاب القلب الذي لا عذاب أشد منه ، لأنه يتفرع عنه جميع العذاب ، شرع يبين بعض ما تفرع عنه من عذاب القالب مؤكداً لأجل إنكارهم معبراً بأداة التراخي إعلاماً بعلو رتبته في أنواع العذاب فقال : ( ثم إنهم ) أي بعد ما شاء الله من إمهالهم ) لصلوا الجحيم ) أي لدخلو النار العظمى ويقيمون فيها مقاسون لحرها ويغمسون فيها كما تغمس الشاة المصلية أي المشوية .
ولما بين ما لهم من الفعل الذي هو للقلب والقالب ، أتبعه القول بالتوبيخ والتبكيت الذي هو عذاب النفس ، وبناه للمفعول لأن المنكىء سماعه لا كونه من معين ، وإشارة إلى أنه يتمكن من قوله لهم كل من يصح منه القول من خزنة النار ومن أهل الجنة وغيرهم لأنه لا منعة عندهم : ( ثم يقال ) أي لهم بعد مدة تبكيتاً وتقريعاً وتنديماً وتبشيعاً : ( هذا ) أي العذاب الذي هو حالّ بكم ) الذي كنتم ) أي بما لكم من الجبلات الخبيثة ) به ) أي خاصة لأن تكذيبكم بغيره بالنسبة إليه لما له من القباحة ولكم من الرسوخ فيه والملازمة له ( ؟ ) ) تكذبون ) أي توقعون التكذيب به وتجددونه مستمرين عليه .
المطففين : ( 18 - 23 ) كلا إن كتاب. .. . .
) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ( ( )
ولما كان هذا ربما أفهم أنهم يرون جميع عذابهم إذ ذاك ، نفاه بقوله : ( كلا ) أي ليس هو المجموع بل هو فرد من الجنس فلهذا عمل عليه الجنس وهو نزلهم والأمر أطم وأعظم من أن يحيط به الوصف .
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب الذي جره إليهم إقبالهم على الدنيا بادئاً به لأن المقام من أول السورة للوعيد وصوادع التهديد ، أتبعه ما للمصدقين الذين أقبل بهم إلى السعادة ترك الحظوظ وإعراضهم عن عاجل شهوات الدنيا ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : ( إن كتاب الأبرار ) أي صحيفة حسنات الذين هم في غاية الاتساع في شرح صدورهم ، واتساع عقولهم وكثرة أعمالهم وزكائها وغير ذلك من محاسن أمورهم ) لفي علييّن ) أي أماكن منسوبة إلى العلو ، وقع النسب أولاً إلى فعليّ ثم جمع وإن كان لا واحد له من لفظه كعشرين وأخواته ، قال(8/361)
صفحة رقم 362
الكسائي : إذا جمعت العرب ما لا يذهبون فيه إلى أنه له بناء من واحد واثنين فإنهم يجمعون بالواو والنون في المذكر والمؤنث - انتهى ، فهي درجات متصاعدة تصعد إلى الله ولا تحجب عنه كما يحجب ما للأشقياء بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية له بحسب رتب الأعمال ، وكل من كان كتابه من الأبرار في مكان لحق به كما أن من كان كتابه من الفجار في سجين لحق به ، قال الرازي في اللوامع : من ترقى علمه عن الحواس والأوهام وفعله عن مقتضى الشهوة والغضب فهو حقيق بأن يكون عليّاً ، ومن كان علمه وإدراكه مقصوراً على الحواس والخيال والأوهام وفعله على مقتضى الشهوات البهيمية فهو حقيق بأن يكون في سجين .
ولما كان هذا أمراً عظيماً ، زاد في تعظيمه بقوله : ( وما ) أي وأي شيء ) أدراك ) أي جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص ) ما علّيون ( فإن وصفه لا تسعه العقول ويلزمه لعلوه فضاء مطلق واتساع مبين .
ولما عظم المكان فعلمت عظمة الكتاب ، ابتدأ الإخبار عنه على سبيل القطع زيادة في عظمته فقال : ( كتاب ) أي عظيم ) مرقوم ) أي فيه أن فلاناً أمن من النار فيا له من رقم ما أحسنه وما أبهاه وما أجمله .
ولما عظمه في نفسه وفي مكانه ، عظمه في حضّار فقال : ( يشهده المقربون ) أي يحضره حضوراً تاماً دائماً لا غيبة فيه الجماعة الذين يعرف كل أحد أنه ليس لهم عند كل من يعتبر تقريبه إلا التقريب إلا التقريب من ابتدائه إلى انتهائه هم شهود هذا المسطور وهم الملائكة يشيعونه من سماء إلى سماء ويحفون به سروراً وتعظيماً لصاحبه ويشهده من في السماوات من الأنباء عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء والصالحين ، فالآية مع الأولى من الاحتباك : ذكر سجين أولاً دال على الاتساع ثانياً ، وذكر عليين والمقربين ثانياً دال على أسفل سافلين والمبعدين أولاً .
ولما عظم كتابهم بهذه الفضائل ، التفتت النفي إلى معرفة حالهم فقال شافياً لعي هذا الالتفات مؤكداً لأجل من ينكر : ( إن الأبرار ) أي الذين هذا كتابهم ) لفي نعيم ) أي محيط بهم ضد ما فيه الفجار من الجحيم : ولما كان لا شيء أنعم للإنسان من شيء عال يجلس عليه ويمد بصره إلى ما يشتهي مما ليده ، قال مبيناً لذلك النعيم : ( على الأرائك ) أي الأسرة العالية مع هذا العلو المطلق في الحجار التي يعيي الفكر وصفها لما لها من العلو من ترصيع اللؤلؤ والياقوت وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ) ينظرون ) أي إلى ما يشتهون من الجنان والأنهار والحور والولدان ، ليس لهم شغل غير ذلك وما شابهه من المستلذات .
وقال الإمام القشيري : أثبت النظر ولم يبين المنظور إليه لاختلافهم : منهم من ينظر إلى قصوره ، ومنهم من ينظر إلى حوره ، ومنهم(8/362)
صفحة رقم 363
ومنهم ، والخواص على دوام الأوقات إلى الله تعالى ينظرون كما أن الفجار دائماً عن ربهم محجوبون .
المطففين : ( 24 - 30 ) تعرف في وجوههم. .. . .
) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ( ( )
ولما وصف نعيمهم ، أخبر أنهم من عراقتهم فيه يعرفهم به كل ناظر إليهم فقال تعالى : ( تعرف ) أي أيها الناظر إليهم - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بالبناء للمفعول ، وهو أدل على العموم ) في وجوههم ( عند رؤيتهم ) نضرة النعيم ) أي بهجته ورونقه وحسنه وبريقه وطراوته ، من نضر البنات - إذا أزهر ونوّر ، وقال الحسن رحمه الله تعالى : النضرة في الوجه والسرور في القلب .
ولما كانت مجالس الأنس لا سيما في الأماكن النضرة لا تطيب إلا بالمآكل والمشارب ، وكان الشراب يدل على الأكل ، قال مقتصراً عليه لأن هذه السور قصار يقصد فيها الجمع مع الاختصار قال : ( يسقون ( بانياً له للمفعول دلالة على أنهم مهدومون أبداً لا كلفة عليهم في شيء ) من رحيق ) أي شراب خالص صاف عتيق أبيض مطيب في غاية اللذة ، فإنهم قالوا : إن الرحيق الخمر أو أكيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصافي ، وضرب من الطيب .
ولا شك أن العاقل لا يشرب الخمر مطلقاً فكيف بأعلاها إلا إذا كان مستكملاً لمقدماتها من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وغير ذلك ، ولما كان الختم لا يكون إلا لما عظمت رتبته وعزت نفاسته ، قال مريداً الحقيقة ، أو الكناية عن نفاسته : ( مختوم ) أي فهو مع نفاسته سالم من الغبار وجميع الأقذاء والأقذار .
ولما كان الختم حين الفك لا بد أن ينزل من فتاته في الشراب قال : ( خاتمه مسك ( وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن المراد بخاتمه آخر طعمه ، فيحصل أن ختامه في أول فتحه وفي آخر شربه المسك ، وذلك يقتضي أن لا يكون يفتحه إلا شاربه ، وأنه يكون على قدر كفايته فيشربه كله ، والعبارة صالحة لأن يكون الختام أولاً وآخراً ، وهو يجري مجرى افتضاض البكر .
ولما كان التقدير : فيه يبلغ نهاية اللذة الشاربون ، عطف عليه قوله : ( وفي ذلك ) أي الأمر العظيم البعيد المتناول وهو العيش والنعيم والشراب الذي هذا وصفه ) فليتنافس ) أي فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار ) المتنافسون ) أي الذين من شأنهم المنافسة وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك(8/363)
صفحة رقم 364
المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس جداً ، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه .
والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحات والنيات الخالصة .
ولما ذكر الشراب ، أتبعه مزاجه على ما يتعارفه أهل الدنيا لكن بما هو أشرف منه ، فقال مبيناً لحال هذا المسقي : ( ومزاجه ) أي يسقون منه والحال أن مزاج هذا الرحيق ) من تسنيم ( علم على عين معينة وهو - مع كونه علماً - دال على أنها عالية يجري على الهواء متنسماً ينصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة ، فإذا امتلأت أمسك ، وهو في الشعر اسم جبل عال وكذا التنعيم وأصله ممن السنام ، ولذلك قطعاً مادحاً فقال : ( عيناً يشرب بها ) أي بسببها على طريقة المزاج منها ) المقربون ) أي الذين وقع تقريبهم من اجتذاب بها إلا الرحيق ، وأما غيرهم فلا يصل إليها أصلاً ، وقال بعضهم : إن المقربين يشربون من هذه العين صرفاً ، والأبرار يمزج لهم منها والفرق ظاهر - هنياً لهم .
ولما ذكر سبحانه جزاء الكافر بالجحيم وجزاء المؤمن بالنعيم ، وكان من أجل النعيم الشماتة بالعدو ، علل جواء الكافر بما فيه شماتة المؤمن به لأنه اشتغل في الدنيا بما لا يغني ، فلزم من ذلك تفويته لما يغني ، فقال مؤكداً لأن ذا المروءات والهمم العاليات والطبع السليم والمزاج القويم لا يكاد يصدق مثل هذا ، وأكده إشارة إلى أن من حقه أن لا يكون : ( إن الذين أجرموا ( أيقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ) كانوا ) أي في الدنيا ديدناً وخلقاً وطبعاً وجبلة ) من الذين آمنوا ) أي ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان ) يضحكون ) أي يجددون الضحك كلما رأوهم أو ذكروهم استهزاء بهم وبحالاتهم التي هم عليها من علاما الإيمان في رثاثة أحوالهم وقلة أموالهم واحتقارهم الناس لهم مع ادعائهم أن الله تعالى لا بد أن ينصرهم ويعلي أمرهم ) وإذا مروا ) أي الذين آمنوا ) بهم ) أي بالذين أجرموا في أي وقت من الأوقات يستهزئون و ) يتغامزون ) أي يغمز بعض الذين أجرموا بعضاً لأذى الذين آمنوا .
المطففين : ( 31 - 36 ) وإذا انقلبوا إلى. .. . .
) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ( )(8/364)
صفحة رقم 365
ولما وصفهم في مواضع التردد والتقلب ، وصفهم في المنازل فقال : ( وإذا انقلبوا ) أي رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكره ) إلى أهلهم ) أي منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم ) انقلبوا ( حال كونهم ) فاكهين ) أي متلذذين غاية التلذذ بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم ، قال : ابن برجان : وذكر عليه الصلاة والسلام : ( إن الذين بدأ غريباً وسيعود غريباً - كما بدأ ، يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر ) وفي أخرى : يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة .
وفي أخرى : العالم فيهم أنتن من جيفة حمار - فالله المستعان .
ولما ذكر مرورهم بهم ، ذكر مطلق رؤيتهم لهم فقال : ( وإذا رأوهم ) أي رأى الذين أجرموا الذين آمنوا ) قالوا ) أي عند رؤيتهم للذين آمنوا مؤكدين لأنهم يستشعرون أن كل ذي عقل يكذبهم مشيرين إلى تحقيرهم بأداة القرب : ( إن هؤلاء ) أي الذين آمنوا ) لضالون ) أي عريقون في الضلال لأنهم تركوا الدنيا لشيء أجل لا صحة له ) وما ) أي والحال أنهم ما ) أرسلوا ) أي من مرسل ما ) عليهم ) أي على الذين آمنوا خاصة حتى يكون لهم بهم هذا الاعتناء في بيوتهم وخارجها عند مرورهم وغيره ) حافظين ) أي عريقين في حفظ أعمال الذين آمنوا فما اشتغالهم بهم إلى هذا الحد أن كانوا عندهم في عداد الساقط المهمل كما يزعمون فما هذه المراعاة المستقصية لأحوالهم وإن كانوا في عداد المنظور إليه المعتنى به فليبينوا فساد حالهم بوجه تقبله العقول ويقوم عليه دليل أو ليتبعوهم وإلا فهم غير عارفين بمواضع الإصلاح وتعاطي الأمور على وجهها فما أحقهم بقول القائل :
أوردها سعد وسعد مستمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
ولما كان لا نعيم أفضل من الشماتة بالعدو لا سيما إذا كانت على أعلى طبقات الشماتة قال تعالى : ( فاليوم ) أي فتسبب عن هذا من فعلهم في دار العمل أنه يكون في دار الجزاء ) الذين آمنوا ( ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان ) من الكفار ( خاصة ، وهم الراسخون في اكفر من عموم الذين أجرموا ، في الحشر والجنة سخرية وهزؤاً ، فإن الذين آمنوا لا يضحكون من عصاة المؤمنين لو رأوهم يعذبون بل يرحمونهم لاشتراكهم في الدين ) يضحكون ( قصاصاً وجزاء حين يرون ما هم فيه من الذل سروراً بحالهم شكراً لله على ما أعطاهم من النجاة من النار والنقمة من أعدائهم ، قال أبو(8/365)
صفحة رقم 366
صالح : تفتح لهم الأبواب ويقال : اخرجوا ، فيسرعون فإذا وصلوا إلى الأبواب غلقت في وجوههم وردوا على أقبح حال ، فيضحك المؤمنون - انتهى .
ويا لها من خيبة وخجلة وسواد وجه وتعب قلب وتقريع نفس من العذاب بالنار وبالشماتة والعار ، حال كون الذين آمنوا ملوكاً ) على الأرئك ) أي الأسرة العالية المزينة التي هي من حسنها أهل لأن يقيم المتكئ بها ) ينظرون ) أي يجددون تحديق العيون إليهم كلما أرادوا فيرون ما هم فيه من الهوان والذل والعذاب بعد العزة والنعيم نظر المستفهم ) هل ثوب ( بناه للمفعول لأن الملذذ مطلق مجازاتهم ) الكفار ) أي وقع تثويب العريقين في الكفر أي إعطاؤهم الثواب والجزاء على أنهى ما يكون ، فالجملة في محل نصب ( ينظرون ) ) ما كانوا ) أي نفس فعلهم بما هو لهم كالجبلات ) يفعلون ) أي بدواعيهم الفاسدة ورغباتهم المعلولة ، فالجملة في موضع المفعول ، وقد علم أن لهم الويل الذي افتتحت السورة بالتهديد به لمن يفعل فعل من لا يظن أنه يجازى على فعله ، وآخرها فيمن انتقص الأعرض في خفاء ، وأولها فيمن انتقص الأموال كذلك ، وجفاء العدل والوفاء ، والله الهادي للصواب ، وإليه المرجع والمآب وإليه المتاب .
.. .(8/366)
صفحة رقم 367
سورة الانشقاق
مقصودها الدلالة على آخر المطففين من أن الأولياء ينعمون والأعداء يعذبون ، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ولا بالعرض على الملك الذي أوجدهم ورباهم كما يعرض الملوك عبيدهم ويحكمون بينهم فينقسمون إلى أهل ثواب وأهل عقاب واسمها الانشقاق أدل دليل على ذلك بتأمل الظرف وجوابه الدلال على الناقد البصير وحسابه ) بسم الله ( ذي الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي كملت نعمته فشملت الخاص والعام ) الرحيم ( الذي أتمها بعد العموم على أوليائه فأسعدهم بإتمام الإنعام .
الإنشقاق : ( 1 - 8 ) إذا السماء انشقت
) إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ( ( )
لما ختمت التطفيف بأن الأولياء في نعيم ، وأن الأعداء في نعيم ، وأن الأعداء في جحيم ثواباً وعقاباً ، ابتدأ هذه بالإقسام على ذلك فقال : ( إذا السماء ) أي على ما لها من الإحكام والعظمة والحكمة الذي لا يقدر على مثلها غيره جلت قدرته ) انشقت ) أي فصارت واهية وفتحت أبواباً فتخربت وتهدمت ، وذلك بعد القيام من القبور كما مضى في الحاقة عن إحدى روايتي ابن عباس رضي الله عنهما ) وأذنت ) أي كانت شديدة الاستماع والطواعية والانقياد على أتم وجه كمن له أذن واعية ونفس مطمئنة راضية ) لربها ) أي الأمر المخترع لها والمدبر لجميع أمرها ، وهي الآن وإن كانت منقادة فانقيادها ظاهر لأكثر الخلق وهم المثبتة ، وأما المعطلة فربما نسبوا تأثيراتها إلى الطبائع والكواكب وأما عند الانشقاق فيحصل الكشف التام فلا يبقى لأحد شبهة ) وحقت ( بالبناء للمفعول بمعنى أنها مجبولة على أن ذلك حق عليها ثابت لها ، فهي حقيقة به لأنها مربوبة له سبحانه ، وكل مربوب فهو حقيق بالانقياد لربه ، وهي لم تزل مطيعة له في ابتدائها وانتهائها ، لكن هناك يكون الكشف التام لجميع الأنام .(8/367)
صفحة رقم 368
ولما بدأ بالعالم العلوي لكونه أشرف لأنه أعلى مكانة ومكاناً ، ثنى بالسفلى فقال تعالى : ( وإذا الأرض ) أي على ما لها من الصلابة والثخانة والكثافة ، وأشار بالبناء للمفعول إلى سهولة الفعل فيها عليه سبحانه وتعالى وسرعة انفعالها مع كونه أعجب من انشقاق السماء فإنه ربما كان في الشيء لوهيه من تطاول مرور الزمان عليه بخلاف المد فقال : ( مدت ) أي بسطت بسط الأديم ومطت فامتطت فزيد في سعتها جداً بعد أن تمهدت فصارت دكاء فزالت جبالها وآكامها وتلالها ، فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً كما أن الأديم إذا مد كان كذلك فزال تثنيه واتسع .
ولما كان الجلد جديراً بأنه إذا مد أن يبين عن كل ما فيه من غيره قال : ( وألقت ما فيها ) أي أخرجت ما في بطنها من الأموال والكنوز والأموات إخراجاً سريعاً كأنها تذفه قذفاً ، وذلك أيضاً بكالبساط إذا نقض ) وتخلت ) أي تعمدت وتكلفت الخلو عن ذلك والترك له بغاية جهدها ، أي فعل ذلك سبحانه فعلاً كانت الأرض كأنها فاعلة له على هذا الوجه ، فصارت خلية عن كل شيء كان في بطنها ، وصار بارزاً على ظهرها ، ولما كان هذا ربما أوهم أنه بغير أمره سبحانه وتعالى قال : ( وأذنت لربها ) أي فعلت ذلك بإذن الخالق لها والمربي وتأثرت في ذلك عن تأثيره لا بنفسها ، وفعلت فيه كله فعل السميع المجيب ) وحقت ) أي وكانت حقيقة بذلك كما أن كل مربوب كذلك وتكرير ( إذا ) للتنبيه على ما في كل من الجملتين من عظيم القدرة ، والجواب محذوف _ لأنه في غاية الانكشاف بما دل عليه المقام مع ما تقدم من المطففين وما قبلها من السور وما يأتي في هذه السورة تقديره : ليحاسبن كل أحد على كدحه كله فليثوبنّ الكفار ما كانوا يفعلون وليجازين أهل الإسلام بما كانوا يعملون .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم في الانفطار التعريف بالحفظة وإحصائهم على العباد في كتبهم ، وعاد الكلام إلى ذكر ما يكتب على البر والفاجر واستقرار ذلك في قوله تعالى :
77 ( ) إن كتاب الأبرار لفي عليّين ( ) 7
[ المطففين : 18 ] وقوله :
77 ( ) إن كتاب الفجار لفي سجين ( ) 7
[ المطففين : 7 ] أتبع ذلك بذكر التعريف بأخذ هذه الكتب في القيامة عند العرض ، وأن أخذها بالإيمان عنوان السعادة ، وأخذها وراء الظهر عنوان الشقاء إذا قد تقدم في السورتين قبل ذكر الكتب واستقرارها بحسب اختلاف مضمناتها فمنها ما هو في عللين ومنها ما هو في سجين إلى يوم العرض ، فيؤتى كل كتابه فأخذ بيمينه وهو عنون سعادته ، وآخذ من وراء ظهره وهو عنوان هلاكه ، فتحصلّ الإخبار بهذه الكتب ابتداء واستقراراً وتفريقاً يوم العرض ، وافتتحت السورة بذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها ما فيها وتحليها تعريفاً بهذا اليوم العظيم بما يتذكر به من سبقت سعادته والمناسبة بينة - انتهى .(8/368)
صفحة رقم 369
ولما كان الجواب ما ذكرته ، أتبعه شرحه فقال منادياً بأداة صالحة للبعد لأن المنادى أدنى الأسنان بادئاً بالأولياء لأن آخر التطفيف الذي هذا شرح له إدخال السرور عليهم : ( يا أيها الإنسان ) أي الآنس بنفسه الناسي لربه .
ولما كان أكثر الناس منكراً للبعث أكد فقال : ( إنك كادح ) أي ساع وعامل مع الجهد لنفسك من خير أو شر ، وأكثره مما يؤثر خدوشاً وشيناً وفساداً وشتاتاً ، منتهياً ) إلى ربك ( الذي أوجدك ورباك بالعمل بما يريد معنىً وبالموت حساً ، وأشار إلى اجتهاد كل فيما هو فيه وخلق له بالتأكيد بالمصدر فقال : ( كدحاً ) أي عظيماً ) فملاقيه ) أي فمتعقب كدحك لقاؤك لربك ، وأنه ينكشف لك أنك كنت في سيرك إليه كالمجتهد في لقائه اجتهاد من يسابق في ذلك آخر ، ونكشف لك من عظيم أمره ما ينكشف للملاقي مع من يلقاه بسبب اللقاء وهذا أمر أنت ساع فيه غاية السعي لأن من كان الليل والنهار مطيتيه أوصلاه بلا شك إلى منتهى سفره شاء أو أبى ، فذكر هذا على هذا النمط حث على الاجتهاد في الإحسان في العمل لأن من أيقن بأنه لا بد له من العرض على الملك أفرغ جهده في العمل بما يحمده عليه عند لقائه .
ولما كان من المعلوم أن عبيد الملك إذا عرضوا عليه ، كان فيهم المقبول والمردود ، بسبب أن كدحهم تارة يكون حسناً وتارة يكون سيئاً ، قال معرفاً أن الأمر في لقائه كذلك على ما نعهد ، فمن كان مقبولاً أعطي كتاب حسناته بيمينه لأنه كان في الدنيا من أهل اليمين أي الدين المرضي ، ومن كان مردوداً أعطي كتابه بشماله لأنه كان في الدنيا مع أهل الشمال وهو الدين الباطل الذي يعمل من غير إذن المالك ، فكأنه يفعل من ورائه ، فترجم هذا الغرض بقوله سبحانه وتعالى مفصلاً للإنسان المراد المراد به الجنس من ورائه ، فترجم هذا الغرض بقوله سبحانه وتعالى مفصلاً للإنسان المراد به الجنس جامعاً للضمير بعد أن أفرده تنصيصاً على حشر كل فرد : ( فأما من أوتي ( بناه للمفعول إشارة إلى أن أمور الآخرة كلها قهر وفي غاية السهولة عليه سبحانه وتعالى ، وفي هذه الدار لأمر وإن كان كذلك إلا أن الفرق في انكشاف ستر الأسباب هناك فلا دعوى لأحد ) كتابه ) أي صحيفة حسابه التي كتبتها الملائكة وهو لا يدري ولا يشعر ) بيمينه ( من أمامه وهو المؤمن المطيع ) فسوف يحاسب ) أي يقع حسابه بوعد لا خلف فيه وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر ) حساباً يسيراً ) أي سهلاً لا يناقض فيه لأنه كان سحاب نفسه فلا يقع له المخالفة إلا ذهولاً ، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفو عن سيئها .
الإنشقاق : ( 9 - 15 ) وينقلب إلى أهله. .. . .
) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً(8/369)
صفحة رقم 370
وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ) 73
( ) 71
ولما كان هذا دالاً على العفو ، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال : ( وينقلب ) أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول ) إلى أهله ) أي الذين أهله الله بهم في الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزلة الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا .
ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد ، بنى للمفعول قوله : ( مسروراً ) أي قد أوتي جنة وحريراً ، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله مغموماً مضروراً يحاسب نفسه بكرة وعشياً حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين ، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة بالذات ، وفي الشق الآخرة السبب والأصل ، وقد استشكلت الصديقة أحدهما ( ليس أحد يحاسب إلا هلك ) والثاني ( من نوقش الحساب عذب ) قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : يا رسول الله أليس الله يقول
77 ( ) فأما من أوتي كتابه ( ) 7
[ الانشقاق : 8 ] فقال : ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما ذلك العرض ) فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح ، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي ( كل من حوسب هلك ) والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي ( بعض من يحاسب لا يهلك ) وهو نقيض ، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة ، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقدير الإشكار فيه أن يقال : المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية ، وذلك في الحساب بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه ، فرجع الأمر أيضاً إلى كلية موجبة هي ( كل من حوسب بجميع أعماله عذب ) وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيراً أو لا ، لأن الأعم يشمل جميع أخصّاته ، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك ، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى :
77 ( ) لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ( ) 7
[ الكهف : 49 ] ومن حديث الحافظين وغير ذلك ، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك ، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت ، فأقرها ( صلى الله عليه وسلم ) على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي ، وهو ذكر الأعمال كلها - والمقابلة على كل منها ، وذلك هو معنى المناقشة ، فمعنى ( من نوقش الحساب ) من حوسب حساباً حقيقياً بذكر جمع أعماله والمقابلة على كل منها ، وأن المراد بالحساب(8/370)
صفحة رقم 371
في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة ، وذلك بدلالة التضمن مجازواً مرسلاً لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء ، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية : يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان ، وعلى ذلك دل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( إن الله تعالى يدنى المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له : أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك ، قال الرب سبحانه : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا إغفرها لك اليوم ) ولفظ ( كنفه ) يدل على ذلك فإن كنفه الطائر جناحه ، وهو إذا وقع فرخه في كنفه عامله بغاية اللطف ، فالله تعالى أرحم وألطف ) وأما من أوتي ) أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك ) كتابه ) أي صحيفة حسابه ) وراء ظهره ) أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم السوء لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله ، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه ، فكان حقيقاً بأن تعل يمينه إلى عنقه ، وتكون شماله إلى وراء ظهره ، ويوضع على الأمام أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد ، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي ) فسوف يدعوا ) أي بوعد لا محالة في وقوعه أبداً ) ثبوراً ) أي حسرة وندماً بنحو قوله : واثبوراه ، وهو الهلاك الجامع لأنواع المكاره كلها لأن أعماله في الدنيا كانت أعمال الهالكين .
ولما كان ذلك لا يكون إلا لبلاء كبير ، أتبعه ما يمكن أن يكون علة له فقال : ( ويصلى سعيراً ) أي ويغمس في النار التي هي في غاية الاتقاد ويقاسي حرها وهي عاطفة عليه ومحطية به لأنه كان تابعاً لشهواته التي هي محفوفة بها فأوصلته إليها وأحاطت به .
ولما ذكر هذا العذاب الذي لا يطاق ، أتبعه سببه ترهيباً منه واستعطافاً إلى التوبة وتحذيراً من السرور في دار الحزن ، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن يصدق أن عاقلاً يثبت له سرور في الدنيا : ( إنه كان ) أي بما هو له كالجبلة والطبع ) في أهله ) أي في دار العمل ) مسروراً ) أي ثابتاً له السرور بطراً بالمال والجاه فرحاً به مخلداً إليه مترفاً مع الفراغ والفرار عن ذكر حساب الآخرة كما قال في التي قبلها
77 ( ) وإذا انقلبوا(8/371)
صفحة رقم 372
إلى أهلهم انقلبوا فاكهين ( ) [ المطففين : 31 ] ، لا يحزن أحدهم لذنب عمله ولا لقبيح ارتكبه ، بل يسر بكونه يأتي له ذلك فهو يحاسب في الآخرة حساباً عسيراً ، وينقلب إلى أعدائه مغموماً كسيراً ، وقد بان أن الكلام من الاحتباك : ذكر الحساب اليسير الذي هو الثمرة والمسبب أولاً يدل على حذف ضده ثانياً ، وذكر السرور في الأهل الذي هو السبب الثاني يدل على حذف ضده وهو سبب السعادة وهو الغم ومحاسبة النفس في الأول ، فهو احتباك في احباك ، ثم علل ثبات سروره فقال مؤكداً تنبيهاً أيضاً على أنه لا يصدق أن أحداً ينكر البعث مع ما له من الدلائل التي تفوت الحصر : ( إنه ظن ( لضعف نظره ) أن ) أي أنه ) لن يحور ) أي يرجع إلى ربه أو ينقص أو لهلك ) ) وقالوا ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر ( ) [ الجاثية : 24 ] فلهذا كان يعمل عمل من لا يخاف عاقبة ) بلى ( ليرجعن صاغراً ناقصاً هالكاً ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل من ينكر : ( إن ربه ) أي الذي ابتدأه إنشاءه ورباه ) كان ( أزلاً وأبداً ) به ) أي هذا الشقي في إعادته كما كان في ابتدائه وفي جميع أعماله وأحواله التي لا يجوز في عدل عادل ترك الحساب عليها ) بصيراً ) أي ناظراً له وعالماً به أبلغ نظر وأكمل علم ، فتركه مهملاً مع العلم بأعماله مناف للحكمة والعدل والملك ، فهو شيء لا يمكن في العقل بوجه .
الإنشقاق : ( 16 - 19 ) فلا أقسم بالشفق
) فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ( ( )
ولما أخبر سبحانه بإنكاره لما أتاه به الرسل من الحشر على وجه موضح للدليل على بطلان إنكاره ولم يرجع ، سبب عنه الإقسام على صحة ذلك لأنه ليس عند النذير الناصح الشفوق بعد إقامة الأدلة إلاّ بالإيمان على صحة ما قال نظراً منه للمنصوح وشفقة عليه ، وترك الحلف على ما هو ظاهر أبلغ من الحلف لما في ذلك الترك من تنبيه المخاطب على النظر والتأمل فقال : ( فلا أقسم ) أي أحلف حلفاً عظيماً هو كقاموس البحر بهذه الأمور التي سأذكرها لما لها من الدلالة على الإبداء والإعادة ، لا أقسم بها وإن كانت في غاية العظم بما لها من الدلالات الواضحة لأن المقسم عليه أجل منها وأظهر فهو غني عن الإقسام ) بالشفق ) أي الضياء الذي يكون في المغرب عقب غروب الشمس أطباقاً حمرة ثم صفرة ثم كدرة إلى بياض ثم سواد ، وكذلك الليل أوله بياض بغبرة ثم تتزايد غبرته قليلاً إلى أن يسود مرباداً فيوسق كل شيء ظلاماً ، سمي شفقاً لرقته ومنه الشفقة لرقة القلب ) والّيل ) أي الذي يغلبه فيذهبه ) وما وسق ) أي جمع في بطنه وطرد وساق من ذلك الشفق ومن النهار الذي كان قبله والنجوم التي(8/372)
صفحة رقم 373
أظهرها وغير ذلك من الغرائب التي تدل على أن موجده بعد أن لم يكن ومذهب ما كان به قادر على الإبداء والإعادة وكل ما يريد ) والقمر ) أي الذي هو آيته ) إذا اتسق ) أي انتظم واستوى واجتمع كماله وتم أمره ليلة إبداره بعد أن كان قد غاب أصلاً ثم بدأ هلالاً خفياً ضئيلاً دقيقاً ولم يزل يزداد حتى يتم ثم ينقص إلى أن يخفى ثم يعود إلى حاله دليلاً أظهر من الشمس على قدرة موجده كذلك على كل أمر من الإبداء والإعادة .
ولما كانت هذه الأمور عظيمة جداً لا يقدر عليها إلا الله تعالى ولها من المنافع ما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه وتعالى ، وكل منها مع ذلك دال على تمام قدرته تعالى على الذي يراد تقريره في العقول وإيضاحه من القدرة التامة على إعادة الشيء كما كان سواء ، ونفي الإقسام بها دليلاً على أن ذلك في غاية الظهور ، فالأمر فيه غني عن الإقسام ، قال في موضع جواب القسم مقرورناً باللام الدالة على القسم ذاكراً ما هو في الظهور والبداهة بحيث لا يحتاج إلى تنبيه عليه بغيره ذكره : ( لتركبن ) أي أيها المكلفون - هذا على قراءة الجماعة بضم الباء دلالة على حذف واو الجمع ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتحها على أن الخطاب للانسان باعتبار اللفظ ) طبقاً ( مجاوزاً ) عن طبق ) أي حالاً بعد حال من أطوار الحياة وأدوار العيش وغمرات الموت ثم من أمور البرزخ وشؤون البعث ودواهي الحشر بدليل ما كان لكم قبل ذلك سواء بتلك القدرة التي كونت تلك الكزائن وأوجدت تلك العجائب سواء ، فتكونون في تمكن الوجود في كل طبق بحال التمكن على الشيء بالركوب ، وكل حال منها مطابق للآخر في ذلك فإن الطبق ما يطابق غيره ، ومنه قيل للغطاء : طبق - لمطابقته المغطى ، والطبق كل ما ساوى شيئاً ووجه الأرض والقرن من الزمان أو عشرون سنة ، وكلها واضح الإرادة هنا وهو بديهي الكون ، فأول أطباق الإنسان جنين ، ثم وليد ، ثم رضيع ثم فطيم ، ثم يافع ، ثم رجل ، ثم شاب ، ثم كهل ، ثم شيخ ، ثم ميت ، وبعده نشر ثم حشر ثم حساب ثم وزن ثم صراط ثم مقرّ ، ومثل هذه الأطباق المحسوسة أطباق معنوية من الفضائل والرذائل .
الإنشقاق : ( 20 - 25 ) فما لهم لا. .. . .
) فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( ( )
ولما ظهر المراد ولم يبق إلا العناد ، سبب عن ذلك الإنكار عليهم والتوبيخ والتقريع والتهديد ، فقال معرضاً عن خطابهم إلى الغيبة إيذاناً باستحقاقهم للأخذ إن لم يرجعوا : ( فما لهم ) أي وأي شيء لهؤلاء الذين أنزلنا عليهم هذا الكتاب المعجز في أنهم ) لا يؤمنون ) أي وأي شيء لهؤلاء الذين أنزلنا عليهم هذا الكتاب المعجز في أنهم ) لا يؤمنون ) أي يوقعون الإيمان ويجددونه كل وقت على الاستمرار بكل ما(8/373)
صفحة رقم 374
دعا إليه هذا الكتاب الذي خصهم بهم ملك الملوك وقد وضحت الدلالة وقامت البراهين لا سيما دلائل القيامة هل هي إلا واحدة من هذه الأطباق المنتقل إليها لأن من كان اليوم على حالة وغداً على أخرى جدير بأن يعلم أن تدبيره إلى سواه ، ومن لم يعلم ذلك فليس لجنونه دواء ، ومن علم أن تبديره إلى سواء علم أن المشيئة في التدبير - إليه لا إلى نفسه ، وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على الصانع ؟ قال : تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المشيئة ، وفسخ العزيمة .
) وإذا قرئ ) أي من أي قارئ كان ) عليهم القرآن ) أي الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس من الحرام والحلال وغير ذلك ) لا يسجدون ) أي يخضعون بالقلب ويتذللون للحق بالسجود اللغوي فيسجدون بالقالب السجود الشرعي لتلاوته لأنه ملك الكلام ، قد أبان عم معارف لا تحصر ، مع الشهادة لنفسه بإعجازه أنه من عند الله ، ليس لهم في ذلك عذر إلا الجهل أو العجز ، ولا جهل مع القرآن ولا عجز مع القوة والاختيار .
ولما كان هذا استفهاماً إنكارياً معناه النفي ، فكان التقدير : إنهم لا يؤمنون ولا عذر لهم في ذلك أصلاً ، أضرب عنه بقوله : ( بل ( ووضع الظاهر موضع المضمر تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على التكذيب فقال : ( الذين كفروا ) أي ستروا مرائي عقولهم الدالة على الحق ) يكذبون ) أي بالقرآن وبما دل عليه من حقائق العرفان المعلية إلى أوج الإيمان بالواحد الديان ) والله ) أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) أعلم ) أي منهم أنفسهم ) بما يوعودن ) أي يضعون في أوعية صدورهم من الكفر والعداوة بسبب الشهوات الشاغلة لهم وهي حب الرئاسة وادعاء الألوهية الشاغلة لهم عن التدبر لهذا القرآن وعن شواهد الموجدات .
ولما كان هذا موجباً لشديد الإنذار ، وضع موضعه تهكماً بهم وإعلاماً بأن الغضب قد بلغ منتهاه قوله : ( فبشرهم ) أي أخبرهم يا أفضل الخلق وأكملهم وأعدلهم خبر يغير إبشارهم ) بعذاب أليم ) أي شديد الألم لشدة إيلامه ، إن كان لهم يوماً من الأيام بشارة فهي هذه .
ولما أخبر عنهم بهذا الهوان ، وكان قد عبر عنهم بأدنى الأسنان إشارة إلى منهم من يقبل الإيمان ، استثنى منهم فقال : ( إلا الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) وعملوا ( دلالة على صدق إيمانهم ) الصالحات ( .
ولما تقدم أن من حوسب عذب ، وأن الناجي إنما يكون حسابه عرضاً ، علم أنه ليس للأعمال دخل في الحقيقة في الأجر ، وإنما المدار كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على التغمد(8/374)
صفحة رقم 375
بالرحمة حتى في تسمية النعيم أجراً ، أسقط الفاء المؤذنة بالسبب تنبيهاً على ذلك بخلاف ما في سورة التين لما يأتي من اقتضاء سياقها للفاء فقال : ( لهم أجر ) أي عظيم وثواب جزيل يعلمه الله تعالى وهو التجاوز عن صغائرهم وسترها ) غير ممنون ) أي مقطوع أو منقوص أو يمتن عليهم به في الدنيا والآخرة يؤتون ذلك في يوم الدين يوم تنشق السماء وتمد الأرض ويثوب الكفار ما كانوا يفعلون ، فقد رجع آخرها على أولها ، واعتلق مفصلها حق الاعتلاق بموصلها .
.. .(8/375)
صفحة رقم 376
سورة البروج
مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي بمن عذبه في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا لهم على أذى الكافرين ، وعلى ذلك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما ) الرحمن ( الذي عم الخلائق عدلا وحلما ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم عينا كما أظهره رسما .
البروج : ( 1 - 7 ) والسماء ذات البروج
) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ( ( )
لما ختم تلك بثواب المؤمن وعقاب الكافر والاستهزاء به بعد أن ذكر أنه سبحانه أعلم بما يضمر الأعداء من المكر وما يرومون من الأنكاد للأولياء وتوعدهم بما لا يطيقون ، وكانوا قد عذبوا المؤمنين بأنواع العذاب واجتهدوا في فتنة من قدروا عليه منهم ، وبالغوا في التضييق عليهم حتى ألجؤوهم إلى شعب أبي طالب وغيره من البروج في البلاد ، ومفارقة الأهل والأولاد ، ابتدأ هذه بما أوقع بأهل الجبروت ممن تقدمهم على وجه معلم أن ذلك الإيقاع منه سبحانه قطعاً ، ومعلم أن الماضين تجاوزوا ما فعل على وجه معلم أن الماضين تجاوزوا ما فعل هؤلاء إلى القذف في النار ، وأن أهل الإيمان ثبتوا ، وذلك لتسلية المؤمنين وتثبيتهم ، وتوعيد الكافرين وتوهيتهم وتفتيتهم ، فقال مقسماً لأجل إنكارهم وفعلهم في التمادي في عداوة حزب الله فعل المنكر أن الله ينتقم لهم بما يدل على تمام القدرة على القيامة : ( والسماء ) أي العالية غاية العلو المحكمة غاية الإحكام ) ذات البروج ) أي المنازل للكواكب السيارة التي ركبها الله تعالى على أوضاع جعل في بعضها قوة التسبب للإبداء(8/376)
صفحة رقم 377
والإعادة بالإنبات وفي بعضها قوة التربية كذلك ، وفي الأخرى قوة الاستحصاد بأسباب خفية أقامها سبحانه لا ترونها ، غير أنكم لكثرة إلفكم لذلك صرتم تدركون منه بالتجارب أموراً تدلكم على تمام القدرة ، فنسبها بعضكم إلى الطبيعة لقصور النظر في أسباب الأسباب وكلال الفكر عن النفوذ إلى نهاية ما تصل إليه الألباب ، فاستبدل بالشكر الكفر ، واستدل بالآيات على ضد ما تدل عليه لجمود الذهن وانعكاس الفكر ، والمراد بها المنازل الاثناء عشر : الحمل - والثور - والجوزاء - والسرطان - والأسد - والسنبلة - والميزان - والعقرب - والقوس - والدلو - والحوت - هي تقطعها الشمس في السنة ، أو هي الثمانية والعشرون التي يقطعها القمر في الشهر ، وهي منازل الشمس هذه الاثنا عشر بسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثاً ، فذلك ثمانية وعشرون يوماً ويستسر ليلتين ، فذلك شهر ، وهو إشارة إلى أن الذي فصل السماء هذا التفصيل وسخر فيها هذه الكواكب لمصالح الإنسان لا يتركه سدىً ، بل لا بد من دينونته على ما يفعله منخير وشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة وتكون فيها الثوابت وعظام الكواكب ، سميت بروجاً لظهورها ، أو أبواب السماء فإن النزازل تخرج منها ، وأصل التركيب للظهور .
ولما كانت هذه الجملة من القسم دالة على بعث قال تصريحاً : ( واليوم الموعود ) أي يوم القيامة الذي تحقق الوعد به وثبت ثبوتاً لا بج منه بما دل عليه من قدرتنا في مخلوقاتنا وأنا سببنا له أسباباً هي عتيدة ليدكم وأنتم لا ترونها ولا تحسون شيئاً منها ولم تبينها لكم الرسل لقصور عقولكم عنها بأكثر من الدلالة بالأسباب التي ألفتموها على مثلها من غير فرق غير أنه وإن كان العقل لا يستقل به ولا يفقه منه غير السماء للوعد به من الرسل فهو لا يحيله بعد سماعه .
ولما كان الجمع لأجل العرض ، وكان العرض لا بد فيه من شهود ومشهود عليهم وجدال على عهود ، قال منكّراً للإبهام للتعظيم والتعميم مثل ) علمت نفس ما نفسه من الأعيان والآثار الهائلة ، أو عليه فإنه يوم تشهده جميع الخلائق ، ويحضر فيه من العجائب أمور يكل عنها الوصف ، ويحضره الأنبياء الشاهدون وأممهم المشهود عليهم ، ولا تبقى صغيرة من الأعمال ولا كبيرة إلاّ أحصيت ، وفي ذلك أشد وعيد لجميع العبيد .
ولما كان جواب القسم على ما دل عليه مقصود السورة وسوابقها ولواحقها : لنثوين الفريقين الأولياء والأعداء ، ولندينن كلاًّ بما عمل ، دل عليه بأفعاله في الدنيا(8/377)
صفحة رقم 378
ببعض الجبابرة فيما مضى ، وفيما يفعل بجبابرة من كذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال بادئاً بمن عذب بعذاب الله في القيامة للبداءة في آخر الانشقاق بقسم المكذبين وهم المحدث عنهم ، معبراً بما يصلح للدعاء والحقيقة تسلية للمؤمنين وتثبيتاً لهم بما وقع لأمثالهم ، وتحذيراً مما كان لأشكالهم : ( قتل ) أي لعن بأيسر أمر وأسهله من كل لاعن لعناً لا فلاح معه ، ووقع في الدنيا أنه قتل حقيقة ) أصحاب الأخدود ) أي الخد العظيم ، وهو الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، روي أن ملكاً من الكفار - وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان من حمير - من ملوك اليمن ، وكان قبل مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسبعين سنة ، آمن في زمانه ناس كثير ، فخدّ لهم أخدوداً في الأرض وسجره ناراً وعرض من آمن عليه ، فمن رجع عن دينه تركه ، ومن ثبت - وهم الأغلب - قذفه في ذلك الأخدود فأحرقه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وردت هذه السورة في معرض الالتفات والعدول غلى إخبار نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما تضمنته هذه السورة من قصة أصحاب الأخدود ، وقد تقدم هذا الضرب في سورة المجادلة وسورة النبأ ، وبينا وقوعه في أنفس السور ومتونها وهو أقرب فيما بين السورتين وأوضح - أنتهى .
ولما ذمهم سبحانه وتعالى ، بين وجه ذمهم ببدل اشتمال من أخدودهم فقال : ( النار ) أي العظيمة التي صنعوها لعذاب أوليائنا ، وزاد في تعظيمها بقوله : ( ذات الوقود ) أي الشيء الذي نوقد به من كل ما يصلح لذلك من الحطب وغيره ، وعلق ب ( قتل ) قوله : ( إذ هم ) أي بظواهرهم وضمائرهم ) عليها ) أي على جوانب أخدودها ) قعود ) أي يحفظونها ويفعلون ما يأمرهم ملكهم في أمرها من إلقاء الناس وغيره فعل القاعد المطمئن الذي ليس له شغل غيرها ) وهم على ما يفعلون ) أي خاصة بقوة دواعيهم إلى فعله ورغبتهم فيه منالفتنة بالعرض على النار وغيره مكررين ذلك الفعل ) بالمؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان الذي لم يثنهم العذاب عنه ) شهود ) أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فيما أمره به ويشهدون يوم القيامة بماتشهد به عليهم أيديهم وأرجلهم على أنفسهم بهذا الظلم ، ويشهد بعضهم على بعض ويعادي بعضهم بعضاً ، ويحيل كل على الآخر طمعاً في النجاة .
البروج : ( 8 - 11 ) وما نقموا منهم. .. . .
) وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ( ( )(8/378)
صفحة رقم 379
ولما كان هذا الفعل العظيم لا يكون من عاقل إلا لسبب يليق به ، بين أنه إنما هو لسبب يبعد منه ، فقال على طريق :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
) وما نقموا ) أي أنكروا وكرهوا ) منهم ( من الحالات وكان ديناً لهم ونقصاً فيهم ) إلا أن يؤمنوا ) أي يجددوا الإيمان مستمرين عليه ) بالله ) أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان ربما أوهم ترك معالجته سبحانه لهم لكونهم يعذبون من آمن به لأجل الإيمان به ما لا يليق ، فنى ذلك بقوله واصفاً لهم بما يحقق وجوب العبادة له وتفرده بها : ( العزيز ) أي الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء ، فلا يظن إمكانه من أهل ولايته لعجز ، بل هو يبتليهم ليعظم أجورهم ويعظم عقاب أعدائهم ويعظم الانتقام منهم ) الحميد ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ، فهو يثيب من أصيب فيه أعظم ثواب ، وينتقم ممن آذاه بأشد العذاب ، وقرر ذلك بقوله : ( الذي له ) أي خاصة ) ملك السماوات والأرض ) أي على جهة العموم مطلقاً فكل ما فيهما جدير بأن يعبده وحده ولا يشرك به شيئاً .
ولما قدم سبحانه التحذير بالشاهد والمشهود ، وأن الكافرين شهود على أنفسهم ، زاد في التحذير بأنه سبحانه أعظم شهيد في ذلك اليوم وغيره فهو لا يحتاج إلى غيره ، ولكنه أجرى ذلك على ما نتعارفه فقال : ( والله ) أي الملك الأعظم الي له الإحاطة الكاملة ) على كل شيء ) أي هذا الفعل وغيره ) شهيد ) أي أتم شهادة لا يغيب عنه شيء أصلاً ، ولا يكون شيء ولا يبقى إلا بتدبيره ، ومن هو بهذه الصفات العظيمة لا يهمل أولياءه أصلاً ، بل لا بد ان ينتقم لهم من أعدائه ويعليهم بعلائه ، ولذلك قال مستأنفاً جواباً لمن يقول : فما فعل بهم ؟ مؤكداً لإنكار الكفار ذلك : ( إن الذين فتنوا ) أي خالطوا من الأذى بما لا تحتمله القوى فلا بد أن يميل أو يحيل في أي زمان كان ومن أي قوم كانوا ) المؤمنين والمؤمنات ) أي ذوي الرسوخ في وصف الإيمان .
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان ، عبر بأداة التراخي فقال : ( ثم لم يتوبوا ) أي عن ذنوبهم وكفرهم .
ولما كان سبحانه لا يعذب أحداً إلا بسبب ، سبب عن ذنبهم وعدم توبتهم قوله : ( فلهم ) أي خاصة لأجل كفرهم ) ولهم ) أي مع ذلك في الدارين لأجل فتنتهم لأولياء الله ) عذاب الحريق ) أي العذاب الذي من شأنه المبالغة في الإحراق بما أحرقوا من قلوب الأولياء ، وقد صدق سبحانه قوله هذا فيمن(8/379)
صفحة رقم 380
كذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإهلاكهم شر إهلاك مغلوبين مقهورين مع أنهم كانوا قاطعين بأنهم غالبون كما فعل بمن كان قبلهم ، فدل ذلك على أنه على كل شيء قدير ، فدل على أنه يبدئ ويعيد .
ولما ذكر عقاب المعاندين بادئاً به لأن المقام له ، أتبعه ثواب العادبين ، فقال مؤكداً لما لأعدائهم من إنكار ذلك : ( إن الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ولو على أدنى الوجوه من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان ) وعملوا الصالحات ( تصديقاً لإيمانهم وتحقيقاً لهز ولما كان الله سبحانه من رحمته قد تغمد أولياءه بعنايته ولم يكلهم إلى أعمالهم لم يجعلها سبب سعادتهم فلم يقرن بالفاء قوله : ( لهم ) أي جزاء مقاساتهم لنيران الدنيا من نار الأخدود الحسية التي ذكرت ، ومن نيران الغموم والأحزان المعنوية التي يكون المباشر لأسبابها غيره سبحانه فيكون المقاسي لها مع حفظه للدين كالقابض على الجمر ) جنّات ) أي فضلاً منه ) الأنهار ( لتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ويروقهم النظر غليها مع خضرة الجنان والوجوه الحسان الجالبة للسرور الجالية للأحزان .
ولما ذكر هذا الذي يسر النفوس ويذهب البؤس ، فذلكه بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العالي الدرجة العظيم البركة ) الفوز ) أي الظفر بجميع المطالب لا غيره ) الكبير ( كبراً لا تفهمون منه أكثر من ذكره بهذا الوصف على سبيل الإجمال ، وذلك أن من كبره أن هذا الوجود كله يصغر عن أصغر شيء منه .
البروج : ( 12 - 22 ) إن بطش ربك. .. . .
) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( ( )
ولما كان لا يثيب ويعذب على هذا الوجه إلا من كان في غاية العظمة ، قال معللاً لفعله ذلك دالاً بذلك التعلل على ما له من العظمة التي تتقاصر الأفكار دون عليائها ، مؤكداً لما للأعداء من الإنكار : ( إن بطش ربك ) أي أخذ المحسن إليك المدبر لأمرك أعداء الدين بالعنف والسطوة وغاية الشدة ) لشديد ) أي يشدة يزيد عنفها على ما في البطش من العنف المشورط في تسميته ، فهو عنف مضاعف .
ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة ، دل على كما قدرته واختصاصه بذلك بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار : ( إنه ( وزاد التأكيد بمبتدأ آخر ليدل على(8/380)
صفحة رقم 381
الاختصاص فقال : ( هو ) أي وحده ) يبدئ ) أي يوجد ابتداء أي خلق أراد على أي هيئة أراد ) ويعيد ) أي ذلك المخلوق بعد إفنائه في أي وقت أراده ، وغيره لا يقدر على شيء من ذلك ، وليس هذا الضمير بفصل لأنه لا يكون إلا والخبر لا يكون إلا معرفة ، أو شبيه بها في أنه لا يلحقه ( ألا ) المعرفة مثل خير منك ، وأجاز المازني وقوعه قبل المضارع لمشابهته الاسم وامتناع دخول ( أل ) عليه فأشبه المعرفة ، وقال : ولا يكون قبل الماضي لأن الماضي لا يشبه الاسم ، قال الرضي : وما قاله دعوى بلا حجة ومثل ( ومكر أولئك هو يبور ) ليس بنص في كونه فصلاً لجواز كونه مبتدأ بما بعده خبره ، ونقض قوله في الماضي بقوله تعالى :
77 ( ) وإنه هو أضحك وأبكى ( ) 7
[ النجم : 43 ] .
ولما ذكر سبحانه بطشه ، وكان القادر على العنف قد لا يقدر على اللطف ، وإن قدر فربما لم يقدر على الإبلاغ في ذلك ، وكان لا يقدر على محو الذنوب أعيانها وآثارها على كل أحد بحيث لا يحصل لصاحبها عقاب ولا عتاب من أحد أصلاً إلا من كان قادراً على كل شيء ، قال مبيناً لجميع ذلك دليلاً على أنه الفاعل المختار ، ومؤكداً لخروجه عن العوائد : ( وهو ) أي وحده ) الغفور ) أي المحاء لأعيان الذنوب وآثارها إذا أراد بحيث لا يحصل لمن محا ذنبه كدر من جهة ذلك الذنب أصلاً ) الودود ) أي الذي يفعل بمن أراد فعل المحب الكثير المحبة فيجيبه إلى ما شاء ويلقي على صاحب الذنب الذي محاه عنه وداً أي محبة كبيرة واسعة يجعل له في قلوب الخلق رحمة ، ومادة ( ود ) تدور على الاتساع كما بينته في سورة الروم ، وزاد الأمر تأكيداً بذكر ما لا ينازع أصلاً في اختصاصه به تشريفاً له وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات : ( ذو العرش ) أي العز الأعظم أو السرير الدال على اختصاصه الملك بالملك وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة ، الذي به قوام الأمور ) المجيد ) أي الشريف الكريم العظيم في ذاته وصفاته الحسن الجميل الرفيع العالي الكثير العطاء - هذا إذا رفع على أنه صفة ل ( ذو ) وكذا إن جر على أنه صفة للعرش في قراءة حمزة والكسائي .
ولما كان الاختصاص يدل قطعاً على كمال القدرة ، أنتج ذكر هذه الاختصاصات قوله : ( فعّال ) أي على سبيل التكرار والمبالغة ) لما يريد ( لا يؤده شيء من الأفعال سواء كانت منسوبة إليه من غير واسطة أو نسبت في الظاهر إلى غيره .
ولما تمت الدلالة على أن بطشه شديد ، قرره بما وجد من ذلك وذكره به تخويفاً وتسلية له لأن النظر في المحسوسات أمكن في النفوس فقال : ( هل أتاك ) أي يا أعظم خلقنا ) حديث الجنود ) أي اذكر ما أتاك مما حدث لهم من بطشنا وما وقع بهم من سطواتنا لتكذيبهم رسلنا عليهم أفضل الصلاة والسلام بحيث صار حديثاً يتلى ، وذكراً بين الخلق(8/381)
صفحة رقم 382
لعظمته لا يبلى ، والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر المعد للقتال والأعزان والمدينة ، والكل ناظر إلى النجدة العظيمة والغلبة الزائدة .
ولما كان المعلوم من السياق أن المراد من حديثهم ما حصل لهم من البطش لتكذيب الرسل لا يسما في البعث الذي السياق له ، وكان الواقع من بيانه بآيات موسى وصالح عليهما الصلاة والسلام أبين مما وقع بآيات غيرهم ممن تقدم من الخلق كثيرة ، حكي أن طليعته يوم تبع بني إسرائيل وغرق كانت ستمائة ألف ، أبدل من ( الجنود ) إعلاماً بأنهم أعداء الله قوله : ( فرعون ( وكذا أتباعه الذين كانوا أشد أهل زمانهم وأعتاهم وأكثرهم رعونة في دعوى الإلهية منه والتصديق منهم وكان هذا من عمارة قلوبهم مع ظهور علامات الربوبية السماوية والأرضية ، والرسوخ في التكذيب والسفه والخفة والطيش مع رؤية تلك الآيات العظيمة على كثرتها وطول زمنها حتى دخل الحبر على أمان من الغرق مع أن خطر الغرق به في تلك الحالة لم يكن يخفى على من له أدنى مسكة من عقله فأغرقه وأتباعهم الطائفة الاتحادية العربية الفارضية الذين يكفي في ظهور كفرهم تصويبهم فرعون الذي أجمع على كفره جميع الفرق ) وثمود ( الذين حملتهم الخفة على أن عقروا الناقة بعد رؤيتهم إياها تتكون من الصخرة الصماء غير مجوزين أن الذي خرق العادة بإخراجها ذلك يهلكهم في شأنها ، وقد جمع سبحانه بهما الساعة ، وإنما كانت آياتهما أبين لأن آية ثمود ناقة خرجت من صخرة صماء ، ومن آيات موسى عليه الصلاة والسلام إبداع القمل الذي لا يحصى كثرة من الكثبان ، وإبداع الضفادع كذلك والجراد وإحياء العصا مرة أخرى ، ولا شك عند عاقل أن من قدر على ذلك ابتداء من شيء لا أصل في الحاية فهو على إعادة ما كان قبل ذلك حياً أشد قدرة .
ولما كان التقدير : نعم قد أتاني ذلك وعلمت من خبرهما وغيره أنك قادر على ما تريد ، ولكن الكفار لا يصدقونني ، عطف عليه قوله : ( بل الذين كفروا ) أي جاهروا بالكفر من هؤلاء القوم وغيرهم وإن كانوا في أدنى رتبة ) في تكذيب ) أي لما رأوا من الآيات لا مستند لهم فيه وهو شديد محيط بهم لاتباعهم أهواءهم وتقليدهم آباءهم ، فهم لا يقدرون على الخروج من ذلك التكذيب الذي صار ظرفاً لهم بعد سماعهم لأخبار هؤلاء المهلكين ورؤية بعض آثارهم ، وبعد ما أقمت لهم من الأدلة على البعث(8/382)
صفحة رقم 383
في هذا القرآن المعجز ، ولم يعتبروا بشيء من ذلك لما عندهم من داء الحسد ، فحالهم أعجب من حالهم فحذرهم مثل مآلهم .
ولما كان هذا ربما أوهم أن تكذيبهم على غير مراده سبحانه وتعالى ، قال دافعاً لذلك مؤكداً قدرته على أخذهم تحذيراً لهم وتسلية لمن كذبوه : ( والله ) أي والحال أن الملك الذي اختص بالجلال والإكرام ) من ورائهم ) أي من كل جهة يوارونها أو تواريهم ، وذلك كل جهة ) محيط ( فهو محيط بهم نمكل جهة بعلمه وقدرته ، فهو كناية عن أنهم في قبضته لا يفوتونه بوجه كام أنه لا يفوت من صار في القبضة بإحاطة العدو به من غير مانع ، فهو سبحانه قادر على أن يحل بهم ما أحل بأولئك ، ولعله خص الوراء لأن الإنسان يحمي ما وراءه ولأنه جهة الفرار من المصائب .
ولما كان من تكذيبهم ، وهو أعظم تكذيبهم ، طعنهم في أعظم آيات القرآن بأن يقولوا : هو كذب مختلق ، إنما هو أساطير الأولين ، أي أكذوباتهم لا حقائق لا يخبر به مع أنه قد أقام الدليل الأعظم لنفسه بنفسه بما له من الإعجاز على أنه حق ، قال معبراً بالضمير إيذاناً بأنه لعظمه في كل قلب لا غيبة له أصلاً ، ليس لأحد حديث إلا فيه ، بانياً على ما تقديره : ليس الأمر كما يزعم الكفار في القرآن : ( بل هو ) أي جامع لكل منقبة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف ) مجيد ) أي شريف كريم ليس فيه شيء من شوائب الذم عزيز عظيم شريف عال جواد حسن الخلال وحيد في نظمه معانيه المغيبة والمشاهدة حاو لمجامع الحمد حسن الخلال وحيد في نظمه ومعانيه المغيبة والمشاهدة حاو لمجامع الحمد ليس بقول مخلوق ولا هو مخلوق بل هو صفة الخالق بل هو جواد بكل ما يراد منه من المحاسن لمن صدقت نيته وطهرت طويته ، وعلت همته وكرمت سجيته ، فهو يأبي له مجده أن يلم بساحته طعن بوجه من الوجوه ، ومجده تجريب أحكامه من بين عاجل ما شهد وآخل ما علم بعالم ما شهد ، فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه وأشكاله ، فكذب من قال إنه شعر أو كهانة أو سحر - أو غير ذلك من الأباطيل .
ولما وصفه في نفسه مما يأبي له لحاق شيء من شبهة ، وصف محله في الملأ الأعلى إعلاماً بأنه لا يطرأ عليه ما يغيره فقال : ( في لوح ( وهو كل صفيحة عريضة من خشب أو عظم أو غيرهما ) محفوظ ) أي له الحفظ دائماً على أتم الوجوه من كل خلل ومن أن يصل إليه إلا الملائكة الكرام ، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الموت من الأحياء : يعبر عنه تارة باللوح ، وتارة بالكتاب المبين ، وتارة بإمام(8/383)
صفحة رقم 384
مبين ، فجمع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه كتاباً لا يشاهد بهذه العين ، وليس مما نعهده من الألواح ، فلوحه تعالى لا يشبه ألواح خلقه كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذوات خلقه ، ومثاله مثال قلب الإنسان في حفظ القرآن مثلاً كلماته وحروفه ، ولو فتش قلبه لم يوجد فيه شيء ولا ينظر ذلك إلا نبي أو ولي يقرب من درجته - هذا معنى كلام الإمام رحمه الله تعالى ، وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن فحفظه من التغيير والتبديل والتحريف وكل شبهة وريب في نظمه أو معناه كما أن البروج محفوظ في لوح السماء المحفوظ ، بل القرآن بذلك أولى لأنه صفة الخالق في بيان وصفه لما خلق على الوجه الأتم الأعدل لأنه ترجمة ما أوجده الله سبحانه في الوجود ، فصح قطعاً أنه لا بد أن يصدق في كل ما أخبر به ، ومن أعظمه أنه سبحانه يحشر الناس للدينونة بالثواب والعقاب كما دان من كذب أولياءه في الدنيا بمثل ذلك فأخذ أعداءه وأنجى أولياءه ، فرجع الختام منها على المبتدأ ، وتعانق الافتتاح بالمنتهى ، فاتقضى ذلك تنزيه المتكلم به عن أن يترك شيئاً فضلاً عن الأنفس بغير حفظ وعن كل ما لا يليق ، وإثبات الكمالات له والأكمليات بكل طريق - والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وإليه المهرب والمتاب .
.. . .(8/384)
صفحة رقم 385
سورة الطارق
مقصودها بيان مجد القرآن فيب ضصدقه فيب الإخبار بتنعيم أهل الإيمان ، وتعذيب أهل الكفران ، في يوم القيامة حين تبلى السرائر وتكشف المخبات الضمائر عن مثقال الذر وما دون المثقال ، مما دونته الحفطة الكرام في صحائف الأ " مال ، بعد استيفاء الآجال ، كما قدر في أزل الآزال ، من غير استعجال ، ولا تأخير عن الوقت المضروب ولا إهمال ، واسمها الطارق أدل ما فيها على هذا الموعود الصادق بتأمل القسم والمقسم عليه حسب ما اتسق الكلام إليه ) بسم الله ( الذي له الكمال كله ) الرحمن ( الذي وسع الخلائق فضله وعدله ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وإحسانه وكرمهع وفضله .
الطارق : ( 1 - 8 ) والسماء والطارق
) وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( ( )
لما تقدم في آخر البروج أن القرآن في لوح محفوظ لأن منزله محيط بالجنود من المعاندين وبكل شيء ، أخبر أن من إحاطته حفظ كل فرد من جميع الخلائق المخالفين والموافقين والمؤالفين ، ليجازى على أعماله يوم إحقاق الحقائق العلائق ، فقال مقسماً على ذلك لإنكارهم له : ( والسماء ) أي ذات الأنجم الموضوعة لحفظها من المردة لأجل حفظ القرآن المجيد الحافظ لطريق الحق ، قال الملوي : والمراد بها هنا ذت الأفلاك الدائرة لا السماوات العلى بما جعل فيها من ليل ونهار ودورتهما ثلاثمائة وستين درجة لا تتغير أبداً في هذه الدار بنقص ولا زيادة بنصف درجة ولا دقيقة ولا ثانية ولا ما دون ذلك ، بل كلما زاد أحدهما شيئاً نقص من الآخر بحسابه عرف ذلك من العقل والنقل والتجربة فعرف أنه يحفظ حيفظ حي لا يموت ، قيوم لا يغفل ولا ينام - انتهى .(8/385)
صفحة رقم 386
ولما أقسم بالسماء لما لها من الشرف والمجد تنبيهاص على ما فيها من بدائع الصنع الدالة على القدرة الباهرة .
أقسم بأعجب ما فيها وهو جنس النجوم ثم بأعربة وهو المعد للحراسة تنبيهاً على ما في ذلك من غرائب القدرة فقال : ( والطارق ) أي جنس الكواكب الذي يبدو ليلاً ويخفى نهاراً ، ويطرق مسترقي السمع فيبدد شملهم ويهلك من أراد الله منهم لأجل هداية الناس بالقرآن في الطرق المعنوية وظهوره وإشراقه في السماء لهدايتهم في الطرق الحسية وهو في الأصل لسالك الطريق ، واختص عرفاً بالآتي ليلاً لأنه يجد الأبواب مغلقة فيحتاج إلى طرقها ، ثم استحمل للبادي فيه كالنجم .
ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أولاً ثم عظم المقسم به بقوله : ( وما أدراك ) أي عرفك يا أشرف خلقنا عليه الصلاة والسلام وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه ) ما الطارق ( ثم زاده تهويلاً بتفسيره بعد إبهامه مرة أخرى بقوله تعالى : ( النجم الثاقب ) أي المتوهج العالي المضيء كأنه يثقب الظلام بنوره فينفذ فيه ، يقال : أثقب نارك للموقد ، أو يثقب بضوئه الأفلاك فتشف عنه ، أو يثقب الشيطان بناره إذا استرق السمع ، والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل ، عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيماً لشأنه لعلو مكانه .
ولما ذكر الذي دل به على حفظ القرآن عن التلبيس وعلى حفظ الإنسان ، ذكر جوابه في حفظ النفوس التي جعل فيها قابلية لحفظ القرآن في الصدور ، ودل على حفظ ما خلق لأجلها من هذه الأشياء المقسم بها على حفظ الإنسان لأنها إذا كانت محفوظة عن أدنى زيغ وهي مخلوقة لتدبير مصالحه فما الظن به ؟ فقال مؤكداً غاية التأكيد لما للكفرة من إنكار ذلك والطعن فيه ) إن ( بالتخفيف من الثقيلة في قراءة الجمهور أي أن الشأن ) كل نفس ) أي من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس ) لما عليها ) أي بخصوصها لا مشارك لها في ذاتها ) حافظ ) أي رقيب عتيد لا يفارقها ، والمراد به الجنس من الملائكة ، فبعضهم لحفظها من الآفات ، وبعضها من الوساوس ، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة ، وبعضهم لحفظ ما كتب لها من رزق وأجل وشاقوة أو سعادة ومشي ؟ ونكاح وسفر وإقامة ، فلا يتعدى شيئاً من ذلك نحن قسمنا نحن قدرنا ، فإن قلت : إن الحافظ الملائكة ، صدقت ، وإن قلت : إنه الله ، صدقت ، لأنه الآمر لهم والمقدر على الحفظ ، والحافظ لهم من الوهن والزيغ ، فهو الحافظ الحقيقين واللام في هذه القراءة هي الفارقة بين المخففة والنافي ( وما ) مؤكداة بنفي صدر ما أثبتته الجملة ، ( وحافظ ) خبر ( إن ) ويجوز ان يكون الظرف الخبر ، و ( حافظ ) مرتفع به ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ( لما ) على أنها بمعنى و ( إن ) نافية بمعنى(8/386)
صفحة رقم 387
( ما ) ، والمستثنى منه ( كل نفس ) وخبر النافية محذوف تقديره : كائنة أو موجودة أو نحوهما ، والمستثنى ( نفس ) موصوفة ب ( عليها حافظ ) ويحتمل أن يكون حالاً فمحله يحتمل الرفع بأنه خبر النافي في هذا الاسثناء المفرغ عند بني نميم ، والنصب بأنه خبر عند غيرهم ، أو حال من ( نفس ) ، لأنها عامة ، والتقدير : ما كل نفس موجودة إلى نفس كائناً أو كائن عليها حافظ ، والنسبة بين مفهومي القراءتين أن المشدد أخص لأنها دائمة مطلقة ، والمخففة مطلقة عامة ، ولا يظن أن المشددة غير مساوية للمخففة ، فضلاً أن تكون أخص لأن حرف النفي دخل على ( كل ) وهو من أسوار السلب الجزئي كما تقرر في موضعه فينحل إلى أن بعض النفوس ليس إلا عليها حافظ وإنما كان لا يظن ذلك لأنها تنحل لما فيها من الحصر المتضمن للنفي والإثبات إلى جملتين ، إحداهما إثبات الحفظ للنفس الموصوفة والأخرى الجزئية السالبة أي ليس كل نفس عليها حافظ والسالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية ، فإذا نفيتها قلت : ليس ليس كل نفس عليها حافظ فهو سلب السلب الجزئي ، وإذا سلب السلب الجزئي سلب الكلي لما تبين أنه أخف .
وإذا انتفى الأعم انتفى الأخص فلا شيء من الأنفس ليس عليها حافظ ، فانحل الكلام إلى : لا نفس كائنة إلا نفس عليها حافظ ، وإن كان لفظ ( ليس كل ) من أسوار الجزئية لما مضىن فصارت الآية على قراءة التشديد مركبة من مطلقة عامة هي ( كل نفس عليها حافظ ) بالفعل .
ومن سلب نقيضها وهو الدائمة المطلقة الذي هو ( دائماً ليس كل نفس عليها حافظ ) أي ليس دائماً كل نفس ليس عليها حافظ ، وذلك على سبيل الحصر وقصر الموصوف على الصفة ، معناه أن الموصوف لا يتعدى صفته التي قصر عليها ، فأقل الأمور أن لا يتجاوزها إلى عدم الحفظ ، وذلك معنى الدائمة المطلقة وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع ما دام ذات الموضوع موجودة ، وهي على قراءة التخفيف مطلقة عامة أي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل وهو الجزء الأول مما انحلت إليه قراءة التشديد ، فمفهوم الآية في قراء التشديد أخص منه في قراءة التخفيف ، لأن كل دائم كائن بالفعل ، ولا ينعكس - هذا إذا نظرنا إلى نفس المفهوم من اللفظ مع قطع النظر عن الدلالة الخارجية ، وأما بالنظر إلى نفس الأمر فالجهة الدوام فلا فرق ، غير أنه دل عليها باللفظ في قراءة التشديد دون قراءة التخفيف والله تعالى أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البروج ) والله على كل شيء شهيد ) [ البروج : 9 ] ) والله من ورائهم محيط ((8/387)
صفحة رقم 388
[ البروج : 20 ] وكان في ذلك تعريف العباد بأنه سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء ولا يفوته شيء ولا ينجو منه هارب ، أردف ذلك بتفصيل يزيد إيضاح ذلك التعريف الجملي من شهادته سبحانه وتالى على كل شيء وإحاطته به فقال تعالى ) إن كل نفس لما عليها حافظ ) [ الطارق : 4 ] فأعلم الله سبحانه وتعالى بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفسها ( ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ) ليعلم العبد أنه ليس بمهمل ولا مضيع ، وهو سبحانه وتعالى الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم وشهادة الشهود من الأعضاء وغيرهم ، وإنما كان ذلك لإظهار عدله سبحانه وتعالى ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) [ النساء : 40 ] ولا أقل من المثقال ، ولكن هي سنته حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق ، وأقسم سبحانه وتعالى على ذلك تحقيقاً وتأكيداً يناسب القصد المذكور - انتهى .
ولما كان التقدير : لأنه لا بد له من العرض على الخالق سبحانه وتعالى لأن التوكيل بالإنسان لا يكون إلا لعرضه على الملك الديان صاحب الأمر والبرهان ومحاسبته له على ما كان ، كان التقدير : يحفظ أعمالها ويكتبها ليحاسبها الملك على ذلك ، فتسبب عنه قوله تعالى : ( فلينظر ) أي بالصيرة ) الإنسان ) أي الآنس بنفسه الناظر في عطفه إن كان يسلك في ذلك ) مم ) أي من أي شيء ، وبنى للمفعول العامل في من أمر بالنظر وهو قوله : ( خلق ( إعلاماً بأن الدال هو مطلق الخلق ، وتنبيهاً على تعظيم الفاعل بأن العلم به غير محتاج إلى ذكره باللفظ لأنه لا يقدر على صنعة من صنائعه غيره ، وأمر الإنسان بهذا النظر ليعلم بأمر مبدئه أمر معاده ، فإن نم قدر على الابتداء قدر على الإعادة قطعاً ، فإذا صح عنده ذلك اجتهد في أن لا يملي على حافظيه إلا ما يرضي الله تعالى يوم عرضه على الملك الديان ليسره وقت حسابه .
ولما نبه بالاستفهام على أن هذا أمر جداً ينبغي لكل أحد أن يترك جميع مهماته ويتفرغ للنظر فيه فإنه يكسبه السعادة الأبدية الدائمة ، وكان الإنسان - مع كونه ضعيفاً عاجزاً - لا ينفك عن شاغل ومفتر ، فلا يكاد يصح له نظر ، تولى سبحانه وتعالى شرح ذلك عنه فأجاب الاستفهام بقوله : ( خلق ) أي الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه الصلاة والسلام من تراب ، وأمه حواء عليها السلام من ضلعه ) من ماء دافق ) أي هو - لقوة دفق الطبيعة له - كأنه يدفق بنفسه فهو إسناد مجازي ، والدفق لصاحبه ، أو هو مثل ( لابن ) أي ذي وفق ، والدفق صب فيه دفع ، ولم يقل : ماءين - إشارة إلى أنهما يجتمعان في الرحم ويمتزجان أشد امتزاج بحيث يصيران ماءً واحداً .
ولما كان المراد به ماء الرجل وماء المرأة قال : ( يخرج ( وبعض بإثبات الجار(8/388)
صفحة رقم 389
فأفهم الخروج عن مقره بقوله : ( من بين الصلب ) أي صلب الرجل وهو عظم مجتمع من عظام مفلكة أحكم ربطها غاية الإحكام من لدن الكاهل إلى عجب الذنب ) والترائب ) أي ترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة ، وصوبه ابن جرير ، أو ما ولي الترقوتين منه ، أو مابين الثديين والترقوتين أو أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة من يسرته ، أو اليدان والرجلان والعينان ، وعلى كل تقدير شهوتها من أمامها وشهوة الرجل فيما غاب عنه من ورائه ، ولو نزع الخاف لأفهم أن الماء يملأ البين المذكور ولم يفهم أنه يخرج عن صاحبي البين ، قال البيضاوي : ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء ، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند الأنثيين ، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها ، ولذلك تشبهه ويسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه ولو خليفة وهو النخاع وهو في الصلب ، وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصا بالذكر .
وقال الملوي : فالذي أخرجه من ظروف عظام الصلب والترائب إلى أن صيره في محله من الأنثيين إلى أن دفق واعتنى بعد ذلك بنقله من خلق إلى خلق بعد كل أربعين يوماً إلى أن صيره إنساناً يعقل ويتكلم ويبني القصور ، ويهدم الصخور ، قادر على بعثه .
ولما علم بالحفظ والخلق في الأطوار المشار إليها أنه خلق لأمر عظيم وهو الحساب ، وثبت بالقدرة على ابتدائه من هذا الماء وبتطويره في الحالات المشار إليها بذكر الماء ، المعلومة لكل أحد القدرة على الإعادة بلا فرق إلا كون الإعادة على ما نعرف أسهل ، وكان العرب ينكرونها ، قال مؤكداً استئنافاً لمن يقول : قد نظرت في ذلك فمه : ( إنه ) أي خالقه القادر على ما ذكر من شؤونه المدلول على عظمه ببناء ( خلق ) للمفعول ) على رجعه ) أي رجع الإنسان بالعبث ورده إلى حالته الأولى وخلقه الأول كما كان قبل الموت وعلى رد هذا الماء الدافق إلى مجاريه التي خرج منها وحله إلى المائية بعد انعقاده عظماً ولحماً ودماً ) لقادر ) أي لثابتة قدرته على ذلك أتم ثبات ، فمن أيسر ما يكون عنده سبحانه وتعالى رده بعد شيخوخته على عقبه بأن يجعله كهلاً ثم شاباً ثم طفلاً ثم مضغة ثم علقة ثم نطفة ثم يدفعه إلى ذكر الرجل ورحم المرأة ثم غلى صلبه وترائبها وهو أهون عليه ، وذلك كقدرته على رده بالبعث ، وعبر ب ( أنه ) ولم يقل : إن الله - مثلاً لأنه أقعد لأنه يقال لكل إنسان : من أخرجك على هذه الهيئة فصيرك على هذه الصفة ؟ فإذا قال : القادر على كل شيء بقدرته الكاملة ، قيل له : وبتلك القدرة بعينها يعيدك ، ولو سمى له اسم غير الضمير لكان ربما قال : ليس هو خالقي .(8/389)
صفحة رقم 390
الطارق : ( 9 - 17 ) يوم تبلى السرائر
) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( ( )
ولما كان هذا يحرك السامع غاية التحريك لأن يقول : معتى تكون رجعه له ؟ قال مجيباً له : ( يوم تبلى ( وبناه للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن من الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها هو الذي يرجعها ، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره ) السرائر ) أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات ، وأخفته الجوارح من الإخلال بالوضوء والغسل ونحو ذلك من جميع الجنايات ، بأن تخالط السرائر في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة ، من الأمور الهائلة ما يميلها فيحيلها عما هي عليه فتعود جهراً بعد أن كانت سراً ، فيميز طيبها من خبيثها ويجازى عليه صاحبه .
ولما كان المانع من جزائه عند إظهار سرائره إما هو نفسه أو أحد ينصره ، قال مسبباً عن إظهار ما يجتهد في إخفائه : ( فما له ) أي الإنسان الذي أخرجت سرائره ، وأعرق في التعميم والنفي فقال : ( من قوة ) أي يمنع بها نفسه من الجزاء ) ولا ناصر ) أي ينصره فيمنعه من نفوذ الحكم فيه .
وليس الدفع إلا بهذين الأمرين : قوة قائمة به أو قوة خارجة عنه .
ولما اشتملت هذه الجمل على وجازتها على الذروة العليا من البلاغة في إثبات البعث والجزاء والوحدانية له سبحانه وتعالى إلى غير ذلك من بحور العلوم ، فثبت أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ، فثبت أن كل ما فيه حق مع منازعتهم في ذلك كله ، اقتضى الحال الإقسام على حقيته فقال : ( والسماء ) أي التي كان المطلع الإقسام بها ووصفها بما يركد العلم بالعبث الذي الذي هو منبع العلوم والتقوى فعليه مدار السعادة فقال : ( ذات الرجع ( التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي ابتدأت الدوران منه فترجع الأحوال التي كانت وتصرمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر ، والصيف وما فيه من حر وصفاء وسكون وغير ذلك والنبات بعد تهشمه وصيرورته تراباً مختلطاً بتراب الأرض وترجع الماء على قول من يقول : إن السحاب يأخذه من البحر ويعلو به فيعصره في الهواء ثم يرده إلى الأرض - وغير ذلك من الأمور الدال كل منها قطعاً على أن فاعل ذلك قادر على إعادة كل ما فني كما كان من غير فرق أصلاً .
ولما ذكر الأمر العلوي بادئاً به لشرفه ، أتبعه السفلي فقال تعالى : ( والأرض ( أي(8/390)
صفحة رقم 391
مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعانوه كل وقت وملامسوه ) ذات الصدع ) أي التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات والعيون بدءاً وإعادة دلالة ظاهرة على البعث ، فجمع بالقسم العالم العلوي الذي هو كالرجل والسفلي الذي هو كالمرأة ، فكما أن الرجل يسقيها من مائه فتصدع عن الولد ، فكذلك السماء تسقي الأرض فتتصدع عن النبات وكما أنها تتصدع عن النبات بعد فنائه وصيرورته رفاتاً فيعود كما كان فكذلك تتصدع عن الناس بعد فنائهم فيعودون كما كانوا بإذن ربها من غير فرق أصلاً .
ولما كانت هذه كلها براهين قاطعة ودلائل باهرة ساطعة على حقية القرآن إتيانه بأعلى البيان ، فكان من المستبعد جداً طعنهم في القرآن بعد هذا البيان ، قال تعالى منبهاً على ذلك بالتأكيد معبراً بالضمير إشارة لما مضى إلى أنه المحدث عنه الآن ، فهو الثابت في جميع الأذهان لا غيبة له عن شيء منها أصلاً ) إنه ) أي القرآن الذي أخبر بهذه الإخبارات التي هي في غاية الوضوح وتقدم أنه مجيد وفي لوح محفوظ ، وأن الكفرة في تكذيب به ولا سيما ما تضمن منه الإخبار بالبعث : ( لقول فصل ) أي جداً يراد به فصل الأمور ، وله من العراقة في الفرق بين الحق والباطل ما صار به يطلق عليه نفس الفصل ، ثم أكد الأمر لشدة إنكارهم وجحدهم وتغطيتهم الحق بالباطل فقال : ( وما هو ) أي القرآن في باطنه ولا ظاهره ) بالهزل ) أي بالضعيف المرذول الذي لا طائل تحته ، فمن حقه ما هو عليه الآن من كونه مهيباً في القلوب معظماً في الصدور يرتفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل ويعلم به في أعين العامة والخاصة .
ولما كان ثبات هذا على هذا الوجه مقتضياً ولا بد رجوعهم عن العناد ، فكان ذلك محركاً للسامع إلى تعرف ما كان من أمرهم ، استأنف قوله دلالة على بقائهم على الإنكار وأكده تنبيهاً على أن بقاءهم على العناد - مع هذا مستبعد جداً ) إنهم ) أي الكفار ) يكيدون ) أي بما يعملون في أمره من الحيل ) كيداً ( في إبطاله وإطفاء نوره بإثباتك أو إخراجك أو قتلك أو تنفير الناس عنك والحال أنه لا قوة لهم أصلاً على ذلك ولا ناصر لهم بوجه من الوجوه وسمي جزاؤه لهم سبحانه كيداً مشاكلة ، ولأنه خفي عنهم ومكروه إليهم فهو على صورة الكيد فقال : ( وأكيد ) أي أنا بإتمام اقتداري ) كيداً ( باستدراجي لهم إلى توغلهم فيما يغضبني ليكمل ما يوجب أخذي لهم من حيث لا يشعرون .
ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم ، قال مسبباً عنه تهديداً لهم يا له من تهديد ما أصعبه : ( فمهل ) أي تمهيلاً عظيماً بالتدريج .
ولما كان في المكذبين في علم الله من يؤمن فليس مستحقاً لإيقاع مثل هذا التهديد ، عبر بالوصف المقتضي للرسوخ فقال :(8/391)
صفحة رقم 392
) الكافرين ) أي فلا تدع عليهم ولا تستعجل لهم بالإهلاك ، فإنا لا نعجل لأنه لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت ، حكي أن الحجاج كان سجنه من رخام وأرضه من رصاص ، فكان يتلون بتلون الأوقات ، فوقت الحر جهنم ، ووقت البرد زمهرير ، فمر به يوماً فاستغاثوا فطأطأ رأسه لهم وقال : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، فأخذت الأرض قوائم جواده فرفع طرفه إلى السماء وقال : سبحانك لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت ، وانطلق من وقته ، فإن العجلة - وهي - إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به - نقص فإنه لا يعجل إلا من يكون ما يفعل المستعجل عليه خارجاً عن قبضته .
ولما كانت صيغة التفعيل ربما أفهمت التطويل ، أكد ذلك مجرداً للفعل دلالة على أن المراد بالأول إيقاع الإمهال مع ان زمنه قصير بالتدريج ليطمئن الممهل بذلك وتصر له به قوة عظيمة ودرته ؟ وعزيمة صادقة لأن ما يقولونه مما تشتد كراهة النفوس له ، فلا يقدر أحد على الإعراض عنه إلا بمعونة عظيمة : ( أمهلهم ) أي بالإعراض عنهم مرة واحدة بعد التدريج لما صار لك على حمله من القوة بالتدريج - الذي أمرت به سابقاً ) رويداً ) أي إمهالاً يسيراً فستكون عن قريب لهم أمور ، وأي أمور تشفي الصدور ، وهو تصغير ( ارادوا ) تصغير ترخيم ، قال ابن برجان : وهي كلمة تعطي الرفق ، وهذا الآخر هو المراد بما في أولها من أن كلاًّ منهم ومن غيرهم محفوظ بحفظه مضبوطة أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وأحواله ، فإن ذلك مستلزم لأنه في القبضة ، فقد التقي الطرفان على أعظم شأن بأبين برهان ، ووقع أول هذا الوعيد يوم بدر ثم تولى نكالهم وتحقيرهم وإسفالهم إلى أن ذهب كثير منهم بالسيف وكثر منهم بالموت حتف الأنف إلى النار ، وبقي الباقون في الصغار إلى أن أعزهم الله بعز الإسلام ، وصاروا من الأكابر الأعلام ، تشريفاً وتكريماً وتعظيماً لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ، والله تعالى هو أعلم بالصواب .
.. .(8/392)
صفحة رقم 393
سورة الأعلى
وتسمى سبح
قال الملوي : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحبها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات - مقصودهات إيجاب التنزيه للأعلى سبحانه وتعالى عن أن يلحق ساحة عظمته شيء من شوائب النقص كاستعجال في أمر من إهلاك اللكافرين أو غيره أو العجز عن البعث أو إهمال الخلق سدى يبغي بعضهم على بعض بغير حساب ، أو أن يتكلم بما لا يطابق الواقع أو بما يقدر أحد أن يتكلم بمثله كما أذنت بذلك الطارق مجملا وشرحته هذه مفصلا ، وعلى ذلك دل كل من اسمها سبح والأعلى ) بسم الله ( الذي له العلي كله فلا نقص يلحقه ) الرحمن ( الذي عم جوده ، فكل موجود هو الذي أوجده وكل حيوان هو الذي يربيه ويرزقه ) الرحيم ( الذي من كان من حزبه فإنه يلزمه الطاعة وييسرها له ويوفقه .
الأعلى : ( 1 - 6 ) سبح اسم ربك. .. . .
) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( ( )
لما تضمن أمره سبحانه في آخر الطارق بالإمهال النهي عن الاستعجال الذي هو منزه عنه لكونه نقصاً ، وأشار نفي الهزل عن القرآن - إلى أنهم وصموه بذلك وهو في غاية البعد عنه إلى غير ذلك مما أشير إليه فيها ونزه نفسه الأقدس سبحانه عنه ، أمر أكمل خلقة رسوله المنزل عليه هذا القرآن ( صلى الله عليه وسلم ) بتنزيه اسمه لأنه وحده العالم بذلك حق علمه ، وإذا نزه اسمه عن أن يدعو به وثنا أو غيره أو يضعه في غير ما يليق به ، كان لذاته سبحانه أشد تنزيهاً ، فقال مرغباً في الذكر لا سيما بالتنزيه الذي هو نفي المستحيلات لأن التخلي قبل التحلي ، شارحاً لأصول الدين مقدماً للإلهيات التي هي النهايات من الذات ثم الصفات لا سيما القيومية ثم الأفعال على النبوات ، ثم أتبع ذلك النبوة ليعرف العبد ربه على ما هو عليه من الجلا والجمال ، فيزول عنه داء الجهل الموقع في التقليد ، وداء الكبر الموقع في إنكار الحقوق ، فيعترف بالعبودية والربوبية ، لا(8/393)
صفحة رقم 394
مثنياً عليه سبحانه بالجلال ثم الجمال فيعبده على ما يليق به من امتثال أمره واجتناب نهيه تعظيماً لقدره : ( سبح ) أي نزه وبرئ تنزيهاً وتبرئة عظمتين جداً قويتين شديدتين ) اسم ربك ) أي المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال بتربيتك على أحسن الخلال حتى كنت في غاية الجلال والجمال .
ولما كان الإنسان محتاجاً في أن تكون حياته طيبة ليتمكن مما يريد إلى ثلاثة أشياء : كبير ينتمي إليه ليكون له به رفعة ينفعه بها عند مهماته ، ويدفع عنه عند ضروراته ، ومقتدى يربط به نفسه عند ملماته ، وطريقة مثلى ترتكبها كما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رضيت بالله رباً وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً ) أرشده ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن الانقطاع إليه أعلى الجاه ، فقال واصفاً لمن أمره بتسبيحه بإثبات ما له من الواجبات بعد نفي المستحيلات كما أشار إليه ( سبحانك وبحمد ) : ( الأعلى ) أي الذي له وصف الأعلوية في المكانة لا المكان على الإطلاق عن كل شائبة نقص وكل سوء من الإلحاد في شيء من أسمائه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه غلى غييره مع زعم أنهما فيه سواء ، وذكره خالياً عن التعظيم وغير ذلك ليكون راسخاً في التنزيه فيكون من أهل العرفان الذين يضيئون على الناس مع كونهم في الرسوخ كالأوتاد الشامخة التي هي مع علوها لا تتزحزح ، وقد ذكر سبحانه هذا المعنى معبراً عنه بجميع جهاته الأربع في ابتداء سور أربع استيعاباً لهذه الكلمة الحسنى الشريفة من جميع جهاتها .
فابتداء سورة الإسراء التي هي سورة الإحسان ب ( سبحان ) المصدر الصالح لجميع معانيه إعلاماً بأن هذا المعنى ثابت له مطلقاً غير مقيد بشيء من زمان أو غيره ، ثم ثنى بالماضي في أول الحديد والحشر والصف تصريحاً بوقوع ما أفهمه المصدر في الماضي الذي يشمل أزل الآزال إلى وقت الإنزال ، ثم ثلث في أول الجمعة والتغابن بالمضارع لأن يفهم مع ما أفهم المصدر والماضي دوام التجدد ، فلما تم ذلك من جميع وجوهه توجه الأمر فخصت به سورته ، وقد مضى في أول الحديد والجمعة ما يتمم هذا .
ولما كان الإبداع أدل ما يكون مع التنزه على الكمال لا سيما النور الذي هو سبب الانكشاف والظهور ، مع أنه تفصيل لقوله ( مم خلق ) وهو أدل شيء على البعث المذكور ( في يوم تبلى السرائر ) قال مبيناً للفاعل الذي أبهمه لوضوحه في ( مم خلق ) مرغباً في الفكر في أفعاله سبحانه وتعالى الذي هو السبب الأقرب للسعادة بالدلالة عليه بما له من الجائزات بعد الترغيب في الذكر الذي هو المهيئ للفكر : ( الذي خلق ) أي أوجد من العدم أي له صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء ) فسوّى ) أي أوقع مع الإيجاد وعقبه التسوية في كل خلق بأن جعل له ما يتأتى معه كماله ويتم معاشه ، وعدل بين(8/394)
صفحة رقم 395
الأمزجة الأربعة الماء والهواء والنار بعد أن قهرها على الجمع مع التضاد لئلا تتفاسد ، وذلك بالعلم التام والقدرة الكاملة دلالة على تمام حكمته وفعله بالاختيار .
وقال الاستاذ أبو جعفر بن ألزبير : لما قال سبحانه وتعالى مخبراً عن عمه الكفار في ظلام حيرتهم
77 ( ) إنهم يكيدون كيداً ( ) 7
[ الطارق : 15 ] وكان وقوع ذلك من العبيد المحاط بأعمالهم ودقائق أنفاسهم وأحوالهم من أقبح مرتكب وأبعده عن المعرفة بشيء من عظيم أمر الخالق جل جلاله وتعالى علاؤه وشأنه ، أتبع سبحانه ذلك بأمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بتنزيه ربه أي نزهه عن قبيح مقالهم ، وقدم التنبيه على التنزيه في أمثال هذا ونظائره ووقوع ذل أثناء السور فيما بين سورة وأخرى ، وأتبع سبحانه وتعالى من التعريف بعظيم قدرته وعليّ حكمته بما يبين ضلالهم فقال
77 ( ) الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ( ) 7
[ الأعلى : 2 - 3 ] فتبارك الله أحسن الخالقين ، وتنزه عما يتقوله المفترون - انتهى .
ولما كان جعل الأشياء على أقدار متفاوته مع الهداية إلى ما وقع الخلق له على أوجه متفاضلة مع التساوي في العناصر مما يلي التسوية ، وهو من خواص الملك الذي لا يكون لا مع الكمال ، أتبعه به بالواو دلالة على تمكن الأوصاف فقال : ( والذي قدر ) أي أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها ، وغير ذلك من أحوالها ، فجعل البطش لليد والمشي للرجل والسمع للأذن والبصر للعين ونحو ذلك ) فهدى ) أي أوقع بسبب تقديره وعقبه الهداية لذلك الذي وقع التقدير من أجله من الشكل والجواهر والأعراض التي هيأه بها لما يليق به طبعاً أو اختياراً بخلق الميول والإلهامات ، ونصب الدلائل والآيات لدفع الشرور وجلب الخيور ، فترى الطفل أول ما يقع من البطن يفتح فاه للرضاعة ، وغيره من سائر الحيوانات ، يهتدي إلى ما ينفعه من سائر الانتفاعات ، فالخالق لا بد له من التسوية ليحصل الاعتدال ، والتقدير لا بد له من الهداية ليحصل الكمال .
ولما كانت دلائل التوحيد تارة بالنفس وتارة بالآفاق ، ونبه بآيات النفس ، فلم يبق إلا آيات الآفاق ، وكان النبات من آياتها أدل المخلوقات على البعث قال : ( والذي أخرج ) أي أوقع إخراج ) المرعى ( بما أنزل من المعصرات فأنبت ما ترعاه الدواب من النجم وغيره بدءاً وإعادة ، فدل ذلك على تمام قدرته لا سيما على البعث لأنه سبحانه وتعالى أقدر على جمع الأموات من الأرض بنفسه بعد أن تفتتوا من الماء على جمعه للنبات الذي كان تفتت في الأرض وصار تراباً وإخراجه كما كان في العالم الماضي بإذنه سبحانه وتعالى وهو خلق من مخلوقاته .(8/395)
صفحة رقم 396
ولما كان إيباسه وتسويده بعد اخضراره ونموه في غاية الدلالة على تمام القدرة وكمال الاختيار بمعاقبة الأضداد على الذات الواحدة قال تعالى : ( فجعله ) أي بعد أطوار من زمن إخراجه ) غثاء ) أي كثيراً ، ثم أنهاه فأيبسه وهشمه ومزقه فجمع السيب بعضه إلى بعض فجعله زبداً وهالكاً وبالياً وفتاتاً على وجه الأرض ) أحوى ) أي في غاية الري حتى صار أسود يضرب إلى خضرة ، أو أحمر يضرب إلى سواد ، أو اشتدت خضرته فصارت تضرب إلى سواد ، وقال القزاز رحمه الله في ديوانه : الحوة شية من شيات الخيل ، وهى بين الدهمة والكمتة ، وكثر هذا حتى سموا كل أسود أحوى - انتهى .
فيجوز أن يريد حينئذ أنه أسود من شدة يبسه فحوته الرياح وجمعته من كل أوب حيت تفتت ، فكل من الكلمتين فيها حياة وموت ، وأخر الثانية لتحملها لأن دلالتها على الخضرة أتم ، فلو قدمت لم تصرف إلى غيرها ، فدل جمعه بين الأضداد على الذات الواحدة على كمال الاختيار ، وأما الطبائع فليس لها من التأثير لتحملهما لأن دلالتها على الخضرة أتم ، فلو قدمت لم تصرف إلى غيرها ، فدل جمعه بين الأضداد على الذات الواحدة على كمال الاختيار ، وأما الطبائع فليس لها من التأثير الذي أقامها سبحانه فيه إلا الإيجابي كالنار متى أصابت شيئاً أحرقته ، ولا تقدر بعد ذلك أن تنقله إلى صفة أخرى غير التي أثرتها فيه ، وأشار بالبداية والنهاية إلى تذكر ذلك ، وأنه على سبيل التكرار في كل عام الدال على بعث الخلائق ، وخص المرعى لأنه أدل على البعث لأنه مما ينبته الناس ، وذا انتهى تهشم وتفتت وصار تراباً ، ثم يعيده سبحانه بالماء على ما كان عليه سواء كما يفعل بالأموات سواء - من غير فرق أصلاً .
ولما استوفى سبحانه وتعالى وصف من أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتسبيحه بما دل على أوصاف جماله ونعوت كبريائه وجلاله ، وشرح ما له سبحانه من القدرة التامة على الإبداع والهداية والتصرف في الأرواح الحسية والمعنوية بالنشر والطي والقبض والبسط ، فدل على تمام أصول الدين بالدلالة على وجوده سبحانه على سبيل التنزل من ذاته إلى صفاته ثم إلى أفعاله فتم ما للخالق ، أتبعه ما للخلائق وبدأ بما لأشرف خلقه المنزل عليه هذا الذكر تقديراً للنوبة التي بها تتم السعادة بالحاقئق الواصلة من الحق إلى عبده ، التي بها يتم أمره من القوتين العلمية ثم العملية بقبول الرسالة بعد التوحيد ، لأن حياة الإنسان لا يتم طيبها إلا بمقتدي يقتدى به من أقواله وأفعاله وسائر أحواله ، ولا مقتدي مثل المعصوم عن كل ميل الموجب ذلك الحب من كل ما يعرف حاله ، والحب في الله أعظم دعائم الدين ، فقال معللاً للأمر بالتسبيح للموصوف بالجلال والجمال دالاً على أنه يحيي ميت الأرواح بالعلم كما يحيي ميت الأشباح بالأرواح ) سنقرئك ) أي نجعلك بعظمتنا بوعد لا خلف فيه على سبيل التكرار بالتجديد والاستمرار قارئاً ، أي جامعاً لهذا الذكر الذي هو حياة الأرواح بمنزلة حياة الأشباح ، الذي تقدم أنه قول فصل ، عالماً به(8/396)
صفحة رقم 397
كل علم ، ناشراً له في كل حي ، فارقاً به بين كل ملتبس ، وإن كانت أميّاً لا تحسن الكتابة ولا القراءة ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فلا تنسى ) أي شيئاً منه ولا من غيره ليكون في ذلك آيتان : كونك تقرأ وأنت أمي ، وكونك تخبر عن المستقبل فيكون كما قلت فلا تحرك به لسانك عند التنزيل بتعجل به ولا تتعب نفسك فإن علينا حفظه في صدرك وإنطاق لسانك به .
الأعلى : ( 7 - 10 ) إلا ما شاء. .. . .
) إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ( ( )
ولما كان سبحانه وتعالى ينسخ من الشريعة ما يشاء بحسب المصالح تخفيفاً لما له بهذه الأمة من الرفق ، قال لافتاً القول إلى سياق الغيبة إعلاماً بأن ذكر الجلالة أعظم من التصريح بأداة العظمة : ( إلا ما شاء الله ) أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، أن تنساه لأنه نسخه ، أو لتظهر عظمته في أن أعظم الخلق يغلبه القرآن لأنه صفة الله فتنسى الآية أو الكلمة ثم تذكرهاتارة بتذكير أحد من آحاد أمتك وتارة بغير ذلك .
ولما كان الفاعل لهذه الأمور كلها لا سيما الإقراء والحكم على ما يقرأ بأنه لا ينسى إلا ما شياء منه إلاّ يكون لا محيط العلم ، قال تعالى مصرحاً بذلك مؤكداً لأجل إنكار أهل القصور في النظر لمثله جارياً على أسلوب الغيبة معبراً بالضمير إشارة إلى تعاليه في العظمة غلى حيث تنقطع أماني الخلق عن إدراكه بما كثر من أفعاله : ( أنه ) أي الذي مهما شاء كان ) ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( ) [ النحل : 40 ] .
ولما كان المراد بيان إحاطة علمه سبحانه وتعالى ، وأن نسبة الجلي والخفي من جهره بالقرآن وترديده على قلبه سراً وغير ذلك إليه على حد سواء ، وكان السياق للجلي ، ذكرهما مصرحاً بكل منهما مقدماً الجلي لأن هذا مقامه ، وذكره بوصفه معبراً عنه بالاسم الدال على إحاطة علمه به فقال : ( يعلم الجهر ) أي ثابت له هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار في الإقراء والقراءة وغيرهما .
ولما ذكره باسمه ليدل على أنه يعلمه مطلقاً لا بقيد كونه جهراً ، قال مصرحاً بذلك : ( وما يخفى ) أي يتجدد خفاؤه من القراءة وغيرها على أي حالة كان الإخفاء ، فيدل على علمه به إذا جهر به بطريق الأولى .
ولما ذكر الإلهيات والنبوة وأشير إلى النسخ ، أشار إلى أن الدين المشروع له هو الحنيفية السمحة ، وأنه سبحانه وتعالى لا يقيمه في شيء بنسخ أو غيره إلا كان هو الأيسر له والأرفق ، لأن الرفق والعنف يتغيران بحسب الزمان ، فقال مبيناً للقوة العلمية(8/397)
صفحة رقم 398
أثر بيانه للعلمية : ( ونيسرك ) أي نجعلك أنت مهيأ مسهلاً مليناً موفقاً ) لليسرى ) أي في حفظ الوحي وتدبره وغير ذلك من الطرائق والحالات كلها التي هي لينة سهلة خفيفة - كما أشار إليه قوله : ( كل ميسر لما خلق له ) ولهذا لم يقل : ونيسر لك ، لأنه هو مطبوع على حبها .
ولما كمله ( صلى الله عليه وسلم ) وهيأه سبحانه وتعالى للأيسر ويسره غاية التيسير ، سبب عنه وجوب التذكير لكل أحد في كل حالة تكميلاً لغيره شفقة على خلق الله بعد لما له في نفسه فإن لله ساعات له فيها نفحات تقضى فيها الحاجات ، وذلك لأنه قد صار كالطبيب الحاذق في علاج المرضى فيقوم بنفع عباده لشكره بعد ذكره بإذن منه إشارة إلى التلميذ يحتاج إلى إذن المشايخ وتزكيتهم ، وإلى أن أعظم الأدواء أن يقتصر الإنسان على ما عنده ولا يطلب الازياد مما ليس عنده من خير الزاد فقال تعالى : ( فذكر ) أي بهذا الذكر الحكيم ، وعبر بأداة الشك إفهاماً للإطلاق الكليّ فقال : ( إن نفعت الذكرى ) أي إن جوزت نفعها وترجيته ولو كان على وجه ضعيف - بما أشار إليه تأنيث الفعل بعد ما أفادته أداة الشك ، ولا شك أن الإنسان لعدم علمه الغيب لا يقطع بعدم نفع أحد بل لا يزال على رجاء منه وإن استبعده ، ولهذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يزال يدعو غلى الله تعالى وإن اشتد الأمر ، ولا يحقر أحداً أن يدعوه ولا ييأس من أحد وإن اشتد عليه ، والأمر بالإعراض عمن تولى ونحو ذلك إنما هو بالإعراض عن الحزن عليه ومن تقطيع النفس لأجله حسرات ونحو ذلك .
ولما أمره بالتذكير لكل أحد ، قسم الناس له إلى قسمين : قسم يقبل العلاج ، وقسم لا يقبله ، إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى عالم بكل من القسمين جملة وأفراداً على التعيين ولم يزل عالماً بذلك ، ولكنه لم يعين ابتلاء منه لعباده لتقوم له الحجة عليهم بما يتعارفونه بينهم وله الحجة البالغة ، فقال حاثاً على شكر الجوائح من العقل ونحوه والجوارح من القلب واللسان وغيرهما : ( سيذكر ) أي بوعد لا خلف فيه ولو على أخفى وجوه التذكير - بما أشار إليه الإدغام ) من يخشى ) أي في جبلته نوع خشية ، وهو السعيد لما قدر له في نفسه من السعادة العظمة لقبول الحنيفية السمحة فيذكر ما يعلم منها في نفسه فيتعظ ، فإن الخشية حاملة على كل خير فيتنعم بقلبه وقالبه في الجنة العليا ويحيى فيها حياة طيبة من غير سقم ولا توى ، دائماً بلا آخر وانتهاء .(8/398)
صفحة رقم 399
الأعلى : ( 11 - 19 ) ويتجنبها الأشقى
) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ( ( )
ولما ذكر من يحب حبه في الله ذكر من يبغض في الله ، وعلامة الحب الاقتداء ، وعلامة البغض التجنب والانتهاء والابتداع والإباء ، فقال : ( يتجنبها ) أي يكلف نفسه وفطرته الأولى المستقيمة تجنب الذكرى التي نشاء تذكيره بها من أشرف الخلائق وأعظمهم وصلة بالخالق .
ولما كان هذا الذي يعالج نفسه على العوج شديد العتو قال : ( الأشقى ) أي الذي له هذا الوصف على الإطلاق لأنه خالف أشرف الرسل فهو لا يخشى فكان أشقى الناس ، كما أن من آمن به أشرف ممن آمن بمن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام .
ولما ذكر وصفه الذي أوجب له العمل السيىء ، ذكر جزاءه فقال : ( الذي يصلى ) أي يباشر مباشرة الغموس بقلبه وقالبه مقاسياً ) النار الكبرى ) أي التي هي أعظم الطبقات وهي السفلى لأنه ليس في طبعه أن يخشى ، بل هو كالجلمود الاقسى لأنه جاهل مقلد أو متكبر معاند ، أو المراد نار الأخرى فإنها أعظم من نار الأخرى فإنها أعظم من نار البرزخ وأعظم من نار الدنيا بسبعين جزءاً ، فلهذا استحقت أن تتصف بأفعل التفضيل على الإطلاق ، والآية من الاحتباك : ذكر الثمرة في الأول وهي الخشية دليلاً على حذف ضدها من الثاني ، وهي القسوة الناشئة على الحكم بالشقاوة ، وذكر الأصل والسبب في الثاني وهو الشقاوة دليلاً على حذف ضده في الأول وهو السعادة ، فالإسعاد سبب والخشية ثمرة ، والإشقاء سبب والقساوة ثمرة ومسبب ، وكذا ما نبعه من النار وما نشأ عنه ، وسر ذلك أنه ذكر مبدأ السعادة أولاً حثاً عليه ، ومآل الشقاوة ثانياً تحذيراً منه ، قال الملوي : ولا شك أن القرآن العظيم على أحسن ما يكون من البراعة في التركيب وبداعة الترتيب وكثرة العلوم مع الاختصار وعدم التكرار ، فيكتفي في موضع بالثمرة بلا سبب وفي آخر بالسبب بلا ثمرة لدلالة الأول على الثاني والثاني على الأول ، فيضم السبب إلى الثمرة والثمرة إلى السبب كما يطلق القضاء ويكتفى به عن القدر ، ويطلق القدر ويكتفى به عن القضاء ، وكذبك يذكر الحكم ويتركان فيدل عليهما فتذكر الثلاثة ، ويظهر بمثال وهو أن من أراد إقامة دولاب يهندس أولاً موضع البئر بسهمه وترسه ومداره وحوضة الذي يصب فيه الماء وجداوله التي ينساق منها ، فهذا هندسة وتدبير وحكم وإرادة ، فإذا صنع ذلك وإتمه سمي قضاء وإيجاداً وتأثيراً ، فإذا ركب على الجبال قواديس تحمل مقداراً من الماء معيناً إذا نزلت إلى الماء أخذته ، وإذا صعدت فانتهت وأرادات الهبوط فرغته فتصرف(8/399)
صفحة رقم 400
الماء من جداوله إلى ما صنع له كان ذلك قدراً فهو النهاية ، فمتى ذكر واحد من الثلاثة : الحكم والقضاء والقدر ، دل على الآخر .
ولما كان ما هذا شأنه يهلك على ما جرت به العادة في أسرع وقت ، فإذا كان من شأنه مع هذا العظم أنه لا يهلك كان ذلك دليلاً واضحاً على أنه لا يعلم كنه عظمة مقدره إلى هو سبحانه وتعالى فأشار إلى ذلك بالتعبير بأداة التراخي إعلاماً بأن مراتب هذه الشدة في التردد بين الموت والحياة لا يعلم علوها عن شدة الصلى إلا الله تعالى فقال : ( ثم لا يموت فيها ) أي لا يتجدد له في هذه النار موت وإن طال المدى .
ولما كان من يدخل النار فلا تؤثر في موته قد يكون ذلك إكراماً له من باب خرق العوائد ، احترز عنه بقوله : ( ولا يحيى ) أي حياة تنفعه لأنه ما تزكى فلا صدق ولا صلى .
ولما ثبت بهذا أن لهذا هذا الشقاء الأعظم ، فكان التقدير : لأنه لم يزك نفسه لأنه ما كان مطبوعاً على الخشية ، أنتج ولا بد قوله تعالى دالاً على الدين التكليفي وهو اجتناب واجتلاب ، فجمع الاجتناب والاجتلاب بالتزكية بالتبتل بالأبواب والملازمة للأعتاب بامتثال الأمر واجتناب النهي بالمجاهدات المقربات إليه سبحانه وتعالى ، المنجيات بعد ما حذر من المهلكات ، للمسارعة في محابه ومراضيه اجتماعاً على العبادة الموصلة للخالق بعد حصول الكمال والتكميل فإنه لا بد في الحياة الطيبة بعد الانتماء إلى ذي الجاه العريض والاقتداء بمن لا يزلغ من الارتباط بطريقة مثلى يحصل بها الاغتباط ليصل بها إلى المقصود ويعمّر أوقاته بوظائفها لئلا يحصل له خلل ولا ضياع لنفائس الأوقات ولا غفلة يستهويه بها قطاع الطريق : ( قد أفلح ) أي فاز بكل مراد ) من تزكّى ) أي أعمل نفسه في تطهيرها من فاسد الاعتقادات والأخلاق والأقوال والأفعال والأموال وتنمية أعمالها القلبية والقالبية وصدقة أموالها ، وذلك هو التسبيخ الذي أمر به أول السورة وما تأثر عنه ، من عمل هذا فهو الأسعد .
ولما كان أعظم الأعمال المزكية الذكر والصلاة قال تعالى : ( وذكر ) أي بالقلب واللسان ذكر وذكر - بالكسر والضم ) اسم ربه ) أي صفات المحسن إليه فإنه إذا ذكر الصفة سر بها فأفاض باطنه على ظاهره ذكر اللفظ الدال عليها ، وإذا ذكر اللفظ وهو الاسم الدال عليها انطبع في قلبه ذكر المسمى ) فصلّى ) أي الصلاة الشرعية لأنها أعظم الذكر ، فهي أعظم عبادات البدن كما أن الزكاة أعظم عبادات المال ، ومن فعل ذلك استراح من داء الإعجاب وما يتبعه من النقائص الموجبة لسوء الانقلاب ، وكان متخلقاً بما ذكر من أخلاق الله في أول السورة من التخلي عن النقائص بالتزيكة ، والتحلي بالكمالات بالذكر والصلاة لأنه لعظمته لا يتأهل لذكره إلا من واظب إلى ذكر(8/400)
صفحة رقم 401
اسمه فلا يشقى فلا يصلى النار الكبرى بوعد لا خلف فيه - فالآية من الاحتباك في الاحتباك : ذكر أولاً الصلى دليلاً على حذف ضده ثانياً ، التزكية دليلاً على حذف ضدها أولاً ، وقد تكفل ذكر التزكية والذكر ، والصلاة من أسباب لاتداوي بالإنضاج ثم الأشربة ثم الأغذية ، والآية صالحة لإرادة زكاة الفطر وتكبيرات العيد وصلاته وإن كانت السورة مكية وفرض الصيام بالمدينة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لإحاطة علمه سبحانه وتعالى بالماضي والحال والاستقبال على حد سواء ؛ قال الرازي في اللوامع : وتقدم زكاة الفطر على صلاة العيد ، وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول : رحم الله أمرأ تصدق ثم صلى - ثم يقرأ هذه الآية ، وإن كانت السورة مكية ، فإنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كما قال تعالى :
77 ( ) وأنت حل بهذا البلد ( ) 7
[ البلد : 2 ] والسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح - انتهى ، وأخذه من البغوي ، وزاد البغوي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر نافعاً رضي الله عنه بنحو ما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، ويقول : إنما نزلت هذه الآية في هذا .
وروى البزار : ( عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية ) وفي السند كثير بن عبد الله - حسّن له الترمذي وضعفه غيره - والله أعلم .
ولما كان التقدير : وأنتم لا تفعلون ذلك ، أو وهم لا يفعلونه - على القراءتين ، عطف عليه قوله بالخطاب في قراءة الجماعة على الالتفات الدال على تناهي الغضب ، منبهاً على المعاملات بسبب التداوي الرابع وهو الاستفراغ بنفي الرذائل والخبائث بالذم على ما ينبغي البراءة منه والحث على ما يتعين تحصيله تحصيلاً لحسن الرعاية : ( بل تؤثرون ) أي تختارون وتخصون بذلك على وجه الاستبداد ، أيها الأشقياء ، وبالغيب على الأصل عند أبي عمرو ) الحياة الدنيا ) أي الدنية بالفناء الحاضرة ، مع أنها شر وفانية ، اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات ، فاستغرق اشتغالكم بها أوقاتكم ومنعكم عن ذكر اسم الله المنهي إلى ذكر الله والمهيئ له ، وعن تزيكة نفوسكم ، فأوقعكم ذلك في داء القبقب وهو البطن ، والدبدب وهو الفرج ، وحب المال المؤدي إلى شر الأعمال ، وتتركون الآخرة ) والآخرة ) أي والحال أن الدار التي هي غاية الخلق ومقصود الأمر ، العالية المبرئة عن العبث ، المنزهة عن الخورج عن الحكمة ) خير ) أي من الدنيا على تقدير التسليم لأن فيها خيراً لأن نعيمها خالص لا(8/401)
صفحة رقم 402
كدر فيه بوجه ) وأبقى ) أي منها على تقدير المحال في الدنيا من أن تماديها إلى وقت زوالها تسمى بقاء ، لأن نعيم الآخرة دائم لا انقطاع له أصلاً ، وما كان باقياً لا يعادل بما يغني بوجه من الوجوه ، فمن علم ذلك - وهو أمر لا يجهل - اشتغل بما يحصل الآخرة وينفي الدنيا بقسميها من الأعيان الحسية والشهوات المعنوية من الرعونات النفسانية والمستلذات الوهمية ، والآية من الاحتباك : ذكر الإيثار والدنو أولاً يدل على الترك والعو ثانياً ، وذكر الخير والبقاء ثانياً يدل على ضدهما أولاً ، وسر ذلك أنه لا يؤثر الدنيء إلا دنيء فذكره أولاً لأنه لأشد في التنفير ، وذكر الخير والبقاء ثانياً لأنه أشد في الترغيب .
ولما كانت هذه النتيجة - التي هي الفلاح بالتزكية وما تبعها - خالصة الكتب المنزلة التي بها تدبير البقاء الأول ، وصفها ترغيباً فيها بوصف جمع القدم المستلزم للصحة بتوارد الأفكار على تعاقب الأعصار ، لأن ما مضت عليه السنون ومرت على قبوله الدهور تكون النفس أقبل للإذعان له وأدعى إلى إلزامه ، وأفاد مع القدم أن المنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام بل هو على منهاجهم ، فرد رسالته من بينهم لا يقول به منصف لا سيما وقد زاد عليهم في المعجزات وسائر الكرامات بقوله مؤكداً لأجل من يكذب : ( إن هذا ) أي الوعظ العظيم بالتسبيح الذي ذكر في هذه السور وما تأثر عنه من التزكية بالذكر الموجب للصلاة والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، لأنه جامع لكل خير ، وهو ثابت في كل شريعة لأنه المقصود بالحكم فهو لا يقبل النسخ ) لفي الصحف الأولى ( فمن تبع هذا القرآن الذي هو في هذه الصحف الربانية فقد تحلى من زينة اللسان بما ينقله من البيان الذي هو في غاية التحرير وعظم الشأن وما يعلمه من المغيبات مما يكون أو كان ، ونسيه أهل هذه الأزمان ، فاستراح من ضلال الشعراء والكهان ، الموقعين في الإثم والعدوان ، فإن القرآن جمع المديح الفائق والنسيب الرقيق في وصف الحور والرحيق والفخر الحماسي والهجاء البليغ لأعداء الله ، والترغيب الجاذب للقلوب والترهيب والملح الخبرية والحدود الشرعية - إلى غير ذلك من أمور لا تصل إليها الشعراء ، ولا ينتهي إلى أدنى جنابها بلاغات البلغاء .
ولما كان ذلك عاماً خص من بينه تعظيماً لقدر هذه الموعظة أعظم الأنبياء الأقدمين ، فقال مبدلاً مشيراً إلى الاستدلال بالتجربة : ( صحف إبراهيم ( قدمه لأن صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه ) وموسى ( ختم به لأن الغالب على كتابه الأحكام ، والمواعظ فيه قليلة ، ومنها الزواجر البليغة(8/402)
صفحة رقم 403
كاللعن لمن خالف أومر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والإخبار بأنهم يخالفونها كما هو مذكور في أواخرها مع أن ذكر النبيين عليهما الصلاة والسلام على الأصل في ترتيب الوجود والأفضلية ، وقد حث آخرها على التزكي وهوالتطهر من الأدناس الذي هو معنى التنهزه والتخلق بأخلاق الله بحسب الطاقة ، وكان في إتيانه والتذكير به إعلام بأن الله تعالى لم يهمل الخلق من البيان بعد أن خلقهم لأنه لم يخلقهم سدى ، لأن ذلك من العبث الذي هو من أكبر النقائص وهو سبحانه منزه عن جميع شوائب النقص - فقد رجع آخرها على أولها ، وكان تنزيه الرب سبحانه وتعالى وتنزيه النفس أيضاً غاية معولها - والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .
.. .(8/403)
صفحة رقم 404
سورة الغاشية
مقصودها شرح ما في آخر " سبح " من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث بإثبات الدار الآخرة التي الغاشية مبدؤها ، وذكر ما فيها للأتقى والأشقى ، والدلالة على القدرة عليها ، وأدل ما فيها على هذا المقصود الغاشية - نعوذ بالله من القلب الغاشي والبصيرة الغاشية ، بئلا تكون الغاشية علينا بسوء الأعمال ناشية ) بسم الله ( الذي له العظمة البالغة والحكمة الباهرة ) الرحمنْ ( الذي له الفيض الأعلى والنعم الظاهرة ) الرحيم ( الذي اصطفى أولياء فأصلح بواطن نعمهم حتى عادت ظاهرة طاهرة .
الغاشية : ( 1 - 6 ) هل أتاك حديث. .. . .
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( ( )
لما ختمت ( سبح ) بالحث على تطهير النفوس عن وضر الدنيا ، ورغب في ذلك بخيرية الآخرة تارة والاقتداء بأولي العزم من الأنبياء أخرى ، رهب أول هذه من الإعراض عن ذلك مرة ، ومن التزكي بغير منهاج الرسل أخرى ، فقال تعالى مذكراً بالآخرة التي حث عليها آخر تلك مقرراً لأشرف خلقه ( صلى الله عليه وسلم ) لأن ذلك أعظم في تقدير اتباعه وأقعد في تحريك النفوس غلى تلقي الخبر بالقبول : ( هل أتاك ) أي جاءك وكان لك وواجهك على وجه الوضوح يا أعظم خلقنا ) حديث الغاشية ) أي القيامة التي تغشي الناس بدواهيها وشدائدها العظمى وزواجرها ونواهيها ، فإن الغشي لا يكون إلا فيما يكره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم تنزيهه سبحانه عما توهم الظالمون ، واستمرت آي السورة على ما يوضح تقدس الخالق جل جلاله عن عظيم مقالهم ، أتبع ذلك بذكر الغاشية بعد افتتاح السورة بصورة الاستفهام تعظيماً لأمرها ، فقال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هل أتاك ) يا محمد ( حديث الغاشية ) وهي القيامة ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : في(8/404)
صفحة رقم 405
ذلك اليوم يشاهدون جزاءهم ويشتد تحسرهم حين لا يغني عنهم ، ثم عرف بعظيم امتحانهم في قوله : ( ليس لهم طعام إلا من ضريع ( مع ما بعد ذلك وما قبله ، ثم عرف بذكر حال منكان في نقيض حالهم إذ ذلك أزيد في الرح وأدهى ، ثم أردف بذكر ما نصب من الدلائل وكيف لم يغن فقال : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( - الآيات ، أي أفلا يعتبرون بكل ذلك ويستدلون بالصنعة على الصانع ثم أمره بالتذكار - انتهى .
ولما هول أمرها بانبهامها وعمومها ، زاد في التهويل بما ذكر من أحوالها في تفصيل الناس إلى شقي وسعيد ، وبدأ بالشقي لأن المقام لإنذار المؤثرين للحياة الدنيا ، وسوّغ الابتداء بالنكرة التفصيل فقال : ( وجوه ) أي كثيرة جداً كائنة ) يومئذ ) أي إذ تغشى الناس ) خاشعة ) أي ذليلة مخبتة من الخجل والفضيحة والخوف والحسرة التي لا تنفع في مثل هذا الوقت ) عاملة ) أي مجتهدة في الأعمال التي تبتغي بها النجاة حيث لا نجاة بفوات دار العمل فتراها جاهدة فيما كلفتها به الزبانية من جر السلاسل والأغلال وخوص الغمرات من النيران ونحو ذلك كأن يقال له : أدّ الأمانة ثم تمثل له أمانته في قعر جهنم ، فتكلف النزول إليها وهكذا ، وهذا بما كان يهمل العمل في الدنيا ) ناصبة ) أي هي في ذلك في غاية التعب والدؤوب في العمل والاجتهاد - هذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وذلك لأنهم لم يخشوا الله في الدنا فلم يعملوا له فلم ينصبوا في طاعته أجسادهم فاضطرهم في ذلك اليوم إلى أعظم مما أبوه في الدنيا مع المضرة دون المنفعة ، ويجوز أن يراد بها الذين تعبوا ونصبوا في الدنيا أجسامهم وهم على غير دين الإسلام كالرهبان من النصارى بعد النسخ وزنادقة المتصوفة من الفلاسفة وأتباعهم ، بأن يكون ( وجوه ) مبتدأ و ( يومئذ ) خبره أي كائنة يومئذ ، ثم يقدر ما بعده في جواب سؤال سائر يقول : ما شأنها ؟ فأجيب بقوله خاشعة ، أي في الدنيا - إلى آخره ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء عنه .
ولما كان العذاب لا يكون إلا على ما يكرهه المعذب ، دل على ذلك وعلى أنه على أنهى مان يكون ببناء الفعل للمفعول في قراءة أبي عمرو ويعقوب وأبي بكر عن عاصم فقال : ( تصلى ) أي يصليها مصل على أيسر وجه وأسهله بأمر من له الأمر بأن يغمسها قهراً على وجه الإحاطة بها ، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل : تدخل وتباشر بأن يدسها فيها أصحابها فيحيط بها من كل جانب وهو يدل على غاية الذل لأن من فعل بنفسه هذا لا يكون إلا كذلك ) ناراً حامية ( متناهية في الحر لأنها عملت(8/405)
صفحة رقم 406
بالجهل على خلاف ما حده لها نبيها فأخلت بركن للعمل أو شرط لما استولى عليها من الغفلة التي أحاطت بها ، فلم تدع لها موضعاً يصلح لدخول الرحمة منه .
ولما كان من في الحر أحوج شيء إلى ما يبرد باطنه ، قال بانياً عند الكل للمفعول جرياً على قراءة أبي عمرو في الذي قبله : ( تسقى ) أي يسقى كل من أذن له الملك في ذلك على أهون وجه وأيسره ) من عين آنية ) أي بلغت غايتها في الحر فنضجت غاية النضج فصارت إذا قربوها منهم سقط لحم وجوههم ، وإذا شربوا قطعت أمعاءهم مما شربوا في الدنيا من كاسات الهوى التي قطعوا باستلذاذهم لها قلوب الأولياء .
ولما ذكر ما يسقونه على وجه علم منه أنه لا يلذذ ولا يروي من عطش ، أتبعه ما يطعمونه فقال حاصراً له : ( ليس لهم ) أي هؤلاء الذين أذابوا أنفسهم في عبادة لم يأذن الله فيها ) طعام ( أصلاً ) إلا من ضريع ) أي يبيس الشبرق ، وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته ، وهو سم ، وقال في القاموس : والضريع كأمير : الشبرق أو يبيسه أو نبات رطبه يسمى شبرقاً ، ويابسه يسمى ضريعاً ، لا تقربه دابة لخبثه ، أو شيء في جهنم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأحرّ من النار ، ونبات منتن يرمى به البحر ، وقال الهروي في الغريبين وعبد الحق في الواعي : الضريع : الشبرق ، وهو نبات معروف بالحجاز ذو شوك ، ويقال شبرق ما دام رطباً ، فإذا جف فهو ضريع ، وقال القزاز في ديوانه : الضريع : يبيس من يبيس الشجر ، وقيل : هو يبيس الشبرق خاصة ، وقيل : هو نبات أخضر يرمى به البحر وهو منتن .
أبو حنيفة رحمه الله تعالى : وهو مرعى لا تعقد عليه السائمة شحماً ولا لحماً وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها .
وقال ابن الأثير في النهاية : الضريع هو نبت بالحجاز له شوك كبار ، وقال : الشبرق نبات حجازي يؤكل وله شوك ، وإذا يبس سمي الضريع .
وهذا ثوب مشبرق وهو الذي أفسد ، وفي نسجه سخافة ، وشبرقت الثوب أيضاً : حرقته ، وقال في القاموس : الشبرق كزبرج : رطب الضريع واحده بهاء ، قال البغوي رحمه الله تعالى : قال مجاهد وقتادة وعكرمة : هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض ، تسميه قريش الشبرق ، فإذا هاج سموه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ولا يمتنع في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يكون الغسلين إذا انفصل عن أبدان أهل النار صار على هيسة الشبرق المسمى ضريعاً ، فيكون طعامهم الغسلين الذي هو الضريع ، ويمكن أن يكون ذلك كناية عن أقبح العيش ولا يراد به شيء بعينه - والله تعالى أعلم ، قال الملوي : وسمي ضريعاً لأن الإنسان يتضرع عند أكله من خشونته ومرارته ونتنه .(8/406)
صفحة رقم 407
الغاشية : ( 7 - 13 ) لا يسمن ولا. .. . .
) لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( ( )
ولما حصر أكلهم في هذا ، وكان الضريع المعروف عند العرب قد يتصور متصور أنه لو أكره شيء على أكله أسمنه أو سد جوعته ، وكان الضريع المأكول لهم في القيامة شوكاً من نار كما ورد تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفى عند فائدة الطعام ، فقال واصصفاً الضريع أو الطعام المقدر بعد ( إلا ) بما يفهمه تحامي الإبل التي ترعى كل نابت وهي أعظم الحيوانات إقبالاً على أنواع الشوك له من أنه ضر بلا نفع ) لا يسمن ) أي فلا يشبتع ولا يقوي لأنه يلزم ما يسمن ، فعدمه يلازم عدمه .
ولما نفى عنه ما هو مقصود أهل الرفاهية وبدأ به لأن المقام له نفي ما يقصد للكفاف فقال تعالى : ( ولا يغني ) أي يكفي كفاية مبتدئة ) من جوع ( فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال ، والمقصود من الطعام أحد الأمرين ، وذلك لأنهم كانوا يأكلون الحرام الذي تنبت عليه لحومهم فيفسدها بفساده وتنمو به نفوسهم فيخبثها بخبثه ويتغذون بالشبه أيضاً ويباشرونها في جميع أوقاتهم ويباشرون العلوم التي تظلم القلوب كالفلسفة والشعر والسحر ونحو ذلك مما يجر إلى البدع .
والآية من الاحتباك : نفي السمن أولاً يدل على إثبات الهزال ثانياً ، ونفي الإغناء من الجزع ثانياً يدل على نفي الشبع أولاً ، ومن جعل ذلك سفة الطعام أفسد المعنى لأنه يؤول إلى : ليس لهم طعام منفي عنه الإسمان والإغناء ، بل لهم طعام لا ينفي عنه ذلك .
ولما ذكر الأعداء وقدمهم لما تقدم ، أتبعه الأولياء فقال مستأنفاً ذكر ما لهم من ضد ما ذكر للأعداء : ( وجوه يومئذ ) أي إذ كان ما ذكر ) ناعمة ) أي ذات بهجة وسرور تظهر عليها النعمة والنضرة والراحة والرفاهية بضد تلك الناصبة ، لأن هؤلاء أتبعوا أنفسهم في دار العمل الدنيا وصبروا على التقشف وشظف العيش ) لسعيها ) أي عملها للآخرة الذي كأنه لا سعي غيره خاصة لعملمها أنه منج ) راضية ( لما رأت من ثوابه تود أن جميع سعيها في الدنيا كان لذلك بعد أن كان ذلك السعي الذي هو للآخرة كريهاً إليها في الدنيا لا تباشره إلا بشق الأنفس .
ولما ذكر السعي أتبعه ثوابه فقال : ( في جنة عالية ) أي في المكان العالي والمكانة العالية والأشجار والغرف وغير ذلك بما صرفوا أنفسهم عن الدنايا ورفعوا هممهم إلى النفائس .
ولما كان ما كان من هذا لا يصفو ، وفيه ما يكره من الكلام قال منزهاً لها عن كل سوء : ( لا تسمع ) أي أيها الداخل إليها - على قراءة الجماعة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بالبناء للمفعول وهو أبلغ في النفي ) فيها لاغية ) أي لغو ما أو(8/407)
صفحة رقم 408
نفس تلغو أو كلمة ذات لغو على الإسناد المجازي ، بل المسموع فيها الذكر من التحميد والتمجيد والتنزيه لحمل ما يرى فيها من البدائع على ذلك مع نزع الحظوظ الحاملة على غيره من القلوب بما كانوا يكرهون من لغو أهل الدنيا المنافي للحكمة .
ولما وصف الجنة بأول ما يعتبر فيها وهو عدم المنغص ، أتبعه ما يطلب بعده وهو تناول الملتذات ، وكان الأكل قد فهم من ذكر لفظ الجنة ، ذكر المشروب لذلك ولدلالته إذا كان جارياً على زيادة حسن الجنة وكثر ما فيها من النباتات المقيتة والمفكهة من النجم والأشجار والري الأطيار ، فقال لأنه ليس كل جنة مما نعرفه فيه ماء جارٍ بنفسه : ( فيها ) أي الجنة .
ولما كان الماء الجاري صالحاً لأن يقسم إلى أماكن كثيرة ، وحد قوله المراد به الجنس الشامل للكثير مقابلة لعين أهل النار في دار البوار : ( عين جارية ) أي عظيمة الجري جداً ، فهي بحيث لا تنقطع أصلاً لما لأرضها من الزكاء والكرم وما لمائها من الغزارة وطيب العنصر ، فهو صالح لأن يعم جميع نواحيها أقاصيها وأدانيها وإن عظم اتساعها وتناءت أقطارها وبقاعها ، كما نراه يجري من ساق الشجرة الكبيرة جداً فيسقي جميع أغصانها وأوراقها وثمارها ، ويزيد على ذلك بأن جريه من أسفل إلى فوق ، يجدبه جادب الشوق ويسوقه أي سوق يقدره الخلاق العليم ، والذي قدر على هذا كما هو مشاهد لنا لا نشك فيه قادر على أن يجعل هذه العين - الصالحة للجنس ولو كانت واحدة بالشخص - عامة لجميع مرافق الجنة تجري إلى خيامها ورياضها وبساتينها ومصانعها ومجالسها ويصعدها إلى أعالي غرفها وإن علت ، مقسمة بحسب المصالح ، موزعة على قدر المنافع ، بغاية الإحكام بما كان لداخلها من الخضوع الذي يجري منهم الدموع ويقل الهجوع ويكثير الظمأ والجوع .
ولما لم يبق بعد الأكل والشرب إلا الاتكاء ، قال مفهماً أنهم ملوك : ( فيها ( معيداً الخبر قطعاً للكلام عن الأول تنبيهاً على شرف العين لأن الماء مما لا حياة بدونه ) سرر ) أي زائدة الحد في العكثرة ، جمع سرير وهو مقعد عال يجلس عليه الملك ينقل إلى الموضع الذي يشتهيه ، سمي بذلك لأنه يسر النفس ، والمادة كلها للسرور والطيب والكرم ، ولذلك يطلق على الملك والنعمة وخفض العيش ) مرفوعة ) أي رفعها رافع عظيم في السمك وهو جهة العلو ليرى الجالس عليها جميع ملكه وما نعم به وما شاء الله من غيره وفي القدر ، لا كما تعهدونه في الدنيا ، بل ارتفاعها نمط جليل من مقدار عظمة رافعها الذي رفع السماء ، فالتنكير للتعظيم ، وبنى الاسم للمفعول للدلالة على أنه ليس له من ذاتها إلا الانخفاض ، وأما ارتفاعها فبقسر القادر على كل شيء ، وهذا يدل على أنها كسماء لا عمد لها ، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما :(8/408)
صفحة رقم 409
ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها - ثم ترتفع إلى مواضعها - انتهى .
وذلك بما كانوا يتواضعون ويباشرون من مشاق العبادات على التراب ورث الأثواب .
الغاشية : ( 14 - 22 ) وأكواب موضوعة
) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( ( )
ولما كان المستريح يحتاج إلى تكرار الشرب وما يشرب فيه قال : ( وأكواب ( جمع كوب وهو إناء لا عروة له ، فهو صالح للمناولة والشرب من كل جهة ) موضوعة ) أي ملآى وهي بحيث يسهل عليهم تناولها .
ولما كان من هو بهذه المثابة يحتاج إلى المساند والفرش الزائدة قال تعالى : ( ونمارق ) أي مساند يستندون إليها ، جمع نمرقة بالفتح والضم وهي الوسادة ) مصفوفة ) أي بعضها إلى بعض فهي في غاية الكثرة كأنها الروابي المنضدة على بساط الأرض ) وزرابيّ ) أي بسط عريضة كثيرة الوبر كأنها الرياض فاخرة ناضرة زائدة عن مواضع استراحاتهم ، وهي جمع زربية ) مبثوية ) أي مبسوطة على وجه التفرق في المواضع التي لا يراد التنزه بها من مواضع الرياحين النابتة والأشجار المتشابكة كما بسط سبحانه وتعالى أديم الأرض ورصعه بأنواع النبات الفاخرة بما بسطوا أنفسهم في الدنيا للحق وألانوها له .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من تصوير تلك الدار على ما يليق بهذه السور القصار ، وكانوا ينكرون غاية الإنكار فوبخهم بما يعصمهم من الزيغ عن العقائد الحقة في استفهام إنكاري مذكراً لهم بأمورهم في غاية الوضوح في نفسها ، لأن نزول هذه السور كان في أول الأمر قبل أن يتمرنوا على المعارف تدل على قدرته على البعث وعلى قدرته على ما ذكر ما هذه الأمور التي أودعها الجنان للذة الإنسان ، وذلك لما في هذه الأمور التي ذكر بها سبحانه من عجائب الصنع مع تفاوته في جعل بعضها ذا اختيار في الخفض والرفع ، وبعضها على كيفية واحدة لا قدرة له على الانفكاك عنها من علو أو سفول مع التمهد أو التوعر ، فقال مسبباً عما مضى من الإخبار عن أحوال الفريقين في الآخرة وعن قدرته على ما ذكر : ( أفلا ينظرون ) أي المنكرون من هذه الأمة لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة وما ذكر فيها والنار وما ذكر فيها - نظر اعتبار .
ولما كان لهم من ملابسة الإبل ما ليس لهم من ملابسة غيرها ، وكانت فردة في(8/409)
صفحة رقم 410
المخلوقات لا شبيه لها مع ما لها من كثرة المنافع كما قال الحسن رحمه الله تعالى - مع أكلها لكل مرعى واجتزائها بأيسر شيء لا سيما في الماء وطول صبرها عنه مع عظم خلقها وكبر جرمها وشدة قوتها ، فكانت أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار ، قال منبهاً بذكرها على التدبر في الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً بعد ما أشار إلى دلالتها على البعث في البروج بذكر ثمود بعد أن صرح به في سورة سبحانه كما مضى بيانه في الموضعين ويأتي إن شاء الله تعالى في الفجر والشمس ، وأوضح التعبير عنها هنا بما يدل على الخطة المميلة المحيلة المناسبة لمعنى الغاشية بخلاف التعبير في سورة النحل بالأنعام لأنها سورة النعم ) إلى الإبل ( ونبه على أن عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدواعي على الاستفهام والسؤال عنه بأدة الاستفهام ، فقال بانياً للمفعول إشارة إلى أن الدال هو التأمل في مجرد خلقها الدال على إحاطة علم الله وعظيم إحسانه وقدرته تعالى وفعله بالاختيار وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة به من غير معين ، منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار الثقال ترعى كل نبات وتحمتمل العطش إلى عشر فصاعداً ليتأتى بها قطع المفاوز ، فهي سفن البر مع ما لها من منافع أخر ، قال البيضاوي : ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولأنها أعجب ما عند العرب - انتهى ، وتنفعل للبسط وتجد في سيرها فتتأثر بالصوت الحسن جداً ، ومن عجائبها أنها لا تكذب أصلاً فإنها لا تبرك عجزاً عن الحمل - إلا وليس فيها من القوى شيء ، وليس فيها ما تعم كراهته إلا كثرة رغائها فلعله سبحانه نفى عن الجنة اللغو لذلك ، ولعله مثل العين الجارية وقربها بدرها ، والسرر المرفوعة التي حكى أنها تنخفض حتى يتمكن المنتفع بها من ظهورها ثم ترتفع به بالسماء في علوها مع ما يعهدون من بروك الإبل للحمل والركوب ثم ارتفاعها لتمام الانتفاع ، وقرب نصب الاكواب بسنامها والنمارق ببقيتها حال بروكها ، ثم فصل ما دلت عليه الإبل من الاكواب بالجبال التي لا ترتقى مثل جبل السد ، والنمارق بالتي ترتقى ، وبسط الزرابي بمهد الأرض ، قال أبو حيان رحمه الله تعالى : و ) كيف ( سؤال عن حال والعامل فيه ) خلقت ( وإذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته .
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا المخلوق المفرد الذي هو أدل ما يكون على هذا القول بالطبيعة ، أتبعه ذكر السماء ليتذكر السامع ذلك فيباعد من يقول به فقال : ( وإلا السماء ) أي التي هي من جملة مخلوقاتنا ) كيف رفعت ) أي حصل بأيسر أمر رفعها(8/410)
صفحة رقم 411
من الذي خلقها بلا عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام وما فيها من جبال الكواكب والغرائب والعجائب ، فذلك دال على القدرة التامة التي لا يشارك تعالى فيها أحد قل ولا جل على إيجاد الجنة العالية وعلى رفع السرر فيها لأنه دل على الفعل بالاختيار ونفي حكم الطبيعة حكماً وحتماً ، وذلك دال على كمال قدرته تعالى على كل شيء .
ولما ذكر العالي من الحيوان الملابس للانسان والعالي من الأكوان ، أتبعه أعلى الأعرض فقال تعالى : ( وإلى الجبال ) أي الشامخة وهي أشد الأرض ) كيف نصبت ) أي كان نصبها من ناصبها عالية جداً على بقية الأرض بلا موجب فيها لذلك من طبيعة ولا غيرها بل بفعل الفاعل المختار فهي راسخة لا تميل ، فوضعها كذلك على ما فيها من المنافع من المياه الجارية والأشجار المختلفة أعجب من وضع الأكواب والنمارق المزينة ، وبها مع ذلك ثبتت الأرض وحفظت من الميد ، واعتدل أمر الكواكب في تقدير الليل والنهار باعتدال البلاد بالطلق بإعلاء بعضها قبل بعض حتى كانت المطالع والمغارب على ترتيب مطرد ونظام محكم غير منخرم تقدر به الأزمان والفصول والسنون والأيام والشهور - إلى غير ذلك من الأمور ، ولا يكون ذلك لها إلا بقاهر قادر مختار لا شريك له .
ولما كان الخفض لا يكون إلا بخافض قاهر كما أن الرفع كذلك قال تعالى : ( وإلا الأرض ) أي مع سعتها ) كيف سطحت ) أي اتفق بسطها من باسطها حتى صارت مهاداً موضوعاً يمشي عليه بغاية السهولة ، والقدرة على جعلها كذلك على ما هي فيه من الزينة بناصر النبات وغير ذلك من الاختلافات دالة على الفعل بالاختيار ، وليست بدون القدرة على بث الزرابي في الجنة على اختلاف أشكالها وصورها وألوانها .
ولما دل ما ذكر من عجائب صنعه في أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات العلويات ولاسفليات على كمال قدرته على كل شيء ، فدل على كمال قدرته - على البعث وعلى كل ما ذكر أنه يفعله في الجنة والنار ، وكان الحث على النظر في هذه الأشياء باستفهام إنكاري ، وكان ذلك مفيداً لانتفاء النظر ، قال سبحانه مسبباً عنه : ( فذكر ( كل من يرجى تذكره وانتفاعه بالتذكير يا أشرف خخلقنا بما في غرائزهم وفطرهم من العلم الأولى بما في هذه الأشياء وأمثالها مما يدل على صحة ما نزلنا عليك ليدلهم على كمال قدرة الذي بعثك فينقادوا لك أتم انقياد لا سيما في اعتقاد حقية البعث ، ولا يهمنك كونهم لا ينظرون ولا يتطرفون ، ولعل التذكير يوصل المتذكر إذا أقبل عليه بحسن رغبة إلى أن يعرف أن الإبل تشبه الأنفس المطمئنة الذلولة المطيعة المناقدة ، (8/411)
صفحة رقم 412
والسماء تشبه الأرواح القدسية النورانية ، والجبال تشبه العقول والمعارف الثابتة الراسخة ، والأرض تشبه البدن المشتمل على الأعضاء والأركان .
ولما كانت هذه السورة مكية من أوائل ما أنزل ، وكان مأموراً إذ ذاك بالصفح قال : ( إنما أنت مذكر ) أي لا مقاتل قاهر قاسر لهم على التذكر والرجوع ، فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكروا لأنه ما عليك إلا البلاغ ، ولذلك قال ) لست ( وأشار إلى القهر بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ) أي خاصة ) بمصيطر ) أي بمتسلط ، وأما غيرهم فسنسلطك عليهم عن قريب ، وقرأها الكسائي بالسين على الأصل .
الغاشية : ( 23 - 26 ) إلا من تولى. .. . .
) إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( ( )
ولما نفى عنهم تسلط الدنيا ، وكان التقدير : فمن أقبل وآمن فإن الله ينعمه النعيم الأكبر ، قال مستدركاً قسيمهم في صورة الاستثناء : ( إلا ) أي لكن ) من تولى ) أي كلف نفسه المطمئنة وفطرته الأولى المستقيمة للإعراض ) وكفر ) أي وأصر على كفره ، وأجاب الشرط بقوله مسبباً عنه : ( فيعذبه ( أشد العذاب الذي لا يطيقه أصلب لأمرك المطاع ومرادك الذي كله الحسن الجميل ، ولعله صوره وهو منقطع بصورة المتصل بالتعبير بأداته إشارة إلى أن العذاب من الله عذاب منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن سببه تكذيبهم له ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( ألا ) بالفتح والتخفيف على أنها استفتاحية ) العذاب الأكبر ( يعني عذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً فيكون المعنى : أن من أصر على الكفر يسلطه الله عليه فيقتله فيعذبه الله في الدار الآخرة ، ثم علل إخباره عنه عذابه في الآخرة بقوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : ( إن إلينا ) أي خاصة بما لنا من العظمة والكبرياء ) إيابهم ) أي رجوعهم وإن أبوا بالموت ثم بالبعث ثم بالحشر .
ولما كان الحساب متأخراً عن ذلك كله ، وعظيماً كماً وكيفاً ، عظمه بأداة التراخي فقال : ( ثم إن ( أكده لإنكارهم ، وأتى بأداة دالة على أنه كالواجب في أنه لا بد منه فقال : ( علينا ) أي خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العبث والجور وكل نقص ، لا على غيرنا ، لأن غيرنا لا قدرة له فقد تقدمنا فيه بالوعود الصادقة ، وأكدناها غاية التأكيد ) حسابهم ) أي يوم القيامة على النقير والقطمير ، وغير ذلك من كل صغير وكبير ، وذلك يكون في الغاشية يوم ينقسم الناس قسمين : في دار هوان ، ودار أمان ، فقد ألتف آخرها بأولها ، وتعانق مفصلها بموصلها - والله الهادي للصواب وإليه المآب .
.. .(8/412)
صفحة رقم 413
سورة الفجر
مقصودها الاستدلال على آخر الغاشية الإياب والحساب ، وأدل ما فيها على هذا المقصود الفجر بانفجار الصبح عن النهار الماضي بالأمس من غير فرق في شيء من الذات وانبعاث النيام من الموت الأصغر وهو النوم بالانتشار يفي ضياء النهار لطلب المعايش للمجازاة في الحساب بالثواب والعقاب ) بسم الله ( جامع العباد بعد تمزيقهم بما له من العظمة ) الرحمن ( الذي عمهم بعد العموم بالإيجاد بالبيان المهيئ من شاء للإيمان ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح الجنان .
الفجر : ( 1 - 8 ) والفجر
) وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ ( ( )
لما ختمت تلك بأنه لا بد من الإياب والحساب ، وكان تغيير الليل والنهار وتجديد كل منهما بعد إعدامه دالاًّ على القدرة على البعث ، وكان الحج قد جعله الله في شررعه له على وجه التجرد عن المخيط ولزوم التلبية والسير إلى الأماكن المخصوصة آية مذكرة بذلك قال : ( والفجر ) أي الكامل في هذا الوصف لما له من العظمة حتى كأنه لا فجر غيره ، وهو فجر يوم النحر الذي هو أول الأيام الآخذة في الإياب إلى بيت الله الحرام بدخول حرمه والتحلل من محارمه وأكل ضيافته .
ولما ذكر هذا اليوم بما العبارة به عنه أدل على البعث لأنه ينفجر عن صبح قد أضاء ، ونهار قد انبرهم وانقضى ، لا فرق بينه وبين ما مضى ، عم فقال معبراً بالمقابل : ( وليال عشر ( هي أعظم ليالي العام .
وهي آية الله على البعث بالقيام إلى إجابة داعي الله تعالى على هيئة الأموات ) والشفع ) أي لمن تعجل في يومين ) والوتر ) أي لمن أتم - قاله ابن الزبير ، وروى أحمد والبزار برجال الصحيح عن عياش بن عقبة وهو ثقة(8/413)
صفحة رقم 414
عن جابر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( العشر الأضحى ، والشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة ) .
ولما كان تعاقب الليل والنهار أدل على القدرة وأظهر في النعمة ، قال رادّاً لآخر القسم على أوله ، ومذكراً بالنعمة وكمال القدرة ، لأن الليل أخفاهما سُرى وسراً ، فهو أعظمهما في ذلك أمراً ، لأن سير النهار ظاهر لسرايته بخلاف الليل فإنه محوى صرفه فكان أدل على القدرة ) والّيل ) أي من ليلة النفر ) إذا يسر ) أي ينقضي كما ينقضي ليل الدنيا وظلام ظلمها فيخلفه الفجر ويسرى فيه الذين آبوا إلى الله راجعين إلى ديارهم بعد حط أوزارهم ، وقد رجع آخر القسم على أوله - وأثبت الياء في يسري ابن كثير ويعقوب وحذفها الباقو ، وعلة حذفها قد سأل عنها المؤرج الأخفش فقال : اخدمني سنة ، فسأله بعد سنة فقال : الليل يسرى فيه ولا يسري ، فعدل به عن معناه فوجب أن يعدل عن لفظه كقوله تعالى :
77 ( ) وما كانت أمك بغيّاً ( ) 7
[ مريم : 28 ] لما عدل عن ( باغية ) عدل لفظه فلم يقل : بغية - انتهى ، وهو يرجع إلى اللفظ مع أنه يلزم منه رد روايات الإثبات ، والحكمة المعنوية فيه - والله أعلم - من جهة الساري وما يقع السرى فيه ، فأما من جهة الساري فانقسامهم ليلة النفر إلى مجاور وراجع إلى بلاده ، فأشير إلى المجاورين بالحذف حثاً على ذلك لما فيه من جلالة المسالك ، فكان ليل وصالحهم ما انقضى كله ، فهم يغتنمون حلوله ويلتذون طوله من تلك المشاهد والمشاعر والمعاهد ، وإلى الراجعين بالإثبات لما سرى الليل بحذافيره عنهم آبوا راجعين إلى ديارهم فيما انكشف من نهارهم ، وأما من جهة ما وقع فيه السرى فللاشارة إلى طوله تارة وقصره أخرى ، فالحذف إشارة إلى القصير والإثبات إشارة إلى الطويل بما وقع من تمام سراه وما وقع للسارين فيه من قيام وصف الأقدم بين يدي الملك العلام كما قال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى حيث قال مشيراً لذلك :
كم ليلة فيك وصلنا السرى لا نعرف الغمض ولا نستريح
الأبيات المذكورة عنه في المزمل ، فقد انقسم الليل إلى ذي طول وقصر ، والساري فيه إلى ذي حضر وسفر ، فدلت المفاوتة في ذلك وفي جميع أفراد القسم على أن فاعلها قادر مختار واحد قهار ، ولذلك أتبعه الدلالة بقهر القهارين وإبارة الجبارين ، وأما ( بغي ) فذكر حكمته في مريم .(8/414)
صفحة رقم 415
ولما كان هذا قسماً عظيماً في ذكر تلك الليالي المتضمن لذكر المشاعر وما فيها من الجموع والبكاء كما قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وليلة جمع والمنازل من منى وهل فوقها من حرمة ومنازل
وفي تذكيره بالبعث ودلالته عليه عقلية واضحة بالإيجاد بعد الإعدام مع ما لهذه الأشياء في أنفسها وفي نفوس المخاطبين بها من الجلالة ، نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله : ( هل في ذلك ) أي المذكور مع ما له من عليّ الأمر وواضح القدر ) قسم ) أي كاف مقنع ) حجر ) أي عقل فيحجره ويمنعه عن الهوى في درك الهوى ، فيعليه إلى أوج الهدى ، في درج العلا ، حتى يعلم أن الذي فعل ما تضمنه هذا القسم لا يتركه سدى ، وأنه قادر على أن يحيى الموتى ، قال ابن جرير : يقال للرجل إذا كان مالكاً نفسه قاهراً لها ضابطاً : إنه لذو حجر - انتهى ، فمن بلغ أن يحجره عقله عن المآثم ويحمله على المكارم فهو ذو حجر .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ابتدأ سبحانه لمن تقدم ذكره وجهاً آخر من الاعتبار ، وهو أن يتذكروا حال من تقدمهم من الأمم وما أعقبهم تكذيبهم واجترامهم فقال : ( ألم ترك كيف فعل ربك بعاد ( إلى قوله : ( إرم ذات العماد ( إلى قوله : ( إن ربك لبالمرصاد ) أي لا يخفى عليه شيء من مرتكبات الخلائق ولا يغيب عنه ما أكنوه
77 ( ) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ( ) 7
[ الرعد : 10 ] فهلا اعتبر هؤلاء بما يعاينونه ويشاهدونه من خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض ، وكل ذلك لمصالحهم ومنافعهم ، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم ، والسماء لسقيهم وإظلالهم ، والجبال لاختزان مياههم وأقلالهم ، والأرض لحلهم وترحالهم ، فلا بهذه الأمور كلها استبصروا ، لاختزان مياههم وأقلالهم ، والأرض لحلهم وترحالهم ، فلا بهذه الأمور كلها استبصروا ، ولا بمن خلا من القرون اعتبروا ، ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( على عظيم طغيانها وصميم بهتانها ) إن ربك لبالمرصاد ( فيتذكرون حين لا ينفع التذكر ) إذا دكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم ، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ( - انتهى .
ولما كان التقدير كما هدى إليه السياق : ليبعثن كلهم صاغرين ثم ليحشرن ثم ليحاسبن فيجازى كل أحد بما عمل ، فإن آمنوا بذلك نجوا وإلا عذبهم الذي ثبتت قدرته على العذاب الأكبر بعد العذاب الأدنى بسبب قدرته على البعث بسبب قدرته على ما رأيتم من خلق الإبل والسماء والجبال والأرض على ما في كل من العجائب بسبب قدرته على كل شيء ، وهذا هو المقصود بالذات ، حذف زيادة في تعظيمه واعتماداً على معرفته بما هدى إليه من السياق في جميع السورة وما قبلها .
ولما طوى جواب القسم(8/415)
صفحة رقم 416
لإرشاد السياق إليه وتعويل المعنى عليه ، وتهويلاً له مع العلم بأنه لا يكون قسم بغير مقسم عليه ، وكان علمت القدرة عليه مما أشير إليه بالمقسم به ، أوضح تلك القدرة بأمر العذاب الأدنى - للأمم الماضية ، فقال مخاطباً لمن قال له في آخر تلك
77 ( ) فذكر إنما أنت مذكر ( ) 7
[ الغاشية : 21 ] تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) وإشعاراً بأنه لا يتدبره حق تدبره غيره ، وتهديداً لمن كذب من قومه : ( ألم تر ) أي تنظر بعين الفكر يا أشرف رسلنا فتعلم علماً هو في التيقن به كالمحسوس بالبصر ، وعبر بالاستفهام إشارة إلى أن ما ندبه إلى رؤيته مما يستحقأن يسأل عنه : ( كيف فعل ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك ختاماً لجميع الأنبياء بالأمم الماضية بما شاركوا به هؤلاء من تكذيب الرسل وجعل محط نظرهم الدنيا ، وعملوا أعمال من يظن الخلود ، وبدأ بأشدهم في ذلك وأعتاهم الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟ فقال : ( بعاد ) أي الذين بلغوا في الشدة أن قالوا : من أشد منا قوة ؟ وقال لهم نبيهم هود ( صلى الله عليه وسلم ) :
77 ( ) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ( ) 7
[ الشعراء : 129 ] ودل على ذلك بناؤهم جنة في هذه الدنيا الفانية التي هي دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، والنكد والبلاء والكدر ، والمرض والبؤس والضرر ، فقال مبيناً لهم على حذف مضاف : ( إرم ) أي أهلها وعمدتها ، وأطلقها عليهم لشدة الملابسة لما لها من البناء العجيب والشأن الغريب ، ثم بينها بقوله : ( ذات ) أي صاحبة ) العماد ) أي البناء العالي الثابت بالأعمدة التي لم يكن في هذه الدار مثلها ، ولذا قال : ( التي لم يخلق ) أي يقدر ويصنع - بناه للمفعول إرادة للتعميم ) مثلها ( يصح أن يعود الضمير على ( عاد ) باعتبار القبيلة ، على ( إرم ) باعتبار البلدة ، وأوضح هذا بقوله معمماً للأرض كلها : ( في البلاد ) أي في بنائها ومرافقها وصمارها ، وتقسيم مياهها وأنهارها ، وطيب أرضها وحسن أطيارها ، وما اجتمع بها مما يفوت الحصر ويعجز القوى ، ولا مثل أهلها الذين بنوها في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم وغير ذلك من أمورهم ، وكان صاحبها شداد قد ملك المعمورة كلها فتحيزها فبناها في برية عدن في ثلاثمائة سنة يضاهي بها الجنة على ما زعم - قلوب ضلت وأضلت وأضلها باريها - قال أبو حيان : على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يكون في الأرض مثلها ، فلما تمت على ما أراد قصدها للسكن وعمره إذ ذاك تسعمائة سنة ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فأهلكهم فكانوا كأمس الذاهب ، وأخفى مدينتهم فلم يرها أحد إلا عبد الله بن قلابة ، خرج في طلب إبل ضلت له على زمن معاوية رضي الله عنه فوقع عليها ، ولما خرج منها وانفصل عنها خفيت عنه ، وكان قد حمل معه بعض ما رأى فيها من اللؤلؤ والمسك والزعفران فباعه ، وسمع به معاوية رضي الله عنه فأرسل إليه فحدثه ، فأرسل ، (8/416)
صفحة رقم 417
معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار فسأله عن ذلك فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أشقر أحمر قصير ، على حاجبيه خال ، وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذاك الرجل - ذكره شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف وقال : وآثار الوضع عليه لائحة ، وقال جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما : الأوصاف كلها للقبيلة وهم عاد الأولى ، واسمها إرم باسم جدهم ، وكانوا عرباً سيارة يبنون بيوتهم على الأعمدة على عادة العرب ، ولم يخلق مثلهم أمة من الأمم في جميع البلاد .
الفجر : ( 9 - 16 ) وثمود الذين جابوا. .. . .
) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( ( )
ولما بدأ بهؤلاء لأن أمرهم كان أعجب ، وقصتهم أنزه وأغرب ، ثنى بأقرب الأمم إليهم زماناً وأشبههم بهم شأناً لأنهم أترفوا بما حبوا به من جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم ، فجعلوا موضع ما لزمهم من الشكر الكفر ، واستحبوا العمى على الهدى ، مع ما في آيتهم ، وهي الناقة ، من عظيم الدلالة على القدرة فقال : ( وثمود الذين جابوا ) أي نقبوا وقطعوا قطعاً حقيقاً كأنه عندهم كالواجب ) الصخر بالواد ) أي وادي الحجر أو وادي القرى ، فجعلوا بيوتاً منقورة في الجبال فعل من يغتال الدهر ويفني الزمان ، قال أبو حيان : قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة .
ولما ذكر القبيلتين من العرب ، ذكر بعض من جاورهم من طغاة العجم لما في قصتهم من العتو والجبروت مع ما حوته من الغرائب وخوارق العجائب لا سيما في القدرة على البعث بقلب العصا حية وإعادتها جماداً مع التكرر ، وبإيجاد الضفادع والقمل من كثبان الأرض وغير ذلك فقال : ( وفرعون ) أي وفعل بفرعون ) ذي الأوتاد ) أي الذي ثبّت ملكه تثبيت من يظن أنه لا يزول بالعساكر والجنود وغيرهم من كل ما يظن أنه يشد أمره من الجنات والعيون والزروع والمقامات الكريمة ، فصارت له اليد المبسوطة في الملك .
ولما كان المراد بفرعون هو وجنوده لآن الرأس يكنى به عن البدن ، لأنه جماعة وبه قوامه ، وصفه بوصف يجمع قومه وجميع من ذكر هنا فقال : ( الذين ) أي فرعون(8/417)
صفحة رقم 418
وجنوده وكل من ذكر هنا من الكفرة من عاد وثمود وأتباعهم ) طغوا ) أي تجاوزوا الحدود ) في البلاد ) أي التي ملكوها بالفعل وغيرها بالقوة ) فأكثروا ( عقب طغيانهم وبسببه ) فيها الفساد ( بما فعلوا من الكفر والظلم مما صار سنة لمن سمع به .
ولما كان ذلك موجباً للعذاب ، سبب عنه قوله : ( فصب ) أي أنزل إنزالاً هو في غاية القوة ) عليهم ) أي في الدنيا ) ربك ) أي المحسن إليك المدبر لأمرك الذي جعل ما مضى من أخبار الأمم وآثار الفرق موطئاً لهم ) سوط عذاب ) أي جعل عذابهم من الإغراق والرجف وغيرهما في وقته وتمكنه وعلوه وإحاطته كالمصبوب في شدة ضربه ولصوقه بالمضروب وإسراعه إليه والتفافه به كالسوط وفي كونه منوّعاً إلى أنواع متشابكة ، وأصله الخلط ، وإنما سمي هذا الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض ، ولأنه يخلط اللحم والدم ، وقيل : شبه بالسوط ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بالترديد والتكرير إلى أن يهلك المعذب به وإيذاناً بأنه بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى السيف ، هذا سوط الدنيا وسيف الآخرة أشد وأحد وأمضى ، ثم علل أخذه لكل ظالم وانتقامه من كل مفسد بأنه رقيب ، فقال ممثلاً أن العصاة لا يفوتونه مؤكداً تنبيهاً على أن أعمال من ينكر ذلك أو لا يخطر بباله : ( إن ربك ) أي مولاك المدبر لأمر نبوتك ) لبالمرصاد ) أي لا يفوته شيء ، بل هو قادر ومطلع على كل شيء اطلاع من يريده بالإقامة في مكان الرصد وزمانه مع غاية الحفظ والرعي وهو قادر على ما يريد .
ولما ذكر سبحانه أن عادة هؤلاء الفرق كانت الطغيان ، وذكر أن عادة الرب سبحانه فيمن تولى وكفر أنه يعذبه كما هدد به آخر تلك ، ودل على ذلك بما شوهد في الأمم ، وعلل ذلك بأنه لا يغفل ، ذكر عادة الإنسان من حيث هو من غير تقييد بهؤلاء الفرق عن الابتلاء في حالي السراء والضراء ، فقال مشيراً إلى جواب ما كانت الكفار تقوله من أنهم آثر عند الله من المسلمين لا يساعد عليهم في الدنيا وتقلل الصحابة رضي الله عنهم من الدنيا مسبباً عما مضى عطفاً على ما تقديره : هذه كانت عادة هؤلاء الأمم وعادة الله فيهم : ( فأما الانسان ) أي الذي أودع الحجر ليعقل هذه الأقسام وما يراد منه من اعتقاد المقسم عليه بها وجبل على النسيان والأنس بنفسه والمحبة لها والرضى عنها .
ولما كان المقصود التعريف بحاله عند الابتداء ، قدم الظرف الدال على ذلك على الخبر فقال : ( إذا ( وأكد الأمر بالنافي فقال ) ما ابتلاه ) أي عامله معاملة المختبر بأن خالطه بما أراد مخالطة تميله وتحيله ) ربه ) أي الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره ) فأكرمه ) أي بأن جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما(8/418)
صفحة رقم 419
يكرمونه به نم الجاه والمال ) ونعمه ) أي بأن جعله متلذذاً مترفاً بما أعطاه غير تعبان - بسببه ) فيقول ( سروراً بذلك وافتخاراً : ( ربي ) أي الموجد لي والمدبر لأمري ) أكرمن ) أي فيظن أن ذلك عن استحقاق فيرتفع به ) وأما ( هو ) إذا ( وأكد على نمط الأول فقال : ( ما ابتلاه ) أي ربه ليظهر صبره أو جزعه .
ولما كان قوله في الأول ( فأكرمه ونعمه ) كناية عن ( فوسع عليه ) قابله هنا بقوله : ( فقدر ) أي ضيق تضييق من يعمل الأمر بحساب وتقدير ) عليه رزقه ( فهو كناية عن الضيق كما أن العطاء بغير حساب كناية عن السعة ، فجعله بمقدار ضرورته الذي لا يعيش عادة بدونه ، ولم يجعله فيه فضلاً عن ذلك ولم يقل ( فأهانه ) موضع ( قدر عليه ) تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى وصوناً لأهل الله عن هذه العبارة لأن أكثرهم مضيق عليه في دنياه ، ولأن ترك الإكرام لا ينحصر في كونه إهانة ) فيقول ) أي الإنسان بسبب الضيق : ( ربي ) أي المربي لي ) أهانن ( فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ، ويكون ذلك أكبره همه .
الفجر : ( 17 - 22 ) كلا بل لا. .. . .
) كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( ( )
ولما كان نسبة هذا إليه توبيخاً وتقريعاً لقصور نظره فإن الإقتار قد يؤدي إلى سعادة الدارين ، والتوسعة قد تؤدي إلى شقاوتهما ، وهذا أكثر ما يوجد ، قال ردعاً عن مثل هذا القول بأعظم أدوزات الزجر معللاً للتوسعة والإقتار : ( كلا ) أي إني لا أكرم بتكثير الدنيا ولا أهين بتقليلها ، لا التوسعة منحصرة في الإكرام ولا التضييق منحصر في الإهانة والصغار ، وإنما أتتهم الإهانة من حيث إنهم لا يطيعون الله ، وربما كان بالتوسعة ، وربما كانت بالإقتار ، فربما عصى فوسع عليه إهانة له ، وهذا لمن يريد بالتوسعة ، وربما كانت بالإقتار ، فربما عصى فوسع عليه إهانة له ، وهذا لمن يريد سبحانه به الشقاء فيعجل له طيباته في الدنيا استدراجاً ، وربما عصى فضيق عليه إكراماً له لأن ذلك يكفر عنه ، وفي الصحيح في حديث أقرع وأبرص وأعمرى في بني إسرائيل شاهد عظيم لذلك .
ولما زجر عن اعتقاد أن التوسعة للاكرام والتضييق للاهانة ، ذكر أن معيار من جبل على حب الطاعة ومن جبل على حب المعصية بغض الدنيا وحبها ، فقال معرباً عن كلام الإنسان في الشقين وأفرد أولاً لأنه أنص على التعميم وجمع ثانياً إعلاماً بأن المراد الجنس ) بل ) أي يستهينون بأمر الله بما عندهم من العصيان ، فيوسع على بعض من(8/419)
صفحة رقم 420
جبل على الشقاء إهانة له بالاستدراج ويضيق على بعض من لم يجبل على ذلك إكراماً له وردعاً عن اتباع الهوى ورداً إلى الإحسان إلى الضعفاء ، وترجم هذا العصيان الذي هو سبب الخذلان بقوله : ( لا يكرمون ) أي أكثر الناس ) اليتيم ( بالإعطاء ونحوه شفقة عليه ورحمة له لأنه ضعيف لا يرجى من قبله نفع بثناء ولا غيره .
ولما كان الإنسان لا يمنعه من حث غره على الخير إلا حب الدنيا إن كان المحثوث أعظم منه فيدخره لحوائجه وإن كان مثله فإنه يخشى أن يقارضه بذلك فيحثه على مسكين آخر ، وكان الإحسان بالحث على الإعطاء أعظم من الإعطاء لأنه يلزم منه الإعطاء بخلاف العكس ، قال : ( ولا يحضون ) أي يحثون حثاً عظيماً لأهلهم ولا لغيرهم ) على طعام المسكين ) أي بذله له سخاء وجوداً ، فكانت إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغني ما له بقدر الزكاة .
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي ، دل عليه بأمر في الإنسان فقال تعالى : ( ويأكلون ) أي على سبيل التجديد والاستمرار ) التراث ) أي الميراث ، أصله وراث أبدلت الواو تار ، وكأنه عبر عنه به دلالة على أخذ الظاهر الذي تشير إليه الواو ، والتفتيش عن الباطن المشار إليه بمخرج التاء تفتيشاً ربما أدى غلى أخذ بعض مال الغير : ( أكلاً لمّاً ) أي ذا لمَّ أي جمع وخلط بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يؤرثون النساء ولا الصبيان ويأكلون ما جمعه المؤرث وإن كانوا يعلمون أنه حرام ويقولون : لا يستحق المال إلا من يقاتل ويحمي الحوزة .
ولما كان ذلك قد يفعل عن ضرورة مع الكراهة قال ما هو صريح في المقصود : ( ويحبون ) أي على سبيل الاستمرار ) المال ) أي هذا النوع من أي شيء كان ، وأكده بالمصدر والوصف فقال : ( حباً جماً ) أي كثيراً مع حرص وشره ، فصار قصارى أمرهم النظر الدنيوي ، ولم يصرفوا أنفسهم عن حبه إلى ما دعا إليه العقل الذي يعقل النفس عن الهوى ، والحجر الذي يحجرها عن الحظوظ ، والنهية التي تنهاها عن الشهوات إلى الإقبال على الله .
ولما كان السياق هادياً إلى أن التقدير : يحسبون أن ذلك يوفر أموالهم ويحسن أحوالهم ويصلح بالهم ، زجر عنه بمجامع الزجر فقال : ( كلا ) أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ، ثم استأنف ذكر ما يوجب ندمهم وينبههم من رقدتهم ويعرفهم أن حب المال لا يقتضي نموه ، ولو اقتضى نموه ما اقتضى إيجابه للسعادة فقال : ( إذ دكت الأرض ) أي حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدة المط لا عوج فيها بوجه ، وأشار بالبيناء للمفعول إلى سهولة ذلك لأن الأمر عظيم لعظمة(8/420)
صفحة رقم 421
الفاعل الحق ، ولذلك قال : ( دكاً دكاً ) أي مكرراً بالتوزيع على كل موضع ناتٍ فيها ، فيكون لكل جبل وأكمه وثنية وعقبة دك يخصه على حدته ليفيد ذلك أنه دك مبالغ فيه فتصير جبالها وأكمامها هباءً منثوراً ثم تستوي حتى لا يكون فيها شيء من عوج ، وهو كناية عن زلازل عظيمة لا تحملها الجبال الرواسي فيكف بغيرها .
ولما دلت التسسوية على مجيء أمر عظيم ، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان ، قال متطلفاً بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده ، ) وجاء ربك ) أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد بشفاعتك ) والملك ) أي هذا النوع حال كون الملائكة مطفين ) صفاً صفاً ) أي موزعاً اصطفافهم على أصنافهم كل ، صنف صف على حدة ، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس ، وأهل كل سماء كذلك ، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق ، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه ، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاؤوا إلى مكان ، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته ، لم يوصف بغيبة أصلاً أزلاً ولا أبداً ، فحضوره في ذلك الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلاً ولم يتجدد شيء غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق ، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجاً ، ولو كان محتاجاً لكان عاجزاً ، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للالهية - تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً ، وفي تكرير ( صفاً ) تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل .
الفجر : ( 23 - 30 ) وجيء يومئذ بجهنم. .. . .
) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ( ( )
ولما كانت جهنم لا تأتي بنفسها لأنها لو أتت بنفسها لربما ظن أنها خارجة عن(8/421)
صفحة رقم 422
القدرة بل تقودها الملائكة ، فكلما عالجوها ذهاباً وإياباً حصل للناس من ذلك من الهول ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان المهول نفس المجيء بها لا تعيين الفاعلين ، لذلك بني للمفعول قوله : ( وجاء ) أي بأسهل أمر ) يؤمئذ ) أي إذ وقع ما ذكر ) بجهنم ) أي النار التي تتجهم من يصلاها ، روي أنه يؤتى بها لها سبعون ألف زمان مع كل زمام سبعون ألف ملك ، وهو كقوله تعالى :
77 ( ) وبرزت الجحيم لمن يرى ( ) 7
[ النازعات : 36 ] وأبدل من ( إذا ) توضيحاً لطول الفصل وتهويلاً قوله : ( يومئذ ) أي إذ وقعت هذه الأمور فرأى الإنسان ما أعد للشاكرين وما أعد للكافرين .
ولما قدم هذه الأمور الجليلة والقوارع المهمولة اهتماماً بها وتنبيهاً على أنها ، لما لها من عظيم الموعظة ، جديرة بأن يتعظ بها كل سامع ، ذكر العامل في ظرفها وبدله فقال : ( يتذكر الإنسان ) أي على سبيل التجديد والاستمرار فيذكر كل ما كان ينفعه في الدنيا وما يضره فيعلم أن حبه للدنيا لم يفده إلا خساراً ، لا زاد بحبها شيئاً لم يكتب له ولا كان ينقصه بذلها شيئاً كما كتب له أو بذلها ، وإذا تذكر ذلك هان عليه الذل ، وليست تلك الدار دار العمل ، فلذلك قال : ( وأنى ) أي كيف ومن أي وجه ) له الذكرى ) أي نفع التذكر العظيم فإنه في غير موضعه ، فلا ينفعه أصلاً بوجه من الوجوه لفوات دار العمل ، ولا يقع بذلك على شيء سوى الندم وتضاعف الغم والهم والآلام .
ولما كان الندم يقتضي ان يعمل الإنسان ما ينافيه ، بين أنه ليس هناك عمل إلا إظهار الندم فاستأنف قوله : ( يقول ) أي متمنياً المحال على سبيل التجديد والاستمرار : ( يا ليتني ( وهل ينفع شيئاً ( ليت ) ) قدمت ) أي أوقعت التقديم لما ينفعني من الجد والعمل به ) لحياتي ) أي أيام حياتي في الدنيا أو لأجل حياتي هذه الباقية التي لا موت بعدها ، ويمكن أن يكون سبب تمنيه هذا علمه بأنه كان في الدنيا مختاراً ، وأن الطاعات في نفسها كانت ممكنة لا مانع له منها في الظاهر إلا صرف نفسه عنها وعدم تعليق ما أتاه الله من القوى بها .
ولما كان هذا غير نافع له ، سبب عنه قوله : ( فيومئذ ) أي إذ وقعت هذه الأمور كلها ) لا يعذب ) أي يوقع ) عذابه ) أي عذاب الله ، أي مثل عذابه المطلق المجرد فكيف بتعذيبه .
ولما اشتد التشوف إلى الفاعل ، أتى به على وجه لا أعم منه أصلاً فقال : ( أحد ( ولما جرت العادة بأن المعذب يستوثق منه بسجن أو غيره ، ويمنع من كل شيء يمكن أن يقتل به نفسه ، خوفاً من أن يهرب أو يهلك نفسه قال : ( ولا يوثق ) أي يوجد ) وثاقه ) أي مثل وثاقه فكيف بإيثاقه ) أحد ( والمعنى أنه لا يقع في خيال أحد لأجل(8/422)
صفحة رقم 423
انقطاع الأنساب والأسباب أن أحداً يقدر على مثل ما يقدر عليه سبحانه وتعالى من الضر ليخشى كما يقع في هذه الدنيا ، بل يقع في الدنيا في أوهام كثيرة أن عذاب من يخشونه أعظم من عذاب الله - وأن عذاب الدنيا بأسره لو اجتمع على إنسان وحده لا يساوي رؤية جهنم بذلك المقام في ذلك المحفل المهول دون دخولها - ولذلك تقدم خوفه على الخوف من الله ، وبنى الكسائي ويعقوب الفعلين للمفعول ، والمعنى على قراءة الجماعة ببنائها للفاعل : لا يعذب أحد عذاباً مثل عذاب الله أي لا يعذب أحد غير الله أحداً من الخلق مثل عذاب الله له ، والحاصل أنه لا يخاف في القيامة من أحد غير الله ، فإنه ثبت بهذا الكلام أن عذابه لا مثل له ، ولم يذكر المعذب من هو فيرجع الأمر إلى أن المعنى : فيومئذ يخاف الإنسان من الله خوفاً لا مثل له ، أي لا يخاف من أحد مثل خوفه منه سبحانه وتعالى ، ويجوز أن يكون الضمير في ( عذابه ) للإنسان ، أي لا يعذب أحد من الزبانية أحداً غير الإنسان مثل عذابه ، وفي المبنيى للمفعول : لا يعذب عذاب الإنسان أحد لكن يبعده أنه يلزم عليه أن يكون عذاب الإنسان أعظم من عذاب إبليس - ويجوز أن يكون المعنى : إنه لا يحمل أحد ما يستحقه من العذاب كقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] .
ولما علم أن هذا الجزاء المذكور لا يكون إلا للهلوع الجزوع المضطرب النفس الطائش في حال السراء والضراء ، الذي لا يكرم اليتيم ولا المسكين ويحب الدنيا ، وكان من المعلوم أن من الناس من ليس هو كذلك ، تشوفت النفس إلى جزائه فشفى عيّ هذا التشوف بقوله ، إعلاماً بأنه يقال لنفوسهم عند النفخ في الصور وبعثربة ما في القبول للبعث والنشور : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) أي التي هي في غاية السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون ، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد ، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده ، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي تربية الموفقين ، أو إلى بدنك حال كونك ) راضية ) أي بما تعطينه .
فلا كدر يلحقك بوجه من الوجوه أصلاً كما كنت في دار القلق والاضطراب مطمئنة ساكنة تحت القضاء والقدر سالكة سبيل الرضا إن حصل ابتلاء بالتكريم والتنعيم أو التضييق والتغريم وثوقاً بما عند الله ) مرضية ( عند الله وسائر خلقه ، فلا شيء يكرهك بسبب ما كنت مطمئنة تعملين الأعمال الصالحة تحت القضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره ، ثم بيّن ما أجمل من الرجوع فقال سبحانه : ( فادخلي ) أي بسبب هذا الأمر ) في عبادي ( أي(8/423)
صفحة رقم 424
في زمرة الصالحين الوافدين عليَّ ، الذين هم أهل للإضافة إليَّ ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها ، وقراءة ( عبدي ) بالتوحيد للجنس الشامل للقليل والكثير تدل على ذلك ) وادخلي جنتي ) أي وهي جنة عدن وهي أعلى الجنان ، قال البغوي : قال سعيد بن بجير : مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم نر على صورة خلقه ، فدخل نعشه فلم نر خارجاً منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر فلم ندر من تلاها ، وهذا الآخر هو أولها على ما هو ظاهر المقسم عليه بالفجر من البعث المحتوم ، الذي لولا هو لكان خلق الخلق من العبث المذموم ، المنزه عنه الحي القيوم ، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه ، علت معانيه عن طعن عنه الحي القيوم ، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه ، علت معانيه عن طعن وشرفت أعلامه ، وغر في ذروة الإعجاز تركيبه ونظامه ، ( وأين الثريا من يد المتنازل ) .
.. .(8/424)
صفحة رقم 425
سورة البلد
مقصودها الدلالة على نفي القدرة عن الإنسان ، وإثباتها لخالقه الديان ن بذكر المخلص منها ، الموصل إلى السعادة في الآخرة ، وهو ما هدى إليه ربه سبحانه ، وذلك هو معنى اسمها ، فإن من تأمل أمان أهل الحرم وماهم فيه من الرزق والخير على قلة الرزق ببلدهم - مع ما فيه غيرهم ممن هم أكثر منهم وأقثوى - من الخوف والجوع علم ذلك ) بسم الله ( الملك الواحد القهار ) الرحمن ( الذي أسبغ نعمته على سائر بريته ، وفاوت بينهم في عطيته ، فكان كل ساخطا لحالته في كبد ما يهمه في خاصته وعامته لحكم تعجز الأفكار ) الرحيم ( الذي خص أهل ولايته بما يرضيه عنهم من أقضيته فيوصلهم إلى جنته وينجيهم .
البلد : ( 1 - 5 ) لا أقسم بهذا. .. . .
) لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( ( )
لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق ، لا سيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان ، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم ، بعد ماتقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء ، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة ، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك : ( لا أقسم ) أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده ، ويمن أن يكون النفي على ظاهره ، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة ، فيكون كقوله ) ) فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( ) [ الواقعة : 86 ] ) بهذا البلد ) أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا(8/425)
صفحة رقم 426
بشق الأنفس ، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً ، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد ، وقذف حبها في قلوب من اختارهم نم كل حاضر وباد ، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد ، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين ، فإن المراد هناك الكمالات .
ولما عظم البلد بالإقسام به ، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان ، وذلك في جملة حالية فقال : ( وأنت ( يعني وأنت خير كل حاضر وباد ) حال ) أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه ) بهذا البلد ( فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة ، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك ما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة ، أو معنى : يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر ، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه ، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره ، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد ، ولكل جنس سيد ، وهو انتهاؤه في الشرف ، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده ، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة ، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة ، فالحيوان سيد الأكوان ، وسيده الإنسان ، لما له من النطق والبيان ، وسبد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان ، وسيدهم أشرف الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن ، فسيد الخلق محمدم بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها ، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه ، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات ، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام ، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف - نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا - وهو ساجد ، ووضع الشوك في طريقه ، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أوذي أحد في الله ما أوذيت ) .
ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به ( صلى الله عليه وسلم ) ، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال : ( ووالد ( ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذمأولي الأنفس الأمارة ، وكانوا هم أكثر الناس ، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال : ( وما ولد ) أي من ذكر أو أنثى كائناً من(8/426)
صفحة رقم 427
كان ، فدخل كما مضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصار مقسماً به مراراً ، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد ، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها ، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال ، وخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما خصه به من الإرسال ، وفاوت بين المتوالدين في الخصال ، ومن النقص والكمال وسائر الأحوال ، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال ، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتثبيتاً له على احتمال الاذى ، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد ، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى ، وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضي الله عنهم لعلو مقامه ، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر والصفح ، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية ، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية ، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل ؟ من المؤدب والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقران ، ومن يتسلط عليه من النسوان ، مع أنه عرضة للأمراض ، وسائر ما يكره من الأعراض والإغراض ، والفاقات والنوائب والآفات ، والمطالب والحاجات ، لا يحظى بهواه ، ولا يبلغ مناه ، ولا يدرك ما اجتباه ، ولا ينجو غالباً مما يخشاه ، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى ، ولا حد لها فتستقصى ، إلى الموت وما بعده ، فلذلك كان المقسم عليه قوله : ( لقد خلقنا ) أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى ) الإنسان ) أي هذا النوع ) في كبد ) أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلىنفسه هلك ، ولوا هذه البلايا لا دعى ما لا يليق به من عظيم المزايا ، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد ، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد ، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة ، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة ، على جميع ما في السورة ، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته ، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً ، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق ، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى(8/427)
صفحة رقم 428
ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت غلى حد الإعجاز ، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك ما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه ، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر ، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون ، وثانياً إلى المأكل والمشرب ، وثالثاً إلى ما يترتب عليها إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده ، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد ، وهي شهوتان : نفسية وحسية ، والنفسية منحصرة في أربع : الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها ) أيحسب ) أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد ) أن لن يقدر ( ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال : ( عليه ) أي خاصة ) أحد ) أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته .
البلد : ( 6 - 16 ) يقول أهلكت مالا. .. . .
) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ( ( )
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم ، ولات حين مطمع ، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخر ) ) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( ) [ السجدة : 13 ] فأشار تعالى إلى هذا بقوله ) لقد خلقنا الإنسان في كبد ) أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار ) ) وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً ( ) [ الكهف : 57 ] فأعماهم بما خلقهم فيه نم الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد ، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) ولا تطع أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ( ) [ الكهف : 28 ] ) ) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ( ) [ يونس : 99 ] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار ) ألم يجعل له عينين ولساناً وشفتين ( فهلا أخذ في خلاص نفسه ، واعتبر بحاله وأمسه ، ) فلا اقتحم العقبة ( ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له - انتهى .(8/428)
صفحة رقم 429
ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق ، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك ، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات ، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث ( لو أن لابن آدم واد من ذهب ) و ( لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله : ( يقول ) أي مفتخراً بقدرته وشدته : ( أهلكت مالاً لبدا ( ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى ، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد ، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي ، قلدت به أعناق الرجال المنن ، واستعبدت به الأحرار في كل زمن ، فصرت بحيث إذا دعوت كثير الملبي ، وإذا ناديت كثير المجيب ، وإذا أمرت عظم الممتثل ، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية ، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري ، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري .
ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات ، أنكر عليه هذا الظن تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به ، بقوله مشيراً إلى النفسية الرابعة ، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً : ( أيحسب ) أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله ) أن لم يره ) أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي ) أحد ) أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره ، فينقص جميع ما عمل إذا أراد ، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع ، وهو لا يزال فائتاً له ، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه من المساؤئ أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه ، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره .
ولما أنكر عليه سبحانه وتعالى هذه النقائص قرره على ما أوجب شهوته الحسية المتفرعة إلى أنواع بما يستلزم أن يكون فاعله له المانّ عليه به من بعض فيضه ، عالماً بجميع أمره قادراً على نفعه وضره بنفسه وبمن أراد من جنده ، فقال مشيراً إلى ما يترتب على نظر العين الباصرة الجائلة في العالم الحسي ونظر عين البصيرة الجائلة في العالم(8/429)
صفحة رقم 430
المعنوي من شهوته أن يحصل على كل ما يراه بعين باصرته ويعلمه بعين بصيرته من مليح ، ويخلص من كل ما يراه من قبيح ، ومذكراً له بما كان يجب عليه من الشكر باستعمال هذه المشاعر فيما شرع له وكفها عما منع الله منه : ( ألم نجعل ) أي بما لنا من العظمة التي لا يمكن أحداً أن يضاهيها ولا يقرب منها ) له عينين ( يبصر بهما وإلا لتعطل عليه أكثر ما يريد ، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاثة على مقدار مناسب لا يزيد إحداهما على الأخرى شيئاً وقدرنا البياض والسواد أو الزرقة أو الشهلة أو غير ذلك على ما ترون ، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها .
ولما قدره سبحانه على ما ينشأ عنه شهوتا تحصيل المليح ونفي القبيح ، اتبع ذلك ما ينشأ شهوتا الأمر والنهي وأنواع الكمالات الكمالية فقال : ( ولساناً ) أي يترجم به عما في ضميره ) وشفتين ) أي يستران فاه ويعينانه على الأكل والشرب وعلى النطق بفصاحة وبلاغة على حد معلوم لا يبلغه غيره ، فيجتمع له أمره ويصل إلى مقاصد جمة وأهوال مهمة ، ولم يذكر السمع لأن الكلام يستلزمه ، والمعنى : ألسنا قادرين بالقدرة التي جعلنا له بها ما ذكر على أن نجعل لغيره مثل ما جعلنا له وأكثر فيقاومه ويغلبه .
ولما كان لله تعالى على كل أحد في كل لمحة جديدة في إبقاء هذه الآلات الثلاث ، عبر فيها بالمضارع ، ولما كانت النعمة في العقل إنما هي بهبته أولاً ثم بحمله به على الخير ثانياً ، وكان أمره خفياً ، وكان من المعلوم أن كل أحد غير مهدي في كل حركاته وسكناته إلى ما يسعده ، بل كان هذا المنكر عليه لم يؤهل لطريق الخير ، اختير له لفظ الماضي لذلك تحقيقاً لكونه وجعله غريزة لا تتحول وطبيعة لا تتبدل ، بل هي غالبة على صاحبها ، قائدة إلى مضارة أو محابة ومسارة وإن كره ، وهو السبب الذي يكون به الخلاص من شر تلك الأنكاد في دار الإسعاد فقال تعالى : ( وهديناه ) أي بما آتيناه من العقل ) النجدين ) أي طريقي الخير والشر ، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف ، روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، يا أيها الناس إنما هما نجدان : نجد خير ونجد شر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ) قال المنذري : النجد هنا الطريق - انتهى .
وهو طريق في ارتفاع ، عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان ، ولأن الإنسان(8/430)
صفحة رقم 431
لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة ، والنجد لغة الموضع العالي ، والله تعالى يعلي من أراد ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً ، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً ، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى ، أما صعوبة طريق الخير فبما حفه به من المكاره حتى صار العمل به ، مع أن كل أحد يعشق اسمه ومعناه ، أشد شيء وأصعبه ، وأشقه وأتعبه ، وأما صعوبة طريق الشر فواضحة جداً مع أن الله يلزمه لمن أراد بتسهيله وتحبيبه وتخفيفه وتقريبه مع أن كل أحد يكره اسمه وينفر من معناه ، وجعل الله تعالى الفطرة الأولى السليمة التي فطر الناس عليها من الاستقامة بحيث تدرك الشر وتنهى عنه ، وتدرك الخير وتأمر به ، غير أن الشهوات والحظوظ تعالجها ، والغالب من أعانه الله ، وإلى ذلك يشير حديث ( إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) وحديث ( البر ما اطمأنت إليه النفس وانشرح له الصدر ، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ولما كان معنى ما مضى أن هذا الإنسان عاجز وإن تناهت قوته ، وبلغت الذروة قدرته ، لسبق قوله تعالى :
77 ( ) وخلق الإنسان ضعيفاً ( ) 7
[ النساء : 28 ] وأنه معلوم جميع أمره مفضوح في سره كما هو مفضوح في جهره ، كما أشار إليه حديث جندب رضي الله تعالى عنه عند الطبراني ( ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ) وحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عند أحمد وأبي يعلى ( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة يخرج عمله للناس ) فهو موصول إليه مقدور عليه ، وأنه كان يجب عليه الشكر على ما جعل له سبحانه وتعالى من القوى التي جعلها لسوء كسبه آلات للكفر ، سبب سبحانه وتعالى عنه قوله تفصيلاً للأشياء الموصلة إلى الراحة في العقبى نافياً بفعلها عنه على سبيل الحقيقة دلالة على عجزه : ( فلا اقتحم ) أي وثب ورمى بنفسه بسرعة وضغط وشدة حتى كان من شدة المحبة لما يراه فيما دخل فيه من الخير .(8/431)
صفحة رقم 432
كأنه أتاه من غير فكر ولا روية بل هجماً ) العقبة ( وهي طريق النجاة ، والمقرر في اللغة أنها الطريق الصاعد في اجبل المستعار اسمها لأفعال البر المقرر في النفوس مريحة لا متعب ، مع كونها أعظم فخراً وأعلى منقبة ، لأنا حجبناه عنها بأيدينا وعظيم قوتنا وعجيب قدرتنا ، وذلك أن الخير لما كان محبباً إلى القلوب معشوقاً للنفوس مرغوباً فيه لا يعدل عنه أحد ، جعلناه في بادئ الأمر كريهاً وعلى النفوس مستصعباً ثقيلاً حتى صار لمخالفته الهوى كأنه عقبة كؤود ، لا ينال ما فيه من مشقة الصعود ، إلا بعزم شديد وهمة ماضية ، ونية جازمة ، ورياضة وتدريب ، وتأديب وتهذيب ، وشديد مجاهدة وعظيم مكابدة للنفس والهوى والشيطان ، بحيث يكون متعاطيه في فعله له كالرامي بنفسه المتعدي لطوره لم يختر لنفسه الخير بما أوتي من البصر الذي يبصر به صنائع الله ، والبصيرة التي يعرف بها ما يضره وما ينفعه شكراً لربه سبحانه وتعالى ويكون ذلك لإحسانه إليه ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وهل جزاء النعمة إلا الشكر ، بل اختار الشر وارتكب الضر مع أنا هيأناه لكل منهما فبانت لنا القدرة .
واتضحت في صفاتنا العظمة ، وتحقق له الضعف وظهر منه النقص والعجز ، فوجب عليه لعزتنا الخضوع ، وإجراء مصون الدموع وإظها الافتقار والذل والصغار ، لنقحمه سبيل الجنة وننجيه من طريق النار ، ومن اقتحم هذه العقبة التي هي للأعمال الصالحة اقتحم عقبة الصراط ، فكانت سهولتها عليه بقدر مكابدته لهذه ، واستراح من تلك المكابدات والأحزان والهموم وصار إلى حياة طيبة كما قال الله تعالى
77 ( ) من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ( ) 7
[ النحل : 97 ] الآية ، وقتحامها بأن يرتحل من عالمه السافل إلى العالم العالي الكامل الذي ليس فيه إلا اللذة ، وذلك هو الاعتراف بحق العبودية ، وتلك هي الحرية لأن الحر من خرج من رق الشهوات إلى خدمة المولى ، فصار طوع أمره في سره وجهره لا حظ لشهوة فيه ولا وصول لحظ إليه ، وذلك يكون بشيئين : أحدهما جذب والآخر كسب ، فالمجذوب محمول .
والكاسب في تعب المجاهدات بسيف الهمة العالية مصول .
ولما بين أنه لا خلاص من النكد إلا بهذا الاقتحام ، شرع في تفسير العقبة بادئاً بتهويل أمرها لعظيم قدرها ، فقال معبراً بالماضي الذي جرت عادة القرآن بأنه إذا عبر به شرح المستفهم عنه : ( وما أدراك ) أي أيها السامع لكلامنا ، الراغب فيما عندنا ) ما العقبة ) أي إنك لم تعرف كنه صعوبتها وعظمة ثوابها ، فلما تفرغ القلب بالاستفهام عما لا يعرفه ، وكان الإنسان أشهى ما إليه تعرف ما أشكل عليه ، فتشوفت النفوس إلى(8/432)
صفحة رقم 433
علمها ، قال مشيراً إلى الأولى التي هي العفة التي ثمرتها السخاء وإصلاح قوة الشهوة معبراً بالفك الذي هو أدنى ما يكون من العتق لأنه الإعانة فيه ولو بما قل كما ورد في حديث البراء رضي الله عنه ( أعتق النسمة وفك الرقبة ) أن تفرد بها ، وفكها أن تعين في ثمنها ، وفسر المراد بهذه العقبة بما دل على معادل لا كما يأتي تعيين تقديره فإنها لا تستعمل إلا مكررة قال : ( فك ) أي الإنسان ) رقبة ) أي من الأسر أو الظلم أو الغرم أو السقم شكراً لمن أولاه الخير وتنفيساً للكربة حباً للمعالي والمكارم لا رياء وسمعة كما فعل هذا الظان الضال ولا لطمع في جزاء ولا لخوف من عناء ) أو إطعام ) أي أوقع الإطعام لشيء له قابلية ذلك ) في يوم ذي مسغبة ) أي جوع عام في مكان جوع وزمان جوع - بما أفهمه الوصف والصيغة ، فكان لذلك يحمل على الضنة بالموجود خوفاً من مثل ما فيه المطعم فخالف النفس وآثر عليها اعتماداً على الله ) يتمياً ) أي إنساناً صغيراً لا أب له يرجى أو يخاف ) ذا مقربة ) أي حاجة مقعدة له على التراب ، لا يقدر على سواه ، فالآية الاحتباك : ذكر القرب أولاً يدل على ضده ثانياً ، وذكر المتربة ثانياً يدل على ضدها أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر في اليتيم القرب المعطف ، وفي المسكين الوصف المرقق الملطف ، فهو لا يقصد بإطعامه إلا سد فاقته ، ودخل فيه اليتيم البيعد والفقير من باب الأولى وإن كان أجنبياً .
البلد : ( 17 - 20 ) ثم كان من. .. . .
) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ( ( )
ولما كانت هذه الأفعال خيراً في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلالة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيراً إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية : ( ثم كان ) أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفسية الغالية في حال كفره أو مبادئ إسلامه للدلالة على صفار جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله : ( من الذين آمنوا ) أي عند ما دعاه إليه الهادي ، ولم تحمله حمية الأنف(8/433)
صفحة رقم 434
وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً ، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً ، بل سدد النظر الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى ، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء ،
77 ( ) إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( ) 7
[ طه : 54 ، 128 ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام ، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والإكرام ، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء ، فلما سرب في رحيب مسربه ، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتعلثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد ، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه ، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق ، لا مطمع في مداناته ، فكيف بلحاقه ومساواته ، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً ، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء : والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي .
وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان ، أما إن كانت بعده فواضح ، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أسلمت على ما سلف منك من خير ) ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن ، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال ، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن ، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع ، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت ، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر ، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى : ( وتواصوا ) أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً ) بالصبر ( في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف ، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة .(8/434)
صفحة رقم 435
ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه ، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة ، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة ، قال مؤكداً بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها : ( وتواصوا بالمرحمة ) أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان ، فصاروا في غاية النورانية والعرفان .
ولما كان ذلك من معالي الأخلاق ، وموجبات الفواق والفواق والوفاق ، كانت نتيجته لا محالة : ( أولئك ) أي العظماء الكبراء العالو المنزلة ، ولم يأت بضمير الفصل كما يأتي لأضدادهم ليخلص الفعل له سبحانه وتعالى من غير نظر إلى ضمائرهم الدالة على جبلاتهم لأنه هو الذي جبلها ، وأغنى عنه بالإشارة الدالة على علو مقامهم وبعد مرامهم ) أصحاب الميمنة ) أي الجانب الذي فيه اليمين الأبرار ، كما مضى شرحه في سورة الواقعة .
وهذا تعريض بذلك الذي أتلف ماله في المنافسة .
والمشاققة والمعاكسة .
ولما أرشد السياق لمعادلة ) فلا اقتحم العقبة ( إلى أن التقدير : ولا أحجم عن المعطبة التي هي الأفعال الموجبة للمعتبة مع كونها متعبة ، بل قطع من يستحق الوصل ووصل من يستأهل القطع ، ثم كان من الذين كفروا وتواصوا بالملأمة واكتسبوا السيئات واتبعوا الشهوات وعاملوا بالقسوة ، عطف عليه قوله : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم .
ولما كان الكفر بالآيات من أسوأ أنواع الكفر لأنه كفر بما جعله الله علماً على غيب عهده ، وهي جميع ما تدركه الحواس من الأقوال والأفعال الدالة على ذي الجلال لأنها دالة على الصفات الدالة على الموصوف بها الذي ظهر بأفعاله وبطن بعظيم جلاله ، قال : ( بآياتنا ) أي ما لها من العظمة بالإضافة إلينا والظهور الذي لا يمكن خفاؤه ) هم ) أي خاصة لسوء ضمائرهم ولفساد جبلاتهم ) أصحاب المشأمة ) أي الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان والهلكة فهؤلاء مشائيم على أنفسهم ، وكفرهم دال على فساد جبلاتهم فهو يشير إلى أن من كان كفره أخف لم يكن جبلياً ، فيوشك أن يهدى فيكون من أصحاب الميمنة .
ولما كان معنى هذا أنهم في الجانب الذي فيه الشؤم والهلكة ، والبعد من كل بركة ، أنتج قوله : ( عليهم ) أي خاصة دون غيرهم ) نار مؤصدة ) أي مطبقة الباب مع إحاطتها بهم من جميع الجوانب - بما أفهمته أداة الاستعلاء ومع الضيق والوعورة ، (8/435)
صفحة رقم 436
وهذا لعمري أشد الضيق والكبد ، والنصب والنكد فالملجأ منه إلى الله الأحد ، الواحد الصمد ، وقد علم أن أوله هو هذا الآخر ، فكان التقاطر فيها مما تشد به الأيدي وتعقد عليه الخناصر - والله تعالى هو المرجو للهداية إلى خير السرائر ، وهو الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب .
.. .(8/436)
صفحة رقم 437
سورة الشمس
مقصودها إثبات تصرفه سبحانه وتعالى في النفوس التي هي سرج الأبدان ، تقودها إلى سعادة أو كيد وهوان ونكد ، كما أن الشمس سراج الفلك ، يتصرف سبحانه في النفوس بالاختيار إضلالا وهداية نعيما وشقاوة
تصرفه سبحانه في الشمس بمثل ذلك من صحة واعتلال ، وانتظام واختلال ، وكذا في جميع الأكوان ، بما له من عظيم الشأن ، واسمها الشمس واضح الدلالة على ذلك بتأمل القسم والمقسم عليه بما أعلم به وأشار إليه ) بسم الله ( الذي هو الملك الأعظم فله التصرف العام ) الرحمن ( الذي وسعت رحمته كل شيء فإليه الإنعام ) الرحيم ( اللذي خص من شاء بالتوفيق فبنى إنعامه عليهمن على التمام .
الشمس : ( 1 - 8 ) والشمس وضحاها
) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( ( )
لما أثبت في سورة البلد أن الإنسان في كبد ، وختمها بأن من حاد عن سبيله كان في انكد النكد ، وهو النار المؤصدة ، أقسم أول هذه على أن الفاعل لذلك أولاً وآخراً هو الله سبحانه لأنه يحول بين المرء وقلبه وبين القلب ولبه ، فقال مقسماً بما يدل على تمام علمه وشمول قدرته في الآفاق علويها وسفليها ، والأنفس سعيدها وشقيها وبدأ العالم العلوي ، فأفاد ذلك قطعاً العلم بأنه الفاعل المختار ، وعلى العلم بوجوب ذاته وكما صفاته ، وذلك أقصى درجات القوى النظرية ، تذكيراً بعظائم آلائه ، ليحمل على الاستغراق في شكر نعمائه ، الذي هو منتهى كمالات القوى العملية ، مع أن أول المقسم به مذكر بما ختم به آخر تلك من النار : ( والشمس ) أي الجامعة بين النفع والضر بالنور والحر ، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت ، ولا أظلم منها إذا بارت والحر ، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت ، ولا أظلم منها إذا بارت ) وضحاها ) أي وضوئها الناشىء عن جرمها العظيم الشأن البديع التكوين المذكر بالنيران إذا أشرقت وقام سلطانها كإشراق أنوار العقول ، والضحى - بالضم والقصر :(8/437)
صفحة رقم 438
صدر النهار حين ارتفاعه ، وبالفتح والمد : شدة الحر بعد امتداد النهار ، وشيء ضاح - إذا ظهر للشمس والحر .
ولما افتتح بذكر آية النهار ، أتبعه ذكر آية الليل فقال : ( والقمر ) أي المكتسب من نورها كام أن أنوار النفوس من أنوار العقول ) إذا تلاها ) أي تبعها في الاستدارة والنور بما دل على أن نوره من نورها من القرب الماحق لنوره والبعد المكتسب له في مقدار ما يقابلها من جرمه ، ولا يزال يكثر إلى أن تتم المقابلة فيتم النور ليلة الإبدار عند تقابلهما في أفق الشرق والغرب ، ومن ثم يأخذ في المقاربة فينقص بقدر ما ينحرف عن المقابلة ، ونسبةالتبع غليه مجازية أطلقت بالنسبة إلى ما ينظر منه كذلك .
ولما ذكر الآيتين ، ذكر ما هما آيتاه ، وبدا بهما لأنه لا صلاح له إلا بهما كما أنه لا صلاح للبدن إلا بالنفس والعقل فقال : ( والنهار ) أي الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار ) إذا جلالها ) أي جلى الشمس بحلية عظيمة بعضها أعظم من بعض باعتبار الطور والقصر والصحو والغيم والضباب والصفاء والكدر كما أن الأبدان تارة تزكي القلوب والنفوس والعقول وتارة تدنسها ، لأن العقل يكون في غاية الصفاء والدعاء إلى الخير في حال الصغر ثم لا يزال يزيد وينقص بحسب زكاء البدن في حسن الجبلة ، أو نجاسته بسوء الجبلة ، حتى يصير الشخص نوراً محضاً ملكاً ناطقاً إذا طابق البدن العقل فتعاونا على الخير ، أو يصير ظلاماً بحتاً شيطاناً رجيماً إذ خالف البدن العقل بسوء الجبلة وشرارة الطبع .
ولما ذكر معدن الضياء ، ذكر محل الظلام فقال : ( والليل ) أي الذي هو ضد النهار فهو محل السكون والانقباض والكمون ) إذا يغشاها ) أي يغطي الشمس فيذهب ضوءها حين تغيب فتمتد ظلال الأرض على وجهها المماس لنا ، فيأخذ الأفق الشرقي في الإظلام ، ويمتد ذلك الظلام بحسب طول الليل وقصره كما يغطي البدن نور العقل بواسطة طبعه بخبثه ورداءة عنصره ، وذلك كله مبقادير معلومة ، وموازين قسط محتومة ، ليس فيها اختلال ، ولا يعتريها انحلال ، حتى يريد ذو الجلال ، ولم يعبر بالماضي كما في النهار لأن الليل لا يذهب الضياء بمرة بل شيئاَ فشيئاًن ولا ينفك عن نور بخلاف النهار ، فإنه إذا أبدى الشمس ولم يكن غيم ولا كدر جلى الشمس في آن واحد ، فلم يبق معه ظلام بوجه .
ولما ذكر الآيتين ومحل أثرهما ، ذكر محل الكل فقال تعالى : ( والسماء ) أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس ، والنفوس مركب العقول ، ولما رقى الأفكار من أعظم المحسوسات المماسة إلى ما هو دونه في الحس وفوقه في(8/438)
صفحة رقم 439
الاحتياج إلى إعمال فكر ، رقي إلى الباطن الأعلى المقصود بالذات وهو المبدع لذلك كله معبراً عنه بأداة ما لا يعقل ، مع الدلالة بنفس الإقسام ، على أن له العلم التام ، والإحاطة الكبرى بالحكمة البالغة ، تنبيهاً على أنهم وصفوه بالإشراك وإنكار الحشر بتلك المنزلة السفلى والمساواة بالجمادات التي عبدوها مع ما له من صفات الكمال التي ليس لغيره ما يداني شيئاً منها ، زجراً لهم بالإشارة والإيماء عن ذلك ومشيراً إلى شدة التعجيب منهم لكونها أداة التعجب فقال : ( وما بناها ) أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف .
ولما ذكر البناء ذكر المهاد فقال : ( والأرض ) أي التي هي فراشكم بمنزلة محال تصرفاتكم بالعقل في المعاني المقصودة ) وما طحاها ) أي بسطها على وجه هي فيه محيطة بالحيوان كله ومحاط بها في مقعر الأفلاك ، وهي مع كونها ممسكة بالقدرة كأنها طائحة في تيار بحارها ، وهي موضع البعد والهلاك ومحل الجمع - كل هذا بما يشير إليه التعبير بهذا اللفظ إشارة إلى ما في سعي الإنسان من أمثال هذا ، قال أهل البصائر : وليس في العالم الآفاقي شيء إلا وفي العالم النفساني نظيره ، والنشدوا في ذلك :
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وتستنكر وتحسب أنك جزء صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فالسماوات سبع كطباق الرأس التي تتعلق بالقوى المعنوية والحسية كالذاكرة والحافظة والواهمة والمخيلة والمفكرة والحس المشترك وما هو لمقاسم البصر في العين ، ونظير الشمس الروح في إشارقه وحسنه ، ونظير الليل الطبع فإن ما به من نور فإنما هو من الروح كما أن الليل كذلك لا يكون نوره إلا من الشمس بواسطة أفادتها للقمر المنير له والكواكب ، ونظير النهار - الذي هو نير في أصله ومتكدر بما يخيل له من السحب ونحوه - القلب وسحبه الشكوك والأوهام النفسية ، ونظير القمر في ظلمته بأصله وإنارته بالشمس النفس ، فإذا أكسبها القلب المستفيد من الروح النور أنار جميع البدن ، وإذا أظلمت أظلم كله ، والأعضاء الباطنة كالكواكب يقوم بها البدن فينير له الوجود بواسطة الروح والنفس ، والأمطار كالدمع ، والحر كالحزن ، والبرد كالسرور ، والرعد كالنطق ، والبرق كالملح ، والرياح كالنفس - إلى غير ذلك من البدائع لمن تأمل ، والعالم السفلي سبع طباق أيضاً ، قال الملوي : ( ونظيرها طبقة الجلد ) وهي ثلاث ، وطبقة اللحم وطبقة الشحم وطبقة العروق وطبقة العصب ، والجبال كالعظام والمعادن منها المياه وفيها العذب كالريق والملح كالدمع والمر كما في الأذن والمنتن منه كما في الأنف ، ومنه ما هو جار كالبول ، ومنه ما هو كالعيون وهو الدم ، والسيل كالعرق ، (8/439)
صفحة رقم 440
والمعادن المنطبعة كالحديد والرصاص هي وسخ الأرض وهي كالعذرة وما يخرج من الجلد من خبث ، والنبات كالشعور تارة تحلق كالحصاد وتارة تقلع كالنتف ، والحيوانات التي فيها كالقمل ، وطيورها كالبراغيث ، وعامر البدن ما أقبل منه ، وخرابه ما أدبر .
ولما أتم الإشارة إلى النفوس لأهل البصائر ، صرح بالعبارة لمن دونهم فقال تعالى : ( ونفس ) أي أيّ نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره .
ولما كانت النفوس أعجب ما في الكون وأجمع ، عبر فيها بالتسوية حثاً على تدبر أمرها للاستلال على مبدعها للسعي في إصلاح شأنها فقال تعالى : ( وما سواها ) أي عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وعجائب المزاج من الأخلاط في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وعجائب المزاج من الأخلاط المتنافرة التي لاءم بينها بالتسوية والتعديل فجعلها متمازجة وقد أرشد السياق والسباق واللحاق إلى أن جواب القسم مقدر تقديره : لقد طبع سبحانه وتعالى نفوسكم على طبائع متباينة هيأها بها لما يريد من القلوب من تزكية وتدسية بما جعل لكم من القدرة والاختيار ، وأبلغ في التقدم إليكم في تزكية نفوسكم وتطهير قلوبكم لاعتقاد الحشر بما هو أوضح من الشمس لا شبهة فيه ولا لبس لتنجو من عذاب الدنيا والآخرة بالاتصاف بالتقوى ، والانخلاع من الفجور والطغوى .
وقال الاستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من الكبد مع ما جعل له سبحانه من آلات النظر ، وبسط له من الدلائل والعبر ، وأظهر في صورة من ملك قياده ، وميز رشده وعناده
77 ( ) وهديناه النجدين ( ) 7
[ البلد : 10 ]
77 ( ) إنا هديناه السبيل ( ) 7
[ الإنسان : 3 ] وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التي حقيقتها اهتمام أو لم ؟ وأنى بالاستبداد والاستقلال ، ثم
77 ( ) والله خلقكم وما تعملون ( ) 7
[ الصافات : 96 ] أقسم سبحانه وتعالى في هذ هالسورة على فلاح من اختيار رشده واستعمل جهده وأنفق وجده ) قلد أفلح من زكاها ( وخيبة من غاب هداه فاتبع هواه ) وقد خاب من دساها ( فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين - انتهى .
ولما كان أعجب أمورها الفجور لما غلب سبحانه عليها من الحظوظ والشهوات ، وهي تعلم بما لها من زاجر العقل بصحيح النقل أن الفجورأقبح القبيح ، والتقوى لما أقام عليها من ملك العقل الملكي وغريزة العلم النوراني أحسن الحسن ، وتذوق أن الفجور أشهى شهي ، وأن التقوى أمرّ شيء وأصعبه ، وأثقله وأتبعه ، قال معلماً أن هذا لا يقدر عليه سواه لأنه أعجب من جميع ما مضى لأن البهيمة لا تقدم على ما يضرها وهي تبصر ولو قطعت ، والآدمي يقدم على ما يضره وهو يعلم ويقاتل من منعه منه ، فقال مسبباً عما حذف من جواب القسم : ( فألهمها ) أي النفس إلهام الفطرة السابقة الأولى(8/440)
صفحة رقم 441
قبل ) ) ألست بربكم ( ) [ الأعراف : 172 ] ) فجورها ) أي انبعاثها في الميل مع دواعي الشهوات وعدم الخوف الحامل على خرق سياج الشريعة بسبب ذلك الطبع الذي عدل فيه ذاتها وصفاتها في قسر المتنافرات على التمازج غاية التعديل ) وتقواها ) أي خوفها الذي أوجب سكونها وتحرزها بوقايات الشريعة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفجور أولاً دالّ على السكون الذي هو ضده ثانياً ، وذكر التقوى ثانياً دالّ على ضده ، وهو عدم الخوف أولاً ، وإلهامها للأمرين هو جعله لها عارفة بالخير والشر مستعدة ومتهيئة لكل منهما ؛ ثم زاد ذلك بالبيان التام بحيث لم يبق لبس ، فزالت الشبه عقلاً بالغريزة والإلهام ونقلاً بالرسالة والإعلام .
ودل بالإضافة على أن ذلك كله منسوب إليها ومكتوب عليها وإن كان بخلقه وتقديره لأنه أودعها قوة وجعل لها اختياراً صالحاً لكل من النجدين ، وأوضح أمر النجدين في الكتب وعلى ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ما وهبه لها من الفطرة القويمة وأخفى عنها سر القضاء والقدرة وعلم العاقبة ، فأقام بذلك عليها الحجة وأوضح المحجة .
الشمس : ( 9 - 15 ) قد أفلح من. .. . .
) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( ( )
ولما كان من المعلوم أن من سمع هذا الكلام يعلم أن التقوى لا يكون إلا مأموراً بها ، الفجور لا يكون إلا منهياً عنه ، فيتوقع ما يقال فيهما مما يتأثر عنهما ، قال تعالى : ( قد أفلح ) أي ظفر بجميع المرادات ) من زكاها ) أي نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذامّ الأخلاق لأن كلاًّ ميسر لما خلق له ، والدين بني على التحلية والتخلية و ( زكى ) صالح للمعنيين ) وقد خاب ) أي حرم مراده ما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً ) من دساها ) أي إغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الإعتقاد ومساوئ الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ، وأصل ( دسى ) دسس ، فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف ، وقمره أن لا يخسف ، ونهاره أن لايتكدر ، وليله ألا يطفى ، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه ، ويخسف قمره ، ويتكدر نهاره ، ويدوم ليله ، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه ، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر ، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية ، والنهار هو العرفان ، واليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما(8/441)
صفحة رقم 442
جاء من عنده ، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية ، والعلماء العاملون هم أولياء الله ، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما : إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس الله ولي - رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب ، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي ، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن ، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله خطوات الشياطين من الإنس والجن ، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها ، والتدسية خلاف ذلك ، من عمل بالسوء من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها فأخفاها كما ان اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين ، والأجواد ينزلون الرابي ، ويوقدون النيران للطارقين ، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل :
قوم على المحتاج سهل وصلهم ومقامهم وعر على الفرسان
ولما كان السياق للترهيب بما دلت عليه سورة البلد وتقديم الفجور هنا ، وكان الترهيب أحث على الزكان ، قال دالاًّ على خيبه المدسي ليعتبر به من سمع خبره لا سيما إن كان يعرف أثره : ( كذبت ثمود ( أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم ، ومالهم بسفول الهمم وقباحة الشيم ، وخصهم لأن آياتهم مع أنها كانت أوضح الآيات في نفسها هي أدلها على الساعة ، وقريش وسائر العرب عارفون بهم لما يرون من آثارهم ويتناقلون من أخبارهم ) بطغواها ) أي أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى بسبب ما كان لنفوسهم نم وصف الطغيان ، وهو مجاوزة القدر وارتفاعه والغلو في الكفر والإسراف في المعاصي والظلم ، أو بما توعدوا به من العذاب العاجل وهي الطاغية التي أهلكوا بها ، وطغى - واوي يائي يقال : طغى كدعا يطغو طغوى وطغواناً - بضمها كطغى يطغى ، وطغي كرضي طغياناً - بالكسر والضم ، فالطغوى - بالفتح اسم ، وبالضم مصدر ، فقلبت الياء - على تقدير كونه يائياً - واواً للتفرقة بين الاسم والصفة ، واختير التعبير به دون اليائي لقوة الواو ، فأفهم أنهم بلغوا النهاية في تكذيبهم ، فكانوا على الغاية من سوء تعذبهم .
ولام ذكر تكذيبهم ، دل عليه بقوله : ( إذ ) أي تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين ) انبعث أشقاها ) أي أشد ثمود شقاء وهو عاقر الناقة للمشاركة في الكفر والزيادة بمباشرة العقر ، وهو قدار بن سالف ، أو هو ومن مالاه على عقرها ، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف صلح للواحد والجمع ) فقال لهم ) أي بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل(8/442)
صفحة رقم 443
على قصدهم لها بالإذى ، وأظهر ولم يضمر وعين الإظهار بالجلالة إشارة إلى عظيم آيتهم وبديع بدايتهم ونهايتهم فقال : ( رسول الله ) أي الملك الذي له الأمر كله ، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة ، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا ، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى ، وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة : ( ناقة الله ) أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه ، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار ، والعامل : دعوا أو احذروا - أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار ) وسقياها ) أي الماء الذي جعله الله تعالى لها لسقيها وهو بئرها ، فلا تذودوها عن بئرها في اليوم الذي تكون فيه نوبتها في الشرب ولا تمسوها بسوء ، وكأنه ( صلى الله عليه وسلم ) فهم عنهم بعد مدة أنهم يريدون عقرها فكرر عليهم التحذير ) فكذبوه ) أي أوقعوا تكذيبه بسبب طغيانهم وعقب أمره هذا الأخير فيما حذر من حلول العذاب ، أو تكون الفاء هي الفصيحة أي قال لهم ذلك فكانت بعده بينه وبينهم في أمرها أمور ، فأوقعوا تكذيبه فيها كلها ) فعقروها ) أي بسبب ذلك التكذيب بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا به ) فدمدم ) أي عذب عذاباً تاماً مجلّلاً مغطياً مطبقاً مستأصلاً شدخ به رؤوسهم وأسرع في الإجهاد وطحنهم طحناً مع الغضب الشديد ؛ قال الرازي : الدمدمة : تحريك البناء حتى ينقلب ، ودل بأداة الاستعلاء على شدته وإحاطته فقال : ( عليهم ( ودل على شدة العذاب لشدة الغضب بلفت القول بذكر صفة الإحسان التي كفروها لأنه لا أشد غضباً ممن كفر إحسانه فقال : ( ربهم ) أي الذي أحسن إليهم فغرَّهم إسحانه فقطعه عنهم فعادوا كأمس الدابر ) بذنبهم ) أي بسببه .
ولما استووا في الظلم والكفر بسبب عقر الناقة بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا والحث ، قال مسبباً عن ذلك ومعقباً : ( فسواها ) أي الدمدمة عليهم فجعلها كأنها أرض بولغ في تعديلها فلم يكن فيها شيء خارج عن شيء كما سوى الشمس المقسم بها وسوى بين الناس فيها ، وكذا ما أقسم به بعدها ، فكانت الدمدمة على قويهم كما كانت على ضعيفهم ، فلم تدع منهم أحداً ولم يتقدم هلاك أحد منهم على أحد ، بل كانوا كلهم كنفس واحدة من قوة الصعقة وشدة الرجفة كما أنهم استووا في الكفر والرضا بعقر الناقة وكل نفس هي عند صاحبها كالناقة قد أوصى الله صاحبها أن يرعى نعمته سبحانه فيها فيزكيها ولا يدسيها ، فإن الناقة عبارة عن مطية يقطع عليها السير حساً أو معنى ، وذلك صالح لأن يراد به النفس التي تقطع بها عقبات الأعمال ، والسقيات ما يعيش المسقيّ به ، وهو صالح لأن يراد به الذكر والعبادة ، فمن لم يرع النعمة ويشكر(8/443)
صفحة رقم 444
المنعم فقد عقرها ، فاستحق الدمدمة منه ، وكما أنه سوى بينهم في الدمدمة سوى بين المهتدين في النجاة ) ولا ) أي والحال أنه لا ) يخاف ( في وقت من الأوقات أي ربهم ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده قراءة أهل المدينة والشام بالفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية وكذلك هي في مصاحفهم ) عقباها ) أي عاقبة هذه الدمددمة وتبعتها فإنه الملك الأعلى الذي كل شيء في قبضته لا كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء فعلم أنه سبحانه وتعالى يعلي أولياءه لأنهم على الحق ، ويسفل أعداءه لأنهم على الباطل ، فلا يضل بعد ذلك إلا هالك ، بصيرته أشد ظلاماً من الليل الحالك ، وقد رجع آخرها على أولها بالقسم وجوابه المحذوف الذي هو طبع النفوس على طبائع مختلفة والتقدم إليهم بالإنذار من الهلاك ، ونفس القسم أيضاً فإن من له هذه الأفعال الهائلة التي سوى بين خلقه فيها وهذا التدبير المحكم هو بحيث لا يعجزه أمر ولا يخشى عاقبة - والله الموفق للصواب .
.. . .(8/444)
صفحة رقم 445
سورة الليل
مقصودها الدلالة على مقصود الشمس ، وهو التصرف التام في النفوس بإثبات كمال القدرة بالاختيار باختلاف الناس في السعي مع اتحاد مقاصدهم ، وزهي الوصول إلى الملاذ من شهوة البطن والفرج وما يتبع ذكلك من الراحة ، واسمها الليل أوضح ما فيها على ذلك بتأمل القسم والجواب ، والوقوع من ذلك على الصواب ، وأيضا ليل نفسه دال على ذلك لأنه على غير مراد النفس بما فيه من الظلام والنوم الذي هو أخو الموت ، وذلك مانع عن أكثر المرادات ، ومقتضى لأكثر المضادات ) بسم الله ( الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة ) الرحمن ( الذي شملت نعمته إيجاده وبيانه المتواترة ) الرحيم ( الذي خص من أراده بما يرضيه ، فجعله حامده وشاكره .
الليل : ( 1 - 10 ) والليل إذا يغشى
) وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ( ( )
لما بين في الشمس حال من زكى نفسه وحال من دساها ، وأوضح في آخرها من مخالفة ثمود لرسولهم ما أهلكهم ، فعلم أن الناس مختلفون في السعي في تحصيل نجد الخير ونجد الشر ، فمنهم من تغلب عليه ظلمة اللبس ، ومنهم من يغلب عليه نهار الهدى ، فتباينوا في مقاصدهم ، وفي مصادرهم ومواردهم ، بعد أن أثبت أنه هو الذي تصرف في النفوس بالفجور والتقوى ، أقسم أول هذه بما يدل على عجائب صنعه في ضره ونفعه على ذلك ، تنبيهاً على تمام قدرته في أنه الفاعل بالاختيار ، يحول بين المرء وقلبه حتى يحمله على التوصل إلى مراده ، بضد ما يوصل إليه بل بما يوصل إلى مضاده ، وعلى أنه لا يكاد يصدق الاتحاد في القصد والاختلاف في السعي والتوصل ، وشرح جزاء كل تحذيراً من نجد الشر ورغيباً في نجد الخير ، وبين ما به التزكية وما به(8/445)
صفحة رقم 446
التدسية فقال : ( والّيل ) أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم ، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار : ( إذا يغشى ) أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً ، وما يدل عليه من جليل مبدعه ، وعظيم ما حقه ومطلعه ) والنهار ) أي الذي هو سبب انكشاف الأمور كالموت الذي يزيل عن الروح علائق البدن فينجلي لها ما كانت فيه من القبائح ، والجهر الذي يشرح النفس بإزالة اللبس ) إذا تجلّى ) أي ظهر ظهوراً عظيماً بضياء الشمس ، وأظهر ما كان خفياً فلم يدع لمبصر شيئاً من لبس ، فمن كان يريد السر قصد الليل ، ومن أراد الجهر قصد النهار سواء كان من الأبرار أو من الفجار .
ولما ذكر المتخالطين معنى ، أتبعهما المتخالطين حساً ، فقال مصرحاً فيهما بما هو مراد في الأول ، وخص هذا بالصريح تنبيهاً على أنه لكونه عاقلاً - عاقد يغلط في نفسه فيدعي الإلهية أو الاتحاد ، أو غير ذلك من وجوه الإلحاد ) وما خلق ( وحكم التعبير بما الأغلب فيه غير العقلاء ما تقدم في سورة الشمس من تنبيههم على أنهم لما أشركوا به سبحانه وتعالى ما لا يعقل نزلوه تلك المنزلة وقد أحاط بكل شيء ، وهو الذي خلق العلماء ، وهم لا يحيطون به علماً مع ما يفيده ( ما ) من التعجب منهم في ذلك لكونها صيغة التعجب ) الذكر ) أي حساً بآلة الرجل ومعنىً بالهمة والقوة ) والأنثى ( حساً بآلة المرأة ومعنىً بسفول الهمة وضعف القوة وما دلاّ عليه من عظيم الاصطناع ، وباهر الاختراع والابتداع ، فإنه دل علمه وفعله بالاختيار ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الصنعة دلالة على حذفها ثانياً ، وثانياً الصانع دلالة على حذفه أولاً .
ولما ذكر ما هو محسوس التخالف من المعاني والأجرام ، أتبعه ما هو معقول التباين من الأعراض فقال : ( إن سعيكم ) أي عملكم أيها المكلفون في التوصل إلى مقصد واحد ، ولذلك أكده لأنه لا يكاد يصدق اختلاف وجوه السعي مع اتحاد المراد ، وعبر بالسعي ليبذل كل في عمله غاية جهده ) لشتى ) أي مختلف اختلافاً شديداً باختلاف ما تقدم ، وهو جمع شتيت كقتلى وقتيل ، فيكون الإنسان رجلاً وهو أنثى الهمة ، ويكون أنثى وهو ذكر الفعل ، فتنافيتم في الاعتقادات ، وتعاندتم في المقالات ، وتباينتم غاية التباين بأفعال طيبات وخبيثات ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في إيثامها ، فعلم قطعاً أنه لا بد من محق ومبطل ومرض ومغضب لأنه لا جائز أن يكون المتنافيان متحدين في الوصف بالإرضاء أو الإغضاب ، فبطل ما أراد المشركون من قولهم
77 ( ) لو(8/446)
صفحة رقم 447
شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ( ) 7
[ النحل : 35 ] الآية وما ضاهاها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما بين قبل حالهم في الافتراق ، أقسم سبحانه على ذلك الشأن في الخلائق بحسب تقديره أزلاً ) ليبلوهم أيهم أحسن عملاً ) [ لا يوجد ليبلوهم بالياء في لغتنا وإنما كما في الكهف آية 7 : لنبلوهم. . .
وفي الملك آية 2 : لنبلوكم. . .
فقال تعالى : ( إن سعيكم لشتى ( فاتصل بقوله تعالى
77 ( ) قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ( ) 7
[ الشمس : 10 ] إن قوله تعالى ) فأما من أعطى واتقى - إلى - العسرى ( يلائمه تفسيراً وتذكيراً بما الأمر عليه من كون الخير والشر بإرادته وإلهامه وبحسب السوابق قوله :
77 ( ) فألهمهما فجورها وتقواها ( ) 7
[ الشمس : 8 ] فهو سبحانه الملهم للإعطاء والاتقاء والتصدق ، والمقدر للبخل والاستغناء والتكذيب
77 ( ) والله خلقكم وما تعملون ( ) 7
[ الصافات : 96 ]
77 ( ) لا يسئل عما يفعل ( ) 7
[ الأنبياء : 23 ] ثم زاد ذلك إيضاحاً بقوله تعالى ( إن علينا للهدى وإن لنا للأآخرة والأولى ( فتباً للقدرية والمعتزلة
77 ( ) وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( ) 7
[ يوسف : 105 ] - انتهى .
ولما طابق بين القسم والمقسم عليه ، ونبه بالقسم والتأكيد مع ظهور المسقم عليه على أنهم في أمنهم مع التحذير كمن يدعي أنه لا فرق وأن مآل الكل واحد كما يقوله أصحاب الواحدة - عليهم الخزي واللعنة شرع في بيان تشتت المساعي وبيان الجزاء لها ، فقال مسبباً عن اختلافهم ما هو مركوز في الطباع من أنه لا يجوز تسوية المحسن بالمسيء ناشراً لمن زكى نفسه أو دساها نشراً مستوياً إيذاناً بأن المطيع فيه هذه الأمة - ولله الحمد - كثير بشارة لنبيها ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فأما من أعطى ) أي وقع منه إعطاء على ما حددنا له وأمرناه به ) واتقى ) أي وقعت منه التقوى وهو اتخاذ الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا ) وصدق ) أي أوقع التصديق للمخبر ) بالحسنى ) أي وهي كلمة العدل التي هي أحسن الكلام من التوحيد وما يتفرع عنه من الوعود الصادقة بالآخرة والإخلاف في النفقة في الدنيا وإظهار الدين وإن قل أهله على الدين كله ، وغير ذلك من كل ما وعد به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سبحانه وتعالى ، وعدل الكلام إلى مظهر العظمة إشارة إلى صعوبة الطاعة على النفس وإن كانت في غاية اليسر في نفسها لأنها في غاية الثقل على النفس فقال : ( فسنيسره ) أي نهيئه بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه ) لليسرى ) أي الخصلة التي هي في غاية اليسر والراحة من الرحمة المقتضية للعمل بما يرضيه سبحانه وتعالى ليصل إلى ما يرضى به من الحياة الطيبة ودخول الجنة .(8/447)
صفحة رقم 448
ولما ذكر المزكي وثمرته ، أتبعه المدسي وشقوته فقال : ( وأما من بخل ) أي أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه ) واستغنى ) أي طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب وأوجده بما زعمت له نفسه الخائبة وظنونه الكاذبة .
فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى : ( وكذب ) أي أوقع التكذيب أن يستحق التصديق ) بالحسنى ) أي فأنكرها ، ولما كان جامداً مع المحسوسات كالبهائم قال : ( فسنيسره ) أي نهيئه بما لنا من العظمة وعد لا خلف فيه ) للعسرى ) أي للخصلة التي هي اعسر الأشياء وأنكدها ، وهي العمل بما يغضبه سبحانه الموجب لدخول النار وما أدى إليه ، وأشار بنون العظمة في كل من نجد الخير ونجد الشر إلى أن ارتكاب الإنسان لكل منهما في غاية البعد ، أما نجد الخير فلما حفه من المكاره ، وأام نجد الشر فلما في العقل والفطرة الأولى من الزواجر عنه ، وذلك كله أمر قد فرغ منه في الأزل بتعيين أهل السعادة وأهل الشقاوة ( وكما قال ( صلى الله عليه وسلم ) - ميسر لما خلق له ) .
الليل : ( 11 - 21 ) وما يغني عنه. .. . .
) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( ( )
ولما كان أهل الدنيا إذا وقعوا في ورطة تخلصوا منها بأموالهم قال : ( وما يغني ) أي في تلك الحالة ) عنه ) أي هذا الذي بخل وكذب ) ماله ) أي الذي بخل به رجاء نفعه ، ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً فيكون نافياً للإغناء على أبلغ وجه ) إذا تردّى ) أي هلك بالسقوط في حفرة القبر والنار ، تفعّل من الردى وهو الهلاك والسقوط في بئر .
ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها : ما له لا ييسر الكل للحسنى ، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظل إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر ، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً : ( إن علينا ) أي على ما لنا من العظمة ) للهدى ) أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك .
ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه(8/448)
صفحة رقم 449
يلزمه شيء ، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال : ( وإن لنا ) أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا ، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة ، فإنه يفيده مثلاً أن يقال : للعاجلة والأخرى ، فقال : ( للآخرة والأولى ( فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام ، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جداً ، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد ، فنعطي من نشاء وما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء ، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه ، وليس التقديم لأجل الفاصلة ، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع ، منها آخر سورة براءة ، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً ، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً ، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال : للأولى - أو للأولة - والأخرى مثلاً .
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان ، وأن له كل شيء ، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة ، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول فقال : ( فأنذرتكم ) أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته ) ناراً تلظّى ) أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها - بما أشار إليه إسقاط التاء ، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك ، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى .
ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء ، وكان الحصر ب ( لا ) و ( إلا ) أصرح أنواعه قال : ( لا يصلاها ) أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس ) إلا الأشقى ) أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر ، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم ، ولذلك وصفه بقوله تعالى : ( الذي كذب ) أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه ) وسيجنبها ) أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب - بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس ، وتجنيبه له في غاية السهولة - بما أفهمه البناء للمفعول ) الأتقى ) أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس ، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي ، وهو يفهم أن من لم يكن في الذروة لا يكون كذلك ، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها ، ولا ينافي الحصر السابق .(8/449)
صفحة رقم 450
ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية ، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال : ( الذي يؤتي ماله ) أي يصرفه في مصارف الخير ، ولذلك بينه بقوله تعالى : ( يتزكّى ) أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوئ الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى ، والآية من الاحتباك : ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً .
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال : ( وما ) أي والحال أنه ما ) لأحد عنده ( وأعرق في النفي فقال : ( من نعمة تجزى ) أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها .
ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة ، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع : ( إلا ) أي لكن قصد بذلك ) ابتغاء ) أي طلب وقصد ، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال : ( وجه ربه ( الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله ) الأعلى ) أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء ، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له ، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء - وهو تطلب رضا الله - كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب ، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب ، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى : إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله ، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات ، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة ، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة .
ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام ، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار : ( ولسوف يرضى ) أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة - بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم ، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس ، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد ، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكاري أنه قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه : أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، قال : منع ظهري أريد .
وقال : إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أهذب بصرها إلا اللات والعزى ، فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر(8/450)
صفحة رقم 451
اللات والعزى ولا تنفعان ، فرد الله عليها بصرها ، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل .
وقال : إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنقاذاً له مما كان فيه من العذاب حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه ، وكلما ضربه صاح ونادى : أحد أحد ، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر رضي الله عنه ، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجواء ومواش وكان مشركاً ، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون : ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده ، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم .
ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيها
77 ( ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( ) 7
[ الضحى : 5 ] إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه لأنه مما وعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال : ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه ) وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضي الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى ، وقال بعضهم : إن المراد بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت - والله الموفق للصواب .
.. .(8/451)
صفحة رقم 452
سورة الضحى
مقصودها الدلالة على آخر الليل بأن أتقى الأتقياء الذي هو الأتقى على الإطلاق في عين الرضا دائما ، لا ينفك عنهع في الدنيا والآخرة ، لما تحلى به من صفات الكمال التي هي الإيصال للمقصود بما لها من النور المعنوي كالضحى بما له من النور الحسي الذي هو أشرف ما في النهار وقد علم بهذا أن اسمها أدل ما فيها على مقصودها ) بسم الله ( المعز لمن أراد ، الكريم البر الودود ذي الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي عمن بنعمته الإيجاد الخاص والعام ) الرحيم ( الذي أعلى أهل وده فخصهم بإتمام الإنعام .
الضحى : ( 1 - 5 ) والضحى
) وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( ( )
ولما حكم في آخر الليل بإسعاد الأتقياء ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتقى الخلق مطلقاً ، وكان قد قطع عنه الوحي حيناً ابتلاء لمن شاء من عباده ، وكان به ( صلى الله عليه وسلم ) صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وكان الملوان سبب صلاح معاش الخلق وكثير من معادهم ، أقسم سبحانه وتعالى بهما على أنه أسعد الخلائق دنيا وأخرى ، فقال مقدامً ما يناسب حال الأتقى الذي قصد به أبو بكر رضي الله عنه قصداً أولياً من النر الذي يملأ الأقطار ، ويمحو كل ظلام يرد عليه ويصل إليه ، مفهماً بما ذكر من وقت الضياء الناصع حالة أول النهار وآخر الليل التي هي ظلمة ملتف بساقها ساق النهار عند الإسفار : ( والضحى ( فذكر ماهو أشرف النهار وألطفه وهو زهرته ، وأضوأه وهو صدره ، وذلك وقت ارتفاع الشمس لأن المقسم لأجله أشرف الخلائق ، وذلك يدل على أنه يبلغ من الشرف ما لا يبلغه أحد من الخلق .
ولما ذكر النهار بأشراف ما فيه مناسبة لأجل المقسم لأجله ، أتبعه الليل مقيداً له(8/452)
صفحة رقم 453
بما يفهم إخلاصه لأنه ليس لأشرف ما فيه اسم يخصه فقال : ( والّيل ) أي الذي به تمام الصلاة ؛ ولما كان أوله وآخر النهار وآخره وأول النهار ضوءاً ممتزجاً لظلمة لالتفات ساق الليل بساق النهار ، قيد بالظلام الخالص فقال : ( إذا سجى ) أي سكن أهله أو ركد ظلامه وإلباسه وسواده واعتدل لخفلص فغطى بظلامه كل شيء ، والمستجي : المتغطي ، ومع تغطيته سكنت ريحه ، فكان في غاية الحسن ، ويمكن أن يكون الأول مشيراً إلى ما يأتي به هذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من المحكم ، والثاني مشيراً إلى المتشابه ، وهذا الأربعة الأحوال للنور والظلمة - وهي ضوء ممتزج بظلمة ، وظلمة ممتزجة بضوء ، وظلام خالص - الحاصلة في الآفاق في الإنسان مثلها ، فروحه نور بنور القلب ، فإن قويت شهوة النفس على نورانية القلب أظلم جميعه ، وإن قويت نورانية القلب على ظلمة النفس صار نورانياً ، وإن غلب الروح على الطبع تروحن فارتفع عن رتبة الملائكة ، وإن غلب الطبع على الروح أنزله عن رتبة البهائم كما قال تعالى :
77 ( ) إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ( ) 7
[ الأعراف : 179 ] .
ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أجابه بقوله تعالى : ( ما ودعك ) أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع ) ربك ) أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً ، وجعلك أكمل الخلق ثانياً ، ورباك أحسن تربية ثالثا ، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه ، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له .
ولما كان ربما تعنت متعنت فقال : ما تركه ولكنه لا يحبه ، فكم من مواصل وليس بواصل ، قال نافياً لكل ترك : ( وما قلى ) أي وما أبغضك بغضاً ما ، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم ، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى ، وذلك لأنه كان انقطاع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال : ( أخبركم بذلك غداً ) ، ولم يستثن ، فقالوا : قد ودعه ربه وقلاه ، فنزلت لذلك ، ولما نزلت كبر ( صلى الله عليه وسلم ) فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها ، وقد أفهمت(8/453)
صفحة رقم 454
هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع : تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين ، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار ، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين ، وإعراط مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى :
77 ( ) فألهمها فجورها وتقواها ( ) 7
[ الشمس : 8 ] ثم أتبعه بقوله في الليل :
77 ( ) فسنيسره ( ) 7
[ الليل : 7 - 13 ] وبقوله :
77 ( ) إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى ( ) 7
[ الليل : 7 - 13 ] ، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجؤه إلى السميع العليم ، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه ، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ( ثم عدد تعالى عليه نعمة بعد وعده الكريم له بقوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ( وأعقب ذلك بقوله : ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ( سأل ، وقد حاشها سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أما هو ( صلى الله عليه وسلم ) فحسبك من تعرف رحمته ورفقه
77 ( ) وكان بالمؤمنين رحيماً ( ) 7
[ الأحزاب : 43 ]
77 ( ) عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ( ) 7
[ التوبة : 128 ] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله :
77 ( ) والليل إذا يغشى ( ) 7
[ الليل : 1 ] تنيبهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب ، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين ، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين ، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمته التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) لحارثة : ( وجدت فالزم ) وقال مثله للصديق ، وقال تعالى :
77 ( ) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( ) 7
[ يونس : 64 ]
77 ( ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( ) 7
[ فصلت : 30 ](8/454)
صفحة رقم 455
فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الإظلام ، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله :
77 ( ) يجعل لكم فرقاناً ( ) 7
[ الأنفال : 29 ] و
77 ( ) يجعل لكم نوراً تمشون به ( ) 7
[ الحديد : 28 ]
77 ( ) أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( ) 7
[ الأنعام : 122 ] فعمل هؤلاء على بصيرة ، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة ، فقطعوا عن الدنيا الآمال ، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال
77 ( ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( ) 7
[ السجدة : 16 ]
77 ( ) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( ) 7
[ السجدة : 17 ] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى : ( والليل إذا يغشى ( ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى : ( والنهار إذا تجلى ( ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي
77 ( ) فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( ) 7
[ التغابن : 2 ]
77 ( ) فريق في الجنة وفريق في السعي ( ) 7
[ الشورى : 7 ] أشار قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) وما خلق الذكر والأنثى ( ) 7
[ الليل : 3 ]
77 ( ) ومن كل شيء خلقنا زوجين ( ) 7
[ الذاريات : 49 ]
77 ( ) ففروا إلى الله ( ) 7
[ الذاريات : 50 ] الواحد مطلقاً ، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم ، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار : قلى محمداً ربه ، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى .
ولما ذكر حاله في الدنيا بأنه لا يزال يواصله بالوحي والكرامة ، ومنه ما هو مفتوح على أمته من بعده روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أريت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كَفراً كَفراً فسرني ذلك ) فلما كان ذلك وكان ذكره على وجه شمل الدارين صرح بالآخرة التي هي أعلى وأجل ، ولأدنى من يدخلها فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكيف بما له صلىالله عليه وسلم ، فقال مؤكداً لذلك كما أكد الأول بالقسم بما لهم فيه من الإنكار : ( وللآخرة ) أي التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر أو الحالة المتأخرة لك(8/455)
صفحة رقم 456
ليفهم منه أنه لا يزال في الترقي من عليّ إلى أعلى منه وكامل إلى أكمل منه دائماً أبداً لا إلى نهاية ) خير ( وقيد بقوله : ( لك ( لأنه ليس كل أحد كذلك ) من الأولى ) أي الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص كما أن النهار الذي هو بعد الليل خير منه وأشرف ولا سيما الضحى منه ، وقد أفهم ذلك أن الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء ، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء ، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر الآخرة وهم الكفرة الأغنياء ، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء ، قد قال :
الناس في الدنيا على أربع والنفس في فكرتهم حائره فواحد دنياه مقبوضة إن له من بعدها آخره وواحد دنياه مبسوطة ليس له من بعدها آخره وواحد قد حاز حظيهما سعيد في الدنيا وفي الآخره وواحد يسقط من بينهم فذلك لا دنيا ولا آخره
ولما ذكر سبحانه الدنيا والآخرة ، ذكر ما يشملهما مما زاده من فضله ، فقال مصدراً بحرف الابتداء تأكيداً للكلام لأنهم ينكرونه وليست للقسم لأنها إذا دخلت على المضارع لزمته النون المؤكدة ، وضم هذه اللام إلى كلمة التنفيس للدلالة على أن العطاء وإن تأخر وقته لحكمة كائن لا محالة : ( ولسوف يعطي ) أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة ) ربك ) أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعيد الآخرة ) فترضى ) أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك .
وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة ، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة ، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود ، والشفاعة العظمىة إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحدود ، وقد أفهمت العبارة أن الناس أربعة أقسام : معطى راض ، وممنوع غير راض ، ومعطى غير راض ، وممنوع راض ، وعن علي رضي الله عنه أناه أرجى آية في القرآن لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يرضى واحداً من أمته في النار .
الضحى : ( 6 - 11 ) ألم يجدك يتيما. .. . .
) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( ( )
ولما وعده بأنه لا يزال في كل لحظة يرقيه في مراقي العلا والشرف ، ذكره بما رقاه به قبل ذلك من حين توفي أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين ، فتم(8/456)
صفحة رقم 457
يتمه من الأبوين قبل بلوغه لئلا يكون عليه - كما قال جعفر الصادق - حق لمخلوق ، فقال مقرراً له : ( ألم يجدك ) أي يصادفك أي يفعل بك فعل من صادف آخر حال كونه ) يتيماً فآوى ( ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل ، ومن عدم العلم الضلال ، قالمبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحسان أصلاً : ( ووجدك ) أي صادفك ) ضالاً ) أي لا تعلم الشرائع
77 ( ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ( ) 7
[ الشورى : 52 ] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم ، والمسبب على السبب ، وهو عدم العلمن فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما عملت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه ، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة ، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراث من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه ذلك التأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الإعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع ) فهدى ) أي فهداك هدى محيطاً بكل علم ، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم .
ولما كان العيال يمنعون من التفرغ لعلم أو غيره قال : ( ووجدك ) أي حال كونك ) عائلاً ) أي ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم أو فقيراً ، قال ابن القطاع : عال الرجل : افتقر ، وأعال : كثر عياله .
) فأغنى ( بما جعل لك من ربح التجارة ثم من كسب الغنائم وقد أفهم ذلك أن الناس أربعة أقسام : منهم من وجد الدين والدنيا ، ومنهم من عدمهما ، ومنهم من وجد الدين لا وجد الدنيا ، ومنهم من وجد الدنيا لا الدين .
ولما ذكره بما أنعم عليه به من هذه النعم الثلاث أوصاه بما يفعل في ثلاث مقابلة لها ، فقال مسبباً عنه مقدماً معمول ما بعد الفاء عليها اهتماماً : ( فأما اليتيم ) أي هذا النوع ) فلا تقهر ) أي تغلبه على شيء فإنما أذقتك اليتم تأديباً بأحسن الآداب لتعرف ضعف اليتيم وذله ، وفوق ذلك كفالته وهي خلافة عن الله لأن اليتيم لا كافل له إلا الله ، ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) - وأشار بالسبابة والوسطى .
ولما بدأ بما كان بداية له ، ثنى بما هو نهاية له من حيث كاونه يصير رأس الخلق فيصير محط الرجال في كل سؤال من علم ومال ، فقال مقدماً له اهتماماً به إشارة إلى أنه جبر الخواطر والاستئلاف الخلق من أعظم المقصاد في تمام الدين : ( وأما السائل ) أي الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال ) فلا تنهر ) أي تزجر زاجراً مهيناً ، فقد علمت مضاضة العيلة ، بل أعطه ولو قليلاً ، أو رده رداً جميلاً ، وكذا السائل في العلم .
ولما ذكر له تفصيل ما يفعل في اليتيم والفقير والجاهل ، أمره بما يفعل في العلم(8/457)
صفحة رقم 458
الذي آتاه إياه إعلاماً بأنه الآلة التي يستعملها في الأمرين الماضيين وغيرها لأنها أشرف أحوال الإنسان وهي أوفق الأمور لأن يكون مقطع السورة لتوافق مطلعها فقال : ( وأما بنعمة ربك ) أي الذي أحسن إليك بإصلاح جميع ما يهمك من العلم وغيره وبالهجرة ومبادئها عند تمام عدد آيها من السين وهي إحدى عشرة ) فحدث ) أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة ، ومنها إنقاذك بالهجرة من أيدي الكفرة وإعزازك بالأنصار ، وتحديثك بها شكرها ، فإنك مرشد يحتاج الناس إلى الاقتداء بك ، ويجب عليهم أن يعرفوا لك ذلك ويتعرفوا مقدارك ليؤدوا حقك ، فحدثهم أني ما ودعتك ولا قليتك ، ومن قال ذلك فقد خاب وافترى ، واشرح لهم تفاصيل ذلك بما وهبتك من العلم الذي هو أضوأ من ضياء الضحى وقد رجع آخرها على أولها بالتحديث بهذا القسم والمقسم لأجله ، وما للملك الأعلى في ذلك من عميم فضله : ولقد امتثل ( صلى الله عليه وسلم ) وابتدأ هذا التحديث الذي يشرح الصدور ، ويملأ الأكوان من السرور ، والنعمة والحبور ، لأنه بأكبر النعم المزيلة لكل النقم بالتكبير كما ورد في قراءة ابن كثير وفي رواية السوسي عن أبي عمرو ، واختلف القراء في ابتدائه وانتهائه ولفظه ، فقال بعضهم : هو من أول الضحى ، وقال آخرون : من آخرها ، وقال غيرهم من أول الشرح ، فمن قال للأول لم يكبر آخر الناس ، ومن قال للآخر انتهى تكبيره بالتكبير في آخرها ، وسببه أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد فترة الوحي ، فتلا السورة عليه كبر مسروراً لما كان أحزنه من الفترة ومن قول المشركين : قلاه ربه ، وتحديثاً بالنعم التي حباه الله بها في هذه السورة له ولأمته امتثالاً لما أمر به واختلف عنهم في لفظه ، فمنهم من اتقصر على ( الله أكبر ) ومنهم من زاد التهليل فقال : ( لا إله إلا الله والله أكبر ) وهذا هو المستعمل ، ومنهم من زاد ( ولله الحمد ) والراجح قول من قال : إنه لآخر الضحى إسناداً ومعنى ، لأنها وإن كانت هي السبب والعادة جارية بأن من دهمه أمر عظيم يكبر مع أوله ، لكن شغله ( صلى الله عليه وسلم ) بالإصغاء إلى ما يوحى إليه منعه من ذلك ، فلما ختمت السورة تفرغ له ، فكان ذلك الوقت كأنه ابتدأ مفاجأ ذلك الأمر العظيم له ، وزاد ما في السورة من جلائل النعم المقتضية للتحميد وما في ذلك من بدائع الصنع الموجب للتهليل ، وقد علم بذلك سبب من ظنه في أولها ، وأما من ظنه لأول الأشياء بالأوائل هو الأمر المعتاد ، وحكمته مع ما مضى من سببه أن التهليل توحيده سبحانه وتعالى بالأمر ، وامتناع شريك يمنعه من شيء يريده من الوحي وغيره ، والتكبير تفريده له بالكبرياء تنزيهاً له عن شوب نقص يلم به من أن يتجدد له علم ما لم يكن(8/458)
صفحة رقم 459
ليكون ذلك سبباً لقطع من وصله بوحي أو غيره ، والتحميد إثبات التفرد بالكمال له على إسباغ نعمه ، وفي ذلك أن هذه السورة آذنت بأن القرآن أشرف على الختام ، لأن عادة الحكماء من المدبرين تخفيف المنازل في الأواخر على السائرين كتخفيف أول مرحلة رفقاً بالمقصرين ، فناسب الذكر بهذا عند الآخر لأن تذكر الانقضاء يهيج مثل ذلك عند السالك ، ولأن تقصير السور ربما أوهم شيئاً مما لا يليق ، فسن التنزيه بتكبيره سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم نقصاً ، وإثبات الكمال له بالتوحيد منبه على الحث على تدبر ما في هذه السورة من الجمع للمعاني على وجازتها وقصر آياتها وحلاوتها مع ما في ذلك من تخفيف التعليم ، والتدريب على الحفظ في المبادئ والتحبيب فيه والتهييم ، والتحميد على إتمام النعمة على غاية الإحكام من لدن حكيم عليم .
.. .(8/459)
صفحة رقم 460
سورة الشرح
مقصودها تفصيل ما في آخر الضحى من النعمة ، وبيان ان المراد بالتحديث ببها هو شكرها بالنصب في عبادة الله والرغبة إليه بتذكر إحسانه وعظيم رحمته بوصف الربوبية وامتنانه ، وعلى ذلك دل اسمها الشرح ) بسم الله ( الذي جل أمره وتعالى جده ولا إله غيره فعظم ما له من إنعام ) الرحمن ( الذي أفاض جوده على سائر خلقه لأنه ذو الجلال والإكرام ) الرحيم ( الذي إلى أهل حضرته بخاص رحمته في مقامات الاختصاص إلى أعلى مقام .
الشرح : ( 1 - 8 ) ألم نشرح لك. .. . .
) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( ( )
ولما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح ، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح .
) ألم نشرح ) أي شرحاً يليق بعظمتنا ) لك ) أي خاصة .
ولما عين المشروح له ، فكان المشروح مبهماً ، فزاد تشوف النفس إليه ليكون أضخم له ، بينه ليكون بياناً بعد إبهام فيكون أعظم في التنويه به وأجل في التعريف بأمره فقال : ( صردك ) أي نسره ونفرحه بالهجرة ، فإن هذه السورة مدنية عند ابن عباس رضي الله عنهما ، ونجله ونعظمه ونخرج منه قلبك ونشقه ونغسله ونملأه إيماناً وحكمة ورأفة وعلماً ورحمة ، فانفسح جداً حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق ، فكان مع الحق بعظمته واترفاعه ، ومع الخلق بفيض أنواره وشعاعه ، وقد كان هذا الشرع حقيقة(8/460)
صفحة رقم 461
مراراً ، وكان مجازاً أيضاً بإحلال جميع معانيه ، وكل ذلك على ما لا يدخل تحت الوصف لا يعبر لكم عنه بأثر من أنه شق بعظمتنا ، فالعلم الذي شق به معرفة الله والدار الآخرة والدين والدنيا ، والحمة التي درّت فيه هي وضع الشيء في محله ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وقرأ أبو جعفر المنصور بفتح جاء ( نشرح ) وخرجها ابن عطية على التأكيد بالنون الخفيفة ثم أبدل ألف من النون ، ثم حذف النون تخفيفاً ، وقال أبو حيان بأن اللحياني حكى في نوادره عن بعض العرب النصب بلم والجزم بلن ، وسره هنا أن الفتح في اللفظ مناسب غاية المناسب للشرح ، ووجه قراءة الجمهور أنه لما دل على الفتح بالشرح دل بالجزم على أنه مع ذلك رابط لما أودعه من الحكم ضابط له ، هاد بما فيه من رزانة العلم ، ووقار التقى والحمل ، قال ابن برجان : ففرق ما بين النبي والولي في باطناً ، والكافر ضيق ذلك منه وأبقى بظلمته وحظوظ الشيطان منه فهو لا يستطيع قبول الهداية ولا الصعود في معارج العبرة إلى على مقدار ما يستطيع الصعود في السماء
77 ( ) كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ( ) 7
[ الأنعام : 125 ] .
ولما كانت سعة الصدر بالعلم والحكمة هي الجمال باجتماع المحاسن ، وكان ذلك مع حمل ما يعني من أعظم النكد ، وكان الجمال بجمع المحاسن لا يكمل إلا إذا جمع إلى الجمال الجلال بانتفاء الرذائل ، وكان الاستفهام الإنكاري إذا اجتمع مع النفي صار إثباتاً ، لأنه نفي للنفي ، قال عاطفاً عليه ما لا يعطف إلا مع الإثبات ) ووضعنا ) أي حططنا وأسقطنا وأبطلنا حطاً لا رجعة له ولا فيه بوجه بما لنا من العظمة ، مجاوزاً ) عنك وزرك ) أي حملك الثقيل الذي لا يستطاع حمله ، ولذلك وصفه بقوله : ( الذي أنقض ظهرك ) أي جعله وهو عماد بدنك تصوت مفاصله من الثقل كما يصوت الرحل الجديد إذا لز بالحمل الثقيل ، وذلك هو ما دهمه عندما أمر بإنذار قومه ومفاجأتهم بما يكرهون عن عيب دينهم وتضليل آبائهم وتسفيه حلومهم في التدين بدين لا يرضاه أدنى العقلاء إذا تأمل شيئاً من تأمل مع التجرد من حظ النفس مع ما عندهم من الأنفة والحمية وإلقاء الأنفس في المهالك لأدنى غضب ، فقال : ( يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ) فخفف سبحانه وتعالى عنه ذلك بما أظهر له من الكرامات وأيده به من المعجزات ، وضمن له من الحماية إلى أمور لا يحيط بها علماً إلا الذي أيده بها
77 ( ) والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] حتى خف ذلك عليه ، فصار أشفق أهله عليه(8/461)
صفحة رقم 462
يمنعه من بعض الإبلاغ ويمسك بثوبه لئلا يخرج إلى النار فيقول لهم ذلك فيحصل له ما يكره فيجذب نفسه منه ويخرج إليهم فيخبرهم كما وقع في أمر الإسراء وغيره ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن جبريل عليه الصلاة والسلام شق صدره فأخرج منه قلبه فشرحه وأخرج منه علقة سوداء فأنقاه وغسله ثم ملأه علماً وإيماناً وحكمة ، يعني فصار يحتمل ما لا يحتمله غيره ، وخف عليه ما يثقل على غيره ، ولا شك أن ذلك وزر لغوي ، وهو واضح ، وشعري بالمال على تقدير ترك الامتثال اللازم للاستثقال ، وقد أعاذه الله من ذلك .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : معنى هذه السورة من معنى السورة قبلها ، وحاصل السورتين تعداد نعمه سبحانه وتعالى عليه ، فإن قلت : فلم فصلت سورة ألم نشرح ولم ينسق ذكر هذه النعم في سور واحدة ، قلت : من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماً أن يذكر له أولاً ما شاهد الحصور عليه منها بسببه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء ، فإذا استوفى له ما قصده من هذا ، أتبعه بذكر نعم ابتدائيه قد كان ابتداؤه بها قبل وجوده كقول الأب مثلاً لابنه : ألم أختر لأجلك الأم والنفقة حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا ، ونظير ما أشرنا إليه بقوله سبحانه لزكريا عليه الصلاة والسلام
77 ( ) ولم تك شيئاً ( ) 7
[ مريم : 9 ] وقد قدم له
77 ( ) إنا نبشرك بيحيى ( ) 7
[ مريم : 7 ] والية ) إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ( وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قصر نظره ولم يوفق فابتدئ بذكرها ثم أعقب بما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك ، وهو قوله :
77 ( ) وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ( ) 7
[ مريم : 9 ] وله نظائر من الكتب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين - والله أعلم - انتهى .
ولما شرفه في نفسه بالكمال الجامع للجلال إلى الجلال ، وكان ذلك لا يصفو إلا مع الشرف عند الناس قال : ( ورفعنا ) أي بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة ) لك ) أي خاصة رفعة تتلاشى عندها رفعة غيرك من الخلق كلهم ) ذكرك ( عند جميع العالمين العقلاء وغيرهم بالصدق والأمانة والحلم والرزانة ومكارم الأخلاق وطهارة الشيم وانتفاء شوائب النقص حتى ما كانت شهرتك عند قومك قبل النبوة إلا الأمين ، وكانوا يضربون المثل بشمائلك الطاهرة ، وأوصافك الزاهرة الباهرة ، ثم بالنبوة ثم بالرسالة ثم بالهجرة ، وبأن جعلنا اسمك مقروناً باسمنا في كلمة التوحيد والإيمان والإذان والإقامة والتشهد والخطبة ، فلا أذكر إلا وذكرت معي ، ومن الكرامة الظفر على أعدائك والكرامة لأوليائك ، وجعل رضاك رضاي وطاعتك طاعتي ، وأمر ملائكتي بالصلاة عليك ، (8/462)
صفحة رقم 463
ومخاطبتي لك بالألقاب العلية والسمات المعزة المعلية من الرسول والنبي ، ونحو ذلك على حسب الأساليب ومناسبات التراكيب إلى غير ذلك من فضائل ومناقب وشمائل لا تضبط بالوصف ، قال الرازي : ثم جعل لأمته من ذلك أوفر الحظ ، قيل : يا رسول الله ، من أولياء الله ؟ قال : ( الذين إذا ذُكروا ذُكر الله ) وفي حديث : ( الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله ) وقال : ( خياركم من تذكر الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويزهدكم في الدنيا عمله ) فمنتهى قسمة الثناء أن خلط ذكره بذكره .
ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال ، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار ، فإن الهمم إذا عظمت استعت مجالاتها ، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه ، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان ( صلى الله عليه وسلم ) فيه نم الصبر على الأكدار ، وتجرع مرارات الأقدار ، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى : ( فإن ) أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن ) مع العسر ) أي هذا النوع خاصة ) يسراً ) أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح ، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال ، وأنه الفعال بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها ، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب ، فلما قاسى ( صلى الله عليه وسلم ) مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان ، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن العلية ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم ، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر ( فيحمل ) - كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها - ( الكَلَّ ، ويقري الضيف ، ويصل الرحمن ، ويعين على نوائب الحق ) .
ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره ، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على(8/463)
صفحة رقم 464
الدين كله ، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم ، ويكثرهم بعد قلتهم ، ويعزهم بعد ذلتهم ، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد ، وينقاد له المخالف أتم انقياد ، ويفتح له أكثر البلاد ، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر ، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال ، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال ، وأن فعله بالاختيار ، لا بالذات والإجبار .
ولما كان العسر مكروهاً إلى النفوس ، وكان لله سبحانه وتعالى فيه حكماً عظيمة ، وكانت الحكم لا تتراءى إلا للأفراد من العباد ، كرره سبحانه وتعالى على طريق الاستئناف لجواب من يقول : وهب بعده من عسر ؟ مؤكداً له ترغيباً في أمره ترقباً لما يتسبب عنه مبشراً بتكريره مع وحدة العسر وإن كان حمل كل واحد منهما على شيء غير ما قصد به الآخر ممكناً فقال : ( إن مع العسر ) أي المذكور فإنه معرفة ، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كانت غير الأولى سواء أريد العهد أو الجنس ) يسراً ) أي آخر لدفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنها غيرُها ) فقال الحسن البصري : إن الآية لما نزلت قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين ) وقد روى هذا من أوجه كثيرة ، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه ) وللطبراني عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية ، قال الحافظ نور الدين الهيثمي : وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف ، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط والبزار عن أنس رضي الله عنه بنحوه ، قال الهيثمي : وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف ، وروى الفراء عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول : ( لن يغلب عسر يسرين ) وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلاً ، ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي(8/464)
صفحة رقم 465
في الشعب ورواه الطبري من طريق ابن ثور عن معمر ، ورواه ابن مردويه من طريق أخرى موصلاً وإسناده ضعيف ، وفي الباب عن عمر ذكره مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه بلغه أن أبا عبيدة رضي الله عنه حضر بالشام فكتب إليه كتاباً فيه ( ولن يغلب عسر يسرين ) ومن طريقه رواه الحاكم ، قال ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ، وقال : وهذا أصح طرقه - انتهى ، وهذا من جهة أن اليسر نكرة والعسر معرفة ، وقد اشتهر أن النكرة إذا أعيدت نكرة فالثاني غير الأول ، والمعرفة بالعكس ، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في أول تلويحه في الكلام على المعرفة والنكرة : الكلام فيما إذا أعيد اللفظ الأول إما مع كيفيته من التنكير والتعريف أو بدونها ، وحينئذ يكون طريق التعريف هو اللام أو الإضافة ليصح إعادة المعرفة نكرة وبالعكس ، وتفصيل ذلك أن المذكور أولاً إما أن يكون نكرة أو معرفة ، وعلى التقديرين إما أن يعاد نكرة أو معرفة فيصير أربعة أقسام ، وحكمها أن ينظر إلى الثاني ، فإن كان نكرة فهو مغاير للأول ، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً بالذكر ، إن كان معرفة فهو الأول حملاً له على المعهود الذي هو الأصل في اللام والإضافة ، وذكر في الكشف أنه إذا أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول وإلا فعينه فإن المعرفة تستغرق الجنس ، والنكرة تتناول البعض ، فيكون داخلاً في الكل سواء قدم أو أخر ، وفيه نظر ، أما أولاً فلان التعريف لا يلزم أن تكون للاستغراق بل العهد هو الأصل ، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه ، وأما ثانياً فلان معنى كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد بالأول ، والجزاء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك ، وأما ثالثاً فإن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام ، قال الله تعالى :
77 ( ) ثم آتينا موسى الكتاب تماماً ( ) 7
[ الأنعام : 154 ] إلى قوله :
77 ( ) وهذا كتاب أنزلناه ( ) 7
[ الأنعام : 155 ] وقال تعالى : ( اهبطا بعضكم لبعض عدو ) [ البقرة : 36 ] وقال تعالى :
77 ( ) ورفع بعضكم فوق بعض درجات ( ) 7
[ الأنعام : 165 ] إلى غير ذلك ، وقال غيره :
77 ( ) أيسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ( ) 7
[ النساء : 153 ] ومنه قول الشاعر :
إذا الناس ناس والزمان زمان
فإن الثاني لو كان عين الأول لم يكن في الإخبار به فائدة - انتهى .
قال : واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرائن وإلا فقد تعاد النكرة مع(8/465)
صفحة رقم 466
عدم المغايرة كقوله تعالى :
77 ( ) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ( ) 7
[ الزخرف : 84 ]
77 ( ) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ) [ الأنعام : 37 ] ) ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة ( ) 7
[ الروم : 54 ] يعني قوة الشباب ، ومنه باب التأكيد اللفظي ، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ( إلى قوله :
77 ( ) أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( ) 7
[ الأنعام : 156 ] وقال غيره :
77 ( ) فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير ( ) 7
[ النساء : 128 ] المراد بالنكرة خاص وهو الصلح بين الزوجين ، وبالمعرفة عام في كل صلح جائز
77 ( ) زدناهم عذاباً فوق العذاب ( ) 7
[ النحل : 88 ] فإن الشيء لا يكون فوق نفسه - انتهى .
قال : وقد تعاد المعرفة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى :
77 ( ) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ( ) 7
[ المائدة : 48 ] وقال غيره :
77 ( ) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( ) 7
[ آل عمران : 26 ] الأول عام والثاني خاص ،
77 ( ) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( ) 7
[ الرحمن : 60 ] الأول العمل والثاني الثواب
77 ( ) وكتنبا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( ) 7
[ المائدة : 45 ] الاولى القاتلة والثانية المقتولة - انتهى ، قال : وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى :
77 ( ) أنما إلهكم إله واحد ( ) 7
[ الكهف : 110 ] ومثله كثير ، والمعرفة مثل النكرة في حالتي الإعادة معرفة والإعادة نكرة في أنها إن أعيدت معرفة كان الثاني هو الأول ، وإن أعيدت نكرة كان غيره ، ثم مثل بالآية التي هنا ، وقال : وهذا مبني على أن تنكير ) يسراً ( للتخفيم وتعريف العسر للعهد ، أي العسر الذي أنتم عليه أو الجنس أي الذي يعرفه كل أحد ، فيكون اليسر الثاني مغايراً للأول بخلاف العسر - انتهى .
وقال في الكشاف : وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً عن منكر تناول بعضاً غير البعض الأول بغير الإشكال .
ولما علم من هذا أن المواد تكون بحسب الأوراد الشداد لما على الممدود من الشكر ، ولما علم للشاكر من الوعد بالمزيد ، قال مسبباً عما أعطاه من اليسر بعد ذلك العسر ندباً له إلى الشكر وإعلاماً بأنه لا ينفك عن تحمل أمر في الله : ( فإذا فرغت ) أي بما آتاك من اليسر يسر من جهادك الذي أنت فيه في وقت المخاطبة بهذا الكلام ما يوجب عسراً في المآل أو الحال ، وعقبه العسر في أي موضع كان لا سيما عند دخول الناس في الدين أفواجاً ، أو من العبادة الثقيلة العظيمة بسماع الوحي وتحمله ، أو من الغرض بالتيسير الذي بشرناك به ) فانصب ) أي بالغ في التعب بعبادة أخرى من التسبيح والاستغفار ، أو النفل لمن أولاد هذا المعروف ) وإلى ربك ((8/466)
صفحة رقم 467
بما ذكر في هاتين السورتين خاصة ) فارغب ) أي بالسؤال لأنه القادر وحده كما قدر على تربيتك فيما مضى وحده ، لأنه المختص بالعظمة ، فلا قدرة أصلاً إلا لمن يعطيه ما يريده منها ، والرغب شعار العبد دائماً في كل حال أي افعل ذلك ) ألم نشرح لك صدرك ؟ ( فقد اتصل هذا الآخر بالأول اتصال المعلول بالعلة ، ولاءم ما بعدها بذلك أيضاً بعينه ملاءمة الشمس بالأهلة ، وآخر هذه السورة مشيرة إلى الاجتهاد في العبادة عند الفراغ من جهاد الكفار في جزيرة العرب بعد انقضاء ما يوازي عدد آي هذه السورة من السنين بعد الهجرة ، وهي ثمان ، رغبة في الأخرى التي هي خير من الأولى ، إشارة إلى قرب الأجل بما أشارت إليه سورة النصر - كما سأتي إن شاء الله تعالى .
.. . .(8/467)
صفحة رقم 468
( سورة التين )
مقصودها سر مقصود ) ألم نشرح ( وذلك هو إثبات القدرة الكاملة وهو المشار إليه باسمها ، فإن في خلق التين والزيتون من الغرائب ما يدل على ذلك ، وكذا فيما أشير إليه بذلك من النبوات ، وضم القسم إلى المقسم عليه وهو الإنسان ، الذي هو أعجب ما في الأكوان ، واضح في ذلك ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه ) الرحمن ( الذي عم بنعمته إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه وأدناه وأقصاه ) الرحيم ( الذي خص من بينهم أهل وده بما يرضاه ، وأردى من عداهم وأشقاعه .
لما ذكر سبحانه وتعالى في تلك السورة أكمل خلقه وما كمله به ، وختمها بالأمر بتخصيصه سيحانه وتعالالى بالرغبة إليه ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقوم حتى تورم قدماه ويبذل الجهد لمولاه في كل ما يرضاه ، ذكر في هذه أنه سبحانه وتعالى كما جعل ذاته أكمل ذوات المخلوقات خصه بأن جعل نوعه ( صلى الله عليه وسلم ) أكمل الأنواع وهو الإنسان ، وأصله أعظم الأصول هو إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبلده أفضل البلاد وهي مكة ، وأن من عاداه بمنابذة شرعه أسفل الخلق ، وأن له سبحانه وتعالى تمام القدرة ، وهو فاعل بالاختيار ، يعلي من يشاء ويسفل من يشاء ، فمنزلتها من آخر تلك منزلة العلة من المعلول ، وأقسم فيها بأشياء أشار بها إلى شرفها في أنفسها وفي عجيب صنعها وشرف البقاع التي يكون بها إيماء إلى ما شرفها به مما أظهر بها من الخير والبركاات بسكنى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والصالحين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فكانت مهاجر إبراهيم ومولد عيسى وأكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسام ومنشأهم ، وكان منها مظهر نبوة موسى ، ومظهر نبوة اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وولده خاتم الأنبياء الكرام ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، ومكان البيت الذي هو قواتم للناس ، وهدى للعالمين ، إلى غير ذلك من الإشارات الظاهرات والدلالات الواضحات على تمام قدرته وفعله بالاختيار ، لأنه يعلي من يشاء من العقلاء وغيرهم من البقاع وغيرها على أحسن تقويم ، ويسفل من يشاء من ذلك كله إلى أسفل سافلين .(8/468)
صفحة رقم 469
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه سورة موضحة ومتممة للمقصود في السورتين قبلها ، فبان لك أن الصورة الإنسانية بظاهر الأمر - مما هي عليه من الترتيب والإتقان - قد كانت تقتضي الاتفاق بظاهر ارتباط الكمال بها من حيث إلها في أحسن تقويم ، والافتراق يبعد في الظاهر ، فكيف افترق الحكم واختلف السلوك ، فمن صاعد بالاستيضاح والإمتثال ، ونازل أسفل سافلين فضلا عن ترقي بعض درجات الكمال ، فإذا ليس يرقى من خص بمزية التقريب إلا لأنه نودي من قريب فأسرع في إجابة مناديه وأصاخ ، وما اعتل بحاديه فسل من واضحات السبيل ما رسم له ، وبنى على ما كتب له من ذلك عمله ) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ السجدة : 13 ] فعلى العاقل المنصف في نفسه أن يعلم أن كلا ميسر لما خلق له فيضرع إلى خالقه في طلب الإخلاص " من وجد خيرا فليحمد الله " فأوضحت هذه السورة ان ما أعطى الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وخصه به من ضروب الكرانمات وابتدأه من عظيم الآلاء مما تضمنته السورتان إلى ما منحه من خير الدارين وما تضمنه. قسمه له سبحانه وتعالى أنه ما ودعه ولا قلاه من الملاطفة والتأنيس ودلائل الحب والتقريب - كل ذلك فضلا منه سبحانه وتعالى وإحسانا لا لعمل تقدم يستوجب ذلك أو بعضه ، ولو تقدم عمل لم يقع إلا بمشيئته ، وتوفيقه وإرادته ، ولا يستوجب أحد عليه شيئا ، وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء ، فقال سبحانه وتعالى منبها على ما وقع الإيماء إلى بعضه ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( ومع ذلك لا ينفعه وقوع صورته الظاهرة في عالم الشهادة على أكمل خلق ولأتم وضع بل إذا لم يصحبه توفيق وسبقته سعادة من خالقه ولم يجعل له نور يمشي به لم ير غير نفسه ولا عرف إلا أبناء جنسه ، فقصر نظره على أول ما شاهد ، ووقف عند ما عاين من غير اعتياد يحده إلى تحقق مآله وتبين جحاله أنه لم يكن شيئا مذكورا ، فلما قصر وما أبصر اعتقد لنفسه الكمال ، وعمي عن المبتدأ والمآل ، فصار أسفل سافلين حيث لم ينتفع بالآيات نظره ، ولا عرف حقيقة خبره ) أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نظفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ) [ يس : 87 - 87 ] ثم قال تعالى : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فهم الذين هداهم ربهم ) بإيمانهم ( فجروا بسببه من خلقه في أحسن تقويم ن واستوضحوا الصراط المستقيم ، واستبصروا فأبصروا ، ونظروات فاعتبروا. وقالوا : ربنا الله ثم استقاموا ، فلهم أجر غير ممنون - انتهى .(8/469)
صفحة رقم 470
التين : ( 1 - 8 ) والتين والزيتون
) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( ( )
ولماكان التين أحسن الفواكه تقويماً فما فيما ذكروا من فضيلته ، وهو مع كونه فاكهة شهية حلوة جداً - غذاء يقيم الصلب وقوت كالبر وسريع الهضم ، ودواء كثير النفع يولد دماً صالحاً وينفع الرئة والكلى ويلين الطبع ويحلل البلغم ويزل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال ، فكان جامعاً لجميع منافع المتناولات من الغذاء والتفكه والتحلي والتداوي ، فهو كامل في مجموع ما هو فيه من لذة طعمه وكثرة نفعه ، وكونه كفاكهة الجنة بلا شائبة تعوق عن أكله من صنوان يتعب أو نوى يرمى ، مع أنه ينتفع به رطباً ويابساً ، وهو مع ذلك في سرعة فساده وسوء تغيره أسفلها رتبة وأردؤها مغبة ، فهو كالفطرة الأولى في مبدئه سهولة وحسناً وقبولاً لكل من الإصلاح والتغير ، كآخر الهرم عند نهايته في عظيم تغيره بحيث إنه لا ينتفع بشيء منه إذا تغير ، وغيره من الفواكه إذا فسد جانب منه بقي آخر فكان في هذا كالقسم للسافل من الإنسان أقسم الله تعالى به فقال : ( والتين ( بادئاً به لأن القسم المشار به إليه أكثر ، فالأهتمام به أكبر .
ولما كان الزيتون في عدم فساد يطرقه أو تغير يلحقه ، وفيه الدسومة والحرافة والمرارة ، وهو إدام ودواء مع تهيئه للنفع بكل حال في أكله بعد تزييته والتنوير بدهنه والادهان به لإزالة الشعث وتنعيم البشرة وتقوية العظم وشد العصب وغير ذلك من المنافع مع لدنه وما يتبع ذلك من فضائله الجمة كالمؤمن تلاه به فقال : ( والزيتون ( ولما كان مع ذلك مشاراً بهما إلى مواضع نباتها وهي الأرض المقدسة من جميع بلاد الشام إيماء إلى من كان بها من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان لا سيما إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كانت مهاجره فأحياها الله تعالى بعباده وتردد الملائكة إليه بالوحي ومن بعده أولاده الذين طهرها الله بهم من الشرك وأنارها بهم بالتوحيد ، وختمهم بعيسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم المشرف بكونه من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وكانت الكناية بالشجرتين عن البلد المراد به سكانه أبلغ من التصريح أشرافهم إلا موسى وهارون وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، فأشار إلى الأولين بقوله معبراً بما يدل على أحسن التقويم لأن الطور الجبل ذو النبت من النجم والشجر المثمر وغيره : ( وطور ) أي جبل المكان المسمى بهذا الاسم .
ولما كان الكلام في التقويم ، كان المناسب له صورة جمع السلامة فقال تعالى :(8/470)
صفحة رقم 471
) سينين ) أي وما كان بالجبل ذي النبت الحسن الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من لذيذ المناجاة وعجائب المواعدة وحكم الكلام مع أنه فيه من الأشجار والأماكن ما يكنّ من الحر والبرد ، وفيه لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته ، وفيه ما يصلح للزرع من غير كلفة ، وفيه ما يأكله الناس والدواب مع الماء العذب والفناء الرحب والمنظر الأنيق ، وسنين وسيناء - اسم للموضع الذي هذا الجبل به ، وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ليكون في البدء بكا يرد بعد حسن التقويم إلى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار : ( وهذا البلد ) أي مكة ، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله ) الأمين ) أي الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه ، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أنه به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس فهو مدار الدين والدنيا ، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد ، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب - والناس يتخطفون من حوله ، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد ، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا ، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما ، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد ، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللداد .
ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا ، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة ، فتوقع أكل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته ، أجيب بقوله تعالى محققاً : ( لقد خلقنا ) أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة ) الإنسان ) أي هذا النوع الذي جمع فيه(8/471)
صفحة رقم 472
الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه ، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام
77 ( ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( ) 7
[ البقرة : 30 ] لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة فيتولد الفساد من الشهوة والسفك من الغضب ) في أحسن تقويم ) أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق والخلق بما خص به من انتصاب القامة وحسن الصورة واجتماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصرة والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به وقويناه بقدرتنا لقبول الحق ، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير
77 ( ) كان الناس أمة واحدة ( ) 7
[ البقرة : 213 ] في البقرة ، وقال ابن برجان هنا : مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم ، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم ، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان ، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملؤوا الأرض علماً وحمةً ونوراً ، قال البغوي : خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل والتمييز - انتهى ، والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب ، ومن المعلوم أن المقصود كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء ، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فعبضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال ، فكل ميسر لما خلق له ، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه ، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يريده ، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر ، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر - فاعتبر ذلك ، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال - والله الهادي ، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم - قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره ، وصيغة ( أفعل ) لا تدل على ما قاله الزنادقة ، وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، (8/472)
صفحة رقم 473
لأن الدرجة الواحدة تتفاوت غلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفارد الإنسان في صورة وألوانه ، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه ، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته : تهديم الأركان من ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) ، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان ، وجرت فيه فتن تصم الآذان ، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان ، وقهر أهل الطغيان ، ثم أردفته بكتاب ( دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان ثم شفيت الأسقام ، ودمغت الأخصام ، وخسأت الأوهام ، بالقول الفارق بين الصادق والمنافق ، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع ، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته ، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر في الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتبه الإحياء وغيره ولا سيما كتابه ) تهافت الفلاسفة ( وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة وقولهم بأن فعله بالذات ، وبين فساد ذلك ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوته بالصغر والكبر ، وعلى كل ممكن ، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن ، وعرف الممتنع بانه إثبات الشيء مع نفيه ، وإثبات الأخص مع نفي الأعم ، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد ، وقال : وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن ، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم - والله الموفق لما يريد .
ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات ، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات ، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى ، لم يستثن بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم ، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة : ( ثم رددناه ) أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه ، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً وهوى أو أعم من ذلك بالنكس ) أسفل سافلين ) أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات ، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات ، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس ، وجعلناها داعية إلى كل بؤس ، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد ، وأوقعته في المهاوي والمعاطب ، حتى أنه ليركب كثير من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع ، لا(8/473)
صفحة رقم 474
يقدم على مثله عاقل ، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع ، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان ، وما لا يحصبى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان ، ويظلم أبناء حنسه وغيرهم ، ويجتهد في الفجور ، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه ، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم بل من أدنى الحشرات المستقذرات لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها ، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف ، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات ، وما فضلناه به من الكمالات ، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين ، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه ، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه ، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم ، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً ، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً ، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً ، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره ، وقال ابن برجان : أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب ، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم ، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه ، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح ( المقدم المؤخر ) من شرحه للاسماء الحسنى : إن الله تعالى خلقه .
أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم ، ثم ركبه في هذا لاجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين ، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين ، وكان من المقربين المقدمين ، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم ، وكان من المبعدين المؤخرين .
ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم ، وكان الصالح قليلاً جداً ، جعله محط الاستثناء فقال : ( إلا الذين آمنوا ) أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف ، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم ، وحميناهم من أرذل العمر ، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصانا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم ، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشارقاتهم منهم ، وأعظمنا من قوى أرواحهم .
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال : ( وعملوا ) أي تصديقاً لدعواهم الإيمان ) الصالحات ) أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان ، محمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام ، متقنة غاية الإتقان فإنا حفظناهم - وقليل ما هم - بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من(8/474)
صفحة رقم 475
سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها ، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل ، فتبعوا لارسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم ، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى ، فسهل انقيادهم ، فأداهم ذلك إلى العدل والنصف والإحسان ، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل ، فالآية كما ترى من الاحتباك : حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات ، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى ، ليكون نظمها في الأصل ) ثم رددناه أسفل سافلين ( بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم .
ولما كان السياق لمدح المؤمنين ، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال : ( فلهم ) أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى ) أجر ) أي عظيم جداً وهو مع ذلك ) غير ممنون ) أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر ، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منهبالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة ، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين .
ولما ثبت بهذا أنه لا يجوز في الحكمة تركهم بغير جزاء مع ما يشاهد من ظلم بعضهم لبعض معاندة لما يقتضيه قويم العقل الذي لا شك فيه ، فكان ذلك بحيث لا يرضاه أحد منهم ولا يقر مخلوق عبيداً في ملكه على مثله بأن يبغي بعضهم على بعض فيهملهم بل لا بد أن يحجز بينهم أو يأخذ للمظلوم من الظالم ، ولو كان ذلك المالك أقل الناس وأجهلهم فكيف إن كان عاقلاً فكيف إن كان حاكماً فكيف إن كان لا يخاف أحداً فكيف إن كان عدلاً مقسطاً قد ثبتت إحاطة علمه وقدرته سبحانه وتعالى ، حسن كل الحسن أن يكون ذلك سبباً للإنكار على من يظن أن الله يهمل عباده من الحكم بينهم لمجازاة كل من المطيع والعاصي بما عمل مع ما ترى من ظلم بعضهم لبعض ، وأن الظالم قد يموت قبل القصاص ، فقال مسبباً عن الوعد بما أفصح به الكتاب من إثابة المؤمنين الذي طالما بغى عليهم الظلمة ، وانتقصهم حقوقهم الفسقة ، والوعيد بما أفهمه الخطاب لعتاب المجرمين الذي طالما بغوا على غيرهم : ( فما ) أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما(8/475)
صفحة رقم 476
عمل وإنكاراً من كذبك : ( يكذبك ) أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق وأكملهم نفساً وأتقاهم عرضاً وأطهرهم خلقاً وخلقاً ، وعبر ب ( ما ) إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه ) بعد ) أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس ، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون ) بالدين ) أي الجزاء لكل أحد بما يستحقه على سبيل العدل والإنصاف لأجل تلك الأعمال التي غلبت فيها الحظوظ على العقول ، فوقع بها من الظلم والأذى ما لا يسع عاقلاً من العباد أن يحسن عنده ترك فاعلها من غير جزاء حتى كان أكثر أفعال العباد ظلماً ، ومنشأن الملوك الإنصاف بين عبيدهم ورعاياهم ، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي شرع لعباده ذلك ، وقد ثبت بما له من هذا الخلق العظيم ، على هذا النظام المحكم والمنهاج الأقوم أنه الحكيم ، الذي لا حكيم غيره ، العليم الذي لا عليم سواه .
ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس على منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى ، حسن جداً تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى : ( أليس الله ) أي على ما له من صفات الكمال ، وأكده بالجار في قوله : ( بأحكم الحاكمين ) أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضاً من غير جزاء ، فيكون خلقهم عبثاً ، بل هو أحكم الحاكمين علماً وقدرة وعدلاً وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم ، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم ، فلا بد أن يقيم الجواء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته ، ومقسماً عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة ، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتماً لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين ، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالاً ، وزادت الدلالة على الآخرة ، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة ( أتانا ربنا من سيناء وشرق بنا من جبل ساعر ، وظهر لنا من جبال فاران ) والخلق في أحسن تقويم هو خلق آدم عليه الصلاة والسلام المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض ، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو ما فيها من الشرائع والأحكام ، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالقسم عنه ( معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى شعوب ، وبارك على جميع أطهاره ) والرد أسفل سافلين هو(8/476)
صفحة رقم 477
ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها ، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم ، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها ، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات ، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق ، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لا سيما الثلاث العظام - المشار إليه بقسم هذه السورة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب .
.. . .(8/477)
صفحة رقم 478
سورة العلق
وتسمى إقرأ .
مقصودها الأمر لا سيما للمقصود بالتفضيل في سورة التين بعبادة من له الخلق والأمر ، شكرا لأحسانه واجتنابا لكفرانه ن طمعا في جنانه وخوفا من نيرانه ، لما ثبت أنه يدين العباد يوم المعاد ، وكل من اسميها دال على ذلك لأن المربي يجب شكره ، ويحرم غاية التحريم كفره ، على أن " اقرأ " يشير إلى الأمر ، " والعلق " يشير غلى الخلق ، و " اقرأ " يدل على البداية وهي العبادة بالمطابقة ، وعلى النهاية وهي النمجاة يوم الدين باللازم ، والعلق يدل على كل من النهاية ثم البداية بالالتزام ، لأن من عرف أنه مخلوق من دم عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب ، فإن التراب أقبل للحياة من الدم ، ومن صدق بالإعادة عمل لها ، وخص العلق لأنه مركب الحياة ، ولذلك سمي نفسا ) بسم الله ( الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالإلهية ) الرحمن ( الذي عمت نعمته فاستوج بالشكر من سائر البرية ) الرحيم ( الذي وفق من شاء من خواصه لما أنالهم به المواهب السنية والعطايا الوفية .
العلق : ( 1 - 10 ) اقرأ باسم ربك. .. . .
) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( ( )
لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته ، وذكره بمجامعها في ) ألم نشرح ( فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه ، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به ، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء فتشوف السامع غلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم السورة ، فقال بادئاً خصال الذي آمنوا وعملوا الصالحات ، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة ، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصل ذاكراً أصل منخلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض(8/478)
صفحة رقم 479
أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى على تعرفها وإنعام فيها ، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم : ( اقرأ ( وحذف مفعوله إشارة إلى انه لا قراءة إلا بما أمره به ، وهي الجمع الأعظم ، فالمعنى : أوجد القراءة لما لا مقروء غيره ، وهو القرآن الجامع لكل خير ، وأفصح له بأنه لا يقدر على ذلك إلا مبعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره : حال كونك مفتتحاً القراءة ) باسم ربك ) أي بأن تبسمل ، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصط به في ) ألم نشرح ( أو بذكر اسمه ، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى ، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله ، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه ، قالوا : وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة غلا بالتسمية ، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعيم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع ، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له ( صلى الله عليه وسلم ) لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء ، وفجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله ( ما لم يعلم ) ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها ، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال ، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول ، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها بلوغ النهاية ، وذلك لا يكون بدون إفاضة خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها بلوغ النهاية ، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي ، فيكون سبباً للكرامة الدائمة ، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان ، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ( ) 7
- أي الشياطين الإنس والجن
77 ( ) حجاباً مستوراً ( ) 7
[ الإسراء : 45 ] وقوله تعالى :
77 ( ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( ) 7
[ النحل : 98 ] .
ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه ، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير ، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين ، فهو أعلق بالفهم ، وأقرب إلى التصور ، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة ، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور لأن أول الواجبات معرفة الله ، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال : ( الذي خلق ( وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقديره الآن وفيما كان وفيما يكون ، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه(8/479)
صفحة رقم 480
وضره ونفعه .
ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات ، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه ، ولباب حقيقته وسر محضه ، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعاً لجميع ما في الأكوان ، فكان خلقه أبدع من خلق غيره ، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة ، خصه فقال : ( خلق الإنسان ) أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى ما أخلاقه وحسه ، وما ألفه من أبناء جنسه .
ولما كانت العرب تأكل الدم ، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة ، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه ، قال معرفاً بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب : ( من علق ) أي خلق هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ ، جمع علقة ، وكذا الطين الي يعلق باليد يسمى علقاً ، وهم مقرّون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما ، فالآية من أدلة إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه ، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل ، فإذا استحال وصف بالحلال لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره ، واحمرار النطفة ليس استحالة لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها ، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت حمراء ، فإذا تحول الدم لحماً صار إلى جنس ما يحل ، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمراً أو حباً حل .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم )
77 ( ) فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين ( ) 7
[ التين : 7 - 8 ] وكان معنى ذلك : أيّ شيء حمل عل هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك ، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى :
77 ( ) لئن أشركت ليحبطن عملك ( ) 7
[ الزمر : 65 ] وبابه ، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدىة إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم ، فتقدير الكلام : أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب ، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال ، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين ؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم ؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً ؟ وقد قال تعالى :
77 ( ) وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ( ) 7
[ ص : 27 - ولكن قراءتنا - وما خلقنا السماء - لا بالجمع ( فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما(8/480)
صفحة رقم 481
تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر ، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء ، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء ، وهو كتابه المبين ، الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين ، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال ) اقرأ باسم ربك ( مستعنياً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك
77 ( ) تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم
77 ( ) ثم رددناه أسفل سافلين ( ) 7
[ التين : 5 ] وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين ، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته ) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني ، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وجليل وعده الكريم له في قوله
77 ( ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( ) 7
[ الضحى : 5 ] وفضل حال ابتداء ) ألم نشرح ( على تقدم سؤال
77 ( ) رب اشرح ( ) 7
[ طه : 25 ] إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة ، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر ، فوقع تعقيب - ذلك بسورة تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني ، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى : ( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى ( إلى قوله : ( كلا لا تطعه ( ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين ، وهي العادة المطردة في الكتب ، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود ، ولعل بعض من لم يتفطن بعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً ، فنقول له : وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك ، وإلا فليست سورة البقرة من المدني ، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحضى ، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه ، فارجع بصرك ، وأعد في الخطبة نظرك ، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته ، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى .
ولما أتم سبحانه ما أراد من أمر الخلق وهو الإيجاد بالأسباب بالتدريج ، أخذ في التنبيه على عالم الأمر وهو الإبداع من غير أسباب ، فقال مكرراً للأمر بالقراءة تنبيهاً على عظم شأنها وتأنيساً له ( صلى الله عليه وسلم ) ومسكناً لروعة ومعلماً أن من جاءه الأمر من قبله ليس كأربابهم : ( اقرأ ( ولما كان قد قال ( صلى الله عليه وسلم ) عند هذا الأمر إخباراً بالواقع كما يقول لسان الحال لو لم ينطق بلسان المقال : ما أنا بقارئ ، فكان التقدير : فربك الذي ربما فأحسن(8/481)
صفحة رقم 482
تربيتك وأدبك فأحسن تأديبك أمرك بالقراءة وهو قادر على جعلك قارئاً ، عطف عليه قوله : ( وربك ) أي يكون التقدير : والحال أن الذي خصك بالإحسان الجم ) الأكرم ) أي الذي له الكمال الأعظم مطلقاً من جهة الذات ومن جهة الصفات ومن جهة الأفعال ، فلا يلحقه نقص في شيء من الأشياء أصلاً لأن حقيقته البعيد عن اللوم الجامع لمساوئ الأخلاق ، فهو الجامع لمعالي الأخلاق ، وليس غيره يتصف بذلك ، فهو يعطيك ما لا يدخل تحت الحصر ، وأشارإلى أن من ذلك أنه يفيض على أمته الأمية من العلم والحظ ما لم يفضه على أمة قبلها على قصر أعمارهم ، فقال مشيراً إلى العلم التعليم ، مشرعاً بوصفه سبحانه بالمنح بالعلم إلى ترتيب الحكم بالأكرمية على هذا الوصف الناقل للإنسان من الحال العقلي السافل إلى هذا الحال العالي الكامل ) الذي علّم ) أي بعد الحلم عن معاجلتهم بالعذاب والعقاب جوداً منه من غير مانع من خوف عاقبة ولا رجاء منفعة ) بالقلم ) أي الكتابة به .
ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى ، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة ، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره ، زاد ذلك عظيمة على وجه يعم غيره فقال : ( علّم ) أي العلم الضرور والنظري ) الإنسان ) أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه ) ما لم يعلم ) أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى ، فيعلم النتائج ، وما يعرف به الحدسيات ، وذلك بعد خلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات ، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم وفي أصل المعلوم كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية ، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته ، قال الملوي : ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى ، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم ، وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر ، قال الرازي ، وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى ، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم ، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام .
ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً ، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط ، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه ، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب ، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره ، قال(8/482)
صفحة رقم 483
معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله ، ورادعاً له عن ضلاله : ( كلا ) أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً ) إن الإنسان ) أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه ) ليطغى ) أي من شأنه - إلا من عصمه الله سبحانه - أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي ، وأكده لما لأكثر الخلق من التكذيب به فإنه لا طاغي يقر بأنه طغى ) أن ) أي لأجل أن ) رآه ) أي علم الإنسان نفسه علماً وجدانياً ) استغنى ) أي وجد له الغنى ، هذا هو الطبع الغالب في الإنسان متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره ، فتغيرت أحواله معه ، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده ( ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ومن كان مفتقراً إلى شيء كان منطاعاً له كما في حديث آخر أهل النار خروجاً منها يقسم لربه أنه لا يسأل غير ما طلبه ، فإذا أعطيته واستغنى به سأل غيره حتى يدخل دار القرار ، ولعله نبه بهذا على أن هذه الأمة المحتاجة ستفتح لها خزائن الأرض فيطغيها الغنى كما أطغى من قبلها وإن كانوا هم ينكرون ذلك كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) حين بشرهم بالفتوحات وقال : ( إنه يغدى على أحدكم بصفحة ويراح عليه بأخرى ثم قال لهم : أنتم اليوم خير من يومئذ ، فقالوا : بل يومئذ ، نتفرغ لعبادة ربنا ، فقال : بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخسى أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) أو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان لا دواء لذلك مثل تذكر الجزاء ، قال معرفاً أن الإنسان لا يزال مفتقراً إلى مولاه في حايته ومماته وغناه وفقره ، محذراً له سوء حالاته مؤكداً لأجل إنكارهم ذلك : ( إن إلى ربك ) أي المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك ، لا إلى غيره من التراب ونحوه ) الرجعى ) أي الرجوع الأعظم الثابت الذي لا محيد عنه ، أما في الدنيا فلا محيد عن الإقرار به ، فإنه لا يقدر أحد على شيء إلا بتقديره ، وأما في الآخر فبما أثبت في برهانه في سورة التين ، فيحاسب الناس بأعمالهم ، ويجازي كل أحد بما يستحق من ثواب أو عقاب ، ففيه وعيد للطاغي وتحقير - لغنى ينقطع .
ولما أخبر بطغيانه وعجل بذكر دوائه لأن المبادرة بالدواء لئلا يتحكم الداء واجبة ، (8/483)
صفحة رقم 484
دل على طغيانه مخوفاً من عواقب الرجعى في أسلوب التقرير لأنه أوقع في النفس وأروع للّب لأن أبا جهل قال : ( لئن رأيت محمداً يعفر وجهه لأفضخن رأسه بصخرة ، فجاء ليفعل ما زعم فنكص على عقبيه ويبست يداه على حجره فسئل عما دهاه ، فقال : إن بيني وبينه لهولاً وأجنحة ، وفي رواية : لخندقاً من النار ، وفي رواية : لفحلاً من الإبل ، فما رأيت مثله ، ولو دنوت منه لأكلني ) وأصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فقال : ( أرءيت ( تقدم في الأنعام أن هذا الفعل إذا لم يكن بصرياً كان بمعنى اخبر ، فالمعنى : أخبرني هل علمت بقلبك علماً هو في الجلاء كرؤية بصرك ) الذي ينهى ) أي على سبيل التجديد والاستمرار .
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده ، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية : ( عبداً ) أي من العبيد ) إذا صلّى ) أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به ، وهي أعظم أنواع العبادة لأنها مع كونها أقرب وصلة إلى الحق انقطاع وتجرد بالكلية عن الخلق ، فكان نهيه له عن ذلك نهياً عن أداء الحق لأهله حسداً أو بغياً ، فكان دالاًّ على أن من طبع أهل كل زمان عداوة أهل الفضل وصدهم عن الخير لئلا يختصون بالكمال .
العلق : ( 11 - 19 ) أرأيت إن كان. .. . .
) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( ( )
ولما كان هذا أمراً خارجاً عن الحد في الطغيان ، وكان السؤال إنما هو عن رؤية حاله في نهيه العبد عن الصلاة ، لا عن رؤية ذاته ، فتشوف السامع إلى معرفة ذلك الحال ، كرر التقرير بزيادة التعجيب منحاله والتحذير ، فقال مكرراً العامل زيادة في التأكيد وبياناً لأن هذا في الحقيقة أول السؤال عن الحال : ( أرءيت ) أي أخبرني عن حاله ) إن كان ) أي هذا الناهي ، وعبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى أنه في غاية الثبات والتمكن فقال : ( على الهدى ) أي الكامل في الهداية فكف عن نهي هذا المصلي عن خدمة مولاه الذي هو معترف بسيادته وإن ادعى كذباً أن له شريكاً كما أنه لا ينهى عن السجود للأصنام .
ولما ذكر ما لعله يكون عليه في تكميل نفسه ، ذكر ما لعله يعانيه من إنجاء غيره فقال : ( أو أمر ) أي ذلك الناهي ) بالتقوى ) أي التي هي عماد الدين ، وهي عمارة(8/484)
صفحة رقم 485
الباطن بالنور الناشئة عن الهدى ، وعمارة الظاهرة لذلك ، المترشحة من عمارة الباطن ، الموجب لذلك ، فأمر هذا المصلي بملازمة خدمة سيده المجمع على سيادته ، ولا شك في توحيده بالربوبية بالإقبال على ما يرضيه من أفعال العبادة ، ليكون ذلك وقاية لفاعل من سخطه فيأمن الهلاك ، والجواب محذوف تقديره : ألم يكن خيراص له فليتدبر كل أمر من أموره فلا يقدم عليه حتى يعلم بالدليل أنه هدى وتقوى .
ولما كان التقدير حتماً كما هدى إليه السياق ما قدرته من جواب السؤالين ، بنى عليه قوله زيادة في التوبيخ والتعجيب والتقريع استفهاماً عن حال لهذا الناهي مناف للحال الأول معيداً الفعل إيضاحاً لذلك : ( أرءيت ) أي أخبرني أيها السامع ولا تستعجل ) إن كذب ) أي أوقع هذا الناهي التكذيب بأن المصلي على الهدى بخدمة سيده المتفق على سيادته ، فكان بذلك مرتكباً للضلال الذي لا شك في كونه ضلالاً ، ولا يدعو إليه إلا الهدى .
ولما كان المكذب قد لا يترك من كذبه ، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك فقال : ( وتولى ) أي وكلف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى ، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب ، والجواب محذوف تقديره : ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شراً له لأن التكذيب والتولي من غير دليل شر محض ، فكيف إذا كان الدليل قائماً على ضدهما .
ولما عجب من حالته البعيدة عن العقل مع نفسه ومع نفسه ومع أبناء جنسه ، أنكر عليه معجباً من كونه يعلم أنه ليس بيده شيء ، المنتج لأنه مراقب وحاله مضبوط غاية الضبط وينسى ذلك ، فقال ذاكراً مفعول ( أرءيت ) الثاني وهو لا يكون إلا جملة استفهامية : ( ألم يعلم ) أي يقع له عمل يوماً من الأيام ) بأن الله ) أي وهو الملك الأعلى ) يرى ) أي له صفتا البصر والعلم على الإطلاق ، فهو يعلم كل معلوم ويبصر كل مبصر ، ومن كان له ذلك كان جديراً بأن يهلك من يراه على الضلال والإضلال وينصر من يطيع أمره على كل من يعاديه ، وإنما جاء هذا الاستفهام الإنكاري على هذا الوجه لأنهم يعترفون بكل ما أنكر عليهم فيه ويلزمهم بما يفعلون من عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكونوا منكرين له ، وذلك هو عين التناقض الذي لا أشنع عندهم منه ، هذا ويمكن ، وهو أحسن ، أن تنزل الآية على الاحتباك فيقال : لما كان السؤال عن حال الناهي لأن الرؤية علميه لا بصرية ، فتشوف السامع إلى معرفتها ، وكان للناهي حالان : طاعة ومعصية ، بدأ بالأولى لشرفها على الأسلوب الماضي في التقرير على سبيل التعجيب فقال : ( أرءيت ) أي أخبرني ( إن(8/485)
صفحة رقم 486
كان ) الناهي ثابتاً في نهيه هذا متمكناً ( على الهدى ) أي الكامل ( أو ) كان قد ( أمر ) في ذلك الأمر أو في أمر ما من عبادة الأوثان وغيرها ( بالتقوى ) وحذف جواب السؤال عن هذا الحال لدلالة جواب الحال الثاني عليه ، وهو ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يصح أن يرى ، فينهى عنه إن كان مكروهاً ولا يقر عليه ويحاسب به ليزن هذا لناهي أفعاله بما شرعه سبحانه من الدليل العقلي والسمعي فيعلم أهي مما يرضيه ليقره عليه كما يقر سائر ما يرضيه أو يسخطه فيمنعه منه .
ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد ، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد ، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول : ( أرأيت إن كذب ) أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي قال : ( وتولى ) أي عن الدين بنهيه هذا ، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً ( ألم يعلم بأن الله يرى ) فيحسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه أو الغواية إن كان ينهاه عن ولا يقره عليه ، كما فعل بهذا الذي أقسم : ليرضخن رأس هذا المصلي ، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه فمنعه الله منه ورده عن فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرها مما يتحاماه الرجال ، ويأنف منه الضارغمة الأبطال ، والاحتباك هنا بطلب ( أرءيت ) جملة ليس هو من التنازع لأنه يستدعي إضماراً والجملة لا تضمر ، إنما هو من باب الحذف لدليل ، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً ، وحذف ( ألم يعلم بأن الله يرى ) أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه .
ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله ، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له - بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم ، أتى بأعظم أدواث الردع فقال : ( كلا ) أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ولا في يده شيء من الأشياء ، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى ، فليرتدع عن تعاطي ذلك لأنه لا يضر إلا نفسه .
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم ، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذبر صاحبها ، إنما هو عن تهاون بالخير ورضى بالعمى والتقليد ، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكور في الفاتحة ، ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون : ( لئن لم ينته ) أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه .(8/486)
صفحة رقم 487
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكذ لإيقاع الفعل ، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل منأن يحتاج فيه غلى فعل شديد ، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه ، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال : ( لنسفعاً ) أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره ) بالناصية ) أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه ، والعرب لا تأنفس من شيء أنفتهم من أخذ الناصية ، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره ، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة .
ولما كان من المعلوم أن من صار في القبضة على هذه الهيئة المهينة المزرية فهو هالك ، اغتنى به عن أن يقول : ولنسحبنه بها على وجهه إلى النار ، ووصفها بما يدل على ذلك فقال مبدلاً لأن البدل وصف بما قربه من المعرفة : ( ناصية ) أي عظيمة القبح ) كاذبة ) أي متعمدة للكذب ) خاطئة ( فهي صادر عنها الذنب من الكذب وغيره من غير تعمد ، فأغلب أحوالها على غير صواب تارة عن عمد وتارة عن غير عمد ، وما ذاك إلا لسوء جبلة صابحها حتى كاد لا يصدر عنه فعل سديد ، ووصفها بما هو لصاحبها على الإسناد المجازي مبالغة في تكذيبه في أنه لا يقدر على منع المهتدي أو إذلاله أو شيء من أذاه إلا إن أذن له صاحب الأمر كله فيما يكون سبباً لزيادة رفعته ، وفي العدول عن الحقيقة ، كأن يقال : ناصية كاذب خاطئ ، بالإضافة إلى هذا المجاز ، من الجزالة والفخامة والجلالة ما لا يخفى .
ولما كان هذا هو غاية الإهانة ، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً ، وإنما عزهم بقومهم ، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه ، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك ، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري : ( فليدع ) أي دعاء استغاثة ) ناديه ) أي القوم الذي كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه ، والذي نزلت فيه هو أبو جهل ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً .
ولما كان كأنه قيل : فلو دعا ناديه يكون ماذا ؟ قال : ( سندع ) أي بوعد لا خلف فيه ) الزبانية ) أي الأعوان الموكلين بالنار ليجروه إليها ، وهم في الأصل الشرط ، الواحد زبنية كهبرية ، من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسبة ، أصلها زباني والتاء(8/487)
صفحة رقم 488
عوض عن الياء ، وهم كل من عظم خلقه ، واشتد بطشه ، وقد اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من هذا الفعل خطأ ، ولا موجب لحذفه من العربية لفظاً ، وكأن المعنى في ذلك - والله أعلم - أن لا يظن أنهم دعوا لرفعة لهم في ذواتهم يستعان بهم بسببها لأن معنى الواو عند الربانيين العلو والرفعة ، إشارة إلى أنهم لا قوة لهم إلا بالقوي العزيز ، أو يقال : إن الحذف دال على تشبيه الفعل بالأمر ليدل على أن هذا الدعاء أمر لا بد من إيقاع مضمونه ، ومن إجابة المدعوين إلى ما دعوا إليه ، وأن ذلك كله يكون على غاية الإحكام ، والاتساق بين خطه ومعناه والانتظام ، لا سيما مع التأكيد بالسين ، الدال على تحتم الاتحاد والتمكين ، أو يكون المعنى : إنا ندعوهم بأيسر دعاء وأسهل أمر ، فيكون منهم ما لا يطاق ولا يستطاع دفاعه بوجه ، فكيف لو أكدنا دعوتهم وقوينا عزمتهم .
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي والسفع بناصيته إن لم ينته وأمره بدعاء ناديه ، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة ، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد وأنه لا يفيده دعاء ناديه ، فالكل منفي ، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع فقال : ( كلا ) أي لا يقدر على دعاء ناديه ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك .
ولما كان كأنه قيل : فما أفعل ؟ قال معرفاً أن من علم أن طبع الزمان وأهله الفساد ، وجب عليه الإقبال على شأنه والإعراض عن سائر العباد ) لا تطعه ) أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها .
ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين ، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها ، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة ، قال تعالى مشيراً إلى النصر له ( صلى الله عليه وسلم ) ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته : ( واسجد ) أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك وجدد ذلك في كل وقت .
ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال : ( واقترب ) أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك والتحبب إليه بكل عبادة لا سيما الصلاة فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعوذ بعفوك من عقوبتك ) فإن هذا الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعاله الله فقط ، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله ، فاستعاذ بفعله من فعله ، قال : ثم اقترب ففني في مشاهدة الأحوال ، وترقى إلى مصادر الأفعال ، وهي الصفات ، فقال : ( أعوذ برضاك من سخطك ) وهما صفتان ، ثم رأى ذلك نقصاناً في التويحد فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة(8/488)
صفحة رقم 489
الذات فقال ( وأعوذ بك منك ) فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال ( أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك ) فقوله : ( لا أحصي ) خبر عن - فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها ، وقوله : ( أنت كما أثنيت ) بيان أنه المثني والمثنى عليه ، وأن الكلم منه بدأ وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ، ولقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية ، فكان يستغفر الله من الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه ، وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق ، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها ، فكان استغفاره لذلك .
ولما قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد ؟ قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) معناه : أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات ، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى
77 ( ) ولئن شكرتم لأزيدنكم ( ) 7
[ إبراهيم : 7 ] انتهى .
وهو على ما ترى من النفاسة فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له ، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع ، فازددت صفاء وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ( ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه - والله أعلم ) فقد رجع لآخرها إلى الأول ، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي .
.. .(8/489)
صفحة رقم 490
سورة القدر
مقصودها تفصيل الأمر الذي هو أحد قسمي ما ضمنه مقصود " اقرأ " وعلى ذلك دل اسمها لأن الليلة فضلت به ، فهو من إطلاق المسبب على السبب ، وهو دليل لمن يقول باعتبار تفضيل الأوقات لأجل ما كان فيها ، كما قال ذلك اليهودي في اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى ) اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 3 ] وأفرده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على ذلك وأعلمه أنه صار لنا عيدين : عيدا من جهة كونه يوم عرفة ، وعيدا من جهة كونه يوم جمعة ) بسم الله ( الذي جل أمره وتنزه ذاته ) الرحمن ( الذي عمت رحمته فبدعت صفاته ) الرحيم ( الذي خص أهل التوحيد بإتمام النعمة فاختصت بهم جناته .
القدر : ( 1 - 5 ) إنا أنزلناه في. .. . .
) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( ( )
لما ذكر الله سبحانه وتعالى كتابه في هذا الذكر العربي المعجز ، ذكر إنزاله مستحضراً في كل قلب ، كان ذلك مغنياً عن إعادته بصريح اسمه ، فكان متى أضمره علمه المخاطب بما في السياق من القرائن الدالة عليه ، بما له في القلب من العظمة وفي اذهن من الحضور لا سيما في هذه السورة لافتتاح العلق بالأمر بقراءته ، وختمها بالصلاة التي هي أعظم أركانها ، فكانت دلالتها عليه دلالة هي في غاية الوضوح ، فكان كانه قال : واقترب بقراءة القرآن في الصلاة ، فكان إضماره أدل على العظمة الباهرة من إظهاره ، لدلالة الإضمار على أنه ما تم شيء ينزل غيره فهو بحيث لا يحتاج إلى التصريح به ، قال مفخماً له بأمور : إضماره ، وإسناد إنزاله إليه ، وجعل ذلك في مظهر العظمة ، وتعظيم وقت إنزاله المتضمن لعظمة البلد الذي أنزل فيه - على قول الأكثر ،(8/490)
صفحة رقم 491
والنبي الذي أنزل عليه ، مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار ، ) إنا ) أي لما لنا من العظمة ) أنزلناه ) أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتباً هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه ، وهو الموجود الآن ، وكذا كان إنزال أول نجم منه ، وهو أول السورة الماضية إنزالاً مصدقاً لأن عظمته من عظمتنا بما له من الإعجاز في نظمه ، ومن تضاؤل القوى عن الإحاطة بعلمه ، وأول ما أنزل منه صدرها إلى خمس آيات منها آخرها ( ما لم يعلم ) على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مجاور في هذا الشهر الشريف بجبل حراء من جبال مكة المشرفة ، ثم صار ينزل مفرقاً بحسب الوقائع حتى تم في ثلاث وعشرين سنة ، وكلما نزل منه نجم يأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بترتيبه في سورته عن أمر الله تعالى حتى تم في السور على ما هو عليه الآن ما هو عليه في بيت العزة .
ولما عظمه بما ذكر ، زاده عظماً بالوقت الذي اختار إنزاله فيه ليكون طالعه سعيداً لما كان أثره حميداً فقال : ( في ليلة القدر ) أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير ، والأعمال فيها ذات قدر وشرف ، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر فلا قدر لغيرها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ورد تعريفاً بإنزال ماتقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتب ، وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب ، أعلم سبحانه وتعالى بليلة وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا وتعلق رجائنا ونبحث في الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها ومن قبيل الصلاة الوسطى ، ولله سبحانه في إخفاء ذلك أعظم رحمة ، وكان في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها ، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها - انتهى .
ولما علم من السياق تعظيمها بعظمة ما انزل فيها وبالتعبير عنها بهذا ، قال مؤكداً لذلك التعظيم حثاً على الاجتهاد في إحيائها لأن للإنسان من الكس والتداعي إلى البطالة ما يزهده في ذلك : ( وما أدراك ) أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص ) ما ليلة القدر ) أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى عليّ قدرها على ما لك من سعة العلم وإحاطة الفكر وعظيم المواهب .
ولما ثبتت عظمتها بالتنبيه على أنها أهل لأن يسأل عن خصائصها ، قال مستأنفاً : ( ليلة القدر ) أي التي خصصناها بإنزالنا له فيها ) خير من ألف شهر ) أي خالية عنها أو العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، قالوا : وهي مدة ملك بني أمية سواء ، وتسميتها بذلك(8/491)
صفحة رقم 492
لشرفها ولعظيم قدرها ، أو أنه يفصل فيها من أم الكتاب مقادير الأمور ، فيكتب فيها عن الله حكم ما يكون من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل ، من قولهم : قدر الله على هذا الأمر يقدره قدراً ، أي قضاه ، وهي الليلة المرادة في سورة الدخان بقوله تعالى : ( فيهايفرق كل أمر حكيم ) [ الدخان : 4 ] وذكر الألف إما للمبالغة بنهاية مراتب العدد ليكون أبلغ من السبعين في تعظيمها أو لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر شخصاً من مؤمني بني إسرائيل لبس السلاح مجاهداً في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون منه فتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطاهم الله سبحانه وتعالى ليلة من قامها كان خيراً من ذلك ، وأبهمها في العشر الأخير من شهر رمضان في قول الجمهور على ما صح من الأحاديث ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس ، واسمه الأعظم في الأسماء ، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها ، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها ، وقيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذراً من قيامها ، والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهاراً لنفاسته وإعظاماً للرغبة فيه وإيذاناً بالسرور به ، لكن جعل السورة ثلاثين كلمة سواء يرجح أنهم السابعة والعشرون التي وازاها قوله هي - كما نقل عن أبي بكر الوراق .
ولما عظمها ، ذكر وجه العظم ليكون إعلاماً بعد إبهام وهو أوقع في النفس فقال مستأنفاً : ( تنزل ) أي تنزلاً متدرجاً هو أصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء ) الملائكة ) أي هذ النوع العظيم الذي هو خير كله ) والروح ) أي جبريل عليه الصلاة والسلام ، خصه بياناً لفضله أو هو مع أشراف الملائكة أو هو خلق أكبر من الملائكة أو هو أمر تسكن إليه نفوس العارفين ويحصل به اليمن والبركة ) فيها ( وأشار إلى خفاء ذلك ذلك التنزل بإسقاط تاء التنزل مع ما تقدم من الإشارات ، ودل على زيادة البركة في ذلك التنزل وعظيم طاعة الملائكة بقوله : ( بإذن ربهم ) أي بعلم المحسن إليهم المربي لهم وتمكينه ، وتنزلهم إلى الأرض أو السماء الدنيا أو تقربهم من المؤمنين ، متبدئ تنزلهم ) من كل أمر ) أي الأمور الكلية التي يفرقون فيها بإذن الله تفاصيل الأمور التي يريدها سبحانه في ذلك العام في أوقاتها من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل ، أو من أجل تقدير كل شيء يكون في تلك السنة ، وعبر عن الشيء بالأمر إعلاماً بأنهم لا يفعلون شيئاً إلاّ بأمره .
ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل ، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة - التي هي سببها - بها ، فكان ذلك أدل على عظمتها فقال تعالى : ( سلام ) أي عظيم جداً ) هي ) أي ما هي إلا سلامة وخير ليس فيها شر ، ولا يزال ذلك السلام(8/492)
صفحة رقم 493
والبركة فيها ) حتى ) أي إلى ) مطلع الفجر ) أي طلوعه ووقت طلوعه وموضع طلوعه ، لا يكون فيه شر كما في غير ليلتها ، فلا تطلع الشمس في صبيحتها بين قرني الشيطان إن شاء الله تعالى ، وذلك سر قراءة الكسائي بالكسر - والله أعلم ، واخير التعبير ب ( حتى ) دون ( إلى ) ليفهم أن لما بعدها حكم ما قبلها ، فيكون المطلع في حكم الليلة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ليلة القدر في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه فوق الكعبة ، ثم يفرق الملائكة في الناس حتى سلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر ، فمن تأمل هذه السورة علم منه ما للقرآن من العظمة فأقبل عليه بكليته يتلوه حق تلاوته كما أمر في سورة ( اقرأ ) فأمن من غير شك من هول يوم الدين المذكور في التين ، ومن تلاوته بحقه تعظيم ليلة القدر لما ذكر من شرفها ، وذلك جاز إلى الحرص عليها في كل السنة ، فإن لم يكن ففي كل رمضان ، فإن لم يكن ففي جميع ليالي العشر الأخيرة منه ، ليكون له من الأعمال بسبب فضلها ومضاعفة العمل فيها ما لا يحصيه إلى الله تعالى بحيث إنه ربما يكون خيراً من عمل من اجتهد فيما قبلنا ألف سنة ، ورجوع آخرها بكون هذا التنزل في ليلة القدر على أولها في غاية الوضوح لأن أعظم السلام فيها نزول القرآن ، ولعلع كونها ثلاثين كلمة إشارة إلى إن خلافة النبوة التي هي ثلاثون سنة بعد موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي آخرها يوم نزل أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما فيه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هي كليلة القدر في الزمان ، وما بعدها كليالي العام فيه الفاضل وغيره ، وتلك المدة كانت لخمسة خلفاء أشارت إليهم حروف الكلمة الأخير منها ، فالألف لأبي بكر رضي الله عنه وهي في غاية المناسبة له ، فإن الربانيين قالوا : هو اسم للقائم المحيط الأعلى الغائب عن مقامه لكنها الحاضر معه وجوداً كالروح ، وكذا كان رضي الله عنه حاضراً مع الأمة بوجوده وهو غائب عنهم بتوجهه ، وجميع قلبه إنما هو مع الله عز وجل ، واللام لعمر رضي الله عنه وهي شديدة المناسبة له فإنها صلة بين باطن الألف وظاهر الميم الذي هو لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه للتمام ، وكذلك فعل - وصل بين السيريتن وصلاً تاماً بحيث وصل ضعف الصديق في بدنه وقوته في أمر الله بقوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى انتظم به الأمر انتظاماً لا مزيد عليه ، والفاء لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو إشارة لبدء خلوص منته لتنقل بمزيد أو نقص ، وآيته الفطرة الأولى ، وآيتها المحسوسة اللبن أول خروجه إذا أصابه أقل شيء من الهواء الممدود غيّره ، وكذلك الفطرة إذا أصابها أقل شيء من الهوى المقصود غيّرها ، وكذا كان حاله رضي الله تعالى عنه ، حصلت له آفات الإحسان إلى أقاربه الذي قاده إليه قويم(8/493)
صفحة رقم 494
فطرته حتى حصلت له الآفات الكبار رضي الله عنه ، والجيم لعلي رضي الله عنه وهو إشارة إلى الجمع ، والإجمال الذي يحصل عنده عنا وهو أنسب الأمور له رضي الله تعالى عنه فإنه حصل به الجمع بعد الافتراق العظيم بقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شهيداً مظلوماً ، وحصل به الإجمال لكن لم يتم التفصيل بسبب ما حصل من العناد ، والراء إشارة إلى الحسن رضي الله تعالى عنه وهو تطوير وتصيير وتربية ، وهي لكل مرب مثل زوج المرأة وسيد العبد ، ولذلك فعل رضي الله عنه لما رأى الملك يهلك بقتل المسلمين رباه بنزوله عن الأمر لمعاوية ، فكان كالسيد أذن لعبده وربي أمره به ، وقد سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سيداً - رضي الله عنهم أجمعين ، والله أعلم بالصواب .
.. .(8/494)
صفحة رقم 495
سورة البينة
سورة الإعلام بأن هذا الكتاب القيم من علو مقداره وجليل آثاره أنه كما أنه لقوم نور وهدى فهو لآخرين وقر وعمى ، فيقود إلى الجنة دار الأبرار ، ويسوق إلا النار دار الأشقياء الفجار ، وعلى ذلك دل كل من اسمائها " الذين كفروا " " والمنفكين " بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة وأهل السعادة ) بسم الله ( الذي له العلو المطلق فلا يخرج شيء عن مراده ) الرحيم ( الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه جميع عباده ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده بالأعمال الصالحةى المتكلفة بإنجاء العامل بها وإسعاده .
البينة : ( 1 - 4 ) لم يكن الذين. .. . .
) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ( ( )
لما أخبر سبحانه وتعالى أن الليلة الشريفة التي صانها بنوع خفاء في تنزل من يتنزل فيها وفي تعيينها لا تزال قائمة على ما لها من تلك الصفة حتى يأتي الفجر الذي يحصل به غاية البيان ، أخبر أن أهل الأديان سواء كان لها أصل من الحق أم لا لم يصح في العادة الجارية على حكمة الأسباب في دار الأسباب أن يتحولوا عما هم فيه إلا بسبب عظيم يكون بيانه أعظم من بيان الفجر ، وهو القرآن المذكور في القدر والرسول المنزل عليه ذلك فقال : ( لم يكن ) أي في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال كوناً هو كالجبلة والطبع ، وهذا يدل على ما كانوا عليه قبل ذلك من أنهم يبدلون ما هم عليه من الكفر أو الإيمان بكفر أو بدعة ثم لا يثبتون لعيه لأن ذلك ليس في جبلاتهم ، وإنما هو خاطر عارض كما هو محكيّ عن سيرتهم من بعد موسى عليه الصلاة والسلام لما كانت(8/495)
صفحة رقم 496
تسوسهم الأنبياء عليهم السلام كما دل على بعض ذلك قوله تعالى :
77 ( ) فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا ( ) 7
[ المائدة : 71 ] وكذا المشركون كانوا يبدلون دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام ولا ينفصلون عنه بالكلية ، وتارة يبعدون الأصنام ، وتارة الملائكة ، وأخرى الجن ، ولم يكونوا يثبتون على حالة واحدة ثباتاً كلياً مثل ثباتهم على الإسلام بعد مجيء البينة ونسيانهم أمور الجاهلية بالكلية حتى نسوا الميسر ، فلم يكن أحد من أولادهم يعرف كيفيته وكذا السائبة وما معها وغيرها ذلك من خرافاتهم ) الذين كفروا ) أي سواء كانوا عريقين في الكفر أم لا .
ولما كان العالم أولى باتباع الحق وأشد جرماً عند فعل ما يقتضي اللوم ، بدأ بقوله : ( من أهل الكتاب ) أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً ، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى ، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا ) والمشركين ) أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة ، ويثبتون على ذلك الانفكاك ، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً ، من فك الكتاب والختم والعظم - إذا زايل ما كان ملتصقاً ومتصلاً به ، أو عما في أنفسهم من ظن اتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به بما كان أهل الكتاب يستفتحون به والمشركون يقسمون بالله جهد أيمانهم
77 ( ) لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ( ) 7
[ فاطر : 42 ] فيصيروا بذلك أحزاباً وفرقاً ) حتى ) أي إلى أن ) تأتيهم ( عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسال والتلاوة ) البينة ) أي الآية التي هي في البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي غلا ظهوراً وضياء ونوراً ، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو الفرقان ، ولذلك أبدل منها قوله : ( رسول ) أي عظيم جداً ، وزاد عظمته بقوله واصفاً له : ( من الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) يتلوا ) أي يقرأ قراءة متواترة ذلك الرسول بعد تعليمنا له ) صحفاً ( جمع صحيفة وهي القرطاس والمراد ما فيها ، عبر بها عنه لشدة المواصلة ) مطهرة ) أي هي في غاية الطهارة والنظافة والنزاهة من كل قذر بما جعلنا لها من البعد من الأدناس بأن الباطل من الشرك بألأوثان وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها وأنها لا يمسها إلا المطهرون ، وقراءته وإن كان أمياً لمثل ما فيها قراءة لها .
ولما عظمه بأن وصف صحفه التي هي محل المكتوب بالطهارة ، بين سبب ذلك فقال : ( فيها ( أي(8/496)
صفحة رقم 497
تلك الصحف ) كتب ( جمع كتاب أي علوم هي لنفاستها حقيقة بأن تكتب ) قيمة ) أي هي في غاية الاستقامة لنطقها بالحق الذي لا مرية فيه ليس فيها شرك ولا عوج بنوع من الأنواع ، فإذا أتتهم هذه البينة انفكوا وانفكاكهم أنهم كانوا مجتمعين قبل هذا ، أهل الكتاب يؤمنون بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما عندهم من البشائر الصريحة به ، والمشركون يقولون : لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، ويقولون : نحن نعرف الحق لأله ولا ندفعه بوجه ، فلما جاءهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا شبهة فيه تفرقوا ، فبعضهم آمن وبعضهم كفر .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هي من كمال ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بقراءة كتابه الذي به اتضحت سبيله وقامت حجته ، وأتبع ذلك بالتعريف بليلة إنزاله وتعظيمها ما أهلت له مما أنزل فيها ، أتبع ذلك بتعريفه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن هذا الكتاب هو الذي كانت اليهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر الآتي به ، حتى إذا حصل ذلك مشاهداً لهم كانوا هم أول كافر به ، فقال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة - إلى قوله : وذلك دين القيمة ( وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج بإذن الله التسليم والتبرؤ من ادعاء حول أو قوة ، فإن هؤلاء قد كانوا قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد كانوا إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه ، فرحم الله من لم يكن عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضي الله عنهم أجمعين ، وحرم هؤلاء الذي قد كانوا على بصيرة من أمره وجعله بكفرهم شر البرية ، ورضي عن الآخرين ورضوا عنه ، وأسكنهم في جواره ومنحهم الفوز الأكبر والحياة الأبدية وإن كانوا قبل بعثه عليه الصلاة والسلام على جهالة وعمى ، فلم يضرهم إذا قد سبق لهم في الأزل ( أولئك هم خير البرية ) انتهى .
ولما كان التقدير : فإذا أتتهم انفكوا ، فلقد تفرق المشركون بعد إتيانك وأنت البينة العظمى إليهم إلى مهتد وضال ، والضال إلى مجاهر ومساتر ، وكذا أهل الكتاب ، ثم ما اجتمع العرب على الهدى إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، عطف على هذا الذي أفهمه السياق قوله معلماً بزيادة القبح في وقوع الذنب من العالم بإفرادهم بالتصريح عن المشركين : ( وما تفرق ) أي الآن وفيما مضى من الزمان تفرقاً عظيماً ) الذين ( ولما كانوا في حال هي أليق بالإعراض ، بنى للمفعول قوله : ( أوتوا الكتاب ) أي عما كانوا عليه من الإطباق على الضلال أو الوعد باتباع الحق المنتظر في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكذا كان فعلهم في عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل ، فاستمر بعضهم على الضلال وبالغ في نقض العهد والعناد ، ووفى بعض بالوعد فاهتدى ، وكان تفرقهم لم يعد تفرقاً إلا زمناً يسيراً ، ثم(8/497)
صفحة رقم 498
اجتمعوا فلم يؤمن منهم من يعد خلافته لباقيتهم تفرقاً لكونه قليلاً من كثير ، فلذلك أدخل الجارّ فقال : ( إلا من بعد ( وكان ذلك الزمن اليسير هو بإسلام من أسلم من قبائل العرب الذين كانوا قد أطبقوا على النصرانية من تنوخ وغسان وعاملة وبكر بن وائل وعبد القيس ونحوهم وكذا من كان تهود من قبائل اليمن وأسلم ، ثم أطبق اليهود والنصارى على الضلال فلم يسلم منه إلى من لا يعد لقلته مفرقاً لهم ) ما ) أي الزمن الذي ) جاءتهم ( فيه أو مجيء ) البينة ( فكان حالهم كما قال سبحانه ) ) وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ( ) [ البقرة : 89 ] وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق ، لا تفرقهم فيه ، وكأنه أشار إلى المشركين بالعاطف ولم يصرح بذكرهم لأنهم كانوا عكس أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا زمناً يسيراً في أول الأمر ، فكان الضال منهم أكثر ، ثم أطبقوا على الهدى لما لهم من قويم الطبع ومعتدل المزاج ، فدل ذلك على غاية العوج لأهل الكتاب على أن وقوع اللدد من العلم أولى من المشركين بالاجتماع على الهدى ، ودل ذلك على أن وقوع اللدد والعناد من العالم أكثر ، وحصوله الآفة لهم من قوة ما لطباعهم من كدر النقص بتربيته وتنميته بالمعاصي من أمل السحت من الربا وغيره من الكبائر والتسويف بالتوبة ، فألفت ذلك أبدانهم فأشربته قلوبهم حتى تراكم ظلامها ، وتكاثف رينها وغمامها ، فلما دعوا لم يكن عندهم شيء من نور تكون لهم به قابلية الانقياد للدعاء .
البينة : ( 5 - 8 ) وما أمروا إلا. .. . .
) وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ( ( )
ولما كان حال من ضل على علم أشنع ، زاد في فضيحتهم فقال : ( وما ) أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما .
ولما كان المقصود بروز الأمر المطاع ، لا تعيين الآمر ، قال بعد وصف الصحف بأنه ثبت أنها قيمة بانياً للمفعول : ( أمروا ) أي وقع أمرهم بما أمروا به ممن إذا أطلق الأمر لم يستحق أن ينصرف إلا إليه ، في تلك الكتب التي وجب ثبوت اتباعها وأذعنوا له ) إلا ليعبدوا ) أي لأجل أن يعبدوا ) الله ) أي الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره بأن يوجدوا عبادته ويجددوها في كل وقت ، والعبادة والامتثال أمر الله تعالى كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه آمر ، مع المبادر بغاية الحب(8/498)
صفحة رقم 499
والخضوع والتعظيم ، وذلك مع الاقتصاد لئلا يمل الإنسان فيخل أو يحصل له الإعجاب فتفسد عبادته ، حال كونهم ) مخلصين ) أي ثابتاً غاية الثبات إخلاصهم ) له الدين ( بحيث لا يكون فيه شوب شيء مما يكدره من شرك جلي ولا خفي بأن يكون الامتثال لكونه أمر لرضاه لا لشي من نفع ولا دفع ، ويكون ذلك على الصواب ، فإن كثيراً من العاملين يكون خلصاً ، ويكون بناؤه بغير أساس صالح ، فلا ينفعه بل يكون وبالاً عليه ، فإنه ضيع الأصل كالرهبان وكذا كثير ممن يعتقد ولاية شخص وهو لا يعرف أن يميز بين الولي والعدو والمكرم والمستدرج ، وحقيقة الإخلاص بأنه إفراد الحق في الطاعة بالقصد مع نسيان الخلق في الأعمال والتوصل إليه بالتوقي من ملاحظتهم مع التنقي عن مطالعة النفس برؤية العبد نفسه عبداً مأموراً لا يريد ثواباً ، جاعلاً كل شيء وسيلة إلى الله ، وعلامته عدم رؤية العمل ، ويعرف ذلك بالخوف وعدم الالتفات إلى طلب الثواب ، وبالحياء منه لكونه يرى أنه ما قام بحق السيد على ما ينبغي كما قال تعالى :
77 ( ) يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ( ) 7
[ المؤمنون : 60 ] قال القشيري : ويقال : الإخلاص تصفية العمل من الخلل ، وقال الرازي : الإخلاص النية الصافية لأن النية دائمة ، والعمل ينقطع ، والعمل يحتاج إلى النية ، والنية لا تحتاج إلى العمل ، ولأجل ما أفهمه التعبير بالاسم من التمكن والثبات أكده بقوله : ( حنفاء ) أي في غاية الميل مع الدليل إلى القوم بحيث لا يكون عندهم اعوجاج أصلاً ، بل مهما حصل أدنى زيغ عرضوه على الدليل فمالوا معه بما لهم من الحنف فقادهم إلى الصلاح فصاروا في غاية الاستقامة ، وتلك هي العبادة الإحسانية ، وأصل الحنف في اللغة : الميل ، قال الملوي : وخصه العرف بالميل إلى الخير ، ولذا سمي الأحنف بن قيس لميل في رجليه إلى داخل من جهة القدام إلى الوراء ، وسموا الميل إلى الشر إلحاداً ، فالحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمس : اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات الحقة ، وعن توابعها من الخطايا والسيئات إلى العمل الصالح وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأول من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدهما إلى الحق ، والثاني إلى الخلق ، فالإخلاص لمقام المشتغل بالمصفى له لأنه إفراد الحق بالقصد في الطاعة ، والخوف لمقام المشتغل بالمصفى منه لأنه الميل عن سائر المخلوقات إلى الله تعالى وإلى ما يرضه .
ولما ذكر أصل الدين ، أتبعه الفروع ، فبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع(8/499)
صفحة رقم 500
التجرد عن العوائق فقال : ( ويقيموا ) أي يعدلوا من غير اعوجاج ما ، بجميع الشرائط والأركان والحدود ) الصلاة ( لتصيرة بذلك أهلاً لأن تقوم بنفسها ، وهي التعظيم لأمر الله تعالى .
ولما ذكر صلة الخالق ، أتبعها وصلة الخلائق فقال : ( ويؤتوا الزكاة ) أي بأن يحضروها لمستحقيها على خلق الله إعانة على الدين ، ولكنهم حرفوا ذلك وبدلوه بطباعهم المعوجة ، وتدخل الزكاة عند أهل الله في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل ووجاهة وغير ذلك - كما هو واضح من قوله تعالى :
77 ( ) ومما رزقناهم ينفقون ( ) 7
[ البقرة : 3 - والأنفال : - 3 ] .
ولما كان هذا ديناً حسناً بيناً فضلوا عنه على ما عندهم من الأدلة ، زاد في توبيخهم بمدحه فقال : ( وذلك ) أي والحال أن هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور الذي هو في غاية العلو والخير ) دين القيمة ) أي الملة أو النفوس أو الكتب التي لا عوج فيها ، وهو على الأول من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعن الخليل أنه قال : هو جمع قيم ، والقيم والقائم واحد ، والمعنى دين القائمين لله تعالى بالتوحيد ، ودل على ما قدرته في أمر المشركين بذكرهم في نتيجة ما مضى في قوله مؤكداً لاجل إنكارهم : ( إن الذين كفروا ) أي وقع منهم الستر لمرائي عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك وإن لم يكونوا عريقين فيه ) من أهل الكتاب ) أي اليهود والنصارى ) والمشركين ) أي العريقين في الشرك ، ودل بالإتيان بالوصف هنا والفعل في أولئك - والله أعلم - على أن المشرك يرجع عن شركه ويؤمن إن لم يكن عريقاً في الشرك بخلاف أهل الكتاب متى تلبس أحد منهم بكفر لا يرجع عنه وإن كان تلبسه به على أضعف الوجوه ، وكذا كل من ينسب إلى علم ولا سيما إن كان بليداً متى عرضت له شبهة بعد رجوعه عنها ، فلذلك جميع بينهم في قوله : ( خالدين فيها ) أي يوم القيامة أو في الحال لسعيهم في موجباتها ، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته .
ولما كان معظم السياق للعبادة والترغيب فيها من القراءة والسجود والانفكاك عن الكفر ، لم يذكر التأبيد بلفظه ، بل اكتفى بما دل عليه وقال في نتيجة ما مضى : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم ) أي خاصة بما لضمائرهم من الخبث ) شر البرية ) أي الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم ، وفرطوا في حوائجهم ومآربهم ، وهذا نار لأرواحهم حين ينادى عليهم به .(8/500)
صفحة رقم 501
ولما ذكر الأعداء وبدأ بهم ، لأن السياق لذم من جمد من المألوف وترك المعروف ، أتبعه الأولياء فقال مؤكداً لما للكفار من الإنكار : ( إن الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان من الخلق كلهم الملائكة وغيرهم ) وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ) أي هذا النوع ، ولما كان نعيم القلب أعظم ، قدمه على نعيم البدن إبلاغاً في مدحهم فقال : ( أولئك ) أي العالو الدرجات ) هم ) أي خاصة ) خير البرية ( .
ولما خصصهم بالخيرية ، ذكر ثوابهم ، فقال ذاكراً جنة أبدانهم معظماً لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذين بأنه مقابلة ما وصفوا به : ( جزاؤهم ) أي على طاعاتهم ، وعظمه بقوله : ( عند ربهم ( إليهم المربي لهم وأي المحسن ) جنات عدن ) أي إقامة لا تحول عنها ) تجري ) أي جرياً دائماً لا انقطاع له .
ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة ، قرب وبعض بقوله : ( من تحتها ) أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها ) الأنهار ( .
ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال : ( خالدين فيها ( ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثاً على اتباع الدليل المعروف ، والمفارقة للحال المألوف ، أكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله : ( أبداً ( .
ولما كان هذا كله ثمرة الرضا ، وكان التصريح به أقر للعينه لأنه جنة الروح ، قال مستأنفاً أو معللاً : ( رضي الله ) أي لما له مننعوت الجلال والجمال ) عنهم ) أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق .
ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين ، كان أتم وأعلى لهم قال : ( ورضوا عنه ( لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطوهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك ، لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقدر أحد حق قدره ، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم ، وأعظم نعمه عليهم ما منّ عليهم به من متابعتهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن ذلك كان سبباً لكل خير .
ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص ، قال معمماً له ومنبهاً على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم : ( ذلك ) أي الأمر العالي الذي جوزوا به ) لمن خشي ربه ) أي خاف المحسن إليه خوفاً يليق به ، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرامات بل كان ممن يطلب معالي الأخلاق فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه ، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفاً فيزيده شكراً ، فإن الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير ، (8/501)
صفحة رقم 502
وهي للعارفين ، قال الملوي ما معناه : إن الإنسان إذا استشعر عقاباً يأتيه أو خسراً ، لحقته حالة يقال لها الخوف وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه ، فإن اشتد سمي وجلاً لجولانه في نفسه ، فإذا اشتد سمي رهباً لأدائه إلى الهرب ، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة ، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال ، ووراء هذا الخشية
77 ( ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ( ) 7
[ فاطر : 28 ] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه ، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها وما فارق الخوف قلباً إلا خرب ، فكان جديراً بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة ، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك ، وبتصنيف الناس صنفي ، ك صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها ، وصنف استمر في أسرها فأرداها ، وقد ذكرت في ( مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور ) سر تخصيص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأبيّ رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها ، وحاصله أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضي الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأرمهما فعرضها عليه فحسن لهما ، قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، فضرب ( صلى الله عليه وسلم ) في صدري ففضت عرقاً ، وكأنهما أنظر إلى الله فرقاً ، ثم قص لعيّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل وفيها أن الله يبعث رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم البعث شهيداً ، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأن اليهود اختلفوا في السبت ، وسورة ) لم يكن ( على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها بزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك ، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد ، فيكون شر البرية ، فقرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليه رضي الله عنه تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوراً فيكون أرسخ في النفس وأثبت في القلب وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات ، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما يتذكر من الأمر الشريف يكون أصفى الصحابة رضي الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك ، فيصير كلما قرأها هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك(8/502)
صفحة رقم 503
الضربة .
ولثبوته في هذا المقام قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أقرؤكم أبيّ ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه وهو صحيح ورواه بعضهم مرسلاً ، ومما فيه ولم أذكره في المصاعد سنة التواضع حتى لا يمنع أحداً ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك ، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن ، فحلق السحد أديانهم وسلبهم إيمانهم ، وصاروا أشقى الناس - كما نبه عليه أول السورة - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - آمين .
.. .(8/503)
صفحة رقم 504
سورة الزلزلة
مقصودها انكشاف الأمور ، وظهور المقدور أتم ظهور ، وانقسام الناس في الجزاء في دار البقاء إلى سعادة وشقاء ، وعلى ذلك دل اسمها بتامل الظرف ومظروفه ، وما أفاد من بديع القدر وصروفه ) بسم الله ( المحيط بكل شيء قدؤرة وعلما ) الرحمن ( الذي عم الخلق بنعمته الظاهرة قسما ) الرحيم ( الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة واسما ، عينا ورسما .
الزلزلة : ( 1 - 8 ) إذا زلزلت الأرض. .. . .
) إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ( ( )
لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء ، ذكر في هذه الأول مبادئ تلك الدار وأوائل غاياتها ، وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها ، وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء ، فقال معبراً بأداة التحقق لأن الأمر حتم لا بد من كونه : ( إذا ( .
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها ، وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً ، بنى للمفعول قوله : ( زلزلت الأرض ) أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك ، وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كفل مذهب ، فقال كاسراً الزاء لأنه مصدر ، ولو فتحها لكان اسماً للحركة ، قال البيضاوي : وليس إلا في المضاعف .
) زلزالها ) أي تحرها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم ، ولو شرح بما يليق به لطال(8/504)
صفحة رقم 505
الشرح ، وذلك كما تقول : أكرم التقي إكرامة وأهن الفاسق الشقي إهانة ، أي على حسب ما يليق به .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ( - إلى قوله : ( أولئك شر البرية ( وقوله : ( إن الذين آمنوا ( - إلى آخر السورة .
ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم ، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى : ( يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ( إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال : ( وأخرجت ( وأظهر ولم يضمر تحقيقاً للعموم فقال : ( الأرض ) أي كلها ) أثقالها ) أي مما هو مدفون فيها كاأموات والكنوز التي كان أمرها ثقيلاً على الناس ، وهو جمع ثقل بالكسر ، وذلك حين يكون البعث والقيام متأثراً ذلك الإخراج عن ذلك الزلزال ، كما يتأثر عن زلزال البساط بالنفض إخراج ما في بطنه وطيه وغضونه من وسخ وتراب وغيره ، وما كان على ظهرها فهو ثقل لعيها لأنها يعطيها الله قوة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوة أن تخرج النبت الصغير اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير فيشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاول والحديد ، ويشق النواة مع ما لها من الصلابة التي تستعصي بها على الحديد فينفلق نصفين وينبت منها منا يريده سبحانه وتعالى ، ويفلق قشر الجوز واللوز ونوى الخوخ وغيره ما هو في غاية الصلابة كما نشاهده ، ويخرج منه الشجرة بشق الأرض على ضعفه ولينه وصلابتها وبكونه على ظهرها حتى يصير أغلظ شيء واشده ، وكذا الحب سواء ، فالذي قدر على ذلك هو سبحانه وتعالى قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ويشق جميع منافذه على التحذير من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل إلى هناك بيكار ولا منشار ، ثم يخرج من البطن ، فكذا إخراج الموتى من غير فرق ، كل عليه هين - سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه .
ولما كان الإنسان إذا رأى هذا عجب له ولم يدرك سببه لأنه أمر عظيم فظيع يبهر عقله ويضيق عنه ذرعه ، عبر عنه بقوله : ( وقال الإنسان ) أي هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما تأكد عنده من أمر البعث بما له من الأنس بنفسه والنظر في عطفه ، على سبيل التعجب والدهش أو الحيرة ، ويجوز أن يكون القائل الكافر كما يقول :
77 ( ) من بعثنا من مرقدنا ( ) 7
[ يس : 52 ] فيقول له المؤمن :
77 ( ) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ( ) 7
[ يس : 52 ] ) ما لها ) أي أيّ شيء للأرض في هذا الأمر الذي لم يعهد مثله .(8/505)
صفحة رقم 506
ولما طال الكلام وأريد التهويل ، أبدل من ( إذا ) قوله معرفاً للإنسان ما سأل عنه : ( يومئذ ) أي إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه ونصبه وكذا ما أبدل منه بقوله : ( تحدث ) أي الأرض بلسان الحال بإخراج ما في بطنها من الموتى والكنوز وغيرها على وجه يعلم الإنسان به لم زلزلت ولم أخرجت ، وأن الإنذار بذلك كان حقاً ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : تحدث بلسان المقال .
) أخبارها ) أي التي زلزلت وأخرجت ما أخرجت لأجلها ، وكل شيء عمل عليها شهادة منها على العاملين فتقول : عمل فلان كذا وكذا - تعدد حتى يود المجرم أنه يساق إلى النار لينقطع عنه تعداد ذلك الذي يلزم منه العار ، وتشهد للمؤمن بما عمل حتى يسره ذلك ، فيشهد للمؤذن كل ما امتد إليه صوته من رطب ويابس .
ولما كان من المقرر أنه لا يكون شيء إلا بإذنه تعالى ، وكان قد بنى الأفعال لما لم يسم فاعله ، فكان الجاهل ربما خفي عليه فاعل ذلك قال : ( بأن ) أي تحدث بسبب أن ) ربك ( اي المحسن إليك بإحقاق الحق وإزهاق الباطل لإعلاء شأنك ) أوحى ( وعدل عن حرف النهاية إيذاناً بالإسراع في الإيحاد فقال : ( لها ) أي بالإذن في التحديث المذكور بالحال أو المقال .
ولما أخبر تعالى بإخراج الأئقال التي منها الأموات ، اشتد التشوف إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه ، فقال مكرراً ذكر اليوم زيادة في التهويل : ( يومئذ ) أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور ) يصدر ) أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط منهم فيه ولا يضل عنه ) الناس ( من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم ) أشتاتاً ) أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر ، وآمن وخائف ، ومطيع وعاص .
ولما ذكر ذلك ، أتبعه علته فقال بانياً للمفعول على طريقة كلام القادرين : ( ليروا ) أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعمالهم ( فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله ، ثم سبب عن ذلك قوله مفصلاً التي قبله : ( فمن يعمل ( من محسن أو مسيء مسلم أو كافر ) مثقال ) أي مقدار وزن ) ذرة خيراً ) أي من جهة الخير ) يره ) أي حاضراً لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة ، فالكافر يوقف على أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان ، فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه ، والمؤمن يراه ليشتد سروره به .
ولما ذكر الخير ، أتبعه ضده فقال : ( ومن يعمل ) أي كائناً من كان ) مثقال ذرة(8/506)
صفحة رقم 507
شراً ) أي من جهة الشر ) يره ( فما فوقه ، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه ، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه ، والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار ، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها أحكم آية في القرآن ، وكان رسول الله عليه ( صلى الله عليه وسلم ) يسميها الفاذة الجامعة ، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعائشة رضي الله عنها : ( إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً ) وروي كما ذكرته في كتابي ( مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور ) في حديث ( إنها تعدل نصف القرآن ) وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن ، ولا تعارض ، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً ، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل ، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر ) فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن ، وأيضاً فأمر الدين أربع أجزاء : أمر المعبود ، وأمر العبيد ، وأمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن اكنت على وجه التمام والوفاء ، وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء - والله الهادي للصواب وإليه المآب .
.. .(8/507)
صفحة رقم 508
سورة العاديات
مقصودها اإعلام بأن أكثر الخلق يوم الزلزلة هالك لإيثار الفاني من العز والمال على الباقي عند ذي الجلال ، المدلول عليه بالقسم وه والعاديلت والمقسم عليه وما عطف عليه ، وقد علم أن اسمها أدل شيء على ذلك لما هدى إليه القسم والمقسم عليه : ( بسم الله ( الذي له الأمر كله فلا يسأل عما يفعل ) الرحمن ( الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل ) الرحيم ( الذي خص خلص عباده بتوفيقه فأتم نعمته عليهم وأكمل .
العاديات : ( 1 - 11 ) والعاديات ضبحا
) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( ( )
لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل ، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع ، وما ينجر غليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع ، موبخاً من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال ، معنفاً من أثر دنياه على أخراه ، مقسماً بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر ، فمن غلب عليه الروح شكر ، ومن غلب عليه الطبع - وهم الأكثر - كفر فقال : ( والعاديات ) أي الداوب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة ، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز ، وهي لرجل وزر ولرجل أجر ، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شراً ، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجراً ، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له ستراً ، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلاً والحملال ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار ، فالقسم في الحقيقة به سبحانه .(8/508)
صفحة رقم 509
ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام ، قال ناصباً ب ( تضبح ) مقداراً : ( ضبحاً ( والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد ، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس ، وليس من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، وأصله للثعلب واستيعر للخيل ، وحكاه ابن عباس رضي الله عنهما فقال : أح أح ، أو الضبح عدو دون التقريب .
ولما ذكر عدوها ، أتبعه ما ينشأ عنه ، فقال عاطفاً بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء : ( فالموريات ) أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار ، لا سيما عند سلوك الأوعار .
ولما كان الإيراء أثر القدح قال : ( قدحاً ) أي تقدح ضرباً بعنف كضرب الزند ليوري النار ، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه .
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه ، ذكر نتيجته وغايته فقال : ( فالمغيرات ) أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب .
ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال : ( صبحاً ) أي ذات دخول في الصباح .
ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفاً تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أماماً وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب ، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب ، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه ، وكان المقسم به منظوراً فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظوراً فيها إلى الفعل بادئ بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات ، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال : ( فأثرن به ) أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو ) نقعاً ) أي غباراً مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكاً ومنعقداً عليها .
ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل ، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال : ( فوسطن به ) أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع ) جمعاً ) أي وهو المقصود بالإغارة ، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها .
ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان ، وتجري به أفكاره كخيل الرهان ، وتقدح المعاني تارة مقترنة(8/509)
صفحة رقم 510
بأشرف اللمعان ، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران ، من الزور والبهتان ، والإلحاد والطغيان ، وتغير منه ثواقب الأذهان ، تارة على شبه الخصوم بالبرهان ، وأخرى بما يغير به الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان ، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان ، من ذوي البدع والكفران ، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان ، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان ، وأخرى جمع أولي الإيمان ، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدواناً إن كان ذلك في غير الجهاد ، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال ، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي : ( إن عبدي كل عبدي للذين يذكرني عند لقاء قرنه ) قال مجيباً للقسم بذكر المقسم عليه حاكماً على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدماً ، مؤكداً لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال : ( إن الإنسان ) أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه ) لربه ) أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته ) لكنود ) أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه ، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة ، فالمراد هنا - بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة - من يزدري القليل ولا يشكر الكثير ، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة ، ويلوم ربه في أيسر نقمة ، وقال الفضيل بن عياض : هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءةة الخصال الكثيرة من الإحسان ، والشكور ضده .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال : ( إن الإنسان لربه لكنود ) أي لكفور ، يبخل بما ليده من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وكأنه ما سمع بقوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( ) وأنه لحب الخير ) أي المال ) لشديد ( لبخيل ، روإنه على ذلك لشهيد ( فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره واقبة مآله ) إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ) أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه ) إن ربهم بهم يومئذ لخبير ( لا يخفى عليه شيء من أمرهم ) فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( - انتهى .
ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجباً ، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب ، قال مؤكداً لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاقفة من إنكار كفرانه : ( وإنه ( أي(8/510)
صفحة رقم 511
الإنسان ) على ذلك ) أي الكنود العظيم حيث اقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه ) لشهيد ( لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة ، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل ، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه ، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافراً لإحسانه مستحقاً لعقابه ، لا يقدر على إنكار شيء منه .
ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم ، وهو شاهد على نفسه ، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال : ( وإنه ) أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم ) لحب ) أي لأجل حب ) الخير ) أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً ) لشديد ) أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه ، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس ، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة ، ولا يتخيل أن شديداً عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها ، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف .
ولما كان المال فانياً لا ينبغي لعاقل أن يعلق أمله به فضلاً عن أن يؤثرة الباقي ، نبهه على ذلك بتهديد بليغ ، فقال مسبباً عن ذلك معجباً ، موقفاً له على ما يؤول إليه أمره : ( أفلا يعلم ) أي هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه .
ولما كان الحب أمراً قلبياً ، لا يطلع عليه إلا عالم الغيب ، وكان البعث من عالم الغيب ، وكان أمراً لا بد منه ، وكان المخوف مطلق كونه ، لم يحتج إلى تعيين الفاعل ، فبنى للمفعول قوله مهدداً مؤذناً بأنه شديد القدرة على إثارة الخافايا ، معلقاً بما يقدره ما يؤول إليه أمره من أن الله يحاسبه ويجازيه على أعماله ، وأنه لا ينفعه مال ولا غيره ، ولا ينجيه إلا ما كان من أعماله موافقاً لأمر ربه مبنياً على أساس الإيمان واقعاً بالإخلاص : ( إذا بعثر ) أي أثير بغاية السهورة وأخرج وفرق ونظر وفتش بغاية السهولة .
ولما كان الميت قبل البعث جماداً ، عبر عنه بأداة ما لا يعقل فقال : ( ما في القبور ) أي أخرج ما فيها من الموتى الذين تنكر العرب بعثهم فنشروا للحساب ، أو من عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجلودهم وجميع أجسامهم ، وقلب بعضه على بعض حتى أعيد كل شيء منه على ما كان عليه ، ثم أيعدت إليه الروح ، فكان كل أحد على ما مات عليه .(8/511)
صفحة رقم 512
ولما كان المخوف إنما هو ما يتأثر عن البعث من الجزاء على الأعمال الفاسدة قال : ( وحصل ) أي أخرج وميز وجمع فعرف أنه معلوم كله بغاية السهولة كما أشار البناء للمفعول ) ما في الصدور ) أي من خير أو شر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً ، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال ، وهذا يدل على أن النيات يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها .
ولما كان علم ما في الصدور أمراً باهراً للعقل ، قال جامعاً نظراً إلى المعنى لما عبر عنه بالإفراد بالنظر إلى اللفظ ، لأن العلم بالكل يلازمه العلم بالبعض بخلاف العكس مؤكداً إشارة إلى أنه مما لا يكاد يصدق ، معللاً للجملة المحذوفة الدالة على الحاسب : ( إن ربهم ) أي المحسن إليهم بخلقهم وزرقهم وتربيتهم وجعلهم أقوياء سويين ) بهم ( قدم هذا الجار والمجرور لا للاختصاص ، بل للاشارة إلى نهاية الخبر .
ولما كانت الخبرة للإحاطة بالشيء ظاهراً وباطناً ، وكان يلزم من الخبرة بالشيء بعد كونه بمدد طوال الخبرة به حال كونه من باب الأولى قال : ( يومئذ ) أي إذ كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة ) لخبير ) أي محيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم ، فكيف بظواهرها جواهر وأعراضاً ، أقوالاً وأفعالاً ، خفية كانت أو ظاهرة ، سراً كانت أو علانية ، خيراً كانت أو شراً ، ومن المعلوم أن فيها الظلم وغيره ، ومنهم المحسن وغيره ، فلأجل علمه سبحانه بذلك غاية العلم يحاسبهم لئلا يقع ما ينافي الحكمة وهو أن تستوي الحسنة والسيئة ، فالقصد بالقيد وتقديم الظرف الإبلاغ في التعريف بأنه سبحانه وتعالى محيط العلم بذلك كما إذا قيل لك : تعرف فلاناً ؟ فقلت : ولا أعرف إلا هو ، فإن قصدك بذلك أن معرفتك به في غاية الإتقان ، لا نفي معرفة غيره ، وفيه إشعار بأن كل أحد يعرف غاية المعرفة في ذلك اليوم أنه سبحانه وتعالى عالم بأحواله لا ذهول له عن شيء من ذلك كما يقع في هذه الدار من أن الإنسان يعمل أشياء كثيرة وهو غافل عن أن ربه سبحانه مطلع عليه فيها ، ولو نبه لعلم ، فلإحاطته سبحانه وتعالى بجميع أحوالهم كان عالماً بأن الإنسان لربه لكنود ، وقد رجع آخرها إلى أولها ، وتكفل مفصلها بشرح مجملها - والله الهادي للصواب .
.. .(8/512)
صفحة رقم 513
سورة القارعة
مقصودها إيضاح يوم الدين بتصوير ثواني أحواله في مبدئه ومآله ، وتقسيم الناس فيه إلى ناج وهالك ، واسمها القارعة واضح في ذلك ) بسم الله ( الملك الأعلى ) الرحم ، ( الذي عمت نعمة إيجاده وبيانه جميع الورى ) الرحيم ( الذي خص أهل حزبه بالتوفيق لما يجب ويرضى .
القارعة : ( 1 - 11 ) القارعة
) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ( ( )
لما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته فقال : ( القارعة ) أي الصيحة أو القيامة ، سميت بها لأنها تقرع أسماع الناس وتدقعها دقاً شديداً عظيماً مزعجاً بلأفزع ، والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار ، والأشياء الثابتة بالانتثار .
ولما كانت تفوق الوصف في عظم شأنها وجليل سلطانها ، عبر عن ذلك وزاده عظماً بالإلهام والإظهار في موضع الإضمار مشيراً بالاستفهام إلى أنها مما يستحق السؤال عنه على وجه التعجيب والاستعظام فقال : ( ما القارعة ( وأكد تعظيمها إعلاماً - بأنه مهما خطر ببالك من عظمها فهي أعظم منه فقال : ( وما أدراك ) أي وأيّ شيء أعلمك وإن بالغت في التعرف ، وأظهر موضع الإضمار لذلك فقال : ( ما القارعة ) أي أنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثله .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى : ( أفلا يعلم إذا بعثر في القبور وحصل ما في الصدور ) كان ذلك مظنة لأن يسأل : متى ذلك ؟ فقيل : يوم القيامة الهائل الأمر ، الفظيع الحال ، الشديد البأس ، والقيامة هي القارعة ، وكررت(8/513)
صفحة رقم 514
تعظيماً لأمرها كما ورد في قوله تعالى
77 ( ) الحاقة ما الحاقة ( ) 7
[ الحاقة : 1 - 2 ] وفي قوله سبحانه :
77 ( ) فغشيهم مناليم ما غشيهم ( ) 7
[ طه : 78 ] ثم زاد عظيم هوله إيضاحاً بقوله تعالى ) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ( والفراش ما تهافت في النار من البعوض ، والمبثوث : المنتشر ) وتكون الجبال كالعهن المنفوش ( والعهن : الصوف المصبوغ ، وخص لإعداده للغزل إذ لا يصبغ لغيره بخلاف الأبيض فإنه - لا يلزم فيه ذلك ، ثم ذكر حال الخلق في الأعمال وصيرورة كل فريق إلى ما كتب له وقدر - انتهى .
ولما ألقى السامع جميع فكره إلى تعرف أحواله ، قال ما تقديره : تكون ) يوم تكون ) أي كوناً كأنه جبلة ) الناس ) أي الذين حالهم النوس على كثرتهم واختلاف ذواتهم وأحوالهم ومراتبهم ومقاديرهم وانتشارهم بعد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور ) كالفراش ) أي صغار الجراد لأنها تتفرش وتتهافت على النار ، أو هو طير غير ذلك لا دم له ، يتساقط في النار وليس ببعوض ولا ذباب ، وقال حمزة الكرماني : شبههم بالفراش التي تطير من هنا ومن هنا ولا تجري على سمت واحد وهي همج يجتلبها السراج ، وقال غيره : وجه الشبه الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما تتطاير الفراش ، وكثرة التهافت في النار وركوب بعضهم بعضاً - وموج بعضهم في بعض من شدة الهول كما قال تعالى
77 ( ) كأنهم جراد منتشر ( ) 7
[ القمر : 7 ] ) المبثوث ) أي المنتشر المتفرق .
ولما كانت الجبال أشد ما تكون ، عظم الرهبة بالإخبار بما يفعل بها فقال تعالى : ( وتكون الجبال ( على ما هي عليه من الشدة والصلابة وأنها صخور راسخة ) كالعهن ) أي الصوف المصبغ لأنها ملونة كما قال تعالى :
77 ( ) ومن الجبال جدد بيض وحمر ( ) 7
[ فاطر : 27 ] أي وغير ذلك ) المنفوش ) أي المندوف المفرق الأجزاء الذي ليس هو بمتلبد شيء منه على غيره ، فتراها لذلك متطايرة في الجو كالهباء المنثور حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمتاً .
ولما كان اليوم إنما يوصف لأجل ما يقع فيه ، سبب عن ذلك قوله مفصلاً لهم : ( فأما من ثقلت ) أي بالرجحان .
ولما كانت الموزونات كثيرة الأنواع جداً ، جمع الميزان باعتبارها فقال : ( موازينه ) أي مقادير أنواع حسناته باتباع الحق لأنه ثقيل في الدنيا واجتناب الباطل ، والموزون الأعمال أنفسها تجسداً وصحائفها ) فهو ( بسبب رجحان حسناته ) في عيشة ) أي حياة تتقلب فيها ، ولعله ألحقها الهاء الدالة على الوحد - والمراد العيش - ليفهم أنها على حالة واحدة - في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا ) راضية ) أي ذات رضى أو مرضية لأن أمه - جنة عالية ) وأما من(8/514)
صفحة رقم 515
خفت ) أي طاشت ) موازينه ) أي بأن غلبت سيئاته أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا ) فأمه ) أي التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض : أم - لأنها تقصد لذلك ، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأم ، وكذا المسكن ، وهو يفهم أنه مخلوق منها غلب عليه طبع الشيطان لكون العنصر الناري أكثر أجزائه ، وعظمها بالتنكير والتعبير بالوصف المعلم بأنه لا قرار لها فقال : ( هاوية ) أي نار نازلة سافلة جداً فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً وهو في عيشة ساخطة ، فالآية من الاحتباك ، ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً ، وذكر الأم دليلاً على حذفها أولاً .
ولما كانت مما يفوت الوصف بعظيم أهوالها وشديد زلزالها ، جمع الامر فيها فقال منكراً أن يكون مخلوق يعرف وصفها : ( وما أدراك ) أي وأيّ شيء أعلمك إن اشتد تكلفك ) ما هيه ) أي الهاوية لأنه لم يعهد أحد مثلها ليقيسها عليه ، وهاء السكت إشارة إلى إن ذكرها مما يكرب القلب حتى لا يقدر على الاسترسال في الكلام أو إلى - أنها مما ينبغي للسامع أن يقرع بهذا الاستفهام عنها سمعه فيسكت لسماع الجواب وفهمه غاية السكوت ويصغي غاية الإصغاء .
ولما هوّلها بما ذكر ، أتبعها ما يمكن البشر معرفته من وصفها فقال ) نار حامية ) أي قد انتهى حرها ، هذا ما تتعارفونه بينكم ، وأما التفاصيل فأمر لا يعلمه إلا الله تعالى وهذا نهاية القارعة ، فتلاؤم الأول للآخر واضح جداً وظاهر - والله أعلم .
.. . .(8/515)
صفحة رقم 516
سورة التكاثر
مقصودها التصريح بما أشارت إليه العاديات من أن سبب الهلاك يوم الجمع. الذي صورته القارعة. الجمع للمال ، والإخلاد إلى دار الزوال ، واسمها واضح الدلالة على ذلك ) بسم الله ( ذي الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي عم بالإنعام ، بالبيان - بعد الاتهام ، والإيجاد بعد الإعدام ) الرحيم ( الذي خص أهل وده بدوةام نعمتهم بالإتمام .
التكاثر : ( 1 - 8 ) ألهاكم التكاثر
) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( ( )
ولما أثبت في القارعة أمر الساعة ، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد ، وختم بالشقي ، افتتح هذه بعلة الشقاوة ومبدأ الحشر لينزجر السامع عن هذا السبب ليكون من القسم الأول ، فقال ما حاصله : انقسمتم فكان قسم منكم هالكاً لأنه ) ألهكم ) أي أغفلكم إلا النادر منكم غفلة عظيمة عن الموت الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد فكيف بما بعده ) التكاثر ( وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا : المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله ، فكان ذلك موجباً لصرف الهمة كلها إلى الجمع ، فصرفكم ذلك إلى اللهو ، فأغفلكم عما أمامكم من الآخرة والدين الحق وعن ذكر ربكم وعن كل ما ينجيكم من سخطه ، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات ، وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس وحب اراحة فخفت موازينكم ، وحذف هذا الشيء الملهو عنه لتعظيمه والدلالة على أنه ليس غيره مما يؤسف على اللهو عنه .(8/516)
صفحة رقم 517
ولما كانوا ينكرون البعث ، ويعتقدون دوام - الإقامة في القبور ، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ولا مرية فيه ، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم ، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال ، فقال : ( حتى ) أي استمرت مباهتكم ومفاخرتكم إلى أن ) زرتم المقابر ) أي بالموت والدفن ، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور ، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالمت كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره وحل قراره ، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافياً فكيف والأمر أعظم من ذلك ؟ فإن المخوت مقدمة من مقدمات العرض ، قال أبو حيان : سمع بعض الأعراب الآية فقال : بعث القوم للقيامة ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا مقيم ، وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال : ما أرى المقابر إلا زيارة ، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته ، إما إلى الجنة أو إلى النار .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها ، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألها عن ذكرها ، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال : ( ألهاكم التكاثر ( وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما بعضد ذلك وهو قوله ) كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( ثم قال : ( كلا لو تعلمون علم اليقين ( وحذف جواب ( لو ) والتقدير : لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) الحديث ، وقوله تعالى ( لترون الجحيم ) جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم ، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفل أن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم ، وكان العقلاء المنفعون بالكون في غاية التظالم ، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعاً أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم ، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه ، فثبت ذلك(8/517)
صفحة رقم 518
ثبوتاً لا مرية فيه ولا مزيد عليه ، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه ، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع ، وجامعة الزواجر والصوادع : ( كلا ) أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي ، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك ، إنما خلقتم لأمر عظيم ، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم - فكنتم لاهين كما يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر ، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك ما هو أهم منه مما لا عيش لا إلا به .
ولما كان الردع لا يكون إلا عن ذار يجر وبالاً وحسرة ، دل على ذلك بقوله استئنافاً : ( سوف ) أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر ) تعلمون ) أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت وجير حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله .
ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال ، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكداً مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة : ( ثم كلا ) أي ارتدعوا ارتداعاً أكبر من ذلك لأنه ) سوف تعلمون ) أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيراً بالبعث .
ولما كان هذا أمراً صادعاً ، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة ، فقال مردداً للأمر بين تأكيد الردع ثالثاً بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى - حقاً كما يقوله ائمة القراءة : ( كلا ) أي - ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم ) لو تعلمون ( أيها المتكاثرون .
ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله : ( علم اليقين ) أي لو يقع لكم علم على - وجه اليقين مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم ، فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون - فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتخفيم فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره ، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه ، قال الرازي : واليقين مركب الأخذ في هذا الطريق ، وهو غاية درجات العامة ، وأول خطوة الخاصة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( خير ما ألقي في القلب اليقين ) وعلم قبول ما ظهر من الحق وقبول ما(8/518)
صفحة رقم 519
غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلهاء أولاً وحذف سببه وهو الجهل لدلالة الثاني عليه ، وذكر ثانياً العلم الذي هو الثمرة وحذف ما يتسبب عنه من عدم اللهو الذي هو ضد الأول ، وزاد في التفخيم لهذا الوعيد بإيضاح المتوعد به بعد إبهامه مع قسم دل عليه بلامه ، فقال : ( لترون ) أي بالمكاشفة وعزتنا ، ولا يصح أن يكون هذا جواباً لما قبله لأنه محقق ) الجحيم ) أي النار التي تلقى المعذبين بها بكراهة وتغيظ وعتو وشديد توقد ، فالمؤمن يراها وينجو منها سواء خالطها لا والكافر يخلد فيها .
ولما كان هذا توعداً على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة فيوقع في غمرات البلايا الكبار ، أكد فقال مفخماً له بحرف التراخي : ( ثم لترونها ( وعزة الله ، ورقي العلم عن رتبة الأول فقط فقال تعالى : ( عين اليقين ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، وذلك هو المعاينة بغاية ما يكون من صفاء العلم لكونه لا ريبة فيه فإن المشاهدة أعلى أنواع العلم ، قال الرازي : وهو المغني بالاستدراك عن الاستدلال ، وعن الخبر بالعيان ، وخرق الشهود حجاب - العلم - انتهى .
ويجوز أن يكون هذا الثاني بالملامسة والدخول ، فالمؤمن وارد والكافر خالد .
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب ، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً ، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال ، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال ، فقال مفخماً بأداة التراخي : ( ثم ) أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جداً ) لتسئلن ( وعزتنا ) يومئذ ) أي إذ ترون الجحيم ) عن النعيم ) أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير فلم يخرج عن السرف ، فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف ، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف ، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس وإليه يشير حديث أبي هرير رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضاف أبا الهيم بن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمهم بسراً ورطباً وسقاهم ماء بارداً وبسط لهم بساطاً في ظل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه : ظل بارد ورطب طيب وماء بارد ) وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله(8/519)
صفحة رقم 520
إنهم قالوا عند نزولها : أي نعيم وإنما هما الأسودان : التمر والماء ، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر ، قال : ( إن ذلك سيكون ) له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما ، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً ، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من أطلف الخطاب ، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب ، لان العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال ، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه ثم كيف بالمحرم ؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال ؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب ؟ فكيف إذا جر إلى العذاب ؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته ، في نذاراته وبشاراته - والله أرحم .
.. .(8/520)
صفحة رقم 521
( سورة العصر )
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : إنها سورة لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم ، وهو معنى قول غيره : " إنها شملت جميع علوم القرآن ، مقصودها تفضيل نوع الإنسان المخلوق من علق ، وبيان خلاصته وعصارته وهم الحزب الناجي يوم السؤال عن زكاء الأعمال بعد الإشارة إلى أضدادهم ، والإعلام بما ينجي من الأعمال والأحوال بترك الفاني والإقبال على الباقي لأنه خلاصة اتلكون ولباب الوجود ، واسمها العصر واضح في ذلك فإن العصر يخلص روح المعصور ويميز صفاوته ، ولذلك كان وقت هذا النبي الخاتم الذي هو خلاصة الخلق وقت العصر ، وكانت صلاة العصر أفضل الصلوات ، وبيان اشتمالها على علوم القرآن تنزيل جملتها على ما قال الغزالي : إن القرآن كالبحر الذي فيه جزائر بها معادن ستة ، منها أربعة مهمة : مهمان منها هما ياقوت أفخر فأحمره للعلم بالله ، وأخضره لصفاته ، وأزرقه لأفعاله ، وزمرد أخضر هو العلم باليوم الآخر وما فيه ، ومهمان أولهما در أنضر وهو العلم بالعبادات المقربة إليه سبحانه وتعالى ، وثانيهما مسك أذفر ، وهو العلم بالعبادات التي بها تهيأ العبادات ، ومتمان وهما درياق أكبر وهو العلم بإزاحة الشكوك ، والشبه والأوهام لأنها سموم ومهلكة للدين ، وعنبر أشهب وهو الاعتبار بمن هلك باجتناب ما كان سبب هلاكه ، والاقتفاء بمن نجا باتباع ما كان سبب نجاته ، فالجملة الأولى للعنبر لأن فيها شم روائح الهالك وضده الناجي ، وبدئ بها لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والجملة الثانية للياقوت بصفاته الثلاث والزمرد ، والثالثة للدر والمسك ، وهخما عبادات مقصودة ، وعادات وسيلة إليها ممدودة ، والرابعة للدرياق لأن الشبه والشكوك إنما هي من أوهام عاطلة وخيالات باطلة ، والخامسة وسيلة إليها ومتمة لها لأن معرفة ذلك واجتنابه لا يكون إلا ببذل الجهد في الصبر ) بسم الله ( الذي كل شيء هالك إلا وجهه ) الرحمن ( الذي عم بالنعمة البر والفاجر فليس شيء شبهه ) الرحيم ( الذي خص بإتمام النعمة أولياءه ، فكانوا للدهر غرة ولأهله جبهة .(8/521)
صفحة رقم 522
العصر : ( 1 - 3 ) والعصر
) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( ( )
لما كانت لذة هذه الدنيا الظاهرة التنعم بما فيها من المتاع ، وكان الإنسان مسؤولاً بما شهد به ، ختم التكاثر عن ذلك النعيم متوعداً برؤية الجحيم ، فكان ساكن هذه الدار على غاية الخطر ، فكان نعيمه في غاية الكدر ، قال دالاًّ على ذلك بأن أكثر الناس هالك ، مؤكداً بالقسم والأداة لما للأغلب من التكذيب لذلك إما بالمقال أو بالحال : ( والعصر ) أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم ، أو الصلاة الوسطى أو وقتها الذي هو زمان صاحب هذا الشرع الذي مقداره فيما مضى من الزمان بمقدار وقت العصر من النهار أو بعضه ، أو زمان كل أحد الذي هو الخلاصة بالنسبة إليه تنبيهاً له على نفاسته إشارة إلى اغتنام إنفاقه في الخير إشفاقاً من الحشر ، أو وقت الأصيل لأنه أفضله بما يحويه من الفراغ من الأشغال واستقبال الراحة والحصول على فائدة ما أنفق فيه ذلك النهار ، وبما دل عليه من طول الساعة وربح من كان له فيها بضاعة باختتام الأعمال وتقوض النهار ، والدال على البعث ، أو جميع الدهر الذي أوجد فيه سبحانه وتعالى المخلوقات وقدر فيه المقدورات بما ظهر فيه من العجائب الدالة على ما لله تعالى من العز والعظمة الداعي إلى صرف الهمة إليه وقصرها عليه : ( إن الإنسان ) أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع لكونه في أحسن تقويم كما أن العصر خلاصة الزمان ، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء ) لفي خسر ) أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعصارهم في أغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر والإعراض عن الغائب والاغترار بالفاني أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس ، فمن كان كافراً كان في كفران ، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية وإلا كان في مطلق الخسر ، وهو مدلول المصدر المجرد ، وفي هذا إشارة إلى العلم بالاحتياج إلى إرسال الرسل لبيان المرضى لله من الاعتقادات والعادات إيماناً وإسلاماً وإدامة لذلك ليكون فاعله من قبضة اليمين وتاركه من أصحاب الشمال .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى : ( ألهاكم التكاثر ( وتضمن ذلك(8/522)
صفحة رقم 523
الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه ، وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع
77 ( ) إنه كان ظلوماً جهولاً ( ) 7
[ الأحزاب : 72 ] أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال ) والعصر إن الإنسان لفي خسر ( فالقصور شأنه ، والظلم طبعه ، والجهل جبلته ، فيحق أن يلهيه التكاثر ، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان ) إلا الذين آمنوا وعملو الصالحات ( إلى آخرها ، فهؤلاء الذين
77 ( ) لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ( ) 7
[ النور : 37 ] انتهى .
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم ، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص ، استثناهم سبحانه وتعالى لأنهم قليل جداً بالنسبة غلى أهل الخسر فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر مخلدة إلى البطالة واللهو ، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح ) إلا الذين آمنوا ) أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات ، والبشارة لمن فعل بشرطه بالنجاة من الخسر .
ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً ، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية قال تعالى : ( وعملوا ) أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان ) الصالحات ) أي هذا الجنس ، وهو اتبع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين فاشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ، ففازوا بالحياة الأبجية والسعادة السرمدية فلم يلقهم شيء من الخسر .
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر - إلا بتكميل غيره ، وحينئذ يكون وارثاً لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل ، وكان الدين لا يقوم ، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشئ عن نور القلب ، ولا يتأتى ذلك إلا بالجتماع ، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه : ( وتواصوا ) أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال : ( بالحق ) أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك ، فكانوا محسنين ، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور .
ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان ، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من(8/523)
صفحة رقم 524
أهل العدوان ، وهم الأغلب في كل زمان ، قال تعالى : ( وتواصوا ( لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ ) بالصبر ) أي الناشئ عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام ، فكانوا مكملين للقوة العملية حافظين لما قبلها من العلمية ، وذلك هو حكمة العبادات فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه ، وهي هنا أمران : خارج عن العامل وهو الجنة ، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى ، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعمال اللين بغاية الجهد ، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته ، الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه وقسرها على أفعال الطاعة وقهرها على لزوم السنة والجماعة حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة ، فقد عانق آخرها أولها ، وواصل مفصلها موصلها ، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في اسنة الرابعة عشر من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق وهي سنة الهجرة التي تم فيه بدره ، وعم نوره وقدره ، وجم عزهونصره ، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة ، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب ، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ممن وافقه نم الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب ، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد ) وأنزل الله فيها
77 ( ) الذي قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا ( ) 7
[ آل عمران : 173 ] الآيات ، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذهابهم : ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ) فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع ، وقد كانت فيها غزوة تبوك وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها من إقبال الوفود ، بفخامة العز والجدود وتواتر السعود ، بلطف الرحيم الودود ، وبذلك كان نور الوجود ، وتواتر الفضل والجود ، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود .
. .(8/524)
صفحة رقم 525
سورة الهمزة
مقصودها بيان الحزب الأكبر الخاسر الذي أهاه التكاثر ، فبانت خسارته يوم القارعة الخافضة الرافعة ، واسمها الهمزة ظاهر الدلالة على ذلك ) بسم الله ( الذي له تمام العز وهو الحكم العدل ) الرحمن ( الذي عم ظاهر نعمته أهل البخل وأولي البذل ) الرحيم ( الذي أتم نعمته على من شاء من عباده فخصهم بالفضل .
الهمزة : ( 1 - 9 ) ويل لكل همزة. .. . .
) وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ( ( )
لما بين الناجين من قسمي الإنسان في العصر ، وختم بالصبر ، حصل تمام التشوف إلى أوصاف الهالكين ، فقال مبيناً لأضلهم وأشقاهم الذي الصبر على أذاه في غاية الشدة ليكون ما أعد له من العذاب مسلاة للصابر : ( ويل ) أي هلاك عظيم جداً ) لكل همزة ) أي الذي صار له الهمز عادة لأنه خلق ثابت في جبلته وكذا ) لمزة ( والهمز الكسر كالهزم ، واللمز الطعن - هذا أصلهما ، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم ، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة : الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ، ويكسر عينيه عليه ويهمز به ، واللمزة الذي يعيب الناس سراً - انتهى .
وقال البغوي : وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف ، والذي دل على الاعتياد صيغة فعل بضم وفتح كما يقال ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به ، والفعلة بالسكون للمفعول وهو الذي يهمزه الناس ويلمزونه ، وقرئ بها وكأنه إشارة إلى من يتعمد أن يأتي بما يهمز به ويلمز به فيصير مسخرة يضحك منه - والله أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال سبحانه وتعالى رإن الإنسان لفي خسر ( أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره ، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره ،(8/525)
صفحة رقم 526
واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه ، وهذا كله هو عين النقص ، الذي هو شأن الإنسان ، وهو المذكور في السورة قبل ، فقال تعالى ) ويل لكل همزة لمزة ( فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده ، والهمزة العياب الطعان واللمزة مثله ، ثم ذكر تعالى ماله ومستقرة بقوله : ( لينبذن في الحطمة ) أي ليطرحن في النار جزاء له على غتراره وطعنه - انتهى .
ولما كان الذي يفعل النقيصة من غير حاجة تحوجه إليها أقبح حالاً وكان المتمول عندهم هو الرابح ، وهم يتفاخرون بالربح ويعدون الفائز به من ذوي المعالي ، قال مقيداً ل ( كل ) بالوصف مبيناً لاخاسر كل الخسارة : ( الذي جمع ( ولما كان مطلق الجمع يدل على الكثرة جاء التشديد في فعله لأبي جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي ، وخلت تصريحاً بما علم تلويحاً ودلالة على أن المقصود به من جعل الدنيا أكبر همه ، والتخفيف لمن عداهم اكتفاء بأصل مدلوله بخلاف عدد ، فإن مجرده يكون لما قل ، ولهذا أجمعوا على التضعيف فيه : ( مالاً ) أي عظيماً ، وأكد مراد الكثرة بقوله : ( وعدده ) أي جعله بحيث إذا أريد عدده طال الزمان فيه وكثر التعداد ، أو ادخره وأمسكه إعداداً لما ينوبه في هذه الدنيا المنقضية ، وزاده قيداً آخر في بيان حاله فقال : ( يحسب ( لقلة عقله ) أن ماله ) أي ذلك الذي عدده ) أخلده ) أي أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا ، فأحب ذلك المال كما يحب الخلود ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنه عمل - بانهماكه في المعاصي والإعراض عن الله عز وجل والإقبال على التوسع في الشهوات والأعراض الزائلات - عمل من يظن أنه لا يموت ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، وفيه تعريض بأنه لا يفيد الخلد إلا الأعمال الصالحة المسعدة في الدار الآخرة .
ولما كان هذا الحسبان لشدة وهيه وبيان ضعفه لا يحتاج إلى إقامة دليل على فساده ، اكتفى فيه بأداة الردع الجامعة لكل زجر فقال : ( كلا ) أي لا يكون ما حسبه لأنه لا يكون له ما لا يكون لغيره من أمثاله بل يموت كما مات كل حي مخلوق .
ولما كان كأنه قيل : فما الذي يفعل به بعد الموت ؟ قال مقسماً دالاًّ باللام الداخلة على الفعل على القسم : ( لينبذن ) أي ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هين جداً على كل طارح كما دل عليه التعبير بالنبذ وبالبناء للمفعول ) في الحطمة ) أي الطبقة من النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر وتشهم بشدة وعنف كل ما طرح فيها فيكون أخسر الخاسرين ، وعبر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق ، قال الأستاد أبو الحسن الحرالي : فلمعنى ما يختص بالحكم يسمى تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم فيما يكون مواجهة ومن نحو الحطمة فيما يكون جزاء لقوة قهر(8/526)
صفحة رقم 527
واستعداد بعدد ، ونحو ذلك في سائر أسمائها ، وعظم شأنها سبحانه وتعالى بقوله : ( وما أدراك ) أي وأيّ شيء أعلمك ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الخلق ) ما الحطمة ) أي ما الدركة النارية التي سميت هذا الاسم لهذه الخاصية فإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها ، ثم فسرها بقوله : ( نار الله ) أي الملك الأعظم الذي عدل المشركون عنه إلى شركائهم ، فعظمة هذه النار من عظمته ، وانتقامه من نقمته ) الموقدة ) أي التي وجد وتحتم إيقادها بإيقاده ، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقده ؟ فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً .
ولما وصف الهامز الهازم ، وصف الحاطم فقال تعالى : ( التي ( ولما كان لا يطلع على أحوال الشيء إلا من قبله علماً قال : ( تطلع ( اطلاعاً شديداً ) على الأفئدة ( جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه ، فكان ينبغي ان يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص ، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بالغاً ، بأدنى شيء من الأذى ، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ومعدن حب المال الذي هو منشأ الفساد والضلال ، وعنه تصدر الأفعال القبيحة .
ولما كان الاطلاع على الفؤاد مظنة الموت ، وفي الموت راحة من العذاب ، أشار إلى خلودهم فيها وأنهم لا يموتون ولا ينقطع عنهم العذاب ، فقال مؤكداً لأنهم يكذبون بها : ( إنها ( وأشار إلى قهرهم وغلبتهم فقال : ( عليهم ( وآذن بسهولة التصرف في تذيبهم وانقطاع الرجاء من خلاصهم بقوله معبراً باسم المفعول : ( مؤصدة ) أي مطبقة بغاية الضيق ، من أوصدت الباب - إذا أطبقته .
ولما كانت عادتهم في المنع من التصرف أن يضعوا خشبة عظيمة تسمى المقطرة فيها حلق توثق فيها الرجل ، فلا يقدر صاحبها بعد ذلك على حراك ، قال مصوراً لعذابهم بحال من ضمير ( عليهم ) : ( في ) أي حال كونهم موثقين في ) عمد ( بفتحتين وبضمتين جمع عمود ) ممددة ) أي معترضة كأناه موضوعه على الأرض ، فهي في غاية المكنة فلا يستطيع الموثق بها على نوع حيلة في أمرها فهو تأكيد ليأسهم من الخروج بالإيثاق بعد الإيصاد ، وهذا أعظم الويل وأشد النكال ، فقد رجع آخرها إلى أولها ، وكان لمفصلها أشد التحام بموصلها - والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .
.. .(8/527)
صفحة رقم 528
سورة الفيل
مقصودها الدلالة على آخر الهمزة من إهلاك المكاثرين في دار التعاضد والتناصر بالأسباب ، فعند انقطاعها أولى لأختصاصه سبحانه وتعالى بتمام القدرة دون التمكن بالمال والرجال ، واسمها الفيل ظاهر الدلالة على ذلك بتأمل سورته ، وما حصل في سيرة جيشه وصورته ) بسم الله ( الذي له الإحاطة فقدرته في كل شيء عاملة ) الرحمن ( الذي له النعمة الشاملة ) الرحيم ( الذي يختص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة .
الفيل : ( 1 - 5 ) ألم تر كيف. .. . .
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( ( )
لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال ، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى ، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة ، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى ، ومع كونه شهودياً فللعرب ولا سيما قريش به الخبرة التامة ، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك : ( ألم تر ) أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه ( صلى الله عليه وسلم ) إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو ( صلى الله عليه وسلم ) ومن وفقه الله الحسن اتباعه ، لما للإنسان مع علائق النقصان ، وعلائق الحظوظ والنسيان ، وقرئ ( تر ) باسكان الراء ، قالوا جداً في إظهار أثر الجازم ، وكان السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر ، ومن لم يعتن به ويسارع إلى تعمد لا يدركه حق إدراكه .(8/528)
صفحة رقم 529
ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال : ( كيف ( دون أن يقول : ما ) فعل ) أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن ( كيف ) لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ، بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق ) ربك ) أي المحسن إليك ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما - هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام ) بأصحاب الفيل ) أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعلاى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط ، وأراد أن يصرف إليها - فأغضب ذلك الأشرم فسأل فقيل له : نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة - فحلف : فيهدمنَّ الكعبة ، ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم ، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه ، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها ، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منه فيل عظيم اسمه محمود ، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم ، فملا دوّخهم دانوا له ، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه بعد المطلب جد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، وقيل : بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير ، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفي عزكم ؟ فقال : أنت وذاك ، فرد عليه إبله فساقها ومضى ، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة(8/529)
صفحة رقم 530
يا رب لا أرجو لهم سواكا فامنعهم أن يقربوا قراكا
- وقال :
لا هم إن المرء يم نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك جروا جميع تلادهم في الفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم جهلاً وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وكع بيتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك الحلقة وتوجه في بعد تلك الوجوه فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك فعالجوه فلم تفد فيه حيلة ، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول فوجهوه إلى الحرم فبرك ، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، كل طائر منها في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فرمتهم بها ، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً ، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال - ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن ذلك كان عام مولده ، وقال حمزة الكراماني : وفي رواية : يوم مولده ، وكأنه كان سبباً لضعهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم - كما هو مشهور في السير ، ومأثور في في الخبر ، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم ، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي ، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان ، وأن يثرب مهاجره ، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها - ويظهر نبوته .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك ، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم ، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم ، فتعجلوا النقمة ، وجعل ا لله كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، أي جماعات متفرقة ، ترميهم بحجارة من سيجل حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم فجعلهم كعصف مأكول ، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم - انتهى .
ولما قرره بالكيفيفة تنبيهاً على ما فيها من وجوه الدلالة على مقدمات الرسالة ، أشار إلى تلك الوجوه مقدماً عليها تقريراً آخر جامعاً لقصتهم ومعلماً بغصتهم فقال :(8/530)
صفحة رقم 531
) ألم يجعل ) أي بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش ) كيدهم ) أي في تعطيل الكعبة بتخريبها وبصرف الحج إلى كنيستهم على زعمهم وقد كان كيدهم عظيماً غلبوا به من ناوأهم من العرب ) في تضليل ) أي مظروفاً لتضييع قصدوا له من نسخ الحج إلى الكعبة أولاً ومن هدمها ثانياً وإبطال وبعد عن السداد وإهمال بحيث صار بكونه مظروفاً لذلك معموراً به لا مخلص له منه ، وهذا مشير إلى أن كل من تعرض لشيء من حرمات الله كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير وقع في مكره ، وعاد عليه وبال شره ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) وإلى أن من جاهر بالمعصية أسرع إليه الهلاك بخلاف من تستر ، وإلى أن الله تعالى يأتي من يريد عذابه من حيث لا يحتسب ليدوم الحذر منه ولا يؤمن مكره ولو كان الخصم أقل عباده ، لم يخطر للحبشة ما وقع لهم أصلاً ولا خطر لأأحد سواهم أن طيوراً تقتل جيشاً دوّخ الأبطال ودانت له غلب الرجال ، يقوده ملك جبار كتيبته في السهل تمشي ورجله على القاذفات في رؤوس المناقب .
ولما كان التقدير : فمنعهم من الدخول إلى حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الوصول غلى بلده الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، عطف عليه أو على ( يجعل ) معبراً بالماضي لأنه بمعناه وهو أصرح والعبير به أقعد قوله ؛ ) وأرسل ( وبين أنه إرسال إلى تحقيرهم وتخسيسهم عن أن يعذبهم بشيء عظيم لكونهم عظموا أنفسهم وتجبروا على خالقهم بالقصد القبيح لبيته فقال تعالى معلماً بأنه سلط عليهم ما لا يقتل مثله في العادة : ( طيراً ( وهو اسم جمع يذكر على اللفظ ، ويؤنث على المعنى ، وقد يقع على الواحد ، ولذلك قال مبيناً الكثرة ) أبابيل ) أي جماعات كثيرة جداً متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة ، أمام كل فرقة منها طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، قال أبو عبيدة : يقال : جاءت الخيل أبابيل من هاهنا و هاهنا ، وهو جمع إبالة بالكسر والتشديد وهي الحزمة الكبيرة - شبهت بها الجماعة من الطير في تضامّها ، وفي أمثالها : ضغث على إبالة ، أي بلية على أخرى .
ولما تشوف السامع إلى فعل الطير بهم ، قال مستأنفاً : ( ترميهم ) أي الطير ) بحجارة ) أي عظيمة في الكثرة والفعل ، صغيرة في المقدار والحجم ، كان كل واحد - منها في نحو مقدار العدسة ، في منقار كل طائر منها واحد وفي كل رجل واحد .(8/531)
صفحة رقم 532
ولما كان الشيء إذا كان مصنوعاً للعذاب كان أشد فعلاً فيه قال : ( من سجيل ) أي طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو كما بين في سورة هود عليه الصلاة والسلام ، قال حمزة الكرماني : قال أبو صالح : رأيت تلك الحجارة مخططة بالحمرة .
ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم ، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد لأنه الذي خلق الأثر قطعاً لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك ، قال : ( فجعل ) أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى قومك لأجلك بذلك ) كعصف مأكول ) أي ورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود ويجوفه لأن الحجر كان يأتي في الرأس فيخرق بما له من الحرارة وشدة الوقع كل ما مر به حتى يخرج من الدبر ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية ، أو أكل حبة فبقي صفراً منه أو كتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن كقوله تعالى :
77 ( ) كانا يأكلان الطعام ( ) 7
[ المائدة : 75 ] وهذا الإهلاك في إعجابه هو من معاني الاستفهام التقريري في أولها ، فقد تعانق طرفاها ، والتف أخراها بأولاها - والله أعلم بمراده .
.. .(8/532)
صفحة رقم 533
سورة قريش
مقصودها الدلالة على ضد ما دلت عليه الفيل بأن إهلاك الجاحدين المعاندين لإصلاح المقربين العابدين ، وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين ، واسمها قريش ظاهر الدلالة على ذلك ، والتعبير بقريش دون قومك أو الحمس مثلا ونحوه دال على أنهم يغلبون الناس أجمع بقوة كما يدل عليه الاسم ، وبغير قوة كما دل عليه ما فعل لأجلهم من قصة الفيل : ( بسم الله ( ذي السبحات والحمد فله جميع الكمال ) الرحمن ( ذي النعم العامة بالإيجاد والبيان فهو ذو الأفضال ) الرحيم ( ذي الانتقام بالإبعاد والاختصاص بمن يشاء بالإسعاد بالتقريب والإجلال .
قريش : ( 1 - 4 ) لإيلاف قريش
) لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ( ( )
لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ومحل عظمته الباهرة وعزته والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهره عاجلة حماية لهم عن أن تستباح ديارهم وتسبى ذراريهم لكونهم أولاد خليله وخدام بيته وقطان حرمه ومتعززين به ومنقطعين إليه ، وعن أن يخرب موطن عزهم ومحل أمنهم وعيشهم وحرزقهم ، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة ، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه ، ومن ذلك له وخدمه أكرمه وعظمه : ( لإيلاف قريش ) أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك وهو إيقاعهم الإيلاف وهو ألفهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمه بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم أي جعلوه يألف ما ألفوه(8/533)
صفحة رقم 534
إياه أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة ) فليعبدوا ) أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً يسر سبببه لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه والانقطاع لعبادته والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر ابن كنانة واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وقال البغوي : وقال أبو ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما : لم سموا بهذا ؟ فقال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه ، يقال لها القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى ، قال : وهي تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، وأنشد للجمحي :
وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجة البحر على سائر الجيوش جيوشا
وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاف إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم - انتهى .
وقيل : مسوا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم ، فإن القرش - كما تقدم - الجمع ، وكان المجمع لهم قصياً ، والقرش أيضاً الشديد ، وقيل : هو من تقرش الرجل - إذا تنزه عن مدانيس الأمور ، ومن تقارشت الرماح في الحرب - إذا دخل بعضها في بعض .
والمادة كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم .
وكما أجرى سبحانه وتعلى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الأئمة من قريش ) قال العلماء : وذلك ان طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب ، (8/534)
صفحة رقم 535
وصفاء القلب عون على إدراك العلوم ، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع ، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً ، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن ، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه الفيل أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل ، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى بالتين والزيتون ، وفي الثانية ألم تر كيف ولئيلاف قريش .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لاخفاء في اتصالهما أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش ، وهم سكان الحرم وقطان بيت الله الحرام ، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم - انتهى .
ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً ، تقول : آلفت المكان أولفه إيلافاً فأنا مؤلف وآلفت فلاناً هذا شيئاً أي جعلته آلفاً له ، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره ، أبدل منه قوله : ( إلافهم ) أي إيلافنا إياهم ) رحلة الشتاء ( التي يرحلونها إلى الشام في زمنه لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله والناس يتخطفون من حولهم ، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم ، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل ، وقرئ بالضم وهي الجهة التي يرحل إليها ، وكانوا معذورين لذلك لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع ، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا : نحن سكان حرم الله وولاة بيته ، فلا يعرض أحد بسوء ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :
قل للذي طلب السماحة والندى هلا مررت بآل عبد مناف الرائشين وليس يوجد رائش والقائلين هلم للإضياف والخالطين فقيرهم بغنيهم حتى يكون فقيرهم كالكاف(8/535)
صفحة رقم 536
القائلين بكل وعد صادق والراحلين برحلة الإيلاف عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف سفرين سنّهما له ولقومه سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وتبع هاشماً على ذلك إخوته ، فكان هاشم يؤلف إلى الشام وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة - أي عهودهم - التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي ، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة - كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون من قريب من الرحلة إلأى أي بلد أرادوا لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم .
ولما كان هذا التدبير لهم من الله كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن ، وكان شكر المنعم واجباً ، فإذا أنعم بما يفرغ المنعم عليه للشكر كان وجوبه عليه أعظم ، سبب عن الإنعام عليهم بذلك قوله : ( فليعبدوا ) أي قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكرون على جميع نعمه التي لا تحصى لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران ) رب هذا البيت ) أي الموجد شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى لأنهم يدعون والمحسن إلى أهله بتربيتهم به وبحفظه من كل طاغ ، وتأثيره لأجل حرمته في كل باغ ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة وجعل ما داموا عابدين له موصلاً بعز الآخرة ، فتتم النعمة وتكمل الرحمة ، والمراد به الكعبة ، عبر عنها بالإشارة تعظيماً إشارة إلى أن ما تقدم في السورة الماضية من المدافعة عنهم معروف أنه بسببه لا يحتاج إلى تصريح ، وأن ذلك جعله متصوراً في كل ذهن حاضراً مشاهداً لكل مخاطب ، وفي هذا التلويح من التعظيم ما ليس للصريح ، ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت فقال تعالى : ( الذي أطعمهم ) أي قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين آمنين من أن يهاجوا ، وبإهلاك الذين أرادوا إخراب البيت الذي به نظامهم ، إطعاماً مبتدئاً ) من جوع ) أي عظيم فيه غيرهم من العرب ، أو كانوا هم فيه قبل ذلك لأن بلدهم مهيأ لذلك لأنه ليس بذي زرع ، فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع ، فكفاهم ذلك وحده ولم يشركه أحد في كفايتهم ، فليس من الشكر إشراكهم في عبادته ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي دعا لهم بالرزق ونهى أشد النهي عن عبادة الأصنام ، ولم يقل : أشبعهم(8/536)
صفحة رقم 537
لأنه ليس كلهم كان يشبع ، ولأن من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده ( لا يملأ جوف ابن آدم إلى التراب ) .
ولما ذكر السبب في إقامة الظاهر ، ذكر السبب في إقامة العيش بنعمة الباطن فقال : ( وآمنهم ) أي تخصصاً لهم ) من خوف ) أي شديد جداً من أصحاب الفيل ومما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات وبالأمن من الجذام بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن الطاعون والدجال بتأمين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعن ذلك تسبب الاتحاف بما خصهم به من الإيلاف ، فعلم أن آخرها علة لأولها ، ويجوز أن يكون إلفهم للبلد وقع أولاً فحماه الله لهم مما ذكر ، فيكون ذلك مسبباً عن الإلف فيكون أولها علة لآخرها ، فقد التقى الطرفان ، والتأم البحران المغترفان ، وكما التقى آخر كل سورة مع أولها فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها ، فإن حاصلها المن على قريش بالإعانة على المتجر إيلافاً لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصهم بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان ، ومن أعظم مقاصد التوبة - المناظرة لهذه بكونها التاسعة من الأول - البراءة من كل مارق ، وأن فعل ذلك يكون سبباً للألفة بعد ما ظن أنه سبب الفرقة ، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته ، والفوز بأمانه ونعمته ، والبشارة بالغنى على وجه أعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر ، وأوفى وأوفر ، وأزهى وأزهر ، وأجل وأفخر ، بقوله تعالى :
77 ( ) ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم ( ) 7
الآيات ، [ التوبة : 17 ] وقوله تعالى :
77 ( ) وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ( ) 7
[ التوبة : 28 ] فعلم بهذا علماً جلياً أنه شرع سبحانه في رد المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلسانهم وأرسل به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم ، وتعظيمه لغناهم وأمانهم ، ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في رد المقطع على الواحدة فإن براءة مع الأنفال كذلك حتى قال عثمان رضي الله عنه إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توفي ولم يبين أمرها ، فلم يتحرر له أنها مستقلة عنها ، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، وكانت هذه التي من الآخر مقطوعاً بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه ، وقراءة عمر(8/537)
صفحة رقم 538
رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك كما مضى إشارة إلى أن الآخر يكون أوضح من الأول ، ومن غرب ذلك أن السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق ، فالأولى في الآخرة وهي الفيل أكرم الله فيها قريشاً بإهلاك أهل الإنجيل ، والأولى في الأول وهي الأنفال أكرمهم الله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم ، فكان ذلك سبباً لكسر شوكتهم وسقوط نختهم المفضي إلى سعادتهم ، وعلم أن البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأول بالإرسال والناس لهم تبع كما أن جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم الذي شرفوا بإرساله إليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان عدد التسع مشيراً إلى أن قريشاً أهل لأن يتصلوا بعروج الأسرار في الملوكت إلى الفلك التاسع ، وهو العرش الذي هو مقلوب الشرع ، فهم يصعدون بأسرار الشرع - التي من أعظمها الصلاة - من الأسفل إلى الأعلى من الطرفين معاً كما أنه يتنزل عليهم بالبركات من الجانبين ، وإذا ضممت التسع الأولى إلى الأخرى كانت ثمان عشرة ، فكانت مشيرة إلى ركعات الصلوات مضموماً إليها الوتر ، وإلى ظهور الدين ظهوراً كاملاً على غالب أقطار الأرض كما كان في سنة ثمان وعشرين ، وهي الثامنة عشر من موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه فإنه كان فيها قد تمزق ملك كسرى وضعف جداً ، وكذا ملك الروم مع ما كان من زوال أمر القبط بالكلية ، ومن بديع الإشارات أيضاً أنك إذا نظرت إلى نزول براءة وجدته سنة تسع من الهجرة في غزوة تبوك وعقب الرجوع منها ، فكان كونها تاسعة ونزولها في السنة التاسعة مشيراً إلى كون الدين يظهر على كل مخالف بعد تسع سنين ، وهي السنة الثامنة من موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في وسط خلافة الفاروق حين ظهر المسلمون على الفرس والروم ، فقتلوا رجالهم ، وانتثلوا أموالهم ، كما كان قد ظهر عند نزولها على عباد الأوثان من العرب ، ومن الغريب أن قصة الفيل كانت سنة مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهي قبل النبة بأربعين سنة بعدد كلمات السورتين : الفيل وقريش ، فإن الفيل ثلاث وعشرون وقريش سبع عشرة ، وذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن ابتداء الأمن - بإهلاكهم والإشباع بنهب ما كان معهم من أموالهم ومتاعهم - كان لمولده ( صلى الله عليه وسلم ) وتشريف الوجود بوجوده ، ويكون ذلك ظاهراً كما كان السبب - الذي هو وجوده ( صلى الله عليه وسلم ) - ظاهراً ، وإلى أن وسطه يكون بنبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويكون ذلك باطاناً كما أن السبب - وهو الوحي باطن ، ثم كان أمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السنة الثامنة الموازية لعدد كلمات البسملتين على يد النجاشي ملك الحبشة الذي كان الأمن أولاً بإهلاكهم ، وإذا ضممت إليها أحد عشر ضميراً - سبعة في الفيل وأربعة في قريش - كانت تسعاً وخمسين توازيها إذا حسبت من المولد سنة ست من(8/538)
صفحة رقم 539
الهجرة ، وفيها كانت عمرة الحديبية وهي الفتح السببي الخفي ، وإلى ذلك أشار ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله في بروك ناقته الشريفة حين بركت فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : خلأت القصوى - أي حرنت : ( ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل ) وفيها نزلت سورة الفتح ، فكان سبب الأمن العظيم والغنى ، وعقبها في سنتها كان البعث إلى ملوك الأمصار ، وفتح خيبر وانبساط ذكر الإسلام في جميع الأقطار ، وكذا كان عقبها قبل عمرة القشية إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي لما سأله أن يعطيه عمرو بن أميه الضمري رضي الله عنه ليقتله ، وذلك حين أرسله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام فأنكر النجاشي ذلك على ابن العاص وشهد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالرسالة وأمره بأن يؤمن به ، ففعل فكان ملك الحبشة بدعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ناجياً هادياً ، وإلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) داعياً ، عكس ما كان لملك الحبشة بمولده ( صلى الله عليه وسلم ) من أنه كان هالكاً ، وإلى الجحيم هاوياً ، وإن حسبت من سنة بنيان الكعبة في الخامسة والعشرين من مولده ( صلى الله عليه وسلم ) كانت السنة التاسعة والخمسون هي الحادية والثلاثون بعد الهجرة ، وهي سنة استئصال ملك الفرس بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، والفرس هم الذين أزالوا الحبشة عن بلاد اليمن وطهورا هذا المولد الشريف الذي حرست الكعبة بمولده ( صلى الله عليه وسلم ) وحصل الأمن والعز ببركته تبنى الكعبة وتجدد بعد بضع وعشرين سنة من مولده ، قالوا : كان بنيانها ونسه خمس سنة من حين الولادة ، وبه حين البنيان ألف الله بين قريش بعد أن كانوا تنافروا أشد المنافرة وتعاقدوا على الحرب في أمر الحجر الأسود من يضعه في موضعه الله بينهم به ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه بيده الشريفة في ثوب ، وأمرهم فأمسكت جميع القبائل بأطرافه ، ثم رفعوه حتى وازوا به موضعه فأخذه هو ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه في مكانه ، فكان الشرف له خاصة في الإصلاح والبنيان ، وتشير مع ذلك إلى أنه يبقى في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة ، ثم يتوفاه الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل الله كيد جميع الكفرة في تضليل من عباد الأوثان والفرس والروم وغيرهم بما فتح الله عليه من جزيرة العرب التي ألف الله بها من كلمتهم حتى انسابوا على غيرهم فما وافقهم أحد ناوشه القتال وساوموه النضال والنزال ، ولعل الإشارة بكون قريش سبع عشرة كلمة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد سبع عشرة سنة من بنيان البيت يبعه الله سبحانه وتعالى لأمر قريش بالعبادة التي أجلّها الصلاة التي أعظمها الفرائض(8/539)
صفحة رقم 540
التي هي سبع عشرة ركعة شكراً لنعمة من آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع بأعظم العبادة ، وإلى أن ابتداء ألفة قريش بالقوة القريبة من الفعل بعد الشتات العظيم الظاهر وجعل كيد الكفار في تضليل يكون في السنة السابعة عشرة من النبوة ، وذلك سنة أربع من الهجرة فإن فيها كان إجلاء بني النضير من اليهود من المدينة الشريفة وإخلاف قريش الموعد في بدل الموعد وهناً منهم عن لقاء جيش النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت بعد بيسير غزوة الأحزاب ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد انصرافهم : ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ) يعني أن نخوة الشيطان منهم وحمية الجاهلية أخذت في الاضمحلال لانتهاء قوتهم في الباطل الذي كان سبب عزهم الظاهري الذي هو الذل في الباطن ، وكان ذلك ابتداء عزهم في الباطن الذي هو ذلهم لأهل الإسلام في الظاهر ، وفي أثر الأحزاب كانت غزوة بني قريظة ، فإذا ضممت إلى الكلمات الضمائر الأربعة كانت إحدى وعشرين توازيها سنة ثمان من الهجرة وهي سنة الفتح الأعظم الذي وقعت به الألفة العظمة بين قريش وأمنهم وغناهم الذي وعدهم الله به في السورة المناظرة لها - وهي براءة - باتئلاف جميع العرب وانبعاثهم لاجتماع كلمتهم إلى جهاد الفرس والروح والقبط وأخذهم لبلادهم ، وانتثالهم لكنوزهم وتحكمهم في نسائهم وأولادهم ، فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى شأنه وعز مرامه .
.. .(8/540)
صفحة رقم 541
سورة الماعون
وتسمى الدين وتسمى أرأيت والتكذيب .
مقصودها التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء أبو الخبائث ، فإنه يجزئ المكذب على مساوئ الأخلاق ومنكرات الأ " مال حتى تكون الاستهانة بالعظام خلقا له فيصير ممن ليس له خلاق ، وكل من اسمائها الأربعة في غاية الظهور في الدلالة على ذلك بتأمل السورة لتعرف هذه الأشياء المذكورة ، فهي ناهية عن المنكرات بتصريحها ، داعية إلى المعالي بإفهامها وتلويحها ) بسم الله ( الذي تعالت عظمته عن كل شائبة نقص فكان له كل كمال ) الرحمن ( الذي عمت نعمته المحسن والمسئ فغمر الكل بالنوال ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بإتمام النعمة فحباهم بنعيم الاتصال .
الماعون : ( 1 - 7 ) أرأيت الذي يكذب. .. . .
) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( ( )
لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم ، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة ، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء ، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته فإفرلاده بالعبادة ، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق الناهي عن مساوئها ، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحمة الحكيم ، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة ، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق وزجراً عن التكذيب ، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره : ( أرأيت ) أي أخبرني يا أكمل الخلق ) الذي يكذب ) أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان ) بالدين ) أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق الناهي عن سيئها ، ومن كذب(8/541)
صفحة رقم 542
بأحدهما كذب بالآخر : ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله : ( إن الإنسان لربه لكنود ( ) إن الإنسان لفي خسر ( ) يحسب أن ماله أخلده ( وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر ، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها أو أعمال منيتصف بها وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم ، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به ، وعدم الحض على طعام المسكين ، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها ، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض ، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله ، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب ، أي إن هؤلاء هم أهلها ، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلم ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة ، وقد بسطته في كتاب ( إيضاح السبيل من حديث سؤال جبيريل ) فمن هذا القبيل عندي - والله أعلم - قوله تعالى : ( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ) أي أن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة لعيه ، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال ومنع الحاجات إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي سحب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرسائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور - انتهى .(8/542)
صفحة رقم 543
ولما كان المراد بهذا الجنس ، وكان من المكذبين من يخفي تكذيبه ، عرفهم بأمارات تنشأ من عمود الكفر الذي صدر به ويتفرع منه تفضحهم ، وتدل عليهم وإن اجتهدوا في الإخفاء وتوضحهم ، فقال مسبباً عن التكذيب ما هو دال عليه : ( فذلك ) أي البغيض البعيد من كل خير ) الذي يدع ) أي يدفع دفعاً عنيفاً بغاية القسوة ) اليتيم ( ويظلمه ولا يحث على إكرامه لأن الله تعالى نزع الرحمة من قلبه ، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف نم الله سبحانه وتعالى ، فكان التكذيب بجزائه سبباً للغلظة عليه .
ولما كانت رحمة الضعفاء علامة على الخير ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ) كانت القسوة عليهم علامة على الشر ، وكان من بخل باللين في قاله أشد بخلاً بالبذل من ماله ، قال معرفاً لأن المكذب ينزله تكذيبه إلى أسفل الدركات ، وأسوإ الصفات الحامل على شر الحركات : ( ولا يحض ) أي يحث نفسه وأهله ولا غيرهم حثاً عظيماً يحمى فيبعث على المراد ) على طعام المسكين ) أي بذله له وإطعامه إياه بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه ، وتعبيره عن الإطعام - الذي هو المقصود - بالطعام الذي هو الأصل وإضافته المسكين للدلالة على أنه يشارك الغني في ماله بقدر ما فرض الله من كفايته ، وقد تضمن هذا أن علامة التكذيب بالبعث - إيذاء الضعيف والتهاون بالمعروف ، والآية من الاحتباك : الدع في الأول يدل على المقت في الثاني : والحض في الثاني يدل على مثله في الأول .
ولما كان هذا حاله مع خلائق ، أتبعه حاله مع الخالق إعلاماً بأن كلاًّ منهما دالّ على خراب القلب وموجب لمقت الرب ، وأعظم الإهانة والكرب ، وأن المعاصي شؤم مهلك ، تنفيراً عنها وتحذيراً منها ، فسبب عنه قوله معبراً بأعظم ما يدل على الإهانة : ( فويل ( ولما كان الأصل : له - بالإضمار والإفراد ، وكان المراد ب ( الذي ) الجنس الصالح للواحد وما فوقه .
وكان من يستهين بالضعيف لضعفه يعرض عما لا يراه ولا يحسه لغيبته ، وكان من أضاع الصلاة كان لما سواها أضيع ، وكان من باشرها ربما ظن النجاة ولو كانت مباشرته لها على وجه الرياء أو غيره من الأمور المحيطة للعمل ، عبر بالوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وشقه من الصلاة تحذيراً من الغرور ، وإشارة إلى أن الذي أثمر له تلك الخساسة هو ما تقدم من الجري مع الطبع الرديء ، وأتى بصيغة الجميع تنبيهاً على أن الكثرة ليست لها عنده عزة لأن إهانة الجمع مستلزم لإهانة الأفراد(8/543)
صفحة رقم 544
من غير عكس فقال : ( للمصلين ( ولما كان الحكم إنما هو على ذات الموضع من غير اعتبار لوصفه بالفعل علم أن المقصود إنما هو من كان مكلفاً بالصلاة لأن من كان متلبساً بها مثل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) فلذلك وصفهم بقوله : ( الذين هم ) أي بضمائرهم وخالص سرائرهم .
ولما كان المراد تضييعهم قال : ( عن ( دون في ) صلاتهم ) أي هي جديره بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها ) ساهون ) أي عريقون في الغفلة عنها وتضييعها وعدم المبالاة بها وقلة الالتفات إليها ، ويوضح ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ ( لاهون ) وفائدة التعبير بالوصف الدلالة على ثبوته لهم ثبوتاً يوجب أن لا يذكروها من ذات أنفسهم أصلاً ، ولذلك كشفه بما بعده ، روى البغوي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن الآية فقال : ( هو إضاعة الوقت ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا ويصلونها إذا حضروا مع الناس .
ولما كان من كان بهذه الصفة لا نظر له لغير الحاضر كالبهائم ، قال دالاًّ على أن المراد بالسهو ههنا تضييعها عند الانفراد بالترك حساً ومعنى وعند الاجتماع بالإفساد في المعنى : ( الذين هم ) أي بجملة سرائرهم ) يرآؤن ) أي بصلاتهم وغيرها يرون الناس أنهم يفعلون الخير ليراهم الناس فيروهم الثناء عليهم والإحسان إليهم ولو بكف ما هم يستحقونه من السيف عنهم ، لا لرجاء الثواب ولا لمخوف العقاب من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس .
ولما كان من كان بهذه الصفة ربما فعل قليل الخير دون جليله رياء ، بين أنهم غلب عليهم الشح حتى أنهم مع كثرة الرياء منهم لم يقدروا على أن يراؤوا بهذا الشيء التافه ، فانسلخوا من جميع خلال المكارم ، فقال إبلاغاً في ذمهم إشعاراً بأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله : ( ويمنعون ) أي على تجدد الأوقات ، وحذف المفعول الأول تعمماً حتى يشمل كل أحد وإن جل وعظمت منزلته ولطف محله من قلوبهم(8/544)
صفحة رقم 545
تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع ) الماعون ) أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم ، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق ، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ليكون موجباً للويل ، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر رضي الله عنهما والحسن وقتادة ، قال العلماء : هو مأخوذ من المعن ، وهو في اللغة الشيء اليسير ، ولذلك فسره بعضهم بالماء وبعضهم بما يعار على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه ، وقيل : هو كل عطية أو منفعة ، وقال قطرب : هو فاعول من المعن ، والمعن : المعروف ، وقال أبو عبيدة : الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة وفي الإسلام الزكاة ، وقال الهروي : قال ابن عباس رضي الله عنما : هو العارية - ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي ، وقال ابن جرير : وأصل الماعون من كل شيء منفعته .
فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا ، وهذا الآخر كما ترى هو الأول لأن الذي جر إليه هو التكذيب ، ومن منع هذه الأشياء التافهه كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر ، وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن ، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق ، والانجذاب مع النقائص إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم ، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة ، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل ، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة وكلا الأمرين موجود في الأنفال المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه ، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها ، انظر إلى قوله تعالى :
77 ( ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ( ) 7
[ الأنفال : 4 ] الآية
77 ( ) وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( ) 7
[ الأنفال : 35 ]
77 ( ) والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( ) 7
[ الأنفال : 36 ] الآية
77 ( ) فإن الله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ( ) 7
[ الأنفال : 41 ] الآية ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل ، وأحاطت برؤوسهم(8/545)
صفحة رقم 546
بعد كلماتها مفردة قبل حروفها ، وأدارت عليهم كؤوس حتوفها من نوافذ الرماح بأيدي جنودها ومواضي سيوفها ، وذلك أن عدة كلماته خمس وعشرون كلمة فإذا اعتبرتها من أول سني النبوة وزات السنة الثانية عشرة من الهجرة ، وذلك أواخر خلافة الصديق رضي الله عنه ، وفيها لم يبق على يده أحد من المصلين الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو منعوا الزكاة ، فتبين أنهم ما كانوا يصلون في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) ويزكون إلا رياء الناس فعل الأدنياء الأنجاس حتى حل بهم الويل بأدي جنود الصديق الذين جاؤوهم بالرجل والخيل فمزقوهم عن آخرهم ، ولم تمض تلك السنة إلا وقد فرغ منهم بالفراغ من بني حنيفة باليمامة وأطراف بلاد اليمن من أهل النجير ببلاد كندة والأسود العنسي من صنعاء ، وما مضت سنة ست عشرة الموازية لعدد الكلمات بالبسملة - وذلك في أوائل خلافة الفاروق - حتى زالاو من جميع جزيرة العرب وهم مشركوا العرب ومتنصروهم ومتمجسوهم الذين كانوا بنواحي العراق والشام والبحرين فأسلم أكثرهم ، وذهب الباقون إلى بلاد الروم ، فحل الويل بالمرائين من أهل الصلاة فإنهم الذين أتى إليهم نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة فأعرضوا عنها والناس لهم تبع ، ولم يصح في هذه السورة اعتبار الضمائر لأن الدين في هذا الحد كان قد ظهر على كل ظاهر ، إلى حد لا إضمار فيه بوجه ولا عائق له ولا ساتر ، وكما أنه لا حاجة إلى الرمز بالضمائر ، لما دقت له في الخافقين من البشائر ، على رؤوس المنابر والمنائر ، فكذلك لم يناسب بعد الوصول إلى هذا الحال المكشوف ، للإيماء بالدلالة بإعداد الحروف - والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
.. .(8/546)
صفحة رقم 547
سورة الكوثر
وتسمى النحر .
مقصودها المنحة بكل خير يمكن أن يكون ، واسمها الكوثر واضح في ذلك وكذا النحر لأنه معروف في نحر الإبل ، وذلك غاية الكرم عند العرب ) بسم الله ( الملك الأعظم الجواد الأكرم الذي لا لفائض فضله ) الرحمن ( الذي شمل الخلائق بجوده وفاوت بينهم في صوب وبله ) الرحيم ( الذي خص حزبه بالاهتداء بهديه والاعتصام بحبله .
الكوثر : ( 1 - 3 ) إنا أعطيناك الكوثر
) إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ( ( )
لما كانت سورة الدين بإفضاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشمين ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود .
العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : ( إنا ( بما لنا من العظمة وأكد لأجل تكذيبهم : ( أعطيناك ) أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحاضر وإن اشتهر في معنى الإعطاء ) الكوثر ( الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .
ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ، فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة فكيف إذا كان في مظهر العظمه ، فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك بل أعظم ، كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني من العلم والعمل وغيرهما من معادن الدارين ومعاونهما الخير الذي لا غاية له ، فلا(8/547)
صفحة رقم 548
يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك أو توفر مالك بجلي نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته ( صلى الله عليه وسلم ) التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مام هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شراب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم والنصر بالرعب والخلق العظيم إلى ما لا يحصى من خير الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا
77 ( ) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ما يجمعون ( ) 7
[ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه
77 ( ) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا ( ) 7
[ الحجر : 88 ] إلى قوله ) ورزق ربك خير وأبقى ( فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلٌّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخثر هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .
ولما أعطاه ما فرغه به للعبادة وأكسبه غنى لا حاجة معه ، سبب عنه قوله آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر : ( فصل ) أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضر المراقبة شكراً لإحسان المنعم خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها .
ولما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من العلو ، وكان أمره ( صلى الله عليه وسلم ) تكويناً لا إباء معه ، وقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب والإقبال لما يفيد من التحبيب ، مع التصريح بالتوحيد ، وإفادة أن العبادة لا تقع إلا شكر فقال تعالى : ( لربك ) أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت فلا سبيل(8/548)
صفحة رقم 549
لأحد عليك ) وانحر ) أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون لأن النحر أفضل نفقات العرب لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين ، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلا الإبل ، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان ، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع ، وقد قابل في هذا أربعاً من سورة الدين بأربع ، وهي البخل بالإعطاء ، وإضاعة الصلاة بالأمر بها ، والرياء بالتخصيص بالرب ، ومنع الزكاة بالنحر .
ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق ، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال : ( إن شانئك ) أي مبغضك والمتبرئ منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال ، والخصال الفاضلة والكمال ) هو ) أي خاصة ) الأبتر ) أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدوم والمنقطع الخير والبركة والذكر ، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال ، وفرغ بدنه لكل جمال ، وأنت الموصول الأمر ، النابه الذكر ، المرفوع القدر ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه ، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة ، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة ، لك ما أنت عليه ، ولهم ما هم فيه ، فالآية الأخيرة النتيجة لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما ، فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها ، وعرف آخرها من أولها ، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها ، ومتصلة بالأخرى لأنها من غايات مضمارها ، وقد صدر الله ومن أصدق من الله قيلاً ، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع ، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع ، وأما هو ( صلى الله عليه وسلم ) فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض ، وهم الأشرف مع مبالغة الملوك في قتلهم ، وإخلاء الأرض من نسلهم ، خوفاً من شرفهم العالي عرى شرفهم ، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم ، وإذا راجعت آية
77 ( ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله ( ) 7
[ الأحزاب : 40 ] ومن الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره ، وأما اتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض وهم أولو الفرقان ، والعلم الباهر والعرفان ، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه وكفاه كل واحد منهم ، وقد علمأن حاصل هذه السورة المن عليه ( صلى الله عليه وسلم ) بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه ، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه ، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على(8/549)
صفحة رقم 550
المحاويج ، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه ، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله
77 ( ) وكم من قرية أهلكناها ( ) 7
[ الأعراف : 4 ] ، وتصير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأمر بالصلاة وستر العورة وما يقصد بالنحر بقوله :
77 ( ) خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ( ) 7
الآيات ) الأعراف : 31 ] ، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى :
77 ( ) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ( ) 7
الآيات ) الأعراف : 50 ] ، وقوله تعالى :
77 ( ) ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ( ) 7
[ الأعراف : 157 ] هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها ، وتأويل تفاصيلها ومجملها ، وكذا نظيرتها في مبادئ أمرها ومكملها ، ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شأنئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة ، وكذا كان ، لم تمض النسة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه ، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت أثنتنا عشرة ، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه ( صلى الله عليه وسلم ) الأنصار على منابذة الكفار ، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة ، فتكون إشارة إنه ( صلى الله عليه وسلم ) عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعه بدر الرفيعة القدر ، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة كانت سبع عشرة ، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد ، وفى فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال ، فآذنهم الله فلم يأتوا ، وإنما اعتبر أم بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات ، فلذلك أخذ تمام البتر لشانئ وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام ، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة - التي هي أقرب من المستترة - إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة ، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى ، وهي وإن كانت من العظم على مر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس ، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف ، ولكونها أول ما(8/550)
صفحة رقم 551
وقع فيها النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها ، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع ، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأسرت ، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في ) فصلَّ ( مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة ، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر ، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشئ عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر ، وإذا أضفنا إليها كلمات أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة ، وذلك عام الهجرة ، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة ، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح ، فإذا أضفنا غليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانئ هو الأبتر ، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً ، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة ، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه ، وكان مالكاً لبلاد اليمن ، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده ، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس ، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، كما أنك إذا اتعبر كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات الصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة ، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله ، وقد تجهزت إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه ، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم ، واستأسدت العرب عند ذلك ، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانئ من الفرس ، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانئ من الروم والرفس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم ، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم والكلمات أقرب إلى العلم ، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً ، فإذا(8/551)
صفحة رقم 552
جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة ، وفيها كانت غزوة الأحزاب ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد انصرافهم منها ( الآن نغزوهم ولا يغزنا ) فهو أول أخذ الشانئ في الانبتار ، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر آخرها سنة ست ، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنه أعظم الفتح ) فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح ، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن ، فكانوا يوم الفتح عشر آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة - والله الموفق ، هذا يسير من أسرار هذه السورة وقد علم منه من إعجازهم ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر ، لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر ، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب - عليه اللعنة والتباب ، وله سوء المنقلب والمآب ، حيث قال في معارضتها : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر ، لأنه كلام ، مع أنه قصير المدى ، ركيك اللحمة والسدى ، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا ، ليس فيه غنى ، بل كله نصب وعنا ، هلهل النسج رث القوى ، منفصم العرى ، مخلخل الأرجا ، فاسد المعنى والبنا ، سافل الألفاظ مر الجنى ، لأن العلل منافية للمعلولات ، والشوامل منافرة للمشمولات ، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال : العاهر وجاهر فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل ، وذلك لا يرضى به عاقل ، وإن كان طلب مع نقص الجود على كل تقدير ، الذي هو المقصود للغني والفقير ، والمأمور والأمير ، هذا مع الإغارة على الأسلوب والحذو على المعهود غير محاذ
77 ( ) في القصاص حياة ( ) 7
[ البقرة : 179 ] في إسقاط ( القتل أنفى للقتل ) بالرشاقة مع الوجازة ، والعذوبة مع البلاغة ، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس ، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر ، والأولى من سخيف عقل الخسيف ، وأكله ؟ إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخاسر وخصوص التبار إلى ماحوت من بيان الكذب البتار للأعمال المخرب للديار تصديقاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) البار بأيدي صحابته الأخيرا ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار - فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام والسلام والحمد لله على كل حال .
.. .(8/552)
صفحة رقم 553
سورة الكافرون
وتسمى الإخلاص والمقشقشة .
مقصودها إثبات مقصود الكوثر بالدليل الشهودي على منزلها كامل العلم شامل القدرة لأنه المنفرد بالوحدانية ، فلذلك لا يقاوي من كان معه ، ولذلك لما نزلت قرأها ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم في المسجد أجمع ما كانوا ، وهذا المراد بكل من أسمائها. أما الكافرون فمن وجهين ، ناظر إلى إثبات ، وناظر إلى نفي ، أما المثبت فمن حيث أنه إشارة إلى تأمل جميع السورة من إطلاق البعض على الكل ، وأما النافي فمن جهة أنهم إنما كفروا بإنكار ما هو مقصودها إما صريحا كالوحدانية وتمام القدرة ، وإما لزوما وهو العم فإنه يلزم من نقص القدرة نقصه ، وأما الإخلاص فلأن من اعتقد ذلك كان مؤمنا مخلصا برئيا من كل شرك وكل كفر ، وأما القشقشة فلأنها أبرأت من كل نفاق وكفر ، من قولهم : تقشقشت قروحه - إذا تقشرت للبرء ، وعندي أنه من الجمع أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا فإنها جمعت جميع أصول الدين ، فأثبتتهعا على أتم وجه ، فلزم من ذلك أنها جمعت جميع أنواع الكفر فحذفتها ونفتها ، وقد تقدم تمام توجيه ذلك في براءة فأمرهما دائر على الإخلاص ، ومن المعلوم أن من أخلص لله كان من أهل ولايته حقا ، فحق له ما يفعل الولي مع وليه ، ولذلك - والله أعلم - سنت قراءتها مع ) قل هو الله أحد ( في ركعتي الفجر ليجوز فاعل ذلك بالبراءة من الشرك والاتصاف بالتوحيد أول النهار ثمرة ما ورد أن من صلى الصبح كان في ذمة الله ، ومن كان كذلك كان جديرا بأن ينال ما أشارت إليه السورتان اللتان بين سورتي الإخلاص من الفتح له والنصر والخيبة لعدوه والخسر والحسرة : ( بسم الله ( المحيط علما وقدرة ، فهو الواحد الذي لا يستطيع أحد أن يقدر قدره ) الرحمن ( الذي عم برحمة البيان من أوجب عليهم شكره ) الرحيم ( الذي خص أهل وده فالتزموا نهيه وأمره .
الكافرون : ( 1 - 6 ) قل يا أيها. .. . .
) قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ(8/553)
صفحة رقم 554
أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) 73
( ) 71
لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم ، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك ، فقال معلماً له ما يقول ويفعل : ( قل ( ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير ، قال منادياً له بأداة البعد وإن كان حاضراً معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ : ( يا أيها الكافرون ) أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الإعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، وبما دل عليه التبعير بالوصف دون الفعل ، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً - كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كا سيأتي ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم ، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ( فهذا طريق أحد الفريقين ، وفي قوله : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك
77 ( ) فريق في الجنة وفريق في السعير ( ) 7
[ الشورى : 7 ]
77 ( ) فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( ) 7
[ التغابن : 2 ] والسالكون طريف السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم ، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله : ( فريق في الجنة ( وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضاً ، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرف فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما ، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت ، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق ، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به ، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن
77 ( ) هدى للمتقين ( ) 7
[ البقرة : 2 ] إلى قوله : ( إن شانئك هو الأبتر ( أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى : ( قل(8/554)
صفحة رقم 555
يا أيها الكافرون ( فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك ، ولا يقع منه الإيمان أبداً
77 ( ) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وشحرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ( ) 7
[ الأنعام : 11 ] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم :
77 ( ) ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ( ) 7
[ السجدة : 12 ] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول
77 ( ) ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ( ) 7
[ الأنعام : 128 ] تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره ) أفمن حق عليه كلمة عابدون ما أعبد ( إلى آخرها ، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال ، واستمر كل على طريقه
77 ( ) فلا تذهب نفسك عليم حسرات ( ) 7
[ فاطر : 8 ]
77 ( ) إن عليك إلا البلاغ ( ) 7
[ الشورى : 48 ] فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى .
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه ، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم ، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة ، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم : ( لا أعبد ) أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن ) لا ( للمستقبل و ) ما ( للحال ، كذا قالوا ، وظاهر عبارة سيبويه في قوله : ( لن ( نفي لقوه ) سيفعل ( ) ولا ( لقوله : ( يفعل ( ، ولم يقع : أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا ، كما نقلته عنه في أول البقرة عند
77 ( ) ولن تفعلوا ( ) 7
[ البقرة : 24 ] على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلاً ، فلذا عبر ب ( لا ) دون ( ما ) بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم ، ولا يظفرهم به - علماً من أعلام النبوة .
ولما كان في معبوداتهم ما لا يعقل ، وكان المقصود تحقير كل ما عبدوه سوى الله ، عبر ب ( ما ) فقال : ( ما تعبدون ) أي الآن وفي آتي الزمان من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادة في سر ولا علن لأنه لا يصلح للعبادة بوجه .
ولما بدأ بما هو الأحق بالبداءة وهو البراءة من الشرك ، والطهارة من وضر الإفك ، لأنه لمن درء المفاسد ، فأبلغ في ذلك بما هو الحقيق بحاله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانوا هم يعبدون الله تعالى على وجه الإشراك ، وكانت العبادة مع الشرك غير معتد بها بوجه ، نفى عبادتهم له في الجملة الاسمية الدالة على الثبات لا في الفعلية الدالة على نفي كل قليل(8/555)
صفحة رقم 556
وكثير من حيث إن الفعل نكرة في سياق النفي فقال : ( ولا أنتم عابدون ) أي عبادة معتداً بها بحيث يكون أهلاً لأن تكون وصفاً ثابتاً .
ولما كانوا لانوزاع لهم في أن معبوده عالم ، وكانت ( ما ) صالحة للإطلاق عليه سبحانه وتعالى ، عبر فيه أيضاً بها لأن ذلك - مع أنه لا ضرر فيه - أقرب إلى الإنصاف ، فهو أدعى إلى عدم المراء أو الخلاف - فقال : ( ما أعبد ) أي الآين وما بعده لأن معبودي - وله العلم التام والقدرة الشاملة - أبعدكم عنه فلا مطمع في الوفاق بيننا .
ولما كان ما نفى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدخل فيه الماضي ، وكان عدم المشاركة بوجه من الوجوه في زمن من الأزمان أدل على البراءة وأقعد في دوام الاستهانة ، وكانوا يعدون سكوته ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم فيما قبل النبوة عبادة ، وكانوا غير مقتصرين على عبادة أصنامهم التي اتخذوها ، بل إذا خرجوا من الحرم فنزلوا منزلاً نظروا لهم حجراً ليستحسنوه فيعبدونه ، فإن لم يروا حجراً جمعوا شيئاً من تراب وحلبوا عليه شيئاً من لبن وعبدوه ما داموا في ذلك المنزل ، وكان ذلك من أشد ما يعاب به من جهة عدم الشباب وأنه لا معبود لهم معين ، قال منبهاً على ذلك كله : ( ولا أنا عابد ) أي متصف بعبادة ) ما عبدتم ) أي فيما سلف ، لم يصح وصفي قط بعبادة ذلك من أول زمانكم إلى ساعاتنا هذه ، فكيف ترجون ذلك مني وأنا لم أفعله ولا قبل النبوة ولا كان من شأني قط .
ولما كان هو ( صلى الله عليه وسلم ) ثابتاً على إله واحد لم يعبد غيره ولم يلتفت يوماً لفت سواه ، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالاً أو مآلاً ، وأن يكون عبده قبل ذلك ، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال ، نفى ذلك في الاستقبال أيضاً علماً من أعلام النبوة مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جرياً على مناهيج العرب في التأكيد قطعاً لآمالهم منه على أتم وجه وآكده لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة ، فقال : ( ولا أنتم عابدون ) أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال .
ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى ، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار ، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند
77 ( ) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ( ) 7
[ الحج : 25 ] من أنه يطلق المضارع مراداً به مجرد إيقاع الفعل منغير نظر إلى زمان معين ، قال : ( ما أعبد ) أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافاً يعتد به .(8/556)
صفحة رقم 557
ولما كان ذلك كله ، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه ( صلى الله عليه وسلم ) إيذاناً بالاهتمام ببراءته منهم ، أنتج قطعاً مقدماً لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيداً لما صرح به ما مضى من براءته منهم : ( لكم ) أي خاصة ) دينكم ) أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه ، ولا دليل يرجع بوجه إليه ، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتاً لبعظكم حتف الأنف والآخرين قتلاً على يدي بالسيف ) ولي ) أي خاصة ) دين ( من واصع روضة الإسلام إلى أعلى مقام : مقام اليقان والإحسان ، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان ، لا تشاركونني فيه بوجه ، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً ، فكانت هذه علماً من أعلام النبوة نم حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين ، فصدق سبحانه فيما قال ، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال ، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران ، ولا رساخاً في الضلال والطغيان ، فأسعده وصف الإسلام والإيمان ، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً ، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبوده فصار آخرها أولها ، ومفصلها موصلها - هذا هو الذي دل عليه السياق ، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يعدل بربه أحداً في زمن من الازمان ، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخرة على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول ، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر
77 ( ) أغير الله اتخذ ولياً ( ) 7
[ الأنعام : 14 ]
77 ( ) أفغير الله ابتغي حكماً ( ) 7
[ الأنعام : 114 ]
77 ( ) أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ( ) 7
[ الأنعام : 164 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والفواصل والغايات ، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها ، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحد وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة ، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر ، ولا سيما الأربعة الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين ، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم ، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشرة إلى أن(8/557)
صفحة رقم 558
اليسير من أتباعه ( صلى الله عليه وسلم ) أكثروا وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه ، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في ويم الفتح والمسلمون عشرة آلاف ، والكفار من قريش ومن حولهم لا يحصون كثرة ، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هارباً ولم يستطع أن يغلق وراءه ، بل قال لها : أغلقي بابي ، فقالت له : أين ما كانت تعدني به ؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمه إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه بهم تهيب خلفنا وهمهمهلم تنطقي باللوم أدنى كلمه
هذا مع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال .
وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله ، بل جاءتهم الأعداء - كما قال الله تعالى :
77 ( ) من فوقهم ومن أسفل منهم ( ) 7
) الأحزاب : 10 ]
77 ( ) وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ( ) 7
[ الأحزاب : 22 ] وإلى هذا أيضاً أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية ، فلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها - والله هو الموفق .
.. . .(8/558)
صفحة رقم 559
سورة النصر
وتسمى التوديع .
مقصودها الإعلام بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها النصر ، اللازم عنه موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان - لعنة الله تعالى عليه - اللازم عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خلاصة الوجود ، وأعظم عبد للولي الودود ، وعلى ذلك أيضا دل اسمها التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداعه ) بسم الله ( الذي له الأمر كله ، فهو العليم الحكيم ) الرحمن ( الذي أرسلك رحمة للعالمين ، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة لمعاشهم ومعادهم بك طريق النجاة غاية البيان ، بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من العلي العظيم ) الرحيم ( الذي خص من أراده بالإقبال به إلى حزبه وجعله من أهل قربه بلزوم الصراط المستقيم .
النصر : ( 1 - 3 ) إذا جاء نصر. .. . .
) إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا ( ( )
التي قبلها على أن الكفار قد صاروا إلى حال لا عبرة بهم فيه ولا التفات ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة ، كان كأنه قيل : فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم بالمعاركة ، فأجاب بهذه السورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين ، ولكنه لما لم يكن هذا بالفعل إلا عام حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ ، فلم ينزل سبحانه وتعالى هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين ، فقال تعالى تحقيقاً لأنه ينصر المظلوم ويعلي دينه ويمهل ولا يهمل ، فإنه لا يعجزه شيء ، حثاً على التفويض له والاكتفاء به ، مقدماً معمول ( سبح ) تعجيلاً للبشارة : ( إذا ( .
ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، يسوقها إليها(8/559)
صفحة رقم 560
سائق القدرة ، فتقرب منها شيئاً فشيئاً ، كانت كأنها آتية إليها ، فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن الحصول فقال : ( جاء ) أي استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له الأزل ، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها اسم الذات فقال : ( نصر الله ) أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع الناس في كل أمر يريده .
ولما كان للنصر درجات ، وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة إليه ثم بكونها إلى الاسم الأعظم إلى أن المراد أعلاها ، صرح به فقال : ( والفتح ) أي المطلق الصالح لكل فتح الذي نزلت فيه سورته بالحديبية مبشرة له بغلبة حزبه الذين أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم ، لا سيما على مكة التي بها بيته ومنها ظهر دينه ، وبها كان أصله ، وفيها استقر عموده ، وعز جنوده ، فذل بذلك جميع العرب ، وقالوا : لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم ، فعزوا بهذا الذل حتى كان ببعضهم تمام هذا الفتح ، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد ، وللإشارة إلى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط ، ولتحققها عبر عنه ب ) إذا ( إعلاماً بأنه لايخلف الوعد ولا ينقص ما قدره وإن توهمت العقول أنه فات وقته ، وإيذاناً بأن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء ليحصل لمن علم ذلك الإخلاص والخوف والرجاء ، فأشعرت العبارة بأن الوقت قد قرب ، فكان المعنى : فكن مترقباً لوروده ومستعداً لشكره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره ( صلى الله عليه وسلم ) وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه صلى الله عليه الصلاة والسلام نفاد عمره وانقضاء أجله ، وجعلت له على ذلك علامة دخول الناس في دين الله جماعات بعد التوقف والتثبط
77 ( ) حكمة بالغة فما تغني النذر ( ) 7
[ القمر : 5 ]
77 ( ) لو شاء الله لجمعهم على الهدى ( ) 7
[ الأنعام : 35 ] وأمر بالإكثار من الاستغفار المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم المآخذ مما عسى أن يتخلل من لغو أو فتور ، فشرع سبحانه وتعالى الاستغفار ليحرز لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما يفي بعليّ أجورهم كما وعدهم
77 ( ) وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ( ) 7
[ الأنعام : 115 ] وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة - وكل كلام ربنا عظيم - فيما قيدته في غيره هذا ، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف منها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نعيت إليه نفسه الكريمة على ربه وعرف بدنو أجله ، وقد أشار إلى هذا الغرض أيضاً بأبعد من الواقع في هذه السورة قوله تعالى :
77 ( ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ( ) 7
[ المائدة : 3 ] وسورة براءة وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع(8/560)
صفحة رقم 561
لكن لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم تعيين الأمر إلا من هذه السورة .
وقد عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفاً شافياً ، واستشعر الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه وغلبوا رجاءهم في حايته ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنهم من توفي ، فلما نزلت ) إذا جاء نصر الله والفتح ( استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك استيقاناً حمله على البكاء لما قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - انتهى .
ولما عبرعن المعنى بالمجيء ، عبر عن المرئي بالرؤية فقال : ( ورأيت ) أي بعينيك ) الناس ) أي العرب الذين كانوا حقيرين عند جميع الأمم ، فصاروا بك هم الناس - كما دلت عليه لام الكمال ، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً ، وبالنسبة إليهم رعاياً ، حال كونهم ) يدخلون ( شيئاً فشيئاً متجدداً دخولهم مستمراً ) في دين الله ) أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال إباء الخلق - بقهره لهم على الكفر الذي لا يرضاه لنفسه عاقل - ترك الحظوظ ، وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطاعة ، وعبر عنه بالدين الذين معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتم ظهور الجزاء إلا بها ) أفواجاً ) أي قبائل قبائل وزمراً زمراً وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها أمة بعد أمة كأهل مكة والطائف وهوازن وهمدان وسائر القبائل من غير قتال في خفة وسرعة ومفاجأة ولين بعد دخولهم واحداً واحداً نحو ذلك لأنهم قالوا : أما إذا ظفر بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل الذين لم يقدر أحد على ردهم فليس لنا بهم يدان .
فتبين أن هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصة أصحاب الفيل ما رتبه الله إلا إرهاصاً لنبوته وتأسيساً لدعوته فألقوا بأيديهم ، وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم .
ولما كان التقدير : فقد سبح الله نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشرك عن جزيرة العرب بالفعل ، قال إيذاناً بأنه منزه عن النقائص التي منها إخلاف الوعد ، وأن له مع ذلك الجلال والجمال ، معبراً بما يفيد التعجب لزيادة التعظيم للمتعجب منه ليثمر ذلك الإلجال والتعظيم والتذلل والتقبل لجميع الأوامر ، ويفهم أمره تعالى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالاشتغال بخاصة نفسه بدنو أجله ، وأن اشتغاله بالناس قد انتهى ، لأن الدين قد كمل فلم يبق له ( صلى الله عليه وسلم ) شغل في دار الكدر : ( فسبح ) أي نزه أنت بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها موافقة لمولاك فيما فعل ، وزد يف جميع أنواع العبادة ، تسبيحاً متلبساً ) بحمد ( المعتدين ، المحسن إليك بجميع ذلك ، لأنه كله لكرامتك ، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال ، تعجباً لتيسير الله من هذا الفتح مما لم يخطر بالبال ، وشكراً لما أنعم به(8/561)
صفحة رقم 562
سبحانه وتعالى عليه من أنه أراه تمام ما أرسل لأجله ، ولأن كل حسنة يعملها أتباعه له مثلها .
ولما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتنزيهه عن كل نقص ، ووصفه تنزلاً عن غير الغيب إلى الغيب بكل كمال مضافاً إلى الرب تدلياً إلى مشاهدة الأفعال ، وصل إلى نهاية التنزل من الخالق إلى المخلوق مخاطباً لأعلى الخلائق كلها فأمره بما يفهم العجز عن الوفاء بحقه لما له من العظمة المشار إليه بذكره مرتين بالاسم الأعظم الذي له من الدلائل على العظم والعلو إلى محل الغيب الذي لا مطمع في دركه ما تنقطع الأعناق دونه ليفهم عجز غيره من باب الأولى ، فقال معلماً بأن من كماله أن يأخذ بالذنب إن شاء ويغفر إن شاء وإن عظم الذنب ، ليحث ليحث ذلك على المبادرة إلى التوبة وتكثير الحسنات وحسن الرجاء : ( واستغفره ) أي اطلب غفرانه إنه كان غفاراً إيذاناً بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات لتقتدي بك أمتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم ، فإن الأمان الأول - الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى والمحل الأقدس الأولى ، وكذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) - كان يقول : ( سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) ودخل يوم الفتح مكة مطأطئاً رأسه حتى إنه ليكاد يمس واسطة الرحل تواضعاً لله سبحانه وتعالى إعلاماً لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن ما وقع إنما هو بحول الله ، لا بكثرة مع معه من الجمع ، وإنما جعلهم سبباً لطفاً منه بهم ، ولذلك نبه نم ظن منهم أو هجس في خاطره أن للجمع مدخلاً بما وقع من الهزيمة في حنين أولاً ، وما وقع بعد من النصرة بمن ثبت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهم لا يبلغون ثلاثين نفساً ثانياً ، فالتسبيح الذي هو تنزيه عن النقص إشارة إلى إكماله الدين تحقيقاً لما كان تقدم به وعده الشريف .
والاستغفار إشارة إلى أن عبادته ( صلى الله عليه وسلم ) التي هي أعظم العبادات قد شارفت الانقضاء ، ولا يكون ذلك إلا بالموت ، فلذلك أمر بالاستغفار لأنه يكون في خاتمة المجالس والأعمال جبراً لما لعله وقع فيها على نوع من الوهن واعترافاً بذل العبودية والعجز .
ولما أمر بذلك فأرشد السياق إلى أن التقدير : وتب إليه ، علله مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الردة ومن غيره بقوله : ( إنه ) أي المحسن إليك غاية الإحسان بخلافته لك في أمتك ، ويجوز أن يكون التأكيد لأجل دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرتين على غاية العظمة والفوت عن الإدراك بالاحتجاب بإرادته الكبرياء والعز والتجبر والقهر مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك كان بحيث(8/562)
صفحة رقم 563
لا يقبل عذراً ولا يقبل نادماً ) كان ) أي لم يزل على التجدد والاستمرار ) توباً ) أي رجاعاً بمن هذب به الشيطان من أهل رحمته فهو ، الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات فأيدك بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف ، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى ويرجع عن تخلخل من أمتك في دينه بردة أو معصية دون ذلك إلى ما كان عليه من الخير ، ويسير بهم أحسن سير ، فقد رجع آخر السورة إلى أولها لأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح والتحم مقطعها أي التحام بمطلعها ، وعلم أن كل جملة منها مسببة علما قبلها ، فتوبة الله على عبده نتيجة توبته باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه ، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه ، وذلك ما دل عليه إعلاؤه لدينه ، وقسره للداخلين فيه على الدخول مع أنهم أشد الناس شكائم وأعلاهم همماً وعزائم ، وقد كانوا في غاية الأخيرة من الاحتباك : دل بالأمر بالاستغفار وعلم أن السورة أشارة إلى وفاته ( صلى الله عليه وسلم ) بالحث على الاستغفار الذي هو الأمان الثاني ، ومن شأنه أن تختم به الأعمال والمجالس بعد ما أشار إليه إعلامها بظهور الدين على الدين كله ونزولها في أوسط أيام التشريق من حجته عليه أفضل الصلاة والسلام سنة عشر كما ذكرته في كتابي ( مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السورة ) وكتابي ( الاطلاع على حجة الوداع ) وذلك بعد نزول آية المائدة - التي هي نظيرتها في رد المقطع على المطلبع - في يوم عرفة
77 ( ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ( ) 7
[ المائدة : 3 ] ومن المعلوم أنه لا يكون في هذه الدار كمال إلا بعده نقصان ، ولذلك سماها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع وخطب الناس فيها ، فعلّمهم أمور دينهم وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الله عيلهم بأنه بلغهم ، وودعهم وقال : لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، وأشار إلى ذلك أيضاً بالتوبة وإلى وقوع الردة بعده ( صلى الله عليه وسلم ) ورجوع من ارتد إلى أحسن ما كانوا عليه من اعتقادهم في الدين وثباتهم عليه بقتل من كان مطبوعاً على الكفر المشار إليهم بقوله تعالى :
77 ( ) ولو أسمعهم - أي إسماع قهر وغلبة وقسر - لتولوا وهم معرضون ( ) 7
[ الأنفال : 23 ] فكان وجودهم ضرراً صرفاً من غير منفعة وقتلهم نفعاً لا شرر فيه بوجه ، ولأجل إفهامها حلول الأجل للإيذان بالتمام بكى العباس رضي الله تعالى عنه - وفي رواية : ولده عبد الله - عند نزولها فسأله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( نعيت إليك نفسك ) فقال : إنه لكما تقول .
كما بكى(8/563)
صفحة رقم 564
عمر رضي الله عنه عند نزول آية المائدة ، وعلل بهذا - والله الهادي ، وقد ظهر بهذا أن حاصلها الإيذان بكمال الدين ودنو الوفاة لخاتم النبيين ، والنصر على جميع الظالمين الطاغين البالغين ، وذلك من أعظم مقاصد المائدة ، المناظرة لهذه في التطبيق بين البادئة والعائدة ، كما أشار إليه قوله تعالى :
77 ( ) اليوم أكملت لكم دينكم ( ) 7
[ الأنعام : 3 ] وقوله تعالى :
77 ( ) ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( ) 7
[ المائدة : 56 ] وقوله تعالى :
77 ( ) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ( ) 7
[ المائدة : 120 ] ومن أعظم لطائف هذه السورة ودقيق بدائعها ولطيف منازعها أن كلماتها تدل بأعدادها على أمور جليلة وأسرار جميلة ، فإنها تسع عشرة كلمة ، وقد كان في سنة تسع عشرة من الهجرة موت قيصر طاغية الروم ، وذلك أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح الإسكندرية قال قيصر : لئن غلبونا على الإسكندرية لقد هلكت الروم ، فتجهز ليباشر قتالهم بنفسه ، فعندما فرغ من جهازه صرعه الله فمات فكفى الله المسلمين شره ، وذلك الروم بذلك ذلاً كبيراً ، واستأسدت العرب ، وفي هذه السنة أيضاً فتح الله قيسارية من بلاد الشام فلم يبق بالشام أقصاها وأدناها عدو ، وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً ، وكان فيها أيضاً فتح جلولاء ، من بلاد فارس ، وكان فتحها يسمى فتح الفوح ، لأن الفرس لم ينجبروا بعده ، هذا إن عددنا ما يوازي كلماتها من سنة الهجرة - وهي التاسعة عشرة من نزولها - مدينة اصطخر ، واشتد ضعف الفرس ، وأمر ملكهم يزدجرد واجتهاده في الهرب من العرب حتى قتل سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بعد ذلك بسنتين ، وذلك هو العد الموازي لعد كلماتها ظواهر وضمائر مع كلمات البسملة ، وإذا نظرت إلى ما هنا من هذا وطبقت بينه وبين ما ذكر في سورة الفتح من مثله زاد عجبك من باهر هذه الآيات - والله الموفق ، ثم إنك إذا اعتبرت اعتباراً آخر وجدت هذه السورة كا دلت بجملتها على انقضاء زمن النبوة بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دلت بمفردات كلماتها على انقضاء خلافة النبوة لتمام ثلاثين سنة كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أبو داود والترمذي ولانسائي وابن حبان في صحيحه عن سفينة مولى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورضى عنه ( خلافة النبوة ثلاثون ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء ) وذلك أنك إذا عددت(8/564)
صفحة رقم 565
كلماتها مع البسملة كانت باعتبار الرسم ثلاثاً وعشرين كلمة ، وذلك مشيراً إلى انقضاء الخلافة التي لم تكن قط خلافة مثلها ، وهي خلافة الفاروق وهي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستشهاده في ذي الحجة سنة ثلاثة وعشرين من الهجرة ، فإذا ضممت إلى ذلك الضمائر البارزة وهي خمسة ، والمستترة وهي ثلاثة ، فكانت أحداً وثلاثين ، وحسبت من حين نزول السورة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذي الحجة سنة عشر كان ذلك مشيراً إلى انقضاء خلافة النبوة كلها بإصلاح أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر ربيع الأول سنة إحدة وأربعين ، وذلك عند مضي ثلاثين سنة من موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة لا تزيد شهراً ولا تنقصه ، وإن أخذت الضمائر وحدها بارزها ومستترها دلت على فتح مكة المشرفة بعينه ، فإنها - كما مضى - ثمانية وقد كان الفتح سنة ثمان من الهجرة ، ومن لطائف الأسرار وبدائع الأنظار أنها تدل على السنين بحسب التفصيل ، فالبارز يدل على سنة النصر والظهور على قريش لأنهم القصودون بالذات لأن العرب لهم تبع ، والمستتر يدل على ذلك ، وشرح هذا أنه لما كانت قد خففت في السنة الأولة من الهجرة رايات الإسلام في كل وجه ، وانتشرت أسده في كل صوب ، وانبثت سراياه في كل قطر ، أشار إليها التاء في ) ورأيت ( التي هي ضميره ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى ما يختص بفهمه من البشارة .
ولما كان في السنة الثانية بغزوة بدر من واضح الظفر وعظيم النصر ما هدّ قلوب الكفار ، وشد قلوب الأنصار في سائر الأمصار ، وأعلى لهم القدر ، أشار إلى ذلك واو ) يدخلون ( ، ولما حصل في السنة الثالثة ما لم يخف من المصيبة في غزيوة أحد التي ربما أوهمت بعض من لم يرسخ نقصاً ، أشار إلى ذلك الضمير المستتر في ) فسبح ( ، ولما كان الخبر في الرابعة بأجلاء بني النضير وإلاف قريش للوعد في بدر جبناً وعجزاً حيث وفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شجاعة وقوة بحول الله وانقلبوا ، منها بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء ، أشار إلى ذلك الكاف في ) ربك ( ولما كان في الخامسة غزوة الأحزاب أشار إليها المستتر في ) واستغفره ( ولما كان في السادسة عمرة الحديبية التي سماها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتحاً ، أنزل الله فيها سورة الفتح لكونها كانت سبباً للفتح ، فكان ذلك علماً من أعلام النبوة ، ولبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيها إلى الملوك يدعوهم إلى الله تعالى أشار إلى ذلك الضمير البازر في ) واستغفره ( وأكد قوته كونه للرب تعالى ، ولما كان في السابعة غزوة خيبر وعمرة القضاء أشار إليها الضمير الظاهر في ) إنه ( ولما كان ضمير ) كان ( لله ، وكان له سبحانه حضرتان : حضرة غير وبطون ، وحضرة شهادة وظهور ، وكانت حضرة الغيب هي حضرة الجلال والكبرياء والعظيمة والتعالي ، وحضرة الشهادة حضرة التنزل بالأفعال(8/565)
صفحة رقم 566
والاستعطاف بالأقوال ، كانت الحضرتان للنصر ، وكانت حضرة الغيب أعظمهما نصراً وأشدهما أزراً ، فلذلك كان ضمير الاستتار دالاًّ على الفتح الأكبر بالانتصار على السكان والديار بسطوة الواحد القهار ، على أنا إذا نظرنا إليه من حيث كونه جائز البروز كان البارز فله حكمه - فسبحان من شمل علمه ، ودقت حكمته فنفذ حكمه .
.. .(8/566)
صفحة رقم 567
سورة المسد
مقصودها البت والقطع الحتم بخسران الكافر ولو كان أقرب الخلق إلى أعظم الفائزين ، اللازم عنه أن شارع الدين له من العظمة ما يقصر عنه الوصف ، فهو يفعل ما يشاء لأنه لا كفو - له أصلا ، حثا على التوحيد من سائر العبيد ولذلك بين سورة الإخلاص المقرون بضمان النصر وكثرة الأنصار ، واسمها تبت واضح الدلالة على ذلك بتأمل السورة على هذه الصورة ) بسم الله ( الجبار المتكبر المضل الهاد ) الرحمن ( الذي عم الولي والعدو بنعمة البيان بعد الإكرام بالإيجاد ) الرحيم ( الذي خص بالتوفيق أهل الوداد .
المسد : ( 1 - 5 ) تبت يدا أبي. .. . .
) تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( ( )
لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعد ما كانوا فيه من الذلة ، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة ، وختمها بأنه التواب ، وكان أبو لهب - من ضدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سيد العالمين مع قربه منه - بالمحل الذي لا يجهل ، بل شاع واشتهر ، وأحرق الأكباد وصهر ، كان بحيث يسأل عن حاله إذ ذاك هل يثبت عليه أو يذلك ، فشفى غلَّ هذا السؤال ، وأزيل بما يكون له من النكال ، وليكون ذلك بعد وقوع الفتح ونزول الظفر والنصر ، والإظهار على الأعداء بالعز والقهر ، مذكراً له ( صلى الله عليه وسلم ) بما كان أول الأمر من جبروتهم وأذاهم وقوتهم بالعَد والعُدد ، وأنه لم عنهم شيء من ذلك ، بل صدق الله وعده في قوله سبحانه وتعالى ) ) قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جنهم وبئس المهاد ( ) [ آل عمران : 12 ] وكذبوا فيما كانوا فيه من التعاضد والتناصر والتحالف والتعاقد ، فذكر تعالى أعداهم له وأقربهم إليه في النسب إشارة إلى أنه لا فرق في تكذيبه لهم بين القريب والبعيد .
ولإى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملاً لأهل الدين على(8/567)
صفحة رقم 568
الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه ، فقال تعالى معبراً بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى بذلك وفرغ منه ، فلا بد من كونه ولا محيص : ( تبت ) أي حصل القطع الأعظم والحتم الأكمل ، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة ، وهي المؤدية إلى الهلاك لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة ، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب ( قل ) كأخواتها لأن هذا أكثر أدباً وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم ، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن ، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له ( صلى الله عليه وسلم ) وأقرب إلى التخويف وتجويف وتجويز سرعة الوقوع .
ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان ، فإذا اختلت اختل أمره ، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعاً ، قال مشيراً بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئاً ، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس ، ومشيراً بالكنية وإن كان يؤتى بها غالباً للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله ، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله : ( يدا أبي لهب ( فلا قدرة له على إعطاء ولا منع ، ولا على جلب ولا دفع ، وإشارة إلى أن حسن صورته لم تغن عنه شيئاً من قيبح سيرته لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) لأنه إنما كني بهذا لشراق وجهه وتوقد وجنتيه ، ولأنها أشهر ، فالبيان بها أقوى وأظهر ، والتعبير بها - مع كونه أوضح - أقعد في قول التي هي أحسن .
لأن اسمه عبد العزى وهو قبيح موجب للعدول عنه غيرة على العبودية أن تضاف إلى غير مستحقها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل : قد انقضى عمرك يا محمد ، وانتهى ما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك ، وأديت ما تحملته وحان أجلك ، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجاً ، واستجابتهم بعد تلكؤهم ، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك وإن كان أقرب الناس إليك .
فقد فصلت سورة ) قل يا أيها الكافرون ( بين أوليائك وأعدائك ، وبان بها حكم من اتبعك من عاداك ، ولهذا سماها عليه الصلاة والسلام المبرئة من النفاق ، وليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان ، وأن القرابات غير نافعه ولا مجدية شيئاً إلا مع الإيمان ) لكم دينك ولي دين (
77 ( ) أنتم بريئون ما أعمل وأنا برئ مما تعملون ( ) 7
[ يونس : 41 ] ، (8/568)
صفحة رقم 569
77 ( ) والمؤمنون والمؤمنات أولياء بعض ( ) 7
[ التوبة : 71 ] وههنا انتهى الكتاب بجملته - انتهى .
ولما كان ربما خص التباب بالهلاك ، وحمل على هلاك اليدين حقيقة ، وكان الإنسان لا يزول جميع منفعته بفوات يديه وإن كان قد يعبر بهما عن النفس ، قال مصرحاً بالمقصود : ( وتب ) أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران ، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده ، والظاهر أن الأول دعاء والثاني خبر ، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم لأنه عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومادة ( تب ) و ( بتّ ) - الجامعة بجمع التاء والباء للسببين الأدنى الباطني والأعلى الظاهري - تدور على القطع المؤدي في أغلب أحواله إلى الهلاك ، لأن من انقطع إلى الأسباب معرضاً عن مسببها كان في أعظم تباب ، وربما كان القطع باستجماع الأسباب ، فحصل العوز بالمقاصد والمحابّ ، قال ابن مكتوم في الجمع بين المحكم والعباب : التب والتباب : الخسار ، وتباً له - على الدعاء ، وتباً تبيباً - على المبالغة ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز : كأنك قلت : خسراناً له ، وهو المصدر ، نصب نصب سقياً له ، قال ابن دريد : وكأن التب المصدر والتباب الاسم ، والتبب والتباب والتبيب : الهلاك ، والتتبيب النقص والخسار ، وكل هذ واضح في القطع عن الخير والفوز ، قال : والتابّ : الكبير من الرجال ، والأنثى تابة ، وقال القزاز : إذا سألت الرجل عن المرأة قلت : أشابة هي أن تابة ، أي أم عجوز فانية ، ومعلوم أن كبر السن مقرب من القطع والهلاك ، والتاب : الضعيف ، والجمع أتباب - هذلية ، وحمار تاب الظهر - إذا دبر ، وجمل تاب كذلك نادرة ، ولا شك أن الدبر والضعيف هلاك في المعنى .
وتب : قطع مثل بت ، أي بتقديم الموحدة ووقعوا في تبوب منكرة ، وهو بتبة أي بحالة شديدة ، والتبي - بالفتح والكسر : ضرب من تمر البحرين ، قيل : هو رديء يأكله سقاط الناس ، وأتب الله قوته : أضعفها ، وتببوهم تتبيباً : أهلكوهم ، وتبتب : شاخ ، وكل ذلك واضح في القطع بالهلاك والخسار ، والتبوب يعني بالضم : ما انطوت عليه الأضلاع كالصدر والقلب ، وهذا يحتمل الخير والشر ، فإن القلب إذا فسد فسد الجسد كله ، وإذا صلح صلح الجسد كله ، فيكون حينئذ القطع ، بالفوز والنجاة ، أو لأن انطواء الأضلاع عليه قطعة عن الخارج ، واستتب الأمر : تهيأ واستوى .
وقال القزاز : ويقال : هذه العلة لا تستتب في نظار هذا القول ، أي لا تجري في نظائره ، كأنه من باب الإزالة إذ إن السين لما جامعت حرف السببين آذنت بالنجاة والفوز والفلاح ، فإنها حرف تدل على الاستيفاء في الإنباء(8/569)
صفحة رقم 570
عن الشيء والتتمة والألفة ، وأحسن من هذا أنها إذا جرت في النظائر أوضحتها وكشفت معانيها ففصلتها وأبانتها وقطعتها عن غير النظائر بما أزالت من الإلباس بها ، والذي يحقق معاني التب ويظهر أنه يؤول إلى القطع مقلوبه ، وهو البت - بتقديم الموحد التي هي السبب الظاهر الذي هو أقوى من حيث إنه لا يتحقق إلا بكمال السبب الباطني ، يقال : بت الشيء يبته بتاً ، وأبته : قطعه قطعاً مستأصلاً ، وبت هو يُبت وبِيت بتاً وانبت ، ولعله استوى فيه المجرد والمزيد في التعدية دلالة على أن ما حصل بالمجرد من القطع هو من الكمال بحيث لا مزيد عليه ، وكذا استوى القاصر مجرداً ومطاوعاً مع المتعدي في أصل المعنى .
وصدقه بتة : بتلة باينة من صاحبها ، وطلقها ثلاثاً بتة وإبتاتاً ، أي قطعاً لا عود فيه ، ولا أفعله البتة - كأنه قطع فعله ، قال سيبويه : وقالوا : قعد البتة - مصدر مؤكد ، ولا يستعمل إلا بالألف واللام ، وبت عليه القضاء بتاً وأبته : قطعه ، وسكران ما يُبت كلاماً وما يُبت أي ما يقطعه ، قال القزاز : يُبت من أبت ، ويبَت من بَتَّ ، وسكران باتّ : منقطع عن العمل بالسكر ، وأبت يمينه : أمضاها ، أي قطعها عن الحنث ، وبتت هي : وجبت وحلت بتاً وبتة وبتاتاً ، وكل ذلك من القطع ، وأبت بعيره ، أي قطعه بالسير ، والمنبت في الحديث : الذي أتعب دابته حتى عطب ظهره فبقي منقطعاً به ، وقال القزاز : هو الذي أتعب دابته حتى قطع ظهرها فبقي منبتاً به ، أي منقطعاً به ، وبت عليه الشهادة وأبتها : قطع عليه بها وألزمه إياها ، وبت عليه القضاء وأبته ، قطعه ، والبات : المهزول الذي لا يقدر أن يقوم - كأنه قد انقطعت قوته ، وفي الحديث ( لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل ) فمعناه : يوجبه ، أي يقطعه على نفسه قبل الفجر ، من أبت عليه الحكم - إذا قطعه ، وروي : يبت ، من بت - إذا قطع ، وكلاهما بمعنى ، وهما لغتان فصيحان .
وروي في حديث ( من لم يبت ) من البيات ، وأحمق بات : شديد الحمق - كذا قاله الليث ، وقال الأزهري : هو تاب - بتأخير الموحدة ، والبت : كساء غليظ مهلهل مربع أخضر ، وقيل : هو من وبر وصوف ، والجمع بتوت ، والبتات أي بالتخفيف : متاع البيت والزاد ، كأن ذلك يقطع صاحبه عن الحاجة ، وبتتوه : زودوه ، أو أن ذلك من الإزالة لأنه صلة لصاحبه ورفد لأن الاستقراء حاصل بأن كل مادة لها معنى غالب تدور عليه وفيها شيء لإزالة ذلك المعنى ، وفلان على بتات أمر - إذا أشرف على فراغه فإنه(8/570)
صفحة رقم 571
ينقطع حينئذ ، وتقول : طحنت بالرحى بتاً - إذا ابتدأ الإدارة عن يسارك ، كأنه دال على القطع بتمام العزيمة لأن ذلك أقوى للطاحن وأمكن ، وانبت الرجل : انقطع ماء ظهره ، ويقال : هذا حبل بتّ : إذا كان طاقاً واحداً ، كأنه لما كان كذلك فكان سهل القطع أطلق عليه القطع مبالغة مثل عدل ، وقد انبت فلان عن فلان - إذا انقطع وانقبض .
ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره نم الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد ، وما هو فيه من القوة بالعَدد والعُدد ، زاد الأمر تحققاً إعلاماً بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبراً ، أو مستفهماً منكراً ) ما أغنى ) أي أجزى وناب وسد ) عنه ) أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب ) ماله ) أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك .
ولما كان الكسب أعم من المال ، وكان المال قد تكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره ، وكان الإنسان قد يكون فائزاً ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال ، وقال مفيداً لذلك مبيناً أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به ) وما كسب ) أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المحافل يؤذيه ويكذبه وينهى الناس عن تصديقه مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين ، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم سلط عيله كلباً من كلابك ) فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه ، فلما حان الأمر وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم من هذه الدعوة ، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها والركاب محيطة بهم ، فلم ينفعه ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه ولم ينفع أباه ذلك ، بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى حتى كانت وقعة بدر فلم يخرج فيها فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث فقال : هلم يا ابن أخي فعندك الخبر : فقال نعم فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا ، ومع ذلك والله مللت الناس لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئاً - أي ما تبقيه - ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع غلام العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان جالساً في حجرة في المسجد يبري نبلاً ، وكان الإسلام قد(8/571)
صفحة رقم 572
دخلنا أهل البيت وكنا نكتم إسلامنا ، فما ملكت نفس أن قلت : تلك والله الملائكة ، قال : فرفع أبو لهب يده فضرب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، قال : وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك عليّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً ، فاقمت أم الفضل - يعني سيدته - زوجة العباس رضي الله عنها إلى عمود الحجرة - أي الخيمة - فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت : استضعفته أيعدو الله إن غاب عند سيده ، فقام ولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستاً حتى رماه الله بالعدسة فقتله وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر ، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالباً ، قال القزاز : كانت تعدي في الجاهلية قلما يسلم منها أحد ، تقول : عدس الرجل فهو معدوس ، كما تقول : طعن فهو مطعون - إذا أصابه الطاعون - انتهى .
ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه ، ويقال : إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ورجموه بالحاجرة والتراب من بعيد حتى طموه ، فكان ذلك سنة في رجمه فهو يرجم إلى الآن ، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب دون أن يغني عنه شيء مما يظن أنه يغني عنه .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بوقوع هذا التبار الأعظم به ، وكان لا عذاب يداني عذاب الآخرة ، بينه بقوله : ( سيصلى ) أي عن قرب بوعد لا خلف فيه ) ناراً ) أي فيدس فيها وتنعطف عليه وتحيط به .
ولما كان المقصود شدة نكايته بأشد ما يكون من الحرارة كما أحرق أكباد الأولياء ، وكاتن النار قد تكون جمراً ثم تنطفئ عن قرب قال : ( ذات لهب ) أي لا تسكن ولا تخمد أبداً لأن ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها ب ( ذات ) ، وذلك بعد موته وليس في السورة دليل قاطع على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون الصلي على الفسق ، فلا دليل فيها لمن يقول : إن فيها التكليف بما علم أنه محال ليكون قد كلف بأن يؤمن وقد علم أنه حكم لأنه لا يؤمن ، وإن كان الله قد حقق هذا الخبر بموته كافراً في الثانية من الهجرة عقب غزوة بدر وهي الخامسة عشرة من النبوة ، لكن ما عرف تحتم كفره إلا بموته كافراً لا بشيء في هذه السورة ولا غيرها ، ومن الغرائب أن الكلمات المتعلقة به في هذه السورة خمس عشرة كلمة ، فكانت مشيرة إلى سنة موته بعد أن رأى تبابه في وقعه بدر وغيرها بعينه ، فإذا ضممنا إليها كلمات البسملة الأربع وازت سنة ست من الهجرة ، وهي سنة عمرة الحديبية سنة الفتح السببي التي تحقق فيها تبابه وخساره عند كل من عنده إيمان بالغيب ودفع للريب ، فإذا ضممت إليها الضميرين البارزين اللذين(8/572)
صفحة رقم 573
هما أقرب إلى الكلمات الاصطلاحية من المستترة وازت سنة ثمان من الهجرة التي كان فيها الفتح الحقيقي ، فتحقق عند قريش كافة ما أنزل فيه في هذه السورة ، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاثة المستترة وازت سنة إحدى عشرة على أنك إذا بدأت بالضمائر المستترة حصلت المناسبة أيضاً ، وذلك أنها توازي سنة تسع وهي سنة الوفود التي دخل الناس فيها في الدين أفواجاً وحج فيها بالناس أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً ، ونودي في الموسم ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ، فتحققت خيبة أبي لهب عند كل من حضر الموسم لا سيما من كان يعلم دورانه وراء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكذيبه له من مسلم وغيره ، فإذا ضمننا إلى ذلك الضميرين البارزين وازت سنة أحدى عشرة أول سني خلافة الصديق رضي الله عنه التي فتحت فيها جميع جزيرة العرب بعد أن لعب الشيطان بكثير من أهلها .
فرجعوا بعد أن قتل الله منهم من علم أنه مخلوق لجهنم ، وتحقق حينئذ ما لأبي لهب من التباب والنار ذات الالتهاب عند العرب كافة بإيمانهم عامة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من النبوة ، واستقر الأمر حينئذ ، وعلم أن الدين قد رسخت أوتاده وثبت عماده ، وأن الذي كان يحميه في حاية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد حماه بعده وهو سبحانه حي لا يموت وقادر لا يعجزه شيء ، وعدد كلمات السورة ثلاث وعشرون وهي توازي سنة حجة الوداع سنة عشر ، فإنها السنة الثالثة والعشرون من بعث وفيها كمل الدين ونزلت آية المائدة .
وأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرض العرب ، فتحقق كل الناس لا سيما من حضر الموسم تباب أبي لهب الذي كان يدور في تلك المشاهد وراء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكذبه ويؤذيه
77 ( ) إن في ذلك لعبرة ( ) 7
[ آل عمران : 13 - والنور : 44 ] .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار ، وكان أشق ما على الإنسان هتك ما يصونه من حريمه حتى أنه يبذل نفسه دون ذلك لا سيما العرب ، فإنه لا يدانيهم في ذلك أحد ، زاده تحقيراً بذكر من يصونها معبراً عنها بما صدرها بازراً صورة وأشنعها ، فقال مشيراً إلى أن خلطة الأشرار غاية الخسار ، فإن الطبع وإن كان جيداً يسرق من الردىء ، فكيف إذا كان رديئاً وإن أرضى الناس بما يسخط الله أعظم الهلاك ) وامرأته ) أي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي مثل زوجها في التباب والصلي من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب ، وعدل عن ذكرها بكنيتها لأن صفتها القباحة وهي ضد كنيتها ، ومن هنا تؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه ، ثم وصفها بما أشار إليه ذنبها وأكمل قبيح صورتها فقال : ( حمالة الحطب ) أي الحاملة(8/573)
صفحة رقم 574
أقصى ما يمكن حمله من حطب جهنم بما كانت تمشي به وتبالغ فيه من حمل حطب البهت والنميمة الذي تحمل به على معاداة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشدة أذاه وإيقاد نار الحرب والخصومة عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، من قول الشاعر :
] من البيض لم تصطد على ظهر لأمه ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
أراد النميمة ، وعبر بالرطب للدلالة على زيادة الشر بما فيه من التدخين وشبهت النميمة بالحطب لأنها توقد الشر فتفرق بين الناس كما أن الحطب يكون وقوداً للنار فتفرقه ، وكذا بما كانت تحمل من الشوك وتنثره ليلاً في طريق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتؤذيه ، وكانت تفعله بنفسها من شدة عداوتها وتباشره ليلاً لتستخفي به لأنها كانت شريفة ، فلما نزلت سورة صوّرتها بأقبح صورة فكان ذلك - أعظم فاضح لها ، وقراءة عاصم بالنصب للقطع على الشتم تؤدي أن امرأته وأن الخبر ) في جيدها ) أي عنقها وأجود ما فيها - هو حال على التقدير الأول ) حبل ( كالحاطبين تخسيساً لأمرها وتحقيراً لحالها ) من مسد ) أي ليف أو ليف المقل أو من شيء قد فتل وأحكم فتله ، من قولهم : رجل ممسود الخلق ، أي مجدوله - وقد رجع آخرها على أولها ، فإن من كانت امرأته مصورة بصورة حطابة على ظهرها حزمة حطب معلق حبلها في جيدها فهو في غاية الحقارة ، والتباب والخساسة والخسارة وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه وجار عن قصد السبيل واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره ، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لم يأل جهداً في نصحه على ما تراه من أنه لم يأل هو - جهداً في أذاه واعتمد على ماله وأكسابه فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده ، ومن أعظم مقاصد سورة النساء المناظرة لها في رد المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لا سيما لذوي الأرحام ، والعدل في جميع الأقوال والأفعال ، فكان شرح حال الناصح الذي لا ينطق عن الهوى ، وحال الضال الذي إنما ينطق عن الهوى - قوله تعالى :
77 ( ) يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ( ) 7
[ النساء : 26 ] وختمها إشارة إلى التحذير من مثل حاله ، فكأنه قيل : يبين الله لكم أن تضلوا فكونوا كأبي لهب في البوار ، وصلي النار - كما تبين لكم ، فكونوا على حذر من كل ما يشابه حاله وإن ظهر لكم خلاف ذلك ، فأنا أعلم منكم ، والله بكل شيء عليم ( والحمد لله رب العالمين ) .
.. .(8/574)
صفحة رقم 575
( سورة الإخلاص )
وتسمى الأساس والمقشقشة وقل هو الله أحد .
مقصودها بيان الحقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الإعتقاد للإخلاص في التوحيد بإثبات الكمال ، ونفي الشوائب النقص والاختلال ، المثمر لحسن الأقوال والأفعال ، وثبات اللجاء والاعتماد في جميع الأحوال ، وعلى ذلك دل اسمها الإخلاص الموجب للخلاص ، وكذا الأساس والمقشقشة ، قال في القاموس : المقشقشتان الكافرون والإخلاص أي المبرئتان من النفاق والشرك كما يقشقش الهناء الجرب ، الهناء : القطران ، وقال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : كما يبرئ المريض من علته إذا برئ منها - انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى الجمع ، فسميتا بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ، وكذا الشرك والكفر فجمعتاله ونفتاه بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه ، وكذا الشرك والكفر فجمعناه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة ، وقد تقدم الكلام على هذا الاسم مبسوطا في براءة وكذا اسمها " قل هو الله أحد " دال على مقصوزدها بتأمل جميع السورة وما دعت إليه من معاني التبرئة اليسيرة الكثيرة ، وهذه السورة أعظم مفيد للتوحيد في القرآن ، قال الرازي : والتوحيد مقام يضيق عنه نطاق النطق لأنك إذا أخبرت عن الحق فهنالك مخبر عنه ومخبر به مجموعهما ، وذلك ثلاث ، فالعقل يعرفه ولكن النطق لا يصل إليه سئل الجنيد عن التوحيد فقال : معنى تضمحل فيه الرسوم وتتشوش فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل وقال الجنيد أيضا : أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق رضي الله عنه : سبحانه من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته ) بسم الله ( الذي له جميع الكمال بالجلال والجمال ) الرحمن ( الذي أفاض منت طوله على جميع الموجودات عموم الأفضال ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والإكمال .
لما كانت الكوثر علة للنهي عما تضمنه التكذيب من مساوئ الأفعال ،(8/575)
صفحة رقم 576
وعلم بها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مختص بالخير المستلزم لأن شائنه هو الأبتر ، فكان موضع السؤال عما يفعل مع الشانئين من معاركه أو متاركة ، جاءت الكافرون للمتاركة لقلة أهل الدين إذ ذاك ، إشارة إلى أن هذه الدار مبنية على الأسباب ، فعلم بالكافرون أن الشانئ مما لا يعبأ به ، فتحركت النفس إلى سؤال عن وقت الصلاحية للمعاركة بعد هذه التاركة ، وما يترتب على المعاركة من قهر الشانئ بالفعل ، فجاءت سورة النصر لذلك الإشارة إلى أنه مما لا يسأل عنه بمتى ، لتغبير ذلك في وجه الإحسان في التسليم ، وإنما يسأل عما يفعل عندوعه من الإحسان في التعبد ، معبرا بأداة التحقق إعلاما بأنه آت لا محالة ، فالسؤال عن وقته ليس من دأب السائرين ، ولما ظهرت ذخائر هذه الكنوز بدقائق تلك الرموز ، وما انضم إليها من القرائن الظاهرة ، استحضرت حال أبي لهب لما كان فيه مع قرابته القريبة من شدة العناد ، والاجتهادج العظيم في كل ما يضاد أشرف العباد واشتد التشوف إلى اتقلاب حاله إذا ذاك هل يكون بما ختمت به النصر من التوبة أو بخذلانه وانقلابه بأعظم الخيبة والحوبة ؟ فجاءت سورته لذلك بينا لأنه غلب عليه الشقاء فنزل به في دركاته مانعا من معالي درج الارتقاء ، فلما بين سبحان بذلك إهلاكه عدوه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وختم بأعدى أعدائه فحكم بهلاكه ، وهلاك زوجه هلاكا لا جبر له على وجه مبين أنه في أدنى دركات الحقارة ، وأعظم أنواع الخسارة ، فرقص الفكر طربا من هذه الأمور ، وسكر اللب من عجائب المقدور ، واهتز السامع غاية الاهتزاز إلى وصف الفاعل لذلك الذي هو خارج عن طوق البشر ، وخارق للعوائد ، وهو إظهار شخص واحد على الناس كافة مع شدة عداوتهم له ، جاءت الإخلاص كاشفة لما ثبت من العظمة لولي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سبحانه وتعالى الذي أمره بهذا الدين وفعل له هذه الأمور - العظيمة الموجبة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لئلا يستبعد عليه سبحانه وتعالى شيئا من ذلك ولا غيره ، وإن تمثيل جميع ما يأم ربه كلائنا ما كان وكائنا فيه ما كان على أن يوجه كان موافقة لأمره وطاعة له ومنبئة للاعتقاد الحق الذي أوجب هذه النصرة ، واردة على جميع فرق الضلال ، هذا في انعطاف الآخر على الأول بالنسبة إلى السور - من أعظم المناسبات في ذلك بالنظر إلى الآيات أنه سبحانه شرح بالفيل وما بعدها من السور آيات الفاتحة كلها ثم - من أول البقرة إلى آية التوحيد ، فأشار بالفيل إلى استجماعه لصفات الكمال بأن له الحمد بما حرس من بيته من الملوك ووحماه من كيد الجبابرة وأحسن التربية لقريش الذين هم أشرف العالمين وبصلاحهعم صلاح بلدتهم أم القرى ، وبصلاحها صلاحها فدل ذلك " لى أنه يدين العباد يوم التناد ، ولذلك أعطى رأس الهداة الدين الذي أفرده العبادة ولاستعانة بالكوثر ، وهداه إلى الصراط المستقيم وأعاذه من طريق الكافرين المعاندين(8/576)
صفحة رقم 577
والضالين ، وأشار أول البقرة إلى دخول المتقين - الذين الكتاب هدى لهم - في الدين أفواجا وإن أغنى أهل الكفر وأعتاهم سواء عليهم الإنذار وعدمه في لانه لا يؤمن وهو أبو لهب ومن سار بسيره من 0 مجاهر ومساتر ويعمهم الخسار ، ويشملهم الهلاك والتبار ، بحكم الواحد القهار المأمور بعبادته وتوحيده في الآية الجامعة لدعوات التوحيد ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) [ البقرة : 21 ] المتصف بما في سورة الصمد التي لم ينزل في وصفه مثلها ، فتم الدين عند ذلك بما له سبحانه من كمال الأوصاف ، وجلال النعوت بالجبروت والألطاف فلم يبق إلا تعويذ أهل الدين من أن يدخل عليهم خلل ، أو يلحقهم نزع أو زلل ، فختم بالمعوذتين لذلك ، والله المسؤول في الإنعام بعائد السؤل لكل سالك .
الإخلاص : ( 1 - 4 ) قل هو الله. .. . .
) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( ( )
ولما كان المقصود من القرآن دعوة العباد إلى المعبود ، وكان المدعو إلى شيء أحوج ما يكون إلى معرفته ، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال ، وكانت هذه الأمة - أشرف الأمم لأن نبيها أعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكان هي الختام ، أشبع الكلام في تعريفه سبحانه في القرآن ، وأنهى البيان في ذلك إلى حد لا مزيد عليه ولم يقاربه في ذلك كتابه من الكتب السالفة ، ولكنه لما كان الكبير إذا تناهى كبره عزت معرفة ذاته ، وكان الله تعالى هو الأكبر مطلقاً ، وكانت معرفة ذاته - كما أشار إليه الغزالي في الجواهر ، والفخر الرازي في كتبه - أشيق ما يكون مجالاً وأعسره مقالاً ، وأعصاه على الفكر منالاً ، وأبعده عن قبول الذكر استرسالاً لأن القرآن لا يشتمل من ذلك إلا على تلويحات وإشارات أكثرها رجع إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى ) ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ) [ الشورى : 112 ] وإلى التعظيم المطلق كقوله ) سبحانه وتعالى عما يصفون ( فكام القياس أن يقتصر على ذلك مع العريف بالصفات والأفعال ، لكن لما كانت هذه الأمة في الذروة من حسن الأفهام مع ما نالته من الشرف ، حباها سبحانه وتعالى بسورة الإخلاص كاملة ببيان لا يمكن أن تحتمل عقول البشر زيادة عليه ، وذلك ببيان أنه ثابت ثباتاً لا يشبهه ثبات على وجه لا يكون لغيره أصلاً ، وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الشبيه والنظير والمكافئ والمثيل ، فلا زوجة له ولا ولد ، ولا حاجة بوجه إلى أحد ، بل له الخق والأمر ، فهو يهلك من أراد ويسعد من شاء ، فقال آمراً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون أول كلمة فيها دالة على رسالته رداً على من كذبه في خاصة نفسه وعلى البراهمة القائلين : إن في العقل غنى عن الرسل .
ويكون البيان جارياً على لسانه(8/577)
صفحة رقم 578
( صلى الله عليه وسلم ) ليكون إلى فهم عنه لتلك الصفات العلى أقرب لما لهم به من المجانسة : ( قل ) أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه ، وإطلاق الأمر بعدم التقييد بمقول له يفهم عموم الرسالة ، وأن المراد كل من يمكن القول له سواء كان سائلاً عن ذلك بالفعل أو بالقوة حثاً على استحضار - ما لرب هذا الدين - الذي حاطه هذه الحياطة ورباه هذه التربية - من العظمة والجلال ، والكبرياء والكمال ، ففي الإطلاق المشير إلى التعميم رد على من أقر بإرساله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العرب خاصة ، ويدل على ان مقول القول لا ضرر فيه على أحد فإن ظواهره مفهومة لكل أحد لا فتنة فيها بوجه ، وإنما تأتي الفتنة عند تعمق الضال إلى ما لا - يتحمله عقله .
ولما كان أهم المقاصد الرد على المعطلة الذين هم ضرب ممن يقول
77 ( ) نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ( ) 7
[ الجاثية : 24 ] أثبت وجوده سبحانه على أتم الوجوه وأعلاها وأوفاها وأجلاها بما معناه أن حقيقته ثابتة ثباتاً لا يتوجه نحوه شك بوجه من الوجوه ، فقال مكاشفاً للأسرار - فإنه لا يمكن غيبته عنها أصلاً - وللوالهين : ( هو ( فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه واجب الوجود لذاته - وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ، فإن كل ما كانت هويته مستفادة من غيره أو موقوفة عليه فمتى لم يتعبر غيره فلم يكن هو هو ، وما كانت هويته لذاته فهو هو سواء اعتبر غير أو لم يعتبر ، فإذاً لا يستحق هذا الاسم غيره أصلاً على أن الهاء بمفردها مشيرة - بكونها من أبطن - الحلق إلى أنه هو الأول والباطن المبدع لما سواه ، والواو - بكونها من أظهر حروف الشفة - إلى أنه الآخر والظاهر ، وأن إليه المنتهى ، وليس وراءه مرمى ، وأنه المبدئ المعيد - كما يشير إلى ذلك تكرير الواو في اسمها ، وإلا أنه محيط بكل شيء لما فيها من الإحاطة .
ولما كان وجوده سبحانه لذاته ، ولم يكن مستفاداً من غيره ، فإن ما استفيد وجوده من غيره كان ممكناً ، كان لا يمكن شرح اسمه الذي هو هو ، لا اسم حقيقة غيره يقوم من جنس ولا نوع ولا فصل لأنه لا جنس لا ولا نوع له ولا سبب يعرف به ، والذي لا سبب له لا يمكن معرفته إلا بلوازمه ، واللوازم منها سلبية ومنها إضافية ومنها قريبة ومنها بعيدة ، والتعريف بالإضافية وبالقريبة أتم من التعريف بالسلبية وبالبعيدة ، لأن البعيد كالضحاك الذي هو بعد المتعجب بالنسبة إلى الإنسان لا يكون معلولاً لشيء بل معلولاً لمعلوه ، وبالجمع بين السلبية والإضافية أتم من الاقتصار على أحدهما ، فلذلك اختير اسم جامع للنوعين ليكون التعريف أتم ، وذلك هو كون تلك الهوية إلهاً ، فاختير لذلك(8/578)
صفحة رقم 579
اسم دال عليها وهو مختص غير مشترك ، وهو أول مظاهر الضمير كام أن الهمزة أول مظاهر الألف ، ولهذا قال بعضهم : الاسم الأعظم آخر الظواهر من الأسماء ، ولهذا كانت كلها صفات له وهو أول البواطن ، فقال مكاشفاً للأرواح وللموحدين : ( الله ) أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه هو المسمى بهذا الاسم ، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال : الجلال والجمال ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، وهو أقرب اللوازم إلى الهوية الهوية لأنه لا لازم لها أقرب من وجوب الوجود الذي هو مقتضى الذات على ما هي عليه من الصفات ، لا بواسطة شيء آخر ، وبواسطة وجوب وجوده كان مفيضاً باختياره الإيجاد على كل شيء أراده ، ومجموع الوجوب الذي هو سلب وحده الإيجاد الذي هو اختيار للجود بإضافة الوجود وإضافة للإلهية التي جمعتها الجلالة ، وهي أقرب اللوازم إلى الذات الأقدس ، ودل التعبير به على أنه لا مقوم للهوية من جنس ولا غيره ولا سبب ، وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قاصراً ، وعلى أن إلهيته على الإطلاق لجميع الموجدات ، فكان شرح تلك الهوية باللازم أبلغ البلاغة وأحكم الحكمة ، لأنه - مع كونه هو الحق - مشيراً إلى ما ذكر من الدقائق .
ولما ذكرت الذات التي لا سبب لها ولا مقوم من جنس ونوع وغيره أصلاً بل هي مجرد وحدة وتنزه عن تركب لا كثرة لها ولا اثنينية بوجه ، وعرفها باسم جامع الأنواع السلوب والإضافات اللازمة له هو أقرب اللوازم إليها ، فانشرح وجودها المخصوص على ما هو عليه ، فكان ذلك تعريفاً كاملاً لأن تعريف ما لا تركب فيه باللوازم القريبة في الكمال كتعريف المركبات بمقوماتها ، وفإن التعريف البالغ هو أن يحصل في النفس صورة مطابقة للمعقول ، وكانت الزيادة في الشرح مطلوبة لأنها أكمل لا سيما في الأمور الباطنة الخفية ، أتبع ذلك باسم سلبي إشارة إلى أن النظر في هذه الدار إلى جانب الجلال ينبغي كونه أعظم ، وذلك الاسم قربه من الجلالة كقربتها من الهوية ، فإنه دال على الوحدة الكاملة المجردة وهو متنزل الجلالة كما أنها متنزل الهوية ، وهو كما أن الجلالة لم يقع فيها شركة أصلاً قد ضاهاها في أنه لا شركة لغيره تعالى فيه عند استعماله مفرداً بمعناه الحقيقي إلا أن في النفي إشارة إلى أن كل ما عداه سبحانه عدم ، فقال مكاشفاً للقلوب وللعارفين مكذباً للنصارى القائلين بالأب والابن وروح القدس ، ولليهود القائلين بأنه جسم ، وللمجوس الذين يقولون بأنه اثنان : نور يخلق الخير ، وظلام يخلق الشر ، وللصابئة الذين يعبدون النجوم ، وللمشركين القائلين بإلهية الأصنام ، مخبراً خبراً آخر ، أو مبدلاً من الجلالة ، أو مخبراً عن مبتدأ محذوف : ( أحد ( وهو لأجل كونه خاصة في(8/579)
صفحة رقم 580
الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن ( آل ) المعرفة ، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال لأن الواحد الحقيقي ما يكون منزه لاذات عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الكاملة والحكمة التامة المقتضية للألوهية من غير لزوم دور ولا تسلسل من جهة تركب أو غيره ، وقرئ بإسقاط ( قل ) هنا وفي المعوذتين مع الاتفاق على إثباتها في الكافرون ونفيها في تبت ، ولعل الحكمة أن الكافرون مخاطبة للكفار بما بين مشاققة ومتاركة ، فناسب الحال أن يكون ذلك منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتبت معاتبة عم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتوبيخه فلا يناسب أن يكون ذلك من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والباقيات ما بين توحيد وتعوذ ، فناسب أن يؤمر بتبليغه وأن يدعو به ، ورتب الأحدية على الإلهية دون العكس ، لأن الإلهية عبارة عن استغنائه عن الكل ، واحتياج الكل إليه ، وكل ما كان كذلك كان واحداً مطلقاً ، وإلا لكان محتاجاً إلى أجزائه ، فالألهية من حيث هي تقتضي الواحدة ، والوحدة لا تقتضي الإلية ، وعبر به دون ( واحد ) لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه ، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته بالتكشيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي ينقسم انقساماً عقلياً ألوى مام ينقسم بالحس والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل ، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف .
وأن الواحد أقوى منه فيها ، وإلا لم يكن بالغاً أقصى المرام ، والأحد جامع لذلك دال على الواحدية من جميع الوجوه ، وأنه لا كثرة هناك أصلاً ، لا معنوية من المقومات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة واصورة ، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام ، وذلك لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر وجوه التثنية التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه لأن كل ما كانت هويته إنما تحصل من اجتماع أجزاء كانت هويته موقوفة على حصول تلك الأجزاء ، فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره ، فلذا كان منزهاً عن الكثرة بكل اعتبار ، ومتصفاً بالوحدة من كل الوجوه ، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن ، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه ، فهو منتهى الحاجات ومن عنده نيل الطلبات ، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظم والبهج أقصى نعوت الناعتين وأعظم وصف الواصفين ، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو(8/580)
صفحة رقم 581
الذي ذكره في كتابه العزيز ، وأودعه وحيه المقدس الحكيم ، وبالكلام على معناه ومعنى الواحد تحقق ما تقدم ، قال الإمام أبو العبا الإقليشي في شرح شرح الأسماء : فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين ، فمنهم من قال : أصل أحد واحد سقطت منه الألف ثم أبدلت الهمزة من الواو مفتوحة ، ومنهم من قال : ليس أصله واحد وإن كانا بمعنى واحد ، بل أصله وحد - من الوحدة - يحد فهو وحد - مثل حسن يحسن فهو حسن - من الحسن ، أبدلت الواو همزة ، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال : أحد اسم على حياله لا إبدال فيه ولا تغيير ، ومنهم من قال : أصله وحد ، أبدلت الواو همزة - انتهى ، وقد استخلصت الكلام على الأسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما ، قالوا : الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد وهو أيضاً الذي لا يثنى ، أي لا ضد له ولا شبيه ، فهو سبحانه واحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر على حال ولا شيء ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء : هذه حقيقة الوحدة عند المحققين ، فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازاً ، كما تقول : رجل واحد ، ودرهم واحد ، وإنما يوصف بها حقيقة ما لا جزء له كالجوهر الفرد عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له ، وهو أيضاً إنما يوسف به لحقارته ، وموجده سبحانه موصوف به مع الاتصاف بالعظمة ، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق ، واتصاف الجوهر بالنظر إلى عدم التركب من الجسم مع أن صحة اتصافه بأنه جزء يزيل عنه حقيقة ذلك ، والوحدة أيضاً بالنظر إلى المعنى الثاني وهو ما نظير له لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه ، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر ، وله معنى ثالث وهو التوحد بالفعل والإيجاد ، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان ، وهذا ناف لمعين ووزير ، وكلاهما وصف ذاتي سلبي ، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجداً واحداً بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص القسمة بوجه من الوجوه وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار ، وبمعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالنصع متفرد بالتدبير ، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع ، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع ، ولهذا كان من أعظم الحق دعاؤه سبحانه لجميع الخلق ، وكانت دعوة رسوله الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) للخلق كافة ، وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات واحدة وسبع(8/581)
صفحة رقم 582
صفات : الأحد المسلوب عنه النظير ، وقال في الشرح المذكور : الواحد هو الذي لا يتجرى ولا يتثنى ، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا نقسم فقال : إنه واحد - بمعنى أنه لا جزء له ، ولذلك النقطة لا جزء لها ، والله تعالى واحد - بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته ، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكان أن يكون لها نظير ، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلاً إلا الواحد المطلق أزلاً وأبداً ، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يكون في وقت آخر مثله ، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى ، وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل : واختلفوا في الواحد أهو من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد ، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد ، فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد ، تكرر أول تكرير ، وكذا الثلاثة والأربعة ، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد ، أي هو علته ولا يدخل في العد أي لا يتركب منه العدد ، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد يقال : إنسان واحد ، وشخص واحد ، وفي العدد كذلك فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة ، فالواحدة بالمعنى الأول داخلة في العدد ، وبالمعنى الثاني علة العدد ، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد ، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على البارئ تعالى معناه : فهو واحد لا كالأحاد أي هذه الوحدات والكثرة منه وجدت ويتسحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة - انتهى ، وهو واحد أيضاً بنفسه لا بالنسبة إلى ثان بوجه من الوجوه ، وقال بعضهم : الواحد يدل على الأزلية والأولية ، لأن الواحد في الأعداد ركنها وإظهار مبدئها ، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع صفاته ونفي أبواب الشرك عنه ، فالأحد بني لنفي ما ذكر معه من العدد ، والواحد اسم لمفتتح العدد ، وقال الإمام بأو حاتم محمد بن مهران الرازي في كتابه الزينة ، قال بعض الحكماء : إنما قيل له سبحانه ( واحد ) لأنه عز وجل لم يزل قبل الخلائق متوحداً بالأزل لا ثاني معه ولا خلق ، ثم أبدع الخق ، فكان الخلق كله مع احتياجه إليه سبحانه محتاجاً بعضه إلى بعض ممسكاً بعضه بعضاً متعادياً ومتضاداً ومتشاكلاً ومزدوجاً ومتصلاً ومنفصلاً ، واستغنى عز وجل عن الخلائق فلم يحتج إلى(8/582)
صفحة رقم 583
شيء فيكون ذلك الشيء مقروناً به لحاجته إليه ولا ناواه شيء فيكون ذلك الشيء ضداً له نصراً به ، فيكون ذلك الضد والقرين له ثانياً ، بل توحد بالغنى عن جميع خلقه لأنه كان قبل كل شيء ، والأولية دلت على الوحدانية ، فالواحد اسم يدل على نظام واحد يعلم باسمه أنه واحد ليس قبله شيء :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
والواحد من العدد في الحساب ليس قبله شيء ، بل هو قبل كل عدد وهو خارج عن العدد ، والواحد كيفما أدرته لم يزد فيه شيء ولم ينقص منه شيء ، تقول : واحد في واحد بواحد - فلم يزد على الواحد شيء ، فإذا دل على أنه محدث الشيء دل على أنه مغني الشيء ، وإذا كان مغني الشيء دل على أنه لا شيء بعده ، فإذا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء فهو المتوحد بالأزل ، يعني فهو الواحد الذي لا نظير له فهو الأحد ، قال : فلذلك قيل : هو واحد وأحد ، وقلنا : إن الأحد هو اسم أكمل - أي أعم - من الواحد ، ألا ترى أنك إذا قلت : فلان لا يقوم له واحد ، جاز في المعنى أن يقوم له اثنان أو ثلاثة فما فوقها ، وإذا قلت : فلا لا يقوم له أحد ، فقد جزمت بأنه لا يقوم له واحد ولا اثنان ولا ما فوقهما ، فصار الأحد أكمل من الواحد ، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد ، تقول : ليس في الدار واحد ، يجوز أن يكون واحداً من الدواب أو الطير أو الوحش أو الإنس ، فكان الواحد يعم الناس وغير الناس ، وإذا قلت : ليس في الدار أحد ، فهو مخصوص للآدميين دون سائرهم ، والأحد ممتنع من الدخول في الضرب وفي العدد وفي القسمة وفي شيء من الحساب ، وهو منفرد بالأحدية ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرها داخل في الحساب ، تقول : واحد واثنان وثلاثة ، فهذا وإن لم يكن من العدد فهو علة العدد ، وداخل في العدد ، لأنك إذا ضربت واحداً في واحد لم يزد ، واثنان هو جذر الحساب ، وتقول في القسمة ، واحد بين اثنين أو ثلاثة ، لكل واحد من الاثنين نصف ، ومن الثلاثة ثلث ، فهذه القسمة ، والأحد ممتنع من هذا ، لا يقال : أحد واثنان ولا أحد في أحد ولا أحد في واحد ولا في اثنين أو ثلاثة ، والواحد وإن لم يتجزأ من الواحد فهو يتجزأ من الاثنين والثلاثة فما فوقهما ، تقول : جزء واحد من جزأين أو ثلاث فما فوقها ، ولا يجوز : جزء أحد من جزأين فمنا فوقهما ، وقد سمى الله نفسه واحداً أحداً ووصف نفسه بالوحدانية والأحدية ، فالواحد نعت يلزمه على الحقيقة لأنه كان قبل ولا ثاني معه ، والثاني خلال الواحدن فهو واحد لاتحاده في القدم ، والخلق اثنان لاقترانه بالحدث لأن الحدث ثان للقدم ، وبه ظهرت التثنية ، فالواحد هو الأحد في ذاته فهو لا شيء قبله ولا من شيء ولا في شيء ولا على شيء ولا لشيء ولا(8/583)
صفحة رقم 584
مع شيء ، فيكون ذاك الشيء ثانياً معه بل هو الواحد منشئ والأشياء كلها له ، وهو المتحد بذاته ممتنع من أن يكون له شيء ثانياً بوجه من الوجوه والخلق كله له ، وإن كان يسمى بالواحد ، أو كانت هذه الصفة قد لزمت جميع الأشياء في وجه فإنها تزول عنها في وجه .
كما قيل : إنسان واحد وفرس واحد وبعير واحد ، وكذلك يقال لسائر الأشياء ، وهذه صفة تلزمها في اللفظ ، والمسمى لا يخلو من معان كثيرة مجتمعة فيه كالجسم والعرض ، وهو واحد مجموع من أشياء متفرقة ، وكل شيء لا يخلو من ازدواد وتضاد وتشاكل وحد وعد ، وهذه الصفات كلها تنفي عنه معنى الأحدية والواحدية ، وفي الواحد عن العرب لغات كثيرة ، يقال : واحد وأحد ووحد ووحيد وحاد وأحاد وموحد وأوحد - وهذا كله راجع إلى معنى الواحد ، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجئ في صفة الله عز وجل إلا الواحد والأحد ، قلت : والوحيد على بعض الإعرابات في المدثر ، قال : وكلها مشتقة من الواحد ، وكأن ذلك مأخوذ من الحد .
كأن الأشياء كلها إليه انتهاؤها وهي محدودة كلها غيره عز وجل وهو محدود ، بل هو غاية المحدودين وغاية الغايات لا غاية له ، والأحد يجئ في الكلام بمعنى الأول وبمعنى الواحد ، فإذا جاء بمعنى الأول وبمعنى الواحد جاز أن يتكلم به في الخبر كقولك : هذا واحد أحد ، والعرب كانت تسمى يوم الأحد في الجاهلية أولاً ، وقولك ( يوم الأحد ) دليل على أنه اليوم الأول من الأسبوع ، والثنين دليل على أنه اليوم الثاني ، وفي التوراة أن الله عز وجل أول ما خلق من الأيام ( يوم الأحد ) قلت : يمكن أن يكون معنى يوم الأحد يوم الله ، أضيف إليه لكونه أول مخلوقاته من الأيام ، فلما أوجد الثاني سمي يوم الاثنين ، لأنه ثاني يوم الأحد ، قال : وضد الواحد اثنان ، وضد الأحد الآخر ، قال الله تعالى :
77 ( ) قال أحدهما أراني أعصر خمراً ( ) 7
[ يوسف : 36 ] ثم قال في ضده ( وقال الآخر ) فهذا دليل على أن معنى قولهم ( يوم الأحد ) اليوم الأول : لأنهم قالوا لما بعده اثنان ، ولم يقولوا : الآخر ، لأن الأحد إذا لم يكن بمعنى الأول فضده الآخر ، وإذا كان الأحد بمعنى الأول جاز الخبر والجحد ، وإذا لم يكون بمعنى الأول وكان بمعنى الواحد جاز في الخبر في الجحد ، قال الله تعالى :
77 ( ) فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ( ) 7
[ الكهف : 19 ] فهذه من الخبر ، فإذا لم يكن أحد بمعنى الأول وبمعنى الواحد لم يجز أن يتكلم به إلا في الجحد ، تقول : ما جاءني أحد ، ولا يجوز : جاءني أحد ، وكلمني أحد ، قال الله تعلاى في معنى الجحد
77 ( ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ( ) 7
[ البلد : 5 ] وأحد يستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال الله تعالى :
77 ( ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ( ) 7
[ الأحزاب : 32 ] وواحد لا يستوي فيه المذكر والمؤمنت حتى يدخل فيه الهاء فيقال ( واحدة ) لا يجوز(8/584)
صفحة رقم 585
( كواحد من النساء ) وأحد يكون بمعنى الجمع ، تقول العرب : يظل أحدنا الأيام لا يأكل ، بمعنى كلنا لا يأكل ، فاحتمل معنى الواحد والجماعة - انتهى ، فالواحد من الأسماء الثبوتية الإضافية ، يكون في أصل اللغة بالنسبة إلى ثان هو نصفه ، وثالث هو ثلثه ، وهكذا هو صفة الله تعالى بمعنى المتوحد في الاتصاف بالألوهية حتى لا يقبلها غيره بوجه ، فلا شريك له ، والأحد من النعوت السلبية ، بل هو مجمعها ، هو أحد في نفسه لا يقبل العدد ولا التركيب بوجه لا بالقسمة ولا بغيرها سواء نظر إليه بالنسبة إلى الغير أو لا ، فهو متحمض للسلب ، فهو وصف راجع إلى نفس الذات بمعنى أنه كامل في ذاته لا يؤثر في مفهومه النظر إلى شيء أصلاً ، والفرد ناظر إلى نفي العدد ، فافترقت الأوصاف الثلاثة وإن كانت متقاربة في المعنى .
وقال الإمام أبو الخير الزويني الشافعي في كتابه ( العروة الوثقى في أصول الدين ) ناقلاً عن بعض من فرق بينه وبين الواحد : إن الأحد اسم لنفي مايذكر معه ، وعن بعضهم أنه الذي لايجوز له التبعيض لا فعلاً ولا وهماً ، فهو أحد بذاته وأحد بصفاته ، وتوحيد الله تعالى لنفسه علمه بأنه واحد ، وإخباره بذلك وتوحيد العبد له علمه بذلك مع إقراره به ، وقال الإمام فخر الدين الرازي في شرح الأسماء الحسنى : فالله سبحانه وتعالى أحد في ذاته ، أحد في صفاته ، أحد في أفعاله ، أحد لا عن أحد غير متجزئ ولا متبعض ، أحد غير مركب ولا مؤلف ، أحد لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئاً ، أحد غني عن كل أحد - انتهى ، وهذا معنى ما نقله المعربون عن ثعلب أنه فرق بينهما بأن واحداً يدخله العدد ، وأحد لا يدخله ذلك ، يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، لأن الأحد خصوصية الله تعالى ، زيد يكون منه حالات ، ونقض عليه بالعدد المعدد المعطوف ، يقال : أحد وعشرون واثنان وعشرون ، ورد بأن أداً فيه بمعنى واحد ، وقال الإمام فخر الدين في شرح الأسماء : إنه اختص به البارئ سبحانه ، أما الواحد فيحصل فيه المشاركة ، ولهذا السبب أرعي من لام التعريف لأنه صار نعتاً لله عز وجل على الخصوص ، فصار معرفة ، وقال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى عن الأحاد هل هي جمع أحد ، فقال : معاذ الله ليس للأحد جمع ، ولا يبعد أن يقال إنه جمع واحد جمع أحد ، فقال : معاذ الله ليس للأحد جمع ، ولا يبعد أن يقال إنه جمع واحد كالأشهاد جمع شاهد - انتهى ، وقال الإقليشي في شرح الأسماء : الأحد هو الذي ليس بمنقسم ولا متجزئ ، فهو على هذا اسم لعين الذات ، فيه سلب الكثرة عن ذاته ، فتقدس بهذا الوصف عن صفات الأجسام القابلة للتجزي والانقسام ، والنقطة والجوهر الفرد عن مثبته - يعني من المتكلمين ، والجوهر البسيط عند مدعيه - يعني من الفلاسفة ، وإن كانت هذه لا تتجزى ولا تنقسم وإنها مخالفة للبارئ تعالى في أحديته ، أما النقطة(8/585)
صفحة رقم 586
فعرض عند بعضهم إذ هي عبارة عن طرف الخط ، وإذا كان الخط عرضاً فالنقطة اولى بالعرضية ، وأما الجوهر الفرد فإنه وإن كان لا ينقسم فهو مقدر بجزء ، وكل ما قدر بجزء فلا يخلو من الأكوان وهو كيفما كان على رأي من أثبته من المتكلمين وإن كانوا في أوصافه متنازعين فلا يخلو من الأعراض ، وأما الجوهر الببسيط عند من أثبته فوجوده عندهم ليس عينه إذا اثنينيته غير ماهيته ، وما هو بهذا الوصف عندهم ففيه اثنينية ، ففارق البارئ سبحانه وتعالى بأحديته هذه الموجودات كما فارق بذاته الأجسام ، فوجوده عن ذاته وليست صفاته تعالى مغايرة لذاته ، وأما الواحد فهو وصف لذاته ، فيه سلب الشريك والنظير عنه ، فافترقا - يعني بأن الأحد ناظر إلى نفس الذات ، والواحد إلى أمر خارج عنها ، وقال البهقي في كتاب الأسماء والصفات : الأحد فيما يدعوه المشركون إلهاً من دونه لا يجوز أن يكون إلهاً إذ كانت إمارات الحدث من التجزي والتناهي قائمة فيه لازمة له ، والبارئ سبحانه وتعالى لا يتجزئ ولا يتناهى ، فقد مر أن الأحد خاص بالله سبحانه وتعالى : إنه لا فرق في إطلاقه عليه سبحانه وتعالى بين تعريفه وتنكيره لأنه معرفة في نفسة ، فطاع اعتراض من قال من الملحدين : الجلالة معرفة وأحد نكرة لا ينعت به .
وعلى تقدير التسليم يجوز جعله بدلاً كما تقدم ولا مانع من إبدال النكرة من المعرفة مثل لنسفعاً بالناصية كاذبة ، قال صاحب كتاب الزينة : وعلى هذه القراءة - أي قراءة التنكير - أجمعت الأمة ، وروى قوم عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق أنه قرأ قل هو الله أحد الله الواحد الأحد الصمد ، وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الأحد اسم أعجز الله العقول عن إدراك آيته في الخلق إثباتاً فلم تستعمله العر بمفرداً قط أي وهو بمعناه الحقيقي لا بمعنى واحد ولا بمعنى أول مثلاً إلا في النفي لما علموا أنه مفصح عن إحاطة جامعة لا يشذ عنها شيء ، وذلك مما تدركه العقول والحواس في النفي ولا تدركه في الإثبات فيقولون : ما في الدار أحد - نفياً لكل ولا يسوغ في عقولهم أن يقولوا : في الدار أو في الوجود أحد - ، إذ لا يعقل عندهم ذات إنسان هي جامعة لكل إنسان ، فلما ورد عن الله اسمه في القرآن تلقاه المؤمنون بالإيمان وأحبت قلوبهم سورة ذكره لجمعها لما لا يحصى من ثناء الرحمن وهي أحد الأنوار الثلاثة في القرآن ، القرآن - نور
77 ( ) ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ( ) 7
[ الشورى : 52 ] ونور نوره سورة ذكر الأحد في ختمه وآية الكرسي في ابتدائه وسورة يس التي هي قبله في محلها منه واحد مبين عن اسم الله الذي هو بكل شيء محيط ، لا يتطرق إليه شرك في حق ولا باطل ، وهو واحد مبين عن اسم الإله الذي لا يصح فيه الشرك حقاً ، وقد يتطرق إليه باطلاً
77 ( ) واتخذوا من دون الله آلهة ( ) 7(8/586)
صفحة رقم 587
[ يس : 74 ] وذلك لأن الواحد يضائف الثاني ، وأحد جامع محيط لم يبق خارج عنه فيضايفه يعني أن مفهومه ناظر إلى كونه سبحانه وتعالى الآن كما كان في الأزل وحده ، فإن الخلق فانٍ فهو في الحقيقة عدم ، وكأنه ما كان لإحاطته به وكونه في قبضته وطوع مشيئته ، فلا خارج يكون مضايفاً له لأنه لا يضايف الشيء إلا مناظر لمساواة أو مباراة بمعاندة أو غيرها ، فالكل بالنسبة إليه عدم
77 ( ) إنك ميت وإنهم ميتون ( ) 7
[ الزمر : 30 ]
77 ( ) كل من عليها فان ( ) 7
[ الرحمن : 26 ] ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] هذا مراده بدليل سابقه ولاحقه فلا شبهة فيه لأهل الوحدة عليهم كالخزي واللعنة ، قال : والواحدة من الواحد هي حد النهاية ، والغاية مما هي وحدته ، وما دون الوحدة التي هي الغاية ثانية ودونه وجماع إحاطات كل ذلك أعلى وأدنى هي الأحدية التي لا يشذ عنها شاذ ولا يخرج عنها خارج ، فمن الأسماء معلوم لخليفة من خليقته بما أتاهم منه كالرحيم والعليم ، ومنها ما يعجز عنه خلافتهم كالأسماء المتقدمة من اسمه المحصي ، ولكن ينال مثلاً من قولهم ، ومنها ما لم ينله العلم ولا أدركت مثله العقول وهو اسمه الأحد ، فالله الأسماء الحسنى : وهو - أي الأحد - أصل لباب الوحدة ، يدل على محض الوحدة ، ألا ترى أنه نافٍ يأتي معه ، إذا قلت : لم يأتني أحد ، انتفى الاثنان ، ولا تقول : جاءني أحد كما تقول جاءني واحد ، لأن واحداً تزول عنه الواحدية بضم ثان إليه بخلاف الأحدية فإنها لازمة الواحد لا يفارقه حكمها بعد ضم الثاني بل لها من جهة محفوظة عليها يظهر ذاك بالأشفاع والأوتار ، فإنك تقول ما جاءني أحد ، فتنتفي الأشفاع كما تنتفي الأوتار ، وهذا دليل على زيادة شرفه فإن الاسم كلما غمضت دلالته وتعذرت معرفته عن الأفهام وعزب عن العقول علمه كان ذلك دليلاً على قربه من الاسم الأعظم - انتهى ، وقال بعض العارفين في كشف معنى الأحد ورتبته : إن الذات الأعظم غيب محض الوحدة ، ألا الأسماء الحسنى : وهو - أي الأحد - أصل لباب الوحدة ، يدل على محض الوحدة ، ألا ترى أنه نافٍ يأتي معه ، إذا قلت : لم يأتين أحد ، انتفى الاثنان ، ولا تقول : جاءني أحد كما تقول جاءني واحد ، لأن واحداً تزول عنه الواحدية بضم ثان إليه بخلاف الأحدية فإناه لازمة الواحد لا يفارقه حكمها بعد ضم الثاني بل لها منه جهة محفوظة عليها يظهر ذاك بالاشفاع والأوتار ، فإنك تقول : ماجاءني أحد ، فتنتفي الأشفاع كما تنتفي الأوتار ، وهذا دليل على زيادة شرفه فإن الاسم كلما غمضت دلالته وتعذرت معرفته عن الأفهام وعزب عن العقول علمه كان ذلك دليلاً على قربه من الاسم الأعظم - انتهى ، وقال بعض العارفين في كشف معنى الأحد ورتبته : إن الذات الأعظم غيب محض والأحد أول تعيناتها ، ولذلك بدئ بالهمزة التي هي أول تعيناتها ، والهمزة لكونها مرقى إلى غيب الألف كان أول اسمها أيضاً غير دال على مسماها .
ثم بعد التعيين بالأحدية الشاملة المستغرقة يتنزل إلى الإلهية ثم منها إلى الواحدية ، ولذلك ابتدئ الواحد بالواو التي هي وصلة إلى ما فيه من الألف الذي هو غيب ، فإن الواحد مرقى إلى فهم الإله ، والإله مرقى إلى تعقل الأحد ، والأحد مرقى إلى التعبد للذات الأقدس الأنزه ، ومن اعتقد أحديته سبحانه وتعالى ، أنتج له ذلك حبه وتعظيمه ، وهو توحيد الألوهية لأن التفرد بذلك يقتضي الكمال والجمال - والله الموفق .(8/587)
صفحة رقم 588
قال الإمام جعفر بن الزبير : لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان ، وأشعر العالم بحالهم من ترددهم بين عدمين
77 ( ) ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ( ) 7
[ العنكبوت : 20 ] فوجودهم منه سبحانه وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من أقوالهم وأفعالهم كل ذلك خلقه واختراعه ، وقد كان سبحانه وتعالى ولا عالم ولا زمان ولا مكان ، وهو الأآن على ما عليه كان ، لا يفتقر إلى أحد ولا يحتاج إلى معين ، ولا يتقيد بالزمان ، ولا يتحيز بالمكان ، فالحمد لله رب العالمين ، أهل الحمد ومستحقه مطلقاً ، له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه المصير ) قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ( هو الموجود الحق ، وكلامه الصدق ،
77 ( ) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب والدار الآخرة خير للذين يتقون ( ) 7
[ العنكبوت : 64 ] فطوبى لمن استوضح آي كتاب الله ، وأتى الأمر من بابه وعرف نفسه ودنياه ، وأجاب داعي الله ولم ير فاعلاً في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين ، ولما كمل مقصود الكتاب ، واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب ، كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ وشر الثقلين - انتهى .
ولما تم البيان لهويته سبحانه وتعالى على هذا الوجه الذي أنهاه بالأحدية المعلمة بالتنزه عن القسمة والنظير ، وكان بيان القرآن بالغاً أقصى نهايات البيان ، وكان الأحد من النعوت المتوغلة في السلب ، وكانت الشركة تقع في التعبير به في النفي وهو بمعناه الحقيقي وتقع فيه بالإثبات والسلب على حد سواء ، أو دلالته على الكمال والإضافة أكمل ، وبناه على الاسم الأعظم الذي هو آخر الأسماء الظاهرة وأول الأسماء الباطنة ، ولم يقع فيه شركة بوجه دفعاً لكل تعنت ، وإشعاراً بأن لم يسم به لم يستحق الألوهية ، وأخلى الجملة عن عاطف لأنها كالنتيجة للأولى والدليل عليها ، فقال مكاشفاً لنفوس المؤمنين وللعلماء معيداً الاسم ولم يضمر لئلا يظن تقيد بحيثية غيب أو غيرها : ( الله ) أي الذي ثبتت إلهيته وأحديته ، لا غيره ) الصمد ( الذي تناهى سؤدده المطلق في كل شيء إلى حد تنقطع دونه الآمال ، فكان بحيث لا يحتاج إلى شيء وكل شيء إليه محتاج ، وتنزه عن الجوفية فلم تدن من جنابه بفعل ولا قوة لأنه تنزه عن القسمة بكل اعتبار مع العظمة التي لا يشببها عظمة ، فكان واحداً بكل اعتبار ، وذلك هو مفهوم الأحدية عبارة وإشارة ، فكان مصموداً إليه في الحوائج أي مقصوداً لأجلها ، فهو الموصوف بهذا الاسم على الإطلاق ، وبكل اعتبار ، فكان موجداً للعالم لأن العالم مركب بدليل المشاهدة فكان ممكناً فكان محدثه واجباً قديماً ، نفياً للدور والتسلسل(8/588)
صفحة رقم 589
المحالين ، وخلقه له بالقدرة والاختيار لأنه لو كان بالطبع والإيجاب لكان وجوده مع وجوده لأن العلة لا تنفك عن المعلول ، فيلزم من قدم البارئ عز وجل قدم العالم ، ومن حدوث العالم حدوث البارئ جل وعز ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، وقصر الصمدية عليه لأن اشتداد الألف لحاجة الشيء إلى غيره ربما كان موجباً لخفاء اختصاصه به ، ولم يقصر الأحدية إما للتنبيه على أن ذلك لشدة ظهوره غني عن التأكيد ، وإما استئلافاً لهم لئلا ينفروا قبل سماع تمام السورة على أنه بظهور قصر الصمدية التي أحد معنييها لازم الأحدية ظهر الاختصاص بالأحدية ، قال العلماء رحمهم الله تعالى : والصمد من صمد إليه - إذا قصده ، وهو كالأحد ، بني على هذا الوزن لأنه لا تلحقه المضارعة ولا تدن منه المشابهة لأنه اسم خاص فهو السيد المصمود إليه ، وهو أيضاً الذي لا جوف له ولا رخاوة بوجه فيه ، لأن الأجواف وعاء ، وكل وعاء محتاج إلى موعيه ، يقال : شيء مصمد ، أي صلب ، وحجر صمد : أملس لا يقبل الغبار ولا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء ، قال ابن قتيبة : وهو على هذا الدال فيه مبدله من التاء وهو المصمت ، وهو أيضاً العالي الذي تناهى علوه ، تقول العرب لام أشرف من الأرض : صمد - بإسكان الميم ، وبناء صمد أي معلى ، فهو على التفسير الأولى من الصافات الإضافية بمعنى أنه سيد لكل موجود ، والكل محتاجون إليه في ابتداء إيجادهم وفي تربيتهم ، فهم يصمدون إليه في الحوائج ويقصدون إليه في جميع الرغائب ، وهو غني على الإطلاق ، وذلك هو اتصافه بصفات الإلهية ، قال الإقليشي فعلى هذا أي أنه الذي يلجأ إليه ويعتمد عليه لتناهي سؤدده - يتشعب من صفة الصمد صفات السؤدد كلها من الجود ، والحلم وغير ذلك وإذا قلنا : إن الصمد العالي تشعبت منه صفات التعالي كلها من العزة والقهر والعلو ونحوها - انتهى ، وقد روى البيهقي رحمة الله تعالى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ( الصمد ) قال : هو السيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغني الذي كمل في غناه ، والجبار الذي كمل يف جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكم الذي قد كمل في حكمه ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل ، هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفوء ، وليس كمثله شيء ، فسبحان الله الواحد القهار وقال أبو العباس بن تيمية الحنبلي في كتابه ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) : أجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب سبحانه وتعالى بائن منمخلوقاته ، يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل بوصف من صفات الكمال دون صفات(8/589)
صفحة رقم 590
النقص ، ونعلم أنه ليس كمثله شيء ولا كفوء له في شيء من صفات الكمال كما قال الله تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد ( - إلى آخرها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد إلى آخر ما مضى عنه ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره : هو الذي لا جوف له ، والأحد الذي لا نظير له .
فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه ، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له ، وقال الحرالي : الصمد - يعني بالسكون : - التوجه بالحاجات إلى مليّ بقضائها لا يحتاد إلى سواه ، فلذلك يكون الصمد سيداً لا يساد ، السيد الله - انتهى ، وعلى التفسير الثاني : هو من النعوت السلبية ، فهو دال على نفي الماهية التي نعنت بها فرعون لاقتضائها المقومات المستلزمة للحاجة إلى ما به التقويم ، وعلى إثبات الهوية المنزهة عن كل شائبة نقص ، فإن كل ما له ماهية كان له جوف وباطن ، وهو تلك الماهية ، وهو ما لا باطن له ، وهو موجود فلا جهة ولا اعتبار في ذاته إلا الوجود ، فهو واجب الوجود غير قابل للعدم ، وقد علم بهذا أنه جامع لما ذكر فيما قبله ، فإن هذا التفسير الثاني يتشعب منه من الأسماء ما ينظر إلى نفي التركيب كالأحد ونحوه وهذان التفسيران الأول والثاني جامعان لجميع ما فسر به ولما عسى أن يقال فيه سبحانه من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، فمن كان مصموداً إليه في جميع الحاجات ومتعالياً عن كل سمت حدث وشائبة نقص كان موجداً لكل ما يريد من نفع وضر ونافع وضار قادراً على حفظ ما يريد ، وكان معلوماً كالشمس أنه لا شريك له ، وأنه هو وحده المستحق للعبادة لاحتياج الكل إليه الاحتياج المطلق وغناه عنهم الغنى المطلق ، وتفرده بصفات الكمال والانقطاع عن قرين وإلى الصمدانية ينتهي التوجه وهو الإقبال بالكلية ، وهي ترد على الفلاسفة القائلين بتدبير القول ، والصابية القائلين بتدبير النجوم ، وعلى غيرهم من كل من ادعى تدبيراً لغير الله سبحانه وتعالى ، ومن اعتقد صمديته المقتضية لكمال الذات والصفات وشمول التدبير ، أنتج له كمال التفويض والتوكل وهو توحيد الربوبية ، وهذه الأسماء الأربعة مشيرة إلى مقامات السائرين ومرامات الحائرين والجائرين ، فالمقربون نظروا إلى الأشياء فوجدوا كل ما سواه سبحانه وتعالى معدوماً بالذات ، فكان ذكرهم ( هو ) وأصحاب اليمين نظروا إلى وجود الممكنات فعينوا مرادهم وميزوا مذكورهم بالجلالة ، وأصحاب الشمال جوزوا الكثرة في الإله فاحتاجوا في تذكيرهم إلى الوصف بالأحدية والصمدية وهي رادة على أهل الاتحاد أعظم رد ، فإنهم يقولون : إن الإله هو هذا العالم ، وهو منقسم بالحسن فضلاً عما عداه ومحتاج أشد احتياج .
ولما انتهى بيان حقيقته سبحانه وتعالى ، وأنه غير مركب أصلاً ، وبين سبحانه(8/590)
صفحة رقم 591
بصمديته المستلزمة لوحدانيته أن الكل مستند إليه ومحتاج إليه ، وأنه المعطي لوجود جميع الموجودات ، والمفيض للجود على كل الماهيات فلا يجانس شيئاً ولا يجانسه شيء ، ولا يكون له نظير في شيء من ذلك .
وكان ربما تعلق بوهم واهم أن تولد غيره عنه يكون من تمام سؤدده المعبر به عن قدرته ، بين أن ذلك محال لاقتضائه الحاجة مما لا تعلق له بالقدرة لأن القدرة من شأنها أنها لا تتعلق بالمحال ، وهذا محال ، لأنه سبحانه صمد ، فكان ذاك بياناً للصمدية في كلا معنييها ، فقال من غير عاطف دالاًّ على انتفاء الجوف الذي هو أحد مدلولي ( صمد ) مكاشفاً للعقلاء شارحاً لأنه لا يساويه شيء من نوع يتولد عنه ولا جنس يولد هو عنه ، ولا غير ذلك يوازيه في وجود ولا غيره ) لم يلد ) أي يصح ولم ينبغ بوجه من الوجوه أن يقع تولد الغير عنه مرة من المرات ، فكيف بما فوقها لأن ذلك مستلزم للجوف وهو صمد لا جوف له ، لأن الجوف من صفات النفس المستلزم للحاجة وهو مستغن بدوامه في أبديته عمن يخلفه أو يعينه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، فهو رد على من قال : الملائكة بنات الله أو عزير أو المسيح أو غيره .
ولما بين أنه لا فصل له ، ظهر أنه لا جنس له ، فدل عليه بقوله : ( ولم يولد ( لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول ، فهو قديم لا أول له بل هو الأول الذي لم يسبقه عدم ، أن الولادة لا تكون ولا تتشخص إلا بواسطة المادة وعلاقتها ، وكل ما كان مادياً أو كان له علاقة بالمادة ، كان متولداً عن غيره فكان لا يصح أن يتولد عنه شيء لأنه لا يصح أن يكون هو متولداً عن غيره لأنه لا ماهية له ولا اعتبار لوجوده سوى أنه هو ، فهويته لذاته ، ومن كانت هويته لذاته لم يصح بوجه أن يتولد عن غيره لأنه لو تولد عن غيره لم يكن هو هو لذاته ، ولا يكون أحداً حقيقاً ولا صمداً ، فينتفي من أصله ، ولا يكون له من ذاته إلا العدم ، فلا يصح أن يتولد عنه غيره ، لأنه لم يصح أن يتولد هو عن غيره ، ومن كان كذلك لم يكن له مثل ، فلا يصح بوجه أن يساويه شيء ليصح أن يقوم مقامه فيما بين ما انتفى في الأول والآخر ، فدل على ذلك إتماماً لشرح حقيقته المعبر عنها بهو بقوله : ( ولم يكن ) أي لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير ) له ) أي خاصة ) كفواً ) أي مثلاً ومساوياً ) أحد ( على الإطلاق ، أي لا يساويه في قوة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل ، فيكون وجوده متولداً عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأم ، والفصل الذي يكون كالأب ، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه أن يكون في(8/591)
صفحة رقم 592
شيء من الولادة ، لأن وجوب وجوده لذاته ، فانتفى أن يساويه شيء في قوة وجوده ، فانتفى قطعاً أن يساويه أحد في شيء من قوة أفعاله ، فعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلها لأن الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسم الأمثال ، فهي كالجملة الواحدة ، وقدم الظرف في الثالثة لأن المقصود الأعظم نفي المكافأة عن الذات الأعظم ، فكان أهم ( وكفواً ) حال من أحد .
ويجوز أن يكون ( كان ) ناقصة ويكون ( كفواً ) خبرها ، وسوغ خبريته تخصيصه ب ( له ) كما قالوا في ( إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله ) وقد وصح أن هذه السورة أعظم مبين للذات الأقسد بترتيب لا يتصور في العقل أن يكون شيء يساويه ، ولكما لا تقع في الوهم أن يكون شيء يساويها أو يساوي شيئاً منها ، فأثبت أولاً حقيقته المحضة وهويته بأنه هو ، لا اسم لتلك الحقيقة من حيث هي إلا ذلك ، فعلم أنه واجب الوجود لذاته لا لشيء آخر أصلاً ، ثم عقب ذلك بياناً له بذكر الإلهية التي هي اقرب اللوازم لتلك الحقيقة وأشدها تعريفاً .
ولما اقتضت الإلهية الوحدة لأنها عبارة عن الاستغناء المطلق واحتياج الغير إليه الاحتياج المطلق ، دل عليها بالأحد ، ودل على تحقيق معنى الإلهية والواحدة معاً بالصمدية لما لها من المعنيين : وجوب الوجود بعدم الجوف وجوداً أو تقديراً والسيادة المفيضة لكل وجود على كل موجود وجوداً لا يشبه وجوده سبحانه :
( وأين الثريا من يد المتناول ) ( الأمر أعظم من مقالة قائل )
وبين المعنيين كليهما بعدم صحة التوليد منه وله وعدم المساوي ، فمن أول السورة إلى آخر الأسماء في بيان حقيقته سبحانه وتعالى ولوازمها الأقرب فالأقرب ووحدتها بكل اعتبار ، ومن ثم إلى آخرها في بيان أن لا مساوي له لأنه لا جنس له ولا نوع حتى يكون هو متولداً عن شيء أو يكون متولداً عنه شيء ، أو يكون شيء موازياً له في الوجود ، وبهذا القدر حصل تمام معرفة ذاته ، وأنه لا يساويه شيء في قوة وجوده فلا يساويه في تمام أفعاله بدلالة شاهد الوجود الذي كشف عنه والشهود بنصر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كان يدعو أبا لهب وجميع الكافرين الشانئين وحده وهم ملء الأرض ويخبرهم مع تحاملهم كلهم عليه أنهم مغلبون ، وأنه اتاهم بالذبح لأن لمن أرسله الإحاطة الكاملة بجميع الكمال ، وقد كان الأمر كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقد صدقت مقالاته ، فثبتت إلى الخلق كافة رسالاته ، وثبت مضمون جميع السورة بما ثبت من هذه الأدلة المشهورة ، والبراهين القاطعة المنصورة ، وقد ثبت أنه صمد بما دل على أحد معنييه الذي هو انتفاء الجوفية بعدم التولد ، وعلى المعنى الآخر الذي هو بلوغ المنتهى من السيادة بعدم المكافئ فبان أنه هو لذاته فلا إله غيره ، فانطبق آخرها على أولها ، والتحم أيّ التحام مفصلها(8/592)
صفحة رقم 593
بموصلها ، فعلم أنه هو هو لا غيره بزيادة أنه الأحد ولا أحد حقاً غيره ، ومن تحقق آخرها أقبل بكليته إليه سبحانه ، فلم يلتفت إلى غيره لأن الكل في قبضته ، وقد نقلت في كتابي مصاعد النظر عن الإحياء للإمام الغزالي رحمة الله تعالى عليه في شيء من أسرار هذه السورة كلاماً هو في غاية النفاسة .
وروى الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن المشركين قالوا : يا محد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : قل هو الله أحد إلى آخرها ، قال : لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث ، ولم يكن له كفواً أحد - انتهى .
ومن كان كذلك فهو الجامع للأسماء الحسنى والصفات العلى كلها ، وعلم أن حاصلها تنزيه المعبود عن أن يكون له مجانس ، أو يكون له مكافئ ، والرد على كل من يخالف في شيء من ذلك ، وأعظم مقاصد آل عمران المناظرة لها في رد المقطع على المطلع ، لا سيما من ادعى أن عيسى عليه الصلاة والسلام إله أو أنه ولد له سبحانه وتعالى وكذا غيره الدلالةُ على بطلان مذهب من ادعاه إلها وعلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من عبيده أوجده على ما أراد كما أوجد من هو أغرب حالاً منه وإبطال قول من ادعى فيه غير ذلك .
ولما عرفت هذه السورة حقيقة الذات أتم تعريف ، وكان الغرض الأقصى من طلب العلوم بأسرها معرفة ذاته سبحانه وتعالى وصفاته وكيفية صدور الأفعال عنه وكان القرآن العظيم كفيلاً بجميع هذه العلوم ، وكانت هذه السورة منه قد تكفلت بجميع ما يتعلق بالبحث عن الذات على سبيل التعريض والإيماء ، وكانت معادلة لثلث القرآن وهي ثلث أيضاً باعتبار آخر وهو أن الدين اعتقاد ، وفعل لساني يترجم عن الإعتقاد ، وفعل يصحح ذلك ، وهي وافية بأمر الإعتقاد بالوحدانية الذي هو رأس الإعتقاد ، وباعتبار أن مقاصده كلها محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ، وهذه السورة على وجازتها قد استملت على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها ، ولأجل أن هذا هو المقصود بالذات الذي يتبعه جميع المقاصد عدلت في بعض الأقوال بجميع القرآن ، وحاصل شرح هذه السورة العظمة أنه سبحانه وتعالى دل على الذات الأقدس بالهوية ، وعبر عنها بالضمير إشارة إلى نفي الماهية التي غلظ أو غالط فيها الكفور الأعظم فرعون - لعنة الله عليه وعلى أتباعه أهل الإلحاد ، وأنصاره وأشياعه من أهل الاتحاد ، ودل على ذلك بالاسم الأعظم المجمع عليه ودل عليه بالوحدة الجامعة للغنى ، النافية للكثرة الموجبة لحاجة ، ودل عليه بالصمدية النافية للجوفية المثبتة للسيادة الخفية ، ودل عل أول معنييها بانتفاء الولادة منه وله ، الدالان على نفي الجنس للقوم(8/593)
صفحة رقم 594
والفصل المقسم ، ودل على الثاني بعدم المكافئ ، ودل على هذا العدم بأفعاله العظيمة المشاهدة التي أشار قطعاص ترتيب السور بما انتهى إليه وضع هذه السورة في هذا الموضع إلى استحضارها .
وتأمل ما كان منها من تربية هذا الدين بنصر نبيه الذي أرسله ( صلى الله عليه وسلم ) لإقامته ، وسلط الكافرين - على أذاه ، وجعل أعظمهم له أذى أقربهم إليه نسباً عمه أبا لهب الذي كان يتبعه في تلك المشاهد والقبائل ، ويلزمه في تلك المواسم والمعاهد والمحافل ، يصرح بتكذيبه كلما دعى الناس إلى الحق ، ويواجه بما هو أشد الأشياء على النفس كراهة وأشق ، فكانت تلك الشهرة عين الرفة والنصرة ، لأن الشيء ، إذا خرج عن حده انقلب غلى ضده ، فإنه إذا تناهت شهرته ثم بان بطلانه أو صحته رجعت شهرته بكونه باطلاً أو صحيحاً أعظم منها لو لم يتقدمها شهرة بغير ذلك ، فانقلبت النصرة ، وعظمت الكثرة ، فجلت المعاونة ، وزالت المباينة ، وحصل الوفاق ، وزال الشقاق ، فدل هذا الفعل الأعظم من صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو وحده ، وكذب المعاندين وهم من لا يحصيهم إلا الله في كل ما قال ، وجميع ما قالوا على عزته سبحانه وتعالى بكونه نصر عبده على ذلك الوجه الخارق للعادة وعلى حكمته بما سلطهم به عليه حتى أسرعت الشهرة وعمت النصرة ، فعلم بتلك المشاهدة أنه العزيز الحكيم كما دلت عليه سورة التوحيد المناظرة لهذه في رد المقطع على المطلع ، وهي آل عمران المناظرة لهذه في الدلالة على التوحيد والمحاججة لمن ادعى ان له صاحبة وولد ، فعلم قطعاً أنه لا كفوء له ، فعلم أنه لا يصح أصلاص أن يلد ولا أن يولد ، فبطلت قطعاً دعوى إلهية عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ممن ادعى فيه الولدية بالأحدية لما تقتضيه الولادة من المادة المقتضية للكثرة ، الموجبة للحاجة ، وعظم البيان بما دل عليه الاسم الأعظم من الإجماع بما تقتضي الإلهية ، ولا إجماع على غيره ، وجل الأمر وانقطع النزاع بما دل عليه الضمير من وجوب الوجود النافي لما سواه من كل موجود - والله الهادي ، فلقد أبانت السورة على أعظم الوجوه أن مرسله ( صلى الله عليه وسلم ) أجل موجود وأشرف حقيقة وأنفس معلوم ، وأعظمذات ، وذلك يستلزم نفي كل ما لا ينبغي ، وحصول كل ما ينبغي استلزاماً لا يقبل الانفكاك ، كالفردية في الوتر ، والزوجية في الشفع ، وتفصيل ذلك بعشرة أشياء تبسط على كلمات السورة على الترتيب : الأول أنه تعالى له الوجود الذي ما مثله فليس هو كالممكنات المسبوقة بالعدم والمنقطعة بالانعدام ، والمنصرمة في الدوام ، بل هو أزلي لا أول له أبدي لا آخر له ، قيوم لا انصرام له ، الثاني أن له السبوحية الآبية على نفع كل نقص وعيب ، الثالث أن له القدوسية المشتملة على الاتصاف بكل كمال ، من جلال وجمال وتعال ، الرابع أن له العظمة والجلالة عن أن(8/594)
صفحة رقم 595
يكون عرضاً أو كالأعراض ، أو جوهراً أو كالجواهر ، أو جمساً أو كالأجسام ، الخامس أن له العلو عن أن يحل في شيء أو يحل فيه شيء أو يتحد بشيء أو يتحد به شيء ، السادس أنه تعالى له الغنى عن الموجد كالرب والموجب كالأب والمفيد أي لشيء من الكمالات ، ، السابع أنه تعالى له الوحدانية التي ليس فيها شبيه أي في صفاته ، ولا مثيل أي في نوع ولا نسب أي كالقرابة ، الثامن أنه تعالى له الفردانية التي لا يصح فيها شرك ، لا في الملك - بكسر الميم ، ولا في الملك - بضمها ، ولا في التدبير ، ولا في التأثير ، التاسع أنه تعالى له الكبرياء المنافية لفوت كمال أو كمال كمال ، العاشر أنه تعالى له العزة المنافية لأن يكون له ضد - وهو المفسد لما يفعله ، أو ند - وهو الموجد لمثل ما يوجده ، وتنزل هذه العشرة على السورة واضح لمن تأمل الكلام وتدبره ، وابتدأ سبحانه السورة بالضمير قبل الظاهر بعد التصريح بالنصر والفتح وخسارة أهل الكفر بخسارة أبي لهب الذي هو أعلاهم واعزهم إشارة إلى أن من صحح باطنه باسم الله تعالى نصر وفتح له - كما يشير إليه تعقيب الأمر في آخر سورة البقرة بالرغبة إليه في النصر على الكافرين بقوله
77 ( ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ) 7
[ البقرة : 255 ] فإنه ترجمة أول هذه السورة التالية للنصر والكافرون سواء بالضمير والاسم الأعظم والتوحيد الأعظم المقرون بدليل وهو القيومية ، فقد بين آخر السورة الذي هو نتيجتها ورد مقطعها على مطلعها أنه أحد حاضر في كل زمن لا يغيب أصلاً ، ولا أحد يكافئه أو يشابهه ، لأنه لم يتولد عنه شيء ولا تولد هو عن شيء ، لأنه صمد لا جوف له مطلقاً لا في ذاته بالفعل ، ولا بيحث يجوّزه الوهم لأنه أحد محيط بكل شيء لأنه هو الله المحيط بجميع صفات الكمال والجمال ، وهو غيب محض لأنه لا يقوى غيره على معرفته إلا باللوازم من الصفات المعقولة تقريباً ، والأفعال المشاهدة آثارها ، وهو هو الذي هو - مع كونه غيب الغيب - مستحضر في كل لب ، لا يظهر بغيب عن أحد بما له من الآثار ، التي ملأت الأقطار ، ولذلك استحق التسمية ب ( هو ) ولم يستحقها غيره لحضوره لكل قلب وغيبة غيره بكل اعتبار ، لأنه ليس للغير من ذاته إلا الغيبة بالعدم ، وأما هو فهو الواجب وجوده ، وهو الذي أوجد غيره ، وركز في كل قطرة ذكره ، لما له سبحانه من الكمال ، ولغيره من شدة الحاجة إليه والاحتلال ، فكان سبوحاً قدوساً جامعاً بين الوصفين لأنه ممدوح بالفضائل والمحاسن ، التقديس مضمر في صريح التسبيح ، والتسبيح مضمر في صريح التقديس ، ومن ثم إلى آخرها صريح التسبيه والامران راجعان إلى إفراده وتوحيده ونفي التشيك والتشبيه عنه ، وذلك هو الجمع بين الإثبات والنفي على تهييج(8/595)
صفحة رقم 596
ما وقع في كلمة الإخلاص ليعلم أن الإثبات لا يكمل إلا بصيانته عن كل ما يتضمن مخالفته ، لكن كلمة الإخلاص تركبت من نفي ثم إثبات ، وسورة الإخلاص من إثبات ثم نفي ، وآخر الإثبات الصمد ، فهو جامع بين الأمرين فإنه جمع كل صفة لا يتم الخلق إلا بها ( لأن أحد مدلوليه ) في اللغة : السيد الذي يرجع إليه ، فاقتضى ذلك إثبات صفات الكال التي بها يتم اتساق الأفعال ونفي كل صفة ينزه عنها ، لأن ثاني مدلوليه في اللغة : الذي لا جوف له ، وذلك يتضمن نفي النهاية ونفي الحد والجهة والجسم والجوهر ، لأن من اتصف بشيء من ذلك لم يستحل اتصافه بالتركيب ووجود الجوف ، فقررت هذه الكلمة وجوب المعرفة بالنفي والثبات ليميز بين الحق وبالطل ، لأن من لم يتحقق صفاء الباطل لم يتقرر له المعرفة بالحق ، ولذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين يسألون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحق لصحة الإعتقاد والمعرفة ، وعن الباطل والشر للتمكن من مجانبته حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه ( وكان الناس سألون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ) وذلك لأن من لم يعرف الشر يوشك أن يقع فيه ، وأن ما خالفت كلمة الشهادة في الترتيب لأن تلك أتت للإدخال في الدين ، والأليق بمن كان خارجاً أو ضعيفاً - وهم الأكثر - نفي الباطل أولاً ومحوه من لوح القلب ليأتي إثبات الحق فيه وهو فرغ فيقر فيه ، فلما نفت أولاً كل غير كان سبباً للمجانبة والبعد عن حضرات القدس ، ثم أثبتت الذات الأقدس والمسمى الأشرف الأنفس ، أكدت سورة الإخلاص لأنها للكمل الذين تخلقوا بما قبلها من السور ، هذا الإثبات عند استحضاره ، وشهود الجميل من آثاره ، ثم ختمت بنفي الأغيار ، ليكون بذلك تجلى ختام الأعمار ، عند الرجوع إلى الآثار ، بالعرض على الواحد القهار ، وقد بين بهذه السورة أنه طريق بين الخلق والأمر ، فلما فتح الخلق بمتشابه خلق آدم عليه الصلاة والسلام لأن المتشابه ما خرج عن أشكاله ، وختمت أقسامه الأربعة بمتشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام - كما تقدم عند
77 ( ) إن الله اصطفى ( ) 7
[ آل عمران : 33 ] في آل عمران المناظرة لهذه السورة ، لذلك فتح الأمر بعد أم الكتاب بمتشابهاً من جميع وجوهه ، لا يمكن أحداً أن يقول فيه قولاً مقطوعاً به أو مظنوناً ظناً راجحاً ، ومتشابه آخره لا يقنع فيه بدون القطع في أوله فيما كلفنا أمره في هذه الدار وهو أوصل الدين ، ووراء ذلك ما لا يدركه أحد من الأبرار ولا المقربين ، (8/596)
صفحة رقم 597
وهو الذات الأقدس ، فمن رجع متشابه الخلق فوق منزلته كفر ، ومن وضع متشابه الأمر عن رتبته العلية كفر ، وجعل آخره أجلى من أوله من بعض الوجوه إشارة إلى ترقية الموفق في أمره ، وأنه في الآخرة يكون أجلى انكشافاً وأوضح معرفة ، وتلاه بالتعوذ إشارة إلى سؤال الاعتصام في شأنه ، والحفظ التام في مضمار عرفانه ، وكرر بالتثنية لأجل الإحاطة بأمري الظاهر والباطن ، والتأكيد تنبيهاً على صعوبة المرام ، وخطر المقام .
ولما افتتح القرآن بسورة مشتملة على جميع معانيه ، ختم بسورتين يدخل معناهما ، وهو التعوذ ، ويندب ذكره ي جميع أجزائه ومبانيه ، وفي ذلك لطيفة أخرى عظيمة جداً ، وهي أنه لما علم بالإخلاص تمام العلم وظهور الدين على هذا الوجه الأعظم ، فحصل بذلك غاية السرور ، وكان التمام في هذه الدار مؤذناً بالنقصان ، جاءت المعوذتان لدفع شر ذلك ، وقد انقضى الكلام على ما يسره الله تعالى من كنوز معاني سورة الإخلاص بحسب التركيب والنظم والترتيب ، وبيقي الكلام على ما فتح الله به من أسرارها في الدلالة على مقصود السورة بالنظر إلى كلماتها مفردة ظواهر وضمائر ثم حروفها ، ففيها من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، التي أسس عليها بنيانها ، وانبنت عليها أركانها ، خمسة هي العشر من كلمات آية الكرسي كما ان الصلوات المكتوبات خمس وهي خمسون في أم الكتاب ( الحسنة بعشر أمثالها ) فمن لطائف إشاراتها أنها كدعائم الدين الخمس ، فالضمير مشير إلى تصحيح ضمير القلب بالإيمان ، وصحة القصد والإذعان ، حتى يقوم بناء العبادة ، والاسم الأعظم إشارة إلى أن ذلك التصحيح لأجل التأله بالخضوع للإله الحق باستحضار اسمه الأعظم كما أن الصلاة أعمظم عبادات البدن ، هذا للتهيئة في الدخول في العبادة ، ثم إن الدخول فيها شرطه أحدية التوجه تحقيقاً للصدق في صحة العزم عليها كما أن الزكاة تكون مصدقة للإيمان ، وذلك التوحيد في التوحيد يكون لأجل الصدق في التأليه بما يشير إليه إعادة الاسم الأعظم كما هو شأن الحاج الأشعث الأغبر المتجرد ، ويكون ذلك التأله باستحضار افتقار العابد إلى المعبود وتداعيه إلى الهلاك بكل اعتبار لأنه أجوف ، وغنى المعبود على الإطلاق بما يشير إليه الاسم الإضافي الصمد كما هو شأن الصائم في عبادته ، واستحضاره لحقارته وشدة حاجته ، ولجلالة مولاه ، وتعاليه في غناه ، فمن صحت له هذه الدعائم الخمس كانت عبادته في الذروة العليا من القبول ، وإلا كان لها اسم الحصول من غير كثير محصول - والله الموفق ، وكونها خمسة عشرة كلمة إشارة إلى أنهم في السنة الخامسة عشرة من النبوة يعلمون - بغلبة قهره وسطوة سلطانه وتأييده للمستضعفين من حزبه ، (8/597)
صفحة رقم 598
وتقويته لهم في وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة - أن مرسله لا كفوء له بعلم شهودي لا يقدر أحد على تكذيبه ودفعه ، فيقوم به دليل الإخلاص ، ولات حين مناص ، وإذا ضممت إليها الضمير الواجب الاستتار في ) قل ( كانت ست عشرة إشارة إلى أنه في السنة السادسة عشرة من النبوة وهي الثالثة من الهجرة في غزوة أحد يكون الظاهر فيها اسمه تعالى الباطن ، فإنه كان فيها من المصيبة ما هو مذكرو في السير تفصيله من قتل سبعين من الصحابه رضي الله تعالى عنهم منهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأسد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك بعد أن ظهر فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول النهار ، ظهوراً بيناً حتى كانت هزيمة الكفار ، لا شك فيها - كما قال الله تعالى
77 ( ) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم ( ) 7
[ آل عمران : 152 ] - الآيات ، ثم أخفى الله ذلك في إزالة الكفار في أثناء النهار ، فهزم الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى لم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم إلا نفر يسير جداً أكثر ما ورد في عددهم أنهم يقاربون الأربعين وهو ثابت بهم - ( صلى الله عليه وسلم ) - في نحر العدو وهم نحو من ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس يحاولهم ويصاولهم يشتملون عليه مرة ويفترقون عنه أخرى ليعلم أن الناصر إنما هو الله سبحانه وتعالى وحده ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في موطن من المواطن ما نصر في غزوة أحد ، وقال أبو سفيان ابن حرب يوم إسلامه في عام الفتح للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما قاتلتك من مرة إلا ظهرت عليّ ، أظن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً .
ولكن الذي ظهر منها ما كان في آخر النهار من ظهور الكفار ، فأخلى الله تعالى نصره لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فيها باسمه الباطن إلا على أرباب البصائر ، فما علم ذلك إلا بوجه خفي جداً مناسبة للضمير الباطن الواجب الاستتار ، وإذا ضممت إلى ذلك الضميرين المستترين الجائزي الظهور ، فكانت الكلمات بذلك ثماني عشرة ، كان إشارة إلى أن في السنة الثامنة عشرة من النبوة - وهي الخامسة من الهجرة دلالة عظيمة على أنه لا كفوء له يوجب الإخلاص على وجه هو أجلى مما كان في غزوة أحد وإن كان فيه نوع خفاء ، وذلك في غزوة الأحزاب وبني قريظة حين رد الله الكفار بغيظهم لم ينالوا خيراً بعد أن كانوا في عشرة آلاف مقاتل غير بني قريظة ، يقولون : إنه لا غالب لهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً قاهراً لهم بريح وجنود لم يروها ، وأمكن من بني قريظة ، وكان الله قوياً عزيزاً ، وذلك في شوال وذي القعدة سنة خمسة من الهجرة ، فإذا ضممت إليها الضمير الآخر البارز بالفعل في ( له ) فكانت تسع عشرة ، كانت إشارة إلى مثل ذلك على وجه أجلى في عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، فإنه كان فيها الفتح السببي الذي أنزل الله سبحانه(8/598)
صفحة رقم 599
وتعالى فيه سورة الفتح ، وكان فيها من لدلائل الوحدانية أمور كثيرة توجب الإخلاص ، وإن كان في ذلك نوع خفاء مناسب للضمير وإن كان بارزاً بالفعل ، فقد خفي على كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى نبههم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا ضممت إليها كلمات البسملة الأربع كانت ثلاثاً وعشرين توازي السنة العاشرة من الهجرة ، وهي الثالثة والعشرون من النبوة ، وفيها كان استقرار الفتح الأكبر والإخلاص الأعظم بنفي الشرك وأهله من جزيرة العرب لحجة الوداع التي قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيها : ( إن الشيطان - قد أيس أن يعبد في أرض العرب ) ولذلك توفى الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عقبها بعد إظهار الدين وإذلال الكافرين وإتمام النعمة ، وقام سبحانه بنصر الأمة وحده بعد أن مهد أسباب النصر بنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) حتى علم قطعاً في الردة وأحوالها ، أنه الإله وحده الذي لا كفوء له لحفظ الدين في حياة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وبعده ، وكذا فيما بعد ذلك من فتوح البلاد ، وإذلال الملوك العتاة الشداد ، مع ما لهم من الكثرة والقوة بالأموال والأجناد ، والتمكن العظيم في البلاد ، وجعل النصر عليهم بأهل الضعف والقلة آية في آية ، ودلالة بالغة في ظهروها الغاية ، وإذا سلكت طريقاً آخر في الترتيب في الكلمات الخطية والاصطلاحية دلّك على مثل ذلك بطريق آخر ، وذلك أن تضم إلى الكمات الخمس عشرة كلمات البسملة الأربع لتكون تسع عشرة فنوازي سنة ست من الهجرة ، وذلك سنة عمرة الحديبية التي سماها الله تعالى فتحاً ، وأنزل فيها سورة الفتح لكونها كانت سبب الفتح الذي هو عمود الإخلاص ، فإذا ضممت إليها الضمير المستتر كانت عشرين ، فوازت سنه سبع التي كانت فيها عمرة القضاء ، فأظهر الله فيها الإخلاص على عبده ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهر المشركين في البلد الذي كان بعثه منه وفيه على وجه ظهر فيه أنه لا كفوء له ، ولكن كان ذلك بوجه خفي ، فإذا ضممت إليها الضميرين المستترين الجائزي البروز كات اثنتين وعشرين موازية لسنة تسع سنة الوفود ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة ، والوحدة لا تقتضي الإلهية ، وعبر به دون الواحد لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه ، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته من التشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالوحدانية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي ينقسم انقساماً عقلياً أولى مما ينقسم بالحسن ، والذي(8/599)
صفحة رقم 600
ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل ، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الفعل الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها وإلا لم يكن بالغاً أقصى المرام ، والأحد جامع لذلك دال عل الواحدية من جميع الوجوه ، وأنه لا كثرة هناك أصلاً ، لا معنية من المقولات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة ، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام ، وذلك لكونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكار والألوان وسائر الوجوه وجوه التشبيه التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبه شيء أو يساويه شيء لأن كل ما كانت هويته أن تحصل من اجتماع آخر كانت هويته موقوفة على تلك الأجزاء فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره ، فلذا كان منزهاً عن الكثرة بكل اعتبار ومتصفاً بالوحد من كل الوجوه ، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن ، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه فهو منتهى الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات ، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظمة والبهجة أقصى نعوت الناعتين ، وأعظم وصف الواصفين ، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز ، وأودعه وحيه المقدس الحكيم ، وبالكلام على معناه والمعنى الوااحد تحقق ما تقدم ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء الحسنى ، فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلها مترادفين ، ومنهم من قال : أصل ( أحد ) واحد ، أسقطت منه الألف ، ثم أبدلت الهمة من الواو المفتوحة مثل حسن يحسن فهو حسن - من الحسن ، أبدلت الواو همزة ، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال : ( أحد ) على حياله ، لا إبدال فيه ولا تغيير ، ومنهم من قال : أصله وحد - أبدلت الواو همزة - انتهى .
وقد استخلصت الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروع للأسماء الحسنى وغيرها ، منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما - قالوا : الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرج وهو الذي لا يتثنى ، أي لا ضد له ولا شبيه ، فهو سبحانه وتعالى واحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر إلى حال ولا شيء ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء الحسنى : هذه حقيقة الوحدة عند المحققين فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازاً كما تقول : رجل واحد ودرهم واحد ، وإنما يوصف بها حقيقة ما حراك له كالجوهر عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له ، وهو أيضاً إنما يوصف به لحقارته ، وموجده سبحانه وتعالى(8/600)
صفحة رقم 601
موصوف به مع اتصافه بالعظمة ، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق ، والاتصاف بالجوهر بالنظر إلى عدم التركيب من الجسم مع صحة اتصافه بأنه جزء يزل عنه حقيقة ذلك ، والوحدة أيضاً بالنظر غلى المعنى الثاني - وهو ما نظر له - لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه وتعالى ، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر ، ولها معنى ثالث وهو التوحيد بالفعل والإيجاد ، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان ، وهذا ناف لمعين ووزير ، وكلاهما وصف ذاتي سلبي ، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجداً واحداً بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص لقسمته بوجه من الوجوه ، وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار ، ومعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالصنع منفرد بالتدبير ، قضى بهذا شاهد القعل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع ، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع ، ولهذا كان من أعظم الخلق دعاؤه سبحانه وتعالى لجميع الخلق ، وكانت دعوة رسوله الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) للخلق كافة ، وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في ىخر شرحه للأسماء الحسنى في شرحه في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات الواحد وسبع صفات الأحد المسلوب عنه النظير ، وقال في الشرح المذكور : الواحد هو الذي لا يتجزى ولا يتثنى ، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الذي لا ينقسم فيقال عنه : إنه واحد - بمعنى أنه لا جزء له ، وكذلك النقطة لا جزء لها ، والله تعالى واحد بمعنى لأنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته ، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها - وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم - متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن لها نظير ، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلاً إلا الواحد المطلق أزلاً وأبداً ، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى ، وقال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتاب الملل والنحل : واختلفوا في الواحد أهو من العدم أم مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد ، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراط لفظ الواحد أيضاً ، فالواحد يطلق به ويراد به ما يتركب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد تكرر أول تكرير وكذا الثلاثة والأربعة ، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد الذي هو علة ، ولا يدخل في العدد الذي لا يتركب منه العدد ، وقد يلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد يتركب بها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد ، يقال : إنسان واحد ، وفي العدد أنه لا(8/601)
صفحة رقم 602
كفوء له ولكن كان ذلك بوجه خفي ، فإذا ضممت إليها الضميرين المستترين الجائزي البروز كانت اثنين وعشرين موازية لسنة تسع سنة الوفود ودخول الناس في الدين أفواجاً ، وحجة أبي بكر رضي الله عنه وتطهير المسجد الحرام من نجس الإشراك بالبراءة من المشركين وزجرهم عن أن يحج بعد ذلك العام مشرك ، ونهيهم عن قربانهم المسجد الحرام لأنهم نجس ، وانتشار الإخلاص في أغلب بلاد العرب ، وذلك أجلى مما مضى مناسب لما دل عليه ، وفيه نوع خفاء عند من كان بقي من المشركين ، وإذا ضممت إليها الضمير الآخر البارز بالفعل كانت ثلاثاً وعشرين توازي سنة حجة الوداع سنة عشر ، وهي التي تم فيها الإخلاص ولم يحج بها مشرك ، وأيس الشيطان فيها أن يعبد في جزيرة العرب ، وفي ذلك - لكون الكلمة ضميراً - نوع يسير في الخفاء بما دل عليه بعد ذلك من الردة ، وكان ذلك أنسب الأشياء بالكلمة المتحملة لذلك الضمير وهي له ، هذا ما يسره الله من أسرار كلماتها بحسب الأعداد ، وأما حروفها فمن الأسرار العظيمة أنه صفة الله ، وأن حروفها مع البسملة النظر إليها من حيث اللفظ وكذا من حيث الرسم ستة وستون حرفاً ، وكذا عدة حروف الجلالة الملفوظة وكذا المرسومة بحساب الجمل ، فكل ما دعت إليه هو مدلول هذا الاسم الأعظم ، وهذه العدة إذا أخذت من أول مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان آخرها منطبقاً على سنة موت صديقه الأكبر الذي سبق غيره بما وقر في صدره وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وذلك دلالة على أنه لا يوازيهما أحد في الإخلاص ، وأنهما وصلا فيه إلى الرتبة العليا ، وإن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الخلق فيه ، وفي ذلك أيضاً دلالة على أنه لا كفوء له لأنه نفى الإشراك بحذافيره من جميع جزيرة العرب بعد أن كانوا مطبقين عليه ، وأطلقهم سبحانه وتعالى على منيليهم من مولك الأمم حتى أظهر الله بهم الدين - وقد كانوا أذل الأمم - على الدين كله ، ونفوا جبابرة الملوك صغرة بعد أن كان عندهم أنه لا غالب لهم ، وحروفها الملفوظة هي بعدد كلمات - آيات التوحيد ، وهي آية الكرسي أعظم آية في القرآن ، وذلك خمسون حرفاً إلا واحداً هو ألف ) كفواً ( الذي هو مرسوم غير ملفوظ ، وهو الدال على الضمير الذي هو غيب الغيب ، فهو غيب - من جهة عدم اللفظ به ، ووجود وظهور من جهة شاهد الرسم ومسموع الاسم ، كما أن الذات غيب محض من جهة الحقيقة يدرك بمشاهدة الأفعال ، ومسموع الأسماء العوال - والله الهادي من الضلال .
.. .(8/602)
صفحة رقم 603
سورة الفلق
مقصودها الاعتصام من شركل ما انفلق عنه الخلق الظاهر والباطن ، واسمها ظاهر الدلالة على ذلك ) بسم الله ( الذي له جميع الحول ) الرحمن ( الذي استجمع كمال الطول ) الرحيم ( الذي أتم على أهل وداده جميع النول بالسلام من علي القول .
لما افتتح سبحانه وتعالى هذا الذكر الحكيم بالهداية في قوله تعالة ) اهدنا الصراط المستقيم ( وبالهداية والتقوى التي هي شعار التائب في قوله تعالى : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] وذلك أول منازل الساترين ، وختم بتقرير أمر التوحيد على وجه لا يتصور أن يكون أكمل منه وتقرير الإخلاص فيه كما يشعر به الأمر ب ) قل ( وذلك هو نهاية المقامات عند العارفين ، فتم بذلك الدين ، وانتهى سير السالكين ، وختم الإخلاص المقررة لذلك بأنه تعالى لا كفوء له ، فتوفرت الدواعي على الانقطاع إليه والعكوف عليه وألقت عصاها واطمأن بها النوى
كما قر عينا بلإياب المسافر
الفلق : ( 1 - 5 ) قل أعوذ برب. .. . .
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( ( )
أمر بالتعوذ برب هذا الدين ، موافقة لإياك نعبد وإياك نستعين ، من شر ما يقدح فيه بضرر في الظاهر أو في الباطن وهم الخلائق حتى على الفنا في الغنا ، وبدأ بما يعم شياطين الإنس والجن في الظاهر والباطن ، ثم اتبع بما يعم القبيلين ويخص الباطن الذي يستلزم صلاحه صلاح الظاهر ، إعلاماً بشرف الباطن على وجه لا يخل بالظاهر ، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى : ( ) فإذا قرأت القرآن ( ( - أي أردت قراءته - ) ) فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( ) [ النحل : 98 ] فقال تعالى : ( قل ) أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليماً لهم وأمراً ، فإنهم(8/603)
صفحة رقم 604
كلهم مربوبون مقهورون لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى ، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحاً لتوكله فإنه يرتقي بذلك إلى حال الرضا بمر القضاء ، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته فإنه يشتد أسفه ولا يرد ذلك عنه شيئاً : ( أعوذ ) أي أستجير وألتجئ وأعتصم وأحترز .
ولما كان هذا المعنى أليق شيء بصفة الربوبية لأن الإعاذة من المضار أعظم تربية قال : ( برب الفلق ) أي الذي يربيه وينشئ منه ما يريد ، وهو الشيء المفلق بإيجاده ظلمة العدم كالعيون التي فلقت بها ظلمة الأرض والجبال ، وكالأمطار التي فلقت بها ظلمة الجو والسحاب ، وكالنبات الذي فلقت به ظلمة الصعيد ، وكالأولاد التي فلقت بها ظلمة الأحشاء ، وكالصبح الذي فلقت به ظلمة الليل ، وما كان من الوحشة إلى ما حصل من ذلك من الطمأنينة والسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات ، قال الملوي : والفلق - بالسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات ، الكائنات جميعها - انتهى .
وخص في العرف بالصبح فقيل : فلق الصبح ، ومنه قوله تعالى :
77 ( ) فالق الاصباح ( ) 7
[ الأنعام : 96 ] لأنه ظاهر في تغير الحال ومحاطاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفنا والهلاك بالبعث والإحياء ، فإن القادر على ما قبله بما نشاهده قادر عليه ، لأنه لا فرق ، بل البعث أهون في عوائد الناس لأنه إعادة ، كذا سائر الممكنات ، ومن قدر على ذلك قدر على إعاذة المستعيذ من كل ما يخافه ويخشاه .
ولما كانت الأشياء قسمين : عالم الخلق ، وعالم الأمر ، وكان عالم الأمر خيراً كله ، فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خاصة بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها : ( من شر ما خلق ) أي من كل شيء سوى الله تعالى عز وجل وصفاته ، والشر تارة يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ( لا ) وغيره من سائر الحيوان كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم ، وتارة طبيعياً كإحراق النار وإهلاك السموم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : قد أشير ، أي في الكلام على ارتباط الإخلاص - إلى وجه ارتباطها آنفاً ، وذلك واضح إن شاء الله تعالى - انتهى .
ولما كان عطف الخاص على العام يعرف بأن ذلك الخاص أولى أفراد العام بما ذكر له من الحكم ، وكان شر الأشياء الظلام ، لإإنه أصل كل فساد ، وكانت شرارته مع ذلك وشرارة السحر والحسد خفية ، خصها بالذكر من بين ما عمه الخلق لأن الخفي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان فيكون أضر .
ولذا قيل : شر العداة المداجي ، وكانت(8/604)
صفحة رقم 605
مادة ( غسق ) تدور على الظلام والانصباب ، فالغسق - محركة : ظلمة أول الليل ، وغسقت العين : أظلمت أو دمعت ، واللبن : انصب من الضرع ، والليل : اشتدت ظلمته ، والغسقان - محركة : الانصباب ، والغاسق : القمر ، وكأنه سمي به لسرعة سيره وانصبابه في البروج ولأنه ليس له من نفسه إلا الإظلام ، والثريا - إذا سقطت - والله أعلم ، قال في القاموس : لكثرة الطواعين والأسقام عند سقوطها ، والذكر - إذا قام ، كما قاله جماعة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو سبب للجهل الذي هو ظلام كله ، فقال تعالى : ( ومن شر غاسق ) أي مظلم بارد منصب ظلامه وبرده سواء كان أصلاً في الظلام حسياً أو معنوياً أو كان حاملاً عليه مثل الذكر إذا قام لما يجر إليه من الوساوس الرديئة لغلبة الشهوة واستحكام سلطان الهوى ، ومثل القمر لما يحدث منه من الرطوبات المفسدة للأبدان وغير ذلك انصباباً له غاية القوة كانصباب ما يفيض عن امتلاء في انحدار ، ونكّره إشارة إلى أنه ليس كل غاسق مذموماً - والله أعلم .
ولما كان الشيء الذي اتصف بالظلام يكثف فيشتد انصبابه وأخذه في السفول إلى أن يستقر ويستحكم فيما صوب إليه مجتمعاً جداً كاجتماع الشيء في الوقبة وهي النقرة في الصخرة ، وكان الظلام لا يشتد أذاه إلا إذا استقر وثبت ، قال معبراً بأدة التحقق : ( إذا وقب ) أي اعتكر ظلامه ودخل في الأشيءا بغاية القوة كمدخول الثقيل الكثيف المنصب في النقرة التي تكون كالبئر في الصخرة الصماء الملساء ، وهذا إشارة إلى أنه يسهل علاجه وزواله قبل تمكنه ، وفي الحديث ( لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها ) يعني صلاة المغرب ، وفيه عند أبي يعلى أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها عن القمر : ( تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب ) وأكثر الأقوال أنه الليل ، خص بالاستعاذة لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها ، وأصل الغسق الظلام ، ويلزم منه الامتلاء ، وقيل : إن الامتلاء هو الأصل ، وأصل الوقوب الدخول في وقة أو ما هو كالوقبة وهي النقرة .
ولما كان السحر أعظم ما يكون من ظلام الشر المستحكم في العروق الداخل في وقوبها .
لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ، ونحو ذلك ، وما فيه من ضنى الأجسام وقتل النفوس ، عقب ذلك بقوله تعالى : ( ومن شر ( .
ولما كان كل ساحر شريراً بخلاف الغاسق والحاسد ، وكان السحر أضر من الغسق(8/605)
صفحة رقم 606
والحسد من جهة أنه شر كله ، ومن جهة أنه أخفى من غيره ، وكان ما هو منه من النساء أعظم لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ورداءة الطبع وضعف اليقين وسرعة الاستحالة ، وهن أعرف في كل من هذه الصفات وأرسخ ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى فقال تعالى : ( النفّاثات ) أي النفوس الساحرة سواء كانت نوفس الرجال أو نفوس النساء أي التي تبالغ في النفث وهو التفل وهو النفخ مع بعض الريق - هكذا في الكشاف ، وقال صاحب القاموس : وهو كانفخ وأقل من التفل ، وقال : تفل : بزق ، وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق ، ) في العقد ) أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها ، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمرض كما ياتي تخريجه ، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ويصل إلى أن يقتل ، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره وهو مما يقتل غالباً قتل بذلك عند الشافعي ، ولا ينافي قوله تعالى :
77 ( ) والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] كما مضى بيانه في المائدة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه مسحور ، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله ، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته .
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود :
وداريت كل الناس إلا لحاسد مداراته عزت وشق نوالها وكيف يداري المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى : ( ومن شر حاسد ) أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق فيه ، ونكّره لأنه ليس كل حاسد مذموماً ، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات .
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها قال مقيداً له : ( إذا حسد ) أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة ، وأما - إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره ، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأن خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً ، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها ، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كلان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره ، ولم يقدر(8/606)
صفحة رقم 607
على مدافعته في الأغلب إلا من عصم الله تعالى ، وقد علم بكون الحسد علة السحر - الموقع في القتل الذي هو أعظم المعاصي بعد الشرك وفي الشرك ، لأنه لا يصح غاية الصحة إلا مع الشرك - أن الحسد شر ما انفق عنه ظلام العدم ، والشاهد لذلك غلبته على الأمم السالفة وتحذير الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس منه بشهادة هاديها ( صلى الله عليه وسلم ) ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ألا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، وأعظم أسبباب الحالقة أو كلها الحسد ، فعلم بهذا رجوع آخر السورة على أولها ، وانعطاف مفصلها على موصلها ، ومن أعيذ من هذه المذكورات انفلق سماء قلبه عن شمس المعرفة بعد ظلام ليل الجهل ، فأشرقت أرجاؤه بأنوار الحكم ، إلى أن يضيق الوصف له عن بدائع الكشف :
هناك ترى ما يملأ العين قرة ويسلي عن الأوطان كل غريب
فينقطع التعلق عما سوى الله بمحض الاتباع والبعد عن الابتداع بمقتضى
77 ( ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( ) 7
[ آل عمران : 31 ] وقد بطل بالأمر بالاستعاذة قول الجبرية : إنا كالآلة لا فعل لنا أصلاً ، وإنما نحن كالحجر لا يتحرك إلا بمحرك ، لأنه لو كان هو المحرك لنا بغير اختيار لم يكن للأمر فائدة ، وقول القدرية : إنا نخلق أفعالنا ، وقول الفلاسفة : إنه - إذا وجد السبب والمسبب حصل التأثير من غير احتياج إلى ربط إلهي كالنار والحطب ، لأنه لو كان ذلك لكانت هذه الأفعال المسببات إذا وجدت من فاعليها الذين هم الأسباب ، أو الأفعال التي هي الأسباب ، والمسببات التي هي الأبدان المراد تأثيرها أثرت ولم تنفع الاستعاذة ، والشاهد خلافه ، وثبت قول الأشاعرة أهل السنة والجماعة أنه إذا وجد السبب والمسبب توقف وجود الأثر على إيجاد الله تعالى ، فإن أنفذ السبب وجد الأثر ، وإن لم ينفذه لم يوجد ، والسورتان معلمتان بأن البلايا كثيرة وهو قادر على دفعها ، فهما حاملتان على الخوف والرجاء ، وذلك هو لباب العبودية ، وسبب نزول المعوذتين على ما نقل الواحدي عن المفسرين رحمة الله عليهم أجميعن والبغوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذه مشاطة رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي ، فمرض رسول الله(8/607)
صفحة رقم 608
( صلى الله عليه وسلم ) وانتشر شعر رأسه ، ويرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينا هو نائم ذات يوم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند أسه : ما بال الرجل ؟ قال : طب ، قال : وما طب ؟ قال : سحر ، قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ، قال : وبما طبه ؟ قال : بمشط ومشاطة ، قال : وأين هو ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راغوفة في بئر ذروان - بئر في بني زريق ، والجف : قشر الطلع ، والراغوفة : حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح ، فانتبه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال لعائشة رضي الله عنها : ( يا عائشة أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فنزحوا البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم نزعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر ) فأنزل الله سبحانه وتعالى سورتي المعوذتين ، وهما إحدى عشرة آية : الفلق خمس والناس ست ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبرائيل عليه الصلاة والسلام يقول : ( بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين والله يشفيك ) فقالوا : يا رسول الله هلا أخرجته ؟ فقال : ( أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شراً ) ويجمع بأنه أتاها ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه الشريفة فلم يخرجه ثم إنه وجد بعض الألم فأرسل إليه ، فأخرجه فزال الألم كله ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ، ثم قال : ( أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه ) ، قلت : وما ذاك يا رسول الله ، قال : ( أتاني ملكان ) فذكره ، وروى النسائي في المحاربة من سننه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم والبغوي في تفسيره كلهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كان رجل يدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ له فسحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : ( إن رجلاً من(8/608)
صفحة رقم 609
اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، أو قال : فطرحه في بئر رجل من الأنصار ) فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستخرجوها فجيء بها فحلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأنما نشط من عقال ( فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط ، وفي رواية : فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجله فقال أحدهما : ( أتدري ما وجعه ؟ قال : كأن الذي يدخل عليه عقد له وألقاه في بئر ( ، فأرسل إليه رجلاً ، وفي رواية : علياً رضي الله عنه ، فأخذ العقد فوجد الماء قد اصفر ، قال : فأخذ العقد فحلها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يذكر له شيئاً ولم يعاتبه فيه ، وهذا الفضل لمنفعة المعوذيتن كما منح الله به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فكذا تفضل به على سائر أمته ، وروى أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح - والنسائي مسنداً أو مرسلاً - قال النووي : بالأسانيد الصحيحة - عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثة مرات - يكفيك كل شيء ( والأحاديث في فضل هذه السور الثلاث كثيرة جداً ، وجعل التعويذ في سورتين إشارة إلى استحباب تكريره ، وجعلتا إحدى عشرة آية ندباً إلى تكثيره في تكريره ، وقدمت الفلق التي خمس آيات مع ما مضى المناسبات لأن اقترانها بسورة التوحيد أنسب ، وشفها بسورة الناس التي هي ست آيات أنسب ، ليكون الشفع بالشفع ، والابتداء بالوتر بعد سورة الوتر ، وحاصل هذه السورة العظمة في معناها الأبدع الأسمى الاستعاذة بالله بذكر اسمه ) الرب ( المقتضي للإحسان والتربية بجلبي النعم ودفع النقم منشر ما خلق ومن السحر والحسد ، كما كان أكثر البقرة المناظرة لها في رد المقطع على المطلع لكونها ثانية من الأول كما أن هذه ثانية من الآخر في ذكر أعداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحاسدين له على ما أوتي من النعم ، وفي تذكيرهم بما منحهم من النعم التي كفروها ، وأكثر ذلك في بني إسرائيل الذين كانوا أشد الناس حسداً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان من أعظم ما ضلوا به السحر المشار إليه بقوله تعالى :
77 ( ) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ( ) 7
[ البقرة : 102 ] حتى قال : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ( إلى أن قال :
77 ( ) ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفراً حسداً من عند أنفسهم ( ) 7
[ البقرة : 109 ] وكان(8/609)
صفحة رقم 610
السحر من أعظم ما أثر في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من كيدهم حتى أنزل فيه المعوذتان ، وكان الساحر له منهم ، وقد انقضى ما يسر الله من الكلام على انتظام معانيها بحسب تركيب كلماتها ، وبقي الكلام على كلماتها من حيث العدد ، فيما تشير إليه من البركات والمدد ، هي ثلاث وعشرون كلمة إشارة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) في السنة الثالثة والعشرين من النبوة يأمر من أذى حاسديه ، وذلك بالوفاة عند تمام الدين ويأس الحاسدين من كل شيء من الأذى في الدين والدنيا ، وخلاص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من كل كدر ، فإذا ضممت إليها لاضمائر وهي خمسة كانت ثماني وعشرين ، وهي توازي سنة خمس عشرة من الهجرة ، وذلك عند استحكام أمر عمر رضي الله عنه في السنة الثانية من خلافته ببث العساكر وإنفاذه إلى ملك الفرس والروم وتغلغل بغلبهم على ماهان أعظم رؤسائهم ، فاضحمل أمر المنافقين والحاسدين ، وأيسوا من تأثير أدنى كيد من أحد من الكائدين ، فإذا ضم إليها أربع كلمات البسملة كانت اثنتين وثلاثين ، إذا حسبت من أول النبوة وازتها السنة التاسعة عشرة من الهجرة ، وفيها كان فتح قيسارية الروم من بلاد الشام ، وبفتحها كان فتح جميع بلاد الشام ، لم يبق بها بلد إلا وهي في أيدي المسلمين ، فزالت عنها دولة الروم ، وفيها أيضاً كان فتح جولاء من بلاد فاررس وكان فتحاً عظيماً جداً هدّ أجنادهم وملوكهم ، ولذلك سمي فتح الفتوح ، وحصل حينئذ أعظم الخزي للفرس والروم الذين هم أحسد الحسدة ، لما كان لهم من العزة والقوة بالأموال والرجال ، وإن حسبت من الهجرة وازتها سنة انقراض ملك أعظم الحسدة الأكسارة الذي شقق ملكهم كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأرسل إلى عامله باذان - الذي كان استخلفه على بلاد اليمن - يأمره أن يغزو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يقتله سبحانه في ليلة سماها ، فلما أتت تلك الليلة أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رسل باذآن بذلك ، فرجعوا إلى باذآن فأخبره فقال : إن كان صادقاً فسيأتي الخبر في يوم كذا ، فأتى الخبر في ذلك اليوم بصدقه ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلم باذان ومن معه من الأبناء الذين كانوا في بلاد اليمن لم يتخلف منهم أحد ، وأوفد منهم وفداً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، وتولى الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) - رضي الله عنهم والله أعلم .
.. .(8/610)
صفحة رقم 611
سورة الناس
مقصودها الاعتصام بالإله الحق من شر الخلق الباطن ، واسمها دال على ذلك لأن الإنسان مطبوع على الشر ، وأكثر شره بالمكر والخداع ، وأحسن من هذا أنها للاستعاذة من الشر الباطن المأنوس به المستروح إليه ، فإن الوسسة لا تكون إلا بما يشتهي ، والناس مشتق من الأنس ، فإن أصله أناس ، وهو أيضا اضطراب الباطن المشير إليه الاشتقاق من النوس ، فطابق حينئذ الاسم المسمى ، ومقصود هذه السورة معلول لمقصود الفقاتحة الذي هو المراقبة ، وهي شاملة لجميع علوم القرآن التي هي مصادقة الله ومعاداة الشيطان ببراعة الختام وفذلكة النظام ، كما أن الفاتحة شاملة لذلك لأنها براعة الاستهلال ، ورعاية الجلال والجمال ، فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول ، والدليل بالمدلول ، والمثل بالممثول ، والله المسؤول في تيسير السؤل ، ت وتحقيق المأمول ، فإنه الجواد ذو الطول ، وبه يستعان وعليه التكلان : ( بسم الله ( المحيط علما بكل باطن كإحاطته بكل ظاهر ) الرحمن ( الذي عمت نعمته كل باد وحاضر ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم في جميع أمورهم الأول منها والأثناء والآخر .
الناس : ( 1 - 6 ) قل أعوذ برب. .. . .
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( ( )
لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره ، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان ، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق والساحر والحاسد ، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير ، والمعايب الداخلة التي ترجع(8/611)
صفحة رقم 612
إلى ظلم النفس ولكنها في المصائب أظهر ، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب ، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد ، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص ، وهو الوسواس ، وهو أخص من مطلق الحاسد ، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة ، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها ، وهي من الجن أمكن وأضر ، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب ، فقد تضمنت السورة كالفلق استعاذة ومستعاذاً به ومستعاذاً منه وأمراً بإيجاد ذلك ، فالأمر : ( قل ( والاسعتاذة ) أعوذ ( والمستعاذ به هو الله سبحانه وتعالى ، لكن لما كانت صفة الربوبية من صفات كماله سبحان أليق بالحماية والإعانة والرعاية والخلق والتدبير والتربية والإصلاح ، المتضمن للقدرة التامة والرحمة الواسعة ، والإحسان الشامل والتدبير والتربية والإصلاح ، والمتضمن للقدرة التامة والرحمة الواسعة ، والإحسان الشامل والعلم الكامل ، قال تعالى : ( برب الناس ) أي أعتصم به أي أسأله أن يكون عاصماً لي من العدو أن يوقعني في المهالك ، قال الملوي : والرب من له ملك الرق وجلب الخيرات من السماء والأرض وإبقاؤها ، ودفع الشرور ورفعها ، والنقل من النقص إلى الكمال ، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب ، وخص الإضافة بالمزلزلين المضطربين في الأبدان والأديان من الإنس والجان لخصوص المستعاذ منه ، وهو الأضرار التي تعرض للنفوس العاقلة وتخصها ، بخلاف ما في الفلق فإنه المضار البدنية التي تعم الإنسان وغيره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية ، ألا ترى عموم قوله ) من شر ما خلق ( وإبهام ) ما ( وتنكير ) غاسق ( و ) حاسد ( والعهد فيها استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته ، فبدأ بالمعموم ثم أتبع بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه ، وأوفى بالمقصود ، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى ) بسم الله الرحمن الرحيم ( في معنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد لا في عموم الصفة الأولى وكونها للمبالغة ، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر - انتهى .
ولما كان الرب الملك متقاربين في المفهوم ، وكان الرب أقرب في المفهوم إلى اللطف والتربية ، وكان الملك للقهر والاستيلاء وإظهار العدل ألزم ، وكان الرب قد لا يكون ملكاً فلا يكون كامل التصرف ، اقتضت البلاغة تقديم الأول وإتباعه الثاني ، فقال تعالى : ( ملك الناس ( إشارة إلى أن له كمال التصرف ونفوذ القدرة وتمام السلطان ، وإليه المفزع وهو المستعان ، والمستغاث والملجأ والمعاد .(8/612)
صفحة رقم 613
ولما كان الملك قد لا يكون إلهاً ، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركاً أصلاً بخلاف غيرها ، أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان فقال : ( إله الناس ( إشارة إلى أنه كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد ، فكذلك هو واحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد ، وهذه دائماً طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في الربوبية والملك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة ، فمن كان ربهم وملكهم فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ولا يستعيذوا بغيره كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به ، والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد فأحبوه واستأنسوا به ولجؤوا إليه في جميع أمورهم ، وبطن احتجاباً بكبريائه عن أن يحاط به أو بصفة من صفاته أو شيء من أمره ، فهابته العباد ودعاهم الحب إلى الوله شوقاً إلى لقائه ، وزجرتهم الهيبة فجزعوا خوفاً من طرده لهم عن فنائه ، وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر فيقول مثلاً : ( ملكهم ( ) إلههم ( تحقيقاً لهذا المعنى وتقوية له بإعادة اسمهم الدال على شدة الاضطراب المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه الدال على الكامل المقتضي للغنى المطلق ، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات وبياناً لشرف الإنسان ومزيد الاعتماد بمزيد البيان ، ولئلا يظن أن شيئاً من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف غليه الذي قبله من ذلك الوجه ، لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه ، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلاً ، واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستعاذات من جميع وجوه التربية وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ من جهة أنه في قهر الملك بالضم ، وجيمع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعاراً بعظم الآفة المستعاذ منها ، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة ، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة حتى كأنها صفة واحدة ، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب على حد سواء ، فلا فعل لأحد إلا وهو خلقه سبحانه وتعالى وهو الباعث عليه ، وأخر الإلهية لخصوصها لأن من لم يتقيد بأوامره ونواهيه فقد أخرج نفسه من أن يجعله إلهه وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ، ووسط صفة الملك لأن الملك هو المتصرف بالأمر والنهي ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته وتقتضيها ، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان ، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى ، فإن الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة التي هي معنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال ، (8/613)
صفحة رقم 614
والملك هو الآمر الناهي المعز المذل - إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال ، وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى ، فلتضمنها جميع معاني الأسماء كان المستعيذ جديراً بأن يعوذ ، وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكل الدال على الواحدانية ، لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربياً ، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم ، ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها ، فقد أجمع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من ) ملك ( بخلاف الفاتحة كما مضى لأن الملك إذا أضيف إلى ) اليوم ( أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى الملك - بالضم ، وأما إضافة المالك إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرائ به هنا لنقص المعنى ، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء ، والملك - بكسر الميم - أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن بادية إلى الخافي يشير .
ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : ( من شر الوسواس ( هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد بالموسوس ، سمي بفعله مبالغة لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادلة بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها ( وس ) مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال كما قال تعالى :
77 ( ) وزلزلوا زلزالاً شديداً ( ) 7
[ الأحزاب : 11 ] وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم - كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون اجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك لأنه يقول : قد وضع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه(8/614)
صفحة رقم 615
حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس ، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد يترشح منه بطر الحق - وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، وغمص الناس - وهو احتقارهم المعلوم من قول الشيطان
77 ( ) أنا خير منه ( ) 7
[ الأعراف : 12 ] ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ومنع حقوقهم والاعتداء عليهم والظلم لهم ، وترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء ، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه
77 ( ) ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ( ) 7
[ الأعراف : 20 ] الآية والكذب والمخادعة كما عرف به
77 ( ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور ( ) 7
[ الأعراف : 21 ] ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به
77 ( ) قال أأسجد لمن خلقت طيناً ( ) 7
[ الإسراء : 61 ] ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به
77 ( ) لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال ( ) 7
[ الحجر : 33 ] ، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه
77 ( ) أنا خير منه ( ) 7
[ الأعراف : 12 ] الآية ، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه ) لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ( والإذلال وهو الجرأة على المخالفات فينشأ عن ذلك شرور متعدية ، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق ، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة ، فيصير رديء الطبع فلا ينفع فيه العلاج ، بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس ، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام .
ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى ، فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ليشتد حذره منه وبعده عنه فقال : ( الخناس ) أي الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد ، فهو شديد النفور منه ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر ، قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، ويقال : رأسه كرأس الحية واضع رأسه على يمين القلب يحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه - خزاه الله تعالى .(8/615)
صفحة رقم 616
ولما ذكر صفة المستعاذ منه ، ذكر إبرازه لصفته بالفعل فقال : ( الذي يوسوس ) أي يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث تصل مفاهيمها من غير سماع ، وأشار إلى كثرة وسوسته بذكر الصدر الذي هو ساحة القلب ومسكنه فقال : ( في صدور الناس ) أي المضطربين إذا غفلوا عن ذكر ربهم ، فإنها دهاليز القلوب منها تدخل الواردات إليها ، وذلك كالقوة الوهمية فإن العقل يساعد في المقدمات الحقة المنتجة للأمر المقطوع به ، فإذا وصل الأمر إلى ذلك خنست الواهمة ريثما يفتر العقل عن النتيجة فترة ما ، فتأخذ الواهمة في الوسوسة وتقبل منها الطبيعة بما لها بها من مجانسة الظلمة الوهمية ، والناس - قال في القاموس : يكون من الإنس ومن الجن ، جميع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل - انتهى ، ولعل إطلاقه على هذين المتقابلين بالنظرإلى النوس الذي أصله الاضطراب والتذبذب فيكون منحوتاً من الأصلين : الانس والنوس ، ومن ثالث وهو النسيان .
ولما كان الذي يعلّم الإنسان الشرة تارة من الجن وأخرى من الإنس ، قال مبيناً للوسواس تحذيراً من شياطين الإنس كالتحذير من شياطين الجن ، مقدماً الأهم الأضر ، ويجوز أن يكون بياناً ل ( الناس ) ولا تعسف فيه لما علم من نقل القاموس : ( من الجنة ) أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء ) والناس ) أي أهل الاضطراب والذبذبة سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ويوسوس له - قاله الغوي عن الكلبي ، وقال : ذكر عن بعض العرب أنه قال : جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل : من أنتم ؟ قالوا : أناس من الجن ، قال : وهذا معنى قول الفراء .
وقد ختمت السورة بما بدئت به ، والمعنى الثاني أوفق برد آخرها على أولها فإنه يكون شرحاً للناس الذين أضيفت لهم الصفات العلى ، والخواطر الواردة على الإنسان قد تكون وسوسة ، وقد تكون إلهاماً ، والإلهام تارة يكون من الله بلا واسطة ، وتارة يكون بواسطة الملك ، ويكون كل منها في القلب ، والوسوسة تارة من الشيطان ، وأخرى من النفس ، وكلاهما يكون في الصدر ، فإن كان الإنسان مراقباً دفع عن نفسه الضار ، وإلا هجمت الواردات عليه وتمكنت منه ويتميز خير الخواطر من شرها بقانون الشرع على أن الأمر مشكل ، فإن الشيطان يجتهد في التلبيس ، فإن وافق الشرع فلينظر ، فإن كان فعله ذلك الحين أولى من غير تفويت لفضيلة أخرى هي أولى منه بادر إليه وإن كان الخاطر دنيوياً وأدى الفكر إلى أنه نافع من غير مخالفة للشرع زاد على شدة تأمله(8/616)
صفحة رقم 617
الاستشارة لمن يثق بدينه وعقله ، ثم الاستخارة لاحتمال أن تتوافق عليه العقول ، ويكون فيه خلل لتقصير وقع في النظر ، وقد جعل بعضهم قانون الخاطر الرحماني أن ينشرح له الصدر ويطمئن إليه النفس ، والشيطاني والنفسي ان ينقبض عنده الصدر وتقلق النسف بشهادة الحديث النبوي في البر والإثم ، ويعرف الشيطاني بالحمل على مطلق المخالفة ، فإن الشيطان لا غرض له في مخالفة بعينها ، فإن حصل اذكر زال ذلك ، والنفساني ملزوم شيء بعينه سواء كان نفعاً أو ضراً ، ولا ينصرف عنه بالذكر ، وقد يكون الشيطان إنسياً من أزواج وأولاد ومعارف ، وربما كان أضر من شيطان الجن ، فدواؤه المقاطعة والمجانبة بحسب القدرة ، ومن أراد قانوناً عظيماً لمن يصاحب ومن يجانب فعليه بآية الكهف
77 ( ) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من إفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ( ) 7
[ الكهف : 28 ] وكما رجع مقطعها على مطلعها كذلك كان من المناسبات العظيمة مناسبة معناها للفاتحة ليرجع مقطع القرآن على مطلعه ، ويلتحم مبدؤه بمرجعه على أحسن وجه ، كما تقدم بيان ذلك من سورة قريش إلى هنا سورة سورة ، فنظر هذه السورة إلى الفاتحة والتحامها بها من جهة أن الفاتحة اشتملت على ثلاثة أسماء : الله والرب والملك ، وزادت بكونها أم القرآن بالرحمن الرحمي ، لاشتمالهما على جميع النعم الظاهرة والباطنة التي تضمنتها صفة الربوبية ، وسورة الناس على الرب والملك والإله الذي هو الأصل في اسم الجلالة ، واختصت الفاتحة بالاسم الذي لم يقع فيه شركة أصلاً ، فلما تقرر في جميع القرآن أنه الإله الحق ، وأنه لا شركة لغيره في الإلهية يحق بوجه من الوجوه كما أنه لا شركة في الاسم الأعظم الذي افتتح به القرآن أصلاً بحق ولا بباطل ، ختم القرآن الكريم به معبراً عنه بالغله لوضوح الأمر وانتفاء اللبس بالكلية ، وصار الاختتام مما كان به الافتتاح على الوجه الأجلى والترتيب الأولي ، وبقي الاسمان الآخران على نظمهما ، فيصير النظم إذا ألصفت آخر الناس بأول الفاتحة ( إله ملك رب الله رب - رحمن رحيم ملك ) إعلاماً بأن مسمى الأسم الأعظم هو الإله الحق ، وهو الملك الأعظم لأنه له الإبداع وحسن التربية والرحمة والعامة والخاصة ، وحاصل سورة الناس الاستعاذة بهذا الرب الموصوف من وسوسة الصدر المثمرة للمقرابة كما أن حاصل سورة الفاتحة فراغ السر من الشواغل المتقضي لقصر الهمم عليه سبحانه وتعالى والبقاء في حضرته الشماء بقصر البقاء عليه والحكم بالفناء على ما سواه ، وذلك هو أعلى درجات المراقبة ، فإذا أراد الحق إعانة عبد حمله على الاستعانة بالاستعاذة فيسر عليه صدق التوكل ، فحينئذ يصير عابداً صادقاً في العبودية فيكون إله(8/617)
صفحة رقم 618
سمعه الذي يسمع ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وينبغي أنه كلما زاده سبحانه وتعالى تقريباً ازداد له عبادة حتى ينفك من مكر الشيطان بالموت كما قال تعالى لأقرب خلقه إليه محمد ( صلى الله عليه وسلم )
77 ( ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( ) 7
[ الحجر : 99 ] ومن نقص من الأعمال شيئاً اعتماداً على أنه وصل فقد تزندق ، وكان مثله مثل شخص في بيت مظلم أسرج فيه سراجاً فأضاء ، فقال : ما أوقدت السراج إلا ليضيء البيت فقد أضاء ، فلا حاجة لي الآن إلى السراج ، فأطفأه فعاد الظلام كما كان ، وقد ندب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى افتتاح القرآن بعد ختمه كما أشار إليه اتصال المعنى بما بينته ، وسمي ذلك الحال المرتحل ، وكأن القارئ ذكر بالأمر بالاستعاذة إرادة افتتاح قراءته ، فكأنه قيل : استعذ يا من ختم القرآن العظيم لتفتتحه ، وكأنه لما استعاذ بما أمر به في هذه السورة قيل له : ثم ماذا تفعل ؟ فقال : أفتتح بسم الله الرحمن الرحيم الذي تجب مراقبته عند خواتم الأمور وفواتحها ، لأنه لا يكون أمر إلا به ، أو أن البسملة مقول في ) قل ( على سبيل من ) أعوذ ( أو من ) برب الناس ( وكأنه أمر بالتعوذ ، والتسمية أمر بالدفع والجلب ، وذلك لأنه لما أمر بهذا التعوذ - وكان قد قال سبحانه
77 ( ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( ) 7
[ النحل : 98 ] علم أن المراد ابتداؤه بالقرآن فنسبتها إلى الفاتحة نسبة المعلول إلى علته ، فكأنه يل : استعذ بهذا الرب الأعظم الذي لا ملك ولا إليه غيره لأن له الحمد ، وهو الإحاطة بكل شيء ، فهو القادر على كل شيء ، فهو القاهر لكل شيء في المعاد وهو الملجأ والمفزغ لا إله إلا هو ، فإن الاسم هو الوصف والمراد به الجنس ، فمعنى بسم الله أي بوصفه أو بأوصافه الحسنى ، والحمد هو الثناء بالوصف الجميل ، فكأنه قيل : أعوذ برب الناس بأوصافه الحسنى لأن له الحمد وهو جميع الأوصاف الحسنى فإن البدءل فيه يحتاج إلى قدرة ، فله القدرة التامة ، أو إلى علم فالعلم صفته ، أو كرم فكذلك ، والحاصل أنه كأنه قيل : تعوذ به من الشيطان بما له من الاسم الذي لم يسامه فيه أحد لكونه جامعاً لجميع الأسماء الحسنى أي الصفات التي لا يشوبها نقص خصوصاً صفة الرحمة العامة التي شملتني أكنافها ، وأقامني إسعافها ، ثم الرحمة الخاصة التي أنا أجدر الناس باستمطارها لما عندي من النقص المانع لي منها والمبعد لمن اتبع الحظوظ عنها ، فأسأله أن يجعلني من أهلها ، ويحملني في الدارين بوصلها ، لأكون من أهل رضاه ، فلا أعبد إلا إياه ، ولك أن تقرر الاتصال والالتحام بوجه آخر ظاهر الكمال بديع النظام فتقول : لما قرب التقاء نهاية الدائرة السورية آخرها بأولها ومفصلها بموصلها اشتد تشاكل الرأسين ، فكانت هذه السور الثلاثة الأخيرة(8/618)
صفحة رقم 619
مشاكلة للثلاث الأول في المقاصد ، وكثرة الفضائل والفوائد : الإخلاص بسورة التوحيد آل عمران ، وهو واحد ، والفلق للبقرة طباقاً ووفاقاً ، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر ، فهي للعون بخير الأمر ، والفلق للعوذ من شر الخلق المحصي لكل خير ، وفي البقرة
77 ( ) أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ( ) 7
[ البقرة : 67 ]
77 ( ) يعلمون الناس السحر ( ) 7
[ البقرة : 102 ] - الآيات ،
77 ( ) ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ( ) 7
[ البقرة : 109 ] الآية ، والناس للفاتحة ، فإنه إذا فرغ الصدر الذي هو مسكن القلب الذي هو مركب الروح الذي هو معدن العقل كانت شر ظاهر ومن كل سوء باطن للتأهل لتلاوة سورة المراقبة بما دعا إليه الحال المرتحل وما بعدها من الكتاب ، على غاية من السداد والصواب ، وكأنه اكتفى أولاً بالاستعاذة المعروفة كما يكتفي في أوائل الأمور بأيسر مأمور ، فلما ختم الختمة جوزي بتعوذ من كل اتحاد - إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ، هذا ما يسره الله من مدلولات نظومها وجملها ، بالنسبة إلى مفهوماتها وعللها ، وبقي النظر إلى ما يشير إليه أعداد كلماتها ، بلطائف رموزها وإشارتها ، فهي عشرون كلمة توازيها إذا حسبت من أول النبوة سنة عمرة القضاء وهي السابعة من الهجرة ، بها تبين الأمن مام وسوس به الشيطان سنة عمرة الحديبية من أجل رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لدخول البيت والطواف به ، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاث كانت ثلاثاً وعشرين فوازت السنة العاشرة من الهجرة وهي سنة حجة الوداع وهي القاطعة لتأثير وسواس الشيطان الذي كان يف أول السنة الحادية عشرة عند موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العرب بأمر الردة ، فأعاذ الله من شره بهمة الصديق رضي الله تعالى عنه حتى رد الناس إلى الدين وأنزل به وسواس الشياطين المفسدين ، فانتظمت كلمة المسلمين تصديقاً لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الوداع ( إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم ) فإذا ضممت إليها كلمات البسملة صارت سبعاً وعشرين توازي سنة استحكام أمر عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره ، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة ، هذا بالنظر إلى كلماتها ، فإن نظرت إليها من جهة الحروف كانت لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، منها أن كلماتها مع كلمات الفاتحة انتظمت من ستة وعشرين حرفاً وهي ما عدا الثاء المثلثة والزاء الظاء المعجة من حروف المعجم التسعة والعشرين كل واحدة منهما من اثنين وعشرين حرفاً(8/619)
صفحة رقم 620
اشتركتا في ثمانية عشر منها ، واختصت كل واحدة منهما بأربعة : الفاتحة بالحاء والطاء المهملتين ، والضاد والغين المعجمتين ، والناس بالجيم والخاء والشين المعجمتين والفاء ، وقال ابن ميلق : سقط من الفاتحة سبعة أحرف ( ثج خز شظف ) ، انتهى ، فلعل في ذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن - تكامل نزول القرآن من أوله إلى آخره في عدد الحروف التي اشتمل عليها كل من سورتي أوله وآخره من السنين وذلك اثنان وعشرون ، والثالثة والعشرون سنة القدوم على منزله الحي القيوم سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه ، وأعز سلطانه ، وأقوم برهانه .
وقال مؤلفه رحمه الله تعالى : وهذا تمام ما أردته من نظم الدرر من تناسب الآي والسور ، ترجمان القرآن مبدي مناسبات الفرقان ، التفسير الذي لم تسمع الأعصار بمثله ، ولا فاض عليها من التفاسير على كثرة أعدادها كصيب وبله ، فرغته في المسودة يوم الثلاثاء سابع شعبان سنة خمس وسبعين وثمانمائة ، بمسجدي من رحبة باب العيد بالقاهرة المغرية ، وكان ابتدائي في في شعبان سنة إحدة وستين ، فتلك أربع عشرة سنة كاملة ، وفرغته في هذه المبيضة عصر يوم الأحد عاشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة ، بمنزلي الملاصق للمدرسة البادرائية من دمشق ، فتلك اثنتان وعشرون سنة بعدد سني النبوة الزاهرة الأنيسة العلية الطاهرة المباركة الزكية ، ولولا معونة الله اضحى معدوماً ، أو ناقصاً مخروماً ، فغني بعد ما توغلت فيه واستقامت لي مبانيه ، فوصلت إلى قريب من نصفه ، فبالغ الفضلاء في وصفه بحسن سبكه وغزارة معانيه وإحكام رصفه ، دب داء الحسد في جماعة أولي النكد ، والمكر واللدد ، يريدون الرائاسة بالباطل ، وكل منهم من جوهر العلم عاطل ، مدّ ليل الجهل فيهم ظلامه ، وأثار نقع السفه على رؤوسهم سواده وقتامه ، صوبوا سهام الشرور ، والأباطيل وأنواع الزور ، فأكثروا التشييع بالتشنيع ، والتقبيح والتبشيع ، والتخطئة والتضليل ، بالنقل من التوراة والإنجيل ، فصنفت في ذلك الأقوال القويمة ، في حكم النقل من الكتب القديمة ، بينت فيه أن ذلك سنة مستقيمة ، لتأييد الملة الحنيفية العظيمة ، وأخرجت بذلك نص الشافعي ، وكلام النووي والرافعي ، واستكتبت على الكتاب : العلماء الأنجاب ، فكتبوا ما أودعته ( مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور ) فأطفأ الله نارهم ، وأظهر عوارهم ، وشهر خزيهم وعارهم ، ثم قاموا في بدعة دائم المعروف ، فصنفت فيها القول المعروف ، وبينت مخالفتهم للكتاب والسنة ، ووقوعهم في عين الفتنة ، وخرقهم لأعظم الجنة ، وصريح نص الشافعي ونقول العلماء ، فكانوا كمن ألقم الحجر أو ملئ فمه بالماء ، ثم قاموا في فتنة ابن الفارض ، وكلهم معاند معارض ، وألبوا عليّ رعاع الناس ، فاشتد شعاع البأس ، (8/620)
صفحة رقم 621
فكادوا أن يطبقوا على الانعكاس ، وصوبّوا طريق الإلحاد ، وبالغوا في الرفع من أهل الاتحاد ، ولجوا بالخصام في العناد ، وأفتوا بمحض الباطل ، وبثوا السم القاتل ، إلا ناساً قليلاً كان الله بنصرهم على ضعفهم كفيلاً ، فسألتهم سؤالاً ، جعلهم ضلالاً جهالاً ، فتداولوه فيما بينهم وتناقلوه وعجزوا عن جوابه بعد أن راموه أشد الروم ، وحاولوه فظهر لاكثر الناس حالهم ، واشتهر بينهم ضلالهم ، وغيهم الواضح ومحالهم ، وصنفت في ذلك عدة مصنفات ، بانت فيها مخازيهم وظهرت المخبآت ، منها ( صواب الجواب للسائل المرتاب ) ومنها ( القارض لتكفير ابن الفارض ) ومنها ( تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض ) ومنها ( تنيه الغبي على تكفير ابن عربي ) ومنها ( تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد ) أنفقت فيها عمراً مديداً ، وبددوا فيها أوقاتي - بددهم الله تبديداً ، وهدد أركانهم وأعضادهم تهديداً ، وقرعتهم بالعجز عن الجواب ، الكاشف للارتياب ، صباحاً ومساءً ، وإعادة وإبداء ، فحملهم التقريع ، والتوبيخ والتبخيع ، على كتابه جواب ، لم يخل من ارتجاج واضطراب ، وشك وارتياب ، بينت أن جامعه أخطأ في جميعه الصواب ، وكفر في أربعة مواضع كفراً صريحاً ، وكذب في ثمانية فصار بذلك جريحاً ، بل هالكاً طريحاً ، فأطلت بذلك التقريع ، والتوبيخ والتبشيع ، فذلت أعناقهم ، وضعف شقاقهم ، وخفي نفاقهم ، غير أنه حصل في كل واحدة من هذه الوقائع ، من الشرور وعجائب المقدور ، ما غطى ظلامه الشموس الطوالع .
وطال الأمر في ذلك سنين ، وعم الكرب حتى كثر الأنين ، والتضرع في الدعاء والحنين ، وثبّت الله ورزق الصبر والأناة حتى أكمل هذا الكتاب ، على ماتراه من الحسن والصواب .
وقد قلت مادحاً للكتاب المذكور ، بماابان عنه من عجائب المقدور ، وغرائب الأمور ، شارحاً لحالي ، وحالهم وظفر آمالي ، وخيبة آمالهم من مجزوء الرجز ، وضربه مقطوع ، والقافية متواتر مطلق مجرد ، مسمياً له ب ( كتاب لمّا ) لأن جل مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض حتى أن كل جملة تكون آخذة بحجزة ما أمامها متصلة بها ، وذلك هو المظهر المقصود من الكلام وسره ولبابه ، الذي هو للكلام بمنزلة الروح وبيان معاني المفردات ، وكل جملة على حيالها بمنزلة الجسد ، فالوح هو المقصود الأعظم يدرك ذلك من يذوق ويفهم ، ويسري ذهنه في ميادين التراكيب ويعلم ، و ( لما ) طرف يراد بها ثبوت الثاني مما دخل عليه بثوبت الأول على غاية المكنة بمعنى أنها كالشروط تطلب جملتين يلزم لذلك الملزوم ، فتم الكتاب في هذا النظم ب ( لما ) لأني أكثرت من استعمالها فيه لهذا الغرض :
هذا كتاب لما لم المعاني لما(8/621)
صفحة رقم 622
غدت بحور علمه تمد مداً جما بشرت من يحسده بأن يموت غما فإن قصدي صالح جاهدت فيه الهما فربنا يقبله كيفية وكما فبالذي أردته لقد أحاط علما كابدت فيه زمناً من حاسدي ما غما عدوا سنين عددا يسقون قلبي السما وكم دهوني مرة وكم رموني سهما وأوسقوا قلبي أذى وأوسعوني ذما وكم بغوني عثرة فما رأوا لي جرما وفتروا من قاصدي همهمة وعزما وأوعدوهم بالأذى وأوهنوهم رجما ألقى إذا اشتد لظى أذى إذا هم رجما ألقى إذا الليل دجا وبالبلا ادلهما أذاهم وظلمهم بدعوة في الظلما أستصرخ الله بهم أقول يا اللهما يا رب إني جاهد فارفرج إلهي الغما لا ذنب لي عندهم إلا الكتاب لما جرت ينابيع الهدى منه فصارت يما صنعته وفي بحو رعلمه ما طما وقد علا تركيبه وعاد يحلو نظما عملته نصيحة لمن يحب العلما أودعته فرائداً يرقص منه الفهما تجلو العمى من لطفها وتسمع الأصما(8/622)
صفحة رقم 623
خص نفيس علمها وللأناسي عما تنطق من تغنى بها وإن يكونوا بكما أفعالها جليلة أعيذها بالأسما سهل ربي أمره عليّ حتى تما في أربع وعشرة من السنين صما قال لسان عدها دونك بدراً تما وليس يلغي ناقصاً يا صاحبي يوما أعيذه بالمصطفى من شر وغد ذما ومن حسود قد غدا من أجله مهتما فليس يبغي ذمه إلا بغيضاً أعما كفاه ربي شرهم وزان منه الأسما وردّ في تدبيرهم تدميرهم والغرما وردّهم بغيظهم لما ينالوا غلما وزاده سعادة ولازمته النعما
قال ذلك منشبه أحوج الخلائق إلى عفو الخالق أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي رحمه الله تعالى قائلاً : الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكان الفراغ من هذا الجزء على يد أقل عبيد الله وأحوجهم إلى لطف الله وعفوه عبد الكريم بن علي بن محمد المحولي الشافعي نزيل بلد الله الحرام - غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين -. . .
بمكة المشرفة في يوم السبت المبارك الساجس والعشرين من شهر صفر الخير سنة أربع وأربعين وتسعمائة ، وقد تجاوز سني الآن خمسة وسبعين عاماً - أسأل الله حسن الخاتمة والثبات على دين الإسلام والوفاة بأحد حرميه بمنه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العي العظيم .(8/623)
صفحة رقم 624
وقال بعض تلامذة المصنف وهو العرس خليل بن موسى المقرئ مادحاً للكتاب المذكور المسمى ب ( لما ) :
برهان دين الله أضحى موضحاً أسرار قول الله في القرآن وأتى بما ترك الورى من بعده تمشي الورا أبداً مدى الأزمان فمن ادعى نسجاً على منواله فقد ادعى ما ليس في الإمكان وإذا المفسر رام يوماً أنه بمثاله يأتي بلا إذعان قلنا له فسر وقايس بعد ذا ولنا الدليل عليك بالبرهان
وكان الفراغ من نسخ هذا النصف الأخير من الكتبا المسمى ب ( لما ) مناسبات القرآن العظيم على من أنزل عليه أفضل الصلاة والسلام في الليلة الثالثة عشرة من شهر جمادى الأولى من شهور سنة سبع وتسعين وألف على يد أحقر العباد ، وأحوجهم إلى مغفرة ربه الجواد ، محمد بن أحمد البدرشيني بلداً ، الشافعي مذهباً ، مصلياً ومسملماً على أفضل وأكمل وأجمل الخلق الله محمدم بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلاماً دائمين متلازمين بدوام ملك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل آمين آمين .(8/624)