صفحة رقم 452
أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان ) ولهو ) أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان ، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال : ( وزينة ) أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان ، وأتبعها ثمرتها فقال : ( وتفاخر ) أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض .
ولما كان ذلك مخصوصاً بأهل الشهوات قال : ( بينكم ) أي يجر إلى الترفع الجارّ إلى الحسد والبغضاء ، ثم أتبع ذلك ما يحصل به الفخر فقال : ( وتكاثر ) أي من الجانبين ) في الأموال ) أي التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة ) والأولاد ( الذين لا يغتر بهم إلا سفيه لأنهم الأعداء ، وأن جميع ما ذكر زائل وأن الدنيا آفاتها هائلة ، وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشكرين من غيره ، ثم إلى ذلك كله قد يكون ذهابه عن قرب فتكون على أضداد ما كان عليه ، فيكون أشد في الحسرة ، ومطابقة ذلك لما بعده ان الإنسان ينشأ في حجر وليه فيشب ويقوى ويكسب المال والولد وثم تغشاه الناس فيكون بينهم امور معجبة وأحوال ملهية مطربة ، فإذا تم شبابه وأطفأه مجيئه وذهابه وأشكاله وأترابه ، أخذ في الانحطاط ولا يزال حتى يشيب ويسقم ويضعف ويهرم وتصيبه النوائب والقوارع والمصائب في ماله وجسمه وأولاده وأصحابه ، ثم في آخر ذلك يموت ، فإذا قد اضحمل أمره ونسي عما قليل ذكره ، وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها وأقل منها خطر المزاحم فيها ، فما هي إلا جيفة ، وطلاب الجيفة ليس لهم خطر ، وأخسهم من بخل بها ، قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخر فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا - انتهى .
ولما قرر سبحانه أنها ظل زائل وعرض هائل ، وكان بعض الناس يتنبه فيشكر وبعضهم يعمى فيكفر ، كان القسم الثاني أكثر لأن وجودها وإقبالها يعمي أكثر القلوب عن حقارتها ، ضرب لذلك مثلاً مقرراً لما مضى من وصفها لأن للأمثال في تقرير الأشياء وتصويرها ما ليس لغيرها فقال تعالى : ( كمثل ) أي هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل ) غيث ) أي مطر حصل بعد جدب وسوء حال .
ولما كان المثل في سياق التحقير للدنيا والتنفير عنها ، عبر عن الزارع بما ينفر فقال : ( أعجب الكفار ) أي الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذرة الذي يستره الحارث بحرثه كما ستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان لما يحصل من الجحد والطغيان ولا يتناهى إعجاب الزارع إلى حد يلهي عن الله إلا مع الكفر به سبحانه فإن المؤمن وإن أعجبه ذلك يتذكر به قدرة الله سبحانه وتعالى عظمته وما أعد لأهل طاعته في الآخرة ، فيحمله ذلك على الطاعة ، فالتعبير بالكفار الذي هو بمعنى الزراع دونه إشارة إلى عظمة(7/452)
صفحة رقم 453
ذلك النبات فإنه لا يعجب العارفين به الممارسين له الذي لهم غياة الإقبال على تلك الحرفة فالمنافسة فيها إلا ما يكون منها نهاية في الإعجاب ، وإلى أنه لا يعجب أحداً شيء من الدنيا إعجاباً يركن ويأنس به أنساً يؤدي إلى ما في الآية من اللهو وما معه إلا لكفر في نفسه أقله كفر النعمة التي من شأنها أن تدعو إلى تذكر الخالق وتذكر الجميل على الشكر ، وترك الشكر كفر ) نباته ( اي نبات ذلك الغيب كما يعجب الكافر في الكفر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى .
ولما كان الزرع يشيخ بعد مُدَيدة فيضمحل كما هو شأن الدنيا كلها قال : ( ثم يهيج ) أي يسرع تحركه فيتم جفافه فيحين حصاده ) فتراه مصفراً ) أي عقب ذلك بالقرب منه على حالة لا ثمر معها بل ولا نبات ، ولذلك قال معبراً بالكون لأن السياق للتزهيد في الدنيا وأنها ظل زائل لا حقيقة لها : ( ثم ) أي بعد تناهي جفافه وابيضاضه ) يكون ) أي كوناً كأنه مطبوع عليه ، وأبلغ سبحانه في تقرير اضمحلاله بالإتيان مع فعل الكون هنا للمبالغة لأن السياق لتقرير أن الدنيا عدم وإن كانت في غاية الكثرة والإقبال والمؤاتاة بخلاف ما مضى في الزمر فقال : ( حطاماً ( كأن الحطامية كانت في جبلته وأصل طبعه .
ولما ذكر الظل الزائل ، ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له على قسمين ، فقال عاطفاً على ما تقديره هذا حال الدنيا في سعرة زوالها وتحقق فنائها واضمحلالها : ( وفي ) أي هذا الذي غر من حال الدنيا وهو في ) الآخرة ( على أحدهما ) عذاب شديد ) أي لمن أخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله لأن الاغترار بها سببه ، فكان كأنه هو .
ولما قدم ما هو السبب الأغلب لأن أكثر الخلق هالك ، أتبه الصنف الناجي .
فقال : ( ومغفرة ) أي لأهل الدرجة الأولى في الإيمان ) من الله ) أي الملك الأعظم لمن يذكر بما صنعه له في الدنيا عظمته سبحانه وجلاله فتاب من ذنوبه ، ورجع إليه في التطهير من عيوبه ) ورضوان ( لأهل الدرجة العليا وهم من أقبل عليه سبحانه فشكره حق شكره ببذل وسعه فيما يرضيه ، فآخر الآية تقسيم للدنيا على الحقيقة لئلا يظن من حصرها فيما ذكر أول الآية أنها لا تكون إلا كذلك ، فالمعنى أن الذي ذكره أولاً هو الأغلب لأحوالها عاقبته النار ، وما كان منها من إيمان وطاعة ونظر توحيد الله وتعظيم ومعرفة تؤدي إلى أخذها تزوداً ونظرها اعتباراً وتعبداً ، فهو آخره لا دنيا ، وقد تحرر أن مثل الغيث المذكور الحطام وتارة يعقبه نكد لازم وأخرى سرور دائم ، فمن عمل في ذلك عمل الحزمة فحرس الزرع ما يؤذيه وحصده في وقته وعمل فيه ما ينبغي ولم ينس حق الله فيه سره أثره وحمدت عاقبته ، ومن أهمل ذلك أعقبه الأسف ، وذلك هو مثل(7/453)
صفحة رقم 454
الدنيا : من عمل فيها بأمر الله أعقبته حطاميتها سروراً دائماً ، ومن أهمل ذلك أورتثه حزناً لازماً ، وكما كان التقدير : فما الآخرة لمن سعى لها سعيها وهو مؤمن إلا حق مشهور وسعي مشكور ، عطف عليه قوله : ( وما الحياة الدنيا ) أي لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة ) إلا متاع الغرور ) أي لهو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك ، لأنه لا يجوز لمن أقبل على التمتع إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر .
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة. .. . .
) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما بين أن الدنيا خيال ومحال ليصرف الكملة من العباد عنها لسفولها وحقارتها ، وأن الآخرة بقاء وكمال ليرغبوا غاية الرغبة فيها وليشتاقوا كل الاشتياق لكمالها وشرفها وجلالها ، أنتج ذلك قوله تعالى : ( سابقوا ) أي افعلوا في السعي لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل من يسابق شخصاً فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه ، ولكن ربما كان قرينه بطيئاً فسار هويناً ، وأما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف ، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة الأخص من المسابقة أبلغ لأنها للحث على التجرد عن النفس والمال وجميع الحظوظ أصلاً ورأساً ، ولذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين .
وأما هذه ففي سياق التصديق الذي هو تجرد عن فضول الأموال ولذلك كانت جنته للذين آمنوا .
ولما كان المقام عظيماً ، والإنسان - وإن بذلك الجهد - ضعيفاً ، لا يسعه إلا الفعو سواء كان سابقاً أو لاحقاً من الأبرار والمقربين ، نبه على ذلك بقوله في السابقين ؛ ) إلى مغفرة ) أي ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ) من ربكم ) أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أساب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره .
ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال : ( وجنة ) أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله .
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال : ( عرضها ) أي فما ظنك بطولها .
ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال : ( كعرض السماء والأرض ) أي لو وصل بعضها ببعض ، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها ، ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أن تقد كل واحدة منهما ويوصل رأس كل قدة برأس الأخرى ، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك ، وهذه الآية ظاهرها عرض واحد وأرض واحدة ) أعدت ) أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ) للذين آمنوا ((7/454)
صفحة رقم 455
أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعاً لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين ، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة ، وأن الإيمان كاف في استحقاقها ، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك ) بالله ) أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له بالإيمان ) ورسله ( فلم يفرقوا بين أحد منهم ، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران ، وإن قيل : إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد ، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات .
ولما كان من ذكر من الوعد بالمغفرة والجنة عظيماً لا سيما لمن آمن ولو كان إيمانه على أعلى الدرجات ومع التجرد من جميع الأعمال ، عظمه بقوله رداً على من يوجب عليه سبحانه شيئاً من ثواب أو عقاب : ( ذلك ) أي الأمر العظيم جداً ) فضل الله ) أي الملك الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه ) يؤتيه من يشاء ( ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملاً وأكثر أجراً ، فإذا حسدهم أهل الكتاب قال تعالى : هل ظلمتكم من أمركم شيئاً ، فإذا قالوا : لا ، لأن المصروف من الأجر لجميع الطوائف على حسب الشرط ، قال : ذلك فضلي أوتيه من أشاء .
) والله ) أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله ) ذو الفضل العظيم ) أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول .
الحديد : ( 22 - 23 ) ما أصاب من. .. . .
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ( )
ولما كانت الدنيا مانعة عن العكوف إلى الآخرة بلذاتها وآلائها ، وكانت كما أنها منزل رخاء هي دار بلاء ، وكان قد اقتصر سبحانه في الآية السالفة على الأول لأن السياق للإنفاق والترغيب في معالي الأخلاق وجعل المسابقة إلى السعادة نتيجة الزهد فيها ، تحركت النفس إلى اسؤال عما يعوق عن الخير من الضرب بسياط البلاء فقال مسلياً عنه لأن النفوس أشد تأثراً بالمكاره وأسرع انفعالاً بالمقارع ومحققاً ومغرياً بالإعلام بأنه لم يكن فيها خير ولا شر إلا بقضاء حتم في الأزل وقدر أحكم ووجب حين لم يكن غيره شيء عز وجل ، وذكر فعل المؤنث الجائز التذكير لكون التأنيث غير حقيقي إشارة إلى عظم وقع الشر : ( ما أصاب ( وأكد النفي فقال : ( من مصيبة ( وهي في الأصل لكل آت من خير أو شر إلا أن العرف خصها بالشر ، وعم الساكن والمتحرك(7/455)
صفحة رقم 456
بقوله : ( في الأرض ) أي من منابتها ومياهها ونحو ذلك ) ولا في أنفسكم ) أي بموت ومرض وعين وعرض ) إلا ( هي كائنة ) في كتاب ) أي مكتوب لأنه مقدر مفروغ من القدم ، وبين أن الكتابة حدثت بعد أن كان هو سبحانه ولا شيء معه بإدخال الجارّ فقال : ( من قبل أن نبرأها ) أي نخلق ونوجد ونقدر المصيبة والأرض والأنفس ، وهذا دليل على أن اكتساب العباد يجعله سبحانه وتقديره .
ولما كان ذلك متعذراً على الملخوق فهو أشد شيء تكرهاً له وقوفاً مع الوهم قال مؤكداً : ( إن ذلك ) أي الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل كونه ، ثم سوقه النفوس والأسباب إلى إخراجه بعد التكوين على مقدار ما سبق علمه به وكتبه له ) على الله ) أي على ما له من الإحاطة بالكمال ) يسير ( لأن عمله محيط بكل شيء وقدرته شاملة لا يعجزها شيء .
ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة ، بين ثمرة أعماله بقوله : ( لكيلا ) أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، لأن الحزن لا يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن ) أجل أن لا ) تأسوا ) أي تحزنوا حزناً كبيراً زائداً ) على ( ما في أصل الجبلة ، يوصل إلى المبلغ بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء ، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم ) ما فاتكم ( من المحبوبات الدنيوية ) ولا تفرحوا ) أي تسروا سروراً يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة ) بما آتاكم ) أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو بالقصر ، وأعطاكم الله على قراءة الباقين بالمد ، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من فقد ما لديه من أعيان ومعان قبل أن تأمره بالعدم والوجدان ، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة ، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح الصادق : ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الوفت ، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك الموت - انتهى ، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا(7/456)
صفحة رقم 457
يفيدهم ، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله ، وذلك بأن يقول في المصيبة : قدر الله وما شاء الله فعل ويصير في النعمة هكذا قضى ، وما أدري ما مثله ) ) هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر ( ) [ النمل : 40 ] فلا يزال خائفاً عند النقمة راجياً أثر النعمة ، قائلاً في الحالين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل :
سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن ما كان قلبي للصبابة بمعهدا
وهذه صفة المتحررين من رق النفئ ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالوارادات المغيرة ، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته ، أشار إليه القشيري .
ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح ، وكان في أوصاف أهل الدنيا عاطفاً على ما تقديره : ( فإن الله لا يحب كل يؤوس كفور ( ) والله لا يحب ) أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم ) كل مختال ) أي متكبر نظر إلى ما في يده في الدنيا ) فخور ( قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها ، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر .
الحديد : ( 24 - 25 ) الذين يبخلون ويأمرون. .. . .
) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ( )
من جملة صفات المختال المكاثر بالمال البخل ، وكان قد تقدم الحث على الإنفاق ، وكان ما يوجبه لذة الفخار والاختيال التي أوصل إليها المال حاملة على البخل خوفاً من الإقتار الموجب عند أهل الدنيا للصغار ، قال تعالى واصفاً للمختال أو ) لكل ( : ( الذين يبخلون ) أي يوجدون هذه الحقيقة مع الاستمرار ) ويأمرون الناس ) أي كل من يعرفونه ) بالبخل ( إرادة أن يكون لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة فيحامون عنهم أو أنهم يوجبون بأعمالهم من التكبر والبطر في الأموال بأعمالهم الخبيثة البخل استدراجاً من الله لهم بخل غيرهم لأنه إذا رأهم عظموا بالمال بخل ليكثر ماله ويعظم ، وذلك كله نتيجة فرحهم بالموجود وبطرهم عند إصابته ، فكانوا آمرين بالبخل لكونهم أسباباً له والسبب كالآمر في إيجاد شيء .(7/457)
صفحة رقم 458
ولما كان التقدير : فمن أقبل على ما ندب إليه من الإقراض الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله شكور حليم ، عطف عليه قوله ذاماً للبخل محذراً منه : ( من يتول ) أي يكلف نفسه من الإعراض ضد ما في فطرته من حبة الخير والإقبال على الله ) فإن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) هو ) أي وحده ) الغني ) أي عن ماله وإنفاقه وكل شيء إلى الله مفتقر ) الحميد ) أي المستحق للحمد وسواء حمده الحامدون أم لا ، وقراءة نافع وابن عامر بإسقاط هو مفيدة لحصر المبتدأ في الخبر للتعريف وإن كانت قراة الجماعة آكد .
ولما ظهرت الأدلة حتى لم يبق لأحد علة ، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان ، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان ، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبين حقيقتها ، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب ما لا يليق من التفاخر وما شاكله وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه ، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة ، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء : هو أوتوا من البيان وما أزال اللبس ، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية ، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف ، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه ، وقسر يكفيه بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، ومن الأنبياء إلى الأمم ) بالبينات ) أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً ، ودل على عظمة أنبيائه علهيم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم بالإرسال كأنهم أتو إلى العباد من موضع عال جداً فقال : ( وأنزلنا ( بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها ) معهم الكتاب ) أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع .
ولما كان فهم الكتاب ربما أشكل فإنه يحتاج إلى ذهن صقيل وفكر طويل ، وصبر كبير وعلم كثير - قال الرازي : وبهذا قيل : لولا الكتاب لأصبح العقل حائراً ولولا العقل لم ينتفع بالكتاب ، عقبه بما يشترك في معرفته الكبير والصغير ، والجاهل والنحرير ، وهو أقرب الأِياء إلى الكتاب في العلم بمطابقة الواقع لما يرد فقال : ( والميزان ) أي العدل والحكمة ، ولعله كل ما يقع به التقدير حساً أو معنى ، وتعقيبه به إشارة إلى أن عدم زيغه لعدم حظ ونحوه ، فمن حكم الكتاب خالياً عن حظ نفس وصل إلى المقصود ) ليقوم الناس ) أي الذين فيهم قابلية التحرك إلى المعالي كلهم ) بالقسط ) أي العدل الذي لا(7/458)
صفحة رقم 459
مزيد عليه لانتظام جميع أحوالهم ، هذا لمن أذعن للبينات لذات من أقامها أو للرغبة فيها عنده .
ولما كان الإعراض بعد الإبلاغ في الإيضاح موجباً للرد عن الفساد بأنواع الجهاد ، قال مهدداً وممتناً ترغيباً وترهيباً معبراً عن الخلق بالإنزال تشريفاً وتعظيماً : ( وأنزلنا ) أي خلقنا خلقاً عظيماً بما لنا من القدرة ) الحديد ) أي المعروف على وجه من القوة والصلابة واللين والحدة لقبول التأثير يعد به كالبائن لما في الأرض ، فلذلك سمي إيجاده إنزالاً ، ولأن الأوامر بالإيجاد والإعدام تنزل من السماء على أيدي الملائكة لأن السماء محل الحوادث الكبار ، والبدائع والأسرار ، لأن الماء الذي هو أصله وأصل كل نام ينزل من السماء وتكون الأرض له بمنزلة الرحمن للنطفة .
ولما وقع التشوف إلى سبب إنزاله ، قال : ( ومنافع للناس ( بما يعمل منه من مرافقهم ومعاونهم لتقوم أحوالهم بذلك ، قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها .
ولما كان التقدير : ليعلم الله من يعصيه ويخذل أولياءه ، بوضع بأسه في غير ما أمر به نصرة لشيطانه وهواه وافتنانه ، عطف عليه قوله : ( وليعلم الله ) أي الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم ، وأوقع ضمير الدين عليه سبحانه تعظيماً له لأنه شارعه فقال : ( من ينصره ) أي يقبل مجداً على الاستمرار على نصر دينه ) ورسله ( بالذب عنهم والدعاء إليهم ، كاثناً ذلك النصر ) بالغيب ( من الوعد والوعيد ، أي بسبب تصديق الناصر لما غاب عنه من ذلك ، أو غائباً عن كل ما أوجب له النصرة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ينصورنه ولا يبصرونه - انتهى .
فلم يدع سبحانه في هذه الآية لأحد عذراً بالرسل الذين هم الجنس مع تأييدهم بما ينفي عنهم اللبس ، والكتاب العالي عن كلام الخلق ، والعقل الذي عرف العدل ، والسلاح الذي يرد أولي الجهل ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف ) فبيان الشرائع بالكتاب ، وتقويم أبواب العدل بالميزان ، وتنفيذ هذه المعاني بالسيف ، فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها ، فالملك والدين توأمان ، فالدين بلا ملك ضائع ، والملك من غير دين باطل ، والسلطان ظل الله في الأض ، فظواهر الكتاب للعوام ، ووزن معارفه لأهل الحقائق(7/459)
صفحة رقم 460
بالميزان ، ومن خرج عن الطائفتين فله الحديد وهو السيف لأن تشويش الدين منه - نبه عليه الرازي .
ولما كان طالب النصرة مظنة لتوهم الضعف ، قال نافياً لذلك مؤكداً قطعاً لتعنت المتعنتين مظهراً للاسم الأعظم إشارة إلى أن من له جميع صفات الكمال لا يمكن أن تطرقه حاجة : ( إن الله ) أي الذي له العظمة كلها .
ولما لم يكن هنا داع إلى أكثر من هذا التأكيد : بخلاف ما أشير إليه من الإخراج من الديار المذكورة في الحج ونحوه ، قال معلماً بأنه غني عن كل شيء معرياً الخبر من اللام : ( قوي ) أي فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أولياءه ) عزيز ( فهو غير مفتقر إلى نصر أحد ، وإنما دعا عباده إلى نصر دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ، ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي ، ببنائه هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب .
الحديد : ( 26 - 27 ) ولقد أرسلنا نوحا. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ( )
ولما عم الرسل جامعاً لهم في البينات ، فكان السامع جديراً بأن يتوقع التعيين ، وخص من بينهم من أولي العزم أبوين جامعين في الذرية والرسالة ، لأن ذلك أنسب لمقصود السورة لتبيين فضل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي عم برسالته عموماً لم يكن لأحد غيره ، فنوح عليه السلام أرسل لأهل الأرض لكونهم كانوا على لسان واحد ، وعموم إبراهيم عليه السلام بأولاده علهيم السلام ونص بعدها على عيسى عليه السلام بما له من عموم الرسالة إلى بني إسرائيل بالنسخ والتشريع ، ثم من نزوله في هذه الأمة بالتقرير والتجديد فقالك ) ولقد أرسلنا ) أي بما لنا من صفات الكمال والجمال والجلال ) نوحاً ( الأب الثاني ، وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال ) وإبراهيم ( أبا العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله ، وجعلنا الأغلب على رسالته مجلى الإكرام ) وجعلنا ( بما لنا من العظمة ) في ذريتهما النبوة ( المقتضية للوصلة بالملك الأعظم لتنفيذ الأوامر ) والكتاب ( الجامع للأحكام الضابط للشرائع بأن استنبأنا بعض ذريتهما وأنزلنا إليهم الكتب فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدلٍ إليهما بأمتن الأسباب وأعظم الأنساب .(7/460)
صفحة رقم 461
ولما كان مظهر العظمة متضياً لإشقاء من أريد إشقاؤه مع عدم المبالاة به ، كائناً من كان ، سواء اتصل بالأولياء أو الأعداء لئلا يأمن أحد فيقع في الخسران أو ييأس أحد فيلزم الهوان قال : ( فمنهم ) أي ذرية هذين الصنفين ) مهتد ( هو بعين الرضا منا - وهو من لزم طريق الأصفياء واستمسك بعهدهم ولم يزغ أصلاً وإن كان من أولاد الأعداء .
ولما كان من زاغ بعد تذكيره بالكتب والرسل ، كان مستحقاً للمبالغة في الذم ولو أنه واحد فكيف إذا كان كثيراً ، نبه بتغيير السياق على ذلك وعلى أن الأغلب الضلال فقال : ( وكثير منهم ) أي الذرية الموصوفين ) فاسقون ( هم بعينه السخط وإن كانوا أولاد الأصفياء وهم من خالف الأولياء بمنابذة أو ابتداع أو زيغ عن سبيلهم بما لم ينهجوه من تفريظ وإفراط .
ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال مشيراً إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي : ( ثم قفينا ) أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه ) على آثارهم ) أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل ، ولا يعود الضمير على ) الذرية ( لأنها باقية مع الرسل وبعدهم ) برسلنا ) أي فأرسلناهم واحداً في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة ، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه ، فكل رسول بين يدي الذي بعده ، والذين بعده في قفاه - فهو مقف له لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له ، فنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أعرف الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده ، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه .
ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشرعيته والمؤيد به هذا النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) في تجديد دينه وتقرير شريعته ، وكان الزهد والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبه سابقاً على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده ، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال : ( وقفينا ) أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس ) بعيسى ابن مريم ( وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام ، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وآتيناه ( بما لنا من العظمة ) الإنجيل ( كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبيناً للقيامة مبشراً بالنبي العربي موضحاً لأمره كثراً من ذكره ) وجعلنا ( لعزتنا ) في قلوب الذين اتبعوه ) أي بغاية جهدهم ، فكانوا على مناهجه ) رأفة ) أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى(7/461)
صفحة رقم 462
الاتصال بهم ) ورحمة ) أي رقة وعطفاً من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين ، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في ) رؤف رحيم ( كما قاله بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال ) ورهبانية ) أي أموراً حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس .
ولم قدم المعمول لفعل غير مذكر ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكوراً مرتين تأكيداً له إفهاماً لذم نفس الابتداع ، أتبعه المفسر لعامله فقال : ( ابتدعوها ) أي حملوا أنفسهم على عملها والتطيق بها من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها فاعتزلوا لأجلها الناس ، وانقطعوا في الجبال على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها ) ما كتبناها ) أي فرضناها بعظمتنا ) عليهم ( في كتابهم ولا على لسان رسولهم ) إلا ) أي لكن ابتدعوها ) ابتغاء ) أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على ) رضوان الله ) أي الرضا العظيم من الملك الأعظم ، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله ، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها ، وأنه صيرها بعد إلزامهم بها كالمكتوبة ، فيكون التقدير حينئذ : إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام ، قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري في كتابه ( فتوح مصر والمغرب ) : فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال : استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في الرجوع إلى أهله وماله بمصر فأذن لهم ودعا لهم بترهبوا مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجلن ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام .
ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها(7/462)
صفحة رقم 463
قال : ( فما رعوها ) أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها ) حق رعايتها ( بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال ، فصون الأعمال توفيرها ورعاية الوقت الوقف مع حضور على بساط شهود الجلال - ذكره الرازي .
بل غلبت عليهم صفات البشر فقصر بعضهم عن عالي مداها ، وانحطوا عن شامخ ذراها ، هذا تنفير عظيم عن البدع ، وحث شديد على لزوم ما سنه الله وشرع ، وتحذير من التشديد ، فإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه وهو الترحال إلى البدعة ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا ولو كان يظهر أن التشديد والتعمق خير لأن الشارع الذي أحاط علماً بما لم يحط به نهى عنه ، وقد أفادت التجربة أنه قد يغر لأن هؤلاء ابتدعوا ما أرادوا الخير ، فكان داعياً لكثير منهم إلى دار البوار ، وفيه أيضاً حث عظيم على المداومة على ما اعتيد من الأعمال الصالحة خصوصاً ، ماعمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عملاً إلا دوام عليه ، وكان ينهى عن التعمق في الدين ، ويأمر بالرفق والقصد .
ولما كانت متابعة النفس في التقصير بالإفراط قد توصل إلى المروق من الدين فيوجب الكفر فيحط على الهلاك كله ، أشار إلى ذلك بقوله : ( فآتينا ) أي بما لنا من صفات الكمال ) الذين آمنوا ) أي استمروا على الإيمان الكامل ، ولعل في التعبير بالماضي بعد إرادة التعميم للأدنى والأعلى إشارة إلى إن المتعمق بين إيمان وكفر لا تجرد معصيته كما أشار إليه ختم الآية فهو في غاية الذم للتعمق والمدح للاتقصاد ) منهم ) أي من هؤلاء المبتدعين لأنهم رعوها حق رعايتها ووصلوا إيمانهم بعيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي دعا إليه الخروج عن النفس الذي هو روح الرهبانية بموافقتهم لما في كتابهم من من البشائر به ) أجرهم ) أي اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف .
ولما كانت متابعة الأهواء تكسب صفات ذميمة تصير ملكات راسخة للأنفس ، أشار إلى ذلك بالعدول عن النهج الأول فقال : ( وكثير منهم ) أي هؤلاء الذين ابتدعوا فضيعوا ) فاسقون ) أي عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدها الله تعالى ، روى البغوي من طريق الثعلبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من آمن بي فقد رعاها حق رعايتها ، ولمن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ) انتهى .
ومثل هذه(7/463)
صفحة رقم 464
الرهبانية في أنها لا تأباها قواعد الدين ما يفهمه بعض العلماء من الكتاب والسنة فيتذكره ، فيكون أخذنا له من الأصول التي نبه عليها لا منه ، كما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون أشياء فإن قررهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت شرعاً لنا وكنا آخذين لها من تفسيره ( صلى الله عليه وسلم ) لا منهم ، فإن من ملكه الله رتبة الاجتهاد في شيء وأمكنه فيه من القواعد فأداه اجتهاده إلى أن هذا مندوب إليه مرغوب فيه مثلاً ، كان ذلك بما يشهد له من قواعد الدين بمنزلة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم فأقرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا فرق بين أن يقرره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه أو بقواعد شريعته ، ومهما كان مقرراً بقواعد شرعه كان عليه أمره ، ومهما لم يكن مقرراً بها كان مما ليس عليه أمره فهو رد على قائله ، فهذا فرق بين البدع الحسنة والبدع القبيحة - والله الموفق ، وذكر ابن برجان تنزيل هذا الحديث الذي فيه ( لتتبعن سسن من كان قبلكم ) فذكر أن أصحاب عيسى عليه السلام عملوا بعده بالإنجيل حتى قام فيهم ملك بدل كتابهم ، وشايعه على ذلك روم ويونان ، فعضف أهل الإيمان ، فاستذلوهم حتى هبروا إلى البراري ، وعملوا الصوامع والبتدعوا الرهبانية ، وكذلك كان في هذه لتصديق الحديث الشريف فإنه لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تبعه خلفاؤه بإحسان ، فلما مضت الخلافة الراشدة تراكمت الفتن كما أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان ، ورجم البيت العتيق بحجارة المنجنيق وهدم ، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما واستبيحت مدينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أيام ، وقتل خيار من فيها فرأى المسلمون العزلة واجبة ، فلزموا الزوايا والمساجد وابتنوا الروابط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس ، وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذاً من أحوال أهل الصفة ، وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والأحوال والمقامات فهؤلاء وزان أولئك - والله الموفق .
ذكر ما في الإنجيل ما من الحكم التي توجب الزهد في الدنيا والإقبال على لاله التي يصح تمسك أهل هذه الرهبانية بها : قال متى وغيره وأغلب السياق لمتى : إن أخطأ عليك أخوك فاذهب أعتبه وحدكما ، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك ، وإن لم يسمع منك فخذ معك واحداً أو اثنين ، لأن من فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة ، وإن لم يسمع منهم فقل للبيعة ، فإن لم يسمع من البيعة فيكون عندك كالوثني والعشار ، الحق أقول لكم ، وقال لوقا : انظروا الآن إن أخطأ إليك أخوك فانهه ، فإن تاب فاغفر له ، فإن أخطأ إليك سبع دفعات في اليوم ورجع إليك سبع دفعات يقول لك : أنا تائب ، فاغفر(7/464)
صفحة رقم 465
له ، وقال متى : حينئذ جاء إليه بطرس وقال له : إذا أخطأ إليّ أخي لم إغفر له سبع مرات ، قال : ليس أقول لك إلى سبع مرات ، بل إلى سبعين مرة ، ولهذا يشبه ملكوت السماوات ملكاً أراد أن يحاسب عبيده ، فلما بدأ بمحاسبتهم قدم إليه عبد مديون عليه جملة وزنات ، ولم يكن معه ما يوفي ، فأمر سيده أن تباع امرأته وبنوه وكل ما له حتى يوفي ، فخر ذلك العبد له ساجداً قائلاً : يا رب ، ترأف عليّ تأن ، أوفك كل مالك ، فتحنن علهي سيده وترك له كل ما عليه ، فخرج ذلك العبد فوجد عبداً من أصاقائه عليه مائة دينار فأمسكه وخنقه وقال : أعطني ما عليك ، فخر ذلك العبد على رجليه وطلب إليه قائلاً : ترأف عليّ فأنا أعطيك مالك ، فأبى ومضى ورتكه في السجن حتى يوفي الدين ، فرأه العبد أصحابه فحزنوا عليه جداً وأعلموا سيده بكل ما كان منه ، حينئذ دعاه سيده وقال له : ايها العبد الشرير كل ما كان عليك تركت بذلك لأنك سألتني ، ما كان ينبغي لك أن ترحكم ذلك العبد صاحبك كرحمتي إياك ، وغضب سيده ودفعه إلى المعذبين حتى يوفي جميع ما عليه ، هكذا أبي السماواي يصنع بكم إن لم تغفروا لإخوانكم سيئاتهم من كل قلوبكم ، فملا أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم يهود عبر الأردن فتبعه جمع كثير فأبرأهم هناك ، قال لوقا : فلما أكمل أيام صعوده أقبل بوجهه إلى يروشليم ، وأرسل مخبرين قدام وجهه فمضوا ودخلوا قرية السامرة ، لكيما يعدوا له فلم يقبلوه فقال تلميذاه يعقوب ويوحنا : يا رب تريد أن نقول فتنزل عليهم نار من السماء فتهلكهم كما فعل إليا ، فالتفت فنهرهما قائلاً : لستما تعرفان أي روح أنتما ، إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل يحيي ، ومضى إلى قرية أخرى ، وقال متى : حينئذ قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ويباركهم فنهرهم التلاميذ فقال لهم يسوع : جعوا الصبيان ولا منعوهم أن يأتوا إليّ لأن ملكوت السماوات لمثل هؤلاء ، ووضع يده عليهم وبارك لهم ، وقال مرقس : الحق أقول لكم ، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها ، واحتضنهم ووضع يده عليهم وباركهم ، وقال متى : ومضى من هناك وجاء إليه واحد وقال : يا معلم صالح - وقال مرقس : أيها الملعم الصالح - ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة ، قال له : لماذا تقول : صالح ، ولا صالح إلا الله الواحد ، إن كنت تريد أن تدخل الحياة احفظ الوصايا ، قال له : وما هي ؟ قال يسوع : لا تقتل ولا تسرق ولا تزن ولا تشهد الزور ، وقال مرقس : لا تجر ، أكرم أباك وأمك - حب قريبك مثلك ، قال له الشاب : كل هذا قد حفظته من صغري ، قال له يسوع : إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب ، وقال مرقس : فنظر إليه يسوع وأحبه ، وقال : تريد أن تكون كاملاً ، واحدة بقيت عليك : امض وبع كل شيء لك وأعطه(7/465)
صفحة رقم 466
للمساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ، فلما سمع الشاب الكلام مضى حزيناً لأنه كان له مال كثير ، فقال يسوع لتلامذته : الحق أقول لكم إنه يعسر على الغني الدخول إلى ملكوت السماء ، وأيضاً أقول لكم : إنه أسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من غني يدخل ملكوت السموات ، فلما سمع التلاميذ بهتوا جداً وقالوا : من يقدر أن يخلص ، فنظر يسوع وقال لهم : أما عند الناس فلا يستطاع هذا ، وأما عند الله فكل يستطاع ، حينئذ أجاب بطرس وقال له : هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك ، فماذا عسى أن يكون لنا ، قال لهم يسوع : الحق والحق أقول لكم أنتم الذين اتبعتموني في الجبل الآتي إذا جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم على اثني عشر كرسياً ، تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل ، كل ما ترك بنين أو أخاً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو بيتاً أو حقلاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث حياة الأبد ، وقال لوقا : ما من أحد ترك منزلاً أو والدين أو إخوة أو امرأة أو مالاً من أجل ملكوت الله إلا وينال العوض أضعافاً كثيرة في هذا الزمان وفي الدهر الآتي حياة الأبد ، وقال متى وغيره : كثيراً أولون يصيرون آخرين : وأخرون يصيرون أولين ، يشبه ملكوت السموات إنساناً رب بيت خرج الغداة ليستأجر فعله لكرمه ، فشارك الأكرة على دينار واحد في اليوم - إلى آخر ما مضى في الأعراف من البشارة بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل الفعلة في الكرم الذي فضل آخرهم وهو العامل قليلاً على من عمل أكثر النهار وقد ساقه ابن برجان في آخر تفسير سورة الحديد عن الإنجيل بعبارة أخرى تفسيراً كثيراً من عبارة النسخة التي نقلت ذاك منها ، فأحببت أن أذكره عبارة ابن برجان هنا تكميلاً للفائدة ، قال : وفي الكتاب الذي يذكر أنه الإنجيل : وكثيراً يتقدم الآخرون الأولون ويكون الأولون ساقة الآخرين : ولذلك يشبه ملكوت السموات برجل ملي خرج في استئجار الأعوان لحفر كرم في أول النهار ، وعامل كل واحد في نهاره على درهم ثم ادخلهم كرمه ، فلما كان في الساعة الثالثة بصر لغيرهم في الرحاب لا شغل لهم فقال : اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم وسآمر لكم بحقوقكم ، ففعلوا ، ثم فعل مثل ذلك في الساعة السادسة والتاسعة ، فلما كان في الساعة الإحدى عشرة وجد غيرهم وقوفاً فقال لهم : لم وقفتم هنا طول نهاركم دون عمل ؟ فقالوا له : إنا لم يستأجرنا أحد ، فقال لهم : اذهبوا أنتم سآمر لكم بحقوقكم ، فلما انقضى النهار قال لوكيله : ادع الأعوان وأعطهم أجرتهم وابداً بالآخرين حتى تنتهي إلى الأولين ، فبدأ بالذين دخلوا يرجون الزيادة ، فأعطى كل واحدٍ منهم درهماً ، فاستذكروا ذلك على صاحب الكرم وقالوا : سويتنا بالذين لم يعملوا(7/466)
صفحة رقم 467
إلا ساعة من النهار في شخوصنا طول نهارنا وعذابنا بحرارته ، فأجباب أحدهم وقال : لست أظلمك يا صديق ، أما عاملتني على درهم فخذ حقك وانطلق فإنه يوافقني أن أعطي الآخر كما أعطيتك ، أفلا يحل لي ذلك ؟ وإن كنت حسوداً فإني أنا رحيم ، ومن أجل ذلك يتقدم الآخرون الأولين ، ويكون الأولون ساقة الآخرين فالمدعوون كثير ، والخيرون قليل ، وذكر ابن برجان أن الساعة السادسة لعيسى عليه السلام وأصحابه في أول الأمر والتاسعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والحادية عشرة لآخر الزمان - كأنه يعني ما بعد الدجال من أيام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجداً ، ولهذا جعلهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً ، ولهذا جعلهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الصحيح شيئاً واحداً من العصر إلى غروب الشمس ، ثم قال متى في بقية ما مضى من الإنجيل في النسخة التي نقلت منها عقب ما تقدم أنه في الأعراف : فصعد يسوع إلى يروشليم وأخذ الاثني عشر ، حينئذ جاءت إليه أم ابني زبدي - هما يعقوب ويوحنا - مع ابنيها وسجدت له ، فقال لها : ماذا تريدين ؟ قالت : أن يجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك ، أجاب يسوع : أما جلوسهما عن يميني ويساري فليس لي بل للذي أعده لهم ربي ، فملا سمع العشرة تقمقموا على الآخرين - وقال مرقس : على يعقوب ويوحنا - فدعاهم يسوع وقال لهم : أما علمتم أن رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم مسلطون عليهم ، ليس هكذا يكون فيكم ، لكن من أراد أن يكون فيكم كبيراً فيكون لكم خادماً ، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فيكون لكم عبداً ، وقال مرقسك فيكون آخر للكل وخادماً للجميع ، كذل ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم ، ويبذل نفسه فداء عن كثير ، فلما خرج من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فسمعا أن يسوع مجتاز فصرخا قائلين : ارحمنا يا رب يا ابن داود ، فوقف يسوع ودعاهما وقال لهما : ما تريدان أن أفعل لكما ، قالا له : يا رب ، أن تفتح أعيننا ، فتحنن يسوع ولمس أعينهما وللوقت أبصرت أيعنهما وتبعاه ، وعبارة مرقس عن ذلك : وجاء إلى إريحا وخرج من هناك وتبعه تلاميذه وجمع كثير وإذا طيماس بن طماس الأعمى جالس يسأل عن الطريق - وقال لوقا : يتوسل - فسمع الجمع المجتاز فسأل : ما هذا ، فأخبروه أن يسوع الناصري جاء ، وقال مرقس : فلما سمع بأن يسوع مقبل بدأ يصيح ويقول : يا يسوع الناصري ابن داود ارحمني ، فانتهروه ليسكت ، فازداد صياحاً قائلاً : يا رب يا ابن داود ، ارحمني ، فوقف يسوع وقال : ادعوه ، فدعي الأعمى وقالوا له : ثق وقم فإنه يدعوك ، وطرح ثوبه ونهض وجاء إلى يسوع فأجابه يسوع وقال له : ما تريد أن أصنع بك ؟ فقال له الأعمى : يا معلم ، وقال لوقا : يا رب - أن أبصرت ، فقال له يسوع :(7/467)
صفحة رقم 468
اذهب إيمان خلصك ، وللوقت أبصر ، وتبعه في الطريق - قال لوقا : يمجد الله - وكان جميع الشعب الذين رأوه يسبحون الله .
وقال أيضاً : وكان بينما هو منطلق إلى يروشليم اجتاز بين السامرة والجليل ، وفيما هو داخل إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين : يا يسوع الملعم ارحمنا فنظر إليهم وقال لهم : اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة ، وفيما هم منطلقون طهروا ، فلما رأى أحدهم أنه قد طهر رجع بصوت عظيم بمجد الله وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له ، وكان سامرياً ، أجاب يسوع وقال : أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة ، ألم يجدوا ليرجعوا ويمجدوا الله ما خلا هذا الغريب ، ثم قال له : قم فامض ، إيمانكم خلصك .
قال متى : ولما قربوا من يروشلين وجاؤوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون - وقال مرقس : عند باب فاجي وبيت عنيا جانب طور الزيتون - قال متى : حينئذ أرسل يسوع اثنين من تلاميذه : وقال لهما : اذهبا إلى القرية التي أمامكما فتجدان أتانه مربوطة وجحشاً معهما فحلاهما وائتياني بهما فإن قال لكما أحد شيئاً فقولا له : إن الرب محتاج إليهما فهو يرسلهما للقوت ، كان هذا ليتم ما قيل في النبي القائل قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك متواضعاً راكباً على أتانه وجحش ابن أتانة ، فذهب التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع ، فأتيا بالأتانة والجحش وتركوا ثيابهم عليهما ، وجلس معهما ، وجمع كثير فرشوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشوها في الطريق ، وعبارة مرقس عن ذلك : تجد أن جحشاً مربوطاً لم يركبه أحد من الناس قط ، فحلاه وائتيا به ، فإن قال لكما أحد : ما تفعلان بهذا ؟ فقولا : إن الرب محتاج إليه من ساعة يرسله ، فذهبا ووجدا الجحش مربوطاً عند الباب خارجاً عن الطريق فحلاه فقال لهما قوم من القيام هناك : ما تصنعان ؟ فقالا لهم كما قال يسوع فتركوهما ، وجاءا بالجحش إلى يسوع فألقوا عليهم ثيابهم وجلس عليهم وكثير بسطوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الحقل وفرشوها في الطريق .
قال متى : والجمع الذي تقدمه والذي تبعوا صرخوا قائلين : أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب ، قال مرقس : ومباركة المملكة الآتية باسم الرب لأبينا داود أوصنا في العلاء ، وقال لوقا : وكان لما قرب من منحدر جبل الزيتون بدأ جمع الملأ والتلاميذ يفرحون ويسبحون الله ويمجدونه بجميع الأصوات من أجل القوات التي نظروا قائلين : تبارك الملك الآتي باسم الرب والسلامة في السماء والمجد في العلا ، وقوم نم الفريسيين من بين الجمع قالوا له : ما معلم انتهر تلاميذك ، فقال لهم : إن سكت التلاميذ نطقت الحجارة ، فلما قرب نظر المدينة وبكى عليها وقال : لو علمت في هذا اليوم ما لك فيه من السلامة ، فأما الآن فإنه قد خفي عن عينيك ، وسوف تأتي أيام تلقى أعداؤك معلمك ويحيطون بك ويضيقون عليك من كل(7/468)
صفحة رقم 469
موضع ويقتلونك وبنيك فيك ولا يتركوا فيك حجراً ، وقال متى : فلما دخل إلى يروشليم ارتجت المدينة كلها قائلين : من هذا ؟ فقال الجمع : هذا يسوع النبي الضي هو من ناصرة الجليل ، فدخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال لهم : مكتوب أن بيتي بيت الصلاة يدعى ، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص .
وقال يوجنا : فصعد يسوع إلي يروشليم فوجد في الهيكل باعة البقرة والكباش والحمام وصيارف جلوساً ، فصنع محرضة من حبل وأخرج جميعهم من الهيكل فطرد البقر والخراف وبدد دراهم الصيارف وقلب موائدهم ، وقال متى : وقدم إليه عميان وعرج في الهيكل فشفاهم ، فرأى رؤساء الكهنة العجائب التي صنع ولاصبيان يصيحون في الهيكل ويقولون : أوصنا يا ابن داود ، مبارك الآتي باسم الرب ، فتقمقموا وقالوا : ما تسمع ما يقول هؤلاء ، فقال لهم يسوع : نعم ، أما وبات هناك في بيت هنيا وفي غد عبر إلى المدينة فجاع ونظر إلى شجرة تين على الطريق فجاء إيلها فلم يجد فيها شيئاً إلا الورق ، فقال لها : لا يخرج منك ثمرة إلى للوقت ، أجبا يسوع وقال لهم : الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكون ليس مثل هذه الشجرة التين فقط تصنعون ولكن تقولون لهذا الجبل : تعال واسقط في البحر ، فيكون ، وقال مرقس : إن كان لكم إيمان بالله ، لحق أقول لكم : إن من قال لهذا الجبل : انتقل واسقط في هذا البحر ، ولا يشك في قلبه بل يصدق فيكون له الذي قال : من أجل هذا أقول لكم : إن كل ما تسألونه في الصلة بإيمانه أنكم تنالونه فيكون لكم ، وقال متى : وكل ما تسألونه في الصلاة بإيمان تنالونه ، وقال مرقس : فقال له يوحنا ، يا معلم رأينا واحداً يخرج الشياطين باسمك فمعناه لأنه لم يتبعنا ، قال لهم يسوع : لا تمنعوه ليس يصنع أحد قوة باسمي ، ويقدر سريعاً أن يقول على الشر ، كل من ليس هو عليكم فهو معكم ومن سقاكم كأس ماء باسم أبيكم المسيح الحق أقو لكم : إن أجره لا يضيع .
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إطلاق الأب على الله وإطلاق الرب على غيره بلا قيد ، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك غير مرة - والله الهادي للصواب .
الحديد : ( 28 - 29 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( } )(7/469)
صفحة رقم 470
ولما قرر سبحانه أن الرسل دعاة للحق إلى سيدهم طوعاً أو كرهاً بالكتاب والحديد ، وقرر أن السعادة كلها في اتباعهم ، وأن البدع لا تأتي بخير وإن زيد الشيطان أمرها وخيل أنه خير ، وأن أصحاب الذي كان نسخ شريعة من قبله ابتدعوا بدعة حسنة فوكل إليها ففسق أكثرهم ، فاقتضى ذلك إرسال من يسنخ كل شريعة تقدمته نسخاً لا زوال له لأنه لا نبي بعده ونهى عن البدع نهياً لم يتقدمه أحد إلى مثله ، أنتج ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بذلك إقراراً صحيحاً بنبي مما تقدم أو بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) اتقوا الله ) أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه - لأنه الملك الأعظم - وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره ، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما هوبهكم ، فاتبعوا الرسول تسلموا ، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا ) وآمنوا برسوله ) أي الذي لا رسول له الآن غيره ، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله ، وبأن تثبتوا على الإيمان به ، وتضموا الإيمان به إلى الإيمان بمن تقدمه يا أهل الكتاب ، لأن رسالته عامة ، لقد نسخ جميع ما تقدمه من الأديان فإياكم أن يميلكم عنه ميل من حسد أو غيره ، فبادروا إلى إجابته والزموا جميعاً حذره فلا تميلوا إلى بدعة أصلاً ) يؤتكم ( ثواباً على اتباعه ) كفلين ) أي نصيبين ضخمين ) من رحمته ( تحصيناً لكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع ، وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره على العجز ، وهذا التحصين لأجل إيمانكم به ( صلى الله عليه وسلم ) وإيمانكم بمن تقدمه مع خفة العمل ورفع الأصار وهو أعلى بالأجر من الذي عمل الخير في الجاهلية ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمن سأله عنه ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ودل على أن الكفلين برفع الدرجات وإفاضة خواص من الخيرات بقوله : ( ويجعل لكم ) أي مع ذلك ) نوراً ( مجازياً في الأولى بالتوفيق للعمل من المعلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل ) تمشون به ) أي مجازاً في الأولى بالتوفيق للعمل ، وحقيقة في الآخرة بسبب العمل .
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان ، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن ، قال : ( ويغفر لكم ) أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد .
ولما قرر سبحانه وذلك ، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال : ( والله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء ) غفور ) أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً ) رحيم ) أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه .(7/470)
صفحة رقم 471
ولما كان أهل الكتاب قد تابعوا أهيتهم على بغض الأميين ، وأشربت قلوبهم أن النبوة مختصة بهم لأنهم أولاد إبراهيم عليه السلام من ابنة عمه ، والعرب - وإن كانوا أولاده - فإنهم من الأمة وما دروا أن كونهم من أولاده مرشح لنبة بعضهم وكونهم من الأمة ، مهيئ لعموم الرسالة لأجل عموم النسب ، قال دالاً على انهم صاروا كالبهائم لا يبصرون إلا المحسوسات معلقاً الجار ب ) آمنوا ( و ) يؤتكم ( وما بعد : ( لئلا يعلم ) أي ليعلم علماً عظيماً يثبت مضمون خبره وينتفي ضده - بما أفاده زيادة النافي ) أهل الكتاب ) أي من الفريقين الذي اقتصروا على كتابهم وأنبيائهم ولم يؤمنوا بالنبي الخاتم وما أنزل ) ألا ) أي أنهم لا ) يقدرون ) أي في زمن من الأزمان ) على شيء ) أي وإن قل ) من فضل الله ) أي الملك الأعلى الذي خصكم بما خصكم به لا يمنع ولا بإعطائكم حيث نزع النبوة منهم ووضها في بني عمهم إسماعيل عليه السلام الذي كانوا لا يقيمون لهم وزناً فيقولون : إنهم بنو الأمة ، وإنهم أميون ، وإنهم ليس عليهم منهم سبيل ، وجعل النبوة التي خصكم بها عامة - كما أشار إليه ما في ابن الأمة من شمول بنسبته وانشعابه وحيث عملوا كثيراً وأعطوا قليلاً : ( اليهود من أول النهار على قيراط قيراط ، والنصارى من الظهر على قيراط قيراط ، وهذه الأمة من صلاة العصر على قيراطين قيراطين ، فقال الفريقان : ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً ، قالك هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ، قالوا : لا ، قال : ذلك فضلي أوتيه من أشاء ) وذكر ابن برجان معنى هذا الحديث - كما تقدم عنه قريباً - من الإنجيل وطبقه عليه وذكرته أنا في الأعراف ، روى الإمام أحمد في مواضع من المسند والبخاري في سبعة مواضع في الصلاة والإجارة وذكر بني إسرائيل وفضائل القرآن والتوحيد ، والترمذي في الأمثال - وقال : حسن صحيح - من وجوه شتى جمعت بين ألفاظها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مثلكم ) - وفي هذه الرواية : ( مثل هذه الأمة ) ، وفي رواية : ( مثل أمتي ) وفي رواية : إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل ، وفي رواية : ( مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استعمل عملاء ) ، وفي رواية : ( استأجر أجراء ) فقال : ( من يعمل لي من صلاة الصبح ) وفي رواية أخرى : ( من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ، ألا فعملت اليهود ) - وفي رواية : ( قالت اليهود : نحن - فعملوا ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ، ألا فعملته النصارى ) ، وفي رواية : ( قالت النصارى : نحن ، فعملوا ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس ) - وفي رواية : إلى أن تغيب الشمس - ( على قيراطين قيراطين ، ألا فأنتم الذين عملتم ) ، وفي رواية : ( تعملون ) ، وفي رواية ( أنتم(7/471)
صفحة رقم 472
المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل ) ، وفي رواية ( إلى مغارب ) ، وفي رواية : ( مغرب الشمس على قيراطين قيراطين قيراطين ألا لكم الأجر مرتين ، فغضبت اليهود والنصارى ) وقالوا : ( نحن ) - وفي رواية : ( ما لنا - أكثر عملاً وأقل عطاء ) ، وفي رواية ( أجراً ، قال الله تعالى هل ) - وفي رواية : ( وهل - نقصتكم ) - وفي رواية : ( هل ظلمتكم - من حقكم شيئاً ) وفي رواية : ( أرجكم شيئاً ، قالوا : لا ، قال : فإنه ) - وفي رواية : ( فإنما - هو فضل ) ، وفي رواية : ( فذلك فضلي أوتيه من أشاء ) ، وفي رواية : ( أعطيه من شئت ) وفي رواية : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قائم على المنبر يقول : ( ألا إن بقاءكم ) ، وفي رواية : ( إنما بقاؤكم ) ، وفي رواية : ( إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ) - وفي رواية : ( فيما سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب ) - وفي رواية : ( إلى غروب الشمس ) ، وفي رواية : ( ألا إن مثل آجالكم في آجال الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغيربان ) ، وفي رواية : ( إلى مغرب ) ، وفي رواية : ( إلى مغارب الشمس ، أعطي ) - وفي رواية : ( أوتي - أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى انتصف النهار فعجزوا ، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ، وأعطي ) - وفي رواية : ( ثم أوتي - أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى ) - وفي رواية : ( إلى - صلاة العصر ) وفي رواية ( حتى صليت العصر ، ثم عجوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ، ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس ) ، وفي رواية : ( حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين ) ، وفي رواية : ( ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين ، فقال أهل الكتابين ) - وفي رواية : ( أهل التوراة والإنجيل - ربنا هؤلاء الأقل منا عملاً وأكثر أجراً ) ، وفي رواية : ( جزاء ) ، وفي رواية : ) أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطتينا قيراطاً قيراطاً ، ونحن أكثر عملاً منهم ، قال الله تبارك وتعالى : هل ) وفي رواية : ( فهل ظلمتكم من أجركم ) - وفي رواية : ( من أجوركم - من شي ؟ فقالوا : لا ، فقال : فهو فضلي ) ، وفي رواية ( فذلك فضلي ، أوتيه من أشاء ) وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث ما قبل هذه الأمم وترك على ذلك أحوالهم فقالك إنه دال على قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ، كان لهم الليل ، فكان قوم نوح في أوله في ظلام صرف طويل لم يلح لهم شيء من تباشير الضياء ولا أمارات الصبح ، ونوح عليه السلام يخبرهم به ويأمرهم بالتهيؤ له ، فلذلك طال بلاؤه عليه السلام بهم ، وما آمن معه إلا قليل ، وأما قوم إبراهيم عليه السلام فكانوا كأنهم في أواخر الليل ، قد لاحت لهم تباشير الصباح وأومضت لهم بوارق الفلاح ، فلذلك آمن لوط عليه السلام وكذا سارة زوجته وأولاده منها ومن غيرها كلهم ، واستمر الإسلام في أولاده والنبوة حتى جاء موسى عليه السلام ، (7/472)
صفحة رقم 473
فكان وقته كما بين الصبح والظهر ، فكان قومه تارة وتارة ، تارة يحسبون أنهم في ضياء كيفما كانوا ، فيرغون يميناً وشمالاً فيكونون كمن دخل غيراناً وكهوفاً وأسراباً ثم يخرجون منها فيرجعون إلى الضياء ، فكانت غلطاتهم تارة كباراً وتارة صغاراً ، وأما قوم عيسى عليه السلام فكانوا كمن هو في الظهيرة في شدة الضياء فالغلط منه لا يكون إلا عن عمى عظيم ، فلذلك كان غلطهم أفظع الغلط وأفحشه - والله الموفق - ) وإن ) أي ولتعلموا أن ) الفضل ) أي الذي لا يحتاج إليه من هو عنده ) بيد الله ) أي الذي له الأمر كله ) يؤتيه من يشاء ( منهم أو من غيرهم نبوة كانت أو غيرها .
ولما كان ربما ظن ظان أنه لا يخص به إلا لأنه لا يسع جميع الناس دفع ذلك بقوله : ( والله ) أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال ) ذو الفضل العظيم ) أي مالكه ملكاً لا ينفك عنه ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً ، فلذلك يخص من يشاء بما يشاء ، فلا يقدر أحد على اعتراض بوجه ، فقد نزه له التنزيه الأعظم جميع ما في السماوات والأرض فهو العزيز العحكيم الذي لا عزيز غيره ولا حكيم سواه ، فقد انطبق كما ترى آخرها على أولها ، ورجع مفصلها على موصلها - والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب .
.. .(7/473)
صفحة رقم 474
سورة المجادلة
مقصودها الإعلام بإيقاع البأس الشديد ، الذي أشارت إليه الحدسيد ، بمن حاد الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لما له سبحانه من تمام العلم ، اللازم عنه تمام القدرة ، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها ، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية ، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر فكثرة كل ذلك ، للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال ، وتارة بالكمال ، فيجمع له الوصفان ، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان ، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير فيها حين وقع بعض أهل الإيمان ، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة ولا منام ، لمنابذتها للحكمة ، وبعدها عن موجبات الرحمة ، وهذا مؤيد لما تقدم من سر إخلاء الواقعة والرحمن والقمر من هذا الاسم الجامع. والله الموفق ) بسم الله ( الذي أحاط علمه فتمت قدرته فكملت جميع صفاته ) الرحمن ( الذي شمل الخلائق جودا بالإيجاد وإرسال هداته ) الرحيم ( الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته .
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله. .. . .
) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( ( )
لما ختمت الحديد بعث إثبات عجز الخلق بعظيم الفضل له سبحانه ، وكان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم ، وكان قد تقدم ابتداع بعض المتعبدين من الرهبانية بما لم يصرح لهم بالإذن فيه ، فكان سبباً للتضييع ، وكان الظاهر على نوعين : موقت ومطلق ، وكان الموقت مما يدخل في الرهبانية لأنه من التبتل وتحريم ما أحل الله من الطيبات ، وكان بعض الصحابة(7/474)
صفحة رقم 475
رضي الله عنهم قد منع نفسه بالموقت منه من مرغوبها مما لم يأت عن الله ، فظاهر من امرأته محافظة على كمال التعبد خوفاً من الجماع في نهار رمضان ، وكان ذلك مما لم يأذن به بل نهى عنه كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط على سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تشددوا على أنفسكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم ، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات ) وكان بعض الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - قد ظاهر مطلقاً فشكت امرأته ما لحقها من الضرر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهتفت باسم الله ، وكان علمه سبحانه بخصوص شكاية هذه المرأة المسكينة وإزالة ضررها بحكم عام لها ولغيرها من عباده حتى صارت واقعتها رخصة عامة للمسلمين إلى يوم القيامة معلماً بأنه ذو الفضل العظيم ، وأنه الظاهر الباطن ، ذو الملك كله ، وكان قد أمر بالإيمان به وبرسوله ووعد على ذلك بالنور ، كان السامع لذلك جديراً بتوقع البيان الذي هو النور في هذه الرهبانية التي ابتدعت في هذه الأمة ، وتخفيف الشديد الذي وقع عن بعضهم ليعلم أهل الكتاب ما لهذه الامة من الكرامة على ربها وأنه يختص برحمته من يشاء فقال : ( قد سمع الله ) أي أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات ) قول ( وعبر بالوصف دون الاسم تعريفاً برحمته الشاملة فقال : ( التي تجادلك ) أي تبالغ في أن تقبلك إلى مرادها ) في زوجها ) أي في الأمر المخلص له من ظهاره رحمة لها ) وتشتكي ) أي تتعمد بتلك المجادلة الشكوى ، منتهية ) إلى الله ) أي الملك العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، ولصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله كانت هي والنبيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) متوقعين أن الله يكشف ضرها ) والله ) أي والحال أن الذي وسعت رحمته كل شيء لأنه له الأمر كله ) يسمع تحاوركما ) أي مراجعتكما التي يحور - أي يرجع فيها إلى كل منكما جواب كلامه من الآخر كأنها لثقل ما قدح في أمرها ونزل من ضرها ناشئة عن حيرة .
ولما كان ذلك في غاية ما يكون من خرق العادة بحيث إن الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت عند نزول الآية : ( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا في جانب البيت ما أسمع كثيراً مما تقول ) أكده تنبيهاً على شدة غرابته ولأنه ربما استبعده من اشتد جهله لعراقته في التقيد بالعادات فقال : ( إن الله ) أي الذي(7/475)
صفحة رقم 476
أحاط بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ) سميع بصير ) أي بالغ السمع لكل مسموع ، والبصر لكل ما يبصر والعلم لكل ما يصح أن يعلم أزلاً وأبداً ، وقد مضى نحو هذا التناسب في المائدة حين أتبع تعالى آية القسيسين والرهبان قوله تعالى
77 ( ) يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( ) 7
[ المائدة : 87 ] غير أن هذا خاص وذاك عام ، فهذا فرد منه ، فالمناسبة واحدة لأن الأخص في ضمن الأعم ، والحاصل أنه سبحانه امتنَّ عليهم بما جعل في قلوبهم من الرهبانية وغيرها ، وأخبر أنهم لم يوفوها حقها ، وأنه آتى مؤمنيهم الأجر ، وأمر المسلمين بالتقوى واتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليحصل لهم من فضله العظيم ضعف ما حصل لأهل الكتاب ، ونهاهم عن التشديد على أنفسهم بالرهبانية ، فصاروا مفضلين من وجهين : كثرة الأجر وخفة العمل ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - والله أعلم ، روى البزار من طريق خصيف عن عطاء من غيرهما أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي ورأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر ، قال ( كفِّر ولا تعد ) وروى أبو داود عن عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فقال : ( ما حملك على ما صنعت ؟ ) قال : رأيت بياض ساقيها في القمر ، قال : ( فاعتزلها حتى تكفر عنك ) قال المنذري : وأخرجه أيضاً عن عكرمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمعناه ، وأخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي - وقال : حديث حسن غريب صحيح - وقال النسائي : المرسل أولى بالصواب من المسند ، وقال أبو بكر المعافري : ليس في الظهار حديث صحيح يعول عليه ، قال المنذري : وفيما قاله نظر ، فقد صححه الترمذي كما ترى ، ورجال إسناده ثقات ، وسماع بعضهم من بعض مشهور ، وترجمة عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم احتج بها البخاري في غير موضع - انتهى .
وللترمذي - وقال حسن غريب - عن سلمة بن صخر رضي الله عنه في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال : ( كفّار واحدة ) وروى أحمد(7/476)
صفحة رقم 477
والحاكم وأصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي ، قال ابن الملقن : وصححه ابن حبان والحاكم - من طريق سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة تكشف لي منها شيء فما لبث أن نزوت عليها ، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت : امشوا معي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قالوا : لا والله : فانطلقت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته ، فقال ( أنت بذاك يا سلمة ؟ ) قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين ، وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم فيّ بما أراك الله ، وفي رواية : فأمض فيَّ حكم الله فإني صابر لذلك ، قال ( حرر رقبة ) قلت : والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها - وضربت صفحة رقبتي ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قلت : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ، قال : ( فاطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً ) ، قال : ولاذي بعثك بالحق ، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام ، قال : ( فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها ) فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند النيب ( صلى الله عليه وسلم ) السعة وحسن الرأي ، وفي رواية : والبركة وقد أمرني - أو أمر لي - بصدقتكم ، وفي رواية : فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليّ ) .
وأعله عبد الحق بالانقطاع ، وأن سليمان لم يدرك سلمة ، حكى ذلك الترمذي عن البخاري ، وقال الترمذي : إن سلمة بن صخر يقال له سلمان أيضاً ، ورواه الإمام أحمد أيضاً من طريق أخرى قال حدثنا عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت فتظاهرت من امرأتي في الشهر فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها ، فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته فقال ( حرر رقبة ) ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، ما أملك غير رقبتي ، قال : ( صم شهرين متتابعين ) ، قالت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : ( فأطعم ستين مسكيناً )(7/477)
صفحة رقم 478
وهذا سند حسن متصل إن شاء الله إن سلم من تدليس ابن إسحاق ، وروى الحاكم والبهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن إسحاق ، وروى الحاكم والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن ( أن سلمة بن صخر البياضي ري الله عنه جعل امرأته عليه كظهر أنه إن غشيها حتى يمضي رمضان ، وقد ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( اعتق رقبة ( وقصة سلمة هذه أصل الظهار المؤقت ، وقد دلت على أنه لا عود فيه لا كفارة عليه إلا بوطئها في مدة الظهار ، وروى أبو داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قال : ( ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت رضي الله عنه فجئت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشكوا إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجادلني فيه ويقول : ( اتقي الله فإنه ابن عمك ) ، فما برحت حتى نزل القرآن ) قد سمع الله ( إلى الفرض ، فقال : ( يعتق رقبة ) ، قالت : لا يجد ، قال : ( يصوم شهرين متتابعين ) ، قالت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال ( فليطعم ستين مسكيناً ) ، قالت : ما عنده من شيء يتصدق به قالت : فأتي ساعتئذ بعرق منّ تمر ، قلت : يا رسول الله ، فإني أعينه بعرق آخر ، قال : ( قد أحسنت أذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك ) قال : والعرق ستون صاعاً ، وفي رواية : والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً ، وروى الدارقطني أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( إن أوس بن الصامت رضي الله عنه ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة رضي الله عنها فشكت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : ظاهر مني حين كبر سني ورق عظمي ، فأنزل الله آية الظهار ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأوس اعتق رقبة ، قال : مالي بذلك يدان ، قال : ( فصم شهرين متتابعين ( ، قال : أما إني إذا أخطأني أن آكل في اليوم مرتين يكل بصري ، قال ) فأطعم ستين مسكيناً ( ، قال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة ، فأعانه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخمسة عشر صاعاً حتى جمع الله له ، والله رحيم ) قال : وكانوا يرون أن عنده مثلها ، وذلك لستين مسكيناً ، قال : ما أجد إلا أن تعينني والبيهقي ( أن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها رآها زوجها وهو أوس بن الصامت أخو عبادة رضي الله عنهما وهي تصلي فراودها فأبت فغضب ، وكان به لمم وخفة فظاهر منها ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ ، فلما خلا(7/478)
صفحة رقم 479
سني ونثرت له بطني جعلني عليه كأمه ) وللطبراني من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : ( كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت وكان به لمم ، فقال في بعض هجراته : أنت عليّ كظهر أمي ، قال : ما أظنك إلا قد حرمت عليّ ، فجاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولديَّ وأحب الناس إليّ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً ، فرادّت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مراراً ، ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي ووحدتي وما يشق عليّ من فراقه ) الحديث ، ومن طريق أبي العالية قال : فجعل كلما قال لها ( حرمت عليه ) هتفت وقالت : أشكو إلى الله ، فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية ، وروى أبو داود عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس ابن الصامت وكان رجلاً به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار ، وأخرجه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله .
وقال القشيري : وفي الخبر أنها قالت : يا سول الله إن أوساً تزوجني شابة غنية ذات أهل ومال كثير ، فملا كبر عنده سني ، وذهب مالي وتفرق أهلي ، وجعلني عليه كظهر أمه ، وقد ندم وندمت ، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، يعني ففرج الله عنها ، وقد حصل من هذا مسألة ، وهو أن كثيراً من الأشياء ظاهر العلم يحكم فيه بشيء ثم الضرورة تغير ذلك الحكم لصاحبها ، قال البغوي : وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، وقال أبو حيان : وكان عمر رضي الله عنه يكرم خولة رضي الله عنها إذا دخلت عليه ويقول : سمع الله لها ، فالمظاهرة في حديث سلمة رضي الله عنه ومن نحا نحوه رهبانية مبتدعة لم ترع حق رعايتها كرهبانية النصارى ، ولم يتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ابتداعها حق الاتباع ، وأما في قصة خولة رضي الله عنها فهي مصيبة كأن ينبغي فيها التسليم وعدم الحزم كما في آية
77 ( ) لكيلا تأسوا ( ) 7
[ الحديد : 23 ] الآية على أن امتناعها من زوجها حين راودها فيه إلمام بالرهبانية ، وإزالة شكايتها مع أنها امرأة ضعيفة من عظيم الفضل ، وزاده عظماً جعله حكماً عاماً لمن وقع فيه من جميع الأمة .(7/479)
صفحة رقم 480
المجادلة : ( 2 ) الذين يظاهرون منكم. .. . .
) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( ( )
تعالى الخبر عن إحاطة العلم ، استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه ، فقال ذاماً للظهار ، وكاسياً له ثوب العار : ( الذين ( ولما كان الظهار منكراً لكونه كذباً ، عبر بصيغة التفعل الدالة عليه فقال : ( يظهرون ) أي يوجدون الظهار في أي رمضان كان وكأنه أدغم تاء التفعل والمفاعلة لأن حقيقته أنه يذهب ما أحل الله له من مجامعة زوجته .
ولما كان الظهار خاصاً بالعرب دون سائر الأمم ، نبه على ذلك تهجيناً له عليهم وتقبيحاً لعادتهم فيه ، تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس من هذا الكلام لأن الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ، ثم ما زاده الإسلام إلا استهجاناً فقال : ( منكم ) أي أيها العرب المسلمون الذين يستقبحون الكذب ما لا يستقبحه غيرهم وكذا من دان دينهم ) من نسائهم ) أي يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم بأن يقول أحدهم لزوجته شيئاً من صرائحه مثل أنت عليّ كظهر أمي وكنايتاته كأنت أمي ، وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره من حر أو عبد مسلم أو ذمي دخل بالزوجة أو لا قادراً على الجماع أو عاجزاً ، صغير كانت الزوجة أو كبيرة ، عاقلة كانت أم مجنونة ، سليمة كانت أو رتقاء ، مسلمة كانت أو ذميمة ، ولو كانت رجعية .
ولما كان وجه الشبه التحريم ، وكان للتحريم رتبتان : عليا موصوفة بالتأبيد والاحترام ، ودنيا خالية عن كل من الوصفين ، وكان التقدير خبراً للمبتدأ : مخطئون في ذلك لأنه كذب ، لأن التشبيه إن أسقطت أداته لم يكن حمله على الحقيقة ليكون من الرتبة العليا ولو على أدنى أحوالها من أنه طلاق لا رجعة فيه ، كما كانوا يعتقدونه ، وإن أثبتت ليكون من الدنيا لم يكن صحيحاً لأنه ممنوع منه لأن التشريع إنما هو لله ، والله لم يكن يشرع ذلك ، كان تعليل شقي التشبيه يفيد معنى الخبر بزيادة التعليل ، حذف الخبر ، واكتفى بالتعليل فقال معللاً له مهجناً للظهار الذي تعوده العرب من غير أن يشاركهم فيه أحد من الأمم : ( ما هن ) أي نساؤهم ) أمهاتهم ( على تقدير إرادة أحدهم أعلى رتبتي التحريم ، والحاصل أنهم لما كانوا يعتقدون أنه طلاق لا رجعة فيه جعلوا معتقدين أن المرأة أم لأن الحرمة المؤبدة من خصائص الأم فخوطبوا بذلك تقريعاً لهم لأنه أردع ، وفي سورة الأحزاب ما يوضح هذا .
ولما كانوا قد مرنوا على هذا الحكم في الجاهلية ، واستقر في أنفسهم استقراراً لا يزول إلا بغاية التأكيد ، ساق الكلام كذلك في الشقين فقال : ( إن ) أي ما ) أمهاتهم ((7/480)
صفحة رقم 481
أي حقيقة ) إلا اللاَّئي ولدنهم ( ونساؤهم لم تلدهم ، فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام ، ولا هن ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح وكأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهن ية أمهات لما لهن نم حق الإكرام والاحترام والإعظام ما لم يكن لغيرهن لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم في أبوة الدين نم أب النسب وكذلك المرضعات لما لهن من الإرضاع الذي هو وظيفة الأم بالأصالة ، وأما الزوجة فمباينة لجميع ذلك .
ولما فرغ من تعليل الشق الأول على أتم وجه ، أتبعه تعليل الآخر كذلك ، فقال عاطفاً عليه مؤكداً لأنهم كانوا قد ألفوا قوله فأشربته قلوبهم : ( وإنهم ( اي المظهرون ) ليقولون ) أي في هذا التظهر على كل حالة ) منكراً من القول ( ينكره الحقيقية والأحكام ، قال ابن الملقن في عمدة المحتاج : وهو حرام اتفاقاً كما ذكره الرافعي في الشهادات .
) وزوراً ) أي قولاً مائلاً عن السداد ، منحرفاً عن القصد ، لأن لازوجة معدة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان ، والأم في غاية البعد عن ذلك لأنها أهل لكل احترام ، فلا هي أم حقيقة ولا شبيهة بها بأمر نصبه الشارع للاحترام كالإرضاع ، وكونها فراشاً لعظيم كالنبي أو للأب أو للحرمة كاللعان ، فقد علم أن ذلك الكلام ليس بصدق ولا جاء به مسوغ ، فهو زور محض ، وأخصر من هذا أن يقال : ولما كان ظهارهم هذا يشتمل على فعل وقول ، وكان الفعل هو التحريم الذي هو موضع وجه الشبه ، وكانت العادة في وجه الشبه أن يقنع منه بأدنى ما ينطلق عليه الاسم ، وكانوا قد خالفوا ذلك فجعلوه في أعلى طبقاته وهو الحرمة المؤبدة التي يلزم منها أن تكون المشابهة من كل وجه في الحرمة مع أن ذلك بغير مستند من الله تعالى الذي لا حكم لغيره ، ألزمهم أن يكون الشبه من كل وجه مطلقاً ليكونوا جاعلين الزوجة إما حقيقة لا دعوى كما جعلوا الحرمتين كذلك من غير فرق بل أولى لأن الشبه إنما وقع بين الحيثيتين لا بين الحرمتين - ثم وقفهم على جهلهم فيه فقال ) ما هن ( إلى آخره ، ولما وقفهم على جهلهم في الفعل وقفهم على جهلهم في القول : فقال : وأنهم إلى آخره ، قال النووي في الروضة : قال الأصحاب : الظهار حرام ، وله حكمان : أحدهما تحريم الوطء إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر ، والثاني وجوب الكفارة بالعود - انتهى ، وهذا القول وإن أفاد التحريم فإنه يفيد لكونه ممنوعاً منه على وجه ضيق حرج المورد عسر المخرج ليكون عسره زاجراً عن الوقوع فيه ، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع : وظاهر الرجل امرأته وظاهر من امرأته إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي أو كذاب محرم ، وإنما استخصوا الظهر في الظهار قال : ركوبك عليّ للنكاح كركوب أمي ، وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً ، ولذلك(7/481)
صفحة رقم 482
أشكل معنى قوله تعالى ) ثم يعودون لما قالوا ( وقال ابن الأثير في النهاية : ظاهر الرجل من امرأته ظهاراً وتظهر وتظاهر إذا قال لها : أنت عليّ كظهر أمي ، وكان في الجاهلية طلاقاً ، وقيل : إنهم أرادوا أنت عليّ كبطن أمي أي كجماعها ، فكنوا بالظهر عن البطن للمجاورة ، وقيل إن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان حراماً عندهم ، وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد الرجل المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعلها كظهر أمه ، وإنما عدى الظهار ب ) من ( لأنهم كانوا إذا ظاهروا المرأة تجنبوها كما يتجنبون المطلقة ويحترزون منها ، فكأنه قوله : ظاهر من امرأته ، أي بعد واحترز منها كما قيل : آلى من امرأته ، لما ضمن معنى التباعد عدى ب ) من ( - انتهى ، قال : وقال ابن الملقن في العمدة شرح المنهاج : وكان طلاقاً في الجاهلية ، ونقل عن صاحب الحاوي أنه عندهم لا رجعة فيه ، قال : فنقل الشارع حكمه إلى تحريم بعد العود ووجوب الكفارة - انتهى وقال أبو حيان : قال أبو قلابة وغيره : وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة .
ولما كان التقدير : فإن الله حرمه ، عطف عليه مرغباً في التوبة وداعياً إليها قوله مؤكداً لأجل ما يعتدقون من غلظه وأنه لا مثنوية فيه ) وإن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره ) لعفو ( من صفاته أن يترك عقاب من شاء ) غفور ( من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره حتى أنه كما لا يعاقب عليه لا يعاتب ، فهل من تائب طلباً للعفو عن زلله ، والإصلاح لما كان من خلله .
المجادلة : ( 3 - 4 ) والذين يظاهرون من. .. . .
) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ( )
ولما هجن سبحانه الظهار ، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده ، وكان ما مضت عليه العوائد لا بد أن يبقى منه بقايا ، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال : ( والذين يظاهرون ( ولما كان في بيان الحكم ، أسقط التقييد إعلاماً بعمومه الكفار كعمومه المسلم ليفيد تغليظ العقاب عليه لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين قصد تهجينه عليهم بأنهم انفرادوا به عن سائر الناس فقال : ( من نسائهم ( بدون ) منكم ( .(7/482)
صفحة رقم 483
ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها ، لكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد ، قال مشيراً إلى ذلك بأداة البعد ) ثم يعودون ) أي بعد هذا القول ) لما قالوا ( بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أبو بالقوة بأن يمسكوا المقول ذلك لها زمناً يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفاقة بلفظ مما ناط الله الفرقة به من طلاق أو سراح أو نحوهما ، فيكون المظاهر عائداً إلى هذا القول بالقوة لإمكان هذا بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جراً ، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا : فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق ، فإن كان الظهار معلقاً لم يلزم حكمه إلا بالحنث ، فإن طلق في الحال وإلا لزمته الكفارة ، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها على الاصتال كما يقتضيه الحال بخلاف ( إلى ) فإنها تدل على مهلة وتراخ ، هذا في الظهار المطلق ، وأما الموقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائداً فيه إلا بالوطء في الوقت المظاهر فيه ، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما له فيها من الحل بعد وقت الظهار .
ولما كان المبتدلأأ الموصول مضمناً معنى الشرط ، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال : ( فتحرير ) أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير ) رقبة ) أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة أيضاً بمؤمنة لأنها قيدت بذلك في كفارة القتل ، فيحمل هذا على ذاك ، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنّبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عليّ رقبة أفأعتقها ، فسألها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله فأخبرته بما دل على توحيدها فقال : ( من أنا ( ؟ فقالت : أنت رسول الله ، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ( رواه مالك ومسلم ، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب ، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب ، والموجب للكفارة الظهار والعود جميعاً كما أ الموجب في اليمين اليمين والحنث معاً .
ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ( ولما كان المراد المس بعد المظاهرة لا مطلقاً قال : ( أن يتماسا ) أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل ، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام(7/483)
صفحة رقم 484
ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه ، وأما مقدمات الجماع فهي فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر ، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى ، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، قال : ( كفارة واحدة ) .
ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله ، قال مستأنفاً : ( ذلكم ) أي الزجر العظيم جد الذي هو عام لكم من غير شبهة ) توعظون به ) أي يكون بمشقة زاجراً لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلاً عن مقارفته لأن من حرم من أجلها الله تحريماً متأبداً على زعمه كان كأنه قد قتلها ، ولكون ذلك بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة أمه كان كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقاً أخرجه إلى أن يقتلها عضواً عضواً بإعتاق رقبة تماثل رقبته ورقبة من كان قتلها .
ولما كان التقدير : فالله بما يردعكم بصير ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة بالكمال ، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء .
عن ذلك فقال : ( بما تعملون ) أي تجددون فعله ) خبير ) أي عالم بظاهره وباطنه ، فهو عالم بما يكفره ، فافعلوا ما أمر الله به وقفوا عند حدوده ، قال القشيري : والظهار - الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمره ولوح بشيء ما وقال : إنه حكمه لا يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها .
ولما كانت الكفارة مرتبة ، وكان المظاهر كأنه قد قتل نفسه بقتل المظاهر عنها كما مضى ، فكان مفتقراً إلى ما يحيي نفسه فشرع له العتق الذي هو كالإحياء ، شرع له عند العجز عنه ما يميت نفسه التي إماتتها له إحياؤها ، وكان الشهران نصف المدة التي ينفخ فيها الروح ، فكان صومها كنصف قتل النفس التي قتلها إحياء الروح وإنعاش العقل ، فكان كأنه إماتتها فجعله سبحانه بدلاً عن القتل الذي هو كالإحياء فقال : ( فمن لم يجد ) أي الرقبة المأمور بها بأن كان فقيراً ، فإن كان غنياً وماله غائب فهو واجد ) فصيام ) أي فعليه صيام ) شهرين ( .
ولما كان المراد كسر النفس كما مضى ، وكانت المتابعة أنكى ولذلك سمي رمضان شهر الصبر ، قيد بقوله : ( متتابعين ) أي على أكمل وجوه التتابع على حسب الإمكان بما أشار إليه الإظهار ، فلو قطع التتابع بشيء ما ولو كان بنسيان النية وجب عليه الاستئناف والإغماء لا يقعطع التتابع لأنه ليس في الوسع(7/484)
صفحة رقم 485
وكذا الإفطار بحيض أو نفاس أو جنون بخلاف الإفطار بسفر أو مرض أو خوف على حكمل أو رضيع لأن الحيض معلوم فهو مستثنى شرعاً ، وغيره مغيب للعقل - مزيل للتكليف ، وأما المرض ونحوه ففيه تعمد الإفطار مع وجود العقل .
ولما كان الإمساك عن المسيس قد يكون أوسع من الشهرين ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ( وحل المصدر إفادة لمن يكون بعد المظاهرة فقال : ( أن يتماسا ( فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع .
ولما كان إطعام نفس قوت نصف يوم كإماتة نفسه بالصيام يوماً قال تعالى : ( فمن لم يستطع ) أي يقدر على الصيام قدرة تامة - بما أشار إليه إظهار التاء لهرم أو مرض أو شبق مفرط يهيجه الصوم ) فإطعام ) أي فعليه إطعام ) ستين مسيكناً ( لكل مسكين ما يقوته نصف يوم ، وهو مد بمد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك نحو نصف قدح بالمصري ، وهو ملء حفنتين بكفي معتدل الخلق من غالب قوت البلد ، وهو كما في الفطرة سواء ، وحذف قيد المماسة لذكره في الأولين ، وعلهل الحكمة في تخصيص هذا به أن ذكره في أول الخصال لا بد منه ، وإعادته في الثاني لطول مدته فالصبر عنه فيها مشقة ، وهذا يمكن أن يفعل في لحظة لطيفة لا مشقة للصبر فيها عن المماسة ، هذا إذا عاد ، فإن وصل الظهار بالطلاق أو مات أحدهما في الحال قبل إمكان الطلاق فلا كفارة ، قال البغوي : لأن العود في القول هو المخالفة ، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما العود بالندم فقال : يندمون ويرجعون إلى الألفة ، وهذا يدل على ما قال الشافعي رضي الله عنه : فإن ظاهر عن الرجعية انعقد ظهاره فإن راجعها لزمته الكفارة لأن الرجعة عود .
ولما ذكر الحكم ، بين علته ترغيباً فيه فقال : ( ذلك ) أي الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كاان ) لتؤمنوا ) أي وهذا الفعل العظيم الشاق ليتجدد إيمانكم ويتحقق وجوده ) بالله ) أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوه بالانسلاخ من فعل الجاهلية ) ورسوله ( الذي تعظيمه من تعظيمه وقد بعث بملة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فلو ترك هذا الحكم الشديد على ما كان عليه في الجاهلية لكان مشككاً في البعث بتلك الملة السمحة .
ولما رغب في ها الحكم ، رهب من التهاون به فقال : ( وتلك ) أي هذه الأفعال المزكية وكل ما سلف من أمثالها في هذا الكتاب الأعظم ) حدود الله ) أي أوامر الملك الأعظم ونواهيه وأحكامه التي يجب امتثالها والتقيد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها(7/485)
صفحة رقم 486
وقفوا عندها ولا تعتدوها فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدى نقضه أو إبرامه .
ولما كان القتديرك فللمؤمنين بها جنات النعيم ، عطف عليه قوله ) وللكافرين ) أي العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه ) عذاب أليم ( بما آلموا المؤمنين به من الأعتداء .
المجادلة : ( 5 - 6 ) إن الذين يحادون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ( )
ولما ذكر حدوده ، ولوح بالعطف على غير معطوف عليه إلى بشارة حافظها ، وصرح بتهديد متجاوزيها أتبع ذلك تفصيل عذابهم الذي منه بشارة المؤمنين بالنصر عليهم ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يغلبوا على كثرتهم وقوتهم وضعف حزبه وقلتهم : ( إن الذين يحادّون الله ) أي يغالبون الملك الأعلى على جحوده ليجعلوا حدوداً غيرها ، وذلك صورته صورة العداوة ، مجددين ذلك مستمرين عليه بأي محادة كانت ولو كانت خفية - بما أشار إليه الإدغام كمحادة أهل الاتحاد الذين يتبعون المتشابه فيجرونه على ظاهره فيخلون به المحكم لتخل الشريعة بأسرها ، فإن كثيراً من السورة نزل في المنافقين واليهود والمهادنين كما يأتي في النجوى وغيرها ) ورسوله ( الذي عزه من عزه ) كبتوا ) أي صرعوا وكباو لوجوههم وكسروا وأذلوا وأخزوا فلم يظفروا وردوا بغيظهم في كل أمر يرومونه نم أي كانت كان بأيسر أمر وأسهله ، وعبر بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه والفراغ من قضائه كما فرغ مما مضى ، فلا قال لتكون الدعوى مقرونة بدليلها : ( كما كبت الذين ( ولما كان المحادين لم يستغرقوا جميع الأزمان الماضية والأماكن ، أدخل الجارّ فقال : ( من قبلهم ) أي المحادين كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصر على العصيان ، ولم ينقد لدليل ولا برهان ، قال القشيري : ومن ضيع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سنة وأحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ، ووقع في هذا الذل ولما استوفى المقام حظه بياناً وترغيباً وترهيباً ، عطف على أول السورة أو على ما يقدر من نحو : فقد كان لكم فيما مضى من أول الإسلام إلى هذا الأوان مما يدل على كونه سبحانه بالنصر والمعونة مع نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه رضي الله عنهم معتبر ، قوله : ( وقد أنزلنا ) أي بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم ) آيات بينات ) أي دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان بترك المحادة ويحصل الإعان .
ولما كان التقدير : فللمؤمنين بها نعيم مقيم في مقام أمين ، عطف عليه قوله : ( وللكافرين ) أي الراسخين في الكفر بها وتغيرها من أمر الله ) عاب مهين ( بما(7/486)
صفحة رقم 487
تكبروا واغتروا على أولياء الله وشرائعه ، يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم .
ولما ذكر عذابهم ، ذكر وقته على وجه مقرر لما مضى من شمول علمه وكمال قدرته فقال : ( يوم يبعثهم الله ) أي يكون ذلك في وقت إعادة الملك الأعظم للكافرين المصرح بهم والمؤمنين المشار إليه أحياء كما كانوا ) جميعاً ( في حال كونهم مجتمعين في البعث .
ولمان كان لا أوجع من التبكيت بحرضة بعض الناس فكيف إذا كان وعقب قوله : ( فينبئهم ) أي يخبرهم إخباراً عظيماً مستقصى ) بما عملوا ( إخزاء لهم وإقامة للحجة عليهم .
ولما كان ضبط لك أمراً عظيماً ، استأنف قوله بياناً لهوانه عليه : ( أحصاه الله ) أي أحاط به عدداً كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً بما له من صفات الجلال والجمال .
ولم ذكر إحصاءه له ، فكان ربما ظن أنه مما يمكن في العادة إحصاؤه ، نفى ذلك بقوله : ( ونسوه ) أي كلهم مجتمعين لخروجه عن الحد في الكثرة فكيف بكل واحد على انفراده ونسوا ما فيه المعاصي تهاوناً بها ، وذلك عين التهاون بالله والاجتراء عليه ، قال القشيري : إذا حوسب أحد في القيامة على عمل عمله تصور له ما فعله ثم يذكر حتى كأنه في تلك الحالة قام من بساط الزلة فيقع عليه من الخجل والندم ما ينسى في جنبه كل عقوبة ، فسبيل المسلم أن لا يخالف أمر مولاه ولا يحوم حوله مخالفة أمره ، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فليكن من زلته على بال ، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه العطف على غير مذكور : فالله بكل شيء من ذلك وغيره عليم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي بما له من القدرة الشاملة والعلم المحيط ) على كل شيء ( على الإطلاق من غير مثنوية أصلاً ) شهيد ) أي حفيظ حاضر لا يغيب ، ورقيب لا يفعل ، حفظه له ورقبه وحضوره إياه مستعل عليه قاهر له بإحاطة قهره بكل شيء ليمكن حفظه له على أتم وجه يريده .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما نزه سبحانه نفسه عن تقول الملحدين ، وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها ، لا يمكن أن يشبه شيئاً منها بل يتنزه من أوصافها ويتقدس عن سماتها ، فقال
77 ( ) سبح لله ما في السماوات والأرض ( ) 7
[ الحديد : 1 ] ومضت أي تعرف بعظيم سلطانه وعليّ ملكه ، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله :
77 ( ) آمنوا بالله ورسوله ( ) 7(7/487)
صفحة رقم 488
[ الحديد : 7 ] إلى ما بعد ذلك من الآي ، وكان ذلك ضرب من الالتفات ، والواقع هنا منه أشبه بقوله سبحانه في سورة البقرة ) ) وإذا قال ربك للملائكة ( ) [ البقرة : 30 ] فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم وحال من يشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين ، فملا تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده ) ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( ) [ البقرة : 21 ] ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام بين أيدي الخلق ) ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خلفية ( ) [ البقرة : 30 ] فجاء ضرباً من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم ووبخهم في عدة سور غالب آيها جارٍ على ذلك ومجدد له أولها سورة ( ص ) كما نبه عليه في سورة القمر ، وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم ، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه وكذا في سورة الرحمن بعدها ، ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزل الأخراوي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم فأتبعت بسورة الحديد ، ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين ، واستمر ذلك إلى آخر السورة ، جرت سورة المجادلة على هذا القصد مصورفاً خطابها إلى نازلة تشوف المؤمنين إلى تعرف حكمها ، وهو الظهار المبين أمره فيها ، فلم يعد في الكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله ) آمنوا بالله ورسوله ( بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم ، ثم أن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء ما قصد من التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية ، وتقريع من عاند وتوبيخه ، وذكر مثال الخلق واستقرارهم الأخراوي ، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب ، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها ، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه من خلاصهم ، فمعظم آي سورة بعد هذا شأنها ، وإن اتجر غيرها فلا استدعاء موجب وهو الأقل كما بينا - انتهى .
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن. .. . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ( )
ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور - يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد ، قال تعالى دالاًّ على ذلك بدليل شهودي ليفيد(7/488)
صفحة رقم 489
الإنسان بما يراه من المحسوسات ، قاصراً الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره : ( ألم تر ( اي تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين ) أن الله ) أي الذي له صفات الكمال كلها ) يعلم ما في السماوات ( كلها .
ولما كان الخطاب لأعلى الخلق ، وكان المقام لإحاطة العلم ، وكان خطابه ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو ( صلى الله عليه وسلم ) ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق ، جمع وأكد بإعادة الموصوف ، فإفراده ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها ( سبحان من وسع سمعه الأصوات ) يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى : ( وما في الأرض ) أي كليات ذلك وجزئياته ، لا يغيب عنه شيء منه ، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون ، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك ، القاصية والدانية ، الحاضرة والغائبة ، الماضية والآتية ، فيكون كما أخبر .
ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه ، دل عليه بما هو أقرب منه فقال : ( ما تكون ( بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد ، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، وهي على كل حال من ( كان ) التامة ، وعمم النفي بقوله : ( من نجوى ) أي تناجي متناجين ، جعلوا نجوى مبالغة ، والنجوى : السر والمسارون ، اسم ومصدر - قاله في القاموس ، وقال عبد الحق في الواعي : النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور - انتهى .
وأصله من النجوى - للمرتفع من الأرض ، والنجو : الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف ، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه .
ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الاثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحجهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين ، والثالث وسط بينهما مع أنه سحبانه وتر يحب الوتر ، والثلاثة أول أوتار العدد ، كما كان حافظاً لها في أزل الأزل قال : ( ثلاثة ) أي في حال من الأحوال ) إلا هو رابعهم ) أي مصيرهم أربعة ، فهو اسم فاعل والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالماً بنجوى البعض ، فروح النجوى العلم بالسر .
ولما كان الثلاثة قد يريد أحدهم أن ينفرد بآخر منهم ، فيصير الثالث وحده ، فإذا(7/489)
صفحة رقم 490
كانوا أربعة دام الأنس بينهم ثم لا يكمل إلا بخامس يحفظ الاجتماع إذا عرضت لأحد الاثنين حاجة قال : ( ولا خمسة ) أي من نجواهم ) إلا هو سادسهم ( كذلك ، فالحاصل أنه ما يكون من وتر إلا كان هو سبحانه شافع وتريته ، وأما وتريته هو سبحانه فقد كانت ولا شيء معها أصلاً ، وستكون ولا حي معها ، فلا وتر في الوجود على الحقيقة غيره .
ولما علم بالتكرير أن ما ذكر على سبيل المثال لا لمعنى يخصه من جهة بالعلم ، عم بقوله : ( ولا أدنى ( فبدأ بالقليل لأنه قبل الكثير وهو أخفى منه ) من ذلك ) أي الذي ذكر وهو الواحد والاثنان والأربعة لاذي بعيد عن رتبته وإن كان قد شرفه سبحانه بإطلاق معيته بعد أن لا نسبة له منها .
ولما كان العلم بالكثير أعسر من أجل النتشاره قال : ( ولا ) أي يكون من نجوى ) أكثر ) أي من ذلك كالستة فما فوقها لا إلى نهاية - هذا التقدير على قراءة الجماعة بالجر بفتحة الراء ورفع يعقوب على محل من ) نجوى ( ) إلا هو معهم ) أي يعلم ما يجري منهم وبينهم ، ويلزم من إحاطة علمه إحاطة قدرته كما تقدم في طه لتكمل شهادته .
ولما كان العموم في المكان يستلزم العموم في الزمان ، وكان المكان أظهر في الحس قال : ( أين ما ) أي في أيّ مكان ) كانوا ( فإنه لا مسافة بينه وبين شيء من الأشياء لأنه الذي خلق المسافة ، وعلمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ولا بسبب من الأسباب غير وجوه على ما هو عليه من صفات الكمال ، قال الرازي : ما فارق الأكوان الحق ولا قارنها ، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها ومظهرها ، وكيف يقارن الحدث القدم وهو به قوام الكلم ، وهو القيوم على الكل - انتهى .
والحاصل أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء من العالم وإن بلغ في دقته إلى ما لا ينقسم ، وهو شاهد لذلك كله حفظاً وعلماً وإحاطة وحضوراً ، وآية ذلك في خلقه أن جملة الجسم يحيا بالروح ، فلا يبقى جزء منه إلا وهو محفوظ بالروح يحس بسبها وهو سبحانه لا يحجب علمه ولا شيئاً من صفاته حجاب ، فقد صحت المعية وهو بحيث لا يحيويه المكان ولا يحصره العد ، يقبض الملخوق ويبسطه ، لا يصعد المخلوق ولا صفته ولا فعله ولا معنى من معانيه إلى صفة من صفاته ، إنما له من المكان المكانة ، ومن العلم العلا ، ومن الأسماء والصفات مقتضاها - أشار إلى لك ابن برجان وقال : ومن تدبر ما قرأه وتفهم ما تعلمه أدرك من التحقيق ما نحن بسبيل تبيانه ما قدر له ، ألا ترى إلى الجن أين مكانهم وإن كانوا موصوفين به ثم الملائكة أرفع قدراً ومكانة ، بل إن الروح من جميع الجملة التي تحمله ، به حييت وبه تدبيرها وبه قيامها بإن الله خالقه ، (7/490)
صفحة رقم 491
قال عليه الصلاة والسلام في خطبته الكبرى وهي آخر خطبة خطبها أخرجها الحارث بن أبي أسامة : رقي المنبر وقال : ( أيها الناس ادنو وأوسعوا لمن خلقكم ) - ثلاث مرات ، فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض ، التفتو علم يروا أحدا ، فقال رجل منهم بعد الثالثة : لمن نوسع يا رسول الله أللملائكة ؟ فقال : ( لا إنهم إذ كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا من خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم ) وعلى ذلك فليسوا في مكان الأيمان هنا والشمائل بل في المكان من لك ، فالله جل جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء - انتهى .
ولما كان الإنسان نساءً ولا سيما إن تمادى به الزمان ، قال عاطفاً على ما تقديره ، فيضبط عليهم حركاتهم وسكناتهم من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، ويحفظها على طول الزمان كما كان حافظاً لها قبل خلقها ثم أزل الأزل ) ثم ينبئهم ) أي يخبر أصحابه إخباراً عظيماً ) بما عملوا ( دقيقة وجليلة ) يوم القيامة ( الذي هو المراد العظيم ، علله بما هو دليل على الشهادة فقال مؤكداً لما لهم من الإنكار قولاً أو فعلاً بالاشتراك الذي يلزم منه النقص ) إن الله ) أي الذي له الكمال كله .
ولما كان المقام للإبلاغ في إحاطة العلم ، قدم الجار كما مضت الإشارة إليه غير مرة قال : ( بكل شيء ( مما ذكر وغيره ) عليم ) أي بالغ العلم فهو على كل شيء قدير ، فهو على كل شيء شهيد ، لأن نسبة ذاته الأقدس إلى الأشياء كلها على حد سواء لا فرق أصلاً بين شيء وآخر ، قال القشيري : معية الحق سبحانه وإن كانت على العموم بالعلم والرؤية وعلى الخصوص بالفضل والنصرة ، فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم إلى أن ينتهي الأمر بهم إلى التأويل ، فللوله والهيمان في خمار خمار هذا عين رغد .
المجادلة : ( 8 - 10 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ( )(7/491)
صفحة رقم 492
ولما كان هذا الدليل أيضاً تتعذر الإحاطة به ، قال دالاًّ عليه بأمر جزئي واقع بعلم المحدث عنه حقيقة ، فإن عاند بعده سقط عنه الكلام إلا بحد الحسام : ( ألم تر ) أي تعلم علماً هو كالرؤية ، ودل على سفول رتبه المرئي بإبعاده عن أعلى الناس قدراً بحرف الغاية فقال : ( إلى الذين ( ولما كان العاقل من إذا زجر عن شيء انزجر حتى يتبين له أنه لا ضرر عليه في فعل ما زجر عنه ، عبر بالبناء للمفعول فقال : ( نهوا ) أي من ناه ما لا ينبغي للمنهي مخالفته حتى يعلم أنه مأمون الغائلة ) عن النجوى ) أي الإسرار لإحلال أنفسهم بذلك في محل التهمة بما لا يرضى من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - كما قال أبو العلاء المعري :
والخل كالماء يبدي لي ضمائره مع الصفاء ويخفيها من الكدر
ولما كان الناهي هو الله ، فكان هذا للنهي أهلاً لأن يبعد منه غاية البعد ، عبر بأداة التراخي فقال : ( ثم يعودون ) أي على سبيل الاستمرار لأنه إذا وقعت مرة بادروا إلى التوبة منها أو فلتة وقعت معفواً عنها ) لما نهوا عنه ) أي من غير أن يعدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عدة ) ويتناجون ) أي يقبل جميعهم على المناجاة إقبالاً واحداً ، فيفعل كل منهم ما يفعله الآخر مرة بعد أخرى على سبيل الاستمرار ، وقراءة حمزة ) وينتجون ( بصيغة الافتعال يدل على التعمد والمعاندة ) بالإثم ) أي بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل .
ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال : ( والعدوان ) أي العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة الحدود .
ولما كان ذلك شراً في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال : ( ومعصيت الرسول ) أي الذي جاء إليهم من الملك الأعلى ، وهو كامل الرسلية ، لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان ، فلا نبي بعده ، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام .
ولما أنهى تعظيم الذنب إلى غايته آذن بالغضب بأن لفت الكلام إلى الخطاب فقال : ( وإذا جاؤوك ( أيها الرسول الأعظم الذي يأتيه الوحي ممن أرسله ولم يغب أصلاً عنه لأنه المحيط علماً وقدرة ) حيوك ) أي واجهوك بما يعدونه تحية من قولهم : السام عليك ونحوه ، وعم كل لفظ بقوله : ( بما لم يحيك به الله ) أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه فمن تجاوز ما شرعه فقد عرض نفسه لسخطه ، ومما دخل فيه قوله بعض الناس لبعض ( صباح الخير ) ونحوه معرضاً عن السلام .
ولما كان المشهور عنهم أنهم يخفون ذلك جهدهم ويعلنون بإملاء الله لهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يطلع عليه ، وإن اطلع عليه لم يقدر على أن ينتقم منهم ، عبر عن ذلك بقوله : ( ويقولون ) أي عند(7/492)
صفحة رقم 493
الاستدراج بالإملاء مجددين قولهم مواظبين عليه ) في أنفسهم ( من غير أن يطلعوا عليه أحداً : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) يعذبان الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء على زعم من باهانا ) بما نقول ( مجددين مع المواظبة إن كان يكرهه - كما يقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما تضمن هذا علمه سبحانه وتعالى بهذه الجزئية من هؤلاء القوم ثبت بذلك علمه سبحانه بجميع ما في الكون ، لأن نسبة الكلم إليه على حد سواء ، فإذا ثبت علمه بالبعض ثبت علمه بالكل فثبتت قدرته على الكلم فكان على كل شيء شهيداً ، قال مهدداً لهم مشيراً إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقول مثل هذا إلا إن كان قاطعاً بأنه لا يحصل له عذاب ، أو يحصل له منه ما لا يبالي به ثم يرده بقوته : ( حسبهم ) أي كفايتهم في الانتقام منهم وفي عذابهم ورشقهم بسهام لهيبها ومنكئ شررها وتصويب صواعقها ) جهنم ) أي الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والتكره والفظاظة .
فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية ، فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ) يصلونها ) أي يقاسون عذابها دائماً إني أعددتها لهم .
ولما كان التقديرية فإنهم يصيرون إليها ولا بد ، تسبب عنه قوله : ( فبئس المصير ) أي مصيرهم ، وسبب ذلك أن اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون يوهمونهم أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيظنون أنه بلغهم شيء من إخوانهم الذين خرجوا في السرايا غزاة في سبيل الله من قتل أو هزيمة فيحزنهم ذلك ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنهاهم عن التناجي في هذه الحالة فلم ينتهوا ، وروى أحمد والبزاز والطبراني بإسناد - قال الهيثمي في المجمع إنه جيد لأن حماداً مسع من عطاء بن السائب في حالة الصحة - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : سام عليك .
ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ، فنزلت .
وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال عند ذلك : ( إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا ) وعليك ( .
ولما نهى عن النجوى وذم على فعلها وتوعد عليه فكان ذلك موضع أن يظن أن النهي عام لكل نجوى وإن كانت بالخير ، استأنف قوله منادياً بالأداة التي لا يكون ما بعدها له وقع عظيم ، معبراً بأول أسنان الإيمان باقتضاء الحال له : ( يا أيها الذين آمنوا ((7/493)
صفحة رقم 494
أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ) إذا تناجيتم ) أي قلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سراً ) فلا تتناجوا ) أي توجدوا هذه الحقيقة ظاهرة كتناجي المنافقين ) بالإثم ) أي الذنب وكل فعل يكتب بسببه عقوبة .
ولما عم خص فقال : ( والعدوان ) أي الذي هو العدو الشديد بما يؤذي وإن كان العادي يظن أنه لا يكتب عليه به إثم .
ولما كان السياق لإجلال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه لا تعرف حقيقة الإثم إلا منه قال تعالى : ( ومعصيت الرسول ) أي الكامل في الرسلية فإن ذلك يشوش فكره فلا يدعه يبلغ رسالات ربه وهو منشرح الصدر طيب النفس .
ولما علم أن نهيهم إنما هو عن شر يفسد ذات البين هو ما لا يريدون إطلاع النبي صلى الله عليه ، صرح بقوله حثاً على إصلاح ذات البين لأن خير الأمور ما عاد بإصلاحها ، وشر الأمور ما عاد بإفسادها : ( وتناجوا بالبر ) أي بالخير الواسع الذي فيه حسن التربية ، ولما كان ذلك قد يعمل طبعاً ، حث على القصد الصالح بقوله : ( والتقوى ( وهي ما يكون في نفسه ظاهراً أنه يكون سترة تقي من عذاب الله بأن يكون مرضياً لله ولرسوله .
ولما كانت التقوى أم المحاسن ، أكدها ونبه عليها بقوله : ( واتقوا الله ) أي اقصدوا قصداً يتبعه العمل أن تجعلونا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية ، ولما كانت ذكرى الآخرة هي مجمع المخاوف ولا سيما فضائع الأسرار على رؤوس الأشهاد قال : ( الذي إليه ) أي خاصة ) تحشرون ) أي تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره ، وهو يوم القيامة ، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير لا يخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية تنكشف فيه سرادقات العظمة ، ويظهر ظهوراً تاماً نفوذ الكلمة ، ويتجلى في مجالي العز سطوات القهر ، وتنبث لوامع الكبر ، فإذا فعلتم ذلك مستحضرين لذلك لم تقدموا على شيء تريدون إخفاءه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيكون ذلك لعينه وأطهر لكم .
ولما شدد سبحانه في أمر النجوى وكان لا يفعلها إلا أهل النفاق ، فكان ربما ظن ظان أنه يحدث عنها ضرر لأهل الدين ، قال ساراً للمخلصين وغاماً للمنافقين ومبيناً أن ضرررها إنما يعود عليهم : ( إنما النجوى ) أي العهودة وهي المنهي عنها ، وهي ما كره صاحبه أن يطلع عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل : ما خيله الشيطان من الأحكام المكروهة للإنسان ) من الشيطان ) أي مبتدئه من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالفة لأوليائه .
ولما بين أنها منه ، بين الحامل له على تزيينها فقال : ( ليحزن ) أي الشيطان ليوقع(7/494)
صفحة رقم 495
الحزن في قلوب ) الذين آمنوا ) أي يتوهمهم أنهم بسبب شيء وقع ما يؤذيهم ، والحزن : هم غليظ وتوجع يرق له القلب ، حزنه وأحزنه بمعنى ، وقال في القاموس : أو أحزنه : جعله حزيناً ، وحزنه : جعل فيه حزناً .
فعلى هذا قراءة نافع من أحزن أشد في المعنى من قراءة الجماعة .
ولما كان ربما خيل هذا من في قلبه مرض أن في يد الشيطان شيئاً من الأشياء ، سلب ذلك بقوله : ( وليس ) أي الشيطان وما حمل عليه من التناجي ، وأكد النفي بالجار فقال : ( بضارّهم ) أي الذين آمنوا ) شيئاً ( من الضرر وإن قل وإن خفي - بما أفهمه الإدغام ) إلا بإذن الله ) أي تمكين الملك المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه ) ولما كان التقدير : فقد علم أنه لا يخشى أحد غير الله لأنه لا ينفذ إلا ما أراده ، فإياها فليخش المربوبون ، عطف عليه قوله : ( وعلى الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ، لا على أحد غيره ) فليتوكل المؤمنون ) أي الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم ، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها ، ولا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسره ولا بجهره ، فإنه إذا توكلوا عليه وفوضوا أمورهم إليه ، لم يأذن في حزنهم ، وإن لم يفعلوا أحزنهم ، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة ، وأما أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة .
المجادلة : ( 11 - 12 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ما يحزن من السر لكونه اختصاصاً عن الجليس بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب ، أتبعه الاختصاص بالمجلس الذي هو بماعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن ، معلماً لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب بينهم وإن اكن من أمور العادة دون أحكام العبادة ، فقال مخاطباً لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب : ( يا أيها الذين آمنوا ( حداهم بهذا الوصف على الامتثال ) إذا قيل لكم ) أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته : ( تفسحوا ) أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع ) وفي المجلس ) أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً .(7/495)
صفحة رقم 496
يجلس فيه ، والمراد بالمجلس جنس المكان الذي هم ماكثون به بجلوس أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه .
وذلك في كل عصر ، ومجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بذلك ، وقراءة عاصم بالجمع موضحة لإرادة الجنس ) فافسحوا ) أي وسعوا فيه عن سعة صدر ) يفسح الله ) أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة ) لكم ( في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين .
ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال : ( وإذا قيل ( أيّ من قائل كان - كما مضى - إذا كان يريد الإصلاح والخير ) انشزوا ) أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما ) فانشزوا ) أي فارتفعوا وانهضوا ) يرفع الله ( الذي له جميع صفات الكمال ، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف ) الذين آمنوا ( وإن كانوا غير علماء ) منكم ( أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر ، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم .
ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال : ( والذين ( ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين ، بنى للمفعول قوله : ( أوتوا العلم ) أي وهم مؤمنون ) درجات ( درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان ، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم - روى الطبراني وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة ) ، رواه الدرامي وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب ، قال شيخنا : فقيل : هو البصري فيكون مرسلاً ، وعن الزبير : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكور الرجال .
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر ، ولعله ترك التقييد ب ( من ) في هذا وإن كانت مرادة ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقاً ، فإن كان مؤمناً عاملاً بعلمه كان النهاية ، وإن كان عاصياً كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم ، وإن كان كافراً كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم ، ودل على ذلك بختم الآية(7/496)
صفحة رقم 497
بقوله مرغباً مرهباً : ( والله ) أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) بما تعملون ) أي حال الأمر وغيره ) خبير ) أي عالم بظاهره وباطنه ، فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان على غير ذلك فكذلك ، وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهاً على مزيد الاعتناء بالأعمال ، لا سيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم ، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه بالتفسح والانخفاض والارتفاع ، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس ، فكان جديراً بمزيد الترهيب ، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس ، كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ليليني أولوا الأحلا منكم والنهى ) ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد عليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الكراهية في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل ، فوالله ما عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم ) رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال الحسن : بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قاتل المشركين فصف أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه : توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة ، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي دالة على أن الصالح إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير(7/497)
صفحة رقم 498
من مهماته ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ا ضرر ولا ضرار ) وقال : ( أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول ) وقال : ( شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه ) فقال تعالى معظماً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وناهياً عن إبرامه ( صلى الله عليه وسلم ) بالسؤال والمناجاة ، ونافعاً للفقراء والتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، ولما نهى عما يحزن من المقال والمقام ، وكان المنهي عنه من التناجي إنما هو لحفظ قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عما يكدره فهو منصرف إلى مناجاتهم غيره ، وكان ذلك مفهماً أن مناجاتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) لا حرج فيها ، وكان كثير منهم يناجيه ولا قصد له إلا الترفع بمناجاته فأكثروا في ذلك حتى شق عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان النافع للإنسان إنما هو كلام من يلائمه في الصفات ويشاكله في الأخلاق ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبعد الناس من الدنيا تقذراً لها لأجل بغض الله لها ، أمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك أمارة على الاجتهاد في التخلق بأخلاقه الطاهرة من الصروف عن الدنيا والإقبال على الله ، ومظهراً له عما سلف من الإقبال عليها فإن الصدقة برهان على الصدق في الإيمان ، وليخفف عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما كانوا قد أكثروا عليه من المناجاة ، فلا يناجيه إلا من قد خلص إيمانه فيصدق ، فيكون ذلك مقدمة لانتفاعه بتلك المناجاة كما أن الهدية تكون مهيئة للقبول كما ورد ( نعم الهدية أمام الحاجة ) فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء ) إذا ناجيتم ) أي أردتم ان تناجوا ) الرسول ( ( صلى الله عليه وسلم ) أي الذي لا أكمل منه في الرسلية فهو أكمل الخلق ووظيفته تقتضي أن يكون منه الكلام بما أرسله به الملك وتكون هيبته مانعة من ابتدائه بالكلام ، فلا يكون من المبلغين إلا الفعل بالامتثال لا غير ) فقدموا ) أي بسبب هذه الإرادة العالية على سبيل الوجوب ومثل النجوى كشخص له يدان يحتاج ان يطهر نفسه ليتأهل للقرب من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( بين يدي نجواكم ) أي قبل سركم الذي(7/498)
صفحة رقم 499
تريدون أن ترتفعوا به ) صدقة ( تكون لكم برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان ، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وبكل ما جاء به عن الله تعالى ، ومعظمه الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولذلك استأنف قوله : ( ذلك ) أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق ، ولعله أفرده بالخطاب لأأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره .
وعاد إلى الأول فقالك ) خير لكم ) أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة ) وأطهر ( لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير ، ولذلك سميت زكاة ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( والتعبير بأفعل لأنهم مطهرون قبله بالإيمان .
ولما أمر بذلك ، وكانت عادته أن لا يكلف بما فوق الوسع للتخفيف على عباده لا سيما هذه الأمة قال : ( فإن لم تجدوا ) أي ما تقدمونه .
ولما كان المعنى الكافي في التخفيف : فليس عليكم شيء ، دل عليه بأحسن منه فقال : ( فإن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته بشيء أنه لا يسقطه أصلاً ورأساً ، ولا سيما إن كان يسيراً ، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله : ( غفور رحيم ) أي له صفتا الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف ، وهذه الآية قيل : إنها نسخت قبل العمل بها ، وقال علي رضي الله عنه : ما عمل بها أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيته عشر مرات أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت فشق ذلك على الناس ، فنزلت الرخصة في ترك الصدقة ، وروى النسائي في الكبرى والترمذي وقال : حسن غريب وابن حبان وأبو يعلى والبزار عن علي رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مرهم أن يصدقوا ) قلت : بكم يا رسول الله ؟ قال : ( دينار ) ، قلت : لا يطيقون .
قال : ( فنصف دينار ) ، قلت : لا يطيقون ، قال : فبكم ؟ قلت : بشعيرة : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنك لزهيد ) ، فأنزل الله تعالى ) أأشفقتم ( الآية .
وكان عليه رضي الله عنه يقول : بي خفف الله عن هذه الأمة .
وعدم عمل غيره(7/499)
صفحة رقم 500
لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة .
المجادلة : ( 13 - 15 ) أأشفقتم أن تقدموا. .. . .
) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
ولما دل ختم الآية على التخفيف ، وكان قد يدعي مدعون عدم الوجدان كذباً فيحصل لهم حرجن وكان تعالى شديد العناية بنجاة هذه الأمة ، دل على لطفه بهم بنسخه بعد فرضه .
فقال موبخاً لمن يشح على المال نادباً إلى الخروج عنه نم غير إيجاب : ( أأشفقتم ) أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم ) أن تقدموا ) أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم ) بين يدي نجواكم ) أي للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجمع لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر ، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق فقال : ( صدقات ( وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك .
ولما كان من قبلنا إذا كلفوا الأمر الشاق وحملوا على التزامه بمثل رفع الجبل فوقهم ، فإضا خالفوا عوقبوا ، بين فضل هذه الأمة بأنه خفف عنهم ، فقال معبراً بما قد يعشر بأن بعضهم ترك عن قدرة : ( فإذ ) أي فحين ) لم تفعلوا ) أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق ) وتاب الله ) أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه نم العظمة أن يعاقب من ترك أمره ) عليكم ) أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان ، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباجة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم ، قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقال الكبي : ما كانت إلا ساعة من نهار .
وعلى كل منهما فهي لم تتصل بما قبلها نزولاً وإن اصتلت بها تلاوة وحلولاً ) فأقيموا ( بسبب العفو عنكم شكراً على هذا الكرم والحلم ) الصلاة ( التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم ) وآتوا الزكاة ( التي هي نزاهة لأبدانكم وتتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم ، ولا تفرطوا في شيء من ذلك(7/500)
صفحة رقم 501
فتهملوه ، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ، وتعين على نوائب الدارين ، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة .
ولما خص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية ، عم فقال حاثاً على زيادة النور والبرهان اللذين بهما تقع المشاكلة في الأخلاق فتكون المناجاة عن أعظم إقبال وإنفاق فقال : ( وأطيعوا الله ) أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد ) ورسله ( الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بالحنيفية السمحة ، وجعل المحافظة على ذلك قائمة مقام ما أمركم به ، ثم نسخه عنكم من تقديم الصدقة على النجوى .
ولما كان قد عفا عن أمر أشعر السياق بأنه وقع فيه تفريط ، فكان ذلك ربما جرى على انتهاك الحرمات ، رهب من جنابه بإحاطة العلم ، وعبر بالخبر لأن أول الآية وبخ على أمر باطن ولم يبالغ بتقديم الجار لما فيها من الأمور الظاهرة .
فقال عاطفاً على ما تقديره : فالله يحب الذين يطيعون : ( والله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) خبير بما تعملون ) أي تجددون عمله ، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره .
ولما أخبر بإحاطة علمه ردعاً لمن يغتر بطول حلمه ، دل على ذلك باطلاعه على نفاق المنافقين الذي هو أبطن الأشياء ، فقال معجباً مرهباً معظماً للمقام بتخصيص الخطاب بأعلى الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) تنبيهاً على أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره : ( ألم تر ( ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال : ( إلى الذين تولوا ) أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلونا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم ) قوماً ( ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة ) غضب الله ) أي الملك الأعلى الذي لا ند له ) عليهم ) أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه ، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود ، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفاً : ( ما هم ) أي اليهود المغضوب عليهم ) منكم ( أيها المؤمنون لتوالوهم خوفاً من السيف ورغبة في السلم ) ولا منهم ) أي المنافقين ، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة ، ليكون ذلك لهم عذراً ، بل هم مذبذبون ، فهم مع المؤمنين بأفواقهم ، ومع الكفار بقلوبهم ، فما تولوهم إلا عشقاً في النفاق لمقاربه ما بينهم فيه ، أو يكون المعنى : ما المنافقون المتولون من المسلمين ولا من اليهود المتولين ، وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء الحالم على كل رذيلة ، فقال ذاكراً لحالهم في هذا الاتحاد : ( ويحلفون ) أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار ، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأن التقدير : مجترئين ) على الكذب ( في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام ، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان .(7/501)
صفحة رقم 502
ولما كان الكذب قد يطلق في اللغلة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع ، قال نافياً لذلك مبيناً أنهم جرؤوا على اليمين الغموس : ( وهم يعلمون ) أي أنهم كاذبون فهم متعمدون ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصجابه : ( يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( علام تشتمني أنت وأصحابك ، فحلف بالله ما فعل ) فقال له : ( فعلت ) فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت .
ولما أخبر عن حالهم ، أتبعه الإخبار عن مآلهم ، فقال دالاًّ - كما قال القشيري - على أن - من وافق مغضوباً عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو غضبان عليه ، فمن تولى مغضوباً عليه نم قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هواناً وحزناً وحرماناً ، معبراً بما دل على أنه أمر قد فرغ منه : ( أعد الله ) أي الذي له العظمة الباهرة فلا كفوء له ، وعبر بما دل على التهكم بهم فقال : ( لهم عذاباً ) أي أمراً قاطعاً لكل عذوبة ) شديداً ( يعلم من رآه ورآهم أن ذواتهم متداعية إليه ضعيفة عنه .
ولما أخبر بعذابهم ، علله بما دل على أنه واقع في أتم مواقعه فقال مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن أفعالهم : ( إنهم ساء ) أي بلغ الغاية مما يسوء ، ودل على أن ذلك كان لهم كالجبلة بقوله : ( ما كانوا يعملون ) أي يجددون عمله مستمرين عليه لا ينفكون عنه من غشهم المؤمنين ونصحهم الكافرين وعيبهم للإسلام وأهله ، واجترائهم على الأيمان الكاذبة ، وأصروا على ذلك حتى زادهم التمرن عليه جرأة على جميع المعاصي .
المجادلة : ( 16 - 19 ) اتخذوا أيمانهم جنة. .. . .
) اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ( ( )
ولما دلت هذه الجملة على سوء أعمالهم ومداومتهم عليها ، أكد ذلك بقوله : ( اتخذوا ) أي كلفوا فطرهم الأولى المستقيمة لما لهم من العراقة في اعوجاج الطبع والمحبة للأذى ) إيمانهم ( الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل(7/502)
صفحة رقم 503
من إيمان ) جنة ) أي وقاية وتسرة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان ، أو يوجب قتلهم بما يقع منهم من الكفران .
ولما كان علمه بأنه يرضى منهم بالظاهر ويصدق إيمانهم هو الذي جرأهم على العظائم ، فكانوا يرغبون الناس في النفاق بعاجل الشهوات وثبطونهم عن الدين بما فيه من عاجل الكلف وآجل الثواب ، سبب عن قبول إيمانهم قوله مظهراً بزيادة التوبيخ لهم : ( فصدوا ) أي كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاهم الصد ) عن سبيل الله ) أي شرع الملك الأعلى الذي هو الطريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز الأعظم ، فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهون أمره ويحقرونه ، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الحانثة وردت عليهم الأرزاق استدراجاً وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونهم من أقوالهم المؤكدة بالإيمان غره ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ، وسنج على منوالهم ، غروراً بظاهر أمرهم ، معرضاً عما توعدهم الله سبحانه عليه من جزاء خداعهم ومكرهم ، وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال : ( فلهم ) أي فتسبب عن صدهم أنهم كان لهم ) عذاب مهين ( جزاء بما طلبوا بذلك الصد إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام .
ولما كان لهم أموال وأولاد يتعززون بها ، قال مستأنفاً دالاًّ على أن من استتر بجنة دون طاعته لتسلم دنياه وراءه تكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر ، ثم لا دينه يبقى ولا دنياه تسلم : ( لن تغني ) أي بوجه من الوجوه ) عنهم ) أي في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره ) أموالهم ( وأكد النفي بإعادة النفي للتنصيص على كل منهما فقال : ( ولا أولادهم ) أي بالنصرة والمدافعة ) من الله ( إي إغناء مبتدئاً من الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) شيئاً ) أي من إغناء ولو قل جدّاً ، فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفد ومضى ، لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم : لئن كان يوم القيامة لتكونن أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننصرن بأفنسنا وأموالنا وأولادنا .
ولما انتفى الإغناء المبتدئ من الله فانتفى بانتفائه كل إغنائه سواه ، أنتج ذلك قوله : ( أولئك ) أي البعداء من كل خير ) أصحاب النار ( ولما أفهمت الصحبة الملازمة ، أكدها بقوله : ( هم ) أي خاصة لاضمحلال عذاب غيرهم - لكونهم في الهاوية - في جنب عذابهم ) فيها ) أي خاصة دون شيء يقصر عنها ) خالدون ) أي مقيمون باقون دائمون لازمون إلى غير نهاية .
ولما كان إفسادهم لذات البين سراً ، وحلفهم على نفي ذلك جهراً مع الإلزام بقبول ما ظهر من ذلك منهم مع علمه سبحانه وتعالى بأنه كذب غائظاً موجعاً ، وكان ربما توهم متوهم أنه تعالى كما ألزم بقبولنا لما ظهر منهم في دار العمل يأمر بقبولهم في(7/503)
صفحة رقم 504
دار الجزاء ، قال نافياً لذلك معزياً للمؤمنين بأنهم يفعلون ذلك معه سبحانه بعد كشف الغطاء وتحقيق الأمور ، لأن الإنسان يبعث على ما مات عليه ، لأن ذلك جبلته التي لا ينفك عنها ، ولا ينفعهم ذلك ، ذاكراً ظرف الخلود وإظهار التعذيب : ( يوم يبعثهم الله ) أي الملك الذي له جميع صفات الكمال بإحيائهم عما كانوا فيه من الموت وردهم إلى ما كانوا قبله ) جميعاً ( لا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان عليه قبل موته ) فيحلفون ) أي فيتسبب عن ظهور القدرة التامة لهم ومعاينة ما كانوا يكبون به من البعث والنار أنهم يحلفون ) له ) أي الله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، ونحوه من الأكذوبات التي تزيدهم ضرراً ، ولا تغني عنهم شيئاً بوجه من الوجوه ، جرياً على ما طبعوا عليه من إيثار الهوى والقصور على النظر في المحسوسات التي ألفوها ) كما يحلفون ( في الدنيا ) لكم ( لكونكم لا تعلمون الغيب مع توقعهم أن لا يحلف لك إلا من يظن أنك تكذبه : قال القشيري : عقوبتهم الكبرى ظنهم الأجنبية ، وغاية الجهد كبهم على مناخرهم في وهدة ندمهم .
ولما كان الذي يحملهم على الإقدام على ذلك ضعف عقولهم وتوغلهم في النفاق ومرودهم عليه حتى بعثوا على مثل ذلك مع علمهم بأن ذلك لا ينجيهم لإحاطة علمه سبحانه ، عبر بالحسبان ، فقال دالاًّ على أنهم في الغاية من الجهل وقلة العقل : ( ويحسبون ) أي في القيامة بأيمانهم الكاذبة ) أنهم على شيء ) أي يحصل لهم به نفع لتخيلهم أن أيمانهم تروج على الله فتنجيهم كما كانت في الدنيا تنجيهم .
ولما أفهم ذلك أن أمورهم لا حقائق لها لا في إخبراتهم ولا في أيمانهم ولا في حسبانهم ، قال منادياً عليهم مؤكداً لتكذيب حسبانهم : ( ألا إنهم ) أي خاصة ) هم الكاذبون ) أي المحكومون بكذبهم في حسبانهم وفي أخبارهم في الدارين لعراقتهم في وصف الكذب حيث لا يتسحيون من الكذب عند الله .
ولما كان هذا الانهماك فيما لا يغني مما يحصل لسامعه غاية العجب من وقوع عاقل فيه مرة من الدهر ، فضلاً عن ملازمته ، أخبر عن الحامل لهم عليه ، فقال مستأنفاً : ( استحوذ ) أي طلب أن يغلب ويسوق ويسرع ويضرب الحوطة ويحث ويقهر ويستولي ) عليهم الشيطان ( مع أنه طريد ومحترق ، ووجد منه جميع ذلك ، ووصل منهم إلى ما يريده ، وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وأقطاعهن ، وصار هو محيطاً بهم من كل جهة ، غالباً عليهم ظاهراً وباطناً ، من قولهم : حذت الإبل أي استوليت عليها ، وحاذ الحمال العانة - إذا جمعها وساقها غالباً لها ، والحوذ : السوق السريع ، ومنه(7/504)
صفحة رقم 505
الأحوذي : الخفيف في المشي لحدقه ، وجاء على الأصل على لحكم الصحيح لأنه لم يبن على حاذ كافتقر فإنه لا مجرد له ، لم يقولوا : فقر : ( فأنساهم ) أي فتسبب عن استحواذه عليهم أنه أنساهم ) ذكر الله ) أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بعد أن كان ذكره مركوزاً في فطرهم الأولى ، فصاروا لا يذكرونه أصلاً بقلب ، ولا لسان .
ولما كان ذلك ، أنتج ولا بد قوله : ( أولئك ) أي الذين احلوا أنفسهم أبعد منزل ) حزب الشيطان ) أي أتباعه وجنده وجماعته وطائفته وأصجحابه والمحدقون به والمتحيزون إليه لدفع ما حزبه أي نابه واشتد عليه ، المبعدون المحترقون لأنهم تبعوه ولم يخافوا في مجازيته وإنفاذ ما يريد لومة لائم مع أنه كله نقائص ومعايب ، وهم مطبوعون على بغضه ، وتركوا من له الكمال كله ، وكر وحبه مركوز في فطرهم فلذلك كانت ترجمة هذا ونتيجته قوله : ( ألا ( وأكد لظنهم الريح بما لهم في الدنيا من الكثرة وظهرو التعاضد والاستدراج بالبسط والسعة فقال : ( إن حزب الشيطان ) أي الطريد المحترق ) هم ) أي خاصة ) الخاسرون ) أي العريقون في هذا الوصف لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق .
المجادلة : ( 20 - 22 ) إن الذين يحادون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ( )
ولما بين ما اوصلهم إليه نسيان الذكر من الخسار ، بين أنه أوقعهم في العداوة ، فقال معللاً الخسار والنسيان والتحزب ، وأكد تكذيباً لحالفهم على نفي ذلك مظهراً موضع الغضمار للتنبيه على الوصف الموقع في الهلاك : ( إن الذين يحادون ( ولعل الإدغام لسترهم ذلك الإيمان ، ويفهم منه الحكم على من جاهر بطريقة الأولى ) الله ) أي يعفلون مع الملك الأعظم الذي لا كفوء له فعل من ينازع ىخر في أرض فيغلب على طائفة منها فيجعل لها حداً لا يتعداه خصمه ) ورسوله ( الذي عظمته من عظتمه .
ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم ، فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعز منهم ، قالتعالى نفياً لهذا الغرور الظاهر : ( أولئك ) أي الأباعد الاسافل ) في الأذلين ) أي الذين يعرفون أنهم أذل الخلق بحيث يوصف كل(7/505)
صفحة رقم 506
منهم بأنه الأذل مطلقاً من غير مفضل عليه ليعم كل من يمكن منه ذل ، وذلك في الدنيا والآخرة سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم سواء كانوا ملوكاً كفرة كانوا أو فسقة ، كما قال الحسن : إن للمعصية في قلبوهم لذلاً ، وإن طقطقت بهم اللجم .
ولما أنزلهم بالحضيض الأسفل ، علل ذلك بما يدل على أنه سبحانه لا شريك له بإتما كلماته بنصر أوليائه على ضعفهم وخذلان أعدائه على قوتهم لأنه سبحانه لا غيب محض لا دلالة عليه إلا بأفعاله فقال : ( كتب ) أي فعل فعل من أبرم أمراً ففرغ منه وكتبه فأوجب وحتم وقضى وبت ) الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ) لأغلبنَّ ( أكد لما لهم من ظن الغلب بالكثرة والقوة ) أنا ورسلي ) أي بقوة الجدال وشدة الجلاد ، فهو صادق بالنسبة إلى من بعث بالحرب ، وإلى من بعث بالحجة ، وعلل هذا القهر بقوله مؤكداً لأن أفعالهم مع أوليائه أفعال من يظن ضعفه : ( إن الله ) أي الذي له الأمر كله ) قوي ( فهو يفيض من باطن قوته من يظهر به ظاهر قدرته أوليائه ، فإن القوي من له استقلال باطن بما يحمله القائم في الأمر ولو ضوعف عليه ما عسى أن يضاعف وحمايته مام يتطرق إلى الإجلال بشدة وبطش منبعث عن ذلك الاستقلال الباطن ، وما ظهر من أثر ذلك فهو قدرة ، فلا اقتدار يظهر من الخلق إلا بالاستناد إلى القوة بالله ، ولا قيام بالحقيقة لباطن إلا بالله الذي بيده ملكوت كل شيء ، فلذلك كان بالحقيقة لا قوي إلا هو .
ولما كان القوي من المخلوقات قد يكون غيره أقوى من غيره ولو في وقت ، نفى ذلك بقوله : ( عزيز ) أي غالب غلبة لا يجد معها المغلوب نوع مدافعة وانفلات ، ثابت له هذا الوصف دائماً .
ولما ظهر بهذا كالشمس أن من والاه سبحانه كان فائزاً ، ومن عاداه كان خاسراً ، كانت نتيجته قطعاً التحذير من موالاة أعداء الله في سياق النفي المفيد للمبالغة في النهي عنه والزجر عن قربانه فقال : ( لا تجد ) أي بعد هذا البيان ) قوماً ) أي ناساً لهم قوة على ما يريدون محاولته ) يؤمنون ) أي يجددون الإيمان ويديمونه ) بالله ) أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ) واليوم الآخر ( الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل ، الذي هو محط الحكمة ) يوادون ) أي يحصل منهم ودل لا ظاهراً ولا باطناً - بما أشار إليه الإدغام وأقله الموافقة في المظاهرة ) من حاد الله ) أي عادى بالمناصبة في الاحدود الملك الأعلى لذلك فالمحادة لا تخفى وإن كانت باطنة يستتر بها زيادة النفرة منهم ) ورسوله ( فإن من حاده فقد حاد الذي أرسله ، بل لا تجدهم إلا يحادونهم ، لا أنهم يوادونهم ، وزاد ذلك تأكيداً بقوله : ( ولو كانوا آباءهم ( الذين(7/506)
صفحة رقم 507
أوجب الله على الأبناء طاعتهم بالمعروف ، وذلك كما فعل أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، قتل أباه عبد الله بن الجرح يوم أحد ) أو آبناءهم ( الذي جبلوا على محبتهم ورحمتهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة ، وقال : دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري ) ) أو أخوانهم ( الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخرق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الصفوف يومئذ على أخيه عتبة بن أبي وقاص غير مرة ليقتله فراع عنه روعان الثعلب ، فنهاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : أتريد أن تقتل نفسك وقتل محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير ) أو عشيرتهم ( الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما فعل عمر رضي الله عنه ، قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة ، وعن الثوري أن السلف كانوا يرون أن الآية نزلت فيمن يصحب السلطان - انتهى .
ومدار ذلك على أن الإنسان يقطع رجاءه من غير الله ، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه .
ولما كان لا يحمل على البراءة ممن هذا شأنه إلا صريح الإيمان ، أنتج قوله : ( أولئك ) أي الأعظمون شأناً الأعلون همماً ) كتب ) أي وصل وأثبت وصلاً وهو في لحمته كالخرز في الأديم ، وكالطراز في الثوب الرقيم ، فلا انفكاك له ) في قلوبهم الإيمان ( فجعلها أوعية له فأثمر ذلك نور الباطن واستقامة الأعمال في الظاهر ) وأيدهم ) أي قواهم وشددهم وأعانهم وشجعهم وعظمهم وشرفهم ) بروح ) أي نور شريف جداً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من كنوز العلم والعمل فهو لقلوبهم كالروح للأبدان ، فلا يفعلون شيئاً من أحوال أهل الجاهلية كالمظاهرة ، وزاد هذا التأييد شرفاً بقوله : ( منه ) أي أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً ، فقهروا بالدلائل والحجج ، وظهروا بالسيف المفني للمهج ، وعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج ، فلا تجد شيئاً(7/507)
صفحة رقم 508
أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو عين الإخلاص ، ومن جنح إلى منحرف عن دينه أو داهن مبتدعاً في عقده نزع الله نور التوحيد من قلبه .
ولما أخبر بما آتاهم في الدنيا وهو غير مفارق لهم في الآخرة ، أخبر بما يؤتيهم في الآخرة فقال : ( ويدخلهم جنات ) أي بساتين يستر داخلها من كثرة أشجارها ، وأخبر عن ريها بقوله : ( تجري ( ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر ، أثبت الجار فقال : ( من تحتها الأنهار ) أي فهي لذلك كثيرة الرياض والأشجار والساحات والديار .
ولما كان ذلك لا يلذ إلا بالدوام قال : ( خالدين فيها ( .
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضا مالكها قال : ( رضي الله ) أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله فلا التفات إلى غيره ) عنهم ( ولما كان ذلك لا يكمل سروره إلا برضاهم ليتم حسن المجاورة قال : ( ورضوا عنه ) أي لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون .
ولما أخبر عنهم بما يسر كل سامع فيشتاق إلى مصاحبتهم ومعاشرتهم ومرافقتهم ومقاربتهم ومدحهم وعرفهم بقوله : ( أولئك ) أي الذين هم في الدرجة العليا من العظمة لكونهم قصروا ودهم على الله علماً منهم بأنه ليس النفع والضر إلا بيده ) حزب الله ) أي جند الملك الأعلى الذي أحاط بجميع صفات الكمال وأولياءه ، فإنهم هم يغضبون له ولا يخافون فيه لومة لائم .
ولما تبين مما أعد لهم وأعد لأضدادهم أنهم المختصون بكل خير ، قال على طريق الإنتاج مما مضى مؤكداً لما لأضدادهم من الأنكاد : ( إلا إن حزب الله ) أي جند الملك الأعلى وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم ) هم ) أي خاصة لا غيرهم ) المفلحون ) أي الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين ، وقد علم من الرضى من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد ، خصهم بذلك لأن له العزة والقوة والعلم والحكمة ، فلذلك علم أمر المجادلة ورحم شكواها إكراماً لها بحكمته لأنه منابذ للحكمة لأنه مرضى عنه ، وحرم الظهار بسبب شكواها لأنها من حزبه وسمع لها ، ومن سمع له فهو تشبيه خارج عن قادة التشبيهات ، وفيه امتهان للأم التي لها في دينه غاية الإكرام بالتسوية بالزوجة التي هي محل الافتراش ، وختم آيها بأن من تعدى حدوده فعاود أحوال الجاهلية فهو مجادله سبحانه فهو من حزب الشيطان ، فقد عاد آخرها إلى أولها بأدل دليل على أحسن سبيل ، لأن هذا القرآن العظيم أشرف حديث وأقوم قيل وهذا مقصود التي بعدها ، ولا شك أنه موجب للتنزيه مبعد عن التشريك والتشبيه ، فسبحان من أنزله آية دائمة البيان ، موجبة للإيمان ، قامعة للطغيان ، على مدى الدهور وتطاول الأزمان .
.. .(7/508)
صفحة رقم 509
سورة الحشر
مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله ، ومن حاده في الأذلين ، لأنه قوي عزيز ، المستلزمة للعلم التام المستلزم الحكمة البالغة المستلزمة للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على زجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال ، وأدل ما فيها على ذلكط تأمل قصة بني النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على ظن أنه لا يكون ، فلذا سميت الحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم وغيرهم من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين لأنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت إليه الحديد كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبتت بظهور دينه على كل دين على حد سواء كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد - الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي لا راد لأمره فلا خلف لعباده ) الرحمن ( الذي عمت نعمةى إيجاده فلا محيص عن معاده ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده .
الحشر : ( 1 - 2 ) سبح لله ما. .. . .
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ ( ( )(7/509)
صفحة رقم 510
لما ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته ، ومذل أهل معصيته ومحادته ، علله بتنزهه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال : ( سبح ) أي أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص ) لله ( الذي أحاط بجميع صفات الكمال .
ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من الكواكب ، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة ، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال : ( ما في السماوات ) أي كلها .
ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذي يحادون الله ، وكان ذلك لمن دون الخلص ، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال : ( وما ( ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها ، أفرد فقال : ( في الأرض ( .
ولما شمل هذا جميع العالم ، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال : ( وهو ) أي والحال أنه وحده ) العزيز ( الذي يغلب كل شيء ولا بمتنع عليه شيء ) الحكيم ( الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً ، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لا خفاء باتصال أيها بما تأخر من آي سورة المجادلة ، ألا ترى أن قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ( إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ثم قال في آخر السورة ) لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ( فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه ، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم ، جرياً على ما تقدم الإيمان إليه سوء مرتكبهم ، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه ، وتناسج الكلام ، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم
77 ( ) أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل ( ) 7
[ المائدة : 60 ] وقال تعالى :
77 ( ) لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ) 7
[ المائدة : 78 ] فبين تعالى أن لعنته إياهم إنماترتبت على عصيانهم واعتدائهم ، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع ، فلما كان الغضب مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك ، (7/510)
صفحة رقم 511
أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال : ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ( وإنما يرد مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع ، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم ، ثم تناسجت الآي - انتهى .
ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا ، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم ، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذي جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولا يتهم وودادهم ، فقال : ( هو ) أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب ) الذي أخرج ( على وجه القهر ) الذين كفروا ) أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق ، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع ) من بني النضير ( أو ) اليهود ( مثلاً : ( من أهل الكتاب ) أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وفي التعبير ب ) كفروا ( إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح ، فكان الخروج منه في غاية العسر ، دل على مزيد قهرهم به بأن قال : ( من ديارهم ( ولما كان كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر ، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أحطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر ، ولحق بعضهم بالحيرة ، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً : ( لأول ) أي لأجل أول أو عند أول ) الحشر ( وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح ، ويزلزلون منه زلزلة أخرى ، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة ، والحشر : الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره ، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب ، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه ، وعند ابن إسحاق أن إجلاءهم في مرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ، قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اخرجوا ) قالوا : إلى أين ، قال : ( إلى أرض المحشر ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ(7/511)
صفحة رقم 512
هذه الآية .
انتهى ، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) .
ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته ، استأنف شرح ذلك بقوله : ( ما ظننتم ) أي أيها المؤمنون ) أن يخرجوا ) أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه مهم لما كان لكم من الضعف ولهم من لاقوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم ، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم ، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم ، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم ، وإذا أراد الله نصر عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق أسده .
ولما كانت الحصون تمنع إلى إتيان الأمداد قال : ( وظنوا أنهم ( ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال : ( مانعتهم حصونهم ) أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع ، قالوا : وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي جعل ضميرهم اسم ( إن ) وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم ، ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال : ( من الله ) أي الملك الأعظم الذي لا عز إلا له وأنتم جنده ، لا تقاتلون إلا فيه وبه ، بأسكم من بأسه ، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد .
ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً جداً لأنه لا يلتس على من له إلمام بكلامهم ، وبليغاً مجيئه بما صور لهم من حقارة أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء ) من حيث لم يحتسبوا ) أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك ، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما مناهم وقربه لهم وأغواهم .
ولما كان التقدير : فأوهنهم الله بذلك ، عطف عليه قوله : ( وقذف ) أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة ، فثبت وارتكز ) في قلوبهم الرعب ) أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من أصلها ، ثم بين حالهم عند ذلك(7/512)
صفحة رقم 513
أو فسر قذف الرعب بقوله : ( يخربون بيوتهم ) أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو بالتشديد - في غخرابها ، أي إفسادها ، فإن الخربة الفساد ، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد ) بأيديهم ( ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة ، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ، فكان الرجل منهم لما تحملوا للرحيل يهدم بيته عن نجاف بابه وما استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم أن يخلوا له عن البلد ولهم ما حملت إبلهم .
ولما كان السبب في تخريب الصاحبة رضي الله عنهم لبيوتهم ما أحرقوهم به من المكر والغدر كانوا كأنهم أمروهم بذلك ، فنابوا عنهم فيه ، فقال أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده : ( وأيدي المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها لأجل القتال ، وقدم تخريبهم لأنه أعجب .
ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوه ، سبب عن ذلك قوله : ( فاعتبروا ) أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً نم الخلق ولا تعتمدوا على غير الله ، فإن الاعتبار - كما قال القشيري - أحد قوانين الشرع ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره - انتهى .
وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوز من الأصل إلى الفرع ، والمجاوزة اعتبار ، وهو مأمور به في هذه الآية فهو واجب .
ولما كان الاعتبار عظيم النفع ، لا يحصل إلا للكمل ، زاده تعظيماً بقوله تعالى : ( يا أولي الأبصار ( بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من إظهار دينه وإعزاز نبيه ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، فإن من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته ، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها - زعموا ، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) الحديث ، وذلك الغدر منهم بعد أن حرضوا قريشاً على غزوة أحد ودلوهم(7/513)
صفحة رقم 514
على بعض العورات ، وقال البغوي : إن كعب بن الأشرف أتى قريشاً بعد أحد في أربعين راكباً فحالفهم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل عليه السلام عليه يخبره بذلك ، وقال : إنه لما قصدهم عليه السلام أرسلوا إليه أن يخرج في ثلاثين ويخرج منهم ثلاثون ليسمعوا منه ، فإن آمنوا به آمن الكل ، فأجابهم فأرسلوا أن الجمع كثير فاخرج في ثلاثة ليخرج ثلاثة منا ، فأرسلت امرأة منهم إلى أخيها وكان مسلماً أنهم اشتملوا على الخناجر يريدون الفتك برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكف ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك ، وكل ما ذكر من أسباب قصتهم كما ترى دائر على المكر بل هو عين المكر .
الحشر : ( 3 - 5 ) ولولا أن كتب. .. . .
) وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( ( )
ولما دل هذا على غاية الوهن منهم فكان موضع التعجب من الكف عن قتلهم ، بين أن السبب في ذلك أمهر الباهر وعزه القاهر حثاً على ما ختم به الآية السابقة من الاعتبار والتدبر والاستبصار فقال : ( ولولا أن كتب الله ) أي فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله ، ودل عليه أنه كتب إذلالاً وإخزاء بقوله : ( عليهم ) أي بخصوصهم فيما كتب على بني إسرائيل في الأزل كما كتب على بني قينقاع ) الجلاء ) أي الخروج من ديارهم والجولان في الأرض ، فأما معظمهم فأجلاهم بخت نصر من بلاد الشام إلى العراق ، وأما هؤلاء حماهم الله بمهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك الجلاء وجعله على يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأجلاهم فذهب بعضهم إلى خيبر وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة ) لعذبهم في الدنيا ) أي بالسيف كما سيفعل بأحوالهم من بني قريظة الذين كتب عليهم العذاب دون الجلاء من قتل المقاتلة وسبي الذرية ، فإنه تعالى قد قضى قضاء حتماً إنه يطهر المدينة بلد الوحي منهم .
ولما كان التقدير : ولكنه كتب عليهم ذلك فهو عذابهم الآن في الدنيا لا محالة وإن اجتمع أهل الأرض على نصرهم ، عطف عليه قوله على طريق التهكم بالتعبير بأداة النفع : ( ولهم ) أي على كل حال أجلوا أو تركوا ) في الآخرة ( التي هي دار البقاء ) عذاب النار ( وهو العذاب الأكبر .
ولما أخبر بما نالهم في الدنيا وينالهم في الآخرة ، علله بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا ويفعله بهم في الآخرة ) بأنهم ( ولما كانوا قد ضموا فى هذه القضية إلى ما كانوا عليه من الكفر الظاهر كفراً باطناً بما(7/514)
صفحة رقم 515
أرادوا من إلقاء الرحى وغيره من الأذى مكراً منهم ، أدغم في قوله : ( شاقوا الله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة ، فكانوا في شق غير شقه بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعد ما كانوا في شق الموادعين .
ولما جرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إخفاءهم لما أرادوا أن يفعلوا به بالإخفاء لخلاصه منهم بأن رجع إلى المدينة الشريفة وترك أصحابه رضي الله عنهم عندهم قال : ( ورسوله ( الذي إجلاله من أجلاله .
ولما أخبر بفعله وبسببه ، عطف عليه تأكيداً لمضمونه وإفاده لأنه يفعل في غيرهم ممن كان على أمرهم أعظم من فعلهم فقال : ( ومن يشاق الله ) أي يوقع في الباطن مشاققة الملك الأعلى الذي لا كفوء له في الحال أو الماضي أو الاستقبال سواء أبطن معها مشاققة أخرى أو لا ، وترك الإدغام على حاله لأنهم ما أظهروا معاداة وإنام كان ما فعلوا مكراً ومساترة ، وذلك أخف من المجاهرة ، وأظهر في الأنفال لقوة أمر المجاهرين كما مضى ، ولم يعد ذكر الرسول تفخيماً له بإفهام أن مشاققته مشاققة لله من غير مثنوية أصلاً ، وإشارة إلى أنهم بالغوا في إخفاء مشاققتهم ، فلم يظهر عليها غير الله ، فلم يحصل منهم في ذلك مفاعلة بينهم وبين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه لم يمكر بهم ، وإنما جاهرهم حين أعلمه الله بمكرهم بخلاف ما تقدم في الأنفال ، فإن المقام اقتضى هناك الذكر لأنهم مكروا به كما قال تعالى
77 ( ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ( ) 7
[ الأنفال : 30 ] الآية وهو ( صلى الله عليه وسلم ) أخفى أمر هجرته وأعمل الحيلة في الخلاص من مكرهم على حسب ما أمره الله به فحصلت المفاعلة في تحيز كل من الفريقين إلى شق غير شق الآخرة خفية ) فإن الله ) أي المحيط بجميع العظمة يشدد عقابه له لأنه ) شديد العقاب ( وذلك كما فعل ببني قريظة بعد هذا حيث نقضوا عهدهم وأظهروا المشاققة في غزوة الأحزاب وكما فعل أهل خيبر ، وكانوا يماكرون ويساترون في الأولى عند فتحها وفي الثانية عند إجلائهم منها ، فقد سوى بين المساترين والمجاهرين في العذاب وهو للمجاهرين أشد عذاباً كما هو واضح .
ولما دل سبحانه على عزته وحكمته بما فعل ببني النضير الذين يقولون إنهم أشجع الناس وأشدهم شكيمة بما لهم من الأصالة والاصطفاء على العالمين ، مع التأييد بالكتاب والحكمة ، وختم بأن من شاق رسوله فقد شاقه ، ومن شاقه فقد شدد عقابه ، أتبعه بيا ما عاقبهم به من قطع الصحابة رضي الله عنهم بأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لنخلهم الذي هو أعز عليهم من أبكارهم وهم ينظرون إليه لا يغنون شيئاً ولا منعة لديهم فقال : ( ما ( وهي شرطية وأتبعها بشرطها الناصب لها فقال : ( قطعتم ) أي كل ما قطعتموه ، وبين ما في ( ما ) من الإبهام بقوله معبراً عن النخل ، بما يفيد نوعه وأنه هان عليهم القطع ولان :(7/515)
صفحة رقم 516
) من لينة ( وهي ضرب من النخل ، قال ابن اسحاق : هو ما خالف العجوة من النخل ، وقال ابن هشام : اللينة من الألوان ، وهي ما لم يكن برنية ولا عجوة من النخل فيما حدثني أبو عبيدة - انتهى .
وقال صاحب القاموس اللون : الدقل من النخل ، وهي جماعة واحدتها لونه ولينة ، قال المهدوي : وروي عن ابن عباس رضي الله عنما أيضاً أنها لون من النخل ، وقال البغوي : ورواية زاذان عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقطع نخلهم إلا العجوة .
وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان واحدها لون ولينة ، وقال عطية والحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون : اللينة : النخلة ، اسمان بمعنى واحد ، وجمعها لين وليان ، وقال سفيان الثوري : اللينة ما تمرها لون وهو نوع من التمر شديد الصفرة يشف عن نواة فيرى من خارج ، قال البغوي : يغيب فيها الضرس ، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف أحب إليهم من وصيف ، فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم وقالوا للمؤمنين : إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون ، دعوا هذه النخلة ، فإنما هي لمن غلب عليها ، وقال الرازي في اللوامع واختلاف الألوان فيها ظاهر لأنها أول حالها بيضاء كصدف مليء درّاً منضداً ، ثم غبراء ثم خضراء كأنها قطع زبرجد خلق فيها الماء ثم حمراء كأنها ياقوت رص بعضه ببعض ثم صفراء كأنها شذو عقيان ، ولذلك إذا بلغ الإرطاب نصفها سميت مجزعة لاختلاف ألوانهات الجزع الظفاري .
ولما كان ما فسر بمؤنث هو اللينة ، أعاد المضير مؤنثاً فقال : ( أو تركتموها ( ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال : ( قائمة ( ولما كان المراد نخيلاً كثيرة لإرادة الجنس قال : ( على أصولها ( بجمع الكثرة ) فبإذن الله ) أي فقطعها بتمكين الملك الأعظم ورضاه ، قال القشيري : وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معللة وإذا جاء الأمر الشرعي بطل طلب التعليل وسكتت الألسنة عن التقاضي ب ( لِمَ ) وحضور الاعتراض والاستقباح بالبال خروج عن حد العرفان .
ولما فطم عن طلب العلل خطاباً للكمل ، طيب قلوب من دونهم بعلة معطوفة على ما تقديره : فليس ذلك بفساد ولكنه صلاح أذن لكم فيه ليشفي به صدور المؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ، فقال واضعاً موضع ضميرهم ظاهراً يدل على ما أوجب خزيهم : ( وليخزي الفاسقين ( الذين هم أصلاء في المروق من دائرة الحق بأن بذلهم ويفضحهم ببيان كذبهم في دعواهم العز والشجاعة والتأييد من الله لأنهم على الدين الحق وأنه لا يتطرق إليه نسخ ، وروى أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه أنه قال : رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا رسول الله علينا إثم فيما(7/516)
صفحة رقم 517
قطعنا أو علينا فيما تركنا ، فأنزل الله الآية - انتهى وكان ناس من المؤمنين مالوا إلى الكف عن القطع لما سموه اليهود فساداً وطائفة أشاروا بالاستمرار على القطع لأنه يغيظهم ، فصوب سبحانه في الآية من أمر بالكف وحلل من أشاور بالاستمرار بالقطع من الإثم ، فدلت الآية على جواز إفساد أموال أهل الحرب على أي حال كان مثمراً كان أو لا بالتحريق والتغريق والهدم وغيره لإخزائهم بذلك .
الحشر : ( 6 ) وما أفاء الله. .. . .
) وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ( )
ولما كانت الغنائم التي تقسم بين الجيش إنما هي ما قاتلوا عليه ، وأما ما أتى منها بغير قتال قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه خمسة أخماس ، ثم يقسم خمساً منها خمسة أقسام ، أحدها وهو كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكون بعده لمصالح المسلمين ، والأقسام الأربعة الأخرى من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها ، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة وهي التي كانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو ، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي ، فكانت الأموال كلها لله إنعاماً على من يعبده بما شرعه على ألسنه رسله عليهم الصلاة والسلام ، كانت أموال الكفار في أيديهم غصباً غصبوه من أوليائه ، فخص سبحانه رسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأموال بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال : ( وما أفاء الله ) أي رد الملك الذي له الأمر كله رداً سهلاً بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة ) على رسوله ( فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلماً وعدواناً كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها ) منهم ) أي رداً مبتدئاً من الفاسقين ، فبين أن هذا فيء لا غنيمة ، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية ، وأما الغنيمة فهي ما كان بقتال وإيجاف خيل وركاب .
ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضر والطعان ، قال معللاً لكونه فيئاً : ( فما أوجفتم ) أي أسرعتم ، وقال ابن إسحاق : حركتم واتبعتم في السير - انتهى ، وذلك الإيجاف للغلبة ) عليه ( وأعرق في النفي بالجار فقال : ( من خيل ( وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال : ( ولا ركاب ) أي إبل ، غلب ذلك عليها نم بين المركوبات ، ولا قطعتم من أجله مسافة ، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها وبين ما يلي منها مسافة بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها ، وهي قرية بني عمرو بن(7/517)
صفحة رقم 518
عوف في قباء بينهما وبين القرية التي كان رسول الله نازلاً بها نحو ميلين ، فمشى الكل مشياً ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقاتلوا بها قتالاً بعد ، فلذلك جعلها الله فيئاً ولم يجعلها غنيمة ، فهي تقسم قسمة الفيء ، لا قسمة الغنيمة ، فخمسها لأهل خمسة الغنيمة وهم الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها ، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له ( صلى الله عليه وسلم ) مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس .
ولما كان معنى هذا : فما كان التسليط بكم ، استدرك بقوله : ( ولكن الله ) أي الذي له العز كله فلا كفوء له ) يسلط رسله ) أي له هذه السنة في كل زمن ) على من يشاء ( بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه ، فهو الذي سلط رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) على هؤلاء بأن ألقى في روعه الشريف أن يذهب إليهم فيسألهم الإعانة في دية العامريين اللذين قتلهمنا عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه خطأ ، فلما جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جانب بيت من بيوتهم ، وكانوا موادعين له ( صلى الله عليه وسلم ) نقضوا عهدهم خفية مكراً منهم بعد أن رحبوا به ووعدوه الإعانة وأمروا أحدهم أن يرمي عليه من فوق السطح صخرة لتقتله ، فأعلمه الله بهذا فذهب وترك أصحابه هناك حتى لحقوا به ، وهذا بعد ما كان حيي فعل من قدومه مكة وندبه لقريش إلى حرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعاقدته لهم على أن يكون معهم عليه عليه الصلاة والسلام ، وإعلام الله بذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل إليهم بعد ما أصبح أنكم قد خنتم الله ورسوله ، فأردتم أن تفعلوا كذا ، وأن الأرض لله ورسوله ، فاخرجوا منها وقد أجلتكم عشراً ، فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون ودس إليه ابن أبي ومن معه من المنافقين أنهم معهم في الشدة والرخاء لا يسلمونهم ، وقال ابن أبي : معي ألفان من قومي وغيرهم نم العرب يدخلون حصنكم فيموتون من عند آخرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيي بن أخطب في ذلك فأرسل إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك ، فقصدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المؤمنين يحمل رايته على بن أبي طالب رضي الله عنه فصلى العصر بفنائهم بعد أن استعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه وأقم عليهم ست ليال وهم متحصنون ، فقطع من نخلهم وحرق فنادوه أن قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بالك تقطع النخل ، وتربصوا نصر ابن أبي ومن معه على ما قالوا فلم يفوا لهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم فأرسلوا بالأجابة ، فقال : لا إلا أن يكون لي سلاحكم وما لم تقدروا على حمله على إبلكم من أموالكم ، فتوقفوا ثم أجابوا حملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل إلا الحلقة ، وذهبوا على ستمائة بعير ، وأظهروا الحلي والحلل وأبدى نساؤهم زينتهن فلحق بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام وخلوا الأموال والحلقة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يسلم منهم إلا(7/518)
صفحة رقم 519
رجلان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها فجعل الله أموال من لم يسلم منهم فيئاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة به يضعها حيث يشاء كما روي ذلك في الصحيح عن عمر ري الله عنه في قصة مخاصمة علي والعباس رضي الله عنهما ، وفيه أنه من خصائصه ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال : إن الله قد خص رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ ) ما أفاء الله على رسوله منهم ( إلى قوله تعالى : ( قدير ( فكانت خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال - يعني الذي وقع خصامهما فيه ، فكان ينفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله ، وفي الصحيح أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله - انتهى ، وقد قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أموالهم بعد ما تركه لنفسه بين المهاجرين ، لم يعط الأنصار منه شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة شديدة : أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة رضي الله عنهم ، وكان لسيف ابن أبي الحقيق عندهم ذكر فنفله سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال الأصبهاني : إن الفيء كان يقسم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على خمسة وعشرين سهماً أربعة أخماسها وهي عشرون سهماً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل بها ما يشاء ويحكم فيها ما أراد ، والخمس الباقي على ما يقسم عليه خمس الغنيمة - يعني على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذوي القربى ومن بعدهم ، هكذا كان عمله ( صلى الله عليه وسلم ) في صفاياه ، فملا توفي كانت إلى إمام المسلمين وكذا جميع ما ترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال : ( لا نورث ، ما تركناه صدقة ) .
فولي ذلك أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ، فكانا يفعلان فيها ما فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وقال الأصبهاني رضي الله عنه أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
77 ( ) إنما الصدقات للفقراء ( ) 7
[ التوبة : 60 ] حتى بلغ ) عليم حكيم ( ثم قال : هذه لهؤلاء ثم قرأ
77 ( ) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ( ) 7
[ الأنفال : 41 ] ثم قال هذه لهؤلاء ، ثم قرأ
77 ( ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( ) 7
[ الحشر : 7 ] حتى بلغ
77 ( ) الفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم ( ) 7
[ الحشر : 7 ] ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة فليس أحد إلا له فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي نصيبه منه لم يعرف جبينه فيه - انتهى .(7/519)
صفحة رقم 520
وقال ابن عطية : ما أخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لبني النضير ومن فدك فهو خاص بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن هذه الأموال التي هي فيء كيبقية الفيء يقسم على خمسة أسهم : خمس منها للأصناف المذكورة أولها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأربعة أخماسها له ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، وأجاب الشافعي عن قول عمر رضي الله عنه ، ( فكانت هذه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ) بأنه عام أريد به الخاص ، ومعناه ، فكان ما بقي منها في يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد إعطاء الخمس لأربابه خاصاً به ( صلى الله عليه وسلم ) ، لا يشك أحد في خصوصيته به ، ثم إنه مع ذلك ما حتازه دونهم بل كان يفعل ما ذكر في الحديث من الإيثار ، قال الشافعي رضي الله عنه : لأنا لا نشك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى الأصناف المذكورين في الآية منها حقهم وقد عهدنا أن حق هؤلاء الأصناف من مال المشركين الخمس كما هو صريح في سورة الأنفال ، واستفيد من قول عمر رضي الله عنه ( إنها كانت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه كان له ما كان يشترك فيه المسلمون من الخمس من الغنيمة التي حصلت بما حصل للكفار من الرعب منهم ، والذي كان يشترك فيه المسلمون بعد الخمس هو أربعة الأخماس والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقام المسلمين فيه إذ هم لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ، وإنما حصل ذلك بالرعب الذي ألقاه الله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في قلوب المشركين ، فكانت الأربعة الأخماس تختص ممن كان السبب في حصول الجميع كما في الغنيمة ، فعلى هذا الفيء الغنيمة لا يختلفان في أن الأربعة الأخماس تختص لمن كان السبب في حصول الجميع وأن خمس المالين يكون للأصناف المذكورة ، والذي كان لهد ( صلى الله عليه وسلم ) من الفيء من الأربعة الأخماس يكون بعد موته ( صلى الله عليه وسلم ) للمقاتلة لأنه حصل بالرعب الحاصل للكفار منهم كأربعة أخماس الغنيمة التي حصلت بقتالهم .
ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره ، أظهر ولم يضمر فقال : ( والله ) أي الملك الذي له الكمال كله ) على كل شيء ) أي أي شيء يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره ) قدير ) أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات ، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب عظيم .
الحشر : ( 7 ) ما أفاء الله. .. . .
) مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ( )
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش ، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له ( صلى الله عليه وسلم ) بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال : هل يعم هذا الحكم كل فيء(7/520)
صفحة رقم 521
يكون بعد بني النضير : ( ما أفاء الله ) أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة ) على رسوله ( ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط ، قال ليكون علماً من أعلام النبوة : ( من أهل القرى ) أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ) فالله ) أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده ) وللرسول ( لأنه أعظم خلقه ، فرتبته تلي رتبته ، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك ، هما قسم واحد ، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقس تبركاً ، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم ، وتعظيماً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا ، وإنما رضاه رضا مولاه ، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه ، وسهمه ( صلى الله عليه وسلم ) يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة .
ولما أبان هذا الكلام لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف ، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله ، ولذلك أعاد العامل فقال : ( ولذي القربى ) أي منهم لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم ، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه .
ولما ذكر أهل الشرف ، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم : ( واليتامى ) أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير ) والمساكين ( فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر ، وإنما يفرق إذا جمع بينهما ، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر ، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاد خيل وركاب ، والغنيمة ما حصل بذلك ) وابن السبيل ( وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم ، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام : خمس منها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك ، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه ، والأربعة الأخماس خاصة له ( صلى الله عليه وسلم ) ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسلمين السلاح والكراع ونحوه ، وما كان له ( صلى الله عليه وسلم ) في حياته فهو للمصالح بعد وفاته ، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته ، قال الشافعي رضي الله عنه في الأم : وما أخذ من مشرك بوجه من الوجوه غير ضيافة من مر بهم من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما ، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي فعله فأحدهما الغنيمة ، قال الله تعالى في(7/521)
صفحة رقم 522
سورة الأنفال :
77 ( ) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ( ) 7
[ الأنفال : 41 ] والوجه الثاني الفيء ، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر ، قال الله تبارك وتعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم - إلى قوله : رؤف رحيم ( فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه ، وهذه أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها .
فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى ، ومن سماه الله تعالى في الآيتين معاً سواء مجتمعين غير مفترقين ، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس بما بين الله عز وجل على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة ، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير ، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت سنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قرى عرينة التي أفاءها الله عليها أن أربعة أخماسها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة دون المسلمين يضعه رسوله الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أراه الله عز و جل ، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما ، قال الشافعي : فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصارياً إلا رجلين ذكرا فقراً وهذا مبين في موضعه ، وفي هذا الحديث لالة على أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه ما رأيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعمل به فيها ، وأنهما لم يكن لهما مما لم يووجف عليه المسلمون من الفيء ما كان والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها ، وقد مضى من كان ينفق عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أزواجه وغيرهن إن كان معهن ، فلم أعلم أحداً من أهل العلم قال لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم ، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله ، قال الشافعي : والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذه مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى ، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من مال غير إيجاف ، وذلك مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له ، وغير ذلك ما أخذ من ماله ، وقد كان في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيء من(7/522)
صفحة رقم 523
غير قرى عرينة ، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله عز وجل وأوفى خمسه من جعله الله له - انتهى .
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به ، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار : ( كي لا يكون ) أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء ) دولة ) أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر بالتأنيث من ) كان ( التامة و ) دولة ( بالرفع على أنها فاعل ) بين الأغنياء منكم ( يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون : من عزيز ، ومنه قال الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً - يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به ، وقيل : الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما يغترف ، والفتح التداول .
ولما كان التقدير : فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت به ، عطف عليه قوله : ( وما ) أي وكل شيء ) آتاكم ) أي أحضر إليكم وأمكنكم منه ) الرسول ) أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره ) فخذوه ) أي فتقبلوه تقبل من حازه ) وما نهاكم عنه ( من جميع الأشياء ) فانتهوا ( لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه ، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور كما ورد ( القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه ) روي أن الآية نزلت في ناس من الأنصار قالوا : لنا من هذه القرى سهمنا .
ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً ، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة ، رهب من المخالفة فيه بقوله : ( واتقوا الله ) أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ، وعلل ذلك بقوله ، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر : ( إن الله ) أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق ) شديد العقاب ) أي العذاب الواقع بعد الذنب ، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة .
الحشر : ( 8 - 9 ) للفقراء المهاجرين الذين. .. . .
) لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ( )(7/523)
صفحة رقم 524
ولما نزع سبحانه أموال الفيء وما كانت عليه في الجاهلية ، وبين مصرف الفيء من القرى ، وتهدد في المخالفة في ذلك لصعوبته على النفوس ، فكان ذلك جديراً بالتقبل بعد أن أفهم أن أموال بني النضير لمن سلطه عليهم وهو رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان من المعلوم من حاله ( صلى الله عليه وسلم ) الإيثار على نفسه والقناعة بما دون الكفاف ، بين المصرف فيها بعد كفاية ( صلى الله عليه وسلم ) لأن بيان ذلك هو المقصود الأعظم لكونه حاصلاً حاضراً ، الموطأ له بأموال أهل القرى ، فقال مبدلاً من ) الله وللرسول ( وما عطف عليهما لأن من أعطى المهاجرين لهجرتهم وتجردهم من أموالهم وديارهم فإنما أعطاهم لوجه الله ووجه رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يكون بدلاً من ) ذي القربى ( لئلا يختص بفقيرهم ، أو يكون جواباً لمن كأنه قال : قد سمعنا وأطعنا فلمن يكون ما سلط الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من أموالهم ؟ فقيل له : ( للفقراء ) أي الذي كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد ، ما له دثار غيرها بعد أن كان له من الأموال ما يسعه ويفضل منه ما يصل به غيره ، وإنما وصفه بالفقر لأنهم كانوا عند نزولها كذلك ، ثم خصص بالوصف فقال : ( المهاجرين ( ولما كانت الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غير مفارقة الوطن فقال : ( الذين أخرجوا ( وبناه للمفعول لأن المنكئ الإخراج ، لا كونه من مخرج معين ) من ديارهم ( ولما كان الإخراج هنا مضمناً معنى المنع ، واختبر التعبير به إشارة إلى أن المال السترة للإنسان لأنه ظرف له ، قال : ( وأموالهم ( .
ولما كان غلب الدنيا من النقائص ، بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك ، وأنه لا يكون قادحاً في الإخلاص ، وأن أمر بني النضير إنما يسر تحقيقاً لرجائهم فقال : ( يبتغون ) أي أخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد .
وبين أنه لا يجب عليه شيء لأحد بقوله تعالى : ( فضلاً من الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له لأنه المختص بجميع صفات الكمال من الدنيا والدين والآخرة فيغنيهم بفضله عمن سواه ) ورضواناً ( يوفقهم لما يرضيه عنهم ولا يجعل رغبتهم في العوض منه قادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته .
ولما وصفهم بتعليق بواطنهم به سبحانه وقطعها بالرضا بالإخراج عمن أو عما سواه ، وصفهم ببذل ظواهرهم له فقال : ( وينصرون ) أي على سبيل التجديد في كل وقت والاستمرار ) الله ) أي الملك الأعظم المجيد ) ورسوله ( الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان .
ولما بان ما له بهم سبحانه من العناية ترقب السامع من مدحهم ما يليق بهذا الإحبار .
فقال مستأنفاً ما هو كالعلة لتخصيصهم : ( أولئك ) أي العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة ) هم ) أي خاصة لا غيرهم(7/524)
صفحة رقم 525
) الصادقون ( العريقون في هذا الوصف لأن مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث نابذوا من عاداهما وهو القريب الصافي نسباً وداراً وأولوا أولياءهما من كانوا وإن بعدت دارهم وشط مزارهم ، وهذا يدل على أن مبنى الدين على إقامة البينات بالثبات عن الابتلاءات على أن العون قد يأتي على قدر البلاء لأن الله تعالى قد خص المهاجرين من أذن فيه من أموال بني النضير .
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه ( صلى الله عليه وسلم ) كالميت بين يدي الغاسل ، مهما شاء فعل ، وهما أراد منهم صار إليه ووصل ، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة : ( والذين تبوؤ ) أي جعلوا بغاية جهدهم ) الدار ( الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً ، فهي محل مناه وليست موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها .
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم ، قال مضمناً ( تبوؤا ) معنى لازم : ( والإيمان ) أي ولابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه ، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل : تبوؤوا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها له سميت به ، ويجوز أن يكون المعنى : ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره ، ويكمل شرفه وقدره ، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها ، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أي مكان حله ، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل .
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً ، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالأمرين : ( من قبلهم ) أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة .
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل ، أخبر عنهم بقوله : ( يحبون ) أي على سبيل التجديد والاستمرار ، وقيل العطف على المهاجرين ، وهذه حال فيكون هذا حكماً(7/525)
صفحة رقم 526
بالمشاركة ) من هاجر ( وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله : ( إليهم ( لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنه به من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم ، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال .
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها ، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال : ( ولا يجدون ) أي أصلاً ) في صدورهم ( التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم .
ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجري ، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة ، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال : ( حاجة ( موقعاً اسم السبب على المسبب ) مما أوتوا ) أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدون حسداً ولا غيظاً من باب الأولى ، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء .
ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال : ( ويؤثرون ( عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى : يوقعون الأثرة وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل ) على أنفسهم ( فيبذلون لغيرهم ) كائناً ( من كان ما في أيديهم ، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر ، وأكد ذلك بقوله : ( ولو كان ) أي كوناً هو في غاية المكنة ) بهم ) أي خاصة لا بالمؤثر ) خصاصة ) أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب ، من خصائص البناء وهي فرجه .
ولما كان التقدير : فمن كان كلك فهو من الصادقين : عطف عليه قوله : ( ومن ( ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت ، وكان علاج الرذائل صعباً جداً ، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة ، بنى للمفعول قوله : ( يوق شح نفسه ) أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس ، وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعاً لما عنده ، حريصاً على ما عند غيره حسداً ، قال ابن عمر رضي الله عنه : الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) :
77 ( ) اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلو محارمهم ( ) 7(7/526)
صفحة رقم 527
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً ، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله ) فأولئك ( : أي العالو المنزلة ) هم ) أي خاصة لا غيرهم ) المفلحون ) أي الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر ، ومن أسرته الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفه معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه ، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء .
وشرح الآية أن الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم ، فلما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أموال بني النضير خطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم ، ثم قال ( إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير ) ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطتيهم وخرجوا من دياركم ، فقال السعداء رضي الله عنهما : بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا كما كانوا ، وقالت الأصنار : رضينا وسلمنا ، وفي رواية أنهم قالوا : اقسم فيها هذه خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت ، فنزلت ) ويؤثرون على أنفسهم ( - الآية ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار ) ، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي :
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلتأبوا أن يملونا ولو أنا منا تلاقي الذي يلقون منا لملت
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفاء ، وخلان المروءة والوفاء ، والكرامة والاصطفاء ، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفاء والسادة والحنفاء .
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من. .. . .
) وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم بما هم أهله ، التابعين لهم بإحسان مايوجب لهم الثناء فقال عاطفاً على المهادرين فيقتضي التشريك معهم ، أو على أصل القصة من عطف الجمل : ( والذين جاؤوا ) أي من أي طائفة كانوا ، ولما كان المراد المجيء ولو في زمن يسير ، أثبت الجار فقال : ( من بعدهم ) أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان(7/527)
صفحة رقم 528
الأنصار الذين أسلموا بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم القيامة ، ثم ذكر الخبر أو الحال على نحو ما مضى في الذي قبله فقال تعالى : ( يقولون ) أي على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لغيمانهم بدعائهم لمن سنة لهم : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد موضعاً للنقصان قال ملقناً لنا : ( اغفر ) أي أوقع الستر على النقائص أعيانها وآثارها ) لنا ( ولما بدؤوا بأنفسهم ، ثنوا بنم كان السبب في إيمانهم فقالوا : ( ولإخواننا ) أي في الدين فإنه أعظم أخوة ، وبينوا العلة بقولهم : ( الذذين سبقونا بالإيمان ( ولما لقنهم سبحانه حسن الخلافة لمن مهد لهم ما هم فيه ، أتبعه تلقين ما يعاشرون به أعضادهم الذين هم معهم على وجه يعم من قبلهم ، فقال معلماً بأن الأمر كله بيده حثاً على الالتجاء إليه من أخطار النفس التي هي أعدى الأعداء : ( ولا تجعل ( وأفهم قوله : ( في قلوبنا ( أن رذائل النفس قل أن تنفك وأنها إن كانت مع صحة القلب أوشك أن لا تؤثر ) غلاًّ ) أي ضغناً وحسداً وحقداً وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام ) للذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته .
ولما كان هذا دعاء جامعاً للخير ، لقنهم ما يجيبهم في لزومه والتخلق به مع ما فيه من التملق للإله والتعريض له بقوة الرجاء فقال : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بتعليم ما لمن نكن نعلم ، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولونه وإن ظهر من أفعالهم ما يقدح في اعتقادهم ولو في بعض الأوقات فقالوا : ( إنك رؤوف ) أي راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير ) رحيم ( مكرم غاية الإكرام لمن أردته ولو الرأفة ، أو لا فنكون من أهل الرحمة ، فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة رضي الله عنهم فليس ممن عنى الله بهذه الآية .
الحشر : ( 11 - 14 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ( )
ولما دل على أن هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان ، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك ، دل على(7/528)
صفحة رقم 529
نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاسهم لما لهم فيه نم دقة المكر حق الاطلاع غيره ( صلى الله عليه وسلم ) معجباً من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبارة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان : ( ألم تر ) أي تعلم علماً هو في قوة الجزم به كالمشاهد يا أعلى الخلق ، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بإداة الانتهاء فقال تعالى : ( إلى الذين نافقوا ) أي أظهروا غير ما أظهروا غير ما أضمروا ، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه ، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله ، وهو استعارة من فعل الضب في نافقائه وقاصعائه ، وصور حالهم بقوله : ( يقولون لإخوانهم ) أي من الموالاة بالضلالة .
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة ، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال : ( الذي كفروا ) أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق ، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال : ( من أهل الكتاب ( وهم بنو النضير هؤلاء ، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم في قولهم : ( لئن أخرجتم ) أي من مخجر ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا ) لنخرجن معكم ( فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم .
ولما كان من المعلوم أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين ، وكان من المعلوم : أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحساناً إليهم ، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك ، قالوا مؤكدين للكون معهم : ( ولا نطيع فيكم ) أي في خذلانكم ، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم ) أحداً ) أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين ، وأكدوا بقولهم : ( أبداً ) أي ما دمنا نعيش ، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب .
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم ، أتبعوه قولهم : ( وإن قوتلتم ) أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا ) لننصرنكم ( فالآية من الاحتباك : ذكر الإخراج أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والقتال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، ومعنى(7/529)
صفحة رقم 530
الآية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بني النضير : ( اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني ، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشراً ، فمن رئي بعد لك منكم ضربت عنقه ) فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم .
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه ، بين حاله سبحانه بقوله : ( والله ) أي يقولون ذلك والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) يشهد ( بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب .
ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع ، وكان إخلافهم فيه متحققاً في علم الله ، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابقة ، فقال تشجيعاً دلائل النبة لأنه إخبار بمغيب بعيدة عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب .
ولما كان الكذب في قولهم هذا كونه إخباراً بما لا يكون ، شرحه بقوله مؤكداً بأعظم من تأكيدهم : ( لئن أخرجوا ) أي بنو النضير من أي مخرج كان ) لا يخرجون ) أي المنافقون ) معهم ) أي حمية لهم لأسباب يعلمها الله ) ولئن قوتلوا ) أي اليهود من أي مقاتل كان فكيف بأشجع الخلق وأعلمهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا ينصرونهم ) أي المنافقون ولقد صدق الله وكذبوا في الأمرين معاً : القتال والإخراج ، لا نصروهم ولا خرجوا معهم ، فكان ذلك من أعلام النبوة ، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموقنين ، صدق الكلام على ما لم يكن ولا ليكون في قوله تعالى : ( ولئن نصروهم ) أي المنافقون في وقت من الأوقات ) ليولن ) أي المنافقون ومن ينصرونه ، وحقرهم بقوله : ( الأدبار ( ولما كان من عادة العرب الكر بعد الفر ، بين أنهم لا كرة لهم بعد هذه الفرة وإن طال المدى فقال : ( ثم لا ينصرون ) أي لا يتجدد لفريقيهم ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات ، وقد صدق سبحانه لم يزل المنافقون واليهود في الذل ولا يزالون .
ولما كان ربما قيل : إن تركهم لنصرهم إنما هو لخوف الله أو غير ذلك مما يحسن وقعه ، علل بما ينفي ذلك ويظهر أن محط نظرهم المحسوسات كالبهائم فقال مؤكداً له لأجل أن أهل النفاق ينكرون ذلك وكذا من قرب حاله منهم : ( لا أنتم ( أيها المؤمنون ) أشد رهبة ) أي من جهة الرهبة وهو تمييز محول عن المبتدأ أي لرهبتكم الكائنة فيهم(7/530)
صفحة رقم 531
أشد وأعظم ) في صدورهم ) أي اليهود ومن ينصرهم مام أفاض إليها من قلوبهم ) من الله ) أي من رهبتهم التي يظهرونها لكم منه بكل صفة من صفاته فرهبتهم منكم بسبب لإظهارهم أنه يرهبون الله رياء لكم .
ولما كان هذا مما يتعجب منه المؤمن علله بقوله : ( ذلك ) أي الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف يزينهم له وعدم خوفهم من الخالق على ما له من العظمة وذاته ولكونه غنياً عنهم ) بأنهم قوم ) أي على ما لهم من القوة ) لا يفقهون ) أي لا يتجدد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أن الله هو الذي ينبغي إن يخشى لا غيره ، بل هم كالحيوانات لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات ، والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة .
ولما أخبر برهبتهم دل عليها بقوله : ( لا يقاتلونكم ) أي كل من الفريقين اليهود والمنافقين أو أحدهما .
ولما كان الشيء قد يطلق ويراد بعضه ، حقق الأمر بقوله : ( جميعاً ) أي قتالاً يقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن ) إلافي قرى محصنة ) أي ممنعة بحفظ الدروب وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها ) أو من وراء جدار ) أي محيط بهم سواء كان بقرية أو غيرها لشدة خوفهم ، وقد أخرج بهذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كاليسير ، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك ، فإنه لم يكن عن اجتماع ، أو يكون هذا خصاً ببني النضير في هذه الكرة .
ولما كان ربما ظن أن هذا عن عجز منهم لازم لهم دفعه بقوه إعلاماً بأنه إنما هو من معجزات هذا الدين : ( بأسهم ) أي قوتهم ما فيهم من الصفات التي يتأثر عنها العذاب ) بينهم شديد ) أي إذا أداروا رأياً أو حارب بعضهم بعضاً فجرأ المؤمنين عليهم بأن ما ينظرونه من شدتهم وشجاعتهم إذا حاربوا المشركين لا ينكر عند محاربة المؤمنين كرامة أكرم الله بها المؤمنين تتضمن علماً من أعلام النبوة تقوية لإيمانهم وإعلاء لشأنهم .
ولما كانت علة الشدة الاجتماع ، شرح حالتي الشدة والرهبة بقوله مخاطباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى شدة ما يظهرون من ألف بعضهم لبعض : ( تحسبهم ) أي اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق ويا أيها الناظر من كان ذلك التعاطف الظاهر ) جميعاً ( لما هم فيه من اجتماع الدفاع وعن لك نشأت الشدة ) وقلوبهم شتى ) أي مفترقة أشد افتراق ، وعن ذلك نشأت الرهبة ، وموجب هه الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب(7/531)
صفحة رقم 532
من الذئب ، قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد وموجب كل تخاذل ، ومقتض لتجاسر العدو ، واتفاق القلوب والاشتراك في الهمة والتساوي في القصد يوجب كل ظفر وكل سعادة .
ولما كان السبب الأعظم في الافتراق ضعف العقل ، قال معللاً : ( ذلك ) أي الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يخيل الاجتماع ) بأنهم قوم ) أي مع شدتهم ) لا يعقلون ( فلا دين لهم يجمعهم لعلمهم أنهم على الباطل فهم أسرى الأهوية ، والأهوية في غاية الاختلاف ، فالعقل مدار الاجتماع كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما أن الهوى مدار الاختلاف .
الحشر : ( 15 - 17 ) كمثل الذين من. .. . .
) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما كان الإخبار بعدم عقلهم دعوى دل عليها بأمر مشاهد فقال : ( كمثل ) أي قصتهم في عدم فقههم بل عقلهم الذي نشأ عنه إخراجهم هذا وما سببه من مكرهم وغدرهم واعتمادهم على ابن أبيّ ومن معه من المنافقين كمثل قصة ) الذين من قبلهم ( ولما كان إدخال الجار مع دلالته على عدم استغراق زمان القبل يدل على قرب الزمن ، صرجح به فقال : ( قريباً ( وهم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عند ما قصدهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزوة بدر فوعظهم وحذرهم بأس الله فقالوا : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم ، وأما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فأرادوها على كشف وجهها فأبت فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها ، فما قامت انكشفت سوأتها فصاحت فغار لها شخص من الصحابة رضي الله عنهم ، فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها فقتلوه ، فانتقض عهدهم ، فأنزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بساحتهم جنود الله فأذلهم الله ونزلوا من حصنهم على حكمه ( صلى الله عليه وسلم ) وقد كانوا حلفاء ابن أيّ ، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء .
ولما كان كأنه قيل : ما كان خبرهم ؟ قال : ( ذاقوا وبال ) أي وخامة وسوء عاقبة ) أمرهم ( في الدنيا وهو كفرهم وعداوتهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحزبه الذين هم حزب الله ، وسماه أمراً لأنه مما ائتمروا فيه ) ولهم ) أي في الآخرة ) عذاب أليم ) أي شديد الإيلام ، (7/532)
صفحة رقم 533
ولما شبه سبحانه أمرهم في طاعتهم لابن أبي ومن معه وهم البعداء المحترقون بسبب إبعاد المؤمنين لهم بإبعاد الله واحتراق أكبادهم لذلك مع ما أعد لهم في الآخرة بأمر بني قينقاع ، شبه قصة الكل بقصة الشيطان ومن أطعه من الإنس والجن ، فقال مبيناً لمعنى ما حط عليه آخر الكلام : ( كمثل ) أي مثل الكلم الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم مع علمهم بأن الله كتب في الذكر
77 ( ) أغلبن أنا ورسلي ( ) 7
[ المجالة : 21 ] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر يشبه مثل ) الشيطان ) أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه ، والشيطان هنا مثل المنافقين ) إذا قال للإنسان ) أي كل من فيه نوس واضطراب وهو هنا مثل اليهود : ( اكفر ) أي بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر .
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال : ( فلما كفر ) أي أوجد الكفر على أي وجه كان ، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه ) قال ) أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين مؤكداً لما لمن تعلق بن بمن أكد له الوعد بشيء من صادق الاعتماد عليه والتكذيب بأنه يخذبه : ( إني بريء منك ) أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لأمره ، وذلك كناية عن أنه فعل معه من الإعراض منه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه ، وذلك كما فعل المنافقون باليهود جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم ، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم فكان ذلك أشد عليهم مما لم يطمعوهم في نصرهم لأن هذا بمنزله انهزامهم عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة ، ثم علل البراءة بقوله : ( إني أخاف الله ) أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته ، ثم شرح ذلك بقوله : ( رب العالمين ) أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه وهو لا يغفر أصلاً لمن يقدح ربوبيته ولا سيما إن نسبها إلى غيره ، وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة ، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره وجرأه على المعصية بيعنها أو على ما هو أكبر منها ، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاطكه وهلاك من أوقعه ، فلذلك سبب عنه قوله : ( فكان ( ولما كان تقديم الشيء على محله موجباً لروعة تنبيه الإنسان للتفتيش عن السبب والتشويق إلى المؤخر قال : ( عاقبتهما ( مقدماً لخبر ( كان ) ) أنهما ) أي الغار والمغرور ) في النار ( حال(7/533)
صفحة رقم 534
كونهما ) خالدين فيها ( لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه .
ولما كان ذلك قد يحمل على أنه في الإنسان بعينه ، قال معلقاً بالوصف ، تعميماً وزجراً عنه : ( وذلك ) أي العذاب الأكبر ) جزاء الظالمين ) أي كل من وضع العبادة في غير محلها .
الحشر : ( 18 - 21 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ( )
ولما أبلغ سبحانه في المواعظ في هذه السورة قولاً وفعلاً ، وكانت الإيقاعات المذكورة فيها مسببة عن الخيانات ممن كان له عهد فنقضه ، أو ممن كان أظهر الإيمان فأبان فعله كذبه ، قال سبحانه وتعالى استنتاجاً عن ذلك وعظاً للمؤمنين لأن الوعظ بعد المصائب أوقع في النفس وأعظم في ترقيق القلب وتحذيره مما يوجب العقوبة : ( يا أيها الذين آمنوا ( منادياً لهم نداء البعد معبراً بأدنى أسنان الإيمان لأنه عقب ذكر من أقر بلسانه فقط ) اتقوا الله ) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ولا بد أن يستعرض عبيده ، فاحذروا عقوبته بسب التقصير فيما حده لكم من أمر أو نهي ) وتنظر نفس ) أي كل نفس تنظر إلى نفاستها وتريد العلو على أقرانها ، ولعله وحدها للإشارة مع إفادة التعميم إلى قلة الممثل لهذا الأمر جداً ) ما قدمت ) أي من الزاد الذي يكون به صلاح المنزل الذي من لم يسع في إصلاحه لم يكن له راحة ، هل يرضي الملك ما قدمته فينجيها أو يغضبه فيرديها .
ولما كان الأجل مبهم الوقت ، فكان لقاء الله في كل يوم بل كل لحظة للعاقل مترقباً لكونه ممكناً مع كونه على الإطلاق محققاً لا يجهله أحد ، قال مشيراً بتنكيره وإبهامه إلى تهويله وإعظامه : ( لغد ) أي لأجل العرض بعد الموت أو في يوم القيامة الذي هو في غاية القرب لأن هذه الدنيا كلها يوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون ، والموت أو الآخرة غده ، لا بد من كل منهما ، وكل ما لا بد منه فهو في غاية القرب لا سيما إن كان باقياً غير منقض ، وكل من نظر لغده أحسن مراعاة يومه ، وتنوينه للتعظيم من جهات لا تحصى .
ولما أمر بتقواه سبحانه خوفاً من سطواته أمر بتقواه لأجل مراقبته حياء من جلالته وهيبته تأكيداً للأمر لأن مدار النجاة على التقوى لأن مكايد الشيطان دقيقة ، فمن لم يبالغ(7/534)
صفحة رقم 535
في محاسبة نفسه وتفقد ما يمكن أن يكون من الخلل في أعماله أوشك أن يحبط الشيطان أعماله فقال تعالى : ( واتقوا الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال أي اتقوه حياء منه ، فالتقوى الأولى لإيجاد صور الأعمال ، وهذه لتصفيتها وتزكية أرواحها ، ولذلك علل بقوله مرغباً مرهباً : ( إن الله ) أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ) خبير ) أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة ) بما تعملون ( فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى منه ومسمع فاستحيوا منه ، وكرر الاسم الأعظم كراهية أن يظن تقييد التقوى بحيثية من الحيثيات تعظيماً لهذا المقام إعلاماً بأن شؤونه لا تنحصر وأن إحاطته لا تخص مقاماً دون مقام ولا شأناً سوى شأن .
ولما هز إلى تقواه تارة بالخوف وأخرى بالحياء تأكيداً لها ، وعلل ذلك بما له شعبة من التحذير ، وكان الإنسان لما له من النسيان أحوج إلى التحذير ، قال مؤكداً لشعبته وإيضاحاً لأن التقوى الثانية لمحاسبة النفس في تصفية العمل : ( ولا تكونوا ( أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذي آمنوا ) كالذين نسوا الله ) أي أعرضوا عن أوامره ونواهيه وتركوها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ما له من صفات الجلال والإكرام لما استغواهم به من أمره الشيطان حتى أبعدهم جداً عن العمران ) فأنساهم ) أي فتسبب عن ذلك أن أنساهم بما له من الإحاطة بالظواهر والبواطن ) أنفسهم ( فلم يقدموا لها ما ينفعها وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب ، فكانوا مما قال فيه .
سبحانه وتعالى
77 ( ) وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية ( ) 7
[ الغاشية : 2 - 3 - 4 - 5 ] لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق فإن رأس الفسق الجهل بالله ، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس ، فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) .
ولما كانت ثمرة ذلك أنهم أضاعوها - أي التقوى - فهلكوا قال : ( أولئك ) أي البعيدون من كل خير ) هم ) أي خاصة دون غيرهم ) الفاسقون ) أي العريقون في المروق من دائرة الدين .
ولما تم الدليل على أن حزب الله هم المفلحون لما أيدهم به في هذه الحياة الدنيا من النصر والشدة على الأعداء واللين والمعاضدة للأولياء وسائر الأفعال الموصلة إلى جنة المأوى ، وصرح في آخر الدليل بخسران حزب الشيطان فعلم أن لهم مع هذا الهوان عذاب النيران ، وكان المغرور بعد هذا بالدنيا الغافل عن الآخرة لأجل شهوات فانية وحظوظ زائرة عاملاً عمل من يعتقد أنه لا فرق بين الشقي بالنار والسعيد بالجنة لتجشمه التجرع لمرارات الأعمال المشتملة عليها ، أشج ذلك قوله منزلاً لهم منزلة الجازم بذلك(7/535)
صفحة رقم 536
أو الغافل عنه تنبيهاً لهم على غلطهم وإيقاظاً من غفلتهم : ( لا يستوي ) أي بوجه من الوجوه ) أصحاب النار ( التي هي محل الشقاء الأعظم ) وأصحاب الجنة ( التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة وهي من أدلة أنه لا يقتل مسلم بكافر .
ولما كان نفي الاستواء غير معلم في حد ذاته بالأعلى من الأمرين ، كان هذا السياق معلماً بما حفه من القرائن بعلو أهل الجنة ، صرح به في قوله : ( أصحاب الجنة هم ) أي خاصة ) الفائزون ( المدركون لكل محبوب الناجون من كل مكروه ، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين ، فشتان ما بينهما .
ولما كان قد مر في هذه السورة فضلاً عما تقدمها من حكمة هذا القرآن وإعجازه تارة بمطابقته لما نزل بسببه مطابقة تجلو عنه كل إشكال ، وتارة بما يشاهد من صدقه فيما أخبر بإتيانه من الأفعال ، وأخرى بما يتدى به من الأقوال ، ومرة بنظم كل جملة مع ما تقدمها على ما لم يكن لبشر مثله في الأحوال إلى غير ذلك من أمور لا يحصرها المقال ، ترتب على ذلك قوله مبيناً أن سبب افتراق الفريقين في العقبى افتراقهم في هذا القرآن في الأولى تمثيلاً للقلوب في قسوتها أو لينها عند سماع القرآن وتخيلاً توبيخاً للقاسي ومدحاً للعاطف اللين لافتاً القول إلى أسلوب العظمة لاقتضاء الحال لها : ( لو أنزلنا ( بعظمتنا التي أباها هذا الإنزال ) هذا القرآن ) أي الجامع لجميع العلوم ، الفارق بين كل ملتبس - المبين لجميع الحكم ) على جبل ) أي أي جبل كان ) لرأيته ( مع صلابته وفوته يا أشرف الخلق إن لم يتأهل غيرك لمثل تلك الرؤية ) خاشعاً ) أي مطمئناً مختباً على صلابته متذللاً باكياً ) متصدعاً ) أي متشققاً غاية التشقق كا تصدع الطور لتجلينا له بما دون ذلك من العظمة التي جلونا كلامنا الشريف لموسى عليه السلام في ملابسها ) من خشية الله ) أي من الخوف العظيم من له الكمال كله حذراً من أن لا يكون مؤدياً ما افترض عليه من تعظيم القرآن عند سماعه فما لابن لآدم وقد آتاه الله من العقل ما لم يؤت الجبل يستخف بحقه ، ويعرض عما فيه من العبر ، وفي الآية مدح للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ثباته لما لا تثبت له الجبال ، وذم للمعرضين بكونهم أقسى من الجبال .
ولما كان التقدير تبكيتاً وتوبيخاً لمن لم يرق للقرآن
77 ( ) أفلم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ( ) 7
[ الحديد : 16 ] فإنا قد فصلنا لهم الحلال والحرام والأمر والنهي وأوضحنا الحكم ودللنا على المتشابه وقصصنا الأقاصيص بعد جعلهم عقلاء ناطقين ، فتلك أقاصيص الماضين لعلهم يعتبرون عطف عليه قوله : ( وتلك الأمثال ) أي التي لا يضاد فيها شيء ) نضربها للناس ) أي الذي يحتاجونها(7/536)
صفحة رقم 537
وهم من فيهم تذبذب واضطراب ) لعلهم يتفكرون ) أي لتكون حالهم عند من ينظرهم حال من يجرى تفكره في تلك الأمثال فينفعه ذلك إذا أراد التفكر إلى التذكر فرأى تنبيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) له أن كل ما في القرآن من شيء فيه مشاهد منه متطابق له كتاب الخلق وكتاب الأمر فتخلى عن الشهوات البهيمية فنجا من الحظوظ النفسية فتحلى بالملابس الروحانية فصار بالمجاهدات والمنازلات إلى الصفات الملكية فكان أهلاً للمقامات القدسية في الجنان العلية .
الحشر : ( 22 - 24 ) هو الله الذي. .. . .
) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ( )
ولما أعلى سبحانه أولياءه بأن فتح السورة بالإيمان بالغيب وهو العزيز الحكيم بعد التنزيه عن نقائص التعطيل وكل شائبة نقص وينزل لعباده في أسباب الصفات والأفعال إلى أن أوصلهم إلى محسوس الأمثال فتأهلوا للفناء في ذاته وما على صفاته الموجبة لخشيته ، رقاهم إلى التكفر في تفصيل ما اففتح به ، فقال عادلاً عن أسلوب العظمة إلى أعظم منها بإسبال حجب العزة على منهاج الحكمة : ( هو ) أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له أصلاً بوجه من الوجوه ، فلا يستحق الوصف ب ( هو ) غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً ، فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حسن ، فلذلك يتصدع الجبل من خشيته .
ولما عبر بأخص أسمائه ، أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمّي الأسماء كلها فقال : ( الله ) أي المعبود الذي لا ينبغي العبادة إلا له ، الذي بطن بما لم تحط ولا تحيط به العقول من نعوت الكبرياء والعظمة والغكرام ، فظهر بأفعاله التي لا تضاهى بوجه غاية الظهور ، فتميز غاية التميز ، فلم يلحقه شرك أصلاً في أمة من الأمم ولا نسمة من النسم ، قال الحرالي في شرح الأسماء : وهو لوه القلوب والعقول أي محارها الذي لا تدركه ، فلزم الخلق من توحيد اسم الإله ما حصل لهم من توحيد اسم الله من الأحدية الإحاطية - انتهى - فلذلك كان وصفه ) الذي لا إله إلا هو ( فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصبح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء والإله أول اسم الله فلذلك - لا يكون أحداً مسلماً إلا بتوحيده فتوحيده فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة ، وتوحيد سائر الأسماء نقل وهو أساس كل نافلة ، فمن وحده في الكل فقد كمل دينه(7/537)
صفحة رقم 538
وتمت النعمة عليه وإلا كان من الذين آمنوا ، فإن كان ذلك منه قولاً عصم من نار الأحكام على الأبدان في الدنيا ، وإن كان علماً تخلص من نار الهلع على النفوس في الدنيا ، وهو الجزع عند مس الشر ، والمنع والبخل عند مس الخير ، ولن يشهد التوحيد في هذه الكلمة التي مضمونها توحيد اسم الإله إحساناً إلا بعد إحصاء جميع الأسماء علماً ، قال الحرالي : والإله : التعبد وهو التذلل ، فمن توهم حاجته بشيء وتوهم أن عنده قوام حاجته تذلل فكان تذلله له تألهاً ، وكل من عبد ما أحاط عينه فقد خذل عقله عن تصحيح معنى الإله الذي يجب أن يكون غيباً ، فكان تصحيح معنى الإله أنه غيب قائم مستحق للعبادة والتذلل لأجل قيامه والاستغناء به .
ولما أخبر بتفرده ، دل عليه بآية استحقاقه لذلك ، فقال مقدماً لما متقدم في الوجود : ( عالم الغيب ) أي الذي غاب عن علم جميع خلقه .
ولما كنا ربما ظن أن وصفه بالغيب أمر نسبي سمي غيباً بالنسبة لناس دون ناس ، دل بذكر الضد على أن المراد كل ما غاب وكل ما شهد فقال تعالى : ( والشهادة ) أي الذي وجد فكان بحيث يحسه ويطلع عليه بعض خلقه .
ولما تعالى في صفات العظمة ونعوت الجلال والكبر فبطن غاية البطون ، أخذ رحمة العبادة بالتنزيل لهم بالتعرف إليه بعواطف الرحمة فقال بانياً الكلام على الضمير إعلاماً بأن المحدث عنه أولاً هو بعينه المحدث عنه ثانياً : ( هو الرحمن ) أي العام الرحمة ، قال الحرالي رحمه الله تعالى : والرحمة إجراء الخلق على ما يوافق حسبهم ويلائم خلقهم وخلقهم ومقصد أفئدتهم ، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية ، وإذا استغرق كان رحمانية ، ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لإتمام في معنى استغراقه - يعني باسم الله .
ولما كانت الرحيمية خاصة بما ترضاه الإليهة قال تعالى : ( الرحيم ) أي ذو الرحمة العامة المسعدة في الظاهر والرحمة الخاصة المسعدة في الباطن ، قال الحرالي : الرحمة من الرحيم اختصاص من شملته الرحمانية بمزية ما أوثر به من الرحمة في مقابلة من آل أمره إلى نعمه ليجمع مقتضى الاسمين بني عموم الرحمانية واختصاص الرحيمية : ولما أظهر على الخلق خصوص الإيثار ، أجرى عليهم اسم الرحيم كرحمة الخلق أبناءهم .
ولما كان حق اسم الرحيم إثبات رحمة غير مجذوذة ولم يكن ذلك للخلق لم يكن بالحقيقة الرحيم إلا الله الذي إذا اختص بالرحمة لم يحدها
77 ( ) فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ( ) 7
[ البقرة : 256 ](7/538)
صفحة رقم 539
( إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه )
77 ( ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ) 7
[ هود : 108 ] فلذلك لا رحيم بالحقيقة إلا الله تحقيق علم كما أنه لا رحمان إلا الله بادي معنى .
ولما كان الملك كمال استيلاء على الخلق يقصرهم به ملكهم على بعض مستطاعهم ويدينهم - على حسب دينهم أي ما وضع لهم من عادة قصره لهم وحكمة عليهم وبحسب إحصائه عليهم دقيق أعمالهم وإحاطته بخفي أحوالهم والاطلاع على سرائرهم بتحقيق استيفاء الجزاء فيتحقق بذلك كمال الملك ، فكان لذلك لا تتحقق حقيقة الملك فيمن هو دون العلم بالسر وأخفى ، والمحصي الحسيب لمثاقيل الدر ، الخبير بخبأ الكون ، فكان لا ملك في الحقيقة إلا الله ، ولكنه تعالى لما كان قد أولى الخلق من رفعه بعضهم فوق بعض ما أجرى عليهم اسم الملك فتنة لهم فضل بسبب ذلك قوم ادعوا الملك الحقيقي ، فغلط من أراد الله من الخلق فيهم فضلوا بهم ، أعاد التهليل مع اسمه الملك كما ابتدأ مع اسمه الإله أول أسماء الله ، ولذلك أيضاً قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذى في حديث الذي يسمى ملك الملوك في رواية المسلم : ( لا ملك إلا الله ) ، فقال مصرحاً بما في باطن اسمي الرحمة من القهر والجبر على النسق الأول في البناء على الضمير تأكيد لتعين المحدث عنه وتوحيده : ( هو الله ) أي الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء ) الذي لا إله ) أي معبود بحق ) إلا هو الملك ( فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء ، فإنه مهما أراد كان .
ولما كان الملك أصل ما لحق الخلق من الآفات لأنه رأس الشرف الذي هو باب الترف الملازم لمخالفة كتاب الله أما في الأعمال فيكون فتنة ، وأما في الرأي فيكون علواً وكبراً وكفراً ، فإن أمر الله في آدم على ماهو نبوة ثم ينزل فيصير خلافة ثم ينتهي نزوله فيكون ملكاً ثم تتداعى الأحداث ، فلمكان تداعي الملك لموجبات الذم قال عقب صفات الملك : ( القدوس ( مصرحاً بما لزم عن تمام ملكه من أنه بليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حسن أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أيو يختلج به ضمير ، فإن القدس طهر لا يقبل التغير ولا يلحقه رجس فلا يزال على وصف الحمد بثبات القدس ، ولمكان ما حوّل سبحانه الخلق من حال طهر لا يظهر فيه تغير بما دونه أجرى عليهم(7/539)
صفحة رقم 540
اسم القدس كروح الدس المؤيد للشارع ينفث في روعة المؤيد لشاعره في مكافحته عنه ، ولأجل قصر تخلي الخالق بالملك في قليل متاع الدنيا رغب النبي البعد ( صلى الله عليه وسلم ) عنه ، واختار العبودية الدائمة بدوام العزة لسيده ، فوضح بذلك علم أن لا قدوس إلا الله حقيقة معنى وتصحيح إحاطة .
ولما كان سبحانه لتمام ملكه وعلو ملكه وكمال قدسه لا يتصور أن يلحقه نقص في ذات ولا صفة ولا فعل ، فلا يقبح منه إهلاك على حال من الأحوال ولا مس بضر في الدنيا والآخرة في وقت من الأوقات لأنه سبحانه ، لعلمه بالظواهر والبواطن على حد سواء ، يصنع الأمور في أحكم مواضعها بما لا يدركه غيره أصلاً أو لا يدركه حق إدراكه فاحتيج إلى ما يؤمن من ذلك ، وكان السلام حد ما بين الألفة والفرقة وحد ما بين الرحمة والسطوة وهو أدنى منال الجاهل من عباد الرحمن ، ومنال المعتدي من المقتدر ، وكان سلام المسلم للجاهل مدارة لئلا يزيد في جهلة عليه ، أو ارتقاباً لاستقبال مكنة ، وكان الله لا يعبأ بالخلق ولا يحتاج لارتقاب مكنة لأنه لا يعجزه شيء فلم يتحقق السلام بكل معنى من وجود السلامة له وإفاضتها على غيره تماماً إلا منه إعفاء من معالجة استحقاق السطوة وحفيظة لحرمة اختصاص الرحمة ، أتبع ذلك مؤمناً للعاصي من المعاجلة واللمطيع من سوء المعاملة قوله : ( السلام ( لأنه حد ما بينهما ظاهراً ، ولذلك أردفه بما يتعلق بالابطن لتحصل إحاطة السلامة ظاهراً وباطناً فقال : ( المؤمن ( لأن الأمن حد ما بين المحبة والكره فيمن لا وسيلة له للحق السلامة ظاهراً وباطناً فقال : ( المؤمن ( لأن ممن يستحق منه الحب ، ولذلك لم يقبل بذلك الحق ممن كان ظاهر الوسيلة للحب - إلا بالحب فلم يثبت إيمان المؤمن بمجرد الإيمان حباً له بل إيثاراً لمحبته على كل حب ومساواة لأخيه المؤمن فيما يحب لنفسه ، وأدناه الأمنة في الغيب من الغيبة والعيب إلى غاية الأمان من بوائق الغشم والظلم من الجار المستحق حفظ جاره في غيبه ، فالأحلال بالإيمان لكونه الأمنة في الغيب نفاق ، والإخلال بالإسلام لكونه السلم في المواجهة إحرام ، فبأدنى إخلال في جانب الحق أو الخلق ينثلم الإسلام لكونه السلم في المواجهة هو في الحقيقة من الله تعالى فهو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه ومنع أسباب المخاوف فلا أمن في الوجود ولا أمان إلا وهو مستفاد من جهته .
ولما كان الاطلاع على بيّن ما ذكر ليتحقق معنى السلم والأمن ، وعلى كل من تلك الحدود خفياً جداً يفتقر إلى مزيد علم ، قال : ( المهيمن ( فإن الهيمنة شهادة خبرة وإحاطة وإبصار لكلية ظاهر الأمر وباطنه بحيث لا يخفى منه خافية هوية ولا بادية ظاهر ، ولإحاطة معناه لا يكاد يقع له في الخلق مسوغ إطلاق إلا مسامحة لأن الخلق لا(7/540)
صفحة رقم 541
يشهدون إلا الظواهر ولا يشهدون من الباطن ، ولذلك انعجم معناه على كثير من فصحاء العرب ، فمفهوم معناه مومجب توحيده فواضح إذ لا مهيمن بمعنى أنه شهيد على الوجه المشروح مع الأمانة المأمونة والحفظ والرعاية فيكون قائماً على كل شيء بكل ما له من رزق وعمل وأجل إلا هو ، ولذلك كان القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى مهيمناً على جميع الكتب التي قبله مصدقاً لما يستحق التصديق منها مكذباً لما يستحق التكذيب ، فمن كان به أمهر كان بذلك أعلم .
ولما كان تمام الخبرة ملزوماً لتمام القدرة ، صرح بها اللازم فقال ؛ ) العزيز ( والعزة غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة وجه مدافعة ولا انفلات ولا إعجاز ، فالعزيز الذي صعب على طالبه إدراكه مع افتقار كل شيء إليه في كل لحظة ، الشديد في انتقامه الذي لا معجز له في إنفاذ حكمه ، ولذلك ينظم كثير بآيات إمضاء الأحكام متصلاً بالحكمة والعلم إنباء عن العدل ، قال الغزالي : وهو الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه .
ولما كان المغلوب على الشيء فيؤخذ من يده قد لا ينقاد باطناً فلا يباشر ما غلب عليه للغالب وقد لا يكون العز ظاهراً لكل أحد ، أردفه بقوله : ( الجبار ( وهو العظيم الذي يفوت المقاوم مناله ، فهو على هذا من أسماء الذات ويصلح أمور من يريد من الخلق ويقهرهم على ما يريد ، فهم أحقر من أن يعصوه طرفة عين بغير إرادته ، والحبر : طول يلجيء الأدنى لما يريد منه الأعلى وغيب من الأعلى ما يحاول مناله منه الأدنى مع الظهور التام الذي تدور مادته عليه ، فالجبار لا يخرج شيء من قبضته ، وتقصر الأيدي عن حمى عز حصرته ، ولا ينال منه إلا ما نوّل ، وهو أبعد شيء عن أوصاف الخلق لمنال الذباب منهم منا شاء وعجزهم عنه ، ولما فيه من الإلجاء كان هو الاسم الذي يجليء النار لقصرها على مراده منها من الحسب الذي جبلها على ضده من الاستزادة فلا تزال تقول ما جبلت عليه : هل من زيد ، حتى يضع الجبار فيها قدمه أي يهينها فإن القدم موضع الإهانة ، وهذه الإهانة - هي من مبدأ ظهور غلبة الرحمة للغضب ، فله الملك ظهوراً بالأيدي الظاهرة من الإنسان وما دونه ، وله الملكوت بطوناً بالأيدي الباطنة من الملك وما دونه ، ولو الجبروت اختصاصاً من وراء كل ملك وملكوت .
ولما كان الإلجاء قد يكون بنوع ملاطفة ، أتبعه قوله : ( المتكبر ( ليعم الإلجاء الظاهر والباطن فالكبرياء جملة تأدي أمر الله وظاهر خلقه الذي يجيد الخلق صغرهم من دونه وكبره عليهم وامتناعه عما لا يريد من مرادهم ، لأن الكل حقيرون بالإضافة إلى جلاله وعز جبروته وعظمته وكماله ، ولسواء الخلق في عام حضرة القدرة شملهم الصغر(7/541)
صفحة رقم 542
فلم يصح منهم كبر ، ولا شرع لهم تكبر ، فلم يكن للخلق منهم حقيقة حظ ولا لبس حق ، فاختص بهذا الاسم لاستيلائه على الظواهر بإظهار ما لهم من الكبر لعدم الحاجة إلى شيء وبإلجاء غيره إلى الاحياج إليه والإيقاع بجبابرتهم وإذلالهم وغير ذلك من الأمور المزعجة المرهبة من غير مبالاة بشيء كما اختص بالجبار لاستيلائه على البواطن .
ولما تقرر بما ذكر من مظاهر عظمته استيلاؤه على الظواهر والبواطن باللطف والعنف ، أنتج ذلك تعاليه عن شوب نقص لا سيما بالشرك فقال سبحانه : ( سبحان الله ) أي تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص ) عما يشركون ) أي من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرهما مما في الأرض أو في السماء من كبير وصغير .
وجليل وحقير .
ولما تم دليل الوحدانية بما حل من التفهيم بالتدني إلى الملك ثم بالتعلي إلى التكبر فأنتج هذه الخاتمة ، ابتدأ سبانه دليلاً آخر هو في غاية التنزل والوضوح ، فقال مفتتحاً بما افتتح به الأول من الترتيب في المراتب الثلاث ، غيب الغيب ثم الغيب ثم الظهور على مراتبه ، إعلاماً بأنه لا براح عن الإيمان بالغيب ، ومن برح عنه هلك ) وهو ) أي الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأن وجوده من ذاته ولا شيء غيره إلا وهو ممكن فهو أهل لأن لا يكون فلا يكون له ظهور لكيون له بطون .
ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء ، أخبر عنه بأشهر الأسماء الذي لم يقع فيه شركة بوجه فقال : ( الله ) أي الذي ليس له سمي فلا كفوء له فهو المعهود بالحق فلا شريك له بوجه .
ولما بدأ سبحانه بهذا الدليل الجامع بين الغيب الذي لا خالق على الحقيقة إلا هو لأن الخلق فرض حد وقدر في مطلق منه لم يكن فيه بعد حد ولا قدر كالحاذي يخلق أي يقدر في الجلد حداً وقدراً لنعل ونحوه وهو سابق للفري والبري ونحو ( سبق العلم العمل ) فالخالق في الحقيقة هو الذي كل شيء عنده بمقدار ، الذي يقول
77 ( ) يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ( ) 7
[ الزمر : 6 ] ) وإن الفرق والترتيب ، ومن ناشئة الفرق والترتيب الإحياء والإماتة ، ومن معاد الفرق والإحياء والإماتة على أو لأمره الجمع والرب ، فلا يملك الخلق والفرق إلا من يملك الجميع والرب ، وقد أوتي الحق ملكة ما في الفرق والشتات ، ولم يملكوا جميع ما فرقوا ولا(7/542)
صفحة رقم 543
ألف ما شتتوا كالقاطع عضواً لا يقدر على لأمه ، والهادم بناء لا يقدر على رمه على حده ، والكاسر شيئاً لا يقدر على وصله ، فلأن الخلق لا يحيطون بتقدير ما يسرعون في قدره ولا يقدرون بعد الفرق والفري على رمه ووصله كان المحيط التقدير في الشيء من جميع جهاته وجملة حدوده ، القادر على جمع ما فرق الذي كما بدء أول خلق يعيده هو أحسن الخالقين ، وتلايح تحت هذا اللبس في إطلاق اسم الخالق على الخالق الحق ذي الحول والقوة والقدرة والإحاطة والأبداء والإعادة ، وعلى الخالق من الخلق المقدر بغير إحاطة علم ولا تأصيل حول ولا قدرة ، ولا إتمام إبداء لاحظ من إعادة أنه لا خالق إلا الله كما أنه لا معيد لما بدأ إلا الله ، وأن ليس إطلاق هذا الاسم على الخلق مبدأ فتنته التي يضل بها نم يشاء ويهدي من يشاء ، وتحقيق أفراد الخلق لله فيما ظهر على أيدي أهل الملك والملكوت وإحاطة جبروته بما ظهر وما بطن من أعمالهم وصنائعهم ، هو أول مجمع من مجامع التوحيد ، وهو أساس لإيمان أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، حيث فرض عليهم في الفاتحة ) إياك نعبد وإياك نستعين ( فهم خير أمة أخرجت للناس حيث أخلصوا الدين لله ، ولموقع الشرك فيه كان القدرية مجوس هذه الأمة .
ولما كان الخالق الحق هو من أتقن التقدير والبريء وإن كان إغلب الخلق لقصورهم لا يفهمون منه إلا مطلق التقدير كما قال شاعرهم :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
أردفه تنبيهاً على ذلك وتصريحاً وتأكيداً قوله : ( البارئ ) أي الذي يدقق بما وقع به التقدير ويقطعه ويصلحه لقبول الصورة على أتم حال ، فإن كان من المحيط العلم كان تمام التهيؤ للصورة على كمال المشيئة فيها ، وإن كان ممن لا يحيط علماً طرأ له في البرء من النقص عن التمام ما لا يمكن معه حصول المقصود في الصورة ، ولا يكاد يقع الإحسان للخلق في مصوراتهم إلا وفاقاً لا يعلمون كنهه ولا يثقون بحصوله .
ولما كان من يهيئ الأمور للتصوير قد لا يتقنه قال : ( المصور ( فإن التصوير إتمام تفصيل الخلق الظاهر وإكمال تخطيطه وإحكام أعضائه وهو حد ما انتهى إليه الخلق في الظهور ، وليس وراء ظهور الصور كون إلا لطائف تطويرها في إسنان كمالها بعد بعثها بإحيائها بما لها من الروح المقوم لها سواء كان حيوانياً أو غيره إلى غاية كما لها الذي يعطيه المصور لها إفضالاً ومزيجاً ويظهره إبداعاً ، ويتضح الفرق جداً بين الأسماء الثلاثة بالبناء فإنه يحتاج أولاً إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الحجر واللبن والخشب والحديد ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها ، وهذا يتولاه المهندس فيرسمه وهو الخلق ثم يحتاج إلى حجار ينحت الحجارة ويهيئها لتصلح لمواضعها التي تكون(7/543)
صفحة رقم 544
فيها من الأبواب وأوساط الجدر وأطرافها وزواياها غير ذلك ، وكذا الخشاب والحداد في الخشب والحديد وهو البرئ ثم يأخذ الكل البناء فيضعها مواضعها إلى أن تقوم صورتها التي رسمها لمهندس أولاً وقدرها ، ولا تقوم الصورة بالحق إلا إذا كانت محكمة بحسب الطاقة كما أن البناء يضع الحجارة أولاً ثم يجعل الخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة ، ولو قلب ذلك لم تثبت الصورة ولم يكن لها الاسم إلا على أقل وجوه الضعف فكل من كان أحكم كان تصويره أعظم ، ولذلك لا مصور في الحقيقة إلا الله الخالق البارئ المصور سبحانه ، قال الرازي في اللوامع : والتصير موجود في كل أجزاء العالم وإن صغر حتى في الذرة والنملة بل في كل عضو من أعضاء النملة ، بل الكلام يطول في طبقات العين وعددها وهيئاتها وشكلها ومقاديرها وألوانها ، ووجه الحكمة فيها ، فمن لم يعرف صورتها لم يعرف مصورها إلا بالاسم المجمل ، وهكذا القول في كل صورة لكل حيوان ونبات بل لكل جزء من نبات وحيوان .
ولما علم من هذا أنه لا بد أن يكون المصور بالغ الحكمة ، أردفه بقوله تعالى : ( له ) أي خاصة لا لغيره ) الأسماء الحسنى ( اي من الحكيم وغيره ممن لا يتم التصوير إلا به ولا تدركونه أنتم حق إدراكه .
ولما أخبر سبحانه أول السورة أن الكائنات أوجدت تسبيحه خضوعاً لعزته وحمته ، ودل على ذلك بما تقدم إلى أن أسمعه الآذان الواعية بالأسماء الحسنى ، دل على دوام اتصافه بذلك من يحتاج لما له من النقص من الخلق إلى التذكير فعبر بالمضارع فقال : ( يسبح ) أي يكرر التنزيه الأعظم من كل شائبة نقص على سبيل التجدد والاستمرار ) له ) أي على وجه التخصيص بما أفهمه قصر المتعدي وتعديته باللام ) ما في السماوات ( ولما كان هذا المنزه الذي استجلى التنزيه من الأسماء الحسنى قد أشرقت أنفاسه ولطفت أقطاره وأغراسه حتى صار علوياً فرأى الأرض عالية كالسماء لما شاركتها به في الدلالة على تمام كماله لجعلها معها لأنه لا يحتاج إلى تأكيد كالشيء الواحدج بإسقاط ( ما ) وألصقها بها إلاحة إلى ذلك فقال : ( والأرض ( فمن تأمل الوجود مجملاً ومفصلاً ، علم تسبيح ذلك كله بنعوت الكمال وأوصاف الجلال والجمال ) وهو ( اي والحال أنه وحده ) العزيز ) أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ولا يوجد له مثل ، ويعز الوصول إليه ويشتد الحاجة إليه .
ولما كان من يكون بهذه الصفة لا يتم أمره وثبت كل ما يريده إلا إن كان على قانون الحكمة قال : ( الحكيم ( من الحكمة وهي إتقان الحكم وإنهاؤها إلى جد لا يمكن نقضهن والحكم قال الحرالي : المنع عما يترامى إليه المحكوم إيالة عليه وحمله(7/544)
صفحة رقم 545
على ما يمتنع منه نظراً له ، ففي ظاهره الجهد وفي باطنه الرفق ، وفي عاجله الكره ، وفي آجله الرضى والروح ، فموقعه في الأبدان المداواة ( تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ) ، وموقعه ف الأديان التزام الأحكام والصبر والمصابرة على مجاهدة الأعمال وجهاد الأعداء ظاهراً من عدو الدين والبغي وباطناً من عدو النفس ( أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ) ومن بعض الأهل والولد عدو ، والشيطانعدو يجري من ابن آدم مجرى الدم
77 ( ) أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ( ) 7
[ فاطر : 6 ] فالحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية هو الحكم والعلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر عاجلته وحسن العقبى في آجلته من الحكمة ، فالحكم مباح التعليم للناس عامة بل واجب أن يتعلم كل امرئ من الأحكام ما يخصه ، وأن ينتدب طائفة لعلم ما يعم جميع الناس
77 ( ) فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ( ) 7
) التوبة : 122 ] والحكمة التي هي العلم بما لأجله وجب الحكم من مشروطه التعليم بالتزكية
77 ( ) هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( ) 7
[ الجمعة : 2 ] فما يعلمهم الحكمة إلا بعد التزكية فمن تزكى فهو من أهلها ومن يترك فليس من أهلها ، فالحكمة تحلي مرارة جهد العمل بالأحكام فييسر بها ما يعسر دونها ، والحكم ضيق الأمر للنفس كما أن السجن ضيق الخلق للبدن ، والحكمة تود محمل ضيق الحكم لأنها تخرج وتؤول إلى سعة الواسع ، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة غلا بحسب سعة العلم .
ولما لم يكن للخلق من العلم إلا بقدر ما يهبهم الله لم يكن لهم من الحكمة إلا مقدار ما يورثهم
77 ( ) ولقد آتينا لقمان الحكمة ( ) 7
[ لقمان : 12 ] ولما كان إنما العلم عند الله كان إنما الحكمة حكمة الله وإنما الحكم حكم الله ، فهو الحكيم الذي لا حكيم إلا هو - انتهى .
وقد علم سر اتبع الأسماء الشريفة من غير عطف ، وذاك أنه لما ابتدأ ب ( هو ) وأخبر عنه بالاسم العلم الأعظم المفرد المصون الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، أتبعه تلك الأوصاف العلى من غير عطف إعلاماً بأنه لا شيء منها يؤدي جميع معناه بالمفهوم المتعارف عند أهل اللغة ، ولذلك جمع بعدها الأسماء إشارة إلى أنه لا يجمع معناه إلا جميع الأوصاف المنزلة في كتبه والمأخذوة عن أوليائه التي استأثر بها في غيبه وليس شيء مما ذكر ههنا مضاداً في المعنى الظاهري للآخر كالأول والآخر حتى يظن لأجله(7/545)
صفحة رقم 546
نقص في المعنى بسبب ترك العطف ، وأما ترتيبها هكذا فلأن كل اسم منها كما مضى شارح لما خفي من الذي قبله ومبين للازمه ، وموضع لما ألاح أنه من مضمونه ، وقد انعطف على افتتاحها وختامها وعانق ابتداؤها تمامها ، ووفى مطلعها مقطعها ، وزاد وبلغ الغاية من الإرشاد إلى سبيل الرشاد ، فسبحان من أنزله برحمته رحمة للعباد ، وهادياً إلى الصواب والسداد .
.. .(7/546)
صفحة رقم 547
سورة الممتحنة
مقصودها براءة من أقر بالإيمان ممن اتسم بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرؤوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم ، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين ، فإذا نفى ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان ) بسم الله ( الكافي من لجأ إليه فمن تولاه أغناه عمن سواه ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد من فلق عن وجوده العدم وبراه وشمل ، برحمته البيان من حاطه بالعقل ورعاه ) الرحيم ( الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه .
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ( ( )
ولما كان التأديب عقب الإنعام جديراً بالقبول ، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك ، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السببي بسرة الحجرات ، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير ومعلمة بأنه لا ولي إلا الله ، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد أن افتتحها بهما ، وثبت أن من حكمة حشر الخلق ، وأن أولياء الله هم المفلحون ، وأن أعادءه هم الخاسرون ، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان ، ولذلك ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم ، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين ، أنتج ذلك قطعاً وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه ، فقال معيداً للتأديب عقب سورة الفتح على أهل(7/547)
صفحة رقم 548
الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السببي : ( يا أيها الذين آمنوا ( منادياً بأداة العبد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب ، ومعبراً بالماضي إقامة لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من عليّ رتبته مع اللطف به بالتمسية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع بني النضير بالنفاق وأحله محل أهل الشقاق ، فحكم على القلوب في الموضعين فقال هناك : ( الذين نافقوا ( كما قال هنا : ( الذين آمنوا ( .
ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار مطلق الموادة للكفار ، وفي الحشر الزجر العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو باطناً ، بكت هنا من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها ، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة ، فعبر لذلك بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان : ( لا تتخذوا ( وزاد في ذلك المعنى من وجهين : التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإِشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد ، فأهل الحق أولى بأن يكونوا كذلك في الولاية فقال : ( عدوي ) أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً فيكف بما هو فوق الأدنى وهو فعول من عدى ، وأبلغ في الإيقاظ بقوله : ( وعدوكم ) أي العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين .
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة ، بين أن المراد الجمع فقال : ( أولياء ( ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله : ( تلقون ) أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو ) إليهم ( على بعدهم منكم حساً ومعنى ) بالمودة ) أي بسببها .
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه ، ملهياً ومهيجاً إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفهم إياه في الإعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة ) وقد ) أي هو الحال أنهم قد ) كفروا ) أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة ) بما ) أي بسبب ما ) جاءكم من الحق ) أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه ، ثم استأنف بين كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلاً عن السعي فيها بقوله مذكراً لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصوراً لها بما يدل على الإصرار بأنهم ) يخرجون الرسول ) أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل(7/548)
صفحة رقم 549
أحد عداوة من عاداه أدنى عداوة ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً ، وبين أن المخاطب من أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير والتعميم في النهي بقوله : ( وإياكم ) أي من دياركم من مكة المشرفة .
ولما بين كفرهم ، معبراً بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه ، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والجداوة فقال : ( أن ) أي أخرجوكم من أوطانكم لأجل أن ) تؤمنوا ) أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار .
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقاً من وجهي الذات والوصف لفت الخطاب من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال : ( بالله ) أي الذي اختص بجميع صفات الكمال ، ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجبو ذلك لإحسانه فقال : ( ربكم ( ولما ألهبهم على مباينتهم لهم بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأكمل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل أن لا يضيعوه ، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لاتصح إلا بالإيمان ، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال ، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص ، ولا يكون الإخلاص إلا بمابينه الأعداء : ( إن كنتم ) أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي ) خرجتم ) أي منها وهي أحب البلاد إليكم ) جهاداً ) أي لأجل الجهاد ) في سبيلي ) أي بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها ) وابتغاء مرضاتي ) أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له ، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة ) لا تتخذوا ( عليه .
ولما فرغ من بيان حال العدو وشرط إخلاص الولي ، وكان التقدير : فلا تتخذوهم أولياء ، بنى عليه قوله مبيناً ) تلقون ( إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً : ( تسرون ) أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم ، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله : ( إليهم ( إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين إبلاغ الأخبار التي يريد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد ) بالمودة ) أي بسببها أو بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة .
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك ، قال مبكتاً لمن يفعله : ( وأنا ) أي والحال أني ) أعلم ) أي من كل أحد من نفس الفاعل ) بما أخفيتم ) أي من ذلك ) وما أعلنتم ( فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة .(7/549)
صفحة رقم 550
ولما كان التقدير بما هدى إليه العاطف : فمن فعل منكم فقد ظن أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك ، عطف عليه قوله : ( ومن يفعله ) أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال .
ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت ، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء ، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج الكلام مخرج العموم ، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال : ( منكم ( وحقق الأمر وقربه بقوله : ( فقد ضل ) أي عمي ومال وأخطأ ) سواء السبيل ) أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله ، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن علي ومنه في الطبراني عن أنس ومنه في التفاسير ( أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها ، فقالت : ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة ، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي ، فحث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحمولها ، فكتب معها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريدكم فخذوا حذركم ، فأعطاها عشرة دنانير ، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله الله صلى الله عليه عمر وعلياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً فقال : ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاط إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه غليكم فاضربوا عنقها ( فانطلقوا تعادي بهم خيلهم ، فأدركوها في ذلك المكان فأنكرت وحلفت بالله ، ففتشوها فلم يجدوه فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : ما كذبنا ولا كذبنا ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب ولأضربن عنقك ، فقالت : على أن لا تردوني ، ثم أخرجته من عقاصها قد لفت عليه شعرها ، فخلوا سبيلها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحاطب : ( ل تعرف الكتاب ( ، قال : نعم ، قال : ( فما حملك على هذا ( ؟ قال : لا تعجل يا رسول الله ، والله ما كفر منذ أسلمت ولا غششت منذ نصحتك ولا احببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يدفع الله به عن عشيرته ، وكنت غريباً خليفاً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ عندهم يداً يدفع الله بها عن أهلي ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صدق ولا تقولوا له إلا خيراً ( ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر(7/550)
صفحة رقم 551
فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ( ، ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال : الله ورسوله أعلم ، فأنزل الله ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم ( الآيات .
ولاق الإماما أبو جعفر بن الزبير : افتتحت - يعني هذه السورة - بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم بالتبرؤ منهم ، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة ) لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله له ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ( إلى آخر السورة ، وقد حصل منها أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم ) ) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وإيدهم بروح منه ( ) [ المجادلة : 22 ] فوصى عباده في افتتحا الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم ، والاتصال في هذا بين ، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم ، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم ، ثم أتبع ذلك ما عجله لهم من النقمة والنكال ، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له ، ثم لما كان أو لسورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة ، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود ، وطلبوا المعادة للجميع واحد ، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود ، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين ، والتحمد السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود ، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك ، فمبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة - انتهى .
الممتحنة : ( 2 - 3 ) إن يثقفوكم يكونوا. .. . .
) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ( )
ولما كان ما بينه تعالى من أخراجهم لهم موضحاً بعداوتهم وكان طول كفهم عن قصدهم بالأذى من سنة الأحزاب سنة خمس إلى سنة ثمان ربما شكك في أمرها ، وكان(7/551)
صفحة رقم 552
سبحانه قد أعز المؤمنين بعد ذلهم وقواهم بعد وهنهم وضعفهم ، وثقفهم بعد جهلهم ، بين ظلال معتقد ذلك بأن كف الكفار إنما هو لعجزهم وأنهم لو حصل لهم ما هو للمسلمين الآن من القوة لبادروا إلى إظهار العداوة مع أن ذلك في نصر الشيطان ، فأولياء الرحمن الوى باتباع ما آتاهم من الإيمان ، فقال مبيناً لبقاء عداوتهم : ( إن يثقفوكم ) أي يجدوكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن وهم يطمعون في أخذكم بكونهم أقوى منكم أو أعرف بشيء مما تيوصل به إلى الغلبة ، وأشار بأداة الشك إلى أن وجدانهم وهم على صفة الثقافة مما لا تحقق له ، وإنما هو على سبيل الفرض والتقدير ، وأنه إنما علم سبحانه أنه لو كان كيف كان يكون ، مع أنه مما لا يكون ، ونبه على عراقتهم في العداوة بالتعبير بالكون فقال : ( يكونوا لكم ) أي خاصة ) أعداء ) أي يعدون إلى أذاكم كل عدو يمكنهم وإن واددتموهم .
ولما كانت العداوة قد تكون بإغراء الغير ، عرف أنهم لشدة غيظهم لا يقتصرون على ذلك فقال : ( ويبسطوا إليكم ) أي خاصة وإن كان هناك في ذلك الوقت من غيركم من قتل أعز الناس إليهم ) أيديهم ) أي بالضرب إن استطاعوا ) وألسنتهم ) أي بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما نجرع من آخر من غيركم من القصص حتى أوجب له غاية السعة ) بالسوء ) أي بكل ما من شأنه أن يسوء .
ولما كان أعدى الأعداء لك من تمنى أن يفوتك أعز الأشياء لديك ، وكان أعز الأشياء عند كل أحد دينه ، قال متمماً للبيان : ( وودوا ) أي وقعت منهم هذه الودادة قبل هذا لأن مصيبة الدين أعظم فهم إليها أسرع لأن دأب العدو القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوه ، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعتى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه ، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال ) لو تكفرون ) أي يقع منكم الكفر الموجب للهلاك الدائم ، وقدم الأول لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكاً .
ولما كانت عداوتهم معروفة وإنما غطاها محبة القرابات لأن الحب للشيء يعمي ويصم ، فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالاتهم ، زهد فيها مما يرجع إلى حال من والوهم لأجلهم بما تورثه من الشقاء الدائم يوم البعث ، فقال مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال : ( لن تنفعكم ) أي بوجه من الوجوه ) أرحامكم ) أي قراباتكم الحاملة لكم على رحمتهم والعطف عليهم ) ولا أولادكم ( الذي هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله لأجلهم فينبغي أن لا تعدوا قربهم منكم بوجه أصلاً ، ثم علل ذلك بينه بقوله : ( يوم القيامة ) أي القيام الأعظم .
ولما كان النافي وقوع الفصل لا كونه من فصال معين قال بانياً للمفعول(7/552)
صفحة رقم 553
على قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير وأبي جعفر وابن عامر من أكثر طرقه إلا أن شدد الصاد للمبالغة في الفصل : ( يفصل ) أي يوقع الفصل وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب ) بينكم ) أي أيها الناس فيدخل من شاء من أهل طاعته الجنة ، ومن شاء من أهل معصيته النار ، فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء إلا إن كان قد أتى الله بقلب سليم فيأذن الله في إكرامه بذلك .
ولما كان التقدير إعلاماً بأن الله هو الفاصل وهو الضار النافع بما دلت عليه قراءة الباقين إلا أن حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة إشارة إلى عظمة هذا الفصل بخروجه عن المألوف عوداً إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الأمر بانتشار الخلائق وأعمالهم : فاللّه على ذلك قدير ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة التامة ) بما تعملون ) أي من كل عمل في كل وقت ) بصير ( فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة ، وقد مضى غيره مرة أن تقديم الجار في مثل هذا للتنبه على مزيد الاعتناء بعلم ذلك لا على الاختصاص ولا لأجل الفواصل .
الممتحنة : ( 4 - 5 ) قد كانت لكم. .. . .
) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ( )
ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك ، وكانت عادته التربية بالماضين ، كان موضع توقع ذلك فقال معبراً بأداة التوقع : ( قد كانت ) أي وجدت وجوداً تاماً ، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه ) لكم ) أي أيها المؤمنون ) أسوة ) أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية ) حسنة ( يرغب فيها ) في إبراهيم ) أي في قول أبي الأنبياء ) والذين معه ) أي ممن كانوا قبله من الأنبياء ، قال القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة ) إذ ) أي حين ) قالوا ( وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف ) لقومهم ( الكفرة ، وقد كانوا أكثر من عدوكم واقوى وكلان لهم فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات .
ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعداً لأن يبارزوهم ، أكدوا قولهم فقالوا : ( إنا ) أي من غير وقفة ولا شك ) برءاء ) أي متبرئون تبرئة عظيمة ) منكم ((7/553)
صفحة رقم 554
وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم .
ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا : ( ومما تعبدون ) أي توجدون عبادته في وقت من الأوقات الماضية المفيد التعبير عنها بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائناً من كان لا نخاف شيئاً نم ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء ، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه .
ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم : ( من دون الله ) أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم .
ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة ، بينوا أنها براءة ا لدين الجامعة لكل براءة فقالوا : ( كفرنا بكم ) أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان ، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك .
ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر ، عبر بما يفهم أن العداوة كانت موجودة ولكنها كانت مستورة ، فقال دالاً على قوتها بتذكير الفعل : ( وبدا ) أي ظهر ظهوراً عظماً ، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال : ( بيننا وبينكم ) أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم ) العداوة ( وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على الآخر ولا يكون ذلك إلا عندما يتسخف الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق .
فالعداوة مما يمتد فيكون مالئة لظرفها ، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلوحيه على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز : الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير ( في ) دون ذكره يقتضي كون الظرف معياراً له غير زائد عليه مثل صمت الشهر ، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر ، فإذا امتد الفعل الظرف ليكون معياراً له فيصح حمل اليوم - في نحو صرت يوم كذا - على حقيقته ، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب ، وإذا لم يمتد الفعل - يعني مثل حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازاً عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في الغرف ممتداً ، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى :
77 ( ) ومن يولهم يومئذ دبره ( ) 7
[ الأنفال : 16 ] فإن التولي عن الزحف حرام ليلاً كان أو نهاراً ولأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي وهو جزء من اليوم ، فيكون مطلق الآن جزءاً من اليوم ، فتحقق العلاقة .
ولما كان ذلك قد يكون لغير الغض بل لتأديب ونحوه قالوا : ( والغضاء ( أي(7/554)
صفحة رقم 555
وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم .
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا : ( أبداً ( ولما كان ذلك مرئياً من صلاح الحال ، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم : ( حتى تؤمنوا ) أي توقعوا الأمان من التكذيب من أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمن ، حال كونكم مصدقين ومعترفين ) بالله ) أي الملك الذي له الكمال كله .
ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا : ( وحده ) أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه .
ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقوله إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيساً لمن نزلت القصة بسببه واستعطافاً له وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه : ( إلا قول إبراهيم ) أي فلا تأسي لكم به ) لأبيه ( واعداً له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعاً على قلبه ، فلا صلاح له ، يقال : إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له ، فلما تبين له ، أنه لا يؤمن تبرأ منه : ( لأستغفرن ) أي لأوجدن طلب الغفران من الله ) لك ( فإن هذا الاستغفار لكافر ، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقاً غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع .
ولما وعده بالاستفغار ترغيباً له ، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار ، فقال : ( وما أملك لك ) أي لكونك كافراً ) من الله ) أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال ، وأعرق في النفي بقوله : ( من شيء ( والاستثناء وقع على هذا القول بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء ، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نادى : ( واصباحاه ) حين أنزل الله سبحانه وتعالى ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( كان يقول لكل من سماه : ( لا أملك لك من الله شيئاً ) حتى قال في آخر ذلك : ( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغن عنك من الله شيئاً ) .
ولما حثهم على التأسي بقول الخلص ، وقدم منه المحافاة لأنها المقصودة ، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضاً به بين أجزاء مقالهم بياناً للاهتمام به للتنفير منه من قوله ، أتم ما يؤيسي فيه فقال مبيناً أنهم ما أقدموا على مجافاتهم بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعاً تاماً يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم ، لكنهم سألوا الحماية لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد ذلك أعداءهم ضلالاً ) ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا(7/555)
صفحة رقم 556
من الهلاك باتباعهم ) عليك ) أي لا على غيرك ) توكلنا ) أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم ، وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت وقد عادينا فيك قوماً عتاة أقوياء ونحن ضعفاء ، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا .
ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسناً أن يعد نفسه مقصراً شارداً عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره ، وأن يعزم على الاجتهاد في العباة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعاً : ( وإليك ) أي وحدك لا إلى غيرك ) أنبنا ) أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا .
ولما كان المعنى تعليلاً : فإنه منك المبدأ ، عطف عليه قوله : ( وإليك ) أي وحدك ) المصير ( ولما أخبروا بإسلامهم له سبحانه وعللوه بما اقتضى الإحاطة فاقتضى مجموع ذلك الثناء الأتم ، فلزم منه الطلب ، صرحوا به فقالوا داعين بإسقاط الأدة للدلالة على غاية قربه سبحانه بما له من الإحاطة : ( ربنا ) أي أيها المربي لنا والمحسن إلينا ) لا تجعلنا ( بإضعافنا والتسليط علينا ) فتنة ) أي موضع اختبار ) للذين كفروا ( بأن يعذبونا بعذاب يميلنا عما نحن عليه ويميلهم عما وصلوا إليه بسبب إسلامنا من الزلازل بما يوجب ذلك لهم من اعتقاد لو أنك كنت راضياً بديننا لكنا على الحق وكانوا هم على الباطل ما أمكنت منا ، فيزيدهم ذلك طغياناً ظناً منهم أنهم على الحق وأنا على الباطل .
ولما كان رأس مال المسلم الأعظم الاعتراف بالتقصير وإن بلغ النهاية في المجاهدة فإن الإله في غاية العظمة والبعد في نهاية الضعف ، فبلوغه ما يحق له سبحانه لا يمكن بوجه قالوا ) واغفر لنا ) أي استر ما عجزنا فيه وامح عينه وأثره .
ولما طلبوا منه الحياطة من جميع الجوانب ، عللوه زيادة في التضرع والخضوع واستجاز المطلوب مكررين صفة الإحسان زيادة في الترقق والاستعطاف بقولهم : ( ربنا ) أي المحسن إلينا ، وأكدوا إعلاماً بشدة رغبتهم بحسن الثناء عليه سبحانه واعترافاً بأنهم قد يفعلون ما فيه شيء نم تقصير فيكون من مثل أفعال من لا يعرفه سبحانه فقالوا : ( إنك أنت ) أي وحدك لا غيرك ) العزيز ( الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) الحكيم ( الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها ، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله فوق ما طلب .
الممتحنة : ( 6 - 8 ) لقد كان لكم. .. . .
) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ(7/556)
صفحة رقم 557
رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) 73
( ) 71
ولما أتم ما حثهم على التأسي فيه بذكر أعظم آبائهم لأن دواعي الإنسان إلى المداراة عما يخاف عليه من أقاربه وآله وجميع أحواله عظيمة جداً غن كان المدارأ عظيماً لا سيما إن كان قد تقدم له صداقة وبه ألفه ، فكان جديراً بعد الوعظ والتأسية أن يبقى عنده بقايا ولا سيما والناس متفاوتون ، منهم من يدره أيسر وعظ ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك أعاد التأسية تأكيداً لها على وجه بلغ الذروة من جمال الترغيب وجلال الترهيب ، وليكون فيها أتم دلالة على أن ما بينهما من قول إبراهيم عليه السلام المأمور بالتأسي به من الدعاء وغيره إلا ما استثنى لتشتد الرغبة فيه ، فقال مصدراً بما دل على القسم إشارة إلى أن من فعل غير هذا كان فعله فعل منكر لحسن هذا التأسي ، ولذلك ذكر الفعل الذي أنثه في الأول : ( لقد كان لكم ) أي أيها الذين ادعوا الإيمان ، وقدم الظرف بياناً للاهتمام به فقال : ( فيهم ) أي إبراهيم عليه السلام ومن معه ) أسوة حسنة ( وأبدل من ) لكم ( ما هو الفصيل في الدلالة على الباطل ، فقال مشيراً إلى أن من لم يتأس بهم في هذا لم يكن راجياً لما ذكر : ( لمن كان ) أي جبل على أنه ) يرجوا الله ) أي الملك المحيط بجميع صفات الكمال فهو ذو الجلال الذي يجبر ولا يجار عليه ، والإكرام الذي هو جدير بأن يعطى جميع ما يسأله ) واليوم الآخر ( الذي يحاسب عليه ، النقير والطمير ، فلا يلومن إلا نفسه ، فقد أذن لإمام المسلمين إن عثر عليه في عقوبته ، فإن علم الغيب الذي أعلمناه نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بأن حاطباً رضي الله عنه صحيح العقيدة غير متأهل للعقوبة منقطع بموته ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يبقى إلى ما نصبناه من الشعائر ، وأقمناه من الدلائل .
ولما كان التقدير : فمن أقبل على هذا التأسي لكونه يرجو الله واليوم الآخر فلم يخلد إلى الدنيا ، يتوله الله فإن الله رحيم ودود ، عطف عليه قوله : ( ومن يتول ) أي يوقع الإعراض عن أوامر الله تعالى في وقت من الأوقات مطلقاً لكونه أخلد إلى الدنيا بمعالجة الفطرة الأولى ، وأكد لأن فاعل ذلك كالمنكر لمضمون الكلام فقال : ( فإن الله ) أي الذي له الأحاطة الكاملة ) هو ) أي خاصة ) الغني ) أي عن كل شيء ) الحميد ) أي الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال في حال الطاعة له والمعصية فإن العاصي عبد لإرادته ، كما أن المطيع عبد لآمره وإرادته ولطفه ، فلا يخرج شيء عن مراده ، وكل شيء خاضع لحكمه ، وقد بينت الآية أدب العشرة لما ألهبت(7/557)
صفحة رقم 558
وهيجت على المفارقة للعصاة والتبرء منهم حساً ومعنى ، وإظهار ذلك لهم قولاً وفعلاً ، إلى أن تحصل التوبة ، ومن لم يفعل ذلك كان شريكاً في الفعل فيكون شريكاً في الجزاء كما ورد ، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على ألسنة الأنبياء ، ومن فعل ما أمره الله به كان فعله جديراً بأن يكون سبب الوصله والقرب والمودة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الرجاء أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والتولي ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر سبب السعادة ترغيباً وسبب الشقاوة ترهيباً .
ولما أتم وعظهم بما هو الأنفع والأقرب إلى صلاحهم ففعلوا ، وكان ذلك شاقاً لما جبل عليه البشر من حب ذوي الأرحام والعطف عليهم ، فتشوفت النفوس إلى تخفيف بنوع من الأنواع ، أتبعه الترجئة فيما قصد حاط رضي الله عنه بغير الطريق الذي يتوصل به فقال على عادة الملوك في الرمز إلى ما يريدونه فيقنع الموعد به بل يكون ذلك الرمز عنده أعظم من البت من غيرهم لما لهم نم العظمة التي تقتضي النزاهة عما يلم بشائبه نقص ، وذلك أعظم في الإيمان بالغيب لأن الوعود لا توزال بين خوف ورجاء جاوباً لمن كأنه كان يقول : كيف يكون الخلاص من مثل هذه الواقعة وقد بنيت يا رب هذه الدار على حكمة الأسباب : ( عسى الله ) أي أنتم جديريون بأن تطمعوا في الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) أن يجعل ( بأسباب لا تعلمونها ) بينكم وبين ) أي في جميع الحد الفاصل بين المجموعين أو بين كل شخصين من الجمعين ) الذين عاديتم ) أي بالمخالفة في الدين ) منهم ) أي من هؤلاء الذين عادوكم بما تقدم بأعيانهم من أهل مكة ) مودة ( وقد جعل ذلك علام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه ، وأجرى سنته الإلهية بأن من عادتيه فيه جعل عاقبة ذلك إلى ولاية عظيمة ، ومن تهاونت في مقاطعته فيه سبحانه أقامه لك ضداً .
ولما كان التقدير : فالله بكم رفيق ، عطف عليه تذكيراً لهم بما له سبحانه من العظمة قوله ) والله ) أي الذي له الأحاطة بالكمال : ( قدير ) أي بالغ القدرة على كل ما يريده فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسيرن فملا تم الرجاء لم يبق إلا كدر الذنب فأتبعه تطييباً للقلوب مما نزلت هذه الآيات بسببه قوله : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) غفور ) أي محاء لأعيان الذنوب وآثارها ) رحيم ( يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة ثم بالجزاء غاية الإكرام ، قال الرازي في اللوامع : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استعمل أبا سفيان رضي الله عنه على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل فلقي ذا الحجار مرتداً فقاتله ، فكان أول من قاتل على لردة ، فتلك المودة بعد المعادة .(7/558)
صفحة رقم 559
ولما تم الوعظ والتأسية وتطبيب النفوس بالترجئة ، وكان وصف الكفار بالإخراج لهم من ديارهم يحتمل أن يكون بالقوة فيعم ، ويحتمل أن يكون بالفعل فيخص أهل مكة أو من باشر الأذى الذي تسبب عنه الخروج منهم ، بين ذلك بقوله مؤذناً بالإشارة إلى الاقتصاد في الولاية والعداوة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما .
وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ) ) لا ينهاكم الله ) أي الذي اختص بالجلال والإكرام ) عن الذين لم يقاتلوكم ) أي بالفعل ) في الدين ) أي بحيث تكونوا مظروفين له ليس شيئاً من أحوالهم خارجاً عنه ، فأخرج ذلك القتال بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين ، وأخرج من لم يقاتل أصلاً كخزاعة والنساء ، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان غليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران .
ولما كان الذين لم يقاتلوا لذلك ربما كانوا قد ساعدوا على الإخراج قال : ( ولم يخرجوكم ( وقيد بقوله : ( من دياركم ( ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلاً من ( الدين ) : ( أن ) أي لا ينهاكم عن أن ) تبروهم ( بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة ) وتقسطوا ) أي تعدلوا العدل الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور ، وبين أن المعنى : موصلين لذلك الإقساط ) إليهم ( إشارة إلى أن فعل الإقساط ) إليهم ( إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال ، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق ، ) إن الله ) أي الذي له الكمال كله ) يحب ) أي يفعل المحب مع ) المقسطين ) أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل .
الممتحنة : ( 9 - 10 ) إنما ينهاكم الله. .. . .
) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ( )(7/559)
صفحة رقم 560
ولما علم الحال من هذا وما في أول السورة ، أتبعه التصريح بما أفاده مجموعاً أحسن جمع مصوراً أحسن تصوير فقال تعالى : ( إنما ينهاكم الله ) أي الذين له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ) عن الذين قاتلوكم ( متعمدين لقتالكم كائنين ) في الدين ( ليس شيء من ذلك خارجاً عنه ، لتكون العداوة في الله ) وأخرجوكم من دياركم ) أي بأنفسهم لبغضكم ) وظاهروا ) أي عاونوا غيرهم ) على إخراجكم ( ولما تناول هذا المقصودين صريحاً ، وكان النهي الذي موضعه الأفعال قد علق بأعيانهم تأكيداً له ، عرف بالمقصود بقوله : ( أن ) أي إنما ينهاكم عن المذكورين في أن ) تولوهم ) أي تكلفوا فطركم الأولى أن تفعلوا معهم جميع ما يفعله القريب الحميم الشفيق فتصرحوا بأنهم أولياؤكم وتناصروهم ولو كان ذلك على أدنى الوجوه - بما أشار إليه إسقاط التاء .
ولما كان التقدير : فمن أطاع فأولئك هم المفلحون ، عطف عليه قوله : ( ومن يتولّهم ) أي يكلف نفسه الحمل على غير ما يدعو إيله الفطرة الأولى من المنابذة ، وأطلق ولم يقيد ب ( منكم ) ليعم المهاجرين وغيرهم والمؤمنين وغيرهم : ( فأولئك ) أي الذين أبعدوا عن العدل ) هم ) أي خاصة لا غيرهم العريقون في أنهم ) الظالمون ) أي العريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها كمن يمشي في مأخذ الاشتياق بسبب هذا التولي .
ولما كان نزول هذه الآيات الماضية في التفح الأعظم حين قصد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سنة ثمان المسير بجنود الله إلى مكة المشرفة - شرفها الله تعالى - لدخولها عليهم بالسيف حين نقضوا بقتالهم لخزاعة الذي كانوا قد تحيزوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكانوا في عقده وعهده في صلح الحديبية الذي كان سنة ست على وضع الحرب بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن دخل في عقه ، وكان من لك الصلح أن من جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من قريش ومن دخل في صلحهم رده إليهم وإن كان مسلماً ، ومن جاءهم من كان مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يردوه إليه بحيث قام من ذلك وقعد كثير من الصحابة رضي الله عنه من إعظمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى سكنه الصديق رضي الله عنه بما وقر في صدره من الحكم ، ورد إليهم ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بصير رضي الله عنه ، وكان رده غليهم للوفاء بالعهد بسبب التصديق لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما من جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) وقصته في ذلك كله مشهورة ، وكانت ( من ) من صيغ العموم ، وكانت دلالة العام قطعية(7/560)
صفحة رقم 561
في الحكم على الأفراد ظنية - كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه - في الدلالة على الجزئي من تلك الأفراد بخصوصه حيث لا قرينة لأن تلك الصيغ ترد تارة على عمومها وتارة يراد بها بعض الأفراد فتكون من العام الذي أريد به الخصوص ، وتارة يقع فيها التخصيص ، فتكون من العام الذي أريد به الخصوص فطرقها الاحتمال فاحتاج ما دلت عليه من الظاهر إلى قرينة ، وكان دخول النساء تحت لفظ ( من ) في صلح الحديبية أما عرباً عن القرينة أو أن القرينة القتال الذي وقع الصلح عليه بسببه صارفة عنه ، وكذا قرينة التعبير عنهن ب ( ما ) دون ( من ) في كثير من الكتاب العزيز
77 ( ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( ) 7
[ النساء : 22 ]
77 ( ) والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم ( ) 7
[ النساء : 24 ]
77 ( ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ( ) 7
[ النساء : 24 ]
77 ( ) فما استمتعتم به منهن ( ) 7
24 ]
77 ( ) فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ( ) 7
[ النساء : 25 ]
77 ( ) إلا على أزواجكم أو ما ملكت أيمانكم ( ) 7
[ المؤمنون : 6 ] ، وكان قد ختم سبحانه هذه الآيات التي أدب بها في غزوة الفتح بما أبان به ما لا يخرج عن الصلح في عمرة الحديبية مما هو قرب إلى الخير من البر والعدل ، ونهى عن تولي الكفار ، فكانت المصاهرة والمناكحة من أعظم التولي ، وصل بذلك ما لا يخرج عنه ولا يحل بالعهد في أن من جاء من الكفار إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رده إليهم وإن كان مسلماً ، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل الإيمان الذين الفهم وأنا به قلبه الشريف من فنون العلم ليكوفوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مقدمات البيعة منه لهن : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان - وهو إيقاع الأمان من التكذيب - لمن يخبرهم ما ينبغي التصديق به بسبب تصديقهم بالله سبحانه وتعالى .
ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أنه يأتيهم نساء يهربن بدينهن إلى الله ، بشرهم بذلك بالتعبير بأداة التحقيق فقال : ( إذا ) أي صدقوا ما ادعيتموه من الإيمان بأنه في أي زمان ) جاءكم ( ولما كان لا يهجر داره وعشيرته لا سيما إن كانوا أقارب بسبب كفرهم إلا من رسخ في الإيمان ذكراً كان أو أنثى قال : ( المؤمنات ) أي النساء اللاتي صار وصف الإيمان لهن صفة راسخة بدلالة الهجرة عليه : ( مهاجرات ( للكفار ولأرضهم ) فامتحنوهن ) أي اختبروهن تأكيداً لما لت عليه الهجرة من الإيمان التحليف بأنهن ما خرجن لحدث أحدثته ولا بغضاً في زوج ولا رغبة في عشير ولا خرجن إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام ، قال الإمام شهاب الدين ابن النقيب في الهداية من مختصره للكفاية لفقيه المذهب نجم الدين أحمد بن الرفعة في شرح التنبيه : واختلف(7/561)
صفحة رقم 562
قول الشافعي رحمه الله تعالى : هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرط لقريش في الصلح رد النساء ففي قول : لم يشترطه بل أطلق رد من جاءه فتوهموا تناول النساء ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عالماً بعدم دخولهن ، فأطلق ذلك حذيفة يعني ومن شرعه ان الحرب خدعة ، وفي قوله : شملهن الشرط ، لكن هل شرطه صريحاً أم دخلن في الإطلاق فيهن وجهان أظهرهما الثاني ، وهل كان شرطهن جائزاً فيه وجهان : أحدهما نعم ثم نسخ ، وهل ناسخه الآية المذكورة أم منع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الرد فيه وجهان مبنيان على أنه هل يجوز نسخ السنة بالقرآن وفيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى ، ومختاره منهما المنع وهو الجديد ، وكذا لا يجوز عنده وعند أصحابه نسخ الكتبا بالسنة وإن كانت متواترة - انتهى .
ومعناه أنه لم يقع فإن وقع نسخها بالقرآن كان معه سنة ، وإن وقع نسخه بالسنة كان معها قرآن ، وهو معنى قول ابن السبكي في جمع الجوامع : قال الشافعي رضي الله عنه : وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة تبين توافق الكتاب والسنة .
ولما كان الاختبار ربما دل إيمانهن لا يعلم إلا به ، نفى ذلك بقوله مستأنفاً في جواب من يقول : أليس الله بعالم بذلك ، ومفيداً أن علمكم الذي تصلون إليه بالامتحان ليس بعلم ، وإنما سماه به إيذاناً بأن الظن الغالب في حقكم بالاجتهاد والقياس قائم مقام العلم يخرج من عنده
77 ( ) ولا تقف ما ليس لك به علم ( ) 7
[ الإسراء : 36 ] : ( الله ( المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) أعلم ) أي منكم ومنهن بأنفسهن ) بإيمانهن ( هل هو كائن أو لا على وجه الرسوخ أو لا ، فإنه محيط بما غاب كإحاطته بما شهد ، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس ولئلا تكون شهادته لأحد بالإيمان والكفران موصلة إلى عين اليقين فيخرج عن مبنى هذه الدار ، قال القشيري : وفي الجملة الامتحان طريق إلى المعرفة ، وجواهر النفس تتبين بالتجربة ، ومن أقدم على شيء من غير تجربة يجني كأس الندم ، قال : ( فإن علمتموهن ) أي العلم المتمكن لكم وهو الظن المؤكد بالأمارات الظاهرة بالحلف وغيره ) مؤمنات ) أي مخلصات في الهجرة لأجل الإيمان ، والتعبير بذلك لإيذان بمزيد الاحتياط .
ولما ذكر هذا الامتحان بين أنه علة لحمايتهن والدفع عنهن فأتبعه مسببه فقال : ( فلا ترجعوهن ) أي بوجه من الوجوه ) إلى الكفار ( وإن كانوا أزواجاً ، ومن الدليل على أن هذا ظاهر في المراد وأن القرائن موضحة له أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أبى أن يرد إليهم من جاءه من النساء لم يعب أحد من الكفار ذلك ، ولا نسب إلى عهده ( صلى الله عليه وسلم ) - وحاشاه - خللاً ، ولولا أن ذلك لملؤوا الأرض تشغيباً كما فعلوا في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخله التي نزل بسببها
77 ( ) يسألونك عن الشهر الحرام ( ) 7
[ البقرة :(7/562)
صفحة رقم 563
17 ] الآيات على ان الأخبار الصحيحة وغيرها ناطقة بأن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل أن ينفصل الأمر غاية الانفصال ويستقر ، روى البخاري في المغازي من صحيحه والبغوي من طريقه وهذا لفظه من المروان والمسور بن مخرمة عن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : كاتب سهيل بن عمرو فكان ما اشترط على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فكاتبه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى يرجعها إليهم كما أنزل الله فيهن ) إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ( وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من اهل مكة رده إليهم فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها ، وكان كافر ، فقال : يا محمد اردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ( وقال ابن عباس رضي الله عنهما : امتحانها أن تستحلف أنها ما هاجرت لبغض زوج ولا عشقاً لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس الدنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها ما أنفق عليها ، فزوجها عمر رضي الله عنه ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يرد من جاءه من الرجال وحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ، ويعطي أزواجهن مهورهن ، ودعوى النسخ ليست بشيء إلا تؤول بأنه لما كان من العالم الذي أريد به الخصوص أن بعض ما تناوله ظاهر اللفظ من الحكم مرفوع ، وذلك بأن الله لا يأمر بإخلاف الوعد فكيف بنقض العهد .
ولما نهى عن رد المهاجرات إلى المشركين وعبر بالكفار تعميماً ، علل ذلك بقوله مقدماً حكمهن تشريفاً لهن لهجرتهن : ( لا هن ) أي الأزواج ) حل ) أي موضع حل ثابت ) لهم ) أي للكفار باستمتاع ولا غيره .
ولما كان نفي الحل الثابت غير مانع من تجدد حل الرجال لهن ولو على تقدير من التقادير وفرض من الفروض ، قال معيداً لذلك ومؤكداً لقطع العلاقة من(7/563)
صفحة رقم 564
كل جانب : ( ولا هم ) أي رجال الكفار ) يحلون ) أي تجدد في وقت من الأوقات أن يحلوا ) لهن ) أي للمؤمنات حتى لو تصور أن يكون رجالهن نساء وهن ذكوراً ما حلوا لهن بخلاف أهل الكتاب ، كذا تنفك الملازمة في مسألة المظاهرة والإيلاء فيحل للمرأة أن تستمتع به إذا كان نائماً مثلاً ، وأما هو فيحرم عليه ذلك قبل التكفير ، وقال البيضاوي : الأولى لحصول الفرقة ، والثانية للمنع من الاستئناف - انتهى ، فنفت هذه الجملة الفعلية من وجه تجدد الحل للنساء فأفهمت الجملتان عدم الحرج فيما كان قبل ذلك تطييباً لقلوب المؤمنات .
ولما نهى عن الرد وعلله ، أمر بما قدم من الإقساط إليهم فقال : ( وآتوهم ) أي الأزواج ) ما أنفقوا ) أي عليهن من المهور فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية ، وأما الكسوة والنفقة فإنها لما يتجدد من الزمان .
ولما جزم بتأييد منعهن عن الكفار ، أباحهن للمسلمين فقال على وجه الرفق واللطف : ( ولا جناح ) أي ميل وحرج ) عليكم ( أيها المشرفون بالخطاب ) أن تنكحوهن ) أي تجددون زواجكم بهن بعد الاستبراء وإن كان أزواجهن من الكفار لم يطلقوهن لزوال العلق منهم عنهن ولأن الإسلام فرق بينهم فإنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً .
ولما كان قد أمر برد مهور الكفارن فكان ربما ظن أنه مغن عن تجديد مهر لهن إذا نكحهن المسلم نفى ذلك بقوله : ( إذا آتيتموهن ) أي لأجل النكاح ) أجورهن ( ولما قطع ما بين الكفار والمسلمات مع الإعراض عن الكفار لعصاينهم قطع ما بين المؤمنين والكافرات مع الإقبال عليهم لطاعتهم رفعاً لشأنهم فقال : ( تمسكوا ) أي بعدم كان إمساك المرأة مع عداوتها لمخالفتها في الدين دليلاً على غاية الرغبة فيها ، دل على ذلك إشارة إلى التوبيخ بالتضعيف في قراءة البصريين فقال : ( تمسكوا ) أي بعدم التصريح في الطلاق ) بعصم الكوافر ( جمع عصمة وهي ما يديم علقة النكاح ) واسألوا ) أي أيها المؤمنون الذين هبت أزواجهم إلى الكفار ) ما أنفقتم ) أي من مهر نسائكم اللاتي اعتصمن عنكم بهم أو فررن إليهم ، ولما أمر برد مهور المؤمنين إلى الكفار وأذن للمؤمنين ف المطالبة بمهور أزواجهم ، أذن للكفار في مثل ذلك إيقاعاً للقسط بين عباده مسلمهم وكافرهم معبراً بالأمر مع الغيبة إعراضاً عنهم إعلاماً بشدة كراهته سبحانه للظلم وأنه يستوي فيه الكافر مع عداوته بالمؤمن مع ولايته : ( وليسألوا ) أي الكفار ) ما أنفقوا ) أي من مهور أزواجهم اللاتي أسلمن واعتصمن بكم عنهم ، وهل هذا الحكم باق ، قال قوم : نعم ، وقال عطاء ومجاهد وقتادة : نسخ فلا يعطي الكفار شيئاً ولو شرطنا الإعطاء .(7/564)
صفحة رقم 565
ولما كان هذا حكماً عدلاً لا يفعله مع عدوه ووليه إلا حكيم ، قال مشيراً إلى مدحه ترغيباً فيه بميم الجمع إلى العموم : ( ذلكم ) أي الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة بعلو الرتبة عن كل سفه ) حكم الله ) أي الملك الذي له صفات الكمال ، فلا ينبغي لشائبة نقص أن يلحقه .
ولما كان هذا مما يفرح به ويغنم عند تقدير فواته ، قال مستأنفاً مبشراً بإدامة تجديد أمثاله لهم : ( يحكم ) أي الله أو حكمه على سبيل المبالغة ، ودل على استغراق الحكم لجميع ما يعرض بين العباد وأنه سبحانه لم يهمل شيئاً منه بإعراء الجار من قوله : ( بينكم ) أي في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع ، وذلك لأجل الهدنة التي وقعت بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم ، وأما قبل الحديبية فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يمسك النساء ولا يرد الصداق .
ولما كان التقدير : فالله حكم عدل ، قال : ( والله ) أي الذي له الإحاطة التامة ) عليم ) أي بالغ العلم لا يخفى عليه شيء ) حكيم ) أي فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام فلا يستطيع أحد نقض شيء منها .
الممتحنة : ( 11 - 13 ) وإن فاتكم شيء. .. . .
) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( ( )
ولما كان المظنون بالكافر عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات ، قال مداوياً لذلك الداء : ( وإن فاتكم ) أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد الحرب ) شيء ) أي قل أو كثر ) من أزواجكم ) أي من أنفسهن أو مهورهن ) إلى ) أي متحيزاً أو واصلاً إلى ) الكفار ( فعجزتم عنه ) فعاقبتم ) أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم من أزواج الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً ) فآتوا ) أي فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة ) الذي ذهبت أزواجهم ) أي منك إن اختاروا الأخذ ) مثل ما أنفقوا ( على(7/565)
صفحة رقم 566
الكافرة الفائتة إلى الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدعفوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما كنتم تعطونه لازواج المهاجرات ، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار .
ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً وتارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال : ( واتقوا ) أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك ) الله ( الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون ، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ في الإيمان : ( الذي أنتم به ) أي خاصة ) مؤمنون ) أي متمكنون في رتبة الإيمان .
ولما خاطب سبحانه المؤمنين الذي لهم موضع الذب والحماية والنصرة بما وطن به المؤمنات في دار الهجرة فوقع الامتحان وعرف الإيمان ، أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ت بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن فقال ) يا أيها النبي ( مخاطباً له بالوصف المقتضي للعلم ، ودل على تحقق كون ما يخبر به من مجيئهن بأداة التحقيق علماً من أعلام النبوة فقال : ( إذا جاءك المؤمنات ( جعل إقبالهن عليه ( صلى الله عليه وسلم ) لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الوصف عليهن ) يبايعنك ) أي كل واحدة منهن تبايع ) على أن لا يشركن ) أي يوقعن الإشراك لأحد من الموجودات في وقت من الأوقات ) بالله ) أي الملك الذي لا كفوء له ) شيئاً ) أي من إشراك على الإطلاق .
ولما كان الشرك بذل حق الملك لمن لا يستحقه ، أتبعه أخذ مال المالك بغير حق لاقتضاء الحال لذلك بتمكن المرأة من اختلاص مال الزوج وعسر تحفظه منها فقال : ( ولا يسرقن ) أي يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية ، وأتبع ذلك بذل حق الغير لغير أهله فقال : ( ولا يزنين ) أي يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح .
ولما كان الزنى قد يكون سبباً في إيجاد أو إعدام نسمة بغير حقها ، اتبعه إعدام نسمة بغير حقه فقال : ( ولا يقتلن أولادهن ) أي بالوأد كما تقدم في النحل وساء في ذلك كونه من زنى أو لا .
ولما ذكر إعدام نسمة بغير حق ولا وجه شرعي أتبعه ما يشمل إيجاد نسمة بغير حل ، فقال مقبحاً له على سبيل الكناية عنه بالبهتان وما معه بالتصوير له بلوازمه وآثاره لأن استحضار القبيح وتصويير صورته أزجر عنه فقال : ( ولا يأتين ببهتان ) أي ولد من غير الزوج يبهت من الحاقة به حيرة في نفيه عنه ) يفترينه ) أي يتعمدن كذبه ، وحقق المراد به وصوره بقوله : ( بين أيديهن ) أي بالحمل في البطون ) وأرجلهن ( أي(7/566)
صفحة رقم 567
بالوضع من الفروج ولأن عادة الولد مع أنه يسقط بين أيدي أنه ورجليها أنه يمشي أمامها ، وهذا شامل لما كان من شبهة أو لقطة .
ولما حقق هذه الكبائر العظيمة تعظيماً لأمرها لعسر الاحتراز منها ، وأكد النهي عن الزنى مطابقة وإلزاماً لما يجر إليه من الشرور القتل فما دونه ، وغلظ أمر النسب لما يتفرع عليه من إيقاع الشبهات وانتهاك الحرمات ، عم في النهي فقال : ( ولا يعصينك ) أي على حال من الأحوال ) في معروف ) أي فرد كان منه صغيراً كان أو كبيراً ، وفي ذكره مع العلم بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأمر إلا به إشعار بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقدم المنهيات على المأمورات المستفادة من المعروف لأن التخلي عن الرذائل مقدم على التخلي بالفضائل لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح : ( فبايعهن ) أي التزم لهن بما وعدت على ذلك من إعطاء الثواب لمن وفت منهن في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة .
ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله : ( واستغفر ) أي اسأل ) لهن الله ) أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع لأنه لا يقدر أحد ان يقدر الله حق قدره .
ولما كانت عظمته سبحانه مانعة لعظيم الهيبة من سؤاله ما طمع به ، علله بقوله معيداً الاسم الأعظم لئلا يظن بإضماره وتقيده بحيثية الهجرة من النساء ونحو ذلك مؤكداً لما طبع الأدمي عليه من أنه لا يكاد يترك المسيء من عقاب أو عتاب فضلاً عن التفضيل بزيادة الإكرام : ( إن الله ) أي الذي له صفات الجلال والإكرام فلو أن الناس لا يذنبون لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لتظهر صفة إكرامه ) غفور ) أي بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً ) رحيم ) أي بالغ الإكرام بعد الغفران فضلاً منه وإحساناً ، وقد حقق سبحانه ذلك وصدق ، ومن أصدق من الله قيلاً ، فأقبل النساء للبيعة عامة ثاني يوم الفتح على الصفا بعد فراغه ( صلى الله عليه وسلم ) من بيعة الرجال فنزلت هذه الآية وهو على الصفا فقام عمر بن الخطاب رضي الله أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة متنقبة لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد ، فقال ) ولا يسرقن ( فقالت : إن إبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرفها فقال : ( وإنك لهند بنت عتبة ) ، قالت : نعم ، فاعف عني ما سلف عفا الله عنك ، فقال : ( ولا يزنين ( فقال : أو تزني الحرة ، فقال ) ولا يقتلن أولادهن ( فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً وأنتم وهم أعلم ، (7/567)
صفحة رقم 568
وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر البهتان وهو أن تقذف ولداً على زوجها ليس منه ، قالت هند : والله إن البهتان لقبيح وما تدعونا إلا إلى الرشد ومكارم الأخلاق ، فقال ) ولا يعصينك في معروف ( فقالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، وما مست يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يد امرأة لا تحل له ، وكانت أسماء بنت يزيد بن السكن في المبايعات فقالت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابسط يدك نبايعك ، فقال : ( إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ) ، وعن الشعبي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه ، وعنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لقنهن في المبايعة ( فيما استطعتن وأطقتن ) فقالت : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا .
ولما ذكر ما أمر به نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في المبايعات بعد أن عد الذين آمنوا أصلاً في امتحان المهاجرات فعلم نم لك أن تولي النساء مع أنه لا ضرر فيهن بقتال ونحوه لا يسوغ إلا بعد العلم بإيمانهن ، وكان الختم بضفتي الغفران والرحمن مما جرأه على محاباة المؤمنين لعبض الكفار من أزواج أو غيرهم لقرابة أو غيرها لعلة يبديها الزوج أو غير لك من الأمور ، كرر سبحانه الأمر بالبراءة من كل عدو ، رداً لآخر السورة على أولها تأكيداً للإعراض عنهم وتنفيراً من توليهم كما أفهمته آية المبايعة وآية الامتحان ، فقال ملذذاً لهم بالإقبال بالخطاب كما فعل أولها بلذيذ العتاب : ( يا أيها الذين آمنوا ( .
ولما كان الميل عن الطريق الأقوام على خلاف ما تامر به الفطرة الأولى فلا يكون إلا عن معالجتها ، عبر بالتفعل كما عبر به أول السورة بالافتعال فقال : ( لا تتولوا ) أي تعالجوا أنفسكم أن تتولوا ) قوماً ) أي ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب الأولى ) غضب الله ) أي أوقع الملك الأعلى الغضب ) عليهم ( لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً .
ولما كان السامع لهذا يتوقع بيان سبب الغضب ، قال معللاً ومبيناً أنه لا خير فيهم يرجى وإن ظهر خلاف ذلك : ( قد يئسوا ) أي تحققوا عدم الرجاء ) من الآخرة ) أي من أن ينالهم منها خير ما لإحاطة معاصيهم بهم أو لعدم اعتقادهم لقيامها ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، فيوشك من والهم يكتب منهم فيحل بهم الغضب ) كما(7/568)
صفحة رقم 569
يئس ( من نيل الخير منها ) الكفار ( ولما كان من مات فصار أهلاً للدفن كشف له عن أحوال القيامة فعرف أنه ناج أو هالك ، وكان الموتى أعم من الكفار ، وموتى الكفار أعم ممن يدفن منهم فقال : ( من أصحاب القبور ( فإن الكفار منهم قد علموا يأسهم من حصول الخير منها علماً قطعياً ، ويجوز أن يكون ) من ( ابتدائية فيكون المعنى : كما يئس عباد الأوثان من لقاء من مات ، فدفن باعتقاد أنه لا اجتماع بينهم أصلاً لأنه لا يمكن بعثه لا إلا الدنيا ولا غلى الآخرة لأنه لا آخرة عندهم أصلاً لا سيما إن كان أيأسهم تغطية الدلائل مع وضوحها لو أنصفوا ، فلا تتولوا من هذه صفته فيكون بينكم وبينه ما بين القريب مع قريبه من تولى كل منهم من الآخر ما يتولاه القريب الصديق وسكناته لا يفلح هو ولا من تولاه ، وأقل ما في ولايته من الضرر أنها تنقطع المعاونة فيها ، والمشاركة بالموت وإن كان بعد الموت مشاركة ففي العذاب الدائم المستمر الذي لا ينقطع عنهم والخزي اللازم ، وقد علم أن هذا الآخر هو أولها ، وهذا الموصل مفصلها ، فسبحانه من أنزله كتاباً معجزاً حكيماً ، وقرآناً موجزاً جامعاً عظيماً .
.. .(7/569)
صفحة رقم 570
سورة الصف
وتسمى الحواريين .
مقصودها الحث على الاجتهاد التام في الاجتماع على قلب واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم ، بحملهم على الدين الحق ، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق ، تنزيها للملك الأعلى عن الشرك ، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك ، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم ، فهي نتيجة سورة التوبة ، وأدل عما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته ، وتدبر ما له من جليل النفع في أوله وأثنائه وغايته ، وكذا الحواريون ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له ، ) الرحمن ( الذي عم بنعمة البيان عما يرضيه ممن شاقه ، فقد شرع لكل أحد أن يرده أو يقبله ) الرحيم ( الذي خص بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله .
الصف : ( 1 - 4 ) سبح لله ما. .. . .
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( ( )
لما ختمت الممتحنة بالأمر بتنزيهه سبحانه عن تولي من يخالف أمره بالتولي عنهم والبراءة منهم اتباعاً لأهل الصافات المتجردين عن كل ما سوى الله لا سيما عمن كانوا غذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، افتتحت الصف بما هو كالعلة لذلك فقال : ( سبح لله ( اي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له ) ما في السموات ( من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك من جواهرها وأعراضها في طلوعها وأفولها وسيرها في ذهابها ورجوعها وإنشاء السحاب وإنزال المياه وغير ذلك .
ولما كان الخطاب مع غير الخلص أكده فقال : ( وما في الأرض ) أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار - وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار .(7/570)
صفحة رقم 571
ولما كان امتثال غير العاقل وعصيان العاقل ربما أوهم نقصاً قال : ( وهو ) أي وحده لا شريك له ) العزيز ) أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويعسر الوصول إليه ) الحكيم ) أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فما مكّن العاقل من المعصية إلا لإظهار صفات الكمال من العلم والقدرة والحلم والكرم والرحمة والغضب وغير ذلك ، وقد علم بهذا التنزيه وختم آيته بهاتين الصفتين أنه تعالى منزه عما تضمنه يأس الكفار المذكور من أنه لا بعث وعن أني يجعل سبحانه لهم حظاً في الآخرة لأن كلاًّ من عدم البعث والتسوية بين المسيء والمحسن نقص .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله
77 ( ) لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ( ) 7
[ الممتحنة : 13 ] وهم اليهود ، وقد تقدم الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه فإنه مما تعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك ، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء وهو الذي حد لهم في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة
77 ( ) يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ( ) 7
[ آل عمران : 167 ]
77 ( ) لياً بألسنتهم وطعناً في الدين ( ) 7
[ النساء : 46 ]
77 ( ) من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ( ) 7
[ المائدة : 41 ]
77 ( ) ويقولون آمنا بالله والرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم ( ) 7
[ النور : 47 ] وبمجموع هذا استجمعوا اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( ) 7
[ الصف : 2 ] احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب ، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن وفى قولاً وعقداً ولساناً وضميراً ، وثبت على ما أمر به فقال :
77 ( ) إن الله يحب الذي يقاتلون في سبيله صفاً ( ) 7
[ الصف : 4 ] الآية ثم تناسج ما بعد .
ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق الوصية وسبيل النصح والإشفاق ، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون بعد ما تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر ، وتأمل كم بين قوله سبحانه
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( ) 7
[ الممتحنة : 1 ] وما تضمنته من اللطف وبين قوله
77 ( ) لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ) 7
[ الصف : 2 ] انتهى .
ولما تقدمت في الممتحنة قصة الفتح الأعظم في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وجل منابذة الكفار بكل اعتبار علماً على صحة الهجرة وادعى التجرد لجهاد أعداء الله ، وقصة الفتح السببي من تحريم المؤمنات على المشركين وتحريم المشركين على المؤمنات في غزوة الحديبية ، وأبدى سبحانه في ذلك من الصنائع التي تعجز قوى الخلق عنها أن رتب ما في الفتح السببي على ما في الفتح الفعلي الحقيقي ، فجعل الأول .(7/571)
صفحة رقم 572
في الزمان آخر في الرتبة والآخر في الزمان أولاً في الرتبة مع شدة الإحكام في ترصيف النظام والبلوغ في الرشاقة والانسجام إلى حد لا يطيقه نوافذ الأفهام مع بداعة المعاني ومتانة المباني ، وكان فعل من ناصح الكفار ممن أمن بلسانه وأذعن بجنانه وهاجر بأركانه نوع مناصحة فعل من يقول مالا يفعل في منابذتهم والتجرد بعداوتهم ، فذكر أول هذه السورة من تنزيهه بألسنة أحوال ما لا يعقل ما يخجل المسلم بشيء من ذلك تأديباً لأمثاله ، وتدريباً لمن يلم بشء من المخالفة بباله ، وكان العاقل أولى من غيره بتنزيه جناب القدس بالطاعة ، فكيف إذا كان ممن أقر بالإيمان وتقلد عهدة الإذعان ، وكان من عصى منهم منادياً على نفسه بمخالفة قوله لفعله ، ومن نزهه حق تنزيهه لم يقصر في حق من حقوقه بتضييع شيء نم أوامره كما أن تنزيه ما لا يعقل بأن لا يخالف شيئاً من مراده ، قال مرهباً بنداء البعد والتوبيخ الذي من مبادئ الغضب والإنكار بالاستفهام والتعبير بما يفهم أدنى مراتب الإيمان : ( يأيها الذين آمنوا ) أي ادعوا الإيمان ) لم ( قال في الكشاف : هي لام الإضافة داخلة على ( ما ) الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام ، وإنما حذفت الألف لأن ( ما ) والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها بزيادة هاء السكت أو الإسكان ، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ، وقال الرضي في الموصول : إنها حذفت لأن لها صدر الكلام ولم يمكن تأخير الجار عنها فقدم وركب معها حتى يصير المجموع موضوعة للاستفهام ، فلا يسقط الاستفهام عن مرتبة الصدر ، وجعل حذف الألف دليل التركيب ) تقولون ) أي من دعوى الإيمان التي مقتضاها إلزام الإخلاص في جميع الأحوال ) ما لا تفعلون ) أي ما لا تصدقونه بالفعل الذي يكون بغاية الرغبة والقوة فتتخذوا العدو ولياً بالإقبال عليه وإرسال التنصح إليه وقد تلفظتم بالإيمان الذي يستلزم المعاداة لكل من كفر ، وخلف الوعد في نفسه قبيح ومع الخالق أقبح .
ولما كان ذلك مهلكاً ، رحم المخاطبين بتعظيمه لينجوا أنفسهم بالكف عنه فقال : ( كبر ( فقصد به التعجيب وهو تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا في أرم خارج عن نظائره وأشكاله ، وفسر ما قصد منه للدلالة على خلوصه في المقت بقوله : ( مقتاً ) أي عظم جداً وما أعظمه من بغض هو أشد البغض ، وزاد في تبشيعه زيادة في التنفير منه بقوله : ( عند الله ) أي الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم .
ولما أبلغ في تبشيعه تشوفت النفس إلى المسند إليه ذلك قال : ( أن تقولوا ) أي عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال قولكم ) ما(7/572)
صفحة رقم 573
لا تفعلون ( وقال القشيري : ويقال : لم يتوعد الله على زلة بمثل ما توعد على هذا - انتهى .
وكل ما ذكروه في سببها صالح للسببية قول بعضهم لو ندري أحب الأعمال إلى الله لاجتهدنا فيه ثم ولّوا يوم أحد ، وتوانى بعضهم في الجهاد ، وكون صهيب رضي الله عنه قتل يوم بدر رجلاً آذى المسلمين وأنكى فيهم وادعى غيره أنه قتله فأعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر وعبد الرحمن بن عوف لصهيب رضي الله عنهم : أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنك قتلته ، فقال صهيب رضي الله عنه : ( إنما قتلته لله ولرسوله ، فأخبر عمر وعبد الرحمن رضي الله عنهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( أكذلك أبا يحيى ( ، فقال : نعم يا رسول الله والتزام المنافقين أحكام الإسلام ، وتخلفهم إخلافاً في الأمور العظام ، وكذا قصة حاطب رضي الله عنه .
ولما عظم ما يكرهه بعد ما ألهب به من تنزيه غير العاقل ، فكان العاقل جديراً بأن يسأل عما يحبه لينزهه به ، قال ذاكراً الغاية التي هي أم جامعة لكل ما قبلها من المحاسن ، مؤكداً لأن الخطاب مع من قصر أو هو في حكمه : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) يحب ) أي يفعل فعل المحب مع ) الذي يقاتلون ) أي يوقعون القتال ) في سبيله ) أي بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه إيقاعاً مظروفاً للسبيل ، واللسان ، والإنسان بالسيف والسنان ) صفاً ) أي مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد .
ولما كان الاصطفاف يصدق مع التقدم والتأخرر اليسير نفى ذلك بقوله حالاً بعد حال : ( كأنهم ) أي من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المراكز ) بنيان ( وزاد في التأكيد بقوله : ( مرصوص ) أي عظيم الاتصال شديد الاستحكام كأنما رص بالرصاص فلا فرجة فيه ولا خلل ، فإن من كان هكذا كان جديراً بأن لا يخالف شيء من أفعاله شيئاً من أقواله ، فالرص إشارة إلى اتحاد القلوب والنيات في موالاة الله ومعاداة من عاداه المنتج لتسوية الصفوف في الصلاة التي هي محاربة الشيطان ، والحرب التي هي مقارعة حزبه أولى الطغيان ، والأفعال التي هي ثمرات الأبدان .(7/573)
صفحة رقم 574
الصف : ( 5 - 6 ) وإذ قال موسى. .. . .
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما كان التخلف عن أمر الله تعالى والغفلة عن شيء يؤدي تركه إلى التهاون به والإخلال بأدب من آدابه موجباً للكون في صف الشيطان ومفارقة حزب الرحمن ، فيكون أذى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيوجب ذلك الشقاء كله لأنه جدير بأن يجر إلى أكبر منه إلى أن تحيط الخطايا فتبيح الرزايا ، وكان للتذكير بالمشاهدات والأمور الواقعات ما ليس لغيره في التأجيب ومرجع الترهيب ، ذكر بما كان لبني إسرائيل ترهيباً من مثل حالهم ، لئلا يوقع في نكالهم ، حين تقاعسوا عما أمروا به من فتح بيت المقدس من الله تعالى غضب من فعلهم ذلك فسماهم فاسقين وضربهم بالتيه أربعين سنة ، وأمات في تلك الأربعين كل من توانى منهم في ذلك ، فلم يدخل إلى بيت المقدس منهم أحد ، فحرموا البلاد التي تقاعدوا عن فتحها ، وهي بعد مكة والمدينة خير بلاد الله تعالى ومهاجر أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومواطن أبويهما إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام وأنزه الأرض ، وأكثرها خيراً وأبركها ، مع ما كانوا فيه من لاضيق والنكد من التيه الذي هو طرد عن جناب الله بما اراد - بما أشار إليه التعبير عن زمنه بالسنين - إلى ما أبقوا بعدهم نم سوء الذكر وشناعة القالة إلى آخر الدهر فقال تعالى : ( وإذ ( عطفاً على ما تقديره : اذكروا ما فعل بعضكم - بما أشرت إليه أول هذه الآيات من الآداب من تنبيه الكفار بما قد يمنع من الفتح أو يكون سبباً في عسره أو في إهلاك خلق كثير من عباي الذي خلقتهم في أحسن تقويم من المؤمنين وغيرهم ، أو من الفرار من الكفار عند المقارعة ، أو التقاعس عن اللقاء عند البعث عليه ، فآذى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي أذاه من أذى الله فحلم عنكم ، وقبل بما له من بليغ الرحمة بكم والشفقة عليكم منكم ، وكان أنهى ما عاتبكم به مرسوله سبحانه النداء بما هو أدنى الأسنان في الإيمان في نظير إطلاقه على بني إسرائل الفسق بالوصف المؤذن بالرسوخ : واذكروا حين ) قال موسى لقومه ( وهم - مع كونه منهم - ممن له قوة على ما يحاولونه : ( يا قوم ( استعطافاً لهم واستنهاضاً إلى رضى ربهم ) لم تؤذونني ) أي تجددون إذائي مع الاستمرار بالتواني في أمر الله والتقاعد عن فتح بيت المقدس مع قولي عن الله أنكم فاتحوها إن أطعمتموه وأن الله أقسم لآبائكم أنه ما نحكموها لا محالة .
ولما كان هذا الاستفهام الإنكار موجباً لتوقع ما يأتي بعده من موجب التعظيم(7/574)
صفحة رقم 575
بدل الأذى ، والتبيجيل والانقياد موضع التوقف والإباء ، قال محققاً بحرف التحقيق مضمون الكلام : ( وقد ) أي والحال أنكم ) تعلمون ) أي علمتم قطعياً مع تجدده لكم في كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات وبالكتاب الحافظ لكم من الزيغ ) أني رسول الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ورسوله أيضاً يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم ) إليكم ( لا أقول لكم شيئاً إلا عنه ، ولا أنطق عن الهوى ، فعصياني عصاينه مع أني ما قلت لكم شيئاً إلا تم ، وإن كنتم قاطعين بخلافه فهي معصيته لا حامل عليها أصلاً إلا رداءة الجبلات .
ولما تحنن إليهم واستعطفهم وذكرهم ما يعلمون من رسليته وصلته بالله بما شاهدوا من الآيات التي هي أعظم الإحسان إليهم ، أعلم أنهم أوشكوا العصيان ، فقال معبراً عن ذلك بالفاء تسبيباً عن هذا القول الذي هو أهل لأن يسبب الثبات وتعقيباً وتقريباً : ( فلما زاغوا ) أي تحقق زيغهم عن قرب عن أوامر الله في الكتبا الآتي إليهم بما أبوا من قبول أمره في الإقدام على الفتح ) أزاغ الله ) أي الذي له الأمر كله ) قلوبهم ( من الاستواء ، وجمع الكثرة يدل على أنه لم يثبت منهم إلا القليل فهزمهم بين يدي أعدائهم وضربهم بالتيه لأنهم فسقوا عن أمر الله ) فالله ( - لا يهديهم ، فأسند الذنب إليهم والعقوبة إليه وإن كان الكل فعله تعليماً لعباده الأدب وإعلاماً بأن أفعالهم الاختيارية ينسب إليهم كسبها ويقوم به الحجة عليهم لعدم علمهم بالعاقبة ) والله ) أي الملك الأعظم الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال ) لا يهدي ) أي بالتوفيق بعد هداية البيان ) القوم الفاسقين ) أي العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة فلم يحملهم على الفسق ضعف ، فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم - انتهى .
ولما كان أذى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمخالفة أمره تارة يكون مع العلم برسالته والإقرار بها وتارة مع الإنكار ، وقدم العتاب على ما كان منه على تقدير التصديق ، وذكر فيه بقصة موسى عليه الصلاة والسلام الذي كانوا يؤذونه مع العلم برسالته ، وهدد بما اتفق لهم من زيغ القلوب التي هي عماد الأبدان وصلاح الإنسان ، أتبعه ما يكون منه عند فرض الإنكار .
ولما كان رد المنكر تارة بالعقل وتارة بالنقل ، وكان الذي بالعقل يكون بنظر المعجزات ولا سيما إخراج الخبأ وقد كان منه في قصة حاطب رضي الله تعالى عنه في إخراج كتابه الذي اجتهد في إخفائه واجتهدت الظعينة الحاملة له في كتمانه ما فيه مقنع في العلم بالرسالة وتحقق الجلالة ، أتبع ذلك دليلاً نقلياً تأييداً للعقل مع كونه دليلاً على صحة الإخبار بإزاغة قلوب بني إسرائيل جزاء على زيغهم عن الحق فقال : ( وإذ ) أي واذكروا حين ) قال عيسى ( ووصفه بما حقق من هو فقال : ( ابن مريم ) أي لقوم(7/575)
صفحة رقم 576
موسى عليهما الصلاة والسلام الذين أرسل إليهم وثبتت نبوته لديهم بالمعجزات مع إخلاص الدعوة لله وتصديق من كان قبله من أهل الله : ( يا بني إسرائيل ( وذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما وصى به نبيه من التمسك بالإسلام ، ولم يعبر بالقوم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم ، فإن النسب إنما هو من جهة الأب ، وأكد لإنكار بعضهم فقال : ( إني رسول الله ) أي الملك الأعظم الذي أحاط علمه بكل شيء ) إليكم ) أي لا إلى غيركم ، حال كوني ) مصدقاً ( نصبه بما في الرسول من رائحة الفعل ولا ينصب ب ( إليكم ) لأنه صفة للرسول ، وحروف الجر لا تعمل بأنفسها بل بما فيها من معنى الفعل ، فإذا كانت صلات لم تكن متضمنة لمعنى فعل فلا تعمل ، وهو الحرف الذي يسمى في غير ( الكتاب العزيز ) لغواً ) لما بين يدي ) أي تقدمني وكان من قبلي ) من التوراة ( التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه الصلاة والسلام وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون ، فتصديقي لها مع تأييدي لها مؤيد لأن ما أقمته من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منه كما يستدل الإنسان بما قدامه من الأعلام ويراعيه ببصره .
ولما ذكر أول الكتب ذكر أيضاً أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً وهو آخر الرسل ليكون في ذلك إشارة إلى أن البشراة به في التوراة والإنجيل فقال : ( ومبشراً ) أي في حال تصديقي للتوراة .
ولما كانت رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) عامة لجميع الخلق لم يذكر في رسالته حرف الغاية كما ذكر في الرسالتين المذكورتين قبل فقال : ( برسول ) أي إلى كل من شملته المربوبية ) يأتي ( ولما كان إتيانه بعده بمدة طويلة أدخل الجار فقال : ( من بعدي ( ولما كان الإتيان بغاية البيان وإزاحة اللبس بكل اعتبار أقعد في العتاب لمن هفا بعده والأخذ لمن جفا فنقض عهده ، أتى بالاسم الذي ما شارك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه أحد في زمانه ولا قبله أصلاً ، ووزنه دال على المبالغة في معناه فقال : ( اسمه أحمد ) أي دال على أنه أبلغ الخلق حامداً ومحموداً وهو اسمه ( صلى الله عليه وسلم ) في السماء التي سيصير إليها هذا المبشر ، وفي تخصيصه بالذكر احتراز عن أن يتوهم أن البعدية في الرتبة لأنه يليح بتصديره بالهمزة التي هي أول الحروف مخرجاً وأشد حروف الحلق الذي هو أول المخارج وتضمينه الميم إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كما أنه خاتم بما أشار إليه أشهر أسمائه وأعظمها ( محمد ) لابتدائه المخارج ، لا نبي بعده فهو فاتح مقدم باعتبار الذكر والشرف والحكم بالوصف الشريف لا نبي قبله في الخلق وجبت له النبة وإن آدم لمنجدل في طينه وبين الروح والجسد كما(7/576)
صفحة رقم 577
في الحديث الذي أخرجه أحمد عن ميسرة الفجر رضي الله عنه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في أول دلائل النبوة وقال : إن معناه أنه كذلك في قضاء الله وتقديره ، وكأنه يريد قضاء مكتوباً في أم الكتاب ومذكوراً لمن أراد من الملائكة قبل إتمام خلق آدم عليه الصلاة والسلام فإنه يحتمل أنه سبحانه وتعالى لما صور آدم عليه الصلاة والسلام جعل طينته شفافة تشف عن ذريته وجعل لصالحيهم نوراً يرى دون غيره ، فلما رأوا أعظمهم نوراً سألوا عنه فأخبرهم سبحانه وتعالى به وأثبت ما أراد من أوصافه في أم الكتاب كام أنه كان نبياً بالإخبار في دعوة أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وببشارة عيسى ابن مريم عليه الصلاة ولاسلام وبأمارات النور الذي خرج من أمه كما في الحديث الذي رواه البيهقي في الدلائل وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه ( إني عبد الله وخاتم النبيين ) وفي رواية ( إني عبد الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم عن ذلك ؛ دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي ، وكذلك أمهات النبيين يرين ) وأن أم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام ، فتأويل ذلك بذكره سبحانه له لملائكته مثل تأويله بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى حكاية عنه
77 ( ) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ( ) 7
[ البقرة : 129 ] وبشارة عيسى مثل تأويله بالنور الذي يحتمل أن يكون الملائكة عيلهم السلام ( رأوا في شفاف طينة آدم عليه السلام والله سبحانه وتعالى أعلم .
وكانت سورة القتال أحق باسمه الدال على الختم لأن الختام محتاج إلى علاج في لأم ما كان من نصدع الافتراق ، وكذا سورة الفتح لما يلزمه من محاولة المنغلق وإزالة الأغلاق ، وختام السورتين بالميم عظيم المناسبة لذلك لأن الميم اسم لتمام الظاهر المقام بالألف ، وإلى ذلك إشارة رسم ألف التنوين في الفتح(7/577)
صفحة رقم 578
بعد الميم مع أنه لا يخلو من إشارة إلى أنه الفاتح مع كونه الخاتم ، ويؤيد ذلك افتتاح السورة بأول حروف الاسم المليح إلى التفح ، وكانت هذه السورة أحق به لأنه أدل دال على الاتفاق واجتماع الكلمة دون اختلاف وافتراق ، كما كان عند نزول آدم عليه الصلاة والسلام وبعده بمدة ، وإلى ذلك اشار ختمها وختم نظيرتها الصافات بالنون الذي هو مظهر مبين محيط بما أظهره ، فهو مبشر لهذه الأمة بالاجتماع والظهور على الاسم الذي يحيط اخره بجميع أهل الأرض على زمن المبشر عيسى عليه السلام المؤيد للمبشر به بتجديد أمره وإقامة دينه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وآخر هذه نتيجة آخر الصافات بالحمد الذي هو الإحاطة بأوصاف الكمال - والله تعالى أعلم بالصواب ( .
ذكر ما يصدق هذه الآية من الإنجيل من تصديقه للتوارة
وبشارته بأحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : وكان رجل مريض اسمه العازر من بيت عنيا وهو أخو مريم ومرتا ، فأرسلت الأختان إلى يسوع أن الذي تحبه مريض ، فأقام في الموضع الذي هو فيه يومين ثم قال تلاميذه : امضوا بنا إلى اليهودية ، فقال له تلاميذه : الآين يا معلم أراد اليهود رجمك وأنت تريد المضي إليهم ، فقال : إن العازر حبيبنا قد نام ، فأنا انطلق فاوقظه ، فقال : يا سيدنا ، إن كان نائماً فهو يستيقط فقال العازر مات ، فأقبلوا إلى بيت عنيا ، فإذا له أربعة أيام في القبر وكانت بيت عنيا من يروشليم على نحو خمسة عشرة غلوة ، وكان كثير من اليهود قد جاؤوا إلى مرتا ومريم يعزوهما ، فلما سمعت مرتا بقدوم يسوع خرجت لتلقاه فقالت له : يا سيد ، لو كنت ههنا لم يمت أخي وأنا أعلم أن الله يعطيك كل ما سألته ، قال : سيقوم أخوك ، قالت : أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة ، ثم جاءت مريم للقائه ، فظن اليهود الذين كانوا يعزونها أنها تذهب إلى القبر فتبعوها ، فلما انتهت إلى المكان الذي كان فيه يسوع خرت على قدميه ساجدة ، فلما رآها تبكي ورأى اليهود الذين كانوا معها قال : أين وضعتموه ؟ فقالوا له : يا سيد ، تعالى وانظر ، فدمع يسوع فقال اليهود : انظروا كيف كان يحبه ، فقال ناس منهم : أما كان هذا الذي فتح عيني الأعمى يقدر أن يجعل هذا لا يموت ، فجاء إلى القبر وكان مغارة وعليه وعليه حجر موضع فقال : ارفعوا الصخرة ، فقالت له مرتا أخت الميت : يا سيد ، إنه قد انت لأن له أربعة أيام ، قال لها يسوع : ألم أقل لك إن آمنت رأيت مجد الله ، فرفعوا الصخرة فرفع يسوع بصره إلى فوق وقال : أشكرك ، لأنك تسمع لي ، أقول هذا من أجل هذا الجمع ليؤمنوا أنك أرسلتني ، قال هذا القول ونادى بصوت عظيم وصاح : عازر اخرج ، فخرج الميت ويداه ورجلاه ملفوفة باللفائف ووجهه ملفوف بعمامة ، فقال يسوع : حلوه ودعوه يمضي ، وإن كثيراً من اليهود الذين جاؤوا إلى مريم لما رأوا ما صنع يسوع آمنوا ، (7/578)
صفحة رقم 579
ومضى قوم منهم إلى الفريسيين فأخبروهم ، فجمع عظماء الكهنة والفريسيون محفلاً فقالوا : ماذا نصنع إذ كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة وإن تركناه فيؤمن به جميع الناس وتأتي الروم فتنقلب على أمتنا وموضعنا ، وإن واحداً منهم اسمه قيافاً كان أعظم الكهنة في تلك السنة قال لهم : إنه خير لنا أن يموت واحد في الشعب من ان تهلك الأمة كلها - إلى آخر مامضى في النساء عند قوله تعالى :
77 ( ) وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ( ) 7
) النساء : 157 ] الآيات ، نرجع إلى متى قال : حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا ليصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم والهردوسيين قائلين : يا معلم ، قد علمنا أنك محق وطريق الله بالحق تعلم ولا تبالي بأحد ولا تنظر لوجه إنسان فقل لنا ما عندك ، أيجوز لنا أن نعطي الجزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع شرهم فقال : لماذا تجربوني يا مراؤون أروني دينار الجزية ، فأتوه بدينار فقال لهم يسوع : لمن هذه الصورة والكتابة ؟ فقالوا : لقيصر ، حينئذ قال لهم : أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا ، وقال يوحنا : فقال يسوع : أنا ماكث فيكم زماناً يسيراً ، ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدوني ، وحيث أكون أنا لستم تقدرون على المجيء إلي فقال اليهود فيما بينهم : إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده ، لعله مزمع أن قيامة ، وسألوه - فذكر سؤالهم وجوابه لهم إلى أن قال في آخر جوابه : أما قرأتم ما قيل لكم من الله ، وقال مرقس : في سفر موسى قول الله على العوسج إذ قال : أنا هو إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب وأنتم تضلون كثيراً ، وعبارة لوقا : فقد نبأ بذلك موسى في العليقة كما قال الرب : أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ، وقال متى : فلما سمع الجمع بهتوا من تعليمه ، فلما سمع ذلك الفريسيون أنه قد أبكم الزنادقة اجتمعوا عليه جميعاً وسأله كاتب منهم ليجربه قائلاً ، يا معلم أي الوصايا أعظم في الناموس ؟ قال له يسوع : تحب الرب إلهك من كل قلبك ، وقال : اسمع ، يا إسرائيل ، الرب إلهك واحد هو ، تحب إلهك من كل قلبك - انتهى ، ومن كل نفسك ومن كل فكرك ، هذه الوصية الأولى العظيمة ، والثانية التي تشبهها أن تحب قريب مثل نفسك ، قال مرقس : ليس وصية أعظم من هاتين - انتهى ، في الوصيتين سائر الناموس والانبياء يتعلق ، قال مرقس : فقال له الكاتب : فحينئذ يا معلم الحق قلت أنه واحد ليس آخر غيره ، وأن تحبه من كل القلب ومن كل النية ومن كل النفس ومن كل القوة ، وتحب القريب مثلك ، هذه أفضل من جميع الذبائح والمحترقات ، فلما رأى يسوع عقله أجابه قائلاً : لست بعيدا من ملكوت الله ، وقال لوقا : فقال ليسوع : ومن هو قريبي ؟ قال يسوع : كان رجل نازلاً من(7/579)
صفحة رقم 580
يروشليم إلى أريحا ، فوقع بين اللصوص فسلبوه وجرحوه ومضوا وتركوه مثخناً قريب الموت ، واتفق ان كاهناً نزل في تلك الطريق فأبصره وجاز ، وكذلك لاوي جاء إلى المكان فأبصره وجاز ، وإن سامرياً جاز به ، فلما رآه تحنن ودنا منه وضمد جراحاته وحمله على دابته وجاء به إلى الفندق وعني بأمره ، وفي الغد أخرج بدينارين أعطاهما فمن من هؤلاء الثلاثة تظن أنه قد صار قريباً للذي وقع بين اللصوص ، فقال له : الذي صنع معه رحمة ، فقال له يسوع : اذهب أنت وافعل هكذا ، وقال مرقس : فلم يتجرأ أحد أن يسأله ثم قال : وكانت جماعة كثيرة يسمعون منه بشهوة ، وقال يوحنا : وآمن باسمه عند كونه بإيروشليم في عيد الفسح كثير لأنهم عاينوا الآيات التي عمل ، ثم قال : وكان رجل من الفريسيين اسمه نيقوديميس رئيساً لليهود أتى إلى يسوع ليلاً وقال له : يا معلم نحن نعلم أنك من الله أتيت معلماً لأنه ليس بقدر أحد أن يعمل هذه الآيات التي تعمل أنت إلا من كان الله معه ، قال متى : وحينئذ كلم يسوع الجمع وتلاميذه وقال : على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون وكل ما قالوه لكم احفظوه أنتم وافعلوه ، ومثل أعمالهم لا تصنعوا لأنهم يقولون ولا يفعلون ، لأنهم يربطون أحمالاً ثقالاً صعبة الحمل لكي يراؤوا الناس ، يعرضون أرديتهم ويعظمون أطراف ثيابهم ، ويحبون أول الجماعات في الولائم وصدور المجالس في المجامع والسلام في الأسواق ، وأن يدعوهم الناس معلمين ، فأما أنتم فلا تدعوا لكم معلماً على الأرض ولا مدبراً فإن مدبركم واحد هو المسيح ، وأنتم جميعاً إخوة ، ولا تدعوا لكم أباً على الأرض فإن أباكم واحد ، هو الذي في السماوات ، والكبير الذي فيكم يكون لكم خادماً ، فمن رفع نفسه اتضع ، ومن وضع نفسه ارتفع ، الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون ، لأكلكم بيوت الأرامل والأيتام ، لعلة تطويل صلاتكم ، ومن أجل هذا تأخذون أعظم دينونة ، الويل لكم أنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون ، الويل لكم أنكم تطوفون البر والبحر لتصطفوا غريباً واحداً ، فإذا صار صيرتموه لجهنم ابناً مضعفاً ، لكم الويل يا أيها الهداة العيمان الذين يقولون : من حلق بالهيكل فليس عليه شيء ، ومن حلف بذهب الهيكل يخطىء ، أيها الجهال العمي أيما أعظم ؟ الذهب أن الهيكل الذي يقدس الذهب ، ومن حلف بالمذبح فلا شيء ، ومن خلف بالقربان الذي فوقه فهو يخطىء يا جهال وعميان ، أيما أعظم ؟ القربان أم المذبح الذي يقدس القربان ؟ ومن حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما فوقه ، ومن حلف بالهيكل فهو يحلف به وبالساكن(7/580)
صفحة رقم 581
فيه ، ومن حلف بالسماء فهو يحلف بكرسي الله وبالجالس عليه ، الويل لكم أنكم تعشرون الشبث والنعنع والكمون وتتركون أثقل الناموس الحكم والرحمة والإيمان ، وقال لوقا : تعشرون النعنع والسداب وكل البقول ، وترفضون حكم الله ومحبته ، قد كان ينبغي أن تعقلوا هذا ولا تغفلوا عن تلك - انتهى ، يا هداة عيمان الذين يتركون البعوضة ويبلغون الجمل ، الويل لكم أنكم تنقون خارج الكأس والسكرجة وداخلهما مملوء اختطافاً وظلماً ، أيها الأعمى ، نق أولاً داخل الكأس والسكرجة لكيما يتطهر خارجهما ، وقال لوقا : اعطو الرحمة فكل شيء يتطهر لكم - الويل لكم لأنكم لا تشبهون القبور المكلسة التي ترى من خارجها حسنة وداخلها مملوء عظام الأموات وكل نجس ، وقال لوقا : لأنكم مثل القبور المخفية والناس يمشون عليها ولا يعلمون - انتهى .
وكذلك أنتم ترون الناس ظواهركم مثل الصديقين ، ومن داخل ممتلئون إثماً ورياء ، قال لوقا : وأنتم أيها الكتبة الويل لكم لأنكم تحملون أوساقاً وأثقالاً وأنتم لا تدنون منها بإحدى أصابعكم ، الويل لكم لأنكم أخذتم مفاتيح الغرفة فما دخلتم ، ومنعتم الذين يريدون الدخول - انتهى ، الويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء ، قال لوقا : الذين قتلهم آباؤكم - انتهى ، وتزينون مدافن الصديقين وتقولون : لو كنا فيأيام آبائنا لم نشاركهم في دم الأنبياء ، فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء إنكم تكملون مكيلة آبائكم ، أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم ، من أجل هذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فتقتلون منهم وتصلبون وتجلدون منهم في مجامعكم وتطردونهم من مدينة إلى مدينة لكي يأتي عليكم دم الصديقين المسفوك على الأرض ، وقال لوقا : وأنتم تشهدون وتسرون بأعمال آبائكم لأنهم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم ، ولهذا قالت حكمة الله : هوذا أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردونهم لينتقم عن دم جميع الأنبياء الذي أهريق من أول العالم إلى هذا الجيل .
وقال متى : من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن براشيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح ، الحق أقول لكم إن هذا كله يأتي على هذا الجيل ، يا أورشليم ، يا قتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك فيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا ، هوذا يترك بينكم لكم خراباً ، أنا أقول لكم : إني لا تروني من الآن حتى تقولوا : مبارك الآتي باسم الرب ، وقال مرقس : ثم جاء يسوع عند باب الخزانة ينظر الجمع يلقي نحاساً في الخزانة وأغنياء كثير ألقوا كثيراً ، فجاءت امرأة أرملة مسكينة ، فألقت فلسين فاستدعى تلاميذه وقال لهم : الحق أقول لكم ، إن هذه الأرملة المسكينة ألقت أكثر من الكل الذين ألقوا في الخزانة ، لأن الكل القوا من فضل ما عنده ، وهذه ألقت مع مسكنتها كل ما لها ، ثم(7/581)
صفحة رقم 582
خرج من الهيكل - انتهى .
هذا ما فيه الدلالة على الرسالة وتصديق التوراة ، وأما البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد تقدم في هذا الكتاب مفرقاً في السور كالأعراف والنساء وغيرهما ، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة النبوية جمع ابن إسحاق ، قال ابن إسحاق : وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام فيما جاءه من الله تعالى في الانجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم أنه قال : من أبغضني فق أبغض الرب ، ولولا أني صنعت بحرضتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ، ولكن من الآن بطروا وظونوا أنهم يعزونني وأيضاً للرب ولكن لا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً أي باطلاً فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس هذا الذي من عند الرب خرج فهو شهيد عليّ وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي في هذا قلت لكم لكي لا تشكوا .
فالمنحمنا بالسريانية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بالرومية البارقليطس - انتهى .
ولما تم الدليل النقلي على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى كونه أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم ، دل على إلزام بني إسرائيل الزيغ فقال : ( فلما جاءهم ) أي عيسى أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بني إسرائيل وغيرهم ) بالبينات ) أي من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها ومن الكتاب المبين ) قالوا ) أي عند مجيئها سواء من غير نظرة لتأمل ولا غيره : ( هذا ) أي المأتي به من البينات أو الآتي بها على المبالغة كما دل عليه قراءة حمزة ( ساحر ) إشارة بالإشارة إلى القريب بعد الإشارة - بفاء التعقب إلى شدة اتصال الكفر بأول أوقات المجيء : ( سحر ( فكانوا أول كافر به ، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك وهم بمفردهم أو منضماً إليهم غيرهم ) مبين ) أي في البيان في سحريته حتى أن شدة ظهوره في نفسه لكل من رآه أنه سحر عناداً منهم ومكابرة للحق الذي لا لبس فيه .
الصف : ( 7 - 9 ) ومن أظلم ممن. .. . .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ( )
ولما كان التقدير إعلاماً بأنهم أظلم الناس لتعمدهم للكذب : فمن أظلم منهم لتهتكهم في ذلك ، عطف عليه قوله : ( ومن أظلم ( وعم كل من اتصف بوصفهم فقال : ( ممن افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الملك الأعلى ) الكذب ( الذي هو أقبح الأشياء ) وهو ) أي والحال أنه ) يدعى ) أي من أي داع كان ) إلى الإسلام ( الذي هو(7/582)
صفحة رقم 583
أحسن الأشياء فيكفي في الدعاء إليه أدنى تنبيه لأنه الاعتراف بالحق لمن هو له ، فيجعل مكان الإجابة افتراء الكذب في تلك الحالة الحسنى .
ولما كان التقدير : فهو لا يهديه الله لأجل ظلمه ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ) لا يهدي القوم ) أي لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المحاولة للأمور الصعاب ) الظالمين ) أي الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام .
ولما أخبر عن درهم للرسالة ، علله بقوله : ( يريدون ) أي يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم ) ليطفئوا ) أي لاجل أن يطفئوا ) نور الله ) أي الملك الذي لا شيء يكافيه ) بأفواههم ) أي بما يقولون من الكذب لا منشأ له غير الأفواه لأنه لا اعتقاد له في القلوب لكونه لا يتخيله عاقل ، فهم في ذلك كالنافخين في الشمس إرادة أن يمحو نفخهم عينها وينقص شينهم زينها ، فمثل إرادتهم لإخفاء القرآن بتكذيبهم وجميع كيدهم بمن يريد إطفاء الشمس بنفخه فهو في أجهد وأضل الضلال :
وفي تعب من يسحد الشمس ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب
فأفاد قصر الفعل أن إرادتهم كلها مصورفة لهذا الغرض وأنه لا إرادة لهم غير ذلك وأنه لا ينبغي أن يكون لهم إرادة لأنهم عبيد ، والإرادة لا ينبغي إلا للسيد ليكون إرادة العبد تابعة لها ، فتكون امتثالاً لإرادته ، فكأنه لا إرادة له ، فهو أبلغ مما في براءة لأن هذه نتيجتها .
ولما أخبر بعلة إرادتهم وأشار إلى وهي أمرهم بعد أن أخبر بردهم للحق وجرأ عليهم بالإخبار بإضلالهم ، زاد ذلك بقوله مظهرا غير مضمر تنبيهاً على جميع صفات الجلال والإكرام : ( والله ) أي الذي لا مدافع له لتمام عظمته .
ولما كانت هذه السورة نتيجة سورة براءة التي أخبر فيها بأنه يأبى إلا إتمام نوره ، أخبر في هذه بنتيجة ذلك وهي ثبات تمام النور ودوامه ، لأن هذا شأن الملك الذي لا كفوء له إذا أراد شيئاً فكيف إذا أرسل رسولاً فقال : ( متم ( وهذا المعنى يؤيد قول الجمهور أنها مدينة بعد التأييذ بذكر الجهاد ، فإن فرضه كان بعد الهجرة من والظاهر نم ترتيبها على الممتحنة التي نزلت في غزوة الفتح أنها بعد براءة في النزول أيضاً .
ولما كان النور لإظهار صور الأشياء بعد انطماسها سبباً لوضع الأشياء في أتقن مواضعها ، وكان ما اتى من عند الله من العلم كذلك ، جعل عينه فأطلق عليه اسمه فقال : ( نوره ( فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه ، وزاد ذلك بقوله : ( ولو(7/583)
صفحة رقم 584
كره ) أي إتمامه له ) الكافرون ) أي الراسخون في صفة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه .
ولما أخبر بذلك ، علله بما هو شأن كل ملك فكيف بالواحد في ملكه فقال : ( هو ) أي الذي ثبت أنه جامع لصفات الجمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير ) الذي أرسل ( بما له نم القوة والأرادة ) رسوله ( اي الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته ، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى ) بالهدى ) أي البيان الشافي ) ودين الحق ) أي الملك الذي ثباته لا يدانيه ثبات ، فلا ثبات لغيره ، فثبات هذا الدين بثباته ، ويجوز أن يكون المعنى : والدين الذي هو الحق الثابت في الحقية الكامل فيها كمالاً ليس لغيره ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته إشارة إلى شدة التباسه بها ) ليظهره ) أي يعليه مع الششهرة وإذلال المنازع ) على الدين ) أي جنس الشريعة التي تجعل ليجازي من يسلكها ومن يزيغ عنها ، بها يشرع فيها من الأحكام ) كله ( فلا يبقى دين إلا كان دونه وانمحق به وذل أهله له ذلاً لا يقاس به ذل ) ولو كره ) أي إظهاره ) المشركون ) أي المعاندون في كفرهم الراسخون في تلك المعاندة ، وأعظم مراد بهذا أهل العناد ببدعة الاتحاد ، فإنهم أم تركوا شيئاً مما سواه حتى أشركوا به - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، - وهم مع بعد نحلتهم من العقول وفسادها من الأوهام ومصادمتها لجميع النقول في غاية الكثرة لمصير الناس إلى ما وعد الله ورسوله - وصدق الله ورسوله - من أن أكثره قد مرجت عهودهم وخفيت أماناتهم وصاروا حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم ، لكنهم على كثرتهم بما تضمنته هذه الآية في أمثالها في غياة الذل ولله الحمد لا عز له إلا بإظهار الاتباع للكتاب والسنة وهم يعلمون أنهم يكذبون في هذه الدعوى لأنهم في غاية المخالفة لهما بحيث يعتقدون أنهما شرك لإثباتهما لله تعالى وجوداً يخالف وجود الخلق وهم يقولون مكابرة للضرورة أن الوجود واحد وأنه لا موجود ظاهراً وباطناً سواه ، ولذلك سموا الوجود به ثم لا يردهم علمهم بذلهم وأنهم لا عز لهم إلا بحمى الشريعة عن ضلالهم فأعجب لذلك وألجأ إلى الله تعالى بسؤال العافية ، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، وضربهم بالذل مع كثرتهم في غاية الدلالة على الله سبحانه لأن الملك الكامل القدرة لايقر من يطعن في ملكه ويسعى فر رد رسالته وإهانة رسله ولقد أنجز سبحانه كثيراً من وعده بما دل - لكونه تغليباً على أقوى الملوك من الأكاسرة والقياصرة - على لاقدرة على الباقين ، وذلك أنه لما تقاعد قومه عن نصرته وانتدبوا(7/584)
صفحة رقم 585
لتكذيبه وجحد ما شاهدوه من صدقه يسر الله له أنصاراً من أمته هم نزاع القبائل وأجاد الأفاضل وسادات الأماثل فبلغوا في تأييده أقصى الأمل .
الصف : ( 10 - 11 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما أنتج هذا كله نصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على كل حال ودمار من يخالف أمره ، أنتج قطعاً أن الجهاد معه متجر رابح لأن النصر مضمون ، والموت منهل لا بد من وروده سواء خاض الإنسان الحتوف أو احترس في القصور المشيدة ، فقال تعالى في أسلوب النداء والاستفهام لأنه أفخم وأشد تشويقاً بالأداة التي لا يكون ما بعدها إلا بالغاً في العظم إلى النهاية : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي قالوا في إقرارهم بالإيمان ما عليهم أن يفعلوا بمقتضاه ) هل أدلكم ( وأنا المحيط علماً وقدرة ، فهي إيجاب في المعنى ذكر بلفظ الاستفهام تشويقاً ليكون أوقع في النفس فتكون له أشد تقبلاً ، والآية أيضاً نتيجة ما مضى باعتبار آخر لأنه لما وبخ على انحلال العزائم واخبر بما يجب من القتال ، وبكت على أذى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمخالفة ، وأبخر أن من خالفه لا يضر إلا نفسه ، كان موضع الاستباق في طاعته فرتب عليه الاشتياق إلى ذكر ثمرته فذكرها ، ولما كان فعل حاطب رضي الله عنه لأجل أنه لا نجاح أهله الذين كانوا بمكة في أنفسهم ولا في شيء من مالهم ، وكان هذا في معنى التجارة قال : ( على تجارة ( وقراءة ابن عامر ) تنجيكم ( بالتشديد أنسب لهذا المقام من قراءة الجماعة بالتخفيف ، وقراءة الجماعة أنسب لمقصود حاطب رضي الله عنه ) من عذاب أليم ( بالإجاحة في النفس أو المال .
ولما كان الاتجار إجهاد النفس في تحصيل الربح النافع ، وكان الإيمان والجهاد أعظم إجهاد النفس في تحصين - الجنة الباقية التي لا ريح توازيها ، فاستعار لهما اسمها ، وكان جواب النداء الإقبال وجواب الاستفهام نعم ، عدوا كأنهم أقبلوا وأنعموا تنبيهاً على ما هو الأليق بهم ، فاستأنف لهم بيان التجارة بأنه الجمع بين الإيمان الذي هو أساس الأعمال كلها ، والجهاد بنوعيه المكمل للنفس والمكمل للغير فقال : ( تؤمنون ) أي آمنوا بشرط تجديد الإيمان على سبيل الاستمرار ) بالله ( الذي له جميع صفات الكمال ) ورسوله ( الذي تصديقه آية الإذعان المعنوية والخضوع لكونه ملكاً ) وتجاهدون ) أي وجاهدوا بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار .
ويدل على أنهما بمعنى الأمر ما أرشد إليه جزم ما أقيم في موضع الجواب مع قراءة عبد الله ر ضي الله عنه : آمنوا وجاهدوا - بصيغة الأمر ) في سبيل الله ) أي بسبب تسهيل طريق الملك الأعظم الموصل إليه الذي لا أمر لغيره بحيث يكون ظرفاً لكم في جميع هذا الفعل فلا شيء(7/585)
صفحة رقم 586
يكون منه خارجاً عنه ليكون خالصاً بفتح بلد الحج ليسهل الوصول إليه من كل من أراده وغير ذلك من شرائعه فتكونوا ممن يصدق فعله قوله ، وهذا المعنى لا وقفة فيه لأنه فرق بين قولنا : فلان فعل كذا - الصادق بمرة ، وبين قولنا بفعله الدال على أن فعله قد صار ديدناً له ، فالمعنى : يا من فعل الإيمان إن أردتم النجاة فكونوا عريقين في وصف الإيمان حقيقين به ثابتي الإقدام فيه وأديموا الجهاد دلالة على ذلك فإن الجهاد لما فيه من الخطر والمشقة والضرر أعظم دليل على صدق الإيمان ، ويؤيد ذلك أن السياق لقصة حاطب رضي الله عنه المفهمة في الظاهر لعدم الثبات في الإيمان وإرادة الجهاد الدال على المصدق فيه ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال - والله الهادي .
ولما كان الجميع بين الروح وعديلها المال على وجه الرضى والرغبة أدل على صحة الإيمان ، قال : ( بأموالكم ( وقدمها لعزتها في ذلك الزمان ولأنها قوام الأنفس والأبدان ، فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه لأن المال قوامها .
ولما قدم اقوم أتبعه القائم به فقال : ( وأنفسكم ( ولما أمر بهذا في صيغة الخبر اهتماماً به وتأييداً لشأنه ، أشار إلى عظمته بمدحه قبل ذكر جزائه ، فقال : ( ذلكم ) أي الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد ) تعلمون ) أي إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت من الأوقات فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم ، فإذا علمتم ، أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم ، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحها فصلوا على أنفسكم صلاة الموت .
الصف : ( 12 - 14 ) يغفر لكم ذنوبكم. .. . .
) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( ( )
ولما كان معنى ( تؤمنون ) : فالأمر كما تقدم ، لكنه حول عن ذلك لما ذكر ، وكان أهم ما إلى الإنسان خوفه مما هدد عليه ، أمن سبحانه من ذلك دالاً على اصل الفعل بجزم ما هو في موضع الجواب فقال : ( يغفر لكم ) أي خاصة دون من لم يفعل ذلك ) ذنوبكم ) أي بمحو أعيانها وآثارها كلها .
ولما قرع القلوب من كدر العقاب والعتاب ، لذذها بطيب الثواب فقال : ( ويدخلكم ) أي بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم ) جنات تجري ( ودل على قرب(7/586)
صفحة رقم 587
الجاري وتخلله الأراضي بالجار فقال : ( من تحتها ) أي تحت أشجارها وغرفها وكل متنزه فيها ) الأنهار ( فهي لا تزال غضة زهراء ، ولم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لغناء ما بعده عنه ، دل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله بصيغة منتهى الجموع : ( ومساكن ( ولما كانت المساكن لا تروق إلا بما يقارنها من المعاني الحسنة قال : ( طيبة ) أي في الاتساع واختلاف أنواع الملاذ وعلو الأبينة والأسرة مع سهولة الوصول إليها وفي بهجة المناظر وتيسر مجاري الريح بانفساح الأبنية مع طيب الغرف ، لم يفسد الماء الجاري تحتها شيئاً من ريحها ولا في اعتدالها في شيء مام يراد منها .
ولما كانت لا يرغب فيها إلا بدوام الإقامة ، بين صلاحتيها لذلك بقوله : ( في جنات عدن ) أي بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له ، ولا آخر لتلك الإقامة ، قال حمزة والكرماني في كتابه جوامع التفسير : هي قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش .
ولما كان هذا أمراً شريفاً لا يوجد في غيرها قال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم جداً وحده ) الفوز العظيم ( .
ولما ذكر ما أنعم عليه به في الأخرى لأنه أهم لوامها ، كان التقدير بما دل عليه العطف .
هذا لكم ، عطف عليه ما جعل لهم في الدنيا فقال : ( وأخرى ) أي ولكم نعمة ، أو يعطيكم ، أو يزيدكم نعمة أخرى .
ولما كان الإنسان أحب في العاجل وأفرح بالناجز قال : ( تحبونها ) أي محبة كثيرة متجددة متزايدة ، ففي ظاهر هذه البشرى تشويق إلى الجهاد وتحبيب ، وفي باطنها حث على حب الشهادة بما يشير إليه من التوبيخ أيضاً على حل العاجل والتقريع : ( نصر من الله ) أي الذي أحاطت عظمته بكل شيء لكم وعلى قدر إحاطته تكون نصرته ) وفتح قريب ) أي تدخلون منه إلى كل ما كان متعسراً عليكم من حصون أعدائكم وغيرها من أمورهم في حياة نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) أعظمه فتح مكة الذي كتب حاطب رضي الله عنه بسببه ، وبعد مماته ، وفيه شهادة لحاطب رضي الله عنه بأنه يحب نصرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والفتح عليه مكة وغيرها لصحة إيمانه كما أخبر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي لا ينطق عن الهوى .
ولما كان ما تقدم من المعاتبة إنذاراً لمن خالف فعله قوله من الذين آمنوا ، وكان المقام قد أخذ حظه من الإنذار والتوبيخ ، طوى ما تقديره : فأنذر من لم يكن راسخاً في الدين من المنافقين ، ومن خالف فعله قوله من المؤمنين : عطف عليه دلالة عليه ليكون أوقع في النفس لمن يشير إليه طيه من الاستعطاف قوله : ( وبشر المؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً كحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بان الله يفتح لك البلاد شرقاً وغرباً ، وأول ذلك مكة المشرفة ولا يحوجهم إلى أن يدرؤوا عن عشائرهم(7/587)
صفحة رقم 588
وأموالهم ولا أن يكون شيء من أفعالهم يخالف شيئاً من أقوالهم .
ولما هز سبحانه إلى الجهاد وشوق إليه بأنه متجر رابح ، ولوح إلى النذارة بالتنشيط بالبشارة ، فتهيأت النفوس إلى الإقبال عليه وانبعثت أي انبعاث ، حض عليه بالإيجاب المقتضي للثواب أو العقاب ، فقال منادياً بأداة البعد والتعبير بما يدل على أدنى الأسنان تأنيباً على أنه لا يعدم الوصف بالإيمان إلا مقرون بالحرمان تشويقاً وتحبباً : ( يأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بذلك فأذعنوا بهذا الوعظ غاية الإذعان أني أمرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لكم : ( كونوا ) أي بغاية جهدكم ) أنصار الله ) أي راسخين في وصف النصرة وفي الذروة العليا من ثبات الأقدام في تأييد الذي له الغنى المطلق لتكونوا - بما أشارت إليه قراءة الجماعة بالإضافة - بالاجتهاد في ذلك كأنكم جميع أنصاره ، فإنكم أشرف من قوم عيسى عليه الصلاة والسلام ، وما ندبكم سبحانه لنصرته إلا لتشريفكم بمصاحبة رسله الذين هم خلاصة خلقه عليهم الصلاة والسلام فقولوا سمعنا وأطعنا نحن أنصار الله وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين ولام الجر على معنى : كونوا بعض أنصاره ، ويشبه أن يكون المأمور به في هذه القراءة الثبات على الإيمان ولو في أدنى الدرجات ، وفي قراءة الجمهور الرسوخ فيه .
ولما كان التقدير على صفة هي من الثبات والسرعة على صفة الحواريين ، عبر عن ذلك بقوله : ( كما ) أي كونوا لأجل أني أنا ندبتكم بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين ) قال عيسى ابن مريم ( حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام ) للحواريين ) أي خلص أصحابه وخاصته منهم : ( من أنصاري ( حال كونهم سائرين في منازل السلوك والمعاملات ومراحل المجاهدات والمنازلات ) إلى الله ) أي المحيط بكل شيء فنحن إليه راجعون كما كنا به مبدوئين .
ولما اشتد تشوف السامع إلى جوابهم ، أبان ذلك بقوله : ( قال الحواريون ( معلمين أنه جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه عاملين فيما دعاهم إليه عمل الواصل لا السائر لعلمهم أنه إجابته إجابة الله لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله : ( نحن ) أي بأجمعنا ) أنصار الله ) أي الملك الأعلى الذي هو غني عنا وقادر على تمام نصرنا ، ولو كان عدونا كل أهل الأرض ننصره الآن بالفعل ، لا نحتاج إلى تدريب يسير ولا نظر إلى غير ، لاستحضارنا لجميع ما يقدر عليه الآدمي من صفات جلاله وجماله وكماله ، ولذلك أظهروا ولم يضمروا .
ولما كان التقدير : ثم دعوا من خالفهم من بني إسرائيل وبارزوهم ، سبب عنه(7/588)
صفحة رقم 589
قوله : ( فآمنت ) أي به ) طائفة ) أي ناس فيهم أهلية الاستدارة لما لهم من الكثرة ) من بني إسرائيل ) أي قومه ) وكفرت طائفة ) أي منهم ، وأصل الطائفة : القطعة من الشيء ) فأيدنا ) أي قوينا بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ) الذين آمنوا ) أي الذين أقروا بالإيمان المخلص منهم وغيره في القول والفعل وشددنا قلوبهم ) على عدوهم ( الذين عادوهم لأجل إيمانهم .
ولما كان الظفر بالمحبوب أحب ما يكون إذا كان أول النهار ، تسبب عن تأييده قوله : ( فأصبحوا ) أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل ) ظاهرين ) أي عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً إلا الله ولا يتسخفون منه ، فالتأييد تارة يكون بالعلم وتارة بالفعل
77 ( ) علمه شديد القوى ( ) 7
[ النجم : 5 ] فصار علمه في غاية الإحكام وتبعته قوة هي في منتهى التمام ، لأنه ناشىء عن علم مستفاد من قوة ، وإلا لقال : علمه كثير العلم .
77 ( ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ( ) 7
[ النمل : 40 ] قوة مستفادة من علم ، والظاهر كما هو ظاهر قوله تعالى :
77 ( ) جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ( ) 7
[ آل عمران : 55 ] وغيرها أن تأييد المؤمنين به كان بعد رفعه بيسير حين ظهر الحواريون وانبثوا في البلاد يدعون إلى الله بما آتاهم من الآيات ، فاتبعهم الناس ، فملا تمادى الزمان ومات الحواريون رضي الله عنهم افترق الناس وجب إليهم الفساد ، فغلب أهل الباطل وضعف أهل الحق حتى كانوا عند بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدماً أو في حكم العدم ، - كما دلت عليه قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فقد رجع آخر السورة كما ترى بما وقع من التنزه عما يوهمه علو الكفرة من النقص بنصر أوليائه وقسر أعدائه ، ومن الأمر مما أخبر أولها أنه يحبه من القتال في سبيله حثاً عليه وتشويقاً إليه - على أولها ، واتصل بما بشر به من آمن ولو على أدنى وجوه الإيمان من العز موصلها بمفصلها ، بما أزيل من الأسباب الحاملة له على المداراة ، والأمور التي أوقعته في المماشاة مع الكفار والمجاراة ، فأوجب ذلك رسوخ الإيمان ، وحصول الإتقان ، المقتضي للتنزيه بالفعل عن كل شوب نقصان ، والله الموفق للصواب وعليه التكلان .
. .(7/589)
صفحة رقم 590
سورة الجمعة
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية الاحتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية بالاجتماعه عليه في الجهاد وغيره في العسر واليسر والمنشط والمكره ، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته ، الحاثة على قوة التواصل والاجتماع ، والحاملة على دوام الإقبال على المزكي والحب له والاتباع ) بسم الله ( الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه ) الرحمن ( الذي عمت نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه ) الرحيم ( الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت فيي سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به .
الجمعة : ( 1 - 4 ) يسبح لله ما. .. . .
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما ختمت الصف بالإقبال ببعض بني إسرائيل على جنابه الأقدس بعد زاغوا فأزاغ الله قلوبهم كلهم أو الشاذ منهم بما أفهمه إطلاق الضمير عليهم ثم تأييدهم على من استمر منهم على الزيغ ، فثبت أن له تمام القدرة استلزم لشمول العلم اللازم منه التنزه عن كل شائبة نقص ، وكان سبحانه قد ذكر التسبيح الذي هو الأعظم الأشهر للتنزيه بلفظ الماضي ثلاثة مرات في افتتاح ثلاثة سور ، وذلك نهاية الإثبات المؤكد ، فثبت بذلك أنه وقع تنزيهه من كل ناطق وصامت ، أخبر أول هذه السورة أن ذلك التنزيه على وجه التجديد والاستمرار بالتعبير بالمضارع لاستمرار ملكه فقال : ( يسبح ) أي يوقع(7/590)
صفحة رقم 591
التنزيه الأعظم الأبهى الأكمل ) لله ) أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأكد بذلك لما في التغابن ولم يحتج بعد الإقرار بالوقوع على هذا الوجه إلى التأكيد بأكثر من مرة وجعل بين كل مسبحتين سورة خالية من ذلك ليكون ذلك أدل على قصد التأكيد من حيث شدة الاعتناء بالذكر ، وإن وقع فصل ويكون التأكيد أكثر تنبيهاً وأعظم صدعاً وتذكيراً .
ولما كان تقريع العاقل الناطق بطاعة الصامت أعظم ، قال : ( ما في السماوات ( وإن كان العاقل يدخل في ذلك ما عليه فيكون تسبيحه تارة طوعاً موافقة للأمر ، وتارة كرهاً بالانقياد مع الإرادة ، وتسبيح الصامت طوعاً في كل حال .
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا ، دعا ذلك إلى التأكيد لاحتياجهم إليه فقال : ( وما في الأرض ( كذلك .
ولما ثبت بالسور الثلاثة الماضية أن الموجودات أوقعت له التسبيح ، وأخبرت هذه باستمرار ذلك على سبيل التجديد ، دل ذلك مع التنزيه عن النقائص على إثبات الكمال الذي لا يكون إلا لملك عظيم الشأن مطاع الأمر ، وكان الاقتصار على الصامت بالتعبير بما هو ظاهر فيه ربما أوهم شيئاً ، قال مصرحاً بما أفهمه السياق : ( الملك ) أي الذي ثبتت له جميع الكمالات فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً ) القدوس ( الذي انتفت عنه جميع النقائص ، فلا يكون شيء إلا بإذنه وتنزه عن إحاطة أحد من الخلق بعلمه أو إدراك كنة ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله ، والتبدر لماهيم نعوته وجلاله ، وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده ، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول ما لا يفعل أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام ، وقد مضى شرح الاسمين الشريفين قريباً وذكر خلاصة شرحهما بما هو خاصة الملك وآية الطهارة للطاهر فقال : ( العزيز ) أي الذي يغلب كل شيء لا يغلبه شيء ، فلو أراد لجعل العقلاء كلهم أيضاً مع تسبيحهم بالجري تحت مراده طوعاً وكرهاً مسبيحين بالموافقة لأمره طوعاً ) الحكيم ( الذي يوقع كل ما أراده في أحكم مواضعه وأتما وأتقنها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم ، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله ( ) 7
[ الصف : 14 ] كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتبع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة ، والثناء عيلها ، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله :
77 ( ) وكفرت طائفة ( ) 7
[ الصف : 14 ] فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة ، فنزه(7/591)
صفحة رقم 592
سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال :
77 ( ) هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ( ) 7
[ الجمعة : 2 ] إلى قوله :
77 ( ) ذو الفضل العظيم ( ) 7
[ الجمعة : 4 ] ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى :
77 ( ) مثل الذي حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ( ) 7
[ الجمعة : 5 ] الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين ، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة ، وزعموا أنهم حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم لطفاً من الله لهذه الأمة ) وما يتذكر إلا أولوا الألباب ( انتهى .
ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله على التنزيه أدل على القدرة على غيره ، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا ، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله : ( هو ) أي وحده ) الذي بعث ) أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه ) في الأميين ) أي العرب لأنهم كانوا معروفين من بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم ، وذكر ظرف البعث وإهمال غياته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق ، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه ( صلى الله عليه وسلم ) كان حين ذهب العلم من الناس ، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم ، فلا بدع أن يحمل عليهم وصفهم ) رسولاً ( ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال : ( منهم ( بل الأمة بمعنى عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب ، فكانت آصار البشرية عند مندرسة ، وأنوار الحقائق بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم ، بالكتب لأن منشأ مشاكلته لحال من الإعجاز ، وذكر بعثه منهم إن خص الوصف بالعرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم ولا سيما مع ما ورد فيه من الصرائح وأثبته من الدلائل القواطع ، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقةن تقديرها : إلى عامة الخلق .
ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم وإن زاد فبشيء يسير ، عجب من أمره ونبه على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً : ( يتلوا ) أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة ) عليهم ( مع كونه أمياً مثلهم ) آياته ) أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم(7/592)
صفحة رقم 593
الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء .
ولما كان المقام لتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك ، قدم التزكية فقال : ( ويزكيهم ) أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة ، فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليم ، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه الله بها ، وربما سرت تلك النظرة إلى ثان فأشرقت أنوارها عليه على حسب القابليات كما وقع لعمير بن وهب ثم صفوان بن أمية وكذا ذو النور الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه ثم قومه ، فأما عمير فكان من أعظم المؤذين للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولمن آمن به فتذاكر مع صفوان وقعة بدر في الحجر ومن فقدوا من صناديدهم وأنه ليس في العيش بعدهم خير ، ثم تمنوا رجلاً بقتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال عمير : لولا فقري وبنات لي وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي لأتيته بغلة أسيري عندهم فقتلته ، فاغتنمها صفوان فعاهده أن يكفي عياله إن مات وأن يواسيه إن عاش ، فقال : اكتم عني ثلاثاً ، ثم ذهب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهداه الله فحلف صفوان أن لا يكلمه أبداً ، فلما فتحت مكة فر صفوان ليركب البحر من جدة ، فاستأذن عمير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذهب إليه فلحقه فلم يزل به حتى رجع ثم أسلم فكان من خيار الصحابة رضي الله عنه ، واما ذو النور فحين دعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم سأل آية يعينه الله بها على قومه فآتاه الله نوراً حين أشرف على الحي الذيث هو منه ، ثم دعا أباه وأمه فأسلما ، ثم صاحبته فكذلك ثم قومه ، فما تخلف منهم أحد ، وأما غير الصحابة رضي الله عنهم فتزكيته لهم بآثاره بحسب القابليات والأمور التي قضى الله أن يكون مهيأ ، فمن كان له أعشق كان لاتباعه ألزم ، فكان في كتاب الله وسنته أرسخ من سيرة وغيرها علماً وعملاً فكان أشد زكاء .
ولما كانذوا بعد التزكية التي هي تخلية عن لارذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال : ( ويعلمهم الكتاب ( اي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى ) والحكمة ( وهي غاية الكتاب في قوة فهمه والعمل به ، فهي العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل ، فيكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً ولو لم يكن له ( صلى الله عليه وسلم ) معجزة إلا هذه لكانت غاية .
ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال ، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين ، وكانوا بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال من حضرة غيب الغيب في العلوم المنفية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة(7/593)
صفحة رقم 594
من الأمم قبلهم ، وكان ذلك موجباً للتوقف في كونهم كانوا أميين ، أكد هذا المفهوم بقوله : ( وإن ) أي والحال أنهم ) كانوا ) أي كوناً هو كالجبلة لهم .
ولما كان كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام ) لفي ضلال ) أي بعد عنم المقصود ) مبين ) أي ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم من يميل إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره ، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من مخلوق عن نبيهم إعظاماً لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى ، وينقذهم مما كانوا فيه من العمى والردى .
ولما كانت تزكيته لهم مع أميتهم وغباوتهم لوصف الأمية في الجهل أمراً باهراً في دلالته على تمام القدرة ، زاد في الدلالة على ذلك بإلحاق كثير ممن في غيرهم من الأمم مثلهم في الأمية بهم فقال : ( وآخرين ) أي وبعثه في آخرين ) منهم ( في الأمية لا في العربية ) لما يلحقوا بهم ) أي في وقت من الأوقات الماضية في صفة من الصفات ، بل هم أجلف الناس كعوام المجوس واليهود والنصارى والبرابر ونحوهم من طوائف العجم الذين هم ألكن الناس لساناً وأجمدهم أذهاناً وأكثفهم طبعاً وشأناً ، وسيلحقهم الله بهم في العلم والتزكية .
ولما كان عدم إلحاقهم بهم في الماضي ربما أوهم شيئاً في القدرة ، وإلحاقهم بهم في المستقبل في غاية الدلالة على القدرة ، قال : ( وهو ) أي والحال أنه واحده ) العزيز ( الذي يقدر على كل شيء ولا يغلبه شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أيّ طائفة كان ، ولو كان أجمد أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده ) الحكيم ( فهو إذا أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها فلا يستطاع نقضه ، ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطلق رده بوجه ، ويكون المراد بالآخرين العجم ، وأن اله تعالى سيلحقهم بالعرب ، قال ابن عمر رضي الله عنهما وسعيد بن جبير أيضاً رضي الله عنه وهو راية ليث عن مجاهد ويؤيده ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل عنهم لما نزلت سورة الجمعة فوضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على سلمان رضي الله عنه وقال : ( لو كان الإيمان عند الثثريا لناله رجال من هؤلاء ) .(7/594)
صفحة رقم 595
ولما كان هذا أمراً باهراً ، عظمه بقوله على وجه الاستثمار من قدرته : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف ) فضل الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ، والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرض ) يؤتيه من يشاء ( بحوله وقوته بأن يهيئه له ولو كان أبعد الناس منه ) والله ) أي الملك الأعظم ) ذو الفضل ( ولما كانت ( آل ) دالة على الكمال دل على ذلك بقوله : ( العظيم ) أي الذي يحقر دونه كل عطاء من غيره .
الجمعة : ( 5 - 6 ) مثل الذين حملوا. .. . .
) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ( )
ولما أدب عباده المؤمنين في الممتحنة عما يؤذي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واتممه في الصف بما ذر منغزاغة القلوب لمن آذى نبيه موسى عليه الصلاة والسلام ، وأعلم أنه سبحانه جمع الآداب كلها في هذا الكتاب الذي أنزله على نبيهم الذي جعله خاتم الأنبياء وأشرف الأصفياء ، ودل على فضله العظيم بتعليم الجاهل ، دل على عقابه الأليم تتيميماً للدلالة على باهر قدرته بتجهيل العالم بإزاغة قلبه وإذهاب لبه بيأسه من الآخرة لغضبه عليه تحذيراً من الوقوع بما يوجب الإضلال بعد العلم ، فقال جواباً لمن كأنه قال : هذا فضله علىالجاهل فكيف فعله بالعالم ؟ فقال تحذيراً من يزكي فلا يتزكى بأن يقول ما لا يعمل ، ويحمل الكتاب فيحمله غير عالم به من أن يفعل به ما فعل باليهود من الذل في الدنيا والخزي والعذاب في الآخرة بإزاغة القلوب وإحاطة الذنوب فيكون أقبح مما قيل فيه .
من فاته العلم وأخطا الغنى فذاك والكلب على حد سوا
) مثل الذين ( ولما كان العلم ولا سيما الرباني يجب أن يفرح به ويرغب فيه من أيّ موصل كان ، بني للمجهول قوله وصيانة لاسمه الشريف عن أن يذكر عن العصيان : ( حملوا التوراة ) أي كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس وحدودها واحكامها عن الإهمال والتضييع .
ولما كان تركهم لحملها وهي من عند الله وعلى لسان رجل منهم هو أعظم في أنفسهم وأجلهم إحساناً إليهم في غاية البعد ولا سيما مع طول الزمان المسهل لحفظها(7/595)
صفحة رقم 596
الميسر لتدبرها وتعرف مقدارها ، عبر بأداة البعد فقال : ( ثم لم يحملوها ( بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ثم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جاء ، فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم قاذفة لهم في النار من غير نفع أصلاً ) كمثل ) أي مِثَّل مَثَل ) الحمار ( الذي هو أبله الحيوان ، فهو مثل في الغباوة ، حال كونه ) يحمل أسفاراً ) أي كتباً من العلم كاشفة للأمور تنفع الألباء ، جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه .
ولما كان المثل الجامع لهما - وهو وجه الشبه - شخصاً مثقلاً متعباً جداً بشيء لا نفع له به أصلاً فهو ضرر عليه صرف لا يدرك ما هو حامله غير أنه متعب ولا يدري أصخر هو أم كتب ، أنتج قوله معبراً بالأداة التي هي لجمامع الذم ترهيباً للآدميين من أن يتهاونوا بشيء من أحكام القرآن فيكونوا أسوأ مثلاً من أهل الكتاب فيكونوا دون الحمار لان رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم وكتابهم أعلى وأفخم فقال : ( بئس مثل القوم ) أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به ) الذين كذبوا ) أي عمدوا على علم عناداً منهم وكفراً ) بآيات الله ) أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولا سيما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني ، وهو الضرر الصرف الذي لانفع فيه بوجه بأنفع الأشياء ، وهو ما دل على الله فضمن شعادة الدارين ، وهذا المثل وإن كان نصاً في اليهود فيهو لجميع قراء السوء من كل ملة لاشتراكهم معهم في وجه الشبه كما أن مثل الكلب في الأعراف على هذا النحو ، وكأنه لميدخل سبحانه هذه الأمة في ذلك صريحاً إشارة إلى حفظها منن غير أن يكلها غلى نفسها كما أنه آتاها العلم مع المية منها ومن رسولها من غير أن يكلهم إلى كتابة ولا تقدم علم ما ولا تكلف لشيء .
ولما كان التقدير : فاستحقوا الوصف بجميع المذام لأنهم ظلموا أشد الظلم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه اظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( لا يهدي القوم ) أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ : ( الظالمين ) أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة .
ولما كان قولهم أنهم أولياء الله وأحباؤه في غاية البعد من هذا المثل ، استأنف ما يدل على صحة المثل قطعاً ، فقال معرضاً عنهم آمراً لمن كذبوه بتبكيتهم : ( قل ) أي يا أيها الرسول الذي هم قاطعون بأنه رسوله الله : ( يا أيها الذين هادوا ) أي تدينوا(7/596)
صفحة رقم 597
باليهودية .
ولما كان الحق يصدع من له أدنى مسكة ، فكانوا جديرين بالرجوع عن العناد ، عبر بأداة الشك فقال : ( إن زعمتم ) أي قلتم قولاً هو معرض للتكذيب ولذلك أكدتموه ) أنكم أولياء الله ) أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، خصكم بذلك خصوصية مبتدأة ) من دون ) أي أدنى رتبة من رتب ) الناس ( فلم تتعد الولاية تلك الرتبة الدنيا إلى أحد منكم غيركم ، بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لا سيما الأميين ) فتمنوا الموت ( وأخبروا عن أنفسكم بذلك للقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء ) إن كنتم ) أي كوناً راسخاً ) صادقين ) أي عريقين عند أنفسكم في الصدق فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب ، ومن التطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر أنه يتمنى النقلة إلى وليه ، روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم ( والذي نفسي بيده لا يقولها منكم أحد إلا غص بريقه ) فلم يقلها أحد منهم علماً منهم بمصدقه ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم .
الجمعة : ( 7 - 9 ) ولا يتمنونه أبدا. .. . .
) وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : فقال لهم رسول ( صلى الله عليه وسلم ) امتثالاً لأمرنا ذلك ، فلم يتمنوه في الوقت الحاضر ، تصديقاً منا لنبوته وتعجيزاً وتحقيقاً لمعجزات رسالته ، دل على هذا المقدر بما عطف عليه من قوله الدال قطعاً على صدقه بتصديقهم له بالكف عما أخبر أنهم لا يفعلونه : ( ولا يتمنونه ) أي في المستقبل ، واكتفى بهذا في التعبير بلا لأن المذكور من دعواهم هنا أنهم أولياء لا كل الأولياء فهي دون دعوى الاختصاص بالآخرة ، وأيضاً الولاية للتوسل إلى الجنة ، ولا يلزم منها الاختصاص بالنعمة بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية ، بل البر والفاجر مشتركون فيها .
ولما أخبر بعدم تمنيهم ، وسع لهم المجال تحقيقاً للمراد فقال : ( أبداً ( وعرف أن سببه معرفتهم بأنهم أعداء الله فقال : ( بما قدمت ( ولما كان أكثر الأفعال باليد ، نسب الكل إليها لأنها صارت عبارة عن القدرة فقال : ( أيديهم ) أي من المعاصي التي أحاطت بهم فلم تدع لهم حظاً في الآخرة بعلمهم .
ولما كان التقدير تسبباً عن هذا : لئلا يقولوا : سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فاللّه عليم بهم في أفعالهم ونياتهم ، عطف عليه قوله معلقاً بالوصف(7/597)
صفحة رقم 598
تعميماً وإعلاماً بأن وصف ما قدموا من الظلم ) والله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً ) عليم ) أي بالغ العلم محيط بهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : ( بالظالمين ( تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات ، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم فهو يجازيهم على ظلمهم وهم يعلمون ذلك ، وأعظم مصدق الله - ومن أصدق من الله قيلاً - في هذا أنهم ما قوتلوا قط إلا أرزوا إلى حصونهم وقراهم كما مر في سورة الحشر ، فدل ذلك على أنهم أحرص على الحياة الدنيا من الذين أشركوا كما مر في سورة البقرة فإنهم عالمون بأنهم يصيرون إلى النار ، والعرب يظنون أنهم لا يبعثون فهم لا يخافون ما بعد الموت وهم شجعان يقدمون على الموت كما قال عنترة بن شداد العبسي :
بكرت تخوفين المنون كأنني أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل فأجبتها ان المنية منهل لا بد أن أسقى بذاك المنهل فافني حياتك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ولما كان عدم تمنيهم علم من اعلام نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) لموافقته ما أخبر به ، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره ، فصاروا بين التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتنبيههم على بلادتهم تبكيتاً لهم فقال : ( قل ( وأكد إعلاماً لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره أحد فقال : ( إن الموت ( وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله : ( الذي تفرون منه ) أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه ، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له ، وربطه بالفاء جعلاً لفرارهم كالسبب له ، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال : ( إن الجبار حتفه من فوقه ) أي هو غالب عليه العالي على السافل فقال : ( فإنه ملاقيكم ) أي مدرككم في كل وجه سلكتموه بالظاهر أو الباطن .
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً - مع أنه لا بد منه - مهولاً ، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال : ( ثم تردون ( ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم وأنه عنده في غاية السهولة ) إلى عالم الغيب ( وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم .
ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات ، وينكر علمه بالجزئيات قال : ( والشهادة ( وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه .
ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعاً مرجفاً ، قال مسبباً عن الرد : ( فينبئكم ) أي يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى ) بما كنتم ) أي بما(7/598)
صفحة رقم 599
هو لكم كالجبلة ) تعملون ) أي بكل جزء منه مما برز إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ولو لقيتم لعلمتموه ليجازيكم عليه .
ولما قبح سبحانه المخالقة بين القول والفعل وصور صاحبها بصورة الحمار على الهيئة السابقة ، وحذر من ذلك بما هيأ به العاقل للإجابة إلى دوام الطاعة بعد أن بين أن جميع الكائنات مقرة بشمول ملكه بما لها من التسبيح بألسنة الأحوال ، والقيام في مراداته بغاية الامتثال ، فكان العاقل جديراً بالمبادرة إلى غاية التسبيح بلسان المقال ، وختم بالتحذير من الإخبار يوم الجمع الأعظم بجميع الأعمال ، قال على طريق الاستنتاج مما مضى من الترغيب والترهيب ، نادباً لهم - ليكونوا أولياء الله - إلى التزكية المذكورة التي هي ثمرة الرسالة بما حاصله الإقبال بالكلية على الله والإعراض بالكلية عن الدنيا ليجمع المكلف بين التحلي بالمزايا والتخلي عن الدنايا ، فخص من المزايا أعظم تسبيح يفعله العاقل في أيام الأسبوع وهو الإسراع بالاجتماع العظيم في يوم الجمعة الذي يناظر الاجتماع لإجابة المنادي في يوم الجمع الأكبر ، ثم الإقبال الأعظم بفعل صلاة الجمعة التي هي سر اليوم الذي ضيعه اليهود واستبدلوا به ما كان سبب تعذيبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين كما جعل نتيجة السورة الماضية النداء بالإرشاد إلى الإيمان والجهاد الموجب للأمان : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وألهبهم بأدة البعد - المشيرة إلى احتياجهم إلى التزكية - إلى المبادرة إلى الإقبال على ما يتعقب ذلك من الأوامر ) إذا نودي ) أي من أي مناد كان من أهل النداء ) للصلاة ) أي لأجل الحضور إليها وإليه عند قعود الإمام على المنبر للخطبة .
ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها للنداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقط : ( من يوم الجمعة ) أي اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله ، فكانوا لنا تبعاً مع تأخرنا عنهم في الزمان ، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة ، فعلة بالسكون ويضم اسم للمفعول كالضحكة للمضحوك منه ، فإن فتح ميمه كان بمعنى الوقت الجامع كالضحكة للكثير الضحك ، ومن جمعه أن فيه اجتمع خلق آدم عليه الصلاة والسلام فاجتمع بخلقه جميع الخلق ، وهو مذكر بيوم البعث والجمع الذي يقع فيه الإنباء بالأعمال ، وتظهر فيه ظهوراً بيناً تاماً الجلال والجمال
77 ( ) يوم يناد المناد من مكان قريب ( ) 7
[ ق : 41 ] وفيه تقوم الساعة ، روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى(7/599)
صفحة رقم 600
تطلع الشمس مشفقاً من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه ) .
وفي آخر الحديث أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : إنها آخر ساعة يوم الجمعة ، وأول الصلاة بما هو أعم من فعلها وانتظارها لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها ) وكان النداء في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند باب المسجد إذا صعد ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة ، وكذافي زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس وتباعدت المنازل وقلت الهمم زاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً الأذان الذي كان على زن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا نزل من المنيبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب أحد على عثمان زيادة الأذان الأول لعلمهم أنه من السنة بما جعل إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) .
ولما كان المراد إيجاب المعنى جزماً من غير تردد مع قطع كل علاقة بلا التفات إلى شيء من غير ما عذر الشارع به ، عبر عنه بالسعي ، وهو معنى قول الحسن أنه السعي بالنية لا بالقدم ، فقال : ( فاسعوا ) أي لتكونوا أولياء الله ولا تهاونوا في ذلك لتكونوا أعداءه كاليهود ) إلى ذكر الله ) أي الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك ، هذا المراد بالسعي لا حققة بل هي منهي عنها كما قال صلى ا لله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) .
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة ، وكان طلب الأرباح لكونها حاضرة أعظم مانع عن أمور الآخرة لكونها غايته ، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه ولكونه أكثر(7/600)
صفحة رقم 601
ما يشتغل به أهل الأسواق لكثرة الوافيدن غلى الأمصار يوم الجمعة من الحواضر واجتماعهم للتجارة عند تعالي النهار ، قال ناهياً عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبراً به عنها لأنه أعظمها : ( وذروا البيع ) أي اتركوه ولو على أقبح حالاته وأذلها واحقرها ، فأفاد النهي عن غيره من باب الأولى ، ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة ، فغن خالف وباع صح العقد مع عصيانه ، فإن النهي ليس لعينه لوا لما هو داخل فيه ولا لما هو خارج ولازم له بل لأمر مقارن بطريق الاتفاق ، وهو ما هو فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والوضوء بالماء .
ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبراً بالفعل المريض لفظاً ومعنى ، رغب فيه بقوله : ( ذلكم ) أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا ) خير لكم ( لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم ، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله : ( إن كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) تعلمون ) أي يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً ، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيراً ، وصلاة الجمعة فرض عين على كل من جمع البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر مما ذكره الفقهاء ، وإنما عبر عنها بهذا إشارة إلى أن عاقلاً لا يسعه أن يترك ما يعلم أنه أعلى وجوه الخير ، وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام سقط عنه فرض من الظهر ولا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر ، فإنه إذا حضر يكمل به العدد .
الجمعة : ( 10 - 11 ) فإذا قضيت الصلاة. .. . .
) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ( )
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها ، وأنه متى طلب فيه شيء من الدنيا محقت بركته مع ما اكتسب من الإثم ، بين وقت المعاش فقال مبيحاً لهم ما كان حظر عليهم ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد : ( فإذا قضيت الصلاة ) أي وقع الفراغ منها على أي وجه كان ) فانتشروا ) أي فدبوا وتفرقوا مجتهدين في الأرض في ذلك ) في الأرض ( جميعها إن شئتم ، لا حجر عليكم ولا حرج رخصة من الله لكم ) وابتغوا ) أي وتعمدوا وكلفوا أنفسكم مجتهدين بالسعي في طلب المعاش ) من فضل الله ) أي زفلة الملك الأعلى(7/601)
صفحة رقم 602
الذي له كل كمال ولا يجب لأحد عليه شيء بالبيع والشراء وغيرهما من مصالح الدين والدنيا التي كنتم نهيتم عنها .
ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر ، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال : ( واذكروا الله ) أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً .
ولما كان العبد مطلوباً بالعبادة في كل حال فإنه مجبول على النسيان ، فمهما فتر عن نفسه استولت عليها الغفلة فمرنت على البطالة فهلكت قال : ( كثيراً ) أي بحث لا تغفلوا عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع وعند الإنزال ، واستثنى من اللساني وقت التلبس بالقذر كالكون في قضاء الحاجة .
ولما كان مراد الإنسان من جميع تصرفاته الفوز بمراداته قال معللاً لهذا الأمر : ( لعلكم تفلحون ) أي لتكونوا عند الناظر لكم والمطلع عليكم من أمثالكم ممن يجهل العواقب على رجاء من أن تظفروا بجميع مطلوباتكم ، فإن الأمور كلها بيد من تكثرون ذكره ، وهو عالم بمن يستحق الفلاح فيسعفه به وبمن عمل رياء ونحوه فيخيبه ، فإذا امتثلتم أمره كان جديراً بتنويلكم ما تريدون ، وإن نسيتموه كنتم جديرين بأن يكلكم إلى أنفسكم فتهلكوا .
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب : هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة ، فما لهم إذا نودي لها توانى بعضهم في الإقبال إليها ، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا ، عطف عليه قوله : ( وإذا رأوا ) أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح ، والاشتغال بأنها العالي ) تجارة ) أي حمولاً هي موضع للتجارة .
ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال : ( أول لهواً ) أي ما يلهي عن كل نافع .
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً على حال سيئ ، فض الفم والطلع : كسرهما ، فكيف إذا كانت علته قبيحة ، قال تعالى معبراً به : ( انفضوا ) أي نفروا متفرقين من العجلة .
ولما كان سبب نزول الآية أنه اكن أصاب الناس جوع وجهد ، فقد دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة ، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح ، وكان قصد بعض المنفضين العير ، وبعضهم ما قارنها من اللهو ، (7/602)
صفحة رقم 603
ولكن قاصد التجارة هو الكثر ، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها : ( إليها ( وللدالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة ، كان الذم لقصد اللهو نم باب الأولى .
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال : ( وتركوك ) أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً ، قال جابر رضي الله عنه : أنا أحدهم ، ودل على مشروعية القيام بقوله : ( قائماً ( فالواجب خطبتان : قائماً يفصل بينهما بجلوس ، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويوصي بتقوى الله تعالى ، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه ، ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت وهو وقت الظهر ، والعدد وهو الأربعون ، والإمام والخطبة ودار الإقامة ، فإن فقد شرط وجبت الظهر ، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام ، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة ، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت .
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال : ( قل ) أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه : ( ما عند الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبادر الحقيقة ، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير ، الناهي عن كل شر ، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مام لا يدخل تحت الوصف ) خير ( ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها ، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال : ( نم اللهو ( ولما بدأ به لإقبال الإغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد : ( ومن التجارة ) أي وإن عظمت .
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال : ( والله ) أي ذو الجلال والإكرام وحده ) خير الرازقين ( لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخر البر والفاجر والمطيع والعاصي ، ويعطي نم يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد ، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس(7/603)
صفحة رقم 604
وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن ، روى صاحب الفردوس عن انس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قال يوم الجمعة ) اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عم معصيتك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى ( وأصل الحديث أخرجه أحمد والترمذي - وقال حسن - عن علي رضي الله عنه ، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فأقبلوا على متابعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وألزموا هدية واستمسكوا بغرزة تنالوا خيري الدارين بسهولة ، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من اعرض عن خطبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه ، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه
77 ( ) يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ( ) 7
[ آل عمران : 164 ] يزكيهم ربهم ويزرقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب .
.. .(7/604)
صفحة رقم 605
سورة المنافقون
مقصودها كمال التحذير مما يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة ، والترهيب مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة ، بمخالفة الفعل للقول فإنه نفاق في الجملة فيوشك يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية ، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق ثم صدق الأحوال ثم قف الأنفاس ، فصدق القول أن لا يقول القائل إلا عن برهان ، وصدق العمل أن لا يكطون للبدعة عليه سلطان ، وصدق الأخلاق أن لا يلاحظ ما يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان ، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان ، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك ) بسم الله ( الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة فمن زاغ أراده ) الرحمن ( الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده وفضح من شاء وإن دقق مكره وأخفاه ) الرحيم ( الذي وفق أهل وده بإتمام نعمته لما يحبه ويرضاه .
المنافقون : ( 1 - 2 ) إذا جاءك المنافقون. .. . .
) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
لما نهى سبحانه في الممتحنة عن اتخاذ عدوه ولياً ، وذم في الصف على المخالفة بين القول والفعل ، وحذر آخر الجمعة من الإعراض عن حال من أحوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على حال من الأحوال ولما مع الوفاق ، لأن صورة ذلك كله صورة النفاق ، قبح في أول هذه حال من أقبل عليه على حال النفاق ، لأنه يكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، واستمرت السورة كلها في ذمهم بأقبح الذم ليكون زاجراً عن كل ما ظاهره نفاق ، فقال تعالى : ( إذا جاءك ) أي يا أيها الرسول المبشر به في التوراة والإنجيل(7/605)
صفحة رقم 606
) المنافقون ) أي العريقون في وصف النفاق وهو إسلام الظاهر وكفر الباطن ، وأغلبهم من اليهود ) قالوا ( مؤكدين لأجل استشعارهم لتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب : ( نشهد ( قال الحسن : هو بمنزلة يمين كأنهم قالوا : نقسم ) إنك ( - التأكيد لذلك وإيهاماً لأن قوة تأكيدهم لشدة رغبتهم في مضمون ما يقولونه ) لرسول الله ) أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة ، فوافقوا الحق بظاهر أحوالهم ، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم .
ولما كانت الشهادة الإخبار عن علم اليقين لأنها من الشهود وهو كما الحضور وتمام الاطلاع ومواطأة القلوب للألسنة ، صدق سبحانه المشهود به وكذبهم في الإقسام بالشهادة ومواطأة ألسنتهم لقلوبهم فقال : ( والله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) يشهد ( شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن ) أن المنافقين ) أي الراسخين في وصف النفاق ) لكاذبون ) أي في إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك ، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره باطنه وسره بعلانيته ، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ، لا المراد أنهم كاذبون في صحة ما تضمنته شهادتهم من أنك رسول الله والحاصل أن الشهادة تتضمن شيئين : صدق مضمون الخبر والإذعان له ، فصدقهم في الأول وكذبهم في الثاني فصاروا بنفاقهم أسفل حالاً وشر مآلاً من اليهود .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعقب حال المؤمنين فيما خصهم الله به مما انطوت عليه الآيات الثلاث إلى صدر سورة الجمعة إلى قوله :
77 ( ) والله ذو الفضل العظيم ( ) 7
[ الجمعة : 4 ] بذكر حال من لم ينتفع بما حمل حسبما تقدم ، وكان في ذلك من المواعظ والتنبيه ما ينتفع به من سبقت له السعادة ، أتبع بما هو أوقع في الغرض وأبلغ في المقصود ، وهو ذكر طائفة بين أظهر من قدم لاثناء عليهم ومن أقرانهم وأترابهم وأقاربهم ، تلبست في الظاهر بالإيمان ، وأظهرت الانقياد والإذعان ، وتعرضت فأعرضت وتنصلت فيما وصلت ، بل عاقتها الأقدار ، فعميت البصائر والأبصار ، ومن المطرد المعلوم أن اتعاظ الإنسان بأقرب الناس إليه وبأهل زمانه أغلب من اتعاظه بمن بعد عنه(7/606)
صفحة رقم 607
زماناً ونسباً ، فأتبعت سورة الجمعة بسورة المنافقين وعظاً للمؤمنين بحال أهل النفاق ، وبسط من قصصهم ما يلائم ما ذكرناه ، وكان قيل لهم : ليس من أظهر الانقياد والاستجابة ، ثم بني إسرائيل ثم كان فيما حمل كمثل الحمار يحمل اسفاراً بأعجاب من حال إخوانكم زماناً وقرابة ، وأنتم أعرف الناس بهم وأنهم قد كانوا في الجاهلية موصوفين بجودية الرأي وحسن النظر ) ) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ( ) [ المنافقين : 4 ] ) ) ولكن المنافقين لا يفقهون ( ) [ المنافقين : 7 ] قلت : وقد مر في الخطبة ما رويناه في مصنف ابن أبي شيبة من قول أناس من المؤمنين : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم ، وأما سورة المنافقين فيوئس بها المنافقين ويوبخهم ، وهذا نحو ما ذكرناه أولاً - انتهى .
ولما كان المعنى أنهم لم يعتقدوا ما شهدوا به ، وكان كأنه قيل : فما الحامل لهم على هذا الكلام المؤكد والكذب في غاية القباحة لا سيما عند العرب ، علله بقوله مسمياً شهادتهم إيماناً لأن الشهادة تجري مجرى القسم في إرادة التوكيد ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم : ( اتخذوا ) أي أخذو بجهدهم ) أيمانهم ) أي كلها من شهادتهم هذه المجتهد في توكيدها وكل يمين سواها ) الجنة ) أي وقاية تقيهم المكاره الدنيوية ويستترون بها منها فيصونون بها دماءهم وأموالهم ، فاستضاؤوا بنور الإجابة فلم ينبسط عليهم شعاع نور السعادة فانطفأ نوهرم بقهر الحرمان ، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحكم الخذلان ) فصدوا ) أي فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة الصدور ، وحملوا غيرهم على الإعراض لما يرى من سيئ أحوالهم بتلك الظواهر مع بقائهم على ما كانوا ألفوه من الكفر الذي يزينه الشيطان ) عن سبيل الله ( اي عن طري قالملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه ، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجرأتهم على الإيمان الحانثة التي يمشون حالهم بها لما شرعه الله في هذه الحنيفية السمحة من القناعة من الحالف بيمينه فيما لا يعلم إلا من قبله .
ولما كان ما أخبر به من حالهم في غاية القباحة ، أنتج قوله : ( إنهم ( وأكده لأن حالهم بعجبهم وعجب كثيراً ممن قاربهم ) ساء ما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يعملون ) أي يجددون عمله مستمرين عليه بما هو كالجبلة من جرأتهم على الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلص عباده بالأيمان الحانثة .
المنافقون : ( 3 - 6 ) ذلك بأنهم آمنوا. .. . .
) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ(7/607)
صفحة رقم 608
أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ ) 73
( ) 71
ولما كانت المعاصي تعمي القلب فكيف بأعظمها ، علله بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العظيم في البعد من الخير من الكذب بالإخبار بالشهادة والحلف على الصدق والصد عن السبيل والوصف لعملهم بالسوء ) بأنهم آمنوا ) أي بسبب أنهم أقروا بالإيمان بألسنتهم منغير مطابقة لقلوبهم .
ولما كان الكفر مستبعداً فكيف إذا كان بعد الإقرار ، عبر بأداة البعد لذلك ولتفهم الذم على التعقيب من باب الأولى ، ولئلا بتوهم أن الذم إنما هو على تعقيب الإيمان بالكفر فقط ، لا على مطلقه ، فالعبير بثم يفهم أن من استمر طول عمره على الإيمان ثم كفر قبل موته بلحظة كان له هذا الذم فقال : ( ثم كفروا ) أي سراً فهابوا الناس ولم يهابوا الله .
ولما كان مجرد الطبع على القلب في غاية البشاعة ، كان مفهماً لبشاعة ما كان منه من الله من باب الأولى ، بني للمجهول قوله : ( فطبع ) أي فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه ) على قلوبهم ( لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق حتى مرنوا على الكفر واستحكموا فيه ، وكذلك من ترك الجمعة ثلاثة مرات تهاوناً بها ) فهم ) أي فتسبب عن ذلك أنهم ) لا يفقهون ) أي لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء فهم لا يميزون صواباً من خطأ ولا حقاً من باطل لأن المختوم عليه لا يصل إليه شيء ولا يخرج منه شيء .
ولما وصف سبحانه بواطنهم بما زهد فيهم لأن الإنسان بعقله كما أن المأكول بشكله ، وكانت لهم أشكال تغز ناظرها لأن العرب كانت تقول : جمال المنظر يدل غالباً على حسن المخبر ، قال تعالى : ( وإذا رأيتهم ) أي أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصير ) تعجبك أجسامهم ( لضخامتها وصباحتها ، فإن غايتهم كلهم بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن أبي - يعني - الذي نزلت السورة بسببه - جسيماً فصيحاً صحيحاً ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويستندون فيه ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن حضر يعجبون بهياكلهم .
ولما وصف البواطن والظواهر ، وكان قوله : المرء بأصغيره قلبه ولسانه مشروطاً كما(7/608)
صفحة رقم 609
هو ظاهر العبارة بمطابقة اللسان للقلب ، قال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنهم لا يكلمونه ( صلى الله عليه وسلم ) إلا اضطراراً لأنهم لا يحبون مكالمته ولا باعث لهم عليها لما عندهم من أمراض القلوب : ( وإن يقولوا ) أي يوجد منهم قول في وقت من الأوقات ) تسمع لقولهم ) أي لأنه يكون بحيث يلذذ السمع ويروق الفكر لما فيه من الادهان مع الفصاحة فهو يأخذ بمجامع القلب .
ولما اخبر عن ظاهرهم ، دل على أن ذلك الظاهر أمر لا حقيقة له ، أنهم لما وطنوا أنفسهم على الوقاحة وخلعوا لباس الحياء بالكذب بذلوا جميع الجهد في تحسين القول لأنه لا درك عليهم فيه فيما يحسبون بوجه لأنهم لا يحسبون للآخرة حساباً فقال : ( كأنهم ) أي في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم وفي الجبن والخور وعدم الانتفاع بهم في شيء من فهم أو ثبات فإنهم لا حقيقة لهم ) خشب ( ن جمع كثرة لخشبة وهو دليل على كثرتهم .
ولما كان الخشب ربما أطلق على المغروس ، نفى ذلك بقوله منبهاً بالتشديد على الكثرة : ( مسندة ) أي قد قطعت من مغارسها وقشرت وأسندت إلى الجدر لئلا يفسدها التراب ، فهي بيض تلوح تعجب ناظرها ولا ثبات لها ولا باطن بثمرة ولا سقي فلا مدد سماوي لها أصلاً يزكيها نوع زكاء فقد فقدت روح الإثبات الذي به كمالها كما فقد المنافق روح الذي به كمال الناطق وبقاؤه ، فهم في تلك الحالة أشباح بلا أرواح أجسام بلا أحلام .
ولما كان من يقول ما لا يفعل يصير متهماً لكل من يكلمه ، لأنه لإخلافه له قد صار عدوه فيتوهم الناس كلهم أعداء له فيكسبه ذلك أشد الجبن ، وذلك هو السبب الأعظم في تحسين قوله ، قال : ( يحسبون ) أي لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم ) كل صيحة ) أي من نداء مناد في انفلات دابة أو إنشاد ضالة ، ونحو ذلك ) عليهم ) أي واقعة .
ولما كان من يظن عداوة الناس له يكون هو عدواً لهم ، قال نتيجة ما مضى : ( هم ) أي خاصة ) العدو ) أي كامل العداوة بما دل عليه الإخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع دون الجمع إشارة إلى أنهم - في شدة عداوتهم للاسلام وأهله وكمال قصدهم وشدة سعيهم فيه - على قلب واحد وإن أظهروا التودد في الكلام والتقرب به إلى أهل الإسلام ، فإن ألسنتهم معكم إذا لقوكم ، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم ، فهو عيون لهم عليكم .
ولما بين ذلك من سوء أحوالهم سبب عنه قوله : ( فاحذرهم ( لأن أعدى الأعداء العدو المداحي الذي يكاشرك وتحت ظلوعه الداء الدوي ، فإن من استشعر أنك عدو له بغى لك الغوائل ، وأغلب من يعجبك قوله على هذا الوصف يكون ، ولكنه يكون بلطف الله(7/609)
صفحة رقم 610
دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسر قوله تعالى : ( قاتلهم الله ) أي أحلهم الملك المحيط علماً وقدرة محل من يقاتله عدو قاهر له أشد مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين .
ولما كان حالهم في غاية العجب في صرفهم عن الإسلام أولاً بالعمى عن الآيات الظاهرات ، وثانياً عن الإخبار بأسرارهم ، وخفي مكرهم وأخبارهم ، وفي عدم صرفهم عما هم عليه من قبح السرائر وسوء الضمائر بتعكيس مقاصدهم ، وتخييب مصادرهم في مكارهم ومواردهم ، دل على ذلك بقوله : ( أنّى ) أي كفي ومن أيّ وجه ) يؤفكون ) أي يصرفهم عن إدراك قبح ما هم عليه صارف ما كائناً ما كان ليرجعوا عنه إلى حسن الدين والأنس به وإدراك بركته وعظيم أثره .
ولما كان هذا أمراً عظيماً قطعاً عن الله ورسوله فيحتاد فاعله حاجة شديدة إلى التطهير وهو جدير بعظمه أن لا يطهره غاية الطهر إلا سؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكانوا لم يفعلوا ذلك ، دل على سوء بواطنهم وغلظ أكبادهم وأنهم كالخشب المسندة في أنهم لا ثمرة لهم ولا زكاء أصلاً بقوله : ( وإذا قيل لهم ) أي من أيّ قائل كان : ( تعالوا ) أي ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عالياً لعلو مكانته ) يستغفر لكم ) أي يطلب الغفران لأجلكم خاصة بعد أن تتولوا من ذنبكم من أجل هذا الكذب الذي أنتم مصرون عليه .
ولما تقدم عاملان ، أعمل الثاني منهما كما هو المختار من مذهب البصريين فرفع قوله : ( رسول الله ) أي أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لجوده ) لووا رؤوسهم ) أي فعلوا اللي بغاية الشدة والكثرة ، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضاً وعتواً وإظهاراً للبغض والنفرة ، وبالغوا فيه مبالغة تدل على أنهم مغلوبون عليه لشدة ما في بواطنهم من المرض ) ورأيتهم ) أي بعين البصيرة ) يصدون ) أي يعرضون إعراضاً قبيحاً عما دعوا إليه مجددين لذلك كلما دعوا إليه ، والجملة في موضع المفعول الثاني لرأيت ) وهم مستكبرون ) أي ثابتوا الكبر عما دعوا إليه وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار ، فهم لشدة غلظتهم لا يدركون قبح ما هم عليه ولا يهتدون إلى دوائه ، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينبهون ، فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم شائرهم من المؤمنين وقالوا : ويحكم افتضحتم واهلكتم أنفسكم ، فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتولوا إليه واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك فأنزل الله هذه الآية ، وروي أن ابن أبي رأسهم لوى رأسه وقال لهم : أشرتم علي بالإيمان فآمنت وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد .
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم ، وربما ندبه إلى ذلك(7/610)
صفحة رقم 611
بعض أقاربهم ، فكان استغفاره بحيث يسأل عنه ، قال منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون .
) سواء ) أي غلب واستعلى هذا الاستواء الذي عالجوا أنفسهم عليه حتى تخلقوا به فصار مجرداً عن أدنى ميل وكلفة ) عليهم ( .
ولما كان قد سلخ في هذا السياق عن الهمزة معنى الاستفهام كان معنى ) استغفرت لهم ) أي في هذا الوقت ) أم لم تستغفر لهم ) أي فيه أو فيما بعده - مستو عندهم استغفارك لهم وتركه ، لأنه لا أثر له عندهم ، ولهذا كانت نتيجته - عقوبة لهم - النفي المبالغ فيه بقوله : ( لن يغفر الله ) أي الملك الأعظم ) لهم ( ولعل التعبير بالاستفهام بعد سلخ معناه للاشارة إلى أنهم لو شاهدوا الملك يستفهمك عن ذلك ما ردهم عن نفاقهم وما زادهم ذلك على ما عندهم شيئاً ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيد هذه الآية بآية براءة المحتملة للتخيير وأنه إن زاد على السبعين كان الغفران مرجواً ، فاستجاز بذلك الصلاة على ابن أبي رأس المنافقين والاستغفار له لما عنده ( صلى الله عليه وسلم ) من عظيم الشفقة على عباد الله ومزيد الرحمة لهم ولا سيما من كان في عداد أصحابه والأنصار رضي الله عنهم به عناية .
ولما كان التقدير لتعليل المبالغة في الإخبار بعد الغفران لهم : لأن فسقهم قد استحكم فصار وصفاً لهم ثابتاً ، عبر عن ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) لا يهدي القوم ) أي الناس الذي لهم قوة في أنفسهم على ما يريدونه ) الفاسقين ( لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرة بعد مرة والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق والخروج عن مظنة الإصلاح .
المنافقون : ( 7 - 8 ) هم الذين يقولون. .. . .
) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان هذا داعياً إلى السؤال عن الأمر الذي فسقوا به ، قال مبيناً له : ( هم ) أي خاصة بواطنهم ) الذين يقولون ) أي أوجدوا هذا القول ولا يزالون يجددون لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير غير محققين بتصريف الأحكام ، فأنطقهم ما خامر قلوبهم من تمني إطفاء نور الله فتواصوا فيما بينهم بقولهم : ( لا تنفقوا ( أيها المخلصون في النصرة ) على من ) أي الذين ) عند رسول الله ) أي الملك المحيط بكل شيء ، وهم فقراء المهاجرين ، وكأنهم عبروا بذلك وهم لا يعتقدونه تهكماً(7/611)
صفحة رقم 612
وإشارة إلى أنه لو كان رسوله وهو الغنى المطلق لأغنى أصحابه ولم يحوجهم إلى أن ينفق الناس عليهم ، وما درى الأغبياء أن ذلك امتحان منه سبحانه لعباده - فسبحان من يضل من يشاء - حتى يكون كلامه أبعد شيء عن الصواب بحيث يعجب العاقل كيف يصدر ذلك من إحد ، أو أن هذه ليست عبارتهم وهو الظاهر ، وعبر سبحانه عنهم بذلك إشارة إلى أن كلامهم يؤول إلى إرادة ضر من الله معه توقيفاً على كفرهم وتنبيهاً على أن من أرسل رسولاً لا يكله إلى أحد بل يكفيه جميع ما يهمه من غير افتقار إلى شيء أصلاً ، فقد أرسل سبحانه إليه ( صلى الله عليه وسلم ) بمفاتيح خزائن الأرض فأباها وما كفاهم هذا الجنون حتى زادوه ما ظنوا أن أبواب الرزق تغلق إذا امتنع المنفقون من الناس عن إنفاقهم ، وعبروا بحرف غياية ليكون لما بعده حكم ما قبله فقالوا : ( حتى نفضوا ) أي يتفرقوا تفرقاً قبيحاً فيه كسر فيذهب أحد منهم إلى إهله وشغله الذي كان له قبل ذلك ، قال الحرالي : ( حتى ) كلمة تفهم غاية محوطة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها مقابل معنى ( إلى ) ، وقال أهل العربية : لا يجر بها إلى آخر أو متصل بالآخر نحو الفجر في
77 ( ) حتى مطلع الفجر ( ) 7
[ القدر : 5 ] وحتى آخر الليل ، ولا تقولوا : حتى نصف الليل ، وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله غيرهم للانفاق ، أو أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً ، أو كان بحيث لا ينفد ، أو أعطى كلاًّ يسيراً من طعام على كيفية لا تنفد معها كتمر أبي هريرة وشعير عائشة وعكة أم أيمن رضي الله عنهم وغير ذلك كما روي ذلك غير مرة ، ولكن ليس لمن يضل الله من هاد ، ولذلك عبر في الرد عليهم بقوله : ( ولله ) أي قالوا ذلك واستمروا على تجديد قوله والحال أن للملك الذي لا أمر لأحد معه فهو الآمر الناهي ) خزائن السماوات ) أي كلها ) والأرض ( كذلك من الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها ما يشاء حتى من أيديهم ، لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يد غيره ، ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم : إن كان محمد صادقاً فنحن شر من البهائم ، أشار إلى ذلك بقوله : ( ولكن المنافقين ) أي العريقين في وصف النفاق .
ولما كان ما يساق إلى الخلق من الأرزاق فيظن كثير منهم أنهم حصلوه بقوتهم ، عبر بالفقه الأخص من العلم فقال : ( لا يفقهون ) أي لا يتجدد لهم فهم أصلاً لأن البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً ما في مكان طلبته مرة أخرى ، وهؤلاء رأوا غير مرة ما أخرج الله من خوارق البركات على يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفعهم ذلك ، فمن رأى أن(7/612)
صفحة رقم 613
رزقه بيد الخلق فألهاه ذلك عن الله حتى ضيع حقوقه وداهن في دينه فقد برئ من القرآن ، ودل على عدم فقههم بقوله تعالى : ( يقولون ) أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره : ( لئن رجعنا ) أي نحن أيتها العصابة المنافقة من غزاتنا هذه - التي قد رأوا فيها من نصرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي من هذيل بالمريسيع وهو اء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم ابن أبي بالإفك وأشاعه - ) إلى المدينة ( ودلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم : ( ليخرجن الأعز ( يعنون أنفسهم ) منها الأذل ( وهم كاذبون في هذا ، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين ) ولله ) أي والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن للملك الأعلى الذي له وحده عز الإلهية ) العزة ( كلها ، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه .
ولما حصر العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول ، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله : ( ولرسوله ( لأن عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله ، وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله : ( وللمؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية ، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل .
ولما كان جهلهم في هذا أشد لكثرة ما رأوا من نصرة الله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تابعه رضي الله عنهم وإعلائهم على كل من ناواهم ، قال منبهاً على ذلك : ( ولكن المنافقين ) أي الذي ساتحكم فيهم مرض القلوب .
ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على ولا المنازعة فيه ، ومن المنع نم أكثر المرادات ، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك ، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه ، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال : ( لا يعلمون ) أي لا لأحد لهم علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان ، فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت بسبببه إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقة أبيه وقال : أنت والله الذليل ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العزيز ، ولما دنوا من المدينة الشريف جر سيفه وأتى أباه فأخذ بزمام ناقته .
وزجرها إلى ورائها وقال : إياك وراءك والله لا تدخلها حتى يأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولئن لم تقر بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأعز وأنت الأذل لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وشكا ولده إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره أن يدعه يدخل المدينة ، فأطلق فدخل .(7/613)
صفحة رقم 614
المنافقون : ( 9 - 11 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما كان هذا الذي حكاه سبحانه وتعالى عن المنافقين بحيث يعجب غاية العجب من تصور قائله له فضلاً عن أن يتفوه به فكيف بأن يعتقده ، نبه على أن العلة الموجبة له طمس البصيرة ، وأن العلة ف طمس البصيرة الإقبال بجميع القلب على الدينا رجوعاً على إيضاح ما تقدم في نتيجة الجمعة من الإذن في طلب الرزق والتحذير من مثل فعل حاطب رضي الله عنه وفعل من انصرف عن خطبة لتلك العير ، وكان هذا التنبيه على وجه حاسم لمادة شرهم في كلامهم فإن كلمة الشح كما قيل مطاعة ، ولو بأن تؤثر أثراً ما ولو بأن تقتر نوع تقتير في وقت ما ، فقال منادياً لمن يحتاج إلى ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أخبروا بما يقتضي أن بواطنهم مذعنة كظواهرهم ) لا تلهكم أموالكم ( ولما كان الخطاب مع من يحتاج إلى التأكيد قال : ( ولا أولادكم ) أي لا تقبلوا على شيء من ذلك بجمع قلوبكم إقبالاً يحيركم سواء كان ذلك في إصلاحها أو التمتع بها بحيث تشتغلون وتغفلون ) عن ذكر الله ) أي من توحدي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء فله الملك وله الحمد يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، فإذا كان العبد ذاكراً له بقلبه دائماً لم يقل كقول المنافقين ) ) لا تنفقوا ( ) [ المنافقين : 7 ] ولا ) ) ليخرجن الأعز منها الأذل ( ) [ المنافقين : 8 ] لعلمه أن الأمر كله لله ، وأنه لن يضر الله شيئاً ، ولا يضر بذلك إلا نفسه ، وهذا يشمل ما قالوه من التوحيد والصلاة والحج والصوم وغير ذلك ، ولإرادة المبالغة في النهي وجّه النهي إلى الأموال والأولاد بما المراد منه نهيهم .
ولما كان التقدير : فمن انتهى فهو من الفائزين ، عطف عليه قوله : ( ومن يفعل ) أي يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل ) ذلك ) أي الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي والإقبال على العاجل مع نسيان الآجل ) فأولئك ) أي البعداء عن الخير ) هم ) أي خاصة ) الخاسرون ) أي العريقون في الخسارة حتى كأنهم كانوا مختصين بها دون الناس ، وذلك ضد ما أرادوا بتوفير النظر إليهم والإقبال عليهم من السعي للتكثير والزيادة والتوفير ، وفي إفهامه أن من شغله ما يهمه من أمر دينه الذي أمره سبحانه به ونهاه عنه إضاعته وتوعده عليها كفاه سبحانه أمر دنياه الذي ضمنه له ونهاه أن يجعله أكبر همه وتوعده على ذلك ، فما ذكره إلا من وجده في جميع أموره ديناً ودنيا ، وتوجه إليه في(7/614)
صفحة رقم 615
جميع نوائبه ، وأقبل عليه بكل همومه ، وبذل نفسه له بذل من يعلم أنه مملوك مربوب فقد أمر ربه على نفسه واتخذه وكيلاً فاستراح من المخاوف ، ولم يمل إلى شيء من المطامع فصار حراً .
ولما حذر من الإقبال على الدنيا ، رغب في بذلها مخالفة للمنافقين فقال : ( وأنفقوا ) أي ما أمرتم به من واجب أو مندوب ، وزاد في الترغيب بالرضى منهم اليسير مما هو كله له بقوله : ( من ما رزقناكم ) أي من عظمتنا وبلغ النهاية في ذلك بالرضا بفعل ما أمر به مع التوبة النصوح في زمن ما ولو قل بما أرشد إليه إثبات الجار ، فقال مرغباً في التأهب للرحيل والمبادرة لمباغتة الأجل ، محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة : ( من قبل ( وفك المصدر ليفيد ( أن ) مزيد القرب فقال : ( أن يأتي ( ولما كان تقديم المفعول كما تقدم في النسا أهوال قال : ( أحدكم الموت ) أي برؤية دلائله وأماراته ، وكل لحظة مرت فهي من دلائله وأماراته .
ولما كانت الشدائد تقتضي الإقبال على الله ، سبب عن ذلك بقوله : ( فيقول ( سائلاً في الرجعة ، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله : ( رب لولا ) أي هل لا ولم لا ) أخرتني ) أي أخرت موتي إمهالاً لي ) إلى أجل ) أي زمان ، وبين أن مراده استدراك ما فات ليس إلا بقوله : ( قريب فأصدق ) أي للتزود في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله ، قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء : قال بعض العارفين : إن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة ، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدوا للعبد من الأسف والحسرة مما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه ، يقول : يا ملك الموت أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وأتزود فيها صالحاً لنفسي ، فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة ، فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتردد أنفاسه في شراسيفه ويتجرع غصة البأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر ، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال ، فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد ، فذلك حسن الخاتمة ، وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله تعالى خرجت روحه على الشك والاضطراب ، وذلك سوء الخاتمة ، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين : أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو ، الثاني أن يعاجلة المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ، فيأتي الله تعالى بقلب غير سليم ، والقلب أمانة الله عند عبده ، قال بعض العارفين : إن لله تعالى إلى عبده سرين على سبيل الإلهام : أحدهما إذا خرج من بطن أمه(7/615)
صفحة رقم 616
يقول له : عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر كيف تلقاني ، والثاني عند خروج روحه يقول : عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعذاب .
ولعله أدغم تاء التفعل إشارة إلى أنه إذا أخر فعل ذلك على وجه الإخفاء ليكون أفضل ، أو يكون إدعامها اختصاراً لبلوغ الأمر إلى حد محوج إلى الإيجاز في القول كما طلب في الزمن ، ويؤيده قراءة الجماعة غير أبي عمرو ) وأكن ( بالجزم عطفاً على الجواب الذي هدى السياق إلى تقديره ، فإن حال هذا الذي أشرف هذا الإشراف يقتضي أن يكون أراد إن ( أخرتني أتصدق ) ولكنه حذفه لضيق المقام عنه واقتضاء الحال لحذفه ، وهو معنى ما حكاه سيبويه عن الخليل أن الجزم على توهم الشرط الذي دل عليه التمني على الموضع ، فإن الجازم غير موجود ، ومعنى ما قال غيره أن ( لولا ) لكونها تحضيضية متضمنة معنى الأمر ومعنى الشرط ، فكأنه قيل : أخرني ، فيكون جوابه العاري عن الفاء مجزوماً لفظاً والمقرون بها مجزوماً محلاً ف ( اكن ) عطف على المحل ، ونصب أبو عمرو عطفاً على اللفظ لأنه جواب التمني الذي دلت عليه ( لولا ) وإجماع المصاحف على الحذف الواو لا يضره لأنه قال : إنها للاختصار ، وهو ظاهر ، وذلك للمناسبة بين اللفظ والخط والزمان والمراد ، ومن هنا تعرف جلالة القراء ومرادهم إن شاء الله تعالى بقولهم في الضابط المشهور وإن توافق رسم المصحف ولو احتمالاً ) من الصالحين ) أي العريقين في هذا الوصف العظيم ، وزاد في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله مؤكداً لأجل عظيم الرجاء من هذا المحتضر للتأخير عطفاً على ما تقديره : فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد : ( ولن ( ويجوز أن تكون الجملة حالاً أي قال ذلك والحال أنه لن ) يؤخر الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه ) نفساً ) أي أيّ نفس كانت ، وحقق الأجل بقوله : ( إذا جاء أجلها ) أي وقت مكوتها الذي حده الله لها فلا يؤخر الله نفس هذا القائل لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي .
ولما كان المعنى على طريق النتائج التي لا شك في إراشاد اللفظ إليها : الله عالم فإنه يقول ذلك ، عطف عليه قوله حاثاً على المسارعة إلى الخروج عن عهدة الطاعات والاستعداد لما لا بد منه من اللقاء محذراً من الإخلال ولأنه لا تهديد كالعلم : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة ) خبير ) أي بالغ الخبرة والعلم ظاهراً وباطناً ) بما تعلمون ) أي توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله ظاهره وباطنه من هذا الذي أخبرتكم أن المحتضر العاصي يقوله ومن غيره منه ومن غيره أيها الناس - هذا على قراءة الجمهور بالخطاب ، وعلى قراءة أبي بكر عن(7/616)
صفحة رقم 617
عاصم بالغيب يمكن أن يراد المنافقون ، ويمكن أن يعم فيكون الضمير للنفس على المعنى ويمكن أن يكون الضمير للناس على الالتفات للإعراض تخويفاً لهم ، ولذلك علم سبحانه كذب المنافقين في أنهم يعتقدون ما شهدوا به في أمر الرسالة وعلم جميع ما قص من أخبارهم
77 ( ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( ) 7
[ الملك : 14 ] والله أعلم .
.. . .(7/617)
صفحة رقم 3
سورة التغابن
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك الدنيونية على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم ، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك ، وهو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت به ) بسم الله ( مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ) الرحمن ( الذي وسع الخلائق بره الجليل ) الرحيم ( الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوفقهم للجميل .
التغابن : ( 1 - 3 ) يسبح لله ما. .. . .
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ( )
تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم ، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه عن كل شائبة نقص ، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته ، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له ، فقال مؤكداً لما أفهمه أول الجمعة : ( يسبح ) أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار ) لله ( الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ) ما في السماوات ( الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء منه شيئاً إلا كان على وفق الإرادة ، فكان لذلك الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص .
ولما كان الخطاب مع من تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد ، قال مؤكداً بإعادة الموصول : ( وما في الأرض ) أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه ، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة ، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل في متثاله لما يراد منه .
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل(8/3)
صفحة رقم 4
العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ، كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع ، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد ، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قلبه فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله ، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح ، علل ذلك بقوله : ( له ) أي وحده ) الملك ) أي كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام ، فهو أبلغ مما في الجمعة ، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة ، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره ، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام .
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص ، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال : ( وله ) أي وحده ) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته ، فمن فهم تسبيحها فذلك المحسن ، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم ، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه ) وهو ) أي وحده ) على كل شيء ( أيّ أي ممكن أن يتعلق به المشيئة ) قدير ( لأنه واحده بكل شيء مطلقاً عليم ، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً ، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه بالكمال وقوة السلطان والجلال .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها ، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام ، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم ، وتنكبهم عن هدى الدين القويم ، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أصوافهم خصوصهم في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبئ عن عظيم ذلك الإبعاد ، سوى ما تناول غيرهم من أحزاؤ الكفار ، فأنبأ تعالى عن أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين فقال تعالى
77 ( ) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( ) 7
[ التغابن : 2 ] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات ، وأهل الكفر ذو طبقات ، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً إن المنافقي في الدرك الأسفل من النار ( وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم ولو لم تنطو سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلى على ما حكاه تعالى من قولهم
77 ( ) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ( ) 7
[ المنافقين : 8 ] وقد أشار(8/4)
صفحة رقم 5
قوله تعالى
77 ( ) يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ( ) 7
[ التغابن : 4 ] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما لم تنطو عليه قلوبهم
77 ( ) والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ( ) 7
[ المنافقين : 1 ] واتخاذهم أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله إلى ما وصفهم سبحانه به ، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه
77 ( ) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ( ) 7
[ التوبة : 78 ] ثم قال تعالى :
77 ( ) ويعلم ما تسرون وما تعلنون ( ) 7
[ التغابن : 4 ] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات ، وصدهم عن اعتبار المعجزات ، وأنه الكبر المهلك غيرهم ، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب ، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب
77 ( ) ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا ( ) 7
[ التغابن : 6 ] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله
77 ( ) وبئس المصير ( ) 7
[ التغابن : 10 ] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى .
ولما كان أعظم الدلائل عليه سبحانه آيات الآفاق ) سنريهم آياتنا في الآفاق ( وآيات الأنفس ، وقدم الأول علويه وسفليه لوضوحه ، أتبعه الثاني دليلاً على عموم قدرته الدال على تمام ملكه بأنه المختص بالاختراع لأعجب الأشياء خلقاً والحمل على المكاره فقال : ( هو ) أي وحده ) الذي خلقكم ) أي أنشأكم على ما أنتم عليه بأن قدركم وأوجدكم بالحق على وفق التقدير خلافاً لمن أنكر ذلك من الدهرية وأهل الطبائع .
ولما كان قد تقدم في سورة المنافقين ما أعلم أنهم فريقان ، عرف في هذه أن ذلك مسبب عن إبداعه لأن من معهود الملك أن يكون في مملكته الولي والعدو والمؤالف والمخالف والطائع والعاصي والملك ينتقم ويعفو ويعاقب وثيب ويقدم ويؤخر ويرفع ويضع ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) أخرجه مسلم والترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه ، فقال تعالى دماً للعدو إشارة إلى أنه عالم به وقادر عليه ، وما كان منه شيئاً إلا بإرادته ، وفيه تلويح إلى أنه الأكثر ومع كثرته هو الأضعف ، لأن الله تعالى ليس معه بمعونته وإلا لأعدم الصنف الآخر : ( فمنكم ) أي فتسبب عن خلقه لكم وتقديره لأشباحكم التي تنشأ(8/5)
صفحة رقم 6
عنها الأخلاق إن كان منكم بإبداعه لصفاتكم كما أبدع لذواتكم ) كافر ) أي عريق في صفة الكفر مهلك نفسه بما هيأه لاكتسابه ويسره له بعد ما خلقه في أحسن تقويم على الفطرة الأولى ، وفي الحديث أن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافراً فمعنى أن فطرته الأولى خلقت مهيأة للكفر ، والعامة تضاف إلى الله تعالى فيقال : أوجه القدرة على الحركة والسكون وخلق الحركة والسكون ، والافعال الخاصة متعلق الأمر والنهي ) ومنكم مؤمن ) أي راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل منج نفسه بالأعمال الصالحة التي طابق بها العلم الأزلي ، فهو سبحانه خلق الكافر وخلق كفره فعلاً له ، والمؤمني وإيمانه فعلاً له ، لأنه خلق القدرة والاختيار وغيب أمر العاقبة ، فكل منهما يكتب باختياره بتقدير الله ، ولا يوجد من كل منهما إلا ما قدره عليه وأراده منه لأن وجود غير المقدور عجز ، وخلاف المراد المعلوم جهل ، وقد علم من هذه القسمة علماً قطعياً أن أحد القسمين مبطل ضال مخالف لأمر الملك الذي ثبت ملكه ، ومن المعلوم قطعاً من ظالمه ، ومن الشماهد أن بعضهم يموت على كفرانه من غير نقص يلحقه ، وبعضهم على إيمانه كذلك ، فعلم أن هذه الدار ليست دار الفصل ، وأن الدار المعدة له إنما هي بعد الموت والبعث ، وهذا مما هو مركوز في الطبائع لا يجهله أحد ، ولكن الخلق أعرضوا عنه بما هم فيه من القواطع ، فصار مما لا يخطر بإنكارهم ، فصار بحيث لا تستقل به عقولهم ، ولكنهم إذا ذكروا به وأوضحت هلم هذه الواطع التي أشار سبحانه غليها وجدوا النفس عن الحظوظ والمرور مع الألف عدوه كلهم من الضروريات ، وعلم ن تسبيبه تقسيمهم هذا عن تقديره وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره .
ولما كان التقدير : فالذي أبدعكم وحملكم على ذلك وفاوت بينكم على كل شيء قدير ، عطف عليه قوله تعالى : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة بفعله ذلك ، وقدم الجار لا للتخصيص بل إشارة إلى مزيد الأعتناء كما تقول لمن سألك : هل تعرف كذا ، وظهر منه التوقف في علمك له : نعم أعرفه ولا أعرف غيره ، فقال : ( بما تعملون ) أي توقعون عمله كسباً ) بصير ) أي بالغ العلم بذلك ، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم ، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه ، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر ، فيكف لو سئل أين موشع مشيه ومتى زمانه فكيف وإنه(8/6)
صفحة رقم 7
ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه ، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه .
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن ، والظواهر بأنه يخلق الشيء العظيم جداً فيأتي على وفق الغرادة ثم لا يحتاج غلى أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه فقال : ( خلق السماوات ( التي هي السقف لبيت عبيد الملك على كبرها وعلوها كطا ترون ) والأرض ( التي هي قرار بيتهم ومهاده على سعتها وما فيها من المرافق والمعاون ) بالحق ) أي بالأمر الذي يطابقه الواقع فلا زائداً عنه ولا ناقصاً بل جاء الواقع منها مطابقاً لما أراد سواء لا كما يريد أحدنا الشيء فإذا أوجده لم يكن على وفق مراده سواء ، وبسبب إظهار الأمر الثابت وإبطال الباطل فهو خالق المسكنين : الدنيوي والأخروي ، خلافاً لمن لا يقول بذلك من صابئ وفلسفي وغيرهم .
ولما كان أهل الطبائع يقولون : إن الأفلاك لها تأثير بحسب الذات والطبع ، قال نافياً لذلك مذكراً بنعمته لتشكر : ( وصوركم ) أي أيها المخاطبون على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات ولا السفليات ولا فيها صورة توافق الأخرى من كل وجه ) فأحسن صوركم ( فجعلها أحسن صور الحيوانات كلها كما هو مشاهد في الدنيا وكذا في الآخرة خلافاً لأهل التناسخ مع أن وضعها في نفسها أحسن الأوضاع ، لو غير شيء منها عن مكانه إلى شيء مما نعلمه فحصلت البشاعة به مع تفضيل الآدي بتزيينه بصفوة أوصاف الكائنات وجعل سبحانه أعضاء متصرفة بكل ما يتصرف به أعضاء سائر الحيوان مع زيادات اختص بها الآدمي إلى حسن الوجه وجمال الجوارح ، فهو أحسن بالنسبة إلى النوع من حيث هو هو ، وبالنسبة إلى الأفراد في نفس الأمر وإن كان بعضها أحسن من بعض ، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه ، ولذا قال الحكماء ، شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان ، فخلق الانسان في أحسن تقويم لا ينفي أن يكون للنوع الذي جعل أحسن أفراد أنواع لما فوقه من الجنس ، لا نهاية لأحسنية بعضها بالنسبة إلى بعض يشاهد ما وجد من أفراد نوعه من الذوات فقدرة الله لا تتناهى ، فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الإمام الغزالي أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، وإن كان قد علم أنه اعترض عليه في ذلك واجاب عنه في الكتاب الذي أجاب فيه عن أشياء اعترض عليه فيها فإنه لا عبرة بذلك الجواب أيضاً ، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يخلق أحسن من هذا العالم ، وهذا لا يقوله أحد ، وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد كما قال الإمام مالك رضي الله عنه ، وعزاه الغزالي بنفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه :(8/7)
صفحة رقم 8
صنفت هذه الكتاب وما ألوت فيها جهداً وإني لأعلم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول : ( ) ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ( ) [ النساء : 82 ] ولما كان التقدير : فكان منه سبحانه المبدأ ، عطف عليه قوله : ( وإليه ) أي وحده ) المصير ) أي بعد البعث بعين القدرة التي قدر بها على البدأة فمن كان على الفطرة الأولى لم يغيرها أدخله الجنة ، ومن كان قد أفسدها فجعل روحه نفساً بما طبعها به من حيث جسده أدخله النار ، وفي الدنيا أيضاً بانفراده بالتدبير ، فلا يكون من الملك والسوقة إلا ما يريد ، لا ما يريد ذلك المريد الفاعل .
التغابن : ( 4 - 5 ) يعلم ما في. .. . .
) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ( )
ولما تقرر بما مضى إحاطة قدرته بما دل على ذلك من إبداعه للخلق على هذا الوجه المحكم وشهد البرهان القاطع بأن ذلك صنعه وحده ، لا فعل فيه لطبيعة ولا غيرها ، دل على أن ذلك بسبب شمول علمه إلى إلى أن من لم يكن تام العلم فهو ناقص القدرة فقال : ( والأرض ( ولما ذكر حال الظرف على وجه يشمل المظروف ، وكان الاطلاع على أحوال العقلاء أصعب ، قال مؤكداً بإعادة العامل : ( ويعلم ) أي على سبيل الاستمرار ) ما تسرون ) أي حال الانفراد وحال الخصوصية مع بعض الإفراد .
ولما كانت لدقتها وانتشارها بحيث ينكر بعض الضعفاء الإحاطة بها ، وكان الإعلان ربما خفي لكثرة لغط واختلاط أصوات ونحو ذلك أكد فقال : ( وما تعلنون ( من الكليات والجزيئات خلافاً لمن يقول : يعلم الكليات الكليات خاصة .
ولما ذكر حال المظروف على وجه يشمل ظروفه وهي الصدور ، وكان الإضمار تعظيماً : ( والله ) أي الذي له الإحاطة التامة لكل كمال ) عليم ) أي بالغ العلم ) بذات ) أي صاحبة ) الصدور ( من الأسرار والخواطر التي لم تبرز إلى الخارج(8/8)
صفحة رقم 9
سواء كان صاحب الصدر قد علمها أو لا ، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي ، لأن نسبة المقتضي لعلمه وهو وجود ذاته على ما هي عليه من صفات الكمال إلى الكل على حد سواء ، فراقبوه في الإخراص وغيره مراقبة من يعلم أنه بعينه لا يغيب عنه واحذروا أن يخالف السر العلانية ، فإن حقه أن يتقي ويحذر ، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وتقديم تقرير القدرة على تقريره لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات ، وكمال قدرته يستلزم كمال علمه لأن من لا يكمل علمه لا تتم قدرته ، فلا يأتي مصنوعه محكماً .
ولما تقرر الإيمان به من أنه الملك الذي له وحده الملك ، وأشار بما يشاهد من انقسام عبيده إلى مؤمن وكافر إلى أنه لا من الأخذ على يد الظالم منهما كما هي عادة الملوك ، لا يسوغ في الحكمة ولا في العادة غير ذلك ، وأخبر أن علمه محيط لنسبته إلى العلويات والسفليات والظواهر والبواطن على حد سواء ، أتبع ذلك وجوب الإيمان برسله لجمع الكلمة عليه سبحانه لنكمل الحياة بإصلاح ذات البين يقع الخلاف فتفسد الحياة ووجوب الاعتبار لمن مضى من أممهم ، فمن لم يعتبر عثر على مهواه من الأمل ، ودل عليه بإهلاكه من خالفهم إهلاكاً منسقاً في خرقه للعادة وخصوصه لهم على وجه مقرر ما مضى من انفراده بالملك معلم أن الكفرة هم المبطلون فقال : ( ألم يأتكم ) أي أيها الناس ولا سيما الكفار لتعلموا أنه شامل العلم محيط القدرة ينتقم من المسيء ) نبؤوا الذين ( وعبر بما يشمل شديد الكفر وضعيفه فقال : ( كفروا ) أي خبرهم العظيم .
ولما كان المهلكون على ذلك الوجه بعض الكفار وهم الذين أرسل إليهم الرسل ، فلم يستغرقوا ما مضى من الزمان قال : ( من قبل ( كالقرون المذكورين في الأعراف ، ثم سبب عن كفرهم وعقب قوله : ( فذاقوا ) أي باشروا مباشرة الذائق بالعدل الثاني كما كانوا فيه مما يستحق أن يشاور فيه ويؤمر وينهى وثقله ووخامة مرعاه في الدنيا ، وأصله الثقل كيفما قلب ) ولهم ) أي مع ما ذاقوه بسببه في الدني ) عذاب أليم ( في البرزخ ثم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم .
التغابن : ( 6 - 7 ) ذلك بأنه كانت. .. . .
) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( ( )
ولما ذكر ما أحله بهم سبحانه وأشار إلى القطع بأنه من عنده باتساقه في خرقه العوائد بالاستئصال والخصوص لمن كذب الرسل والتنجية لمن صدقهم ، علله بقوله :(8/9)
صفحة رقم 10
) ذلك ) أي الأمر الشنيع العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق .
ولما لم يكن مقصودها كمقصود غافر من تصنيف الناس صنفين ، وإنما حصل تصنيفهم هنا بالعرض للدلالة على الساعة اكتفى بضمير الشأن فقال : ( بأنه ) أي بسبب أن الشأن العظيم البالغ في الفظاعة ) كانت تأتيهم ( على عادة مستمرة ) رسلهم ) أي رسل الله الذين أرسلهم إليهم وخصهم بهم ليكونوا موضع سرورهم بهم ) بالبينات ) أي الأمور التي توضح غاية الإيضاح أنهم رسل الله من الكتب وغيرها ، فشهداو الأمر من معدنه ، فلذلك كان عذابهم أشد .
ولما كان سبحانه وتعالى قد أودع الإنسان من جملة ما منحه به خاصة لطيفة وهي العزة وحب الكبر والعلو ، فمن وضعها موضعها بالتكبر على من أمر الله بالتكبر عليه وهم شياطين الإنس والجن ممن عصاه سبحانه نجا ، ومن وضعها في غير موضعها بالتكبر على أولياء الله رب العزة هلك ، بين تعالى أن الكفار وضعوها في غير موضعها : ( فقالوا ) أي الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً : ( أبشر ) أي هذا الجنس وهو مرفوع على الفاعلية لأن الاستفهام يطلب الفعل ، ولما كان تكذيب الجمع أعظم ، وكان لو أفرد الضمير لم يكن له روعة الجمع قال : ( يهدوننا ( فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم ) فكفروا ( بذلك عقب مجيء الرسل وبسببه من غير نظر وتفكر وأدنى تأمل وتبصر حسداً للرسل لكونهم مساوين لهم في البشرية فاستبعدوا أن يخصوا من بينهم بأمر ولا سيما إن كان عظيماً جداً ، فلزمهم ارتكاب أقبح الأمور وهو استبعاد أن يكون النبي بشراً مع الإقرار بأن يكون الإله حجراً ) وتولوا ) أي كلفوا أنفسهم خلاف ما تدعو وذلك أنهم قالوا : إن الله عظيم لا يشبه البشر فينبغي أن يكون رسله من غير البشر ، ولو تأملوا حق التأمل لعلموا ان هذا هكذا ، وأن الرسل إنما هي ملائكة ، لكن لما كان لا يقوى جميع البشر على رؤية الملائكة كما هو مقتضى العظيمة التي توهموها ولم يثبتوها على وجهها ، خص سبحانه نم البشر ناساً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوى زائدة طوقهم بها على معالجتهم ، فأتوا إليهم ليكونوا واسطة بين الله وبين خلقه لأن بعض الجنس أميل إلى بعض وأقبل .
ولما كان هذا كله إنما هو لمصالح الخلق لا يعود على الله سبحانه وتعالى وعز شأنه نفع من وجوده ولا يلحقه ضرر من عدمه ولا بالعكس ، نبه على ذلك بقوله ) واستغنى الله ) أي فعل الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه فعل من يطلب الغنى عنهم وأوجده إيجاداً عظيماً ممن هداه لاتباع الرسل فأعرض عنهم حين أعرضوا عن(8/10)
صفحة رقم 11
رسله فضرهم إعراضه عنهم ولم يضره إعراضهم وما ضروا إلا أنفسهم وأطلق الاستغناء ليعم كل شيء .
ولما كان التعبير بذلك قد يوهم حدوث ما لم يكن له ، نفى ذلك بقوله مظهراً زيادة في العظمة : ( والله ) أي المستجمع لصفات الكمال من غير تقيد بحيثية ) غني ( عن الخلق جميعاً ) حميد ( له صفة الغنى المطلق والحمد الأبلغ الذي هو الإحاطة بجميع أوصاف الكمال على الدوام أزلاً وأبداً ، لم يتجدد له شيء لم يكن .
ولما قرر وجوب الإيمان به وبرسله وكتبه وبالقدر خيره وشره ، وقسم الناس إلى مؤمن وكافر ، وأخبر أن الكافر تكبر عن الرسل ، عين الموجب الأعظم لكفرهم بقوله دالاً على وجوب الإيمان بالعبث وترك القياس والرأي فإن عقل الإنسان لا يستقل ببعض أمور الإلهية ، معبراً بما أكثر إطلاقه على ما يشك فيه ويطلق على الباطل إشارة إلى أنهم شاكون وإن كانوا جازمين ، لكونهم لا دليل لهم ، وإلى أنهم في نفس الأمر مبطلون : ( زعم ( قال ابن عمر رضي الله عنهما : هي كنية الكذب ، وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه عند أبي داود : ( بئس مطية الرجل زعموا ) ) الذين كفروا ) أي أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى ولو على أدنى الوجوه .
ولما كان الزعم ادعاء العلم وكان من يتعدى إلى مفعولين ، أقام سبحانه مقامهما قوله : ( أن لن يبعثوا ) أي من باعث ما بوجه من الوجوه .
ولما كان قد أشار سبحانه بنوعي المؤمن والكافر إلى الدليل القطعي الضروري على وجود المبطل اللازم منه ودعه اللازم منه وجب البعث ، اكتفى في الأمر بإجابتهم بقوله : ( قل ) أي لهم : ( بلا ) أي لتبعثن ، ثم أكده بصريح القسم فقال : ( وربى ) أي المحسن إليّ بالانتقام ممن كذب بي ، وبإحقاق كل حق أميت ، وإبطال كل باطل أقيم ) لتبعثن ( مشيراً ببنائه للمفعول إلى أنه ويكون على وجه القهر لهم بأهو شيء وأيسر أمر وكذلك قوله : ( ثم لتنبؤن ) أي لتخبرن حتماً إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله لإخباركم ) وذلك ) أي الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب ) على الله ) أي المحيط بصفات الكمال وحده ) يسير ( لقبول المادة وحصول القدرة ، وكون قدرته سبحانه كذلك شأنها ، نسبة الأشياء الممكنة كلها جليلها وحقيها إليها على حد سواء .(8/11)
صفحة رقم 12
التغابن : ( 8 - 10 ) فآمنوا بالله ورسوله. .. . .
) فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ( )
ولما كان في رد قولهم على هذا الوجه مع الإقسام من غير استدلال إشارة إلى تأمل الكلام السابق بما اشتمل عليه من الأدلة التي منها ذلك البرهان البديهي ، سبب عنه قوله فذلكة لما مضى من الأدلة وجمعاً لحديث جبريل عليه الصلاة والسلام في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدرة خيره وشره والإسلام والإحسان : ( فأمنوا بالله ) أي الذي لا أظهر من أن له الإحاطة الكاملة بكل شيء وأنه لا كفؤ له ولا راد لأمره .
ولما دعاه هذا إلى الإيمان به سبحانه عقلاً ونقلاً ذكراً وفكراً ، ثنى بالإيمان بالرسل من الملائكة والبشر فقال : ( ورسوله ) أي كل من أرسله ولا سيما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بما ثبت من تصديقه بالمعجزات من أنه رسوله ، ويلزم من الإيمان به الإيمان بمن أبلغه من الملائكة .
ولما كانت تلك المعجزات موجبات للعلم كانت أحق الأشياء باسم التور فإن النور هو المظهر للأشياء بعد انحجابها برداء الظلام وكان أعظم تلك المعجزات وأحقها بذلك كتب الله المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، وأعظمها القرآن الذي هو مع إعجازه بيان لكل شيء ، قال : ( والنور ( وعينه بقوله : ( الذي أنزلنا ) أي بما لنا من العظمة فكان معجزاً فكان بإعجازه ظاهراً بنفسه مظهراً لغيره ، وهذا وإن كان هو الواقع لكن ذكر هذا الوصف صالح لشمول كل ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن المعلوم أن أعظمه القرآن المنزل على أشرف رسله ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين ، فهو أحق ذلك باسم النور لما مضى من إعجازه ، فمن آمن به أدخل الله قلبه من أنوار الفهوم والألطاف والسكينة ما يضيء الأقطار .
ولما كان التقدير : والله محاسبكم على ما قابلتم به إنعامه عليكم بذلك من إيمان وكفران ، عطف عليه مرغباً مرهباً قوله : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ، وقدم الجار لما تقدم غير مرة من مزيد التأكيد فقال : ( بما تعملون ) أي توقعون عمله في وقت من الأوقات ) خبير ) أي بالغ العلم بباطنه وظاهره .
ولما أخبر بالبعث وأقسم عليه ، وأشار إلى دليلة السابق ، وسبب عنه ما ينجي في يومه ، ذكر يومه وما يكون فيه ليحذر فقال متبعاً ما مضى من دعائم الإيمان دعامة اليوم الآخر واعظاً لمن يقول : يا ليت شعري ما حالي بعد ترحالي ؟ وقامعاً لمن يقول : لا حال بعد الترحال ، بالإعلام بأنها أحوال أي أحوال ، تشيب الأطفار ، وتقصم ظهور(8/12)
صفحة رقم 13
الرجال ، بل تهد شم الجبال : ( يوم ) أي تبعثون في يوم ) يجمعكم ) أي أيها الثقلان .
ولما كان الوقت المؤرخ به فعل من الأفعال إنما يذكر لأجل ما وقع فيه ، صار كأنه علة لذلك الفعل فقال تعالى : ( ليوم الجمع ( لأجل ما يقع في ذلك اليوم الذي يجمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض من الحساب والجزاء الذي يكون فوزاً لناس فيكونون غابنين ، ويكون خيبة لناس فيكونون مغبونين ، وكل منهم يطلب أن يكون غابناً .
ولما كان هذا المقصد أمراً عظيماً مقطعاً ذكره الأكباد ، قال مشيراً إلى هوله بأداة البعد مستأنفاً : ( ذلك ) أي اليوم العظيم المكانة الجليل الأوصاف ) يوم التغابن ( الذي لا تغابن في الحقيقة غيره لعظمه ودوامه ، والغبن : ظهور النقصان للحظ الناشىء عن خفاء لأنه يجمع فيه الأولون والأخرون وسائر الخلق أجمعون ، ويكون فيه السمع والإبصار على غاية لا توصف بحث إن جميع ما يقع فيه يمكن أن يطلع عليه كل أحد من أهل ذلك الجمع ، فذا فضح أحد افتضح عند الكل ، وما عبد يدخل الجنة إلى أري مقعده نم النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة فيغبن كل كافر بتركه الإيمان وكل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، ومادة ( غبن ) تدور على الخفاء من مغابن الجسد وهي ما يخفى عن العين ، وسمي الغبن في البيع - لخفائه عن صاحبه ، فالكافر والظالم يظن أنه غبن المؤمن بنعيم الدنيا الذي استأثر به الكافر ، وبالنقص الذي أدخله الظالم على المظلوم ، وقد غبنهما يشبه غبن ، فقد بعث ذكر هذا اليوم على هذا الوجه على التقوى اتم بعث ، وهي الحاملة على اتباع الأوامر واجتناب النواهي لئلا يحصل الغبن بفوات النعيم أو نقصانه ، ويحصل بعده للكافر العذاب الأليم .
ولما كان كل أحد يحسب أن يكون في النور ، ويكره أن يكون في الظلام ، ويحب أن يكون غابناً ، ويكره أن يكون مغبوناً ، أرشدت سوابق الكلام ولواحقه إلى أن التقدير ، فمن آمن كان في النور ، وكان في ذلك اليوم برجحان ميزانه من الغابنين ، ومن كفر كان في الظلام ، وكان في ذلك اليوم بنقصان ميزانه من المغبونين ، فعطف عليه قوله بياناً لآثار ذلك الغبن ، وتفضيلاً له بإصلاح الحامل على التقوى وهو أمور منها القوة العلمية : ( ومن يؤمن ) أي يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار ) بالله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفؤ له .
ولما ذكر الرأس وهو إصلاح القوة العلمية ، أبته البدن وهو إصلاح بقولة العملية فقال : ( ويعمل ( تصديقاً لإيمانه ) صالحاً ) أي عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المنافع ودفع المضار .(8/13)
صفحة رقم 14
ولما كان الدين مع سهولته متيناً لن يشاده أحد إلا غلبه ، قال حاملاً على التقوى بالوعد بدفع المضار ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى أن زمان التكفير والدخول متفاوت بحسب طول الحساب وقصره ، كلما فرغ واحد من الحساب دخل الجنة إن كان من أهلها : ( يكفر ) أي الله - على قراءة الجماعة بأن يستر ستراً عظيماً ) عنه سيئاته ( التي غلبه عليها نقصان الطبع ، وأتبع ذلك الحامل الآخر وهو الترجئة يجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء والرهبة والرغبة والنذارة والبشارة فقال : ( ويدخله ) أي رحمة له وإكراماً وفضلاً ) جنّات ) أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ، ورياض مديد منوعة الأزاهير عطرة النشر تبهج رائيها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله : ( تجري ( ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير ممدوع ، بين أنه في خلالها على أحسن الأحوال فقال : ( من تحتها ( وبين عظمه بقوله : ( الأنهار ( ولما كان النزوح أو توقعه عن مثل هذا محزناً ، أزال توقع ذلك بقوله جامعاً لئلا يظن الخلود لواحد بعينه تصريحاً بأن من معناها الجمع وأن كل من تناولته مستوون في الخلود : ( خالدين فيها ( وأكد بقوله : ( أبداً ( والتقدير على قراءة نافع وابن عامر بالنون : نفعل التكفير والإدخال إلى هذا النعيم بما لنا من العظمة فإنه لا يقدر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء إلا الله سبحانه ، ولا تكون هذه القدرة تامة إلا لمن كان عظيماً لا راد لأمره أصلاً .
ولما كان هذا أمراً باهراً جالباً بنعيمه سرور القلب ، أشار إلى عظمته بما يجلب سرور القلب بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام ، لا غيره ) الفوز العظيم ( لأنه جامع لجميع المصالح مع دفع المضار وجلب المسار .
ولما ذكر الفائزون بلزومه التقوى ترغيباً ، أتبعه الخائب بسبب إفساد القوتين الحاملتين على التقوى : العلمية والعملية ترهيباً ، فقال بادئاً بالعلمية : ( والذين كفروا ) أي غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظالم .
ولما ذكر إفسادهم القوة العلمية ، أتبعه العملية فقال : ( وكذبوا ) أي أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب ) بآياتنا ( بسببها مع ما لها من العظمة بإضافتها إلينا ، فلم يعملوا شيئاً .
ولما بين إفسادهم للقوتين ، توعدهم بالمضار فقال معرياً من الفاء في جانبي الأشقياء والسعداء طرحاً للأسباب ، لأن نظر هذه السورة إلى الجبلات الت لا مدخل فيها لغيره أكثر بقوله :
77 ( ) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( ) 7
[ التغابن : 2 ] فإن ذلك أحدر بالخوف منه ليكون أجدر بالبعد عما يدل على الجبلة الفاسدة من الأعمال السيئة : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) أصحاب النار ( ولما كان السجن إذا رجي(8/14)
صفحة رقم 15
الخلاص منه قلل من خوف داخله ، وكان التعبير بالصحبة مشعراً بالدوام المقطع للقلوب لأنه مؤيس من الخلاص ، أكده بقوله : ( خالدين فيها ( وزاد في الإرهاب منها بقوله مشيراً إلى مضار القلب بعد ذكر مضار القالب : ( وبئس المصير ) أي جمعت المذام كلها الصيرورة إليها وبقعتها التي للصيرورة إليها ، فكيف بكونها على وجه الإقامة زمناً طويلاً فكيف إذا كان على وجه الخلود .
التغابن : ( 11 - 14 ) ما أصاب من. .. . .
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما كان من تعرفه من المرغبي والمرهبين لا يفعل ذلك إلا فيما ليس قادراً على حفظه وضطبه حتى لا يحتاج العامل في عمل ذلك إلى رقيب يحفظه ووكيل يلزمه ذلك العمل ويضطبه ، وكان قول المنافقين المتقدم في الإنفاق والإخراج من المصائب ، وكانت المصائب تطيب إذا كانت من الحبيب ، قال جواباً لمن يتوهم عدم القدرة متمماً ما مضى من خلال الأعمال بالإيمان بالقدر خيره وشره ، مرغباً في التسليم مرهباً من الجزع قاصراً الفعل ليعم كل مفعول : ( ما أصاب ) أي أحداً يمكن المصائب أن تتوجه إليه ، وذكر الفعل إشارة إلى القوة ، وأعرق في النفي بقوله : ( من مصيبة ( أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية من كفر أو غيره ) إلا بإذن الله ) أي يوجد باعثاً على أول ركني الإسلام وهو صلاح القوة العلمية : ( ومن يؤمن بالله ) أي يوجد الإيمان في وقت من الأوقات ويجدده بشهاد إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بسبب الملك الأعظم وتقديره وإذنه ) يهد قلبه ) أي يزده هداية بما يجدده له من التوفيق في كل وقت حتى يرسخ إيمانه فتنزاح عنه كل مصيبة ، فإنه يتذكر أنها من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن لصيبه فيسلم بقضائه فيصبر له ويفعل ويقول بل يحصل له بسببها عدة أرباح وفوائد ، فتكون حيانه طيبة بالعافية الشاملة في الدينيات(8/15)
صفحة رقم 16
والكونيات لأن بالعافية في الكونيات تطيب الحياة في الدنيا ، وبالعافية في الدينيات تطيب الحياة في الآخرة فتكون العيشة راضية ، وذلك بأن يصير عمله صواباً في سرائره وضرائه فيترك كل فاحشة دينية بدنية وباطنة قلبية ويترك الهلع في المصائب الكونية كالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس واثمرات وذلك أنه بصلاح القلب ينصلح البدن كله .
ولما كان التقدير تعليلاً لذلك : فاللّه على كل شيء قدير فهو لا يدع شيئاً يكون إلا بإذنه ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الملك الذي لا نظير له ) بكل شيء ( مطلقاً من غير مثنوية ) عليم ( فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة .
ولما كان التقدير : فاصبروا عن هجوم المصائب ، عطف عليه قوله تحذيراً من أن يشتغل بها فتوقع في الهلاك وتقطع عن أسباب النجاة دالاً على تعلم أمور الدين من معاداتها مشيراً إلى أن العبادة لا تقبل إلا بالاتباع لا بالابتداع : ( وأطيعوا الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله فافعلوا في كل مصيبة ونائبة تنوبكم وقضية تعروكم ما شرعه لكم ، وأكد بإعادة العامل إشارة إلى أن الوقوف عند الحدود ولا سيما عند المصائب في غاية الصعوبة فقال : ( وأطيعوا الرسول ) أي الكامل في الرسلية - ( صلى الله عليه وسلم ) - فإنه المعصوم بما خلق فيه من الاعتدال وما زكى به من شق البطن وغسل القلب مراراً ، وما أيد به من الوحي ، فما كانت الأفعال بإشارة العقل مع الطاعة لله والمتابعة لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل إقدام وإحجام كانت معتدلة ، سواء كانت شهوانية أو غضبية ، ومتى لم تكن كذلك كانت منحرفة إلى أعلى وإلى أسفل فكانت مذمومة ، فإن الله تعالى بلطف تدبيره ركب في الإنسان قوة غضبية دافعة لما يهلكه ويؤذيه ، وقة شهوانية جالبة لما ينميه ويقويه ، فاعتدال الغضبية شجاعة ونقصها جبن وزيادتها تهور ، فالناس باعتبارها جبان وشجاع ومتهور ، واعتدال الشهوانية عفة ونقصانها زهادة وزيادتها شره ، والناس باعتبارها زهيد وعفيف وشره ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وميزان العدال متابعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما شرعه ، فبذلك تنزاح الفتن الظاهرة والباطنة ، ولا طريق إلى الله إلا بما شرعه ، وكل طريق لم يشرعه ضلال من الكفر إلى ما دونه ، ثم سبب عن أمره ذلك قوله معبراً بإداة الشك إشارة إلى البشارة بحفظ هذه الأمة من الردة ومشعراً بأن بعضهم يقع من ذلك ثم يقرب رجوعه أو هلاكه : ( فإن توليتم ) أي كلفتم أنفسكم عندما تدعو إليه المفهومة من طرفي القصد فما على رسولنا شيء من توليكم ) فإنما على رسولنا ( أضافه إليه على وجه العظمة تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه ) البلاغ المبين ) أي الظاهر(8/16)
صفحة رقم 17
في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح ولم يدع لبساً ، ليس إليه خلق الهداية في القلوب .
ولما كان كان هذا موجعاً لإشعاره بإعراضهم مع عدم الحيلة في ردهم ، عرف بأن ذلك إنما هو إليه وأنه القدر عليه فقال جواباً لمن كأنه قال : فما الحيلة في أمرهم - مكملاً لقسمي الدين بالاستعانة بعد بيان قسمه الآخر وهو العبادة : ( الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) لا إله إلا هو ( فهو القدر على الإقبال بهم لوا يقدر على ذلك غيره ، فإليه اللجاء في كل دفع ونفع وهو المستعان في كل شأن فإياه فليرج في هدايتهم المهتدون ) وعلى الله ) أي الذي له الأمر كله لا على غيره .
ولما كان مطلق الإيمان هو التصديق بالله باعتقاد أنه القادر على كل شيء فلا أمر لأحد معه ولا كفوء له فكيف بالسوخ فيه ، نبه على هذا المقتضي للربط بالفاء والتأكيد بلام الأمر في قوله : ( فليتوكل المؤمنون ) أي يوجد التوكيل إيجاداً هو في غاية الظهور والثبات العريقون في هذا الوصف في رد المتولي منهم إن حصل منهم تول وكذا في كل مفقود فالعفة ليست مختصة بالموجود فكما أن قانون العدل في الموجود الطاعة فقانون العدل في المفقود التوكل وكذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فكان لهم الحظ الأوفر في كل توكل لا سيما حين ارتدت العرب بعد موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أحقهم بهذا الوصف الصديق رضي الله تعالى عنه كما يعرف ذلك من ينظر الكتب المصنفة في السير وأخبار الردة لا سيما كتابي المسمى في أخبار الردة .
ولما كانت أوامر الدين تارة تكون باعتبار الأمر الديني من سائر الطاعات المحضة ، وتارة باعتبار الأمر التكويني وهو ما كان بواسطة مال أو أهل أو ولد ، أتم سبحانه القسم الأول في الآيتين الماضيتين ، شرع في الأمر الثاني لأنه قد ينشأ عنه فتنة في الدين وقد ينشأ عنه فتنة في الدنيا ، ولما كانت الفتنة بالإقبال عليه والإعراض عنه أعظم الفتن ، لأنها تفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وابنه وتذهل الخليل عن خليله - كما شوهد ذلك في بدء الإٍلام ، وكان أعظم ذلك في الردة ، وكان قد تقدم النهي عن إلهاء الأموال والأولاد ، وكان النهي عن ذلك في الأولاد نهياً عنه في الأزواج بطريق الأولى ، فلذلك اقتصر عليهم دون الأزواج ، وكان المأمور بالتوكل ربما رأى أن تسليم قياده لكل أحد لا يقدح في التوكل ، أشار إلى أن بناء هذه الدار على الأسباب مانع من ذلك فأمر بنحو ( اعقلها وتوكل ) ( واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) الحديث ، فقال جواباً عن ذلك لمن يحتاج إلى السؤال عن مثله مبيناً للأوامر بالاعتبار للامتحان التكويني وإن كان أولى الناس ببذل الجهد في تأديبه وتقويمه وتهذيبه أقرب(8/17)
صفحة رقم 18
الأقارب وألصق الناس بالإنسان وهو كالعلة لآخر ( المنافقون ) : ( يا أيها الذين آمنوا ( ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن ، فقال مؤكداً لمن يستبعد ذلك : ( إن من أزواجكم ( وإن أظهرن غاية المودة ) وأولادكم ( وإن أظهروا أيضاً غاية الشفقة والحنان ) عدواً لكم ) أي لشغلهم لكم عن الدين أو لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك ، قال أبو حيان رحمه الله تعالى : ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فبإذهاب ماله - كما هو معروف - وعرضه ، وأما في الآخرة فيما يسعى في اكتسابه من الحرام لأجلهم وبما يكسبانه منه بسبب جاهه .
فالرجل من رأى ذلك نعمة من الله فجعله معيناً له على طاعته لا قاطعاً ومعوقاً عما يرضيه بأن يلتهي بمحبته وعداوته وبغضته .
ولما أخبر عن العداوة ، عبر بما قدم يفهم الواحد فقط تخفيفاً ، ولما أمر بالحذر جمع إشارة إلى زيادة التحذير والخوف في كل أحد ولو كان أقرب الأقرباء لأن الحزم سوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط ، فسبب عن الإخبار بالعداوة الأمر بالحذر في قوله : ( فاحذروهم ) أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه ، ولا يحملنكم حبهم في كل أمرهم فتطلبوا وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتناً لكم في الدين إما بالردة - والعياذ بالله تعالى - أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومالفة السنة والجماعة ولما كان قد يقع ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام ، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار ، قال مرشداً إلى ذلك : ( وإن تعفوا ) أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع ، وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه سبحانه لئلا يكون سبباً للو المنهي عنه .
ولما كان الرجوع عن الحظوظ صعباً جداً ، أكد سبحانه فقال : ( وتصفحوا ) أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان ) وتغفروا ) أي بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأصر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب ، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة ، ولما كان التقدير : يغفر الله لكم ، سبب عنه قوله : ( فإن الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) غفور ) أي بالغ المحو الأعيان الذنوب وآثرها جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه ) رحيم ( يزيدكم بعد ذلك الستر بالإنعام إن أكرمتموهم ، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم من فضله .(8/18)
صفحة رقم 19
التغابن : ( 15 - 18 ) إنما أموالكم وأولادكم. .. . .
) إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ( )
على البعض ، كان كأنه قيل : فما حكم سائره ؟ فكأن الحكم بذلك يلزم ضاماً إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة : ( إنما ( وأسقط الجار لأن شيئاً من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال : ( أموالكم ) أي عامة ) وأولادكم ( كذلك ) فتنة ) أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة ، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده ، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم ، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال : ( يؤتى برل يوم القيامة فيقال له : أكل عياله حسناته ) ( ويكفي فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى : ( ) ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ( ) [ التوبة : 75 ( ) وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة .
ولما كان التقدير : ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير ، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير ، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر ، عطف عليه مهوناً له بالإشارة إلى كونه فانياً وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله : ( والله ) أي ذو الجلال ) عنده ( وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه ) أجر ( ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله : ( عظيم ) أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها ، فلم يقدم على رضاه مالاً ولا ولداً ، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة .
ولما كان التقدير : وعنده عذاب أليم لمن خالف ، سبب عنه قوله فذلك أخرى لما(8/19)
صفحة رقم 20
تقدم من السورة كلها : ( فاتقوا الله ( مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار إن المعنى : اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما ، باجتناب نواهيه بعد امتثال نواهيه بعد امتثال أوامره ، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي ، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط .
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل ، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره ، خفف ويسر بقوله : ( ما استطعتم ) أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين ، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات ، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومراتبته وصفاته وتعالى وأفعاله ، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة ، وأعظمه الهجرة والجهاد ، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود ، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه ، وبذلك الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ - والله أعلم .
ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال : ( واسمعوا ) أي سماع إذعان وتسليم لما توعظنون به ولجميع أوامره ) وأطيعوا ) أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة ، وحذف المتعلق ليصدق بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق .
ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال : ( وأنفقوا ) أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة ، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي .
ولما كان الحامل على الشح وما يخطر في البال من الضروات التي أعزها ضرورة النفس ، رغب فيه بما ينصرف إليه بادئ بدء ويعم جميع ما تقدم فقال : ( خيراً ) أي يكن ذلك أعظم خير واقع ) لأنفسكم ( فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس ، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه ، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته .
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال : ( ومن يوق ( بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان - وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال : ( شح نفسه ( فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى(8/20)
صفحة رقم 21
يرتفع عن قلبه الأخطار ، ويتحرز عن رق المكونات ، والشح : خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة ، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح ، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها ، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها ، وتارة بإنفاق المال ، ومن فعل منا فرض عليه خرج عن الشح .
ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله : ( فأولئك ) أي العالو الرتبة ) هم ) أي خاصة ) المفلحون ) أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع .
ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم ، رغب فيه تأكيداً لأمره لما فيه نم الصعوبة لا سيما في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن المال فيه كان في غاية العزة ولا سيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولا سيما إن كان في حال ظهور العداوة ، فقال بياناً للإفلاح متلطفاً في الاستدعاء التعبير بالقرض مشيراً إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك : ( إن تقرضوا الله ) أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته ، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال : ( قرضاً حسناً ) أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها ، وأعظم التغريب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال : ( يضاعفه لكم ) أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات ، قال القشيري : يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذلك أموالهم وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم ، فالغني يقال له : آثر على مرادك في مالك وغيره ، والفقير يقال له : آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك .
ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين ( لن يشاده أحد إلا غلبه ) قال : ( ويغفر لكم ) أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق ، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور ، وذلك هو السعادة كلها .
ولما كان التقدير : فاللّه غفور رحيم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي لا يقاس عظمته بشيء ) شكور ) أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً(8/21)
صفحة رقم 22
جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة ) حليم ( لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب ، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه ، فإن غضب الحليم لا يطاق ، وهو راجع إلى الغفران .
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب غلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال : ( عالم الغيب ( وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره .
ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علمم ما غاب علم ما شهد ، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات ، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزيئات قبل الكون وبعده على حد سواء : ( والشهادة ( وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق ، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للؤمني ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه .
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلى أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال : ( العزيز ) أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء .
ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عيله قال : ( الحكيم ) أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق ، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته ، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة .
وتارة يخالف فيسمى معصية ، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التبدير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته ، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار ، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها ، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك ، وقد رجع - بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن - على افتتحها حسن ختامها ، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها ، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها. والله الموفق للصواب .
.. . .(8/22)
صفحة رقم 23
سورة الطلاق
لمقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق ، بالتقوى لا سيما في الإنفاق ، لا سيما إن كان ذلك عند الشقاق ، لا سيما إن كان في أمر النساء لا سيما عند الطلاق ، ليكونالفراق على نحو التواصل والتلاق ، واسمها الطلاق أجمع ما يكون لذلك ، فلذا سميت به وكذا سورة النساء القصرى لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء ) بسم الله ( الذي له جميع صفات الكمال ) الرحمن ( الذي عم برحمته النوال ) الرحيم ( الذي خص بالرحمة ذوي الهمم العوال .
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي. .. . .
) يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ( ( )
لما ختمت التغابن بأنه تعالى شكور حليم عزيز حكيم مع تمام العلم وشمول القدرة ، بعد التحذير من النساء بالعداوة ، وكانت العداوة تجر إلى الفراق ، افتتح هذه بزم لأنفس عند ثوران الحظوظ بزمام التقوى ، وأعلى الخطاب جداً بتوجيهه إلى أعلى الخلق تنبيهاً على عظمة الأحكام الواردة في هذه السورة فإنها مبنية على الأسماء الأربعة لتتلقى بغاية الرغبة فقال : ( يا أيها النبي ( مخصصاً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، ذاكراً الوصف الذي هو سبب التلقي لغرائب العلوم ورغائب الحكم والفهوم .
ولما علم من الإقبال عليه ( صلى الله عليه وسلم ) عظمة الحكمة ، ومن التعبير في النداء بأداة التوسط التي لا تذكر في أمر مهم جداً أن الذي هو أقرب أهل الحرضة غير مقصود بها من كل وجه ، وأن القصد التنبيه لجلالة هذه الأحكام ، وبذل الجهد في تفهيمها والعمل بها ، فلذا أقبل على الأمة حين انتبهوا وألقوا أسماعهم ، فقال معبراً بأداة التحقق لأنه من أعظم(8/23)
صفحة رقم 24
مواضعها : ( إذا طلقتم ( وعلم من ذلك عموم الحكم له ( صلى الله عليه وسلم ) لكن لما كان للإنسان مع نسائه حالان أحدهما المشاححة ، كان غيره أولى بالخطاب فيه ، وثانيهما الجود والمصالحة بالحلم والعفو ، فكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بذلك فجاءت له سورة التحريم ) النساء ) أي أردتم طلاق هذا النوع واحدة منه فأكثر ) فطلقوهن ) أي إن شئتم مطلق طلاق ثلاثاً أو دونها ، وكلما قل كان أحب بدليل ما يأتي من لواحق الكلام من الإشارة إلى الرجعة ) لعدتهن ) أي في وقت أو عند استقبال العدة أي استقبال طهر يحسب منها ، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه إن كانت مدخولاً بها ، ذلك معنى قراءة ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ( في قبل عدتهن ) فهذا طلاق السنة وغيره طلاق البدعة ، فإن الطلاق في الحيث تطويل للعدة لأنه غير محسوب ، ولا بد أن يكون الطهر لم يجامع فيه لأنها إذا جومعت ربما حملت فطالت العدة ، وهذا اللام للوقت مثلها في ( كتب هذا لخمس بقين من شهر كذا ) واختير التعبير بها لأنها تفهم مع ذلك أن ما دخلت عليه كالعلة الحاملة على متعلقها ، فصار كأنه قيل : طلقوا لأجل العدة وإذا كان لأجلها علم أن المراد تخفيفها على المرأة بحسب الطاقة لأن مبنى الدين على اليسر ، وذلك دال على أن العدة بالأسهار ، وأن الطلاق في الحيض حرام لأن الأمر بشاء نهي عن ضده ، ولا يدل على عدم الوقوع لأن النهي غير مستلزم للفساد ، وقد بين ذلك كله ( حديث ابن عمر رضي الله عنهما في طلاقه زوجته في الحيض الذي كان سبب النزول ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم إن شاء امسك وإن شاء طلق قبل أن يمس ) وعلم أن من عدتها بغير الأقراء التي يمكن طولها وقصرها وهي غير المدخول بها والتي لم تحض والآئسة والحامل لا سنة في طلاقها ولا بدعة ، وكذا للخالعة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لثابت بن قيس رضي الله عنه في الخلع من غير استفصال عن حال امرأته لأنه إنما يكون في الغالب عن تشاجر وتساؤل من المرأة ، ويقع الطلاق البدعي لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر ابن عمر رضي الله عنهما بالمراجعة منه ، ويأثم به بعد العلم ، ولو طلق في الحيض وراجع جاز له أن يطلق حال انقضاء الحيض قبل المجامعة ، والأمر بالإمساك إلى كمال الطهر والحيض الذي بعده للندب حتى لا يكون في صورة من راجع للطلاق ولا بدعة في جمع الثلاثة لأنه لا إشارة إله في الآية ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي هو سببها ، نعم قد يدعي ذلك في آية البقرة في قوله تعالى :
77 ( ) الطلاق(8/24)
صفحة رقم 25
مرتان ( ) 7
[ البقرة : 229 ] و ( الطلاق أبغض الحلال إلى الله ) كما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما فأبغضه إليه أنهاه ( وما حلف به ولا استحلف إلا منافق ) كما في الفردوس عن أنس رضي الله عنه .
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً لما فيها من الحكم بالتأني لاحتمال الندم وبالظن لبراءة الرحم احتياطاً للأنساب وبقطع المنازعات والمشاجرات المفضية إلى ذهاب الأموال والارواح ، وقد أفهمه التعبير باللام ، صرح به بصيغة الأمر فقال : ( وأحصوا ) أي اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس بعد الحصي ) العدة ( لتكملوها ثلاثة أقراء كما تقدم الأمر به ليعرف زمان النفقة والرجعة والسكنى وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة .
ولما كان الطلاق على غير هذا الوجه حراماً للضرار ومخالفة الأمر وكذا التهاون في الضبط حتى يحتمل أن تنكح المرأة قبل الانقضاء ، أمر بمجانبة ذلك كله بقوله : ( واتقوا ) أي في ذلك ) الله ) أي الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر لذاته في الزمن والإحصار لأن في ذلك ما هو حقه ) ربكم ) أي لإحسانه في تربيتكم في حملكم على الحنيفية السمحة ودفع جميع الآصار عنكم .
ولما أمر بالتقوى وناط بعضها بصفة الإحسان فسره بقوله : ( لا تخرجوهن ) أي أيها الرجال في حال العدة ) من بيوتهن ) أي المساكن التي وقع وهي سكنهن ، وكأنه عبر بذلك إشارة إلى أن استحقاقها لإيقاء العدة به في العظمة كاستحقاق المالك ، ولأنها كانت في حال العصمة كأنها مالكة له ، فليس من المروءة إظهار الجفاء بمعنها منه ، ولأنها إن روجعت كانت حاصلة في الحوزة ولم يفحش الزوج في المقاطعة ، وإن لم يحصل ذلك فظهر أنها حامل لم تحصل شبهة في الحمل .
ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لحقهن فقط نفاه بقوله : ( ولا يخرجن ) أي بأنفسهن إن أردن ذلك من غير مخرج من جهة الزوج أو غيره ، فعلم من ذلك تحتم ا ستكمال العدة في موضع السكنى وأن الإسكان على الزوج ، وتخرج لضرورة بيع الغزل وجذاذ(8/25)
صفحة رقم 26
النخل ونحوه .
ولما كان منطوق ذلك أنه لا يجوز له إخراجها كارهة ، ولا يجوز لها أن تخرج بنفسها فقط وهو كاره فأفهم ذلك أنهما لو اتفقا جاز لأن ذلك خارج عن المنهي ، استثنى من كلا شقي المنهي عنه بقوله .
) إلآ أن يأتين ) أي جنس المطلقات الصادق بواحدة وأكثر ) بفاحشة ) أي خصلة محرمة شديدة القباحة ) مبينة ) أي ظاهرة في نفسها ظهوراً بيناً عند كل من أريد بيانها له ، وذلك كالبذاءة منها على الزوج أو أقاربه فإنه كالنشوز يسقط حقها من السكنى ، فيجوز له إخراجها لقطع الشر ، وهو معنى قراءة أبي رضي الله عنه : إلا أن يفحشن عليكم ، وكالزنا فتخرج بنفسها ويخرجها غيرها من الزوج وغيره لإقامة الحد عليها وغير ذلك من الفواحش كما أنه يطلقها للنشوز فإنه لا سكنى لها حينئذ .
ولما كان التقدير : هذه أحكام هذا الفرع ، عطف عليه تعظيماً لها قوله تعالى : ( وتلك ) أي الأحكام العالية جداً بما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيره ) حدود الله ) أي الملك الأعظم الذي هو نور السماوات والأرض .
ولما كان التقدير : فمن تحاماها فقد أنصف نفسه بأخذه النور المبين ، عطف عليه قوله : ( ومن يتعد ) أي يقع منه في وقت من الأوقات أنه يتعمد أن يعدو ) حدود الله ) أي الملك الأعظم ) فقد ظلم نفسه ( بأن مشاها في الظلام فصارت تضع الأشياء في غير مواضعها ، فصار بمعرض الهلاك بالعقاب كما أن الماشي في الظلام معرض للوقوع في حقرة والدوس على شوكة أو حية أو عقرب أو سبع ، أو لأن ينفرد بقاطع ، أو أن يضل عن الطريق إلى مهالك لا يمكن النجاة منها ، ومثال ذلك الحكيم إذا وصف دواء بقانون معلوم في وقت محدود ومكان مخصوص فخولف لم لم يضر يضر المخالف ذلك الحكيم وإنما ضر نفسه .
ولما كان له الخلق جميعاً تحت أوامره سبحانه مع أنها كلها خير لا شر فيه بوجه إسرار وإغوار ، لا تدرك ولا تحصى ، وقد يظهر بعضها لسان الحدثان بيد القدرة ، وكان متعديها ظالماً وكانمن أقرب ظلمه وأبينه الإيقاع في مهاوي العشق ، فسره سبحانه بقوله مبيناً عظمته بخطاب الإعلاء : ( لا تدري ) أي يا أيها النبي الكرمي ما يكون عن ذلك من الأمور التي يحدثها الله لتشير على المطلق بشيء مما يصلحه فغيرك من باب الأولى .
ولما نفى عنه العلم المغيب لاختصاصه سبحانه به وحذف المتعلق إعراقاً في التعميم ، وكان كل أحد فيما يحدث له من الأمور ما بين رجاء وإشفاق ، عبر عن ذلك بأداة صالحة لها فقال : ( لعل الله ) أي الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور ) يحدث ) أي يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا يقدر الخلق على التسبب في(8/26)
صفحة رقم 27
زواله فيكون مستغرقاً لزمان العمر كما أشار إليه نزع الخافض في قوله تعالى : ( بعد ذلك ) أي الحادث من الإشارة بالضرار بالإخراج أو تطويل العدة أو غير ذلك ) أمراً ) أي من الأمور المهمة كالرغبة المفرطة في الزوجة فلا يتأتى ذلك إما بأن كان الضرار بالطلاق الثلاثة أو بأن كانت من ذوي الأنفة فأثرت فيها الإساءة وفيمن ينتصر لها فمنعت نفسها منه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم قوله ) ) يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ( ) [ المنافقين : 9 ] وقوله في التغابن : ( ) إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ( ) [ التغابن : 14 ] وقوله تعالى ) ) إنما أموالكم وأولادكم فتنة ( ) [ التغابن : 15 ] والمؤمن قد يعرض له ما يضطر إلى فراق نم نبه على فتنته وعظيم محنته ، وردت هذه السورة منبه على كيفية الحكم في هذا الافتراق ، وموضحة أحكام الطلاق ، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة ، إن اضطرمت لا توجب التبرؤ بالجملة وقطع المعروف ) ) لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ( ) [ الطلاق : 1 ] ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله : ( ) أو تسريح بإحسان ( ) [ البقرة : 229 ] وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به ، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع الطلاق في الحيض الموجب تطويل العدة وتكثير المدة ، وأكد هذا سبحانه بقوله ) ) واتقوا الله ربكم ( ) [ الطلاق : 1 ] ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال : ( ) لا تخرجوهن من بيوتهن ( ) [ الطلاق : 1 ] إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله .
ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة ، لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع - والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى .
الطلاق : ( 2 - 3 ) فإذا بلغن أجلهن. .. . .
) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ( ( )
ولما حد سبحانه ما يفعل في العدة ، أتبعه ما يفعل عند انقضائها فسبب عما أمره بها فيها معبراً بأداة التحقق لأن الخطاب على تقدير الحياة ، معلماً أن له الرجعة إلى آخر(8/27)
صفحة رقم 28
جزء من العدة لأنها إذا ثبتت في آخرها البعيد من الطلاق كان ما قبله أولى لأنه أقرب إلى الطلاق فقال : ( فإذا بلغن ) أي المطلقات ) أجلهن ) أي شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة ) فأمسكوهن ) أي بالمراجعة ، وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق ما دون البائن لا سيما الثلاث .
ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يقدر على كمال الإحسان قال منكراً : ( بمعروف ) أي حسن عشرة لا بقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ولا غير ذلك ) أو فارقوهن ) أي بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها ) بمعروف ( بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر عرفه الشرع - أي حسنه - فلا يقصد أذاها بتفريقها من ولدها مثلاً أو منه إن كانت محبة له مثلاً بقصد الأذى فقط من غير مصلحة وكذا ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل أو القول ، فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإبهامها اجتناب المنكرات .
ولما كان كل من المرافقة والمفارقة أمراً عظيماً ، تبنى عليه أحكام فتحرم أضدادها ، فيكون الخلاف فيها في غاية الخطر ، وكان الإشهاد أليق بالمراد ، وأقطع للنزاع ، قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة : ( وأشهدوا ) أي على المراجعة أو المفارقة ) ذوي عدل ) أي مكلفين حرين ثقتين يقظين ) منكم ) أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه ، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه وجوبه في الجرعية والصحيح الأول ، ومن فوائده أن لا يموت أحدهما فيدعي الآخر الزوجية ببقاء علقة العدة ليرث .
ولما كان أداء الشهادة يعسر على الشاهد لترك مهماته وعسر لقاء الحكم الذي يؤدي عنده ، وربما بعد مكانه ، وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً ، وكان الشهود من المأمورين بالإشهاد ، حث على الأداء على وجه العدل بقوله : ( وأقيموا ) أي أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً ) الشهادة ) أي التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها كما يفعل من يريد إقامة شيء ليصير واقفاً بنفسه غير محتاج إلى ما يدعمه .
ولما كان ربما ميل أحد من المشهود عليهما الشاهد بشيء من المرغبات فأداها على وجهها لذلك الشيء لا لكونه الحق ، قال مرغباً مرهباً ) لله ) أي مخلصين لوجه الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقجرة وهو ذو الجلال والإكرام في أدائها على وجه الحق ظاهر وباطناً ، لا لأجل المشهود له ولا المشهود عليه ، ولا شيء سوى وجه الله .
ولما كانت أحكامه سبحانه وتعالى لا سيما في الكتاب المعجز مقرونة بعللها وفيها عند التأمل رقائق ودقائق تخشع لها القلوب وتجب الأفئدة في داخل الصدور قال ) ذلكم ) أي الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام(8/28)
صفحة رقم 29
وأولاها بذلك هنا الإشهاد وإقامة الشهادة .
ولما كانت أوامر الله تعالى وقصصه وأحكامه وجميع كلامه مختصاً من بين كلام الناس بأنه يرقق القلوب ويلين الشكائم لكونه روحاً لما فيه العدل الذي تهواه النفوس ، وتعشقه الألباب ، وتميل إليه الطبائع ، وقامت به السموات والأرض ، ولما فيه أيضاً من ذكر من تعشقه الفطر القويمة من جميع أهل الخير من الأنبياء والملائكة والأولياء ، مع تشريف الكل بذكر الله ، سمي وعظاً ، وبني للمجهول إشارة إلى أن الوعظ بنفسه نافع ولو لم يعرف قائله ، وإلى أن الفاعل معروف أنه الله لكونه سمي وعظاً مع كونه أحكاماً فقال : ( يوعظ به ) أي يلين ويرقق ) من كان ) أي كوناً راسخاً ، من جميع الناس ) يؤمن بالله ) أي يوقع ويجدد منكم ومن غيركم على سبيل الاستمرار من صميم قلبه الإيمان بالملك الذي له الكمال كله .
ولما كان البعث محط الحكمة لأن الدنيا مزرعة للآخرة ، ولا يكون زرع بغير حصاد ، كان خلو الإيمان عنه معدماً للإيمان فقال : ( واليوم الآخر ( فإنه المحط الأعظم للترقيق ، أما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به أبداً .
ولما كانت العبادة لا تكون إلا بالإعانة ، وكان التقدير : فمن اتعظ بذلك كان اتعاظه شاهداً له بإيمانه بذلك ، وكان متقياً ، عطف عليه قوله اعتراضاً بين هذه الأحكام تأكياً للترغيب في الإعانة المترتبة على التقوى : ( ومن يتق الله ) أي يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية مما يرضيه ، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما هنى عنه من الطلاق وغيره ظاهراً وباطناً ، وذلك صلاح قوي العلم بالإيمان والعمل بفعل المأمور به وترك المهي عنه لأنه تقدم أن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي ، وإذا قرنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي : ( يجعل ) أي الله سبحانه بسبب التقوى ) له مخرجاً ( بدفع المضار من كل ضيق أحاط به في نظير ما اجتنب من المناهي ) ويرزقه ( بحوله وقوته بجلب المسار في الدين والدنيا والآخرة في نظير ما اجتلب من فعل الأوامر .
ولما كان أحلى الهبات ما جاء من مكان لا يرجى قال : ( من حيث لا يحتسب ) أي لا يقوى رجاؤه له ، ولما أكد في هذا وأعظم الوعد لأنه وإن كان عاماً لكل متق فتعلقه بما تقدم أقوى والنظر فيما تقدم إلى حقوق العباد أكثر ، والمضايقة فيها أشد ، والدواعي إليها أبلغ ، فالاتقاء فيه بعدم الطلاق في الحيض والإضرار بالمرأة بتطويل العدة أو الإخراج من المسكن وكتمان الشهادة والعسر في أدائها والإخلال بشيء منها والتأكيد والإبلاغ في الوعد لأجل ما جبل عليه الإنسان من القلق في أموره ، عطف على(8/29)
صفحة رقم 30
ذلك قوله : ( ومن يتوكل ) أي يسند أموره كلها ويفوضها معتمداً فيها ) على الله ) أي الملك الذي بيده كل شيء ولا كفوء له فقد جمع الأركان الثلاثة التي لا يصلح التوكيل إلا بها ، وهي العلم المحيط لئلا يدلس عليه ، والقدرة التامة لئلا يعجز ، والرحمة بالمتوكل والعناية به لئلا يحيف عليه ، والتوكل يكون مع مباشرة الأسباب وهو من المقامات العظيمة وإلا اتكالاً ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ، لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتيب المسببات على الأسباب - قاله الملوي ) فهو ) أي الله في غيب غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله ) حسبه ) أي كافيه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للاشارة إلى أنه قد حمل أموره كلها عليه سبحانه لأنه القوي الذي لا يعصيه شيء ، والكريم الذي يحسن حمل ذلك ورعيه ، والعزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار ، إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له في عالم الشهادة شيء يشقيه لا من الغيب ولا من غيب الغيب ، وفي الحديث ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتورح بطاناً ) ان ضرب المقادير من القادر موجباً لعدم الغخلال بشيء منها ، علل ذلك بما اقتضى تحتم الوعد والتوكل فقال : ( قد جعل الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقيد بجهة ولا حيثية ) لكل شيء قدراً ) أي تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه ومكانه وجميع عوارضه وأحواله وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه ، فمن توكل استفاد الأجر وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد أمله وطال غمه بشدة سعيه وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجحة ، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ، جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ولا ينقص منها شيء ، ويحكى أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال :(8/30)
صفحة رقم 31
أولني مما أولاك الله فقال : أتقرأ القرأن ؟ قال : لا ، قال : إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه ، فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال : يا هذا أهجرتنا ، فقال : يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر ؟ ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر ، قال : أي آية أغنتك ؟ قال : تعالى : ( ) ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب ( ) [ الطلاق : 2 و 3 ] انتهى .
ومن توكل على غيره سبحانه وتعالى ضاع لأنه لا يعلم المصالح وإن علمها لم يعلم أين هي ، وإن علم لم يعلم متى يتسعملها وإن علم لم يعلم كم المقدار المستعمل ، وإن علم لم يعلم كيف يستعملها وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله وما لا يعلمه حق علمه غيره ، والآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه ، وهو موافق لما روى ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له - وقال : صحيح الإسناد - عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء .
الطلاق : ( 4 - 6 ) واللائي يئسن من. .. . .
) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( ( )
ولما وسط بين العدد هذه الجمل الواعظة دلالة على عظمتها حثاً على امتثالها والمبادرة إليها ، وختم بالتقدير ، أتبع ذلك بيان مقادير العدد على وجه أبان أن الكلام الماضي كان في الحوائض الرجعيات فقال : ( واللائي يئسن ) أي من المطلقات ) من المحيض ) أي الحيض وزمانه لوصولها إلى سن يجاوز القدر الذي ترجو فيه النساء الحيض فصارت بحيث لا ترجوه ، وذلك السن خمس وخمسون سنة أو تسون سنة ، وقيل : سبعون وهن القواعد ، وأما من انقطع حيضها في زمن ترجوا فيه الحيض فإنها تنتظر سن اليأس .(8/31)
صفحة رقم 32
ولما كان هذا الحكم بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال : ( من نسائكم ) أي أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب ، ولما كان الموجب للعدة إنما هو الدخول لا مجرد الطلاق قال : ( إن ارتبتم ( بأن أجلتم النظر في أمرهن ، فأداكم إلى ريب في هل هن حاملات أم لا ، وذلك بالدخول عليهن الذي هو سبب الريب بالحمل في الجملة ) فعدتهن ثلاثة أشهر ( كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر .
ولما أتم قسمي ذوات الحيض إشارة وعبارة قال : ( واللائي لم يحضن ) أي لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً ، وهذا مشير إلى أن أولات الحيض بائنات كن أو لا عدتهن ثلاثة قروء كما تقدم في البقرة لأن هذه الأشهر عوض عنها ، فأما أن يكون القرء - وهو الطهر - بين حيضتين ، أو بين الطلاق والحيض ، وهذا كله في المطلقة ، وأما المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشراً كما في البقرة .
ولما فرغ من آئسات الحوامل أتبعه ذكر الحوامل فقال : ( وأولات الأحمال ) أي من جميع الزوجات المسلمات والكفار المطلقات على كل حال والمتوفى عنهن إذا كان حملهن من الزوج مسلماً كان أو لا ) أجلهن ) أي لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حي أم لا ) أن يضعن ( ولما كان توحيد الحمل لا ينشأ عنه لبس ، وكان الجمع ربما أوهم أنه لا تحل واحدة منهن حتى يضع جمعاً قال : ( حملهن ( وهذا على عمومه مخصص لآية
77 ( ) يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ( ) 7
[ البقرة : 234 ] لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذلك في قوله : ( أزواجاً ( لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم ، وعموم ) أزواجاً ( بالعرض لأنه بدلي لا يصلح لتناول جميع الأزواج في حال واحد ، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال ، فأذن لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتزوج ، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة ، فتقديمها على تلك تخصيص ، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ والأول هو الراجح للوفاق عليه ، فإن كان الحمل من زنا أو شبهة فلا حرمة له ، والعدة بالحيض .
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة ، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله ، كرر تلميعاً بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله عليه أموره : ( ومن يتق الله ) أي يوجد الخوف من(8/32)
صفحة رقم 33
الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينه وبين سخطه وقاية من طاعاته اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي ) يجعل له ) أي يوجد إيجاداً مستمراً التقوى ( إن الله لا يمل حتى تملوا ) ) من أمره ) أي كله في النكاح وغيره ) يسراً ) أي سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع ، وذلك أعظم من مطلق المخرج المتقدم في الآية الأولى .
ولما كان تكرير الحث على التقوى للسؤال عن سببه ، استأنف قوله كالتعليل له : ( ذلك ) أي الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب ) أمر الله ) أي الملك الأعلى الذي له الكمال كله ، ونبه على علو رتبة الأمر بقوله : ( أنزله إليكم ( ولما كان التقدير : فمن أباه هوى في مهاوي المهلكات إلى أسفل سافلين ، عطف عليه قوله : ( ومن يتق الله ) أي الذي لا أمر لأحد معه بالاجتلاب والاجتناب ، ولما كان الإنسان محل العجز والنقصان ، أنسه بأنه إذا وقع منه زلل فراجعه بالتقوى لطف به فيه جزاء على تقواه بالدفع والنفع فقال : ( يكفر ) أي يغطي تغطية عظيمة ويتسر ويغيب ويسقط ) عنه ( جميع ) سيئاته ( ليتخلى عن المبعدات فإن الحسنات يذهبن السيئات .
ولما كان الكريم لا يرضى لمن أقبل إليه بالعفو فقط قال : ( ويعظم له أجراً ( بأن يبدل سيئاته حسنات ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفاً فيتحلى بالمقربات ، وهذا أعظم من مطلق اليسر المقتدم .
ولما قدم التكفير وأتبعه الأجر الكبير ، وكان قد تقدم إيجاب ترك المطلقة في منزل الطلاق وأذن في إخراجها عند الفاحشة المبينة ، وكان ربما كان منزل الطلاق مستعاراً ، وكان مما لا يليق بالزوج ، وكان ربما نزل الكلام السابق عليه ، استأنف البيان له بما لا يحتمل لبساً فقال آمراً بعد ذلك النهي على وجه مشير بسابقه ولاحقه إلى الحلم عنهن فيما يمكن الحلم فيه حفظاً للقلوب وإبعاداً للشقاق بعد الإيحاش باطلاق لئلا يعظم الكسر والوحشة : ( أسكنوهن ) أي هؤلا ءالمفارقات في العدة إن كن مطلقات حاملات كن أو لا مبتوتات كن أو رجعيات بخلاف ما كان من العدة عن وفاة بغير حمل أو كان عن شبهة أو فسخ .
ولما كان المراد مسكناً يليق بها وإن كان بعض مسكن الرجل ، إدخل أداة التبعيض فقال : ( من حيث سكنتم ) أي من أماكن سكناكم لتكون قريبة منكم ليسهل تفقدكم لها للحفظ وقضاء الحاجات .
ولما كان الإنسان ربما سكن في ماضي الزمان ما لا يقدر عليه الآن قال مبيناً للمسكن المأمور به مبقياً للمواددة بعدم التكليف بما يشق : ( من وجدكم ) أي سعتكم وطاقتكم بإجارة أو ملك أو إعارة حتى تنقضي العدة بحمل كانت أو غيره .
ولما كان الإسكان قد يكون مع الشنآن قال : ( ولا تضاروهن ) أي حال السكنى في المسكن ولا في غيره .
ولما كانت المضارة قد يكون لمقصد حسن بأن(8/33)
صفحة رقم 34
يكون تأديباً لأمر بمعروف ليتوصل بصورة شر قليل ظاهر إلى خير كثير قال : ( لتضيقوا ) أي تضييقاً بالغاً لا شبهة في كونه كذلك مستعلياً ) عليهن ( حتى يلجئهن ذلك إلى الخروج .
ولما كانت النفقة واجبة للرجعية ، وكانت عدتها تارة بالأقراء وتارة بالأشهر وتارة باحمل ، وكان ربما توهم أن ما بعد الثلاثة الأشهر من مدة الحمل للرجعية وجميع المدة لغيرها لا يجب الإنفاق فيه قال : ( وإن كن ) أي المعتدات ) أولات حمل ) أي من الأزواج كيف ما كانت العدة من موت أو طلاق بائن أو رجعي ) فأنفقوا عليهن ( وإن مضت الأشهر ) حتى يضعن حملهن ( فإن العلة الاعتداد بالحمل ، وهذه الشرطية تدل على اختصاص الحوامل من بين المعتدات البوائن بوجوب النفقة .
ولما غيى سبحانه وجوب الإنفاق بالوضع ، وكانت قد تريد إرضاع ولدها ، وكانت اشتغالها بإرضاعه يفوت عليها كثير من مقاصدها ويكسرها ، جبرها بأن قال حاثاً على مكافأة الأخوان على الإحسان مشيراً بأداة الشك إلى أنه لا يجيب عليها الإرضاع : ( فإن أرضعن ( وبين أن النسب للرجال بقوله تعالى : ( لكم ) أي بأجرة بعد انقطاع علقة النكاح ) فآتوهن أجورهن ( على ذلك الإرضاع .
ولما كان ما يتعلق بالنساء من مثل ذلك موضع المشاجرة لا سيما أمر الرضاع ، وكان الخطر في أمره شديداً ، وكان الله تعالى قد رحم هذه الأمة بأنه يحرك لكل متشاححين من يأمرهما بخير لا سيما في أمر الولد رحمة له قال مشيراً إلى ذلك : ( واتمروا ) أي ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك وليقبل بعضكم أمر بعض ، وزادهم رغبة في ذلك بقوله : ( بينكم ) أي إن هذا الخير لا يعدوكم ، وأكد ذلك بقوله : ( بمعروف ( ونكره سبحانه تحقيقاً على الأمة بالرضى بالمستطاع ، وهو يكون مع الخلق بالإنصاف ، ومع الناس بالخلاف ، ومع الحق بالاعتراف .
ولما كان ذلك موجباً للمياسرة ، وكان قد يوجد في الناس من الغالب عليه الشر ، قال مشيراً بالتعبير بأداة الشك إلى أن ذلك وإن وجد فهو قليل عاطفاً على ما تقديره فإن تياسرتم فهو حظكم وأنتم جديرون بسماع هذا الوعد بذلك : ( وإن تعاسرتم ) أي طلب كل منكم ما يعسر على الآخر بأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً فليس له أن يكرهها .
ولما كان سبحانه قد تكفل بأرزاق عباده وقدرها قبل إيجادهم .
قال مخبراً جبراً للأب بما يصلح عتاباً للأم : ( فسترضع ) أي بوعد لا خلف فيه ، وصرف الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بأن الأب ترك الأولى فيما هو جدير به من المياسرة لكونه حقيقاً بأن يكون أوسع بطاناً وأعظم شأناً من أن يضيق عما ترضى(8/34)
صفحة رقم 35
المرأة استناناً به ( صلى الله عليه وسلم ) في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطعية رحم فقال : ( له ) أي الأب ) أخرى ) أي مرضعة غير الأم ويغني الله عنها وليس له إكرهها إلا إذا لم يقبل ثدي غيرها ، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك .
الطلاق : ( 7 ) لينفق ذو سعة. .. . .
) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ( ( )
ت المعاسرة في الغالب في ترك السماح ، وكان ترك السماح من خوف الإعدام ، نبه سبحانه على أنذلك ليس بعذر تقسيم الناس إلى موسع عليه وغيره ، ولأن الأليق بالموسع عليه أن يوسع ولا يسيء الظن بربه وقد جرب رفده ، وأن المقتر عليه لا ينبغي أن يفعل من يخاف أن يخلف وعده ، فقال شارحاً للمياسرة : ( من سعته ( التي أوسعها الله عليه .
ولما كان الإعطاء من غير تقدير ملزوماً للسعة ، كان التقدير كناية عن الضيق فقال : ( ومن قدر ) أي ضيق وسكنت عليه حركته ورقدت عنه معيشته ) عليه رزقه ( بأن جعله الله الذي لا يقدر على التضييق والتوسيع غيره بقدر ضرورياته فقط من غير وسع لشيء غيرها لأمر من الأمور التي يظهر الله بها عجز العباد رحمة لهم ليهذب به نفوسهم ، وبناه للمفعول تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى : ( فلينفق ) أي وجوباً على المرضع وغيرها من أوجبه الله عليه أو ندبه إليه ، وبشر سبحانه وتعالى بأنه لا يخلي أحداً من شيء يقوم به ما دام حياً بقوله مشيراً بالتبعيض إلى ما أوجبه سبحانه لا يستغرق ما وهبه : ( مما آتاه الله ) أي الملك الذي لا ينفذ ما عنده ولا حد لجوده ، ولو من رأس المال ومتابع البيت ومن ثمن الضيعة إن لم يكن له من الغلة لأنه سبحانه قد ضمن الإخلاف ، ومن ملك ما يكفيه للوقت ثم اهتم للزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرحوم ، وصاحبه غير معان ، وفي هذا إرشاد إلى الاقتداء به ( صلى الله عليه وسلم ) في عدم التكلف واليسر في كل أمر على حسب الأوقات .
ولما كان تعالى له التكليف بما لا يطاق ، أخبر بأنه رحم العباد بأنه لا يفعله ، فقال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن يقول : فما يفعل من لم يكن له موجود أصلاً ، محبباً في دينه ( صلى الله عليه وسلم ) مما فيه نم اليسر : ( لا يكلف الله ) أي الذي له الكمال بأوصاف الرحمة والإنعام علينا بالتخفيف ) إلا ما آتاها ( وربما أفهم ، أن من كلف إنفاقاً وجد من فضل ما عنده ما يسده من الأثاث الفاضل عن سد جوعته وستر عورته .(8/35)
صفحة رقم 36
ولما كان التذكير بالإعدام ربما أوجع ، قال تعالى جابراً له وتطبيباً لقلبه نادباً إلى الإيمان بالغيب : ( سيجعل الله ) أي الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده ، ونزع الجار زيادة في الخبر فقال : ( بعد عسر ) أي من الأمور التي تعسرت لا أنه يجعل ذلك بعد كل عسر ) يسراً ) أي لا بد من ذلك ولا يوجد أحد يستمر التقتير عليه طول عمره في جميع أحواله ، قال القشيري : وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضى واستواء وجود السبب وفقده وارتقوا عن حد اليأس والقنوط ويعيشون في أفناء الرجاء ويتعللون بحسن المواعيد - انتهى .
ولقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين حين نزول الآية ، ففتح عليهم جميع جزيرة العرب ثم فارس والروم وانتثلوا كنوزها حتى صاروا أغنى الناس ، وصدق الآية دائم غير أنه كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبين لأن إيمانهم أتم .
الطلاق : ( 8 - 10 ) وكأين من قرية. .. . .
) وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ يأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ( ( )
ولما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع ، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات ، فإن من الناس البليد الذي لا يتعظ بما يرى ، وكان التقدير : فكأي من ناس كانوا في غاية الضيق فأطاعوا أوامرنا فجعلناهم في غاية السعة بل جعلناهم ملوكاً ، عطف عليه تزهيداً في الرفاهية بأنها تطغى في الغلب ، وتهديداً لأهل المعاصي قوله مفيداً لكثرة القرى الخارجة عن الحد : ( وكأين من قرية ) أي مدنية كبيرة جامعة ، عبر عن أهلها مبالغة ) عتت ) أي استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً ) عن أمر ربها ) أي الذي أحسن إليها ولا محسن إليها غيره بكثرة الرزق وطيب العيش واللطف في التربية والرحمة بعد الإيجاد والملك ) ورسله ( فلم يقبل منهم ما جاؤوها به عن الله ، فإن طاعتهم من طاعة الله .
ولما كانت محاسبة مثل هؤلاء للإهلاك لأن الحساب هو ذكر الأعمال والمجازاة عليها بما يحق لكل منها ، قال ملتفاً إلى مقام التكلم في مظهر العظمة : ( فحاسبناها ) أي فتسبب عن عدم شكرهم للإحسان أن أحصينا أعمالها .
ولما كان ذلك على وجه المناقشة على النقير والقطمير بالمجازاة على كل فعل بما يليق به قال : ( حساباً شديداً ( بمعناه المطابقي من ذكر الأعمال كلها والمجازاة عليها ، وهذا هو المناقشة وهي أن العامل إذا أثر أثراً بعمله هو كالنقش في الجامد أثر المجازي له فيه أثراً بحسب عمله(8/36)
صفحة رقم 37
على سبيل الاستقصاء ، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها فهو دلالة تضمن ، وإنما شدد على هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتواً ) وعذبناها ) أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها ) عذاباً نكراً ) أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريباً منه ليعتبره به ، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقاً في وقت من الأوقات ) فذاقت ( بسبب ذلك بعد ما كان لها من الكثرة والقوة ) أمرها ) أي في العتو وجميع ما كانت تأتمر فيه ، مثله بالمرعى الوخيم الذي يمرض ويهلك .
ولما كان كل مقهور إنما يسلي نفسه بانتظار الرج ورجاء العاقبة ، أيأس من ذلك مذكراً للفعل إشارة إلى الشدة بقوله : ( وكان عاقبة ) أي آخر ومنتهى وعقيب ) أمرها ) أي في جميع عملها الذي كانت فيه ) خسراً ) أي نفس الخسر في الدارين ، فكلما امتد الأمر وجدوه أمامهم فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد ، ومن أضاع حق الله لا يطاع في حظ نفسه ، ومن احترق بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على مقاساة عقوبة الله تعالى ، ثم فسر الخسر أو استأنف الجواب لمن يقول : هل لها غير هذا في هذه الدار ، بقوله : ( أعد الله ) أي الملك الأعظم ) لهم ( بعد الموت وبعد البعث ) عذاباً شديداً ( .
ولما تمت الأحكام ودلائلها ، وأحكمت الآيات وفواصلها ، والتهديدات وغوائلها ، كانت فذلكتها سياقها وموعظتها ما تسبب عن ذلك من قوله تعالى تنبيهاً على ما يحيي الحياة الطيبة وينجي في الدارين : ( فاتقوا الله ) أي لاذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
ولما كان في تخليص المواعظ من الأحكام واستثمارها من فواصل هذا الكلام أمر عظيم هو من الرقة بمكان لا بصره إلا ذوو الأفهام إلى ذوو الأفهام قال تعالى : ( يا أولي الألباب ) أي العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن ) الذين آمنوا ) أي خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة ، ثم علل هذا الأمر بما أزال العذر فقال تنبيهاص على ما من علينا به من المراسلة فإن مراسلات فإن مراسلات الأكابر فخر فكيف بمراسلات الملوك فكيف بمراسلة ملك الملوك حثاً بذلك على شكره : ( قد أنزل الله ) أي الذي له صفات الكمال ) إليكم ( خاصة ) ذكراً ) أي كاملاً مذكوراً فيه غاية الشرف لكل من يقبله بل تشرفت الأرض كلها بنزوله ورفع عنها العذاب وعمها النور والصواب لأن فيه تبيان كل شيء ، فمن استضاء بنوره اهتدى ، ومن لجأ إلى برد أفنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه .(8/37)
صفحة رقم 38
الطلاق : ( 11 - 12 ) رسولا يتلو عليكم. .. . .
) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا ( ( )
ولما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صورة سورة القرآن ، فالقرآن باطنه وهو ظاهره لأنه خلقه لا قوله له ولا فعل إلا به ، فكان كأنه هو ، أبدل منه قوله : ( رسولا ( على أن الأمر فيه غي عن تأويل ، فإن الذكر بكسر الذال في اللغة كما في القاموس من الرجال القوي الشجاع الأبي ، يمبين كونه ذكراً بقوله : ( يتلوا ) أي يتابع أن يقص ) عليكم آيات الله ) أي دلائل الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام الظاهر جداً حال كونها ) مبينات ) أي لا لبس فيها بوجه .
ولما تبين أن الذكر والرسول صارا شيئاً واحداً ، وعلم ما في هذه المراسلة من الشرف ، أتبع ذلك بيان شرف آخر ثمرة إنزاله فقال : ( ليخرج الذين آمنوا ) أي أقروا بالشهادتين ) وعملوا ( تصيدقاً لما قالوه بألسنتهم وتحقيقاً لأنه من قلوبهم ) الصالحات ( من الأعمال ) من الظلمات ) أي النفسانية والأخلاق الرذيلة المؤدية إلى ظلمة الجوارح بعملها الظلم وانتشارها في السبل الشيطانية ) إلى النور ( الروحاني العقيلي الخالص الذي لا دنس فيه بسلوك صراط الله الذي هو واحد لا شتات فيه وبين لا لبس فيه ) ) وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ( ) [ الأنعام : 153 ] كما بادروا إلى إخراج أنفسهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن فساد الأعمال الصالحة إلى سداد الأعمال الصالحة ، وذلك بأن يصيرهم متخلقين بالقرآن ليكونوا مظهراً له في حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم فيكونوا ذكراً .
ولما كان التقدير : فمن آمن بالله وعمل صالحاً شاهد بركات ذلك في نفسه عاجلاً ، عطف عليه بياناً لسعادة الآجلة قوله تعالى : ( ومن يؤمن بالله ) أي يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه ) ويعمل ( على التجديد المستمر ) صالحاً ( لله وفي الله فله دوام النعماء ، وهو معنى إدخاله الجنة ، ولما كان قد تقدم قريباً في آية ا لتقوى أنه يكفر عنه سيئاته ، قال شارحاً لقوله : ( ) ويعظم له أجراً ( ) [ الطلاق : 5 ] : ( يدخله ) أي عاجلاً مجازاً بما يتيح له من لذات العرفان ويفتح له من الأنس آجلاً حقيقة ) جنات ) أي بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار ، وبين دوام ريها بقوله : ( تجري ( وبين انكشاف كثير من أرضها بقوله : ( من تحتها ) أي تحت غرفها ) الأنهار ( أو هو كناية عن(8/38)
صفحة رقم 39
أن أرضها في غاية بحيث إن ساكنها يجري في أراد نهراً ، وإلى زيادة عظمتها أشارت قراءة نافع وابن عامر بنون العظمة .
ولما أفرد الشرط والجزاء إجراء على لفظ ( من ) إشارة إلى أ ، ه لا يشترط في الإيمان ولا في جزائه مشاركة أحد ، وأنه لا توقف للقبول على شيء غير الوصف المذكور ، جمع الحال بشارة بأن الداخلين كثير ، وأن الداخل إلى دار الكرامة لا يحصل له هوان بعد ذلك أصلاً فقال : ( خالدين فيها ( وأكد معنى الخلود ليفهم الدوام بلا انقضاء فقال : ( أبداً ( ولما أعلم أن الخلود لكل الداخلين إلى الجنة رجع إلى الأسلوب الأول تنصيصاً على كل فرد إبلاغاً في عظمة هذا الجزاء بقوله هذا الجزاء بقوله نتيجة لذلك ، منبهاً على أن هذه النتيجة من حقها أن يتوقع قولها من كل من سمع هذه البشارى : ( قد أحسن الله ) أي الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام ) له ) أي خاصة ) رزقاً ) أي عظيماً عجيباً ، قال القشيرين : الرزق الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه ، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها عن غير نقصان ولا يتعذب بتعطشه ولا يكون زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلا بتأييد من الله سماوي .
ولم تقدم أن فائدة الذكر النقل من خلق إلى خلق ، وكان من المعلوم أن تحويل جبل من مكانه أيسر من تحيل شخص عن خلقه وشأنه ، وتقدم أن أجر المجاهد في ذلك الجنات الموصوفة ، وكان ذلك يحتاج إلى قدرة تامة ، دل على قدرته سبحانه عليه بقوله : ( الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحدها ، ثم أخبر عنه بما يدل على ذلك لأن الصنعة تدل على الصانع وعلى ما له من الصفات فقال : ( الذي خلق ) أي أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال البديع القريب ) سبع سماوات ) أي وإنهم يشهاهدون عظمة ذلك ويشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام العلم كامل القدرة ، ثم زاد على ذلك ما أنتم أعرف به فقال : ( ومن الأرض مثلهن ) أي سبعاً كما دل عليه حديث سعيد بن زيد وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين ( من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين ) ولفظ ابن عمر رضي الله عنهما : خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ، وقد تقدم في سورة السجدة ما ينفع في ذلك ، وظاهره يدل على أنها كما هي مثلها في العدد فهي مثلها في(8/39)
صفحة رقم 40
الكرية وإحاطة كل منها بالتي تحتها ، وأن التي نحن عليها هي السابعة العليا كالسماء السابعة التي سقفها الكرسي لأن ذلك أدل على ما السياق له من تمام العلم وشمول القدرة في الاستدلال عليه بقوله : ( يتنزل ) أي بالتدريج ) الأمر ) أي الذي يجود به الرحمن من التدبير من أمر الدين والتكوين من العرش والكرسي ) بينهن ( بالوحي من السماء السابعة العليا إلى الأرض السابعة السفلى وأنتم ترونهن بلا فروج فأنفذ بينهن حتى نفذ فيهن ، وذلك - والله أعلم - هو ما يريد من عظيم تدبيره بإنزال الكتب وإرسال الرسل وإثبات شريعة ومحو أخرى وتوجيه الأسباب إلى المسببات من المطر والنبات والليل والنهار والفصول وخلق الحيوانات والمعادن وسائر النباتات ، وترديد الملائكة بسائر المصنوعات ، هذا ما دل عليه ظواهر الكتاب والسنة ، وأولها بعضها بأنها سبعة أقاليم ، وهو مردود بعد القاعدة في أن التأويل بغير دليل لعب بما يأتي من صريح الحديث النبوي والكلام الضابط فيما يؤول وما لا يؤول أن النقليات أربعة أقسام : قطعي السند والدلالة ، ظنيهما ، ظني السند قطعي الدلالة ، عكسه : قطعي السند ظني الدلالة ، فالأول يجب اعتقاد ظاهره ، ومن خالفه كفر ، والبقية يجب اعتقاد ظواهرها ما لم تعارض ، فإن عورضت بقطعي وجب العدول عن الظاهر إجماعاً ، فمن اعتقده كفر ، ثم للناس بعد ذلك مذهبان : أما السلف فيفوضون المراد إلى الله تعالى ، وأما الخلف فإن كان لذلك محمل واحد عينوه ، وإن كان ثَم محامل سردوها ولم يعينوا شيئاً منها مع اعترافهم بأنهم ليسوا على قطع من أن المراد شيء مما ذكروه ، وإنما هو شيء يليق بالمقام والعلم عند الله وبأن طريق السلف أقرب وأسلم وبأنه ما حملهم على التأويل إلا انتشار المبتدعين وإشهارهم بدعتهم بين الناس ، قال الإمام علاء الدين القونوي رحمه الله تعالى في باب السير من سرحه الحاوي : قال الإمام - يعني إمام الحرمين : ولو بقي الناس على ما كانوا عليه من صفوة الإسلام لما أوجبنا التشاغل بعلم الكلام بل ربما نهينا عنه ، وأما الآن وقد ثارت البدع فلا سبيل إلى تركها تلتطم أمواجها فلا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق وتحل به الشبهن فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبه من فروض الكفايات ، ومن استراب في أصل من أصول الإعتقاد فعليه السعي في إزاحتة إلى أن يستقيم عقده - انتهى .
ثم إنك تجد العلماء يختلفون في بعض الأدلة فبعضهم يجريها على الظاهر وبعضهم يؤول ، وذلك للاختلاف في المعارض هي هو قطعي الدلالة أم لا ، وهذا الموضع منه ، لإن ظواهر الكتاب والسنة تدل على أن الأرضين مثل اسماوات في العدد في أن بينهما خلاء ، وفي أن في كل واحدة مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، بل بعض الأخبار يكاد يقطع به في ذلك ، ولكنه لم(8/40)
صفحة رقم 41
يخرج عن أن يكون ظنياً فأكثر العلماء ومحققوهم على أن المعارض - وهو ما قاله أهل علم الهيئة من الأدلة على كونها واحدة - ليس بقطعي ، فأولوا كونها سبعة بالأقاليم السبعة ، وقد رأيت في التعدد حقيقة حديثاً صريحاً لكن لا أدري حاله ، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه للأسماء الحسنى قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أتدرون ما تحت هذه الأرض ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ماء ، أتدرون ما تحت ذلك ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال هواء ، أتدرون ما تحت ذلك : قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : أرض ، أتدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم - حتى عد سبع أرضين ) ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه : ( هل تدرون ما الذي تحتكم ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنها الأرض ، ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إن تحتها أرضاً أخرى بينهما خمسمائة سنة - حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ) ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما بين السماء إلى السماء مسيرة خمسمائة عام ، وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام ، وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك ، وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك ) ولما ذكر سبحانه الصنعة تنبيهاً على التفكر فيها والاعتبار بها ، ذكر أن ثمرتها العلم بصفاته بعد العجز عن إحاطة العلم عقب ذاته تعالى فقال : ( لتعلموا ) أي بهذا العالم الذي أوجده بتسوية كل واحد من القبيلين سبعاً كل واحدة بينها وبين الاخرى مسافة بعيدة مع الكثافة الزائدة وأنتم تعلمون أنه لا يفصل الجسم ولا سيما الكثيف عن آخر مثله إلا فاصل قاهر بقوة باهرة وقدرة ظاهرة وعلم شامل لما يحتاج إليه ذلك ، فكيف إذا كان على هذا المنهاج البديع والوجه المنيع على مر الدهور والأحقاب وتعاقب الشهور والأعوام على حساب معلوم ونظام منظوم ، لا يدركه إلا أعلى الناس حساباً(8/41)
صفحة رقم 42
وأعظمهم صواباً ، مع المنافع التي تفضل عن سكانها ، والمرافق التي تنزه الخالق بآثارها وأعيانها ، وتوقظ الغافل وتنبه الجاهل وتدمغ المعاند ببرهانها ، فإنه لا يسع أحداً المنازعة في خلقه لها ، ومن خلقها قدر على تدبيرهاعلى الوجه المذكور ، ومن كان كذلك كان منزهاً عن الشريك قطعاً ، ومن كان كذلك قدر على كل شيء فلذا قال : ( أن الله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها ) على كل شيء ) أي من غير هذا العالم ممكن أن يدخل تحت المشيئة فإنه بمعنى مفعول من عالم آخر مثل هذا العالم ، وأبدع منه وأبدع من ذلك الإبداع إلى ما لا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم ، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له لأنه لا فرق في ذلك بين قليل ولا كثير جليل أو حقير
77 ( ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( ) 7
[ الملك : 3 ] وإياك ان تلتفت إلى من قال : إنه ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، فإنه مذهب فلسفي خبيث ، والآية نص على إبطاله وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي فإني لا أشك أنه مدسوس عليه فإنه مذهب فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي ( تهديم الأركان على من قال ليس في الإمكان أبدع مما كان ) وكتابي ( دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان ) وكتابي ( إطباق الأغلال في أعناق الضلال ) ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه فصوصه وغير ذلك من كتبه واستند فيه في بعضها إلى الغزالي إتقاناً لمكره - أعاذنا الله من شره ، والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره ) قدير ) أي بالغ القدرة .
ولما كانت إحاطة العلم دالة على تمام القدرة وإليهما يرجع جميع الأسماء والصفات قال : ( قد أحاط ( لتمام قدرته ) بكل شيء ( مطلقاً ، ولما أسند الإحاطة إليه سبحانه تعظيماً لها ، بين جهتها بتمييز محول عن الفاعل فقال : ( علماً ( فله الخبرة التامة بما يأمر به نم الأحكام في العلم بمصالحه ومفاسده فعاملوه معاملة من يعلم إحاطة علمه فيعلم أنه رقيب عليه فإذا طلقتم فافعلوا ما أمركم به لتسلموا في الدين وتسعدوا في الآخرة والأولى ، ودبروا في جميع أموركم مثل ما دبر به أمركم في تربيتكم ومسكنكم أرضه وسقفه فإنه جعل فيه جميع ما تحتاجونه وبسطه نواله على من يرضيه ومن يسخطه ونشر حلمه وفضله وأخر بأسه وعدله فقد عائق أخرها أولها وبين مجملها ومفصلها والله يعلم بذات الصدور .
.. . .(8/42)
صفحة رقم 43
سورة التحريم
مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ومع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب الشرعي وحسن المباشرة لا سيما للنساء اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان ان الأ ب الشرعي تارة يكون باللين والأناة ، وأخرى بالسوط وما داناه ومرة بالسيف وما والاه ، وكل من اسميها التحريم والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) موضح لذلك ) بسم الله ( الذي له الكمال كله على الدوام ) الرحمن ( الذي عم عباده بعظيم الإنعام ) الرحيم ( الذي أتم خواصه نعمة الإسلام .
التحريم : ( 1 - 3 ) يا أيها النبي. .. . .
) يأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ( )
لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره ، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير ، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحرضة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل ، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزيكته وتهذيبه : ( يا أيها النبي ( مخاطبة بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل(8/43)
صفحة رقم 44
سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه ( صلى الله عليه وسلم ) أدنى تشويش ) لم تحرم ) أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة ) ما أحل الله ) أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ) لك ( بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يشرب عسلاً عند حفصة بنت عمر أو زينت بنت جحش رضي الله عنهما على اختلاف الروايتين في ذلك في الصحيح ، وفي رواية ( أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة ، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما عكة من العسل ، فكانت إذا دخل عليها فسلم حبسته وسقته منها ، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خصرة : إذا دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط ، فقال : لن أعود له ، ) وروى الطبري وابن مردوية ( أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك بشارة ، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما ، لا تخبري بذلك أحداً ، فأخبرت عائشة رضي الله عنها ) ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن بي إلى أبي حاجة نفقة له عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها ، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها ) فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقاً فجلست عنده فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال لها : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أليس هي جارتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام أتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحداً ، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن ( ثم علل ذلك سبحانه بقوله : ( تبتغي ) أي تريد إرادة عظيمة من مكارم(8/44)
صفحة رقم 45
أخلاقك وحسن صحبتك ) مرضات أزواجك ) أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد .
ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان ، وكان تعالى قد دعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال : ( الله ) أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى ) غفور رحيم ) أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم ، ثم علل أو بين بقوله : ( قد فرض الله ) أي قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه ، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى ذلك لا يقدح في الورع ولا يخل بحرمة اسم الله لأن أهل الهمم العوالي لا يحبون النقرة من عزيمة إلى رخصة بل من رخصة إلى عزيمة ، أو عزيمة إلى مثلها .
ولما كان التخفيف على هذه الأمة إنما هو كرماً منه وتعظيماً لهذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لكم ) أي أيتها الأمة التي أنت رأسها ، وعبر بمصدر حلل المزيد مثل كرمه وتكرمه إظهاراً لزيد الغاية فقال : ( تحلة ) أي تحللة ) أيمانكم ) أي شيئاً يحللكم مما أوثقتم به أنفسكم منها تارة بالاستثناء وتارة بالكفار تحليلاً عظيماً بحيث يعيد الحال إلى ما كان عليه قبل اليمين ، وقد بين ذلك في سورة المائدة فحلل يمينك واخرج من تضييق على نفسك واشرح من صدرك لتتلقى فا يأتيك من أنباء الله تعالى وأنت متفرغ له بطيب النفس وقرة العين ، وهذا يدل على أن قوله ( أنت علي حرام ) كالمين إذا لم يقصد به طلاقاً للزوجة ولا إعتاقاً للأمة ، وإذا كان الله قد فرض ذلك لكافة الأمة تيسيراً عليهم رأسهم أولى بأن يجعل له ذلك ، قال مقاتل : فأعتق ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الواقعة رقبة ، وقد قيل : إن تحريمه ( صلى الله عليه وسلم ) هنا كان بيمين حلفها وحينئذ لا يكون فيه حجة لمن رأى أن ( أنت على حرام ) يمين ) والله ) أي والحال أن المختص بأوصاف الكمال ) مولاكم ) أي يفعل معكم فعل القريب الصديق ) العليم ) أي البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له ) الحكيم ) أي الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محالة بحيث لا ينسخه هو ولا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه ، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لاخفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما ، وقد ظن أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طلق نساءه حين اعتزل في المشربة حتى سأله عمر رضي الله عنه والقصة معروفة وتخييره صل الله عليه وسلم إياهن أثر ذلك وبعد اعتزالهن شهراً كاملاً وعتب الله عليهن في قوله :
77 ( ) وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه ( ) 7
[ التحريم : 4 ] وقوله :
77 ( ) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن ( ) 7
[ التحريم : 5 ] فهذه السورة وسورة(8/45)
صفحة رقم 46
الطلاق أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد - انتهى .
ولما كانت العدة فيمن رأى حبيبه قد ضاق صدره أن يسعى أولاً في شرح صدره وطيب نفسه ثم يزيده بسطاً بأن يقول للحاضرين : إن حبيبنا هذا الكريم علينا اتفق له كذا ، وقد كرهت هذا وضمنت زواله ، وكان تعالى قد طيب نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) بأول السورة ، ثم أتبعه الأمر الآخر ، فكان التقدير : اذكروا هذا الذي ذكرته من حسن عشرة نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) لنسائه رضي الله تعالى عنهن وكريم صحبته وشريف أخلاقه وجميل أفضاله وجليل حلمه واذكروا ما خفف الله به عنكم في الأيمان التي لا مثنوية فيها واذكروا فيها اسمه المقدس ، عطف عليه قوله تعالى تشريفاً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعاتبة عليه وبإظهار ما هو حامل له نم ثقل هذا السر على أجمل وجه تخفيفاً عنه وترويحاً له : ( أسر النبي ) أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائماً بأن يتلقى من فياض علمه ما يخبر به الناس فإنه ما ينطق عن الهوى وأبهم الزوجة وهي حفصة رضي الله عنها ، كنى عنها صيانة لهن لأن حرمتهن رضي الله عنهن من حرمته ( صلى الله عليه وسلم ) ) حديثاً ( ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه لم يخص بهولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراماً له ( صلى الله عليه وسلم ) وحفظاً لسره لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يحب تفصيل سره وإن كنا اطلعنا عليه بعد ذلك لنتأسى به فيما فيه من الأحكام ، فإن أحواله ( صلى الله عليه وسلم ) كلها أحكام لنا إلا ما اختص به وأشار إلى قرب زمن إفشائه من زمن التحديث بالفاء في قوله تعالى : ( فلما نبأت ) أي أخبرت إخباراً عظيماً جليلاً لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت ) به ( كله من جميع وجوهه ، وجعل ذلك في سياق حكاية لأنه أستر لحرمه ( صلى الله عليه وسلم ) حيث لم يقل : فنبأت به ولا قال : أساءت بالإنباء به ، ونحو ذلك مما يفهم أنه مقصود بالذات ) وأظهره الله ) أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء ) عليه ) أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثيب عليه إن كان خيراً ) عرف ) أي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي أسر إليها ) بعضه ( وهو أمر الخلافة عتاباً لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره ، والكف عن بعض العتب أبعث على حياء المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله ) وأعرض عن بعض ( وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم(8/46)
صفحة رقم 47
قط ، وقال سفيان الثوري : ما زال التغافل من فعل الكبراء وإنما عاتب على أمر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس ويذيع ، فربما أثار حسداً من بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق والفاروق كيداً أو جر غلى مفسدة لا نعلمها ، وخفف الكسائي : عرف أي أقر به والمعرفة سبب التعريف والتعريف عن المعرفة فإطلاق أحدهما على الآخر شائع وعلاقته ذلك وأشار إلى مبادرته بتعريفها ذلك لئلا ينتشر ما يكرهه منه بقوله : ( فلما نبأها ( بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها ) به ( شيئاً منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة ، روي أنها قالت : قلت لعائشة رضي الله عنها سراً وأنا أعلم أنها لا تظهره ، قاله الملوي وهو معنى قوله : ( قالت ) أي ظناً منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها ) من أنبأت هذا ) أي مطلق إخبار ، واستأنف قوله : ( قال نبأني ( وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكثيراً للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان ) العليم ) أي المحيط بالعلم ) الخبير ) أي المطلع على الضمائر والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سراً ولا جهراً إلا بما يرضيه .
التحريم : ( 4 - 5 ) إن تتوبا إلى. .. . .
) إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( ( )
ولما عرف من هذا أن المعاتب المنبئة ومن نباته ، وكان قد يكون عدداً أشار إلى أنه واحد فالمعاتب اثنتان ، وكانتا قد اتسعت قلوبهما لما يأتي من قبل الله من الرغائب بهذا العتاب على هذا الأمر الخفي جداً والكرم عليهما فيه بعدم الاستقصاء فمالت قلوبهما إلى المعالي وغاصت على جليل المعارف فصاغت من جواهر ذلك دقيق المعاني ، لفت إليهما الخطاب بلطيف العباد لشريف المتاب ، فقال تشريفاً آخر له ( صلى الله عليه وسلم ) بالإقبال على نسائه رضي الله تعالى عنهن بالعتاب لأجله قياماً عنه بما ربما أزعجه لو باشره حفظاً لخاطره الشريف مما قد يغره ) إن تتوبا ) أي يا عائشة ويا حفصة مما صنعته حفصة بالإفشاء وعائشة بالاحتيال على المنع من شرب العسل والتحليف على مارية ) إلى الله ) أي الملك الذي أحاط علمه فجلت قدرته ولطف بهما لأجله ( صلى الله عليه وسلم ) غاية اللطف في قوله : ( فقد صغت ) أي مالت وغاضت بما صاغت ) قلوبكما ( وفي جمع القلوب جمع كثرة تأكيد لما فهمته من ميل القلب بكثرة المعارف بما أفادهما إظهار هذا السر والعتاب عليه من الحياء ، فصارتا جديرتين بالمبادرة إلى التوبة متأهلتين لذلك غاية التأهل .(8/47)
صفحة رقم 48
ولما أورد ما صارتا حقيقيتين به بأداة الشك إقامة للسامع بين الخوف والرجاء من ذلك وهو أعلم مام يكون أكمل ذلك بذكر شق الخوف ، فقال معلماً بأن الملك وأوليائه أنصار له ) وغن تظاهرا ( بالتشديد للإدغام في قراءة الجماعة لأن النظر هنا إن وقع كان على وجه الخفاء في أعمال الحيلة في أمر مارية رضي الله عنها والعسل وما يأتي من مثل ذلك ما يبعث عليه الغيرة ) عليه ) أي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنبأ من قبل الله بما يرفع قدره ويعلي ذكره ، وقراءة الكوفيين بالتخفيف بإسقاط إحدى التاءين إشارة إلى سهولة أمر هذه المظاهرة وقلة أذاها له ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان المعنى كأنه لا يبالي بمظاهرة كما عبر عنه بعلته ، فقال مؤكداً إعلاماً بأن حال المتظاهرين عليه حال المنكر لمضمون الكلام : ( فإن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ) هو ) أي بنفسه الأقدس وحضرة غيب غيبه التي لا يقوم لما لها من العظمة شيء ) مولاه ) أي ناصره والمتولي من أمره ما يتولاه القريب الصديق القادر وكل من له وعي يعلم كفايته سبحانه في ذلك فهو يعمل أبلغ ما يعمله مولى مع من هو متول لأمره وفي معاونته لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) إظهار لشرفه ومراعاة لحفظ خاطره وشرح لصدره .
ولما كانت النفوس لمبنى هذا الدار على حكمة الأسباب مؤكلة بها ناظرة أتم نظر إليها ، وكان نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكثرة ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام وكثر تردده إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بيوتهن ويعلمهن قد صار عندهن بذلك من الأسباب الظاهرة المألوفة ، وكان هو أعظم أنصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( وجبريل ( لأنه من أعظم الأسباب التي يقيمها الله سبحانه .
ولما كان الحامل على مظاهرته ( صلى الله عليه وسلم ) على كل ما يريده الإيمان فكل ما كان الإنسان فيه أمكن كان له أشد مظاهرة وأعون قال : ( وصالح المؤمنين ( اي الراسخين في رتبة الإيمان والصلاح من الإنس والجن وأبوهما رضي الله عنهما أعظم مراد بهذا ، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لو أمرتني لأضربن عنقها ، والصالح وإن كان لفظه مفرداً فمعناه الجميع المستغرق لأنه للجنس ، ودل على ذلك مع دلالة السياق إضافته للجمع ولعله عبر بالإفراد مع أن هذا المراد للإشارة إلى قلة المتصف بهذا جداً لقلة الراسخين في الصلاح من الراسخين في الإيمان فهو قليل من قليل وقد جوز بعضهم أن يكون جمعاً وأنه حذفت واؤه في الرسم على خلاف القياس وهي محذوفة في الوصل للالتقاء الساكنين ، فظن لذلك مفرداً ودخل في ذلك جبريل عليه السلام أيضاً .
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أعطى الملائكة من القوى والتصرف في الظواهر .(8/48)
صفحة رقم 49
والبواطن ما يجل عن الوصف ، قال تعظيماً للمقام بعد تعظيمه بما ذكر من رئيس الكروبيين عليهم الصلاة والسلام ) والملائكة ) أي كلهم ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً مرات إظهاراً لشدة محبته وموالاته للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان المراد التعميم في الزمان والمكان بعد التعميم في الصالحين من الملائكة والإنس والجان ، قال من غير جار معظماً لنصرة الملائكة لما لهم من العظمة في القلوب لما تقرر لمن باشر منهم العذاب تارة بالرجفة وأخرى بالصعقة وتارة بالخسف وأخرى بغير ذلك ، فكيف إذا تصور الآدمي المقيد بالمحسوسات اجتماهم على ما لهم من الأشكال المهولة ) بعد ذلك ) أي الأمر العظيم الذي تقدم ذكره وهو مظاهرة الله ومن ذكر معه ) ظهير ( أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة في المظاهرة ، فخوف بهذا كله لأجل المتاب لطفاً به ( صلى الله عليه وسلم ) وإظهاراً لعظمته وفي قصة صاحب ياسين قال ) وما أنزلنا على قومه ( الآية ، تحقيراً لقومه وإهانة لهم ، ويجوز أن يكون ( ظهير ) خبر جبريل عليه الصلاة والسلام ، وخبر ما بعده محذوف لدلالته عليه أي كذلك .
ولما حذر بما تقدم ، زاد في التحذير ما يقطع القلوب لأن أشد ما على المرأة أن تطلق ثم إذا طلقت أن تستبدل بها ثم أن يكون البدل خيراً منها فقال مبيناً لأدنى أنواع المظاهرة سائقاً الأمر مساق الرجاء إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف تجويز احتمال الضرر فكيف إذا كان الأمر حتماً لأن من المعلوم أن ( عسى ) من الله على طريق الكبراء لا سيماء الملوك في اكتفائهم بالإشارات والرموز فمن هنا كانت واجبة لأنه ملك الملوك وهو ذو الكبرياء في الحقيقة لا غيره ) عسى ربه ) أي المسحن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها وما لم تعرفوه جدير وحقيق ، ووسط بينها وبين خبرها اهتماماً وتخويفاً قوله : ( إن طلقكن ) أي بنفسه من غير اعترض عليه جمع أو بعضكن بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته من طلقها ) أن يبدّله ( منكن بمجرد طلاقه لكن من غير ان تحوجه إلى التفتيش تبديلاً مبالغاً فيه بما أشارت إليه قراءة نافع وأبي جفعر وأبي عمرو بالتشديد ، فهي أبلغ من قراءة الباقين بالتخفيف الدال على مطلق الإبدال الصالح للمبالغ فيه وغيره ، ومن التشريف أيضاً إضافة الطلاق إليه والإبدال إلى الله مع التعبير بصفة الإحسان وتخصيص الإضافة بضميره .
ولما كان الأوجع لقب الحرة حرة مثلها لا سرية قال : ( أزواجاً ( ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف قال : ( خيراً ( ودل على أنها للتفضيل بقوله : ( منكن ( وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة فلا يتقضي وجود من هو خير(8/49)
صفحة رقم 50
منهن مطلقاً وإن قيل بوجود في خديجة رضي الله عنها لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً النهاية القصوى ومريم عليها السلام التي أحصنت فرجهاحتى كانت من القانتين ، وذلك في الآخرة ، والكلام خارج مخرج الشرط بالطلاق وقد علم سبحانه أنه لا يقع لكنه سبحانه علم أنه لو وقع أبدله ( صلى الله عليه وسلم ) من هو بالصفات المذكورة المقتضية للإخلاص في طاعته كما أشار إليه ( قانتات ) ولا شك أن من لازم طاعته وقيد الاتصال به في الدارين كان خيراً من غيره ، وتعليق تطلق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة رضي الله عنها فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً من الله تعالى لأن الله تعالى أمره بأن يراجعها لأنها صوامة قوامه - والله الموفق .
ولما وعد بما ذكر ، وكان أول منظور إليه الظاهر ، فصل ذلك الوعد وفسر الخيرية بادئاً بقوله : ( مسلمات ) أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه الخضوع .
ولما كان المشاهد من الإسلام إنما هو الظاهر قال : ( مؤمنات ) أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن .
ولما كان ذلك قد يكون فيه نوع شوب قال : ( قانتات ) أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة له من الذل والانكسار والمبادرة إلى امتثال أمره ( صلى الله عليه وسلم ) في المنشط والمكره .
ولما كان الإنسان مجبولاً على النقصان ، وكان الإخلاص يدل صاحبه على تقصيره فكان ربما فتره ذلك ، قال تسهيلاً لخدمته وتقريباً لدوام طاعته معلماً الأدب لمحتاجه ) تائبات ) أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك .
ولما كان هذا مصححاً للعبادة لدوامها قال : ( عابدات ) أي مديمات للعبادة بسبب إدامة تجديد التوبة .
ولما كان دوام العبادة مسهلاً للخروج عن الدنيا قال : ( سائحات ) أي متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة بما أدناه الصيام ماضيات في ذلك غاية المضاء ليتم الانقايد لله ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن من كان هكذا لم يكن له مراد ، فكان تابعاً لربه في أمره دائمً ويصير لطيف الذات حلو الشمائل ، قال الملوي : والمرأة إذا كانت كثيرة الصيام قليلة الأكل يقل عرقها ويصغر كرشها وتطلف رائحتها وتخف حركتها لما يراد منها - انتهى .
وسوق هذه الأوصاف هذا السياق في عتاب من هو متصف بها معرف أن المراد منها التمام لا سيما وهي لا يوجد وصف منها على سبيل الرسوخ إلا كان مستلزماً لسائرها ، فلذلك لم يحتج في تعدادها إلى العطف بالواو .
والتجريد عنه أقعد في الدلالة على إرادة اجتماعها كلها .(8/50)
صفحة رقم 51
ولما أكمل الصفات النافعة في أمر العشرة ولم يبق إلا الصفات الكونية وكان التنويع إلى عارفة بالعشر وباقية على أصل الفطر ، ألذ وأشهى إلى النفس ، قال مقسماً للنساء المتصفات بالصفات الست عاطفاً ثاني الوصفين بالواو للتضاد ) ثيبات ( قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها ) وأبكاراً ( .
التحريم : ( 6 - 7 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما أبلغ سبحانه في عتاب أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع صيانتهن عن التسمية إكراماً له ( صلى الله عليه وسلم ) وعلم اتصافهن بهذه الصفات العظيمة على سبيل الرسوخ من دوام صحبته ( صلى الله عليه وسلم ) لهن ليكن من جملة أزواجه في الجنة وكان اتصافهن بذلك الذي أداهن إلى السعادة العظمة إنما هو بحسن تأديب أوليائهن لهن وإكمال ذلك الأدب بحسن عشرته ( صلى الله عليه وسلم ) وتأدبهن بكريم أخلاقه أثمر ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة والتأسي بأوليائهن في ذلك ليعرفن حق الله وحق الأزواج فيحصل بذلك صلاح ذات البين المثمرات للخير كله فقال تعالى متبعاً لهذه الموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب ) يا أيها ( مخاطبة لأدنى الأسنان إشارة إلى أن من فوقهم تأسى من حين دخوله في الإسلام فهو غني عن امر جديد ) الذين آمنوا ) أي أقروا بذلك ) قوا أنفسكم ) أي اجعلوا لها وقاية بالتأسي به ( صلى الله عليه وسلم ) في أدبه مع الخلق والخالق في لينه لمن يستحق اللين من الخلق تعظيماً للخالق فعاملوه قبل كل شيء بما يعاملكم به من الأدب ، وكذا كونوا مع بقية الخلق .
ولما كان الإنسان راعياً أله بيته مسؤولاً عن رعيته قال تعالى : ( وأهليكم ( من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم ) ناراً ( بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما روى أحمد والطبراني عن سعيد بن العاص رضي الله عنه رفعه : ( ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن ) ولما كانت الأشياء لا تعظم في نفسها وعند المخبر بها إلا بإخباره بما يشتمل عليه من الأوصاف قال : ( وقودها ((8/51)
صفحة رقم 52
أي الذي توقد به ) الناس والحجارة ) أي ألين الأشياء وأصلبها ، فما بين ذلك هو لها وقود بطريق الأولى .
ولما وصفها بغاية الأدب في الائتمار أتبه وصف القُوَام فقال معبراً بأداة لاستعلاء دلالة على تمكنهم من التصرف فيها : ( عليها ملائكة ) أي يكون أمرها على سبيل الاستعلاء فلا تعصيهم شيئاً لتأديب الله لها ) غلاظ ) أي في الأبدان والقلوب فظاظة على أهلا لاستحقاقهم لذلك بعصيانهم الملك الأعلى .
ولما كان الغلظ قد يكون مع الرخاوة قال : ( شداد ) أي في كل شيء يحاولونه بالقول والفعل حتى روي أن الواحد منهم يلقي بالدفعة الواحدة في النار من الكفار سبعين ألفاً .
ولما كان المعنى أنهم يوقعون غلظتهم وشدتهم بأهل المعاصي على مقادير استحاقهم .
يبن ذلك بما يخلع القلوب لكونه بأمر الله تعالى فقال : ( لا يعصون الله ) أي الملك الاعلى في وقت من الأوقات ) ما أمرهم ) أي أوقع الأمر لهم به في زمن ما .
ولما كان المطيع منا قد يخل ببعض المأمور به في ذاته بنقص ركن أو شرط أو وقت لنسيان ، أو نوم ونحوه أو بترك مندوب ونحوه أو ما في معناه بوسوسة أو حديث نفس ونحوه يقصر عن إيقاعه على أعلى الدرجات كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرجه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والطيالسي عن ثوبات رضي الله عنه : ( استقيموا ولن تحصوا ) قال نافياً لذلك عنهم : ( ويفعلون ) أي مجددين مع كل أمر على سبيل الاستمرار ) ما يؤمرون ) أي ما يقع لهم الأمر به في أي وقت كان من غير نقص ما ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله كناية عن سهولة انقايدهم وإشارة إلى أن الذي أمرهم معلوم أنه الله سبحانه وتعالى .(8/52)
صفحة رقم 53
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم من أريد بأمر الأمة بالتأدب معه فكان تعمد الإخلال بالأدب معه كفراً ، علم أن هذه النار لأولئك فعلم أن التقدير : يقولون : ( يا أيها الذين كفروا ) أي بالإخلال بالأدب في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله وبالأدب مع سائر خلقه ) لا تعتذروا ) أي تبالغوا في إظهار العذر وهو إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير ) اليوم ( فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار ، وقد فات زمان الاعتذار ، وصار الأمر إلى ما صار ، وإذا نهى عن المبالغة في الاعتذار لعدم نفعها كان النهي عن مطلقه من باب الأولى ، وهذا قطع لرجائهم وإيجاب لبساهم ليعظم همهم وتنقطع قلوبهم لأن معناه أن الاعتذار لا ينفعكم وإن بالغتم فيه ، ولذلك اتسأنف قوله على سبيل الحصر : ( إنما تجزون ) أي في هذا اليوم ) ما كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة والطبع ) تعلمون ) أي على سبيل الإصرار ولا بعد على الله في أن يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنها عمله ، ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يج فيه من الألم ما علم سبحانه أنه بمقدار استحقاقه .
التحريم : ( 8 - 9 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ( )
ولما أفهم الأمر بالوقاية والمدح للملائكة أن المأمورين بالوقاية مقصرون قال مرشداً إلى داوء التقصير : ( يا أيها الذين آمنوا ( ناداهم بما هو أليق بهم من أداة البعد ) توبوا ) أي ارجعوا رجوعاً تاماً ) إلى الله ) أي الملك الذي لا كفوء له .
ولما كان كل فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث قال : ( توبة نصوحاً ) أي بالغة في كونها ناصحة عن الإسناد المجازي أي منصوحاً فيها بالإخلاص في الأزمان الثلاثة ، الماضي بالندم ، والحال بالإقلاع .
والمستقبل بالعزم على عدم العود إلى الذنب ، فلا يقع فيها رجوع كما لا يعود الحليب إلى الضرع ، فلا يؤذي أحد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن أذى رسوله من أذاه ، قال القرطبي : النصوح مجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وغضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيئ الإخوان ، وقال رويم الراعي : هي أن تكون لله وجهاً بلا قفا كما كانت له عند المعصية قفاء بلا وجه .(8/53)
صفحة رقم 54
ولما أمر بالتوبة عللها بما يفيد الإطماع من الإقامة بين الرجاء والخوف إعلاماً بأن هذا المقام هو المنجي لأنه اعتقاد الكمال له سبحانه وهو أن له أن يفعل ما يشاء في المطيع وغيره بقوله : ( عسى ربكم ) أي افعلوا ذلك ليكون المحسن إليكم بهذا البيان جديراً أو حقيقاً ) أن يكفر ) أي يغطي تغطية عظيمة ) عنكم ) أي بالتوبة ، وإذا كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر على ذنوبه ) سيئاتكم ) أي ما بدا منكم ما يسوءه .
ولما ذكر نفع التوبة في دفع المضار ، ذكر نفعها في جلب المسار فقال : ( ويدخلكم ) أي يوم الفصل ) جنات ) أي بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها لأنها ) تجري ( .
ولما كان ذلك الجري في بعض أرضها قال معبراً بأداة التبعيض : ( من تحتها ) أي تحت غرقها وأشجارها ) الأنهار ( فهي لا تزال ريا .
ولما ذكر الغفران والإكرام .
ذكر وقته فقال مبشراً لأهله معرضاً لغيرهم مستحمداً لأهل وده لكونه وفقهم ولم يخلذهم كأعدائه : ( يوم لا يخزي الله ) أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالكمال ) النبي ) أي الرجل الذي ينبئه الله بما يوجب له الرفعة التامة من الإخبار التي هي في غاية العظمة ) والذين ) أي ولا يخزي الذين ) آمنوا معه ( وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم غن كان المراد المعية في مطلق الزمان ، وسابقوهم إن كان المراد بالوصف أو زمان مخصوص كبدر وبيعة الرضوان لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) كما رواه مسلم عن أم مبشر رضي الله عنها وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه : ( ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ( وقال تعالى :
77 ( ) لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا ( ) 7
[ الحديد : 10 ] إلى قوله
77 ( ) وكلاًّ وعد الله الحسنى ( ) 7
[ الحديد : 10 ] ونساءه رضي الله عنهن أحق بأن يكن أول راغب في الكون معه في الإيمان ليبعدن عن النيران ، وإذا استحضرت قصص الأنبياء من سورة هود عليه الصلاة والسلام اتضح لك حسن هذا الوجه ، ويجوز أن يكون ) الذين ( مبتدأ خبره ) نورهم ( أو يكون الخبر ) معه ( إشارة إلى أن جميع الأنبيا وصالحي أممهم من أمته وتحت لوائه ، وذلك في غاية ما يكون من الشرف والرفعة له ( صلى الله عليه وسلم ) والإيمان المقيد بمعيته ، أي تأهله(8/54)
صفحة رقم 55
لمصاحبة إيمانه ( صلى الله عليه وسلم ) غير الإيمان المطلق ، فلا مانع من أن يدخل غيرهم من المؤمنين النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين فلا متمسك للمعتزلة بها في أن مرتكب الكبائر مخلد في النار لأنه داخل النار فهو مخزي ، فهو غير موصوف بالإيمان لأن من اتصف بالإيمان لا يخزى بدليل هذه الآية ، قال أبو حيان : وفي الحديث : ( أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : يا رب أنت أرحمن بهم مني ، فقال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم ( ولما نفى عنهم الخزي ، فسره بقوله مقدماً للنور لأن السياق لتعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بخلاف ما مضى في الحديد : ( نورهم يسعى ) أي سعياً مستمر التجدد ، وعلى التفسير الآخرة تكون هذه الجملة حالية ، ويجوز أن تكون خبراً ل ) الذين ( إذا جعلناه مبتدأ ) بين أيديهم ( وحذف الجار إشارة إلى أنه ملأ تلك الجهة ) و ( كذا ) بأيمانهم ( وأما ما يلي شمائلهم فإنهم لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين ، فهم يمشون فيما بين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما ، وأما أهل الشمال فيعطوها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النر إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا .
ولما كانت إدامة للملك هي أشرف صفات العبد قال : ( يقول ) أي مجددين لذلك دائماً لعلمهم أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء ، لا حق لأحد عليه ولا سيما إذا رأوا انطفاء نور المنافقين ، قال سهل : لا يسقط الافتقار إلى الله تعالى عن المؤمنين في الدنيا ولا في الآخرة بل هم في الآخرة أشد افتقاراً إليه وإن كانوا في دار العز لشوقهم إلى لقائه : ( ربنا ) أي أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه ) أتمم ( فأظهروا لأن المقام له .
ولما كان الإنسان ربما رزق شيئاً فانتفع به غيره دونه قالوا : ( لنا نورنا ) أي الذين مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام فتوصلنا به إلى المأمن في دار السلام ، ولا تجعلنا كالمنافقين الذين أطفأت أنوارهم فكانت عاقبتهم إلى الظلام .
ولما كان كل من حسن أدبه لا بد أن يعتقد في نفسه النقص ، قالوا على سبيل الذلة والمسكنة والتواضع : ( واغفر لنا ) أي امح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره ، وهذا النور هو صورة أعمالهم في الدنيا لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها ، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل ، فكل فضيلة(8/55)
صفحة رقم 56
تكتنفها رذيلتان : إفراط وتفريط ، فالفضيلة هي الصراط المستقيم ، والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله ، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ، ومن أمالته الشهوات طفئ نوره - أعاذنا الله من ذلك ورزقنا حسن الثبات ، وكان ذلك الطفئ في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها ، والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد ، فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له فنوره لا حقيقة له .
ولما كان ما ذكر لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، علله بقوله مؤكداً لإنكار الكفار البعث وما تفرع عنه : ( إنك ) أي وحدك ) على كل شيء ) أي يمكن دخول المشيئة فيه ) قدير ) أي بالغ القدرة .
ولما ذكر ما تقدم من لينه ( صلى الله عليه وسلم ) لأضعف الناس النساء وحسن أجبه وكريم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم ، وختم بما للمؤمنين من الشرف ولله من تمام القدرة ، أنتج ذلك القطع بإذلال أعدائهم وإخزائهم فقال مدارياً لهم من خطر ذلك اليوم بيد أنصح الخلق ليكون ( صلى الله عليه وسلم ) جامعاً في طاعته سبحانه وتعالى بين المتضادات من اللين والشدة والرضى والغضب والحلم والانتقام وغيرها ، فيكون ذلك أدل على التعبد لله بما أمر به سبحانه وتعالىوالتخلق بأوامره وكل ما يرضيه : ( يا أيها النبي ( منادياً بأداة التوسط إسماعاً للأمة الوسطى تنبيهاً على أنهم المنادون في الحقيقة ، ولأجل دلالتها على التوسط والله أعلم كان لا يتعقبها إلا ما له شأن عظيم ، معبراً بالوصف الدال على الرفعة بالإعلام بالأخبار الإلهية المبني على الإحكام والعظمة المثممرة للغلبة ، وأما وصف الرسالة فيغلب فيه الرحمة فيكثر إقباله على اللين والمسايسة نظراً إلى وصف الربوبية : ( جاهد الكفار ) أي المجاهرين بكل ما يجهدهم فيكفيهم من السيف وما دونه ليعرف أن الأسود إنما اكتسبت من صولتك ، فيعرف أن ذلك اللين لأهل الله إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك ، وكبير حلمك وخوفك من الله ونبلك : ( والمنافقين ) أي المساترين بما يليق بهم من الحجة إن استمروا على المساترة ، والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة ) وأغلظ ) أي كن غليظاً بالفعل والقول بالتوبيخ والإبعاد والهجر ) عليهم ( فإن الغلظة عليهم من اللين لله كما أن اللين لأهل الله من خشية الله ، وقد أمره سبحانه باللين لهم في أول الأمر لإزالة أعذارهم وبيان إصرارهم ، فلما بلغ الرفق أقصى مداه جازه إلى الغظة وتعداه ، وقد بان بهذه الآية أن أفعل التفضيل في قوله النسوة لعمر رضي الله عنه : ( أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بابه ولا محذور .(8/56)
صفحة رقم 57
ولما كان انتقام الولي من العدو إنما هو لله سبحانه وتعالى ، لاحظ فيه ، فكان موجباً لعدم اكتفاء الله به في حق الولي ، فكان التقدير : فإنهم ليس لهم عصمة ولا حرمة في الدنيا ولا قوة وإن لاح في أمرهم خلاف ذلك ، عطف عليه قوله : ( ومأواهم ) أي في الآخرة ) جهنم ) أي الدركة النارية التي تلقى داخلها بالعبوسة والكراهة .
ولما كان التقدير : إليها مصيرهم لا محالة ، عليه قوله : ( وبئس المصير ) أي هي ، فذلك جزاء الله لهم عن الإساءة إلى أوليائه والانتقاص لأحبائه .
التحريم : ( 10 ) ضرب الله مثلا. .. . .
) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ( )
ولما كان أمر الاستئصال في الإنجاء والإهلاك أشبه شيء بحال أهل الآخرة في الدينونة بالعدل والفضل ، وكان المفتتح به السورة عتاب النساء ، ثم أتبع بالأمر بالتأديب لجميع الأمة إلى أن ختم بهلاك المخالف في الدارين ، وكان للكفار قرابات بالمسلمينت وكانوا يظنون أنها ربما تنفعهم ، وللمسلمين قرابات بالكفار وكانوا ربما توهموا أنها تضرهم ، قال مجيباً لما يتخيل من ذلك تأديباً لمن ينكر عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من النساء وغيرهن : ( ضرب الله ) أي الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) مثلاً ( يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ ) للذين كفروا ) أي غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم سواء كانوا مشاققين أو منافقين في عدم انتفاعهم مع كفرهم بما بينهم وبين المؤمنين من الوصل والعلائق فيغلظ عليهم في الدارين معاملة بما يستحقون من غير محاباة لأحد وإن جل مقامه ، وعلا منصبه ومرامه ، لأن الكفر قاطع للعلائق بين الكافر والمسلم : ( امرأت نوح ( الذي أهلك الله من كذبه بالغرق ونصره وآواه عليه الصلاة والسلام وكان اسمها فيهما يقال واعلة ) وامرأت لوط ( الذي أهلك الله أيضاً من كذبه بالحصب والخسف والإغراق ، واسمها فيما قيل واهلة ، ودل على وجه الشبه بقوله : ( كانتا ) أي مع كونهما كافرتين .
ولم يقل : تحتهما ، بل أظهر بالوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى والوصف بالصلاح لأن ذلك أفخم ، فيكون أشد تأثيراً للمواعظ وأعظم ، ودفعاً لأن يتوهم أحد بشيء لا يليق بمقامهما عليهما الصلاة والسلام فقال : ( تحت عبدين ) أي كل واحدة منهما تحت عبد ، وعبر بذلك لأن أثر الناس عند الملك كما تقدم عبيده ، ودل على كثرة عبيده تنبيهاً على غناه بقوله : ( من عبادنا ( .
ولما كانت طبقات القرب متفاوتة بحسب الصلاح قال : ( صالحين ( وهما نوح(8/57)
صفحة رقم 58
ولوط عليهما الصلاة والسلام ) فخانتاهما ( بعدم المتابعة في الدين نفاقاً منهما لا بالخيانة في الفرش ، فقد صان الله جميع الأنبياء من ذلك فلم تقل واحدة منهما لأجل كفرهما : رب اجعلن مع نبيك في الجنة ، وآذن بعدم قبول الشفاعة فيمن أساء إلى الحبيب وبعذابه حتماً للتشفي بقوله : ( فلم ) أي فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم ) يغنيا عنهما ) أي المرأتين بحق الزواج ) من الله ) أي من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره ) شيئاً ) أي من إغناء لأجل خيانتهما بالمخالفة في الدين ، ودل على كمال قدرته تعالى بالتعبير بالمجهول فقال : ( وقيل أي للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مرد له : ( ادخلا النار ) أي مقدماتها من الإصرار على الكفر ثم الإهلاك بعذاب الانتقام في الدنيا وحقيقتها في الآخرة لأن الله أبغضهما لأنهما عدو لأوليائه ، وذلك كما قيل : عدو صديقي ليس لي بصديق .
ولما فعلتا فعل الرجال في استقلالهما وعدم عدهما لأنفسهما تبعاً ، غلظ عذابهما بالكون مع الرجال في عذابهم فقال دالاً على نفوذ الحكم فيمن هو أقوى منهما بعد نفوذه فيهما : ( مع الداخلين ) أي الذين هم أعظم منهما ممن لهم وصلة بأهل الله وممن لا وصلة لهم بهم ، فليتأدب كل أحد مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غاية الأدب خوفاً من مثل ذلك ، وهذا خالع لقلوب من ابتدأ بتأديبهن - رضي الله تعالى عنهن .
التحريم : ( 11 - 12 ) وضرب الله مثلا. .. . .
) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ( )
ولما أتم مثل النذارة بأن طاعة المطيع لا تنفع العاصي وإن كان أقرب الناس إلى المطيع إلا إن كان له أساس يصح البناء عليه ، ويجوز الاعتداد به والنظر إليه ، أتبعه مثل البشارة بأن عصيان العاصي لا يضر المطيع فقال : ( وضر الله ) أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال ) مثلاً للذين آمنوا ( ولو كان في أدنى درجات الإيمان مبيناً لأن وصلة الكفار إذا كانت على وجه الإكراه والإجبار لا تضر ) امرأت فرعون ( واسمها آسية بنت مزاحم ، آمنت وعملت صالحاً فلم تضرها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها ) ) كل امرئ بما كسب رهين ( ) [ الطور : 21 ] وأثابها ربها سبحانه أن جعلها زوجة خير خلقه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في دار كرامته بصبرها على عبادة(8/58)
صفحة رقم 59
الله وهي في حبالة عدوه ، وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته لأنه أعدى أعدائه ، وأشار إلى وجه الشبه في المثل وهو التحيز إلى حزب الله بقدر الوسع فقال : ( إذ ) أي مثلهم مثلها حين ) قالت ( تصديقاً بالعبث منادية نداء الخواص بإسقاط الأدة لأجل أنها مؤمنة وإن كانت تحت كافر بنا فلم تضر صحبته شيئاً لأجل إيمانها : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبال ولم تغرني بعز الدنيا وسعتها ) ابن لي ( .
ولما كان الجار مطلوباً - كما قالوا - قبل الدار ، طلبت خير جار وقدمت الظرف اهتماماً به لنصه على المجاورة ولدلالته على الزلفى فقالت : ( عندك بيتاً ( وعينت مرادها بالعندية فقالت : ( في الجنة ( لأنها دار المقربين فظهر من أول كلامها وآخره أن مطلوبها أخص داره ، وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة لخاتم رسوله الذي هو خير خلقه وأقربهم منه ، فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل .
ولما سألت ما حيّزها إلى جناب الله سألت ما يباعدها في الدارين من أعدائه فقالت : ( ونجني ) أي تنجية عظيمة ) من فرعون ) أي فلا أكون عنده ولا تسلطه عليّ بما يضرني عندك ) وعمله ) أي أن أعمل بشيء منه ) ونجني ( أعادت العامل تأكيداً ) من القوم الظالمين ) أي الناس الأقوياء العريقين في أن يضعوا أعمالهم في غير مواضعها التي أمروا بوضعها فيها فعل من يمشي في الظلام عامة ، وهم القبط ، لا تخالطني بأحد منهم ، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محتبها للمحبوب وهو موسى عليه الصلاة والسلام كما يقال : صديق صديقي داخل في صداقتي ، وذلك أرها الله بيتها في الجنة ولم يضرها كونها تحت فرعون شيئاً لأنها كانت معذورة في ذلك ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً ( فلم تسألا الجنة ) لدلالة ( رب ابن لي ) ثانياً عليه ، وحذف ثانياً ( كانت تحت كافر ) لدلالة الأول عليه .
ولما أتم المثل بمن أساءتا الأدب فلم تنفعهما الوصلة بالأولياء بل زادتهما ضرراً للإعراض عن الخير مع قربه وتيسره ، وبمن أحسنت الأجب فلم تضرها الوصلة بأعدى الأعداء بل زادتها خيراً لإحسانها مع قيام المغتر بها عن الإحسان ضرب مثلاً بقرينتها في(8/59)
صفحة رقم 60
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام ) ومع مقارنتها لها في الكمال ، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق ، فلم يبتلها سبحانه بخلطة زوج جمعاً بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب معه من عباده فأحسن إليها رعاية لها على ما وفقها إليه من الإحسان ، وذلك رعاية لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأباب فقال : ( ومريم ) أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم ) ابنة عمران ) أي أحد الأحباب ، وذكر وجه الشبه فقال : ( التي احصنت فرجها ) أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على بكريتها إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء وإمام المرسلين .
ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس ، كان ذلك سبباً لأن وهبها روحاً منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبراً عن ذلك : ( فنفخنا ) أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس .
ولما كانت هذه السورة لتشريف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكميل نسائه في الدنيا والآخرة ، نص على المقصود بتذكير الضمير ولم يؤنثه قطعاً للسان من يقول تعنتاً : إن المراد نفخ روحها في جسدها : ( فيه ) أي فرجها الحقيقي وهو جيبها وكل جيب يسمى فرجاً ، ويدل على الأول قراءة ( فيها ) شاذة ) من روحنا ) أي روح هو أهل لشرفه بما عظمنا من خلقه ولطف تكوينه أن يضاف إلينا لكونه خارجاً عن التسبيب المعتاد وهو جبريل عليه الصلاة والسلام أو روح الحياة .
ولما كان التقدير : فكان ما أردنا ، فحملت من غير ذكر ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان من كلمتنا وهي ( احملي ) ثم كلمتنا ( كن يا حمل من غير ذكر ) ثم كلمتنا ( لديه يا مريم من غير مساعد ) ثم كلمتنا ( تكلم عيسى في المهد بالحكمة ) عطف عليه قوله : ( وصدقت ( فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة ) بكلمات ربها ) أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام ومما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى ) وكتبه ) أي وكتابه(8/60)
صفحة رقم 61
الضابط الجامع لكلامه أنزل على ولدها وغيره من كتب الله كما دل على ذلك قراءة البصريين وحفص بالجمع .
ولما كان المصدق ربما كان تصديقه في الظاهر أو مشوباً بشيء من الضمائر قال : ( وكانت ) أي جبلة وطبعاً ، وشرفها بأن جعلها في رتبة الأكمل وهم الرجال فقال : ( من القانتين ) أي المخلصين الذي هم في غاية القوة والكمال لأنها كانت من بنات الأحباب المصطفين على العالمين ، فلم تكن عبادتها تقصر عن عبادة الأقوياء الكلمة ، وقد أتم سبحانه الأمثال في الآداب بالثيبات والأبكار والأخيار والأشرار ، فانعطف آخر السورة على أولها في المعاني بالآداب ، وزاد ذلك حسناً كونها في النساء وفي الذوات والأعيان بزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لآسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران في الجنة دار القرار السالمة عن الأكدار الزواج الأبدي فصار أول السورة وآخرها في أزواجه ( صلى الله عليه وسلم ) وفي ختامها السالمة عن الأكدار الزواج الأبدي فصار أول اسروة وآخرها في أزواجه ( صلى الله عليه وسلم ) وفي ختامها بالقنوت الذي هو خلاصة الأوصاف الماضية في البدال المذكورات أعظم مناسبة - والله الهادي .
.. .(8/61)
صفحة رقم 62
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والواقية والمنجية ، قال الولي الملوي : هذه السورة كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحبها لكثرة علومها ، وقال : " وددت لو كانت في صدر كل مسلم ". مقصودها الخضوع لله لاتصافه بكمال الملك الدال عليه تمام القدرة الدال عليه قطعا أحكام المكونات الدال عليه تمام العلم الدال عليه أحكام المصنوعات علم ما في الصدور لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والعناد كما هي عادة الملوك في دينونة رعاياهم لتكمل الحكمة وتتم النعمة وتظهر سورة الملك ، واسمها الملك واضح في ذلك لأن الملك محل الخضوع من كل من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان له تمام الثبات والبقاء ، وكان له من كل شيء كمال الخضوع ولالاتقاء ، وكذا اسمها المانعة والواقية والمنجية لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة ، ومن لزمها نجا مما يخاف ومنع من كل هول ووقي كل مخلوق ، وترد السؤال عمن لازم عليها وهذا من أهم الأمور ) بسم الله ( الذي خضعت لكمال عظمته الملوك ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد وتبيان محل السلوك ) الرحيم ( الذي خص أولياءه الهعداية وزوال الشكوك .
الملك : ( 1 - 3 ) تبارك الذي بيده. .. . .
) تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( ( )
لما ختمت تلك بأن من أعرض عنه سبحانه أهلكته ولم يغن عنه أحد ، ومن أقبل(8/62)
صفحة رقم 63
عليه رفعه واستخلصه ولم يضره أحد ، وختم بأنه قوى مريم عليها لاسلام حتى كانت في درجة الكملة ورزقها الرسوخ في الإخلاص ، وكان مثل هذا لا يقدر على فعله إلا من لا كفوء له ، وكان من لا كفوء له أهلاً لأن يخلص له الأعمال ولا يلتفت إلى سواه بحال ، لأنه الملك الذي يملك الملك قال مثيراً للهمم إلى الاستبصار المثير للإرادة إلى رياضة تثمر جميع أبوب السعادة : ( تبارك ) أي تكبر وتقدس وتعالى وتاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن ولابركة وتواتر الإحسان والعلى .
ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكناً من إبقائه في يده أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال : ( الذي بيده ) أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره ) الملك ) أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد ، لا مانع له من شيء ولا كفوء له بوجه ، وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهاً بالخلق .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ورود ما افتتحت به هذه السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقيب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) عقيب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين غلى إنشائه خلقاً آخر وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء أي قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي والجلال .
ولما كان قد أوقع في آخر سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر ، وأعلى آية لمن استبصر ، من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة لعباده واجتهدا في دعاء الخلق ، فحرم الاستنارة بنورهما والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه ولا أكثر مشاهدة لما مدا به من اللآيات وعظيم المعجزات ، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها ، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يغرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت :
77 ( ) رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ( ) 7
[ التحريم : 11 ] وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك به أولى الناس في ظاهر الأمر وتقديم سبب امتحان عصم منه أقرب الناس إلى التورط فيه ، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين السببين وانفصلت في مقدماتها عن تينك القصتين ، وهو ذكر مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب ، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب ، أعقب تعالى ذلك .(8/63)
صفحة رقم 64
بقوله الحق ) تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ) [ الملك : 1 ] وإذا كان الملك سبحانه وتعالى بيده الملك فهو الذي يؤتي الملك والفضل من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران ، فقد التضح اتصال سورة الملك بما قبلها ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسطه التفسير - انتهى .
ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة قال تعالى : ( وهو ) أي وحده له عظمتة تستولي على القلوب وسياسة تعم كل جلب نفع ودفع ضرر لأنه ) على كل شيء ) أي يمكن يشاؤه من الملك وغيره من باطنه وهو الملكوت وغيره مما وجد وما لم يوجد ) قدير ) أي تام القدرة ، ودل على ذلك بقوله : ( الذي خلق ) أي قدر وأوجد .
ولما كان الخوف نم إيقاع المؤلم ادعى إلى الخضوع لأنه أدل على الملك مع أن الأصل في الأشياء العدم ، قدم قوله : ( الموت ) أي هذا الجنس وهو زوال الحياة عن الحي الذي هو في غاية الاقتدار على التقلب بجعله جماداً كأن لم يكن به حركة أصلاً .
أول ما يفعل في تلك الدار بعد استقرار كل فريق في جاره وأن يعدم هذا الجنس فيذبح بعد أن يصور في صورة كبش ) والحياة ) أي هذا الجنس وهو المعنى الذي يقدر الجماد به على التقلب بنفسه وبالإرادة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الموت خلقه الله على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات ، والحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها فلا يجد ريحها شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها وألقاه على الحي الذي ألقاه بنو إسرائيل ونوى أن يكون عجلاً فصار عجلاً .
ولما ذكر الدال على القدرة أتبعه غايته ، وهو الحكم الذي هو خاصة الملوك فقال تعالى : ( ليبلوكم ) أي يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار ) أيكم أحسن عملاً ) أي من جهة العمل أي عمله أحسن من عمل غيره ، وعبارة القرآن في إسناد الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن كان هو أحسن ولو أنه أبشع الناس منظراً ، ومن كان عمله أسوأ كان بخلاف ذلك ، والحسن إنما يدرك بالشرع ، فما حسنه الشرع فهو الحسن وما قبحه فهو القبيح ، وكان ذلك مفيداً للقيام بالطاعة لأن من تفكر في حاله علم أنه مباين لبقية الحيوانات بعقلة وللنباتات بحياته ، وللجمادات بنموه ، وأن ذلك ليس له من ذاته بدليل موته ، فما كان له ذلك إلا بفاعل مختار ، له الحياة من ذاته ، فيجتهد في رضاه باتباع رسله إن كان عاقلاً ، (8/64)
صفحة رقم 65
فيشكره إذا أنعم ، ويصبر إن امتحن وانتقم ، ويخدمه بما أمر وينزجر عما هنه زجره ، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع منها ووجود المقتضي إعداد وإرشاد ، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة كالحداد يلين الحديد بالنار ليقبل أن يكون سكيناً ، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب بالسكين وإصلاحها للقطع بها ، وانتفاء المانع هو الموقف عن ذلك وهو دفع المشوشات والمفسدات كتثلم السكين وهو يجري السبب وسبب السبب ، وهو ما اشتمل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعني ولا تعن عليّ ) الحديث ، فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكرن ومن تأمل لآية عرف أنه ما خلق لا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدق غيره ، وأن الدنيا مزروعة ، وأن الآخرة محصدة ، فيصير من نفسه على بصيرة ، وثارت إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان ، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان ، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان ، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه خوفاً من عاقبة هذه البلوى .
ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب وعاجز عن رد المسيء عن إساءته وجعله محسناً من أول نشأته ، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق الموت والحياة ، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة : أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه أي وقت شئت بأيسر سعي ) العزيز ) أي الذي يصعب الوصول إليه جداً ، من العزاز وهو المكان الوعر والذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، فلو أراد جعل الكل محسنين ، ولا يكون كذلك إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً .
ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه غذا علم مخالفته ، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة ، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة ، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً : إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب القاطعة وأين التراب من رب الأرباب ) الغفور ) أي أنه مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي ( ومن أتاني يمشي أتيته هرولة )(8/65)
صفحة رقم 66
ولما أثبت له سبحانه صفتي العز والغفر على أبلغ ما يكون ، دل على ذلك بقوله دالاً على كمال تفرده بعد آيات الأنفس بآيات الآفاق إرشاداً إلى معالي الأخلاق : ( الذي خلق ) أي أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق ) سبع سماوات ( حال كونها يكون كل جزء منها مطابقاً كل واحدة منها كأنها لشدة مطابقتها للأأخرى طالبة مطابقتها بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ، ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك وهي لا تكرون كذلك إلا بأن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل ، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة ، فما ظنك بما تحته ، وكل سماه في التي فوقها بهذه النسبة ، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك ، وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة كما مضى بسط ذلك في ذلك سورة السجدة ، وأحاط سبحانه بالأرض منافعها من جميع الجوانب ، وجعل المركز أن تكون رجلاه إلى الأرض ورأسه إلى السماء لتكون السماء في رأيه دائماً أعلى ، والأرض أسفل في أي جانب كان هو عليها ، فسبحان اللطيف الخبير ، ولا شك أن مت تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأه فيها لنا من المنافع ، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد ، فانقطع باللجاء إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع ، وسارع في مراضيه ومحابه في كل خفض ورفع .
ولما كان ذلك في حد ذاته خارجاً عن طوق المخلوق ، وكان سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، ولما بين كل سماءين كذلك مع عدم الفروج ولاعمد والأطناب ، فكان ذلك النهاية في الخروج عن العادة في حد ذاته ولأنه قيل : إن القبة إذا بنيت بلا فروج ولا شيء يدخل الهواء منه تفسد وتسقط ، دل على عزته بعظيم صنعه في ذلك بقوله واصفاً لها : ( ما ترى في ( وكان الأصل : خلقها ، ولكنه دل على عزته وعموم عظمته بقوله : ( خلق الرحمن ) أي لها ولغيرها ولولا رحمته وعموم عظمته التي اقتضت إكرامه لخلقه بعد غفرانه لما لهم من النقائص ما أحسن إليهم بها في اتساعها وزينتها وما فيها من المنافع ، وأعرق في النفي بقوله : ( من تفاوت ( بين صغير ذلك الخلق وكبيره بالنسبة إلى الخالق في إيجاده له على حد سواء ، إنما قوله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلا فرق في ذلك بين الذرة مثلاً والغرس ولا بالنسبة إلا الخالق من عجز صغيرهم وكبيرهم عن إيجاد شيء من العدم صغيراً كان أو كبيراً جليلاً كان أو حقيراً ، ولا ترى تفاوتاً في الخلق بأن يكون شيء منه فائتاً للآخر بالمخالفة والأضطراب والتناقض في الخلقة غير مناسب له بأن يكون خارجاً عنه أو منافراً له في مقتضى(8/66)
صفحة رقم 67
الحكمة ، وآثار الإحسان في الصنعة ، والنزول عن الإتقان والاتساق ، والخروج عن الإحكام والاتفاق ، والدلالة للخالق على كمال القدرة وللمخلوق على الحدوث بنوع من ضعف البنية بحيث يكون كل واحد كالطالب لأن يخالف الآخر ، أو تعمد لأن يفوت الآخر ويخالفه - على قراءة حذف الألف والتشديد بحيث يكون التفاضل في المزدوجات وعدم المساواة مقصود بالذات وبالقصد الأول ، بل لا توجد المخالفة إلا نارداً بحيث يعلم أن المشاكلة هي المقصود بالذات وبالقصد الأول ، فإذا وقع في شيء منه مخالفة كان على وجه الندور ليعلم أنه ليس مقصوداً بالذات ، وإنما أريد به الدلالة على الاختيار وأن الفاعل هو القادر المختار لا الطبيعة ، قال الرازي : كأن التفاوت الشيء المختلف لأعلى النظام ، وقال البغوي : من اعوجاج واختلاف وتناقض ، وقال غيره : عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهو من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها ، وقال أبو حيان : والتفاوت تجاوز الحد الذي يجب له زيادة أو نقصان - أنتهى .
يظهر ذلك بأن أغلب الخلق أجوف ، والأجوف يعمل مبسوطاً ثم يضم ويوصل أحد جانبيه بالآخر فيكون ثم نوع فطر يعرفه أهل الحذق وإن اجتهد صانعه في إخفائه وغن كان فيه أشياء متقابلة كان يفها تفاوت ولو قل وإن اجتهد الصانع في المساواة ، وخلق الله لا تفاوت فيه بوجه ، فالسماوات كرية ولا ترى في جانب منها شقاً ولا فطراً ظاهراً ولا خفياً ، والحيوان أجوف ولا ترى في شيء من جسده فصماً يكون الضم والتجويف وقع به وكل من متقابليه مساو للأخر كالعينين والأذنين والمنخرين والساقين ونحوها مما يقصد فيه التساوي لا تفاوت فيه أصلاً - إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن ضبطه ، فسبحانه من لا تتناهى قدرته فلا تتناهى مقدوراته ، ولا تحصى بوجه معلوماته ، وكل ذلك عليه هين ، والأمر في ذلك واضح بين ، هذا مع الاتساع الذي لا يدرك مقداره بأكثر من أن كل سماء بالنسبة إلى التي فوقها كحلقة ملقاة في فلاة غلى أن يوصل إلى الكرسي ثم العرش العظيم ، ومن سر كونها كذلك حصوله النفع بكل ما فيها من كواكب مرطبة أو ميبسة أو منورة واتصالات ممطرة ومثبتة يجري كل ذلك منها على ترتيب مطرد ، ونظام غير منخرم مقدر جريه بالقسط مرتب على منافع الوجود ومصالح الكائنات كلها مكفوفة على هواء لطيف بتدبير شريف : لا يتعدى شيء منها طوره ولا يتخطى حده ، ولا يرسب فيها تحته من الهواء فيهوي ، ولا يرتفع عن محله بمقدار ذرة فيطفو ، قد أحاط بكلها الأمر ، وضبطها صاغرة القهر .
ولما كان العلم الناشىء عن الحسن أجل العلوم ، دل على بديع ما ذكره بمشاهدة الحسن له كذلك ، فسبب عنه قوله منبهاً بالرجع الذي هو تكرير الرجوع على أن كل أحد يشاهد ذلك كذلك من حين يعقل إلى أن يبلغ حد التكليف المقتضي للمخاطبة بهذا(8/67)
صفحة رقم 68
الكلام : ( فارجع البصر ) أي بعد ترديدك له قبل ذلك ، ودل بتوجيه الخطاب نحو أكمل الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) في السمع والبصر والبصيره وكل معنى إلى أن ذلك لا شبهة فيه .
ولما كان السؤال عن الشيء يدل على شدة الاهتمام بالبحث عنه ، نبه على أن هذا مما اشتدت عناية الأولين به فقال : ( هل ترى ) أي في شيء منها .
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أعرق في النفي بقوله : ( كم فطور ) أي خلل بشقوق وصدوع أو غيرها لتغاير ما هي عليه لتغاير ما هي عليه وأخبرت به من تناسبها واستجماعها واستقامتها ما يحق لها مما يدل على عزة ما فيها وبليغ غفرانه ، وهذا أيضاً يدل على إحاطة كل منها بما دونه فإنه لو كان لها فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها أو كمالها ، فالهواء وجميع المنافع منحبسة فيها محوطة بها مضطربة متصرفة فيها على حسب التدبير والحيوان في الهواء كالسمك في الماء ، أو انحبس الهواء عنه لمات كما أنه لو انكشف الماء عن السمك لمات .
الملك : ( 4 - 7 ) ثم ارجع البصر. .. . .
) ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ( ( )
ولما كان في سياق المجازاة بالأعمال الصالحة والطالحة التي دل عدم الانتصاف من الظالمين في هذه الدار على أنها تكون بعد البعث وكانت العزة مقتضية لذلك ، وكان خلقه سبحانه وتعالى هذا الوجود على هذا النظام مثبتاً لها ، واكنت أعمالهم أعمال المنكر لها ، ولا سيما تصريحهم بأنه لا بعث ، دل على عظمة عزته بما أبدعه من هذا السقف الرفيه البديع ، ثم بجعله محفوظاً هذا الحفظ المنيع ، على تعاقب الأحقاب وتكرر السنين ، فقال معبراً بأداة التراخي دالاً على جلاله بإدامة التكرير طول الزمان : ( ثم ارجع البصر ( وأكد ماأفهمته الآية من طلب التكرير بقوله تعالى : ( كرتين ) أي مرتين أخريين - هذا مدلولها لغة ، وبالنظر إلى السياق علم أن المرد مرة بعد مرة لا تزال تكرر ذلك لارتياد الخلل لا إلى نهاية ، كما أن ( لبيك ) مراد به به إجابة إلى غير غاية ، وعلى ذلك دل قوله سبحانه وتعالى : ( ينقلب إليك ) أي من غير اختيار بل غلبة وإعياء وانكسار ) البصر خاسئاً ) أي صاغراً مطروداً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب ) وهو ) أي والحال أنه ) حسير ) أي كليل تعب معيى من طول المعاود وتدقيق النظر وبعد المسرح ، وإذ كان هذا الحال في بعض المصنوع فكيف يطلب العلم بالصانع في كماله من جلاله وجماله ، فكيف بمن يتفوه بالحلول أو الاتحاد حسبه جهنم وبئس المهاد .(8/68)
صفحة رقم 69
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن بديع هذا الخلق ، ونبه على بعض دقائقه وأمر بالإبصار وتكريره ، وكان السامع أول ما يصوب نظره إلى السماء لشرفها وغريب صنعها وبديع وضعها ومنيع رفعها ، فكان بحيث يتوقع الإخبار عن هذه الزينة التي رصعت بها ، قال في جواب من توقعه مؤكداً بالقسم إعلاماً بأنه ينبغي أن يبعد العاقل عن إنكار شيء مما ينسب غلى صاحب هذا الخلق من الكمال ، عاطفاً على ما تقديره : لقد كفى هذا القدر في الدلالة على عظمة مبدع هذا الصنع وتمام قدرته : ( ولقد ( واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظراً إلى مقام العظمة صرفاً للعقول عما اقتضاه ( الرحمن ) من عموم الرحمة تذكيراً بما في الآية الماضية ، وتنبيهاص على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب ( الجن المتمردين الطاغين ) : ( زينا ( دلالة أخرى تدل على العظمة بعد تلك الدلالة الأولى ) السماء الدنيا ) أي أدنى السماوات إلى الأرض وهي التي تشهد وأنتم دائماً تشاهدونها وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا ) بمصابيح ) أي نجوم متقدة عظيمة جداً ، كثرتها تفوت الحصر ، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة .
وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم ، فتفيد شعبة من ضوء الصباح ، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها من السماوات وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف بما للاجرام السماوية من الصفاء ، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة .
ولما أخبر - جلت قدرته - بعظيم قدرته فيها منبهاً على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار والهداية في الدين والدنيا التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعاً تاماً ، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة وإن كان المراد بالعض الأغلب فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال : ( وجعلناها ) أي النجوم من حيث هي بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاماً للهداية ) رجوماً ( جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به ) للشياطين ( الذين يستحقون الطرد والبعد والحرق من الجن لما لهم من الاحتراق ، وذلك بياناً لعظمتنا وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر ، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق ، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل ، فيخرجوهم - لأنهم أعداؤهم - من النور إلى الظلمات كما كانوا في الجاهلية مع ما فيها بما خلق سبحانه في أمزجتها من ترطيب وتجفيف وحر وبرد واعتدال ينشأ عنه الفصول الأربعة وقهرها به من شروق وغروب وحركة وسكون يعرف بها ما إليه المآل ، مما أخبرت به الرسل من الزوال ، مع ما يدل من الليل والنهار والعشي والإبكار وأشياء يكل عنها الصوف في ذواتها وعن إحصاء منافعها حتى لو عدم شيء مما في السماوات مما دبره الحكيم(8/69)
صفحة رقم 70
لصلاح هذا العالم يهلك كل حيوان ونبات على وجه الأرض ، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكواكب وهو قار في فلكه على حالة كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية على حالها لا نقص ، وذلك مسوغ لتسميتها بالرجوم ، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله ، ويحتمل مع ذلك أن يكون المراد : ظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء هي من عظيم الابتلاء ليتبين الموقن من المزلزل والعالم من الجاهل ؛ وفي البخاري : قال قتادة : ( خلقت النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا علم له به ) ولما كان التقدير : ورجمناهم بها بالفعل عند استراقهم للسمع إبعاداً لهم عن مسكن المكرمين ومحل النزاهة والأنس ومهبط القضاء والتقدير ، ونكالاً لغيرهم من أمثالهم عذاباً لهم في الدنيا ، عطف عليه قوله ترهيباً من جلاله بعد ما رغب في عظيم جماله : ( وأعتدنا ) أي هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة ) لهم ) أي الشياطين الذين يسترقون السمع ) عذاب السعير - ) أي النار التي هي في غاية الاتقاد ، ففي الآية بشارة أهل السمع والبصرو العقل وفيها من التنبيه ما لا يخفى .
ولما أخبر سبحانه عن تهيئته العذاب لهم بالخصوص ، أخبر أيضاً عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال حاثاً على التكفر في عظيم انتقامه الخارج عن العادة في عدم الانطفاء ، ولا للمعذب من الخلاص منها مسلك ولا رجاء بل كلما طال الزمان تلقته بالشدة والامتداد ، بئس الجامعة للمذام في كل انتقام مع الإهانة والاحتقار ) وللذين كفروا ) أي أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله ، فقال صارفاً القول عن مقام العظمة إلى صفة الإحسان الخاصة بالتربية تنبيهاً على ما في إنكاره من عظيم الكفران : ( بربهم ) أي الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت وذلك كفراً منهم بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم ) عذاب جهنم ) أي الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب .
ولما كان التقدير : هي مصيرهم ، قال دالاً على عدم خلاصهم منها أصلاً أزلاً وأبداً : ( وبئس المصير ) أي هي .
ولما عبر عن ذمها بمجمع المذام ، أتبعه الوصف لبعض تجهمها على وجه التعليل ، فقال دالاً بالإلقاء على خساستهم وحقارتهم معبراً بأداة التحقيق دالالة على أنه(8/70)
صفحة رقم 71
أمر لا بد منه ، وبالبناء للمفعول على أن إلقاءهم في غاية السهورة على كل من يؤمر به : ( إذا ألقوا ) أي طرح الذين كفروا والأخساء من أي طارح أمرناه بطرحهم ) فيها ( حين تعتلهم الملائكة فتطرحهم كما تطرح الحطب في النار ) سمعوا لها ) أي جهنم نفسها ) شهيقاً ) أي صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمال لشدة توقدها وغليانها ، أو لأهلها - على حذف مضاف ) وهي تفور ) أي تغلي بهم كغلي المرجل بما فيه من شدة التلهب والتسعر ، فهم لا يزالون فيها صاعدين هابطين كالحب إذا كان الماء - يغلي به ، لا قرار لهم أصلاً .
الملك : ( 8 - 11 ) تكاد تميز من. .. . .
) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ( )
ولما وصفها بالفوران ، بين سببه تمثيلاً لشدة اشتعالها عليهم فقال : ( تكاد تميز ) أي تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال : يكاد فلان ينشق من غيظه وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء - كناية عن شدة الغضب ) من الغيظ ) أي عليهم ، كأنه حذف إحدى التائين إشارة إلى أنه يحصل منها افتراق واتصال على وجه من السرعة لا يكاد يدرك حق الإدراك ، وذلك كله لغضب سيدها ، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمان لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به ، وهي شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر به أن يقتلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة ، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخة كما رواه الجماعة إلا الترميذ وهذا لفظ أبي داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( انكسفت الشمس على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - فذكر صلاته إلى أن قال : ثم نفخ في آخر سجوده .
فقال : أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ) وفي رواية النسائي أنه قال : قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد أدنيت مني النار حتى جعلت ألفتها خشية أن تغشاكم )(8/71)
صفحة رقم 72
ولما ذكر سبحانه حالها ، أتبعه حالهم في تعذيب القلب باعتقادهم أنهم ظلمة على وجه ، بين السبب في عذابهم زجراً عنه فقال : ( كلما ( ولما كان المنكىئ مجرد الإلقاء بني للمفعول دلالة على ذلك وعلى حقارتهم بسهولة إلقائهم قوله : ( إلقي فيها ) أي جهنم بدفع الزبانية بهم الذين هم أغيظ عليهم من النار ) فوج ) أي جماعة هم في غاية الإسراع موجفين مضطربي الأجواف من شدة السوق ) سألهم ) أي ذلك الفوج ) خزنتها ) أي النار سؤال توبيخ وتقريع وإرجاف .
ولما كان كأنه قيل : ما كان سؤالهم ؟ قال : قالوا موبخين لهم مبكتين محتجين عليهم في استحقاقهم العذاب زيادة في عذابهم بتعذيب أرواحهم بعد تعذيب أشاحهم : ( ألم يأتكم ) أي في الدنيا ) نذير ) أي يخوفكم هذا العقار ويذكركم بما حل بكم وبما حل ممن قبلكم من المثلاث ، لتكذيبهم بالآيات ، ويقرأ عليكم الكتب المنزلات ) قالوا بلى ( ولما طابق هذا الجواب فتوقع السامع إيضاحه .
افصحوا بما أفهمه وشرحوه تأسفاً على أنفسهم مما حل بهم وتحسراً فقالوا : ( قد جاءنا ( وأظهروا موضع الإضمار تأكيداً وتنصيصاً فقالوا : ( نذير ) أي مخوف بليغ التحذير ) فكذبنا ) أي فتسبب عن مجيئه أننا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير ) وقلنا ) أي زيادة في التكذيب والنكاية له والعناد الذي حل شؤمه بنا : ( ما نزل الله ) أي الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم ، ولعل التعبير بالتفعيل إشارة إلى إنكارهم الفعل بالاختيار الملازم للتدريج - تعالى الله عن ذلك علواً كبيارً ، وأرقنا في النفي فقلنا : ( من شيء ( لا وحياً ولا غيره ، وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين : ( إن ) أي ما .
ولما كان تكذيبهم برسول واحد تكذيباً لجميع الرسل قالوا عناداً : ( أنتم ) أي أيها النذر المذكورون في ( نذير ) المراد به الجنس ، وفي خطاب الجمع إشارة إيضاً إلى أن جواب الكل للكل كان متحداً مع افتراقهم في الزمان حتى كأنهم كانوا على ميعاد ) إلا في ضلال ) أي بعد عن الطريق وخطأ وعمى محيط بكم ) كبير ( فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف .
ولما حكى سبحانه ما قالوه للخزنة تحسراً على أنفسهم حكى ما قالوه بعد ذلك فيما بينهم زيادة في التحزن ومقتاً لأنفسهم بأنفسهم فقال تعالى : ( وقالوا ) أي الكفرة في توبيخ أنفسهم : ( لو كنا ) أي بما هو لنا كالغريزة .
ولما كان السمع أعظم مدارك العقل الذي هو مدار التكليف قالوا : ( نسمع ) أي سماعاً ينفع بالقبول للحق والرد للباطل ) أو نعقل ) أي بما أدته إلينا حاسة السمع وغيرها عقلاً ينجي وإن لم يكن سمع ، وإنما قصروا الفعلين إشارة إلى أن ما كان لهم(8/72)
صفحة رقم 73
من السمع والعقل عدم لكونه لميدفع عنهم هذا البلاء بالقبول من الرسل لما ذكروهم به من نصائح ربهم وشهادة الشواهد من الآيات البينات ) ما كنا ) أي كونا دائماً ) في أصحاب السعير ) أي في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الاتقاد والحر والتلهب والتوقد حتى كأن بها جنوناً ، وحكم بخلودهم في صحبتها ، وأعظم ما في هذا من العذاب بكونهم ألجئوا إلى أن يباشروا توبيخ أنفسهم ومقتها بأنفسهم أنه لا يقبل منها خروجاً عن العادة في الدنيا من أن الإنسان إذا أظهر الخضوع باعترافه ولومه نفسه وإنصافهرحم وقبل ، وفي الآية أعظم فضيلة للعقل ، روى ابن المحبر في كتاب العقل والحارث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لكل شيء دعامة ودعامه المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته ، أما مسعتم قول الفجار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) ولما كان هذا الإقرار زائداً في ضررهم ، وإنما كان يكون نافعاً لهم لو قالوه في دار العمل وندموا عليه وأقلعوا عنه ، سبب عنه قوله ضاماً - إلى ما تقدم من تعذيب أرواحهم بمقت الملائكة عليه وأقلعوا عنه ، سبب عنه قوله ضاماً - إلى ما تقدم من تعذيب أرواحهم بمقت الملائكة لهم ثم مقتهم لأنفسهم - مقت الله لهم : ( فاعترفوا ) أي بالغوا جامعين إلى مقت الله وملائكته لهم مقتهم لأنفسهم في الاعتراف وهو الإقرار عن معرفة .
ولما كان الذي أوردهم المهالك هو الكفر الذي تفرعت عنه جميع المعاصي ، أفرد فقال : ( بذنبهم ) أي في دار الجزاء كما كانوا يبالغون في التكذيب في دار العمل فلم يكن ينفعهم لفوات محله ، أو أنه لم يجمع الذنب إشارة إلى أنهم كانوا كلهم في المبالغة في التكذيب على حد واحد ، كما قال تعالى
77 ( ) كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ( ) 7
[ الذاريات : 53 ] أو أن الإفراد أشد في التحذير من كثر الذنوب وقليلها حقيرها وجليلها .
ولما كانوا قد أبلغوا في كلتي الدارين في إبعاد أنفسهم عن مواطن الرحمة وتسفيلها إلى حال النقمة أنتج ذلك وسبب قوله : ( فسحقاً ) أي بعداً في جهة السفل وهو دعاء عليهم مستجاب ) لاصحاب ( وأظهر تنبيهاً على عظيم توقدها وتغيظها وتهددها فقال : ( السعير ) أي الذي قضت عليهم أعمالهم بملازمتها .(8/73)
صفحة رقم 74
الملك : ( 12 - 15 ) إن الذين يخشون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( ( )
ولما ذكر سبحانه أهل المعاملة بصفة العزة لما حصل لهم من العزة ، أتبعهم أضدادهم المطوعين أنفسهم لإشارة العقل المتأهلين لنعت المعرفة ، فقال مؤكداً لما للأضداد من التكذيب : ( إن الذين يخشون ) أي يخافون خوفاً أرق قلوبهم وأرق قلوبهم وأرق غيرهم بحيث كانوا كالحب على المقلي لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة ، كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية ، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة فوقوا أنفسهم فوران النار بهم ، وعدل عن سياق الجلالة الجامع إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنهم غلب عليهم النظر إلى الإحسان فقادهم إلى الشكر مع ما نبهت عليه الخشية من اتصافهم بالفرق الذي أداهم إلى الذعر فقال : ( ربهم ( الذي أحسن إليهم بتطويرهم بما جعل لهم من الأسباب في أطوار الخير وإذا كانوا يخشونه مع نظرهم إلى صفة إحسانه فما ظنك بهم عند النظر إلى صفات انتقامه ) بالغيب ) أي حال كونهم غائبين عنه سبحانه ووعيده غائباً عنهم وهو غائبون عن أعين الناس وقد ملأ الخوف وتكلم بسيوف الهيبة ، فيتركون المعصية حيث لا يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتكلم بسيوف الهيبة ، فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة لما عند الناس من القوى الموجبة للطغيان ، قال بعض العارفين : في الإنسان خواص تستدعي العلم بما يشوبها من الحظوظ فتنشأ منها - المنازعة في الكبرياء والعظمة والجلال والجمال ، فالقلب يستدعي التفرد بالوجود والأمر والنهي ، فما من أحد إلا وهو مستطبن ما قال فرعون ، ولكن لا يجد له مجالاً كما وجد فرعون ، والعقل يستدعي في تدبيره وتأثيره اعتقاد أنه لو مكن من الوجود لدبره ، ويرى أن تدبيره هو التدبير وإن كان أفسد الفاسد ، وكذلك لا يزال يقول : لو كان كذا لكان كذا ، والنفس لا تتخيل أنها من القوة والاقتدار بحيث لو أرادت أن تخرب مدناً وتبنيها فعلت ، فليحذر الإنسان فإن أعدى عدوه نفسه التي هي بين جنبيه ، فمهما تركها انتشرت ، قال تعالى ) ) كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( ) [ العلق : 6 و 7 ] وينسى ما بعدها ) ) إن إلى ربك الرجعى ( ) [ العلق : 8 ] ولهذا كان بعض الأكاسرة - وكانوا أعقل الملوك - يرتب واحداً يكون وراءه بالقرب منه يقول له إذا اجتمعت جنوده بعد كل قليل : أنت عبد ، لا يزال يكرر ذلك ، والملك يقول له كلما قاله : نعم : فعلى العاقل أن يطوع نفسه لأن ترجع مطمئنة بأن يرضى بالله رباً ليدخل في رق العبودية ، وبالإسلام ديناً ليصير عريقاً فيها ، فلا ينازع الملك في ردائه(8/74)
صفحة رقم 75
الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال ، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ، ويظهره من المعارف ، ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره .
ولما كانت الخشية مشيرة إلى الذنوب ، فكان أهم ما إليهم الإراحة منها قال تعالى : ( لهم مغفرة ) أي سترة عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم .
ولما كان السرور إنما يتم بالإعطاء قال : ( وأجر ) أي من فضل الله ) كبير ( يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام ، وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام .
ولما كانت الخشية من الأفعال الباطنة ، وكان كل أحد يدعي أنه يخشى الله ، قال مخوفاً لهم بعلمه نادباً إلى مراقبته لئلا يغتروا بحمله ، عاطفاً على ما تقديره لإيجاب المراقبة : فأبطنوا أفعالهم وأظهروها : ( وأسروا ) أي أيها الخلائق .
ولما كان إفراد الجنس دالاً على قليله وكثيره قال : ( قولكم ) أي خيراً كان أو شراً ) أو اجهروا به ( فإنه يعلمه ويجازيكم به لأن علمه لا يحتاج إلى سبب ، وذلك أن المشركين كانوا يقولون : أسروا وإلا يسمع إله محمد : ثم علل ذلك مؤكداً لأجل ما للناس من استبعاد ذلك بقوله : ( إنه ) أي ربكم ) عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها سواء كانت قد تخيلته ولم تعبر عنه ، أو كان مما لم تتخيله بعد بدليل ما يخبر به سبحانه وتعالى عنهم مما وقع وهم يخفونه ، أو لم يقع بعد ثم يقع كما أخبر به سبحانه ؛ ثم دل على ذلك بقوله معجباً ممن يتوقف فيه أدنى توقف ومنكراً عليهم بإثبات العلم ونفى ضده على أبلغ وجه : ( ألا يعلم ) أي وكل ما يمكن أن يعلم ، وحذف المفعول للتعميم ، ثم ذكر الفاعل واصفاً له بما يقرب المخبر به للإفهام فقال : ( من خلق ) أي الذي أوجد الخلق من القلوب الحاوية للأسرار والأبدان وغير ذلك ، وطبع في كل شيء من ذلك ما طبع مما قدره بعلمه وأتقنه بحمته ، فإن كل صانع أدرى بما صنعه ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون ( من ) مفعولاً والفاعل مستتراً ، أي ألا يعلم الله مخلوقه على الإطلاق وله صفتا اللطف والخبر اللتان شأنهما إدراك البواطن إدراكاً لا يكون مثله لأن الغرض إثبات العلم لما أخفوه لظنهم أنهم إذا أسروا يخفى ، لا إثبات مطلق العلم فإنهم لم ينكروه ) وهو ) أي والحال أنه هو ) اللطيف ) أي الذي يعلم ما بثه في القلوب لأنه يصل إلى الأشياء بأضدادها فكيف بغير ذلك ) الخبير ) أي بالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء ، وهو أعظم تهديد يكون ؛ فإن من علم أن من يعصيه عالماً به وهو قادر عليه لا يعصيه أبداً .(8/75)
صفحة رقم 76
ولما كان ذلك أمراً غامضاً ، دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبرته لاستدعاء الشكر من عباده على ما أبدع لهم ومن عليهم به من النعم الباهرة التي بها قوامهم ، ولولاه لما كان لهم بقاء فقال مستأنفاً : ( الأرض ( على سعتها وعظمها وجزونة كثير منها ) ذلولاً ) أي مسخرة لا تمتنع ، قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وإنباط مياه وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك غاية الانقياد ، بما تفهمه صيغة المبالغة مع أن فيها أماكن خوارة تسوخ فيها الأرجل ويغوص فيها ما خالطها ، ومواضع مشتبكة بالأشجار يتعذر أو يتعسر سلوكها ، وأماكن ملأى سباعاً وحيات وغير ذلك من الموانع ، وأماكن هي جبال شاهقة إما يتعذر سلوكها كجبل السد بيننا وبين ياجوج وماجوج ، ورد في الحديث أنه تزلق عليه الأرجل ولا تثبت ، أو يشق سلوكها ، ومواطن هي بحور عذبة أو ملحة فلو شاء لجعلها كلها كذلك ليكون بحيث لا يمكن الانتفاع بها ، فما قسمها إلى سهول وجبال وبرور وبحور وأنهار وعيون وملح وعذب وزرع وشجر وتراب وحجر ورمال ومدر وغير ذلك إلا لحكمة بالغة وقدرة باهرة ، لتكون قابلة لجميع ما تريدون منها ، صالحة لسائر ما ينفعكم فيها .
ولما كان معنى التذليل ما تقدم ، سبب عنه قوله تمثيلاً لغرض التذليل لأن منكبي البعير وملتقاهما من الغاربين أرق شيء وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه : ( فامشوا ) أي الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثباً أو حبواً ) في مناكبها ) أي أماكنها التي هي لولا تسهيلنا لمناكب الحيوانات لكانوا ينتكبون عن الوقوف عليها ، فكيف بالمشي ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها الجبال - لأن تذليلها أدل دليل على تذليل غيرها ، وليكن مشيتكم فيها وتصرفكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك - والله الهادي .
ولما ذكر سبحانه أنه يسرها للمشي ، ذكرهم بأنه سهلها لإخراج الخيرات والبركات فقال : ( وكلوا ( ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله : ( من رزقه ) أي الذي أودعه لكم فيها وأمكنكم من إخراجه بضد ما تعرفون من أحوالكم فإن الدفن في الأرض مما يفسد المدفون ويحيله غلى جوهرها كما يكون لمن قبرتموه فيها ، ومع ذلك فأنتم تدفنون الحب وغيره مما ينفعكم فيخرجه لكم سبحانه على أحسن ما تريدون ويخرج لكم من الأقوات والفواكه والأدهان والملابس ما تعلمون ، وكذل النفوس هي صعبة كالجبال وإن قدتها للخير انقادت لك كما قيل ( هي النفس ما عودتها تتعود ) .
ولما كان التقدير للبعث على الشكر والتحذير من الكفر : وابعدوه جزاء على(8/76)
صفحة رقم 77
إحسانه إليكم وتربيته لكم .
فمنه مبدأ جميع ذلك ، عطف عليه ما يدعو إلى الحياء من السيد والخجل من توبيخه عند لقائه فقال : ( وإليه ) أي وحده ) النشور ( وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها ، يخرجها في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عيله عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق ، لا فرق بين هذا وذاك ، غير أنكم لا تتأملون فيسألكم عما كنتم تعملون ، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر ، فإن هذا أبعث شيء على الشكر ، وأشد شيء إبعاداً عن العصيان لا سيما الكفر ، لما قرر من حاجة الإنسان ، والإحسان إليه بأنواع الإحسان .
الملك : ( 16 - 19 ) أأمنتم من في. .. . .
) أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ( ( )
يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار على الخلاف ، قال مهدداً للمكذبين بعذاب دون عذاب جهنم ، منكراً عليهم الأمان بعد إقامة الدليل على أن بيده الملك ، وأنه قادر على ما يريد منه بأسباب جنوده وبغير سبب ، مقرراً بعد تقرير حاجة الإنسان وعجزه أنه لا حصن له ولا مانع له بوجه من عذاب الله ، فهو دائم الافتقار ملازم للصغار : ( أأمنتم ) أي أيها المكذبون ، وخاطبهم بما كانوا يعتقدون مع أنه إذا حمل على الرتبة وأول السماء بالعلو أو جعل كناية عن التصرف لأن العادة جرت غالباً أن من كان في شيء كان متصرفاً فيه صح من غير تأويل فقال : ( من في السماء ) أي على زعمكم الالية قاهرة لكم ، أو المعنى : من الملائكة الغلاظ الشداد الذي صرفهم في مصالح العباد ، أو المعنى : في غاية العلو رتبة ، أو أن ذلك إشارة إلى أن فغي السماء أعظم أمره لأنها ترفع إليها أعمال عباده وهي مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس والسلطان والكبرياء وجهة العرش ومعدن المطهرين والمقربين من الملائكة الذين أقامهم الله في تصريف أوامره ونواهيه ، والذي دعا إلى مثل هذا التأويل السائغ الماشي على لسان العرب قيام الدليل المقطعي على أنه سبحانه ليس بمتحيز في جهة لأنه محيط فلا يحاط به ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ؛ ثم أبدل من ( من ) بدل اشتمال فقال : ( أن ( .
ولما كانت قدرته على ما يريد بلا واسطة كقدرته بالواسطة ، وقدرته إذا كان الواسطة جمعاً كقدرته إذا كان واحداً ، لأن الفاعل على كل تقدير حقيقة هو لا غيره ، وحد بما يقتضيه لفظ ( من ) إشارة إلى هذا المعنى سواء أريد ب ( من ) هو سبحانه أو ملائكته أو واحد منهم فقال : ( يخسف ) أي أأمنتم خسفه ، ويجوز أن يراد ب ( من ) الله سبحانه وتعالى كما مضى خطاباً على زعمهم وظنهم أنه في السماء وإلزاماً لهم بأنه كما(8/77)
صفحة رقم 78
قدر على الإمطار والإنبات وغيرهما من التصرفات في الأرض فهو يقدر على غيره ) بكم الأرض ( كما خسف بقارون وغيره .
ولما كان الذي يخسف به من الأرض يصير كالساقط في الهواء وكان الساقط في الهواء يصير يضطرب ، سبب عن ذلك قوله : ( فإذا هي ) أي الأرض التي أنتم بها ) تمور ) أي تضرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه ، قال في القاموس : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك .
ولما كانوا ربما استبعدوا السخفة ، وكانوا يعهدون ما ينزل من السماء من الندى والأمطار والصواعق ، عادل بذلك قوله : ( أم أمنتم ) أي أيها المكذبون ، وكرر لهم ذكر ما يخشونه زيادة في الترهيب فقال : ( من في السماء ( على التقديرين ) أن يرسل عليكم ) أي من السماء ) حاصباً ) أي حجارة يحصبكم - أي يرميكم - بها مع ريح عاصف بقوتها كما وقع لقوم لوط وأصحاب الفيل .
ولما كان هذا الكلام إنذاراً عظيماً ووعظاً بليغاً شديداً ، وكان حالهم عنده متردداً بين إقبال وإدبار ، سبب عنه على تقدير إدبارهم بتماديهم بما للإنسان من النقصان قوله متوعداً بما يقطع القلوب ، ولفت القول إلى مقام التكلم إيذاناً بتشديد الغضب : ( فستعملون ) أي عن قريب بوعد لا خلف فيه في الدنيا ثم في الآخرة .
ولما كان العلم بكيفية الشيء أعظم من العلم بمطلق ذلك الشيء لأنه يلزم من العلم بها العلم بمطلق ذلك الشيء ، وكان ما هو بحيث يسأل عنه لا يكون إلا عظيماً قال : ( كيف نذير ) أي إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب وهو بحيث لا يستطاع ، ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع ، وحذف الياء منه ومن ( نكير ) إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطرق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد ، لا غاية له بوجه ولا تحديد .
ولما كان من المعلوم أن المأمور بإبلاغهم وإنذارهم هذا الإنذار ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الرحمة لهم والشفقة عليهم فهو بحيث يشق عليه غاية الشمقة ما أفهمه هذا الكلام من إهلاكهم أن يصدقوا ، ويحب التأني بهم ، لفت سبحانه الخطاب إليه عاطفاً على ما تقديره : فلقد طال إمهالنا لهم وحلمنا عنهم وتعريفنا لهم بعظيم قدرتنا وهم لا يرجعون وكثر وعظنا لهم وتصريفنا القول بينهم على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام وهم يتمادون ولا ينتهون ، قوله مصوراً لهم ما توعدهم به في أمر محسوس لأن الأمور المشاهدات أروع للإنسان لما له من التقيد بالوهم مؤكداً للإشارة إلى أن التكذيب مع إقامة البراهين أمر يجب إنكاره فلا يكاد يصدق : ( ولقد كذب ( وطغى وبغى وأعرض وتجبر وتمرد وولى بوجهه وقلبه ) الذين ( .(8/78)
صفحة رقم 79
ولما كان هذا التكذيب لم يعم الماضين بعض فقال : ( من قبلهم ( يعني كفار الأمم الماضية .
ولما كان سبحانه قد أملى لهم ثم أخذهم بعد طول الحلم أخذاً بقيت أخباره ، ولم تندرس إلى الآن على تمادي الزمان آثاره ، فكان بحيث يسأل عنه لعظم أحواله ، وشدة زلازله وفظاعة أهواله ، سبب عن ذلك قوله منبهاً على استحضار ذلك العذاب ولو بالسؤال عنه : ( فكيف كان نكير ) أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب في تمكن كونه وهول أمره ، فقد جمع غلى التسلية غاية التهديد .
ولما ذكر بمصارع الأولين ، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره ، ولم ينقادوا إلى شكره ، فكان التقدير تقريراً رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم ، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم ؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين ، عطف قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها : ( أو لم يروا ( وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل .
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال : ( إلى الطير ( وهو جمع طائر .
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال : ( فوقهم ( وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها ) صافات ) أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوداج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها .
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت ، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، والبقض طارئ على البسط فقال : ( ويقبضن ) أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء .
ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله : ( ما يمسكهن ) أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع .
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال : ( إلا الرحمن ) أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد -(8/79)
صفحة رقم 80
على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك ، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها ، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات .
ولما كان هذا أمراً رائعاً للعقل ، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بتنبيه ، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير ، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكداً لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم : ( إنه ) أي الرحمن سبحانه ) بكل شيء ( قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن ) بصير ( بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها ، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب ، فيهيئ من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك .
الملك : ( 20 - 23 ) أم من هذا. .. . .
) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما كان التقدير تقريباً لذلك : فمن يدبر مصالحكم ظاهراً وباطناً ، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم ، عطف عليه قوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التكبيث والتوبيخ ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب مقرراً لأنه مختص بالملك : ( أمن ( ونبه على أن المدبر للأشياء لا بد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ليكون بصيراً برعيها ، ويكون مع مزيد قربه عالي الرتبة بحيث يشار إليه ، فقال مقرراً لعجز العباد : ( هذا ( بإشارة الحاضر ) هو جند ) أي عسكر وعون ، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في التقريع فقال : ( لكم ينصركم ) أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما ، ويجوز أن يكون التقدير : ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا كما قال تعالى ) ) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ( ) [ الأنبياء : 43 ] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند تعريفاً بأنهم لغاية جهلهم اعتقدوا أن لهم من أجناد الأرض أو السماء من يصرهم وإلا لما كانوا آمنين .(8/80)
صفحة رقم 81
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً ، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء ، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب : ( من دون الرحمن ( إن أرسل عليكم عذابه ، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة ، وتلويحاً إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله ، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك : ( إن ) أي ما ، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ومواصفة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال : ( الكافرون ) أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه ) إلا في غرور ) أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد .
ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء ، أتبعه ما يتم به البقاء فقال : ( أمّن ( وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله : ( هذا ( وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية ، فقال : ( الذي ( وأسقط لتحمل الفعل له فقال : ( يرزقكم ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ، لا ينقطع معروفه أبداً مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء ) إن أمسك رزقه ( بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر ، ولو كان الرزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة .
ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص ، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند ، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل ، فكان موضع أن يقال : هل رجعوا عن تكذيبهم ، عطف عليه قوله لافتاً الكلام إلى الغيبة إعراضاً عنهم تنبيهاً على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم : ( بل لجوا ) أي تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة ، قال الرازي في اللوامع : اواللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه ) في عتو ) أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج غلى فاحش الفساد ) ونفور ) أي شراد عن حسن النظر والاستماع ، دعا إليه الطباع ، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار ، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب .
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة ، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والشمرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين : ( أفمن يمشي ) أي على وجه الاستمرار(8/81)
صفحة رقم 82
) مكباً ) أي داخلاً بنفسه في اكب وصارا إليه ، وهو السقوط ) على وجهه ( وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول ، على غيره عادة العقلاء لخلل في أعضائه ، واضطراب في عقله ورأيه ، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه ، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلموك ، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه ، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك .
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال : ( أهدى ) أي أشد هداية ) أمّن يمشي ( دائماً مستمراً ) سوياً ( قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجه سالماً من العثار لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله ) على صراط ) أي طريق موطأ واسع مسلوك سهل قويم ) مستقيم ) أي هو في غاية القوم ، هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ ، والأول مثل الكافر ، حاله في سيره إلى الله حال المكب أي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه ، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به ، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات ، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم ، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما ، والآية من الاحتباك : ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم .
ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل ، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه جيناً ، فهو أشرف من الطريق المحسوس ، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من الأول ، قال آمراً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل ، إسقاطاً لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة والفهم : ( قل ) أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفاسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه ، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه ، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سوياً : ( هو ) أي الله سبحانه وتعالى ) الذي ( شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي ) أنشأكم ( أي(8/82)
صفحة رقم 83
أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ويسر لكم بعد خروجكم الخروج اللين حيث كانت المعدة ضعيفة عن اكثف منه .
ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل ، أتبعه به ، وبدأ بطريق تنبيهه فقال : ( وجعل لكم ) أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه ) السمع ) أي الكامل لتسمعوا ما تعقله فلوبكم فيهديكم ، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المافوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها ) والأبصار ( لتنظروا صنائعة فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم ) والأفئدة ) أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم ، وجمعاً لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار ، وهذا تنبيه على إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر ، قال الشيخ وله الدين الملوي : انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد ، وأن الضدين لا يجتمعان - وغير ذلك مما لا يخفى .
ولما كان التقدير : فمشيتم مشي المكب على وجهه فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له ، كانت ترجمة ذلك : ( قليلاً ( وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال : ( ما ( ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله : ( تشكرون ) أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره باستعماله فيما خلق لأجله تدعون أنكم أشكر النسا للإحسان وأعلاهم في العرفان .
الملك : ( 24 - 27 ) قل هو الذي. .. . .
) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ( ( )
ولما دل سبحانه على بعدهم عن الهداية وعن الشكر اللذين يفخرون على الناس كافة بكل منهما ، واستعطفهم بما أودع فيهم من اللطائف الربانية الروحانية المقتضية بنورانيتها للعروج إلى مواطن القدس ومعادن الأنس ، دل على قدرته على حشرهم تحذيراً لهم من التمادي في الإعراض بمعنى يجده كل منهم في نفسه على وجه دال على كمال قدرته بما أودع فيهم مع تلك اللطائف مع كثائف طباع الأرض الموجبة للسفول ليكون - إذا أعلته تلك اللطائف بالتوبة - مجتهداً في تنقية آثار تلك الكثائف المسفلة كما يكون للزرع إذا حصد من بقايا تلك الجذر التي إن لم تقلع من أصلها عادت بالنبات إلى(8/83)
صفحة رقم 84
ما كان عليه الزرع أولاً ، فقال مستأنفاً بياناً لأنه دليل برأسه كاف فيما سبق له : ( قل هو ) أي وحده ) الذي ذرأكم ) أي خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعد ما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء ، ثم قواكم ثم جعلكم شيباً ضعفاء وأسكنكم الغضب والذعر واللجاج الحامل لكم على الولوع بما يلجئ إيله الطباع المثيرة ) في الأرض ( التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات الذي تقدم أن إبداءه منها ثم رده إليها وإفنائه فيها ثم إعادته كما كان بعد أن صار رفاتاً وشيئاً فانياً مماتاً دليل على القدرة على البعث ، لا فرق في ذلك بينه وبينكم أصلاً ، فكان منه البدأ ) وإليه ( وحده ) تحشرون ( شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث على أيسر وجه بمن أراد من عباده كرهاً منكم كما كان أمركم في الدنيا ، فإنه لم يكن إلى الإنسان منكم أحب من العدة والسكون ، فكأنه سبحانه يضطره بما أودعه من الطبائع المتضادة وأثار له من الأسباب في طلب رزقه وغير ذلك من أمره إلى السعي إلى حيث يكره ، فكما أنه قدر على ذلك منكم في الابتداء فهو يقدر على مثله في الانتهاء ، ليحكم بينكم ويجازي كلاًّ على عمله كما يفعل كل ملك برعيته ، وكل إنسان منكم بجماعته .
ولما كان التقدير : فلقد سبحانه في وعظهم بنفسه وعلى لسانك يا أشرف الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك بما هدى إيله السياق قطعاً ، ذكر حالهم عند ذلك فقال إعلاماً بكثافة طباعهم حيث لم تلطف أسرارهم لقبول محبة الله تعالى وإثارة الأحوال الحسنة من الصبر المثبت واليقين وحسن الانطباع لقبول النصائح والخوف وعدم الاعتزاز بأحد غير الله تعالى من وجه نفع أو ضر ، وكذلك لفت القول إلى الإعراض إيذاناً بشديد الغضب منهم : ( ويقولون ) أي يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً ، ويجوز أن يكون حالاً من الواو في ( بل لجوا ) : ( متى هذا ( وزادوا في الاستهزاء بقولهم ) إن كنتم ( جبلة وطبعاً ) صادقين ( في أنه لا بد لنا منه ، وأنكم مقربون عند الله ، فلو كان لهم ثبات الصبر واليقين لما طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح الذي ظاهره طلب الإخبار بوقت الأمر المتوعد به ، وباطنه الاستعجال به استهزاء وتكذيباً .
ولما كان قولهم هذا مع أنه استعجال بأمر الساعة استهانة بها حتى أنه عندهم كأنها من قبل الوعد الحسن وهو متضمن لإيهام أنها مما يطلع الخلق على تعيين وقته ، فنى ذلك بياناً لعظمتها بعظمة من أمرها بيده فقال آمراً له بجوابهم مؤذناً ذلك الإعراض لأنهم لا ينكرون علمه تعالى ذلك الإنكار : ( قل ( يا أكرم الخلق منبهاً لهم على تحصيل اليقين بأن ما علموه وحكموا بعلمهم فيه وما لا ردوا علمه إلى الله : ( إنما(8/84)
صفحة رقم 85
العلم ) أي المحيط من جميع الوجوه بما سألتم عنه من تعيين زمان هذا الوعد وغيره ، ولأجل إظهار فضل العلم اللازم من كماله تمام القدرة صرف القول عن عموم الرحمة إلى إفهام العموم المطلق بالاسم الأعظم فقيل : ( عند الله ) أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه ، لا يطلع عليه غيره ، وهيبته تمنع العالم بما له من العظمة أن يجترئ على سواله عما لم يأذن فيه ، وعظمته تقتضي الاستئثار بالأمرو العظام ، وإلى ذلك يلوح قوله تعالى : ( وإنما أنا ( ولما كان السياق للتهويل والتخويف ، وكانت النذارة يكفي فيها تجويز وقوع المنذور به فكيف إذا كان مظنوناً فكيف إذ كان معلوم الوقوع في الجملة ليكون العاقل متوقعاً له في كل وقت قال : ( نذير ) أي كامل في أمر النذارة التي يلزم منها ا لبشارة لمن أطاع النذر لا وظيفة لي عند هذا الملك الأعظم غير ذلك ، فلا وصول لي إلى سؤاله عما لا يأذن لي في السؤال فيه .
ولما كان النذير قد لا يقدر على إقامة الدليل على ما ينذر به لأنه يكفي العاقل في قبوله غلبة الظن بصدقه بل إمكان صدقه في التحرز عما ينذر به ، بين أنه ليس كذلك فقال : ( مبين ) أي كاشف للنذري غاية الكشف بإقامة الأدلة عليها حتى تصير كأنها مشاهدة لمن له قبول اللعلم .
ولما كان ما ينذر به لا بد من وقوعه ، وكان كل آت قريباً ، عبر عن ذلك بالفاء والماضي فقال صارفاً العقول إلى الإعراض لأن الرؤية للعذاب في غاية المناسبة للإهانة : ( فلما رأوه ) أي الوعد بانكشاف الموعود به عند كونه ، وحقق معنى الماضي والفاء بقوله : ( زلفة ) أي ذا قرب عظيم منهم ، وذلك بالتعبير عن اسم الفاعل بالمصدر إبلاغاً في المعنى المراد وأكد المبالغة بالتاء لأنها ترد للمباغلة إذا لم يرد منها التأنيث ، ولا سيما إن دلت قرية أخرى على ذلك .
ولما كان المخوف في النذري الوقوع في السوء لا بقيد كونه من معين قال : ( سيئت ( ولما كان السوء يظهر في الوجه قال : ( وجوه ( وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( الذين كفروا ) أي ظهر السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف ولو على أجنى الإيقاع وعلتها الكآبة .
ولما كان لا أوجع من التبكيت عند إحاطة المكروه من غير حاجة إلى تعيين فاعله ، بنى للمفعول قوله : ( وقيل ) أي لهم تقريعاً وتوبيخاً : ( هذا الذي ) أي تقدم من عنادكم ومكركم واستكباركم ) كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) به ) أي بسببه ومن أجله ، وصرف القول إلى الخطاب لأن التقريع به أنكأ في العذاب : ( تدعون ) أي تطلبون(8/85)
صفحة رقم 86
وتوقعون الطلب له طلباً شديداً تبلغون فيه غاية الجهد على وجه الاستعجال أن يستنزل بكم مكروهه فعل من لا يبالي به بوجه ، وتكررون ذلك الطلب وتعودون إليه في كل وقت معرضين عن السعي في الخلاص فيه من عدوان العذاب ونيل الوعد الحسن بجزيل الثواب لبيان قوة طلبهم له وتداعيهم إليه استهزاء به حتى كأنهم لا مطلوب لهم غيره ، قدم الجار المفيد غالباً للاختصاص فهو افتعال من دعا الشيء وبالشيء إذا طلبه ، ودعاه الله بمكروه : أنزله به .
الملك : ( 28 - 30 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ( ( )
ولما كان من المعلوم أن من نهى آخر عن هواه وبالغ في ذلك أبغضه ذلك الناهي وتمنى هلاكه ، فكيف إذا والى عليه الإنذار والتخويف بما لا يصل إلى دركه عقله ولا يرى له مقدمة بحققها ، وكان الكفار يسعون في هلاك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تبعه كل سعي ، وكان هلاك النذير إنما ينفع المنذر على تقدير نجاته من هول ما كان يحذره منه النذير ، أمره سبحانه أن يذكرهم بهذا لنينظروا في ذلك المتوعد به ، فإن كان ممكناً سعوا في الخلاص مما قد يكون منه من العذاب ، وسلكوا في الهرب منه مسلكاً سهلاً بعيداً من سوء الانقلاب ، ودخلوا إلى فسيح المانع منه من أوسع باب ، أو كفوا عن السعي في هلاك النذير وطووا ما مدوا له من الأسباب ، ليدلهم إذا كان صادقاً على شيء يحميهم أو يخفف عنهم ذلك المصاب ، فقال منبهاً على شدة الحذر من مكر الله وعد الاغترار به للمؤمن الطائع لعلمه ، أنه لا يقدر أن يقدر الله حق قدره فكيف بالمعاصي فضلاً عن الكافر مكرراً للأمر بالقول تنبيهاً على أن كل جملة صدرت به كافية في الدلالة على مقصود السورة وعائدة إليه لما اشتملت عليه نم باهر القدرة ووافر العظمة : ( قل ) أي يا أفضل الخلق كلهم وأشرفهم وأعظمهم وأتقاهم لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك حسداً منهم وعمى في قلوبهم وبعداً وطرداً ، قد استحكم واستدار بهم ذلك تقدير العزيز العليم ) أرءيتم ) أي أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية .
ولما كاننا غير عالمين الأمر في هلاكه ومن معه بما يقصدونهم به ، حذرهم عاقبة ذلك بالتعبير بأداة الشك ، وإسناد الإهلاك إلى الله معبراً عن الاسم الدال على تناهي العظمة إلى حد لا يدع لغيره منها شيئاً إعلاماً بأنه على القطع بأنه لا شيء في أيديهم فهو لا يخافهم بوجه فقال : ( إن أهلكني ) أي أماتني بعذاب أو غيره ) الله ( أي(8/86)
صفحة رقم 87
الذي له من صفات الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم به عدوه ) ومن معي ) أي من المؤمنين والمناصرين بالأعمال الصالحة التي رتب سبحانه عليها الفوز والنجاة حتى لا يبقى أحد ممن يكدر عليكم بالمنع من الهوى القائد إلى القوى والحث على العقل الضامن للنجاة ) أو رحمنا ( بالنصرة وإظهار الإسلام كما نرجوا فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور وأنالنا كل سرور ، فالآية من الاحتباك : ذكر الإهلاك أولاً دليلاً على النجاة ثانياً ، والرحمة ثانياً دليلاً على الغضب أولاً ) فمن ( وكان ظاهر الحال يقتضي : يجيركم مع طلبكم المسببات من الفوز والنجاة بغير أسباب بل منافية للنجاة جالبة للعذاب ، فوضع الظاهر موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف واستعطافاً لهم إلى إيقاع الإيمان والرجوع عن الكفران فقال : ( يجير الكافرين ) أي العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره ) من عذاب أليم ( يصيبهم به الذي هم عالمون بأنه لا شيء إلا بيده ، وإلا لنجى أحد من الموت الذي خلقه وقدره بين عباده جزاء على ما كانوا يؤلمون من يدعوهم إليه وينصحهم فيه ، فإذا كان لا ينجيهم من عذابه شيء سواء متنا أو بقينا فالذي ينبغي لهم إن كانوا عقلاء السعي فيما ينجى من عذابه ، لا السعي في إهلاك من هو ساع في خلاصهم من العذاب ، ولا يقدرون على إهلاكه أصلاً إلا بتقدير الذي أمره بإنذارهم .
ولما كان لا يقدر على التعميم بالنعمة إلا من كان عام القدرة والنعمة والرحمة ، وكان التذكير بالنعم أشد استعطافاً ، صرف القول إلى التعبير بما هو صريح في ذلك ، فقال مذكراً بذلك لعلمهم بأنه لا نعمة عليهم إلا منه واعترافهم بذلك ليحذروه ويتذكروا عموم قدرته فيعلموا قدرته على البعث فينفصل النزاع : ( قل ( يا خير الخلق : ( هو ) أي الله وحده ) الرحمن ) أي الشامل الرحمة لكل ما تناولته الربوبية ، فلا يليق بعقل عاقل أن يدع أحداً من خلقه في ظلم ظالمه فلا يأخذ له بحقه ، لأن ذلك لا يرضاه أقل الناس لنفسه مع عجزه فكيف بمن هو كامل القدرة وإلا لما قدر على عموم الرحمة ) آمنا به ) أي أنا ومن آمن بي لهذا البرهان القاطع بأنه لا يكافئه شيء فهو كاف في الإيمان به ) وعليه ) أي وحده ) توكلنا ( لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذاب من يريد رحمته ، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أرجاه لأنه الفاعل بالذات ، المستجمع لما يليق به من الصفات ، فنحن نرجوا خيره ولا نخاف غيره ، وقد أقررنا له بهذه العبارة على وجه الحصر بالألوهية والربوبية فلا نحتج في السلوك إليه إلى معوق عن ذكره والتفكر في آلائه ولو كان المعوق نفسياً في(8/87)
صفحة رقم 88
ظاهر الحياة الدنيا ولو كان مخوفاً فإنه لا خوف معه سبحانه ، فالتوكل عليه منجاة من كل هلكة مجلبة لكل ملكة ، ولم يفعل كما تفعلون أنتم في توكلكم على رجالكم وجاهكم وأموالكم .
ولما أبان هذا طريق الصواب ، وجلى كل ارتياب ، وكان لا بد من الرجوع إليه والإنقلاب ، لإتمام ، الرحمة بالثواب والعقاب ، سبب عنه قوله : ( فستعلمون ) أي عند التجلي عليكم بصفة القهر عما قليل بوعد لا خلف فيه ) من هو ) أي منا ومنكم متداع بذاته ظاهراً وباطناً ) في ضلال ) أي أخذ في غير مسلك موصل إلى مقصد محيط به الضلال بحيث إنه لا قدرة له على الانفكاك منه إلا إن أطاع من يجره بيده فيخرجه منه ، ولما كان الشيء إذا كان فيه نوع لبس كان ربما اقتضى قبول العذر قال : ( مبين ) أي بين في نفسه موضع لكل أحد أنه لا خفاء به .
ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته ، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء ، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو سبب للحياة وعدمه سبب للموت ، فقال قارعاً بالتنبيه مشيراً بتكرير الأمر إلى مزيد التوبيخ والزجر والتبكيت دالاً على تعيين ما أبهم من أهل الضلال ، ومصرحاً بما لوح إليه من ذلك الإجمال .
) قل ) أي يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا : ( أرءيتم ) أي أخبروني إخباراً لا لبس فيه ولا خفاء ، ولما كان شديد العناية بهذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، سكن قلبه في وعيدهم بالإشارة إلى الرفق بهم لأجله ، فابتدأ الوعيد بحرف الشك فقال : ( إن ( ولما كانت النعمة أشد ما يكون إذا كانت في الصباح الذي هو موضع ارتقاب الفلاح قال : ( أصبح مآؤكم ) أي الذي تعدونه في أيديكم - بما نبهت عليه الإضافة .
ولما كان المقصود المبالغة ، جعله نفس المصدر فقال : ( غوراً ) أي نازلاً في الأرض بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع حيلة - بما دل على ذلك الوصف بالمصدر ) فمن يأتيكم ( على ضعفكم حينئذ وافتقاركم وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم ) بماء معين ) أي جار دائماً لا ينقطع أو ظاهراً للأعين سهل المأخذ إلا الله رب العالمين فإنه هو القادر على ذلك ، فقد رجع ذلك الآخر كما ترى على ذلك الأول ، وعانقه على أحسن وجه وأكمل - والله أعلم .
.. .(8/88)
صفحة رقم 89
سورة القلم
مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية ) فستعلمون من هو في ضلال مبين ( بتعيين النهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا " القم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك ، وحاصله أن النون مبين محيط يفيبيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته ، واستقر الكلام الواقع فيها وفي المعهاني التي اشتركت في لفظه ، وأمات القلم فإبانته للمعارف أمر لا ينكر ) بسم الله ( الذي له الإحاطة الكاملة فهو على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم ) الرحمن ( الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البرئ منهم والسقيم ) الرحيم ( الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه الصراط المستقيم .
القلم : ( 1 - 5 ) ن والقلم وما. .. . .
) ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( ( )
لما أبهم الضال والمهتدي في آخر ( الملك ) والمسيء والمحسن في العمل أولها ، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه ، ودل كل واحد منها على شيء منه ، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر ، وعينه على آية هادية ، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام ، ونوه على مظهر مبين محيط بما أظهره ، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته ، فكان قادراً على كل ما يريد ، وكان لا يقدر على كل ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت الأرواح ، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما(8/89)
صفحة رقم 90
أفاده على النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها ، فأحيا مدراراها ، وأغرق تيارها ، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك ، ومن لوازم بعض مادل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة ، ونبه على نصبه له سبحانه دليلاً على العلم بمادل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال : ( ن ( هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم ، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف ، ولا يعلم ما هي إلا وضعها سبحانه .
ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف ، سكن للدلالة بادئ بدء على أنه حرف ، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها ، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء ، وقيل : النون اللوح ، والنونة الكلمة من الصواب ، والسمكة ، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل فرج ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخر حروف الرحمن والدواة لما يتأثر عنها من العلوم ، والحوت الذي على ظهره الكون واسمه اليهموت لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار ، ويكون الإقسام وقع بالنون والقلم علواً للإحاطة ، والسيف لما يتأثر عنه من جليل الآثار ، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة ، وهو سر باطن لا يظهر ، وإنما تظهر نتائجه ، فهو الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو الإسعاد .
ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها وهو رأس المقول ، فغنه يخرج مما بين طرف اللسان وفويق الثنايا من اللثة ، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً ، وتسمى هذه الحروف الثلاثة الزلقية مع بقية حروف ( فر من لب ) لأن طرف كل شيء زلقة ، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة ، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو الزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها ، وأما المصمتة فمنعت أن تنفرد بنفسها في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف ، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية ، والألف خارجة علن الصنفين لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها ، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ووصفها(8/90)
صفحة رقم 91
بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال ، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن ، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة ، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته استع ، ومهما تركته اضمحل وانجمع ، وهو من حروف الأبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها فلازب ولازم الميم بدل من الباء بخلاف العكس كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره ، وهو من الحروف الصحيحة وليست معتلة ، والعلم جدير بهذا الوصف وهو إذا كان مخفي من الحروف المشربة ويقال لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها ، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية ، سميت بذلك لتمكنها يف خروجها من الفم واستحكامها فيه ، يقال للمحكم المصتم والعلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف ، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها ، وأما رتبة القلم في بيان العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراراه وبثه وإشهاره فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل ، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات هو ما آيته العلم المكمل به الحياة التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات ، فملا كانت هذه الحركات ية على ما هو الحياة كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم ، وهو سبب لما به القيام من الظهور ، ومن معناه اسمه تعالى النور ، ثم هو اسم لكل ما يظهر ما خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به ، وظاهراً كالنيرين للعيون ، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة ، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما به تشاهد الأشياء ويظهر به صورها ، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء حي ( ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء ، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد ، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر .(8/91)
صفحة رقم 92
ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة ، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء
77 ( ) إنما قلنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( ) 7
[ النحل : 40 ] ولصدقه على كل مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ففسر بما يستمد منه القلم ، وليلحظ موقعه في نجد فإنه اسم لما ارتفع من الأرض وظهر في نفسه وأظهر غيره ، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها ، وفي النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم ) وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها فإنها كلها ظهور وإظهار كالنم والمن والنمؤ ولأجل علوه واستطبانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته يتعالى الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به ، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء في قولك ميم ، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك ( واو ) وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به وباطنهما المختوم به ، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار ، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب ، ولما كان الهاء وتر الدال ، وكان محيطاً باطناً غيباً وجب أن يكون مخحل تضعيفه بالياء محل محيط باطن نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون ، فكان ظاهراً بالإضافة إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة إلى ظهور الميم ، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن ( الملك ) الذي سبق في السورة الماضية كما كان شهادة الدال وثبوته بالهاء .
ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء ، وكان النون مداداً ملثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر ، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا ، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف على ما يظهر من أجالتي العلماء في النون الأبطن والملوك في القاف الأظهر ، وهذان الصفنان من الخلق هما المستوليان على الناس بالآيالة ونفوذ(8/92)
صفحة رقم 93
الأمر ، ولذلك أقيم المفصل من القرى بحرفي قاف ونون ، واقترن أيضاً هذان الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه ، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح وجهد العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا ، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة ، كان الذي يذبح لهم الثور الذي هو صور كدهم فيأكلونه فهو جزاء ما عملو به في دنياهم من حيث كانوا يذوي دين ، فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته ، وأضيف لذلك زيادة كبد النون التي هي صورة حظهم نم أصل العلم فأطعموها وجوزوا بها ، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم ، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة ، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به القوة والقهر والقدرة ، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم ، وذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني ، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز ، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف العلية الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة ، ويختص بأمر باطنها آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى الحق تعالى الخطاب وانتظمه في سورة كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذ الخاصة ، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السورة المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة ، ثم إذا ضربت في نفسها صارت مائة ، فافتتح به المفصل ، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح بآلم ، ولذلك كان ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقرأ في خطبة الجمعة سورة ( ق ) فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة ( ن ) المظهرة ظاهر ( ق ) فخصوا بما فيه القهر الإبانة ، واختصت سورة ( ن ) من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل(8/93)
صفحة رقم 94
للعالمين ، لأن القوة المعربة عن العلم ربما كان ضررها أكثر من نفعها ، كما قال بعض السلف : كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول ، وكما كان جميع السورة التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار آحادها والعاشر الجامع يضرب العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرى ، كذلك كان سورة ( ق ) وسورة ( ن ) قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل ( ق ) وما أحاط بباطنها من صورة حيوان ( ن ) الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتها ، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا للخاتم الجامع ، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم فلا يخطئ فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه ، ومهما فسرت به من أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء أو صور الموجودات أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها السور أو أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه المنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من مقدار بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة ، فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في غحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم ما يتم معنى كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام .
ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم ، وكان ( نون ) مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم ، واللوح الذي هو محل ما يثبت من العلم ، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة ( ق ) كما هو أنسب لتضمنه القوة والقدرة والقهر في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما ، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف ( ن ) : ( والقلم ) أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله ، ثم قال له : اكتب ، فخط جميع الكائنات إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة ، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً ، (8/94)
صفحة رقم 95
فأظهر جميع العلوم ، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، والذي يكتب فيه الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم ، وذلك هو قوام أمور الدنيا ، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج ( ن ) لأنه من مصنوعات الله الظاهرة التي اقتضت حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم .
ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر ، فصار كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق ، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى العقلاء فقال : ( وما يسطرون ) أي قلم القدرة ، وجمعه وأجره مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون الإسناد غلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مام يتكبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن لافهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصنعون به ما شاؤوا ، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر لأنه إنما يسطر ما قضى به وحكم .
ولما كان المخاطب بهذا ( صلى الله عليه وسلم ) قد عاشر المرسل إليهم دهراً طويلاً وزمناً مديداً أربعين سنة وهو أعلاهم قدراً وأطهرهم خلائق وأمتنهم عقلاً وأحكمهم رأياً وأرأفهم وأرفعهم عن شوائب الأدناس همة وأزكاهم نفساً بحيث إنه لا يدعى بينهم إلا بالأمين ولم يتجدد له شيء يستحق به أن يصفوه بسببه بالجنون الذي ينشأ عنه الضلال عن المقاصد المذكور آخر الملك في قوله
77 ( ) فستعلمون من هو في ضلال مبين ( ) 7
[ الملك : 29 ] إلا النعمة التي ما نال أحد قط مثلها في دهر من الدهور ولا عصر من الأعصار ، قال مجيباً هذا القسم العظيم راداً عليهم بأجلى ما يكون وأدله على المراد تأنيساً له ( صلى الله عليه وسلم ) مما أوجب افتراؤهم عليه له من الوحشة وشرحاً لصدره وتهدئة لسره : ( ما أنت ) أي يا أعلى المتأهلين لخطابنا ) بنعمة ) أي بسبب إنعام ) ربك ( المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو جامع لكل علم وحكمة ، وأكد النفي زيادة في شرفه صل الله عليه وسلم فقال : ( بمجنون ) أي بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ومعناه فضلاً عن الضلال الذي ردد في آخر تلك بينك وبينهم فيه سلوكاً لسبيل الإنصاف لينظروا في تلك بالأدلة فيعلموا ضلالهم وهدايتك بالدليل القطعي بالنظر في الآثار المظهرة لذلك غاية الإظهار ، فنفى عنه ( صلى الله عليه وسلم ) الشقاوة التي سببها فساد العقل فثبتت السعادة التي سببها صلاح العقل ونعمة الرب له .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة الملك من عظيم البراهين ما(8/95)
صفحة رقم 96
يعجز العقول عن استيفاء الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السماوات في قوله تعالى
77 ( ) الذي خلق سبع سماوات طباقاً ( ) 7
[ الملك 3 ] أي يطابق بعضها بعضاً من طابق النعل - إذا خصفها طبقاً على طبق ، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها - والله أعلم ، ووقع الوصف بالمصدر يشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها - والله أعلم ، ووقع الوصف بالمصدر يشعر باستحكام مطابقة بعضها لبعض إنباء منه سبحانه وتعالى أنها من عظم أجرامها وتباعد أقطارها يطابق بعضها بعضاً من غير زيادة ولا نقص
77 ( ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( ) 7
[ الملك : 3 ] أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض ، إنما هي مستوية مستقيمة ، وجيء بالظاهر في قوله تعالى
77 ( ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( ) 7
[ الملك : 3 ] ولم يقل : ما ترى فيه من تفاوت - ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا ، كل شكل يناسب شكله ، لا تفاوت في شيء من ذلك ولا اضطراب ، فأعطى الظاهر من التعميم ما لم يكن يعطيه الإضمار كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذ الأدلة المبسوطة من الرحمة للخلائق لمن رزق الاعتبار ، ثم نبه تعالى على ما يرفع الريب ويزيح الإشكال في ذلك فقال :
77 ( ) فارجع البصر ( ) 7
[ الملك : 3 ] أي عادوا الاعتبار وتأمل ما تشاهده من هذه المخلوقات حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ولا يبقى معك في ذلك شبهة
77 ( ) هل ترى من فطور ( ) 7
[ الملك : 3 ] أي من صدوع وشقوق ، ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحاً ومتمتعاً هل تجد عيباً أو خللاً
77 ( ) ينقلب إلأيك البصر خاسئاً ( ) 7
[ الملك : 4 ] أي إنك إذا فعلت هذا رجع بصرك بعيداً عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار وبالإعياء واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي يمكن فيها الغفلة والذهول إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة إذ معنى التثنية في قوله ( كرتين ) التكرير كقولهم : لبيك وسعيك فيحسر البصر من طول التكرار ولا يعصر على شيء من فطور ، فلو لم تنطو السورة استبصر ، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه ، فشاهدته بنبوة الآتي به قائمة واضحة ، ثم قد تكررت في السورة دلالات كقوله
77 ( ) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ( ) 7
[ الملك : 5 ] وقوله
77 ( ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( ) 7
[ الملك : 14 ] الآيات إلى آخر السورة ، وأدناها كاف في الاعتبار فأنى يصدر بعض عن متصف ببعض ما هزئوا به في قولهم : مجنون وساحر وشاعر وكذاب ،
77 ( ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( ) 7
[ المطففين : 14 ] فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين اتبعت بتنزيه الآتي بها(8/96)
صفحة رقم 97
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عما تقوله المبطلون مقسماً على ذلك زيادة في التعظيم ، تأكياً في التعزير والتكرير فقال تعالى
77 ( ) ن والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ) 7
[ القلم : 1 ، 2 ] وأنى يصح من مجنون تصور بعض تلك البراهين قد انقطعت دونها أنظار العقلاء فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز ، ونظم معجز ، وتلاؤم يبهر العقول ، وعبارة تفوق كل مقول ، تعرف ولا تدرك ، وتستوضح سبلها فلا تسلك
77 ( ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( ) 7
[ الإسراء : 88 ] فقوله سبحانه وتعالى
77 ( ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ) 7
[ القلم : 2 ] جواباً لقوله تعالى في آخر السورة إنه لمجنون ، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ليكون أبلغ في إجلاله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخف وقعاً عليه وأبسط لحاله في تلقي ذلك منهم ، ولهذا قدم مدحه ( صلى الله عليه وسلم ) بما خص من الخلق العظيم ، فكان هذا أوقع في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزيه عنها أتم في الغرض وأكمل ، ولا موضع أليق بذكر تنزيهه عليه الصلاة والسلام ، ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته سورة الملك بما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل متصف بصحة نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وجليل صدقه
77 ( ) ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ( ) 7
[ النساء : 82 ] فقد تبين موقع هذه السورة هنا ، وتلاؤم ما بعده من آيها يذكر في التفسير - انتهى .
ولما نفى سبحانه عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قالوه مما تواقحوا به ، فثبت له ( صلى الله عليه وسلم ) كمال العقل ، وكان المجنون من لا يكون له عمل ينتظم ولا قول يرتبط ، فلا يستعمله أحد في شيء ليكون له عليه أجر ، أثبت له الأجر المستلزم للعقل فيتحقق إثباته من أحكم الحكماء على وجه أبلغ مما لو صرح به ، فقال على وجه التأكيد لإنكارهم له بما ادعوا فيه من البهت : ( وإن لك ) أي على ما تحملت من اثقال النبوة وعلى صبرك عليهم بما يرمونك به وهو تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأجراً ( ولما أثبت له منا يلازم العقل ويصلح لأن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة دالاً بتنوينه وما أفهمه السياق من مدحه ( صلى الله عليه وسلم ) على عظمته ، وكان الأجر لا يستلزم الدوام ، وقد يكون منغصاً بنوع منة قال : ( غير ممنون ) أي مقطوع ولا منقوص في دنياك ولا في آخرتك ولا لأحد من الناس عليك به صنيع يمتن به بأن يذكره على سبيل اللوم والتقريع ، فهذا بيان السعادة ، والأجر لا يكون إلا على العمل الصالح ، والعمل رشح الأخلاق ، فصالحه نتيجة الأخلاق الحسنة والعقل الراجح .
ولما ثبت بهذا العقل مع ما أفاده من الفضل ، وكان الذي يؤجر قد يكون في أدنى رتب العقل ، بين أنه ( صلى الله عليه وسلم ) في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى : ( وإنك ( وزاد في التأكيد(8/97)
صفحة رقم 98
لزيادتهم في المكابرة فقال : ( لعلى خلق ( ولما أفهم السياق التعظيم ، صرح به فقال : ( عظيم ( وهو الإسلام الذي دعا إليه القرآن لا بالبلاء ينحرف ، ولا بالعطاء ينصرف ، لأن خلقه - بشهادة أعرف الناس به زوجه أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهما - القرآن ، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره ونهيه ، فهذا الخلق نتيجة الهدى والهدى نتيجة العقل ، وهو سبب السعادة ، فأفهم ذلك عدم سعادتهم لعدم عقولهم ، وقال الواسطي : أظهر الله قدرته في عيسى عليه السلام ونفاذه في آصف ، وسخطه وقهره في عصى موسى عليه الصلاة والسلام وأطهر أخلاقه ونعوته في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان متخلقاً بأخلاق الله تعالى والتخلق بأخلاقه أن ينزه علمه عن الجهل وجوده عن البخل وعدله عن الظلم وحلمه عن السفه ، واعلم أن الخلق والخلق صورتان : الخلق صور الظاهر ، والخلق صورة الباطن يعبر به عن الخلق الحسن ، ثم الخلق السحن تارة مع الله ، وتارة مع حكم الله ، وتارة مع الخلق ، فمع الله بالتعظيم والإجلال ومع حكمه بالصبر في الضراء والبأساء والشكر في الرخاء والامتثال للأوامر والانزجار عن النواهي عن طيب قلب مسارعة وسماحة ، وحسن الخلق مع الخلق بث النصفة في المعاملة وحسن المجاملة في العشرة ، روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( الخلق وعاء الدين ، لأن من الخلق يخرج الدين ، وهو الخضوع والخشوع وبذل النفس لله واحتمال المكروه ) .
ولما كان الإسلام أشرف الأديان ، أعطاه الله تعالى أقوى الأخلاق وأشرفها وهو الحياء كما روي أن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء ، ومن الحياء حياة القلب ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين ولا يجزي بالسيئة السيئة لكن يعفو ويصفح ويحسن مع ذلك ويجذب بردته حتى يؤثر في عنقه فيلتفت وهو يضحك ويقضي حاجة الجاذب ويحسن إليه ، فقد اشتمل الكلام التدبيري المشار إليه بالنون والقضاء الكلي التأثيري المشار إليه بالقلم والقدر المبرم التفصيلي الواقع على وقف القضاء المشار إليه بالسطر ، ومثال ذلك أن من أراد بناء دولاب احتاج أولاً إلى مهندس يدبر له بعلمه موضع البئر والمدار وموضع المحلة وموضع السهم وموضع الجداول ، ونحو ذلك وهو الحكم التدبيري ، ثانياً إلى صانع يحفر البئر ويبني ونجار يركب الأخشاب على وفق حكمة المهندس ، وهو القضاء التأثيري ، وثالثاً إلى إقامة الثور في(8/98)
صفحة رقم 99
موضعه ودوران المحلة بما عليها من القواديس وجري الماء في الجداول على وفق القضاء وهو القدر ، ويحتاج رابعاً وخامساً إلى بيان انقسام المقدر له إلى شقي وسعيد ، فالحكم باطن وهو سر من أسراره سبحانه وتعالى - سبحان من لا يعلم قدره غيره .
ولما أقسم سبحانه على نفي ما بهتوه به ودل على ما وهبه من كمال العقل وتمام الشرف والنبل تصريحاً فثبت غاية الثبات بأخراب العالم الحكيم ، دل عليه بالمشاهدة على وجه من أعلى الخل قوأشرفهم وأكملهم عن قريب بوعد لا خلف فيه علماً أنت في تحققه كالمبصر بالحسن الباصر ) ويبصرون ) أي يعلم الذين رموك بالبهتان علماً هو كذلك .
القلم : ( 6 - 12 ) بأيكم المفتون
) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ( )
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) هو ومن معه فريقاً والأعداء فريقاً ، وقد أبهم آخر الملك الضال في الفريقين قال : ( بأبيكم ) أي في أي فريقيكم ) المفتنون ) أي بالضلال والجنون حتى صد عن الهدى ودين الحق ، أو بأيكم الفتنة بالجنون وغيره على أن يكون مصدر فتن ، قال الرازي : مصدر مثل المفتون وهو الجنون بلغة قريش كما يقال : ما له معقول وليس له مجلود ، أي عقل وجلادة .
ولما كان هذا إخبار بجنونهم لضلالهم على هذا الوجه المتصف ، وكان مثل هذا يقد يقع في محاورات الناس بضرب من الظن ، استأنف تعالى ما هو كالتعليل لما أفاده السياق من هذا الحكم عليهم إعلاماً بأنه ناشئ عن علم قطعي لا مرية فيه بوجه ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يكون الأمر على ما أفاده ما تقدم : إن ربك أي الذي رباك أحسن تربية وجبلك على أعظم الخلائق ) هو ) أي وحده ) أعلم ) أي من كل أحد لا سيما من يتحرض ) بمن ضل ) أي حار وجار وذهب وزل وضاع وغاب غيبة عظيمة لا يهتدي منها ، وسلك غير سبيل القصد ، واخطأ موضع الرشد ، معرضاً ) عن سبيله ( فكان أجن المجانين لأنه سبحانه وتعالى خالقهم ، وشارعه ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ولا سيما وهو الحي القيوم الذي لا يغفل ) وهو ) أي خاصة ) أعلم بالمهتدين ) أي الثابتين على الهدى وهم أولوا الأحلام والنهى ، وهذا سر القدر الذي يقال : إنه إنما يظهر يوم الحاقة .(8/99)
صفحة رقم 100
ولما كان من طبع البشر أن الحليم منهم الرزين إذا اشتد عليه الأذى ممن لم تجر العادة بأن مثله يطيق مثلهم قاربهم ولا يتهم فيما الخلاف بسببه بعض المقاربة ، وكان سبب تلك المقاربة إنما هو عدم علمه بالعواقب ، سبب سبحانه ما مضى من إعلامه بحقائق الأمور وكشفه لمستورها قوله إلهاباً وتهييجاً على الثبات على معاصاتهم إعلاماً للضال بأماراته ليعلم المهتدي لأن الأمور تعلم بأضدادها .
وهو خطاب له ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته ليكون ذلك أبلغ في سماعهم : ( فلا تطع ) أي أيها المأمور بإنقاذهم من غوائل أهوائهم وأشراك أهلاكهم ) المكذبين ) أي العريقين في التكذيب ، قال الملوي : ولا يخفى أن كل كفر ظهر وكل ضلالة ظهرت ، وكل بدعة وكل شر إنما كان سببه إفساد القوة العلمية والنطقية ، وهو يكون بالتكذيب ، ثم علل ذلك بما يكون مجموعه على وقوعه منهم من مدة طويلة وهم مستمرون عليه بقوله : ( ودوا ) أي أحبوا محبة عظيمة واسعة متجاوزة للحد قديماً مع الاستمرار على ذلك وأكد تهالكهم على هذه الودادة بما يفهم التمني وإن ذلك مستمر منهم لا أنه وقع ومضى ، فقال مشيراً إلى إفسادهم القوة النطقية وخلق الشجاعة الغريزية : ( لو تدهن ) أي تلاين فتوافق على بعض ما يريدون فتهادنهم على ترك نهيهم عن الشرك وترك التعرض لسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم ؛ قال ابن برجان : والأدهان ملاينة وانجرار بالباطل وإغماض عن الحق مع المعرفة بذلك - انتهى .
وهو من الدهن لأنه يلين ما يدهن به .
ولما كان طبعهم أنهم كانوا يلينون له ( صلى الله عليه وسلم ) بعض الأوقات خداعاً كما قيل في سبب نزول ( الكافرون ) من أنهم قالوا له ( صلى الله عليه وسلم ) : تعالى فلنصطلح على أن تعبد إلهك سنه وتعبد آلهتنا سنة ، ونحو هذا من الأباطيل حتى أنهم سجدوا وراءه ( صلى الله عليه وسلم ) لما تلا عليهم سورة النجم فسجد فيها فسجد وراءه الكفار والمؤمنون والجن والإنس حتى سمع المهاجرون إلى الحبشة وهم بالحبشة فرجع بعضهم ظناً منهم أنهم قد أسلموا فوجدوهم على أخبث ما كانوا عليه أولاً ، قال سبحانه معرفاً بأن ذلك منهم خداع : ( فيدهنون ) أي فبسبب ودادتهم أنك تدهن هم يدهنون ، فهو عطف على ( ودوا ) لا جواب ( لو ) لأجل تنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لينهم إنما هوخداع لم يرد به غير الفساد ، وقد أخروا الإدهان وإن كانوا قديماً في وداده طمعاً في أن تبدأ به فيظهروه حينئذ ، قال القشيري : من أصبح عليلاً تمنى أن يكون الناس كلهم مرضى .
ولما نهاه عن طاعة المكذب وعلله ، وكان من الناس من يخفي تكذيبهن قال ناصباً علامات المكذب : ( لو تطع ) أي في وقت من الأوقات منهم ولا من غيرهم ) كل حلاف ) أي مبالغ في الاجتراء على الأيمان وإن لم يظهر لك تكذيبه ، وليس المراد(8/100)
صفحة رقم 101
النهي عن العموم بل عموم النهي ، أي انته عن كل حلاف فالنهي أصل والكل وارد عليه ، كما تقدم تخريج مثله في آخر البقرة في قوله تعالى
77 ( ) والله لايحب كل كفار أثيم ( ) 7
[ البقرة : 276 ] وهذه الأوصاف متفرخة من الكذب وخبث السجية ، فهي كالتفصيل ، فكثرة الحلف دالة على فساد القوة العلمية فنشأ عنها سقوط تعظيم الحق ، فصار صاحبها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، فلذلك يحلف صادقاً وكاذباً كيفما اتفق ) مهين ) أي حقير ضعيف سافل الهمة والمروءة سافل الرأي ، لأن ا لإنسان لا يكثر الحلف إلا وهو يتصور في نفسه أنه لا يصدق إلا بذلك ، لأنه ليس له من المهابة عند من يحدثه والجلالة ما يصدقه بسببه ، وهو مؤثر للبطالة لما فيها من موافقة طبعه ، وذلك هو الحقارة الكبرى .
ولما كان كل من اتصف بصفة ، أحب أن يشاركه الناس فيها أو يقاربوه لا سيما إن كانت تلك الصفة دنية ليسلم من العيب أو الانفراد به ولأن الشيء لما دناه ألف قال : ( هماز ) أي كثير العيب للناس في غيبتهم ، وقال الحسن : هو الذي يغمز بأخيه في المجلس ، أي لأن الهمز العض والعصر والدفع - من المهماز الذي يطعن به في بطون الدواب ، وهو مخصوص بالغيبة كما أن اللمز مخصوص بالمواجهة .
ولما كانت النميمة - وهي نقل الحديث على وجه السعاية - أشد الهمز أفاد أنه يفعله ولا يقتصر على مجرد النقل بل يسعى به إلى غيره وإن بعد فقال تعالى : ( مشاء ) أي كثير المشي ) بنميم ) أي ينقل ما قاله الإنسان في آخر وأذاعه سراً ، لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد للبين مبالغ في ذلك بغاية جهده .
ولما كان من كان هكذا يريد إعلاء نفسه بهضم الناس ، وكان المنع لإرادة الاستئثار بالممنوع ليكون الغير محتاجاً إليه وعاكفاً عليه لأن من طبعه أنه لا يرتبط إلا طمعاً لا شكراً بضد الجواد ، فإنه يرفع نفسه عن المطامع ، ولا يرتبط إلا شكراً على الصنائع فيجود ظناً منه أن الناس كذلك ، قال : ( مناع ) أي كثير المنع شديده ) للخير ) أي كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه ومن غيره من الدين والدنيا - إلى غير ذلك .
ولما كان نم يفعل هذه المخازي من الناس ويقتصر في الهمز والنم على الواقع ، وفي المنع على ما له منعه - لئيماً ، بين أنه لا يقنع بذلك ، بل زاد عليه ببذل الجهد فيما يصير به ألأم فقال : ( معتد ) أي ثابت التجاوز للحود في كل ذلك ) أثيم ) أي مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث ويرغب في المعاصي ويتطالبها ، ويدع الطاعات ويزهد فيها .(8/101)
صفحة رقم 102
القلم : ( 13 - 20 ) عتل بعد ذلك. .. . .
) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ( )
ولما كان كل من يتصف بهذه الدنايا التي من شأنها إبعاد الناس عنه ونفرتهم منه يسعى في سترها إن كان عاقلاً بلين وتواضع وخداع وسهولة انقياد ، بين أن هذا على غير ذلك فقال منبهاً على هذا بالعبدية : ( عتل ) أي أكول شديد الخصومة جاف غليظ في خلقه وخلقه ثقيل مر ، كأنه قطعة جبل قد انقطع عن سائره لا ينجر إلى خير إلا بعسر وصعوبة وعنف ، من عتله - إذا قاده بغلظة ، فهو في غاية ما يكون من يبس الطباع وعدم الطواعية في الخير والانطباع ، قال الرازي : وسئل عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - أي عن العتل - فقال : ( هو الشديد الخلق الرحيب الجوف الأكول الشروب الظلوم ) ونبه سبحانه على ثباته في تلك المخازي الموجب لاستغراق أوقاته وأحواله بها بنزع الخافض فقال : ( بعد ذلك ( الخلق الجدير بتكلف الإبعاد عنه الذي تجمع من هذه الأوصاف التي بلغت نهاية القباحة حتى صارت كأنه خلق واحد ثابت راسخ لا حيلة له في مداواته ، وعلى ذلك نبه قوله : ( زنيم ) أي صارت له علامة سوء وشر وثنا قبيح ولأمة بينه ومعرفة يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها .
وهي الجلدة التي تكون تحت حلقها مدلاة تنوس ، والعبد بمعايبه وسفساف أخلاقه ، وقيل : هو الذي يتشبه بقوم وليس منهم في شيء ، ولا يخلو التعبير به من إشارة إلى أنه دعي ليس ثابت النسب غلى من ينتسب إليه ، ليكون منقطعاً عن كل خير وغن كان ينسب إلى آباء كرام ، أخذاً من زنمة البعير ، وهي جلدة تقطع من أذنه فتترك معلقة ، ولا يفعل ذلك إلا بكرام الإبل ، وهذه الأفعال كلها تنافي الشجاعة المقتضية لإحسان صابحها إلى كل أحد وأن لا يحسب له حساباً ولا يوصل إليه أذى إلا بعد ظهور شره فيعامله حينئذ بحسب العدل بما لا يرزئ بالمروءة والمشار إليه بهذا مع إرادة العموم قيل : الوليد بن المغيرة ، وقيل : الأخنس بن شريق ، وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، وقال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة .
ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضاً فانياً وظلاً متقلصاً زائلاً ، لا يفتخر به بل ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف ، فإذا كان أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع(8/102)
صفحة رقم 103
على الحقوق والتكبر على العباد قال : ( أن ) أي لأجل أن ) كان ( هذا الموصوف ) ذا مال ) أي مذكور بالكثرة ) وبنين ( أنعمنا عليه بهما فصار يطاع لأجلهما ، فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما ) إذا تتلى ) أي تذكر على سبيل المتابعة ) عليه ( ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له ) آياتنا ) أي العلامات الدالة دلالة في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ما له من صفات العظمة ) قال ) أي فاجأ هذا القول من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن الشكر ، ف ( إن ) مع جاره متعلق بما دل عليه الكلام نحو كذب لأجل كونه متمكناً ، ولا يتعلق بقال لأنه جزاء الشرط ، ويجوز أن يتعلق بلا تطع أي لا توجد طاعته لأجل إن كان كذا ، وقرىء بالكسر على أنها شرطية ، فيكون النهي عن طاعته لعلة الغنى مفهماً للنهي عن طاعته عند الوصف بغيره نم باب الأولى كالتعليل بإملاق في الوأد : ( أساطير ( جمع سطور جمع سطر ) الأولين ) أي أشياء سطروها ودونها ، وفرغوا فحمله دنيء طبعه على تكبره بالمال فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه فجعل الكفر موضع الشكر ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من يسمعه ، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر ، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة مع التعليل بالإسناد إلى ما هو عند العاقل أوهم وأوهى من بيت العنكبوت ، والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة ، ولا يعمل في ( أن قال ) بل ما دل عليه لأن ما في حيز الشرط لا يعمل فيما قبله .
ولما كان هذا المكذور قد أغرق في الشر فتوقع السامع جزاءه ، قال معلماً أنه يجعل له من الخزي والفضائح ما يصير به شهرة بين الخلائق في الدنيا والآخرة : ( سنسمه ) أي نجعل ما يلحق به من العار ف يالدارين كالوسم الذي لا ينمحي أثره ، تقول العرب : وسمه ميسم سوء .
ولما كان الوسم منكئاً ، وكان جعله في موضع لا يستر أنكأ ، وكان الوجه أشرف ما في الإنسان ، وكان أظهر ما فيه وأكرمه الأنف ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة قال : ( على الخرطوم ) أي الأنف الطويل جميعه وما قاربه من الحنكين وسماً مستعلياً عليه بوضح جداً ليكون هتكة بين الناس وفضيحة لقومه وذلاً وعاراً ، وكذا كان لعمري له بهذا الذكر الشنيع والذنب القبيح من الكفر وما معه ، وسيكون له يوم الجمع الأعظم ما هو أشنع من هذا على أنه قد حقق في الدنيا هذا الخطم حساً بأنه ضرب يوم بدر ضربة خطمت أنفه - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف .
ولما ذكر في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا(8/103)
صفحة رقم 104
بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه ، أعاد ذكر الابتلاء وأكده لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال من ظن الملك الثابت والتصرف التام ، فقال : ( إن بلوناهم ) أي عاملنا - على ما لنا من العظمة - الذين نسمهم على الخراطيم من قريش وسائر عبادنا بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرهم ذلك وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليه من أوليائنا أعداء ، فاستهانوا بهم ، ونسبوهم لأجل تقللهم في الدنيا إلى السفه والجنون والضلال والفتون ، فيوشك أن تاخذهم بغتة كما فعلنا بأصحاب الجنة ، فكل من رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقد ابتلى به ، فإن آمن كان ممن أحسن عملاً ، وإلا كان ممن أساء .
ولما لم تعرف عامة أهل مكة نعمة الله عليهم به ( صلى الله عليه وسلم ) ، أخرجه الله عنهم وأكرمه بأنصار جعله أكرم الكرامات لهم ، وكل من سمع به ولم يؤمن فهو كذلك ، تكون أعماله كهذه الجنة يظنها شيئاً فتخونه أحوج ما يكون إليها ، أو كان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أكلوا الجيف فما تابوا كما تاب ) كما بلونا ) أي اختبرنا بأن عاملنا معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، وحاصله أنه استخرج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلمه الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء ) أصحاب الجنة ( عرفها لأنها كانت شهيرة عندهم وهي سبتان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين ، يقال له الضروان ، يطؤه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ، ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فلما مات شح بنوه بذلك فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا يأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : ( إذ ) أي حين ) أقسموا ( ودل علىتأكيد القسم فقال : ( ليصرمنها ( عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأثل المانع للفقراء ليكون قطعاً من كل وجه ، من الصريم - لعود يرعض على فم الجدي لئلا يرضع ، ومن الصرماء : المفازة لا ماء بها ، والناقة القليلة اللبن ) مصبحين ) أي داخلين في أو وقت الصباح ) ولا ) أي والحال أنهم لا ) يستثنون ) أي لا يطلبون ولا يوجدون ثنياً - أي عوداً - إلى ما قبل المين بقولهم ( إن شاء الله ) أو غير ذلك من الألفاظ الموجبة لأن يكون لشيء من جنتهم مطلقاً غير ممنوع ، وسمي ذلك استثناء لأنه أخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولاً ، وكان الأصل فيه : إلا أن يشاء الله ، وألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم ) فطاف ) أي فتسبب عن عملهم هذا الطامع أن طاف ) عليها ) أي جنتهم ) طائف ) أي عذاب مهلك محيط مع أنه أمر يسير جداً عند الله وإن كان عظيماً بالنسبة إليها لأنه لم يدع منها شيئاً ، (8/104)
صفحة رقم 105
ولا يكون الطائف بهذا المعنى إلا بالليل ، كذا قيل ، ويرده ) ) إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ( ) [ الأعراف : 201 ] .
ولما كان هذا مقتاً في الصورة أخبر بأنه لطف وتربية في المعنى بقوله : ( من ربك ) أي المعروف بالعظمة التي لا تحد وبالإحسان إليك فهو جدير بأن يؤدب قومك ليقبلوا منك كما أدب أصحاب الجنة بما أوجب توبتهم وهو الحقيق بتربية العباد يعقلوا عنك ويكونوا خليقين بالتجنب للدنيا والإقبال على المعالي ) فأصبحت ) أي فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مآل من لا يزال أسير العجز والنوم فعلاً أو قوة أن صارت جنتهم وقت اجتنائهم لها بالغد وسرورهم بها ) كالصريم ) أي كالأشجار التي صرم عنها ثمرها أو كالشيء الذي انقطع ما بينه وبين قاصده فلا وصول غليه بوجه ، وقيل : كالليل المظلم الأسود ، وقيل : كالرماد الأسود ، ليس بها ثمرة ، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً ، لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق بضد ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله .
القلم : ( 21 - 30 ) فتنادوا مصبحين
) فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ( ( )
ولما كانوا لقوة عزمهم على ما أقسموا عليه كأنهم كانوا على ميعاد ، سبب عنه قوله : ( فتنادوا ) أي كانوا كأنهم نادى كل منهم الآخر ) مصبحين ) أي في حال أول دخولهم في الإصباح ، وفسر التنادي بقوله : ( أن اغدوا ) أي بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين ) على حرثكم ) أي محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم ، فكأنهم استبطؤوا قيامهم وغدوهم فكفوا عنه بقوله : ( إن كنتم ) أي اليوم كوناً هو لكم بغاية الرغبة ) صارمين ) أي جاذين جذاذاً ليسلم لكم من غير مشاركة أحد لكم كما تواثقتم عليه ، أو جازمين بما عزمتم عليه ، وعبر عن إسراعهم إلى الذهاب بقوله : ( فانطلقوا ) أي بسبب هذا الحث وعقبه كأنهم كانوا متهيئين ) وهم ) أي والحال أنهم ) يتخافتون ) أي يقولون في حال انطلاقهم قولاً هو في غاية السر كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة ، من الخفوت وهو الخمود ، ثم فسر ما(8/105)
صفحة رقم 106
يتخافتون به بقوله : ( أن لا يدخلنها ( وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وصلابة الوجه وأن جذاباً يخلو من سائل .
ولما كانت العادة قاضية بأنه لا بد أن ينسى الإنسان شيئاً أو يقفل باباً أو ثغرة يدخل منه وبسببه فقير قالوا : ( اليوم ) أي في جميع النهار - بما دل عليه نزع الخافض - لتكروا عليه مراراً وتفتشوا فلا تدعوا فيه ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع بسببه أحد في قصدكم ) عليكم ) أي وأنتم بها ) مسكين ( وهو نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهي أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم ، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما دل عليه ما يأتي : لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم ، وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً ، وأكد كون انطلاقهم حال الإصباح بقوله : ( وغدوا ) أي ساروا إليها غدوة ) على حرد ( لا غيره وهو القصد وشدة الغضب مع الجزم بالأمر واللجاج فيه والسرعة والنكد بالمنع وقلة الخير ، من حاردت السنة أي لم يكن فيها مطر ، والإبل : منعت درها ، وحرد - إذا أسرع ) قادرين ( عند أنفسهم وفي زعمهم بدليل عدم استثنائهم فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الخلف فعل من لا كفؤ له ، ودل على قربها من منزلهم بالفاء فقال : ( فلما رأوها ) أي بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر ) قالوا ( لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيد من حال ما كانت عليه عند تباعدهم وتغيير نياتهم فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها ، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم بها وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها فقالوا : ( إنا لضالون ) أي عن طريق جنتان لأن هذه لا تشبهها بوجه فيما كان فيه بالأمس من النضارة وشدة الحمل وحسن الهئة .
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال : ( بل نحن محرومون ) أي ثابت حرماننا مما كان فيها من الخير الذي لا نغيب عنها إلا سواد الليل فحرمنا الله إياها بما عزمنا عليه نم حرمان المساكين لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
وما كان القرع بالمصائب مظنة الرقة والتوبة لمن أريد به الخير ، وزيادة الكفر لغيره ، استأنف قوله : ( قال أوسطهم ) أي رأياً وعقلاً وسناً ورئاسة وفضلاً ، منكراً عليهم : ( ألم أقل لكم ( أن ما فعلتموه لا ينبغي ، وأن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد .
ولما كان منع الخير ولا سيما في مثل هذا مستلزماً لظن النقص في الله تعالى إما بأنه سبحانه لا يخلف ما حصل التصديق به وإما أنه لا يقدر على إهلاك ما شح الإنسان(8/106)
صفحة رقم 107
به ، قال مستأنفاً : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) تسبحون ) أي توقعون التنزيه لله سبحانه وتعالى عما أوهمه فعلكم ، وأقل التسبيح الاستثناء عند الإقسام شكاً في قدرة الإنسان وإثباتاً لقدرة الملك الديان استحضاراً لعظمته سبحانه وتعالى ، ودل سياق الكلام على أنهم كانوا متهيئين للتوبة بقوله : ( قالوا ( من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم فقال سبحانه حاكياً عن قولهم : ( سبحان ربنا ) أي تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم عن أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم ، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم لأن ما كانوا عليه من الحال يقتضي أن لا يصدق رجوعهم عنه بقولهم : ( إنا كنا ) أي بما في جبلاتنا من الفساد ) ظالمين ) أي راسخين في إيقاعنا الأشياء في غير مواضعها حيث لم نعزم عزماً جازماً على ما كان يفعل أبونا من البر ، ثم حيت حلفنا على ترك ذلك ثم حيث لم نرد الأمر إلى الله بالاستثناء حيث حلفنا فإن الاستثناء الله عن أن يجري في ملكه مالا يريد ، وأكد توبتهم بقوله مسبباً عن اعترافهم بالظلم : ( فأقبل بعضهم ) أي في حال مبادرتهم إلى الخضوع ) على بعض ( ودلت التسوية بين فريقيهم في اللفظ على الاستواء في التوبة ) يتلاومون ) أي يفعل كل منهم مع الآخر في اللوم على ما قصده من المنع وترك ما تركوه من الإعطاء والدفع ما يفعله الآخر معه ، وينسب النقصان إليه كما هو دأب المغلوبين العجزة .
القلم : ( 31 - 38 ) قالوا يا ويلنا. .. . .
) قَالُواْ يوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( ( )
ولما تشوف السامع إلى معرفة بعض ذلك قال : ( قالوا ( منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته عن كل شيء : ( يا ويلنا ) أي هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادتك لنا فإنه لا نديم لنا غلا أنت ، والويل هو الهلاك والإشراف عليه .
ولما كان أهل الرذالة ينكرون أن يكون من يمنع الفقراء طاغياً ، أكدوا قولهم : ( إنا كنا ) أي جبلة وطبعاً ) طاغين ) أي مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع الفقراء وعلى جذها في الصباح من غير استثناء فعل القادر ، وكان ذلك إن كان لا بد لنا منه ممكناً بغير قسم ولا غخفاء من الغير ولا مخافته حال السير بأن يقال للفقراء : يفتح الله ، ونحو ذلك من الكلام .
ولما قدموا ما هو أنفع لهم من اللوم المتقضي لإجماعهم على التوبة فعلم بذلك الندم الذي هو أمارة التوبة ، استأنفوا جواباً لمن سأل : هل اقتصروا على التلاوم ؟(8/107)
صفحة رقم 108
قولهم : ( عسى ) أي يمكن أن يكون وهو جدير وخليق بأن يكون ) ربنا ) أي الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وبإهلاك ثمرها الآن تأديباً لنا ) أن يبدلنا ) أي من جنتنا شيئاً ) خيراً منها ( يقيم لنا أمر معاشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة بما أفاده إيقاع الفعل على ضميرهم ، وقراءة أبي عمرو ونافع بالتشديد وقراءة الباقين بالتخفيف وهما متقاربان غير أن التشديد يدل على التدريج ، فالتخفيف أبلغ معنى : وإنما تعلق رجاؤنا بسبب توبتنا وعلمنا بأن ربنا قادر على ما يريد ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
ولما دل هذا الدعاء على إقبالهم على الله وحده صرحوا وأكدوا لأن حالهم الأول كان حال من ينكر منه مثل ذلك فقالوا معللين : ( إنا ( ولما كان المقام للتوبة والرجوع عن الحوبة ، عبروا بأداة الانتهاء إشارة إلى بعدهم عن الحضرات الربانية تأدباً منهم فقالوا : ( إلى ربنا ) أي المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره سبحانه ) راغبون ) أي ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام بعد العفو ، وقد قيل إن الله تعالى جلت قدرته قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان بحيث كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل - رواه البغوي عن ابن مسعود ، ولكن لما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله ولم يجلهم بجلاله طواه ، وذكر ما صور هذا الكلام وأنتجه من مساواة حال قريش وحال هؤلاء في الإحسان وطول الحلم مع احتقار أوليائه والتقوى عليهم بأفضاله ونعمائه ، فقال مرهباً : ( كذلك ) أي مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كانوا عند أنفسهم في غاية ا لقدرة عليه والثقة به مع الاستحسان منهم لفعلهم والاستصواب وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب : ( العذاب ( الذي تحذرهم منه وتخوفهم به في الدنيا ، فإذا تم الأجل الذي قردنهاه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت .
ولما كانوا منكرين لأمور الآخرة أشد من إنكارهم لأمور الدنيا أكد قوله : ( ولعذاب الآخرة ) أي الذي يكون فيها للعصاة والجبارين ) أكبر ) أي في كل ما يتوهمونه .
ولما كان هذا موجباً لمن له أدنى شعور للهروب منه قال : ( لو كانوا ) أي الكفار ) يعلمون ) أي لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه مما عرفوا أنه يغضب الله فيكون سبب العذاب في الدارين ، وهم مع ذلك مما يرزئ بهم عند الله وعند الناس من تلك الآثار الخبيثة التي منها الأيمان الكاذبة ، ويدل(8/108)
صفحة رقم 109
على عدم شجاعتهم وقلة عقولهم ، لكنهم ليس لهم نوع علم الآن ، والمختوم بموته على الكفر لا يتجدد له نوع علم ، وغيره سيرجع في الوقت الذي قدره الله له .
ولما ذكر ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات ، ذكر أضدادهم فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إن للمتقين ) أي العريقين في صفة التقوى خاصة دون غيرهم ممن لا يتقي ، والتقوى : الاحتراز بالوقاء الحامل عليه الخوف من المؤذي ، الحامل عليه تجويز الممكنات ، قال الملوي : وأصلها أن الفرس الواقي - وهو الموجوع الحافي - لا يضع حافره حتى يرى هل الموضع لين يناسب ، وكذا المتقي لا يتحرك ولا يسكن إلا على بصيرة من رضا الله بذلك ، فلا يفعل أحد منهم شيئاً من تلك الآثار الخبيثة التي تقدمت للمكذبين ، فحازوا الكمال بصلاح القوة العملية الناشىء عن صلاح القوة العلمية ، وزاد في الترغيب إشارة إلى جنة القلب وبسط الروح بقوله : ( عند ربهم ) أي المحسن إليهم في موضع ندم أولئك وخيبة آمالهم ، فإن تقريبهم دل على رضاه سبحانه ، ورضا صاحب الدار مطلوب قبل نظر الدار ، ولما أشار إلى جنة القلب أتبعها جنة القالب فقال تعالى : ( جنات ( جمع جنة وهي لغة البستان الجامع ، وفي عرف الشرع مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى منه جميع الشرور ) النعيم ( وهو الخالص من المكدر والمشوش والمنغص ، لا شيء فيها غيره أصلاً - بما أفادته الإضافة .
ولما كان عدم إيراث كل من الفريقين الدار التي تقدم وصفها تسوية بين المحسن والمسيء ، وكان ذلك لا يليق بحكيم أن يفعله ، وجب إنكاره لتحقق أن ما أخبر به سبحانه لا يكون إلا يليق بحكيم أن يفعله ، وجب إنكاره لتحقق أن ما أخبر به سبحانه لا يكون إلا كذلك لا سيما وقد كان الكفار يقولون : إنهم كالمسلمين أو أحسن حالاً منهم ، وذلك أنه إن كان لا بعث ، كما كانوا يظنون ، فقد استووا فيما بعده مع ما فضلوهم به في الدنيا من اتباع الأهواء والظفر باللذائذ ، وإن كان ثم بعث فقد كانوا يقولون لشبهة دعتهم إليها شهوتهم : أما نكون على تقديره أحسن حالاً منكم وآثر عند الله في حسن العيش كما نحن في هذه الدار لأنه ما بسط لنا في هذه الدار إلا ونحن عنده أفضل منكم ، فقال تعالى منكراً ومكذباً لذلك غاية إنكار والتكذيب عائباً التحكم بالجهل غاية العيب نافياً للمساواة ليكون انتقاماً هو أعلى من باب الأولى مسبباً عما تقديره : ولا يكون لغير المتقين ذلك : ( أفنجعل المسلمين ) أي الذي هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم ) كالمجرمين ) أي الراسخين في قطع ما أمرنا به ان يوصل وأنتم لا تقرون مثل ذلك ، بل من عاندكم نوع معاندة قاطعتموه ولو وصل الأمر إلى القتل .(8/109)
صفحة رقم 110
ولما كشف هذا الدليل الشبه ورفع الستار ، فأوصل إلى أعظم من ضوء النهار ، لفت القول إليهم بالخطاب لفت المغضب عند العتاب ، فقال معجباً منهم منبهاً على ما هم فيه من اعوجاج الفطر وفساد الفكر منكراً عليهم غاية الإنكار : ( ما لكم ) أي أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب .
ولما نبههم على أنه ليس لهم في مثل هذه الأحكام شيء يمكن أن يكون نافعاً ، وكان العاقل إذا علم أن شيئاً من الأشياء لا نفع فيه بعد منه ، أنكر عليهم ثالثاً حال أحكامهم هذه لأن نفي أحوالها أشد لنفيها كما تقدم في ) ) كيف تكفرون ( ( في [ البقرة : 28 ] فقال : ( كيف تحكمون ) أي أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء .
ولما كان الحكم لا يمكن وجوده إلا مكيفاً بكيفية ، وكان سبحانه وتعالى قد نفى حكمهم هذا بإنكار جميع كيفياته التي يمكن أن يصح معها ، وكان الحكم الصحيح لا بد وأن يكون مستنداً إلى عقل أو نقل ، زاد بطلان حكمهم وضحاً بنفي الأمرين معاً ، فقال عاطفاً على ما تقديره : ألكم دليل من العقل إليه تلجؤون : ( أم لكم كتاب ) أي سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم ) فيه ) أي لا في غيره من أساطير الأولين وبر الممحوقين ) تدرسون ) أي تقرؤون قراءة أتقنتم مخالطتها أو أنعمتم فهمه بسببها .
ولما ذكر المدروس فقال تعالى : ( إن لكم ) أي خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه ) فيه ) أي الكتاب لتكونوا في غاية الوثوق به ، لا في غيره مما لا وثوق لكم به ) لما تخيرون ) أي تبالغون في انتقائه وأخذ خياره ، وكسر الهمزة وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس ، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية .
القلم : ( 39 - 43 ) أم لكم أيمان. .. . .
) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( ( )
ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم ، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجاص عما يدعو إليه العقل والنقل ، نفى ذلك بقوله : ( أم لكم أيمان ) أي غليظة جداً ) علينا ( قد حملتمونا إياها ) بالغة ) أي لأجل عظمها إلى نهاية رتب التأكيد بحيث يكون بلوغ غيرها ما يقصد بالنسبة إلى بلوغها ذلك عدماً أي أن بلوغها هو البلوغ لا غيره ، أو ثباتها منته ) إلى يوم(8/110)
صفحة رقم 111
القيامة ( لا يمكن الخروج عن عهدتها إلى في ذلك اليوم ليحتاج لأجلها إلى إكرامكم في الدارين .
ولما ذكر ذلك القسم بالأيمان ذكر المقسم عليه فقال : ( إن لكم ) أي خاصة دون المسلمين ) لما تحكمون ) أي تفعلونه فعل الحاكم الذي يلزم قوله لعلو أمره على وجه التأكيد الذي لا مندوحة عنه فتحكمون لأنفسكم بما تريدون من الخير .
ولما عجب منهم وتهكم بهم ، ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف وينزل بهم أشد الحتف ، فقال مخوفاً لهم بالإعراض : ( سلهم ) أي يا أيها الرسول الذي محت دلائله بقوة أنوارها الأنوار .
ولما كان السؤال لحصول العلم علقت ، ( سل ) على مطلوبها الثاني وكان حقه أن يعدى بعن فقال : ( أيهم بذلك ) أي الأمر العظيم من المعاهدة والدليل النقلي والعقلي ) زعيم ) أي كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل لتلزمه في ادعائه صحة ذلك ما تدعه به ضحكة للعباد ، وأعجوبة للحاضر منهم والباد ، فلم يجسر لما تعلمون من حقية هذا القرآن وما لأقوالهم كلها من العراقة في البطلان أحد منهم على شدة عداوتهم ومحبتهم للمغالبة وشماختهم أن يبرز لادعاء ذلك ، ولما نفى أن يكون لهم منه سبحانه في تسويتهم بالمسلمين دليل عقلي أو نقلي أو عهد وثيق على هذا الترتيب المحكم والمنهاج الأقوم ، أتبعه ما يكون من عند غيره أو نقلي أو عهد وثيق على هذا الترتيب المحكم والمنهاج الأقوام ، أتبعه ما يكون من عند غيره إن كان ثم غير على ما ادعوا فقال : ( أم لهم شركاء ) أي شرعوا لهم من الدين أمراً ووعدوهم بشيء أقاموا عيله من الأدلة ما أقمنا لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) فليأتوا بشركائهم ) أي بأقوالهم وأفعالهم كما أتينا نحن في نصر نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الأمرين معً بما لا شبهة فيه ، وسجل عليهم بالكتاب ملهباً مهيجاً بما يحرق به أكبادهم ولا يقدرون على دفعه بوجه ، فيكون ذلك أعظم دليل على إبطالهم : فقال : ( إن كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) صادقين ) أي عريقين في هذا الوصف كما يدعونه ، ولما نفى جميع شبههم التي يمكن أن يتشبثوا بها مع البيان لقدرته على ما يريد من تفتيق الأدلة وتشقيق البراهين الدال على تمام العلم اللازم منه كمال القدرة فأوصلهم من وضوح الأمر إلى حد لم يبق معه إلا العناد ، أتبع ذلك تهديدهم بما يثبت ذلك قدرته عليه من يوم الفصل ومعاملتهم فيه بالعدل فقال : ( يوم ( يجوز أن يكون بياناً ليوم القيامة ، وبنى لإضافته إلى الجملة وأن يكون ظرفاً ليأتوا ، أو منصوباً بما أخذ من معنى الكلام من نحو : سيعلمون ما يلقون من غب هذه المعاملات وإن نالوا في هذه الدار جميع اللذات في جميع اليوم الذي ) يكشف ) أي يحصل الكشف فيه ، وبني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمور وخروجها(8/111)
صفحة رقم 112
عن حد الطوق ، لا كونه من معين ، مع أن من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه ) عن ساق ) أي يشتد فيه الأمر غاية الاشتداد لأن من اشتد عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمر حرمه عن سوقهن غير محتشمات هرباً ، فهو كناية عن هذا ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً ، نقل هذا التأويل عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير رضي الله عنه وغيرهما ، وعن انكشاف جميع الحقائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه وتركت السامع لها في مثل ضوء النهار ، وفي الجزء الخامس والثلاثين من مسند أبي يعلى الموصلي عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه تعالى عنهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا قال : ( عن نور عظيم يخرون له سجداً ) وهو لا ينافي ما ذكر من التأويلين : الشدة والكشف .
ولما كان هذا الكشف الذي كشف لهم المعاني في هذا القرآن إنما هو لأجل العبادة التي هي الخضوع الذي يعبر عنه بالسجود وهو آيتها وأمارة ما شاتمل عليه الباطن منها وعلامتها فيأتونها وهم قادرون عليها ذكرهم يوماً يريدونها فيه فلا يتأتى لهم تنديماً لهم وزيادة تحسير وإظهار تظليل وتخسير لأن لأن ظهورهم وأعضاءهم تكون طبقاً واحداً لا تنثني ، فكلما أرادوا أن يسجدوا انقلبوا على أقفائهم ، فقال بانياً للمفعول دلالة على إرادتهم للانقياد ورغبتهم فيه من أي داع كان ، وهو دال على أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول كل من الفريقين داره و ) يدعون ) أي من داعي الملك الديان ) إلى السجود ( توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً فيريدونه ليضروا أنفسهم مما يرون من المخاوف ) فلا ) أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا ) يستطيعون ) أي لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم على أن تطوع لهم أعضاؤهم بما تفهمه هذه الصيغة من أن الإنسان منهم إذا أراد الفعل وعالجة بقوة فلم يطقه فإن ظهورهم تكون على حالة لا تنثني معها بل كان فيها السفافيد فيكون لهم في ذلك أشد ندم لتركهم إياه في الدنيا وهم يقدرون عليه وهو إذ ذاك نافع لهم ومالجتهم فعله أشد معالجة وهم غير قادرين عليه وهو غير نافع لهم وإذا عجزوا مع المعالجة كانوا بدونها أعجز ، وذلك أنه يبعث المرء على ما مات عليه ويحشر على ما بعث عليه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر ، ولما كان ربما ظن ظان أن المانع لهم الكبر كما في هذه الدنيا ، قال مبيناً لنفي الكبر في(8/112)
صفحة رقم 113
مثل هذا اليوم العظيم ) خاشعة ) أي مخبتة متواضعة ) أبصارهم ( لأن ما في القلب يعرف في العين ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أضوأ من الشمس ، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة .
ولما كان الخاشع لذلك قد يكون خشوعه لخير عنده حمله على ذلك مع العز قال : ( ترهقهم ) أي تغشاهم وتقهرهم ) ذلة ) أي عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها سبحانه وتعالى ليتقربوا بها إليه في دار العمل في التمتع بما يبعد منه .
ولما دلت هذه العبارة مطابقة لما ورد في الحديث الصحيح على أن من كان في قلبه مرض في الدنيا يصير ظهره طبقاً واحداً فقارة واحدة فيعالج السجود فيصير كلما أراده انقلب لقفاه ، عجب منهم في ملازمة الظلم الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه فقال : ( وقد ) أي والحال أنهم ) كانوا ) أي دائماً بالخطاب الثابت ) يدعون ( في الدنيا من كل داع يدعو إلينا ) إلى السجود وهم ) أي فيأبونه والحال أنهم ) سالمون ) أي فهم مستطيعون ، ليس في أعضاهم ما يمنع من ذلك ، وإنما يمنعهم منه الشماخة والكبر ، فالآية من الاحتباك : ذكر عدم الاستطاعة أولاً دال على حذف الاستطاعة ثانياً ، وذكر السلامة ثانياً دال على حذف عدم السلامة أولاً .
القلم : ( 44 - 48 ) فذرني ومن يكذب. .. . .
) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( ( )
ولما علم بهذا أنه سبحانه المتصرف وحده بما يشاء كيف يشاء من المنع والتمكين ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يجد من تكذيبهم له - مع إتيانه بما لا يحتمل التكذيب بوجه - من المشقة ما لا يعلم مقداره إلا الله سحبانه وتعالى ، وكان علم المغموم بأن له منقذاً يخفف عنه ، وكان علمه باقتداره على ما يراد منه أقر لعينه سبب عن كمال اقتداره قوله مخففاً عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لافتاً القول إلى التكلم بالإفراد تنصيصاً على المراد زيادة في تسكين القلب وشرح الصدر : ( فذرني ) أي اتركني على أي حالة اتفقت ) ومن يكذب ) أي يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أي حالة كان إيقاعه ، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين : ( بهذا الحديث ) أي بسببه أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليَّ ولا تكترث بشيء منه أصلاً فإني أكفيكهم لأنه لا مانع منهم فلا تهتم بهم أصلاً .
ولما كان كأنه قيل : وماذا تعمل فيه إذا خليت بينك وبينه ؟ أجابه بقوله جامعاً(8/113)
صفحة رقم 114
الضمير ليكون الواحد مهدداً من باب الأولى : ( سنستدرجهم ) أي فنأخذهم بعظمتنا عما قليل على غرة بوعد لا خلف فيه وندنيهم إلى الهلاك درجة بواسطة من شئنا من جنودنا وبغير واسطة بما نواتر عليهم من النعم التي توجب عليهم الشكر فيجعلونها سبباً لزيادة الكفر فنوجب لهم النقم .
ولما كان أخذ الإنسان من مأمنه على حالة غفلة بتوريطه في أسباب الهلاك لا يحس بالهلاك إلا وهو لا يقدر على التفصي فيها بوجه قال تعالى : ( من حيث ) أي من جهات ) لا يعلمون ) أي لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات بغوائلها ، وذلك أنه سبحانه يغرهم بالإمهال ولا يعاجلهم بالعقاب في وقت المخالفة كما يتفق لمن يراد به الخير فيستيقظ بل يمهلهم ويمدهم بالنعم حتى يزول عنهم خاطر التذكير فيكونوا منعمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة فيقولون : قد قلتم : إن القدر فائض عن القضاء وأن الأعمال قضاء وجزاءها قدر ، ويقولون : إن أفعالنا في الدنيا قبيبحة ونحن لا نرى جزاءها إلا ما يسرنا لولا يعذبنا الله بما نقول فأنتم كاذبون في توعدنا فإنا كلما أحدثنا ما تسمونه معصية تجددت لنا نعمة ، وذلك كما قادهم إلى تدريجهم وهم في غاية الرغبة ، قال القشيري : والاستدراج أن يريد السىء ويطوي عن صاحبه وجه القصد حتى يأخذه بغتة فيدرج إليه شيئاً بعد شيء .
ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها ، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة ، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه : ( وأملي ) أي أوخر أنا وحدي في آجالهم وأوسع لهم في جميع تمتعهم ليزدادوا إثماً ) لهم ( لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري .
ولما سلاه ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا غاية التسلية ، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول : لم يكون أحدهم على هذا الوجه ؟ مسمياً إنعامه كيداً : ( إن كيدي ) أي ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان وخلف العبر والامتنان ) متين ) أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على غهلاك نفسه باختياره وسيعلم عند الأخذ أني لما أمهلته ما أهملته وأن إمهالي إنما كان استدراجاً .
ولما كان هذا القرآن أعظم إحسان ، ساقه سبحانه وتعالى إليهم فكان موجباً للشكر عليهم للذي أنزله ولإكرام الآتي به ، فكان سبباً لمباشرتهم من التكذيب به والأذى للآتي به إليهم ما يوجب أخذهم ، قال دالاً على متانة كيده سبحانه ودقة استدراجه عاطفاً على ما تقديره لبيان أنهم يباشرون ما يهلكهم باختيارهم من غير موجب : أكان تكذيبهم هذا الذكر لشيء فيه يرتابون ؟ قوله منكراً عليهم ، مبيناً أن تكذيبهم إنما هو لأنه طبع وخبث(8/114)
صفحة رقم 115
سجية لا شهوة لهم فيه ولا شبهة : ( أم تسئلهم ( أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً ) أجراً ( على إبلاغك إياهم ) فهم ) أي فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم ) من مغرم ( كلفتهم به فهم لشدته ) مثقلون ) أي واقع إثقالهم به حتى أوجب لهم ذلك الغرم الناقص لأموالهم التقاعد عن التصديق بما جئت به إليهم من عندنا فصاروا يشتهون إقلاعك عنه .
ولما نفى أن يكون تكذيبهم بشهوة دعتهم إلى ذلك نفى أن يكون لهم في ذلك شبهة من شك في الذكر أو حيف في المذكر وأن يكونوا على ثقة أو ظن من سلامة العاقلة فقال : ( أم عندهم ) أي خاصة ) الغيب ) أي علموه من اللوح المحفوظ أو غيره ) فهم ( بسبب ذلك ) يكتبون ) أي ما يريدون منه ليكونوا قد اطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله أو على أنهم لا درك عليهم في التكذيب به ، فقد علم بهذا أنه لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة ، وإنما تكذيبهم مجرد خبث طباع ، وظلمة نفوس وأمالي فارغة وأطماع .
ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم ، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب ، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأن كفر من كفر وإيمان من آمن بقضائه وتقديره ، فكان لا بد منهما ، كان ذلك سبباً حاملاً له على الصبر إلى الوقت الذي ضربه سبحانه للفرج ، فقال مسبباً عما تقديره : لم يكن له شيء مما ذكر ، وإنما هو القضاء والقدر : ( فاصبر ) أي أوفر الصبر وأوجده على كل ما يقولون فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيره من مر القضاء والقدر ) لحكم ربك ) أي للقضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومد لهم على ذلك في الآجال وأوسع عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر .
ولما كان حاصل قصة يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - أنه استثقل الكرامة بالرسالة لما فيها من الأمور الشديدة من معالجة الخلق فامتحن ، كان سبباً لقبوله ذلك ، ثم كان سبب إسلامه قومه إدناء العذاب منهم وتقريب غشيانه لهم ، أشار له بقصته إلى أنه يراد إعلاؤه - ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى سائر الأنبياء - وإعلاء أمته على سائر الأمم بما يحتاج إلى صبر على ما يستثقل من ضرر أو أمر شديد مر فقال : ( ولا تكن ) أي ولا يكن حالك في الضجر والعجلة إلى غير ذلك .
ولما كان قد افتتح السورة بالنون الذي من مدلولاته الحوت ، عبر به هنا تحقيقاً لإرادته فقال : ( كصاحب ) أي حكال صاحب ) الحوت ( وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام ) إذ ) أي حين ، والعامل في هذا الظرف(8/115)
صفحة رقم 116
المضاف المحذوف من الحال ونحوها ، أو يكون التقدير : لا يكن حالك كحاله يحصل لك مثل ما حصل له حين ) نادى ) أي ربه المربي له بإحاسنه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة لحج البحار ) وهو ) أي والحال أنه عند ندائه ) مكظوم ) أي مملوء كرباً وهماً وشدة وغماً محمول على السكوت ببطنه فهو لا ينطق من شدة حزنه ، ومحبوس عن جميع ما يريد من التصرف إلى أن ألجأه سبحانه بذلك إلى الدعاء والتضرع ، من الكظم ، وهو السكوت عن امتلاء وتجرع للمرارات ، ومن هذا كظمت السقاء أي شددته وملأته فكان مكظوماً ، والمكظوم : المكروب - كأنه قد أخذ بكظمه وهو مخرج نفسه .
القلم : ( 49 - 52 ) لولا أن تداركه. .. . .
) لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ( )
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال : ( لولا أن ( وعظم الإحسان بالتذكير وصيغة التفاعل فقال : ( تداركه ) أي أدركه عظيماً كان كلاًّ من النعمة والمنة يريد أن تدرك الآخر ) نعمة ) أي عظيمة جداً ) من ربه ) أي الذي أرسله وأحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة له ) لنبذ ) أي لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً ) بالعراء ) أي الأرض القفر التي لا بناء فيها ولا نبات ، البعيدة من الإنس حين طرح فيها كما حكم بذلك من الأزل ) وهو ) أي والحال أنه ) مذموم ) أي ملوم على الذنب ، ولما كان التقدير : ولكنه تداركه بالنعمة فلم يكن في نبذه ملوماً ، سبب عنه قوله : ( فاجتباه ) أي أختاره لرسالته ) ربه ( ثم سبب عن اجتبائه قوله : ( فجعله من الصالحين ) أي الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة وصلح بهم غيرهم ، فنبذ بالعراء وهو محمود ، ومن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره ، وأنت كذلك فأنت أشرف العاملين والعالمين .
ولما نهاه ( صلى الله عليه وسلم ) عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال ، وتوعدهم إلى أن قال : ( ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم ( وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن ، فكان التقدير تسبيباً عما فيها من النهي : فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه ، قال عاطفاً على هذا المقدر مخبراً له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم ، مؤكداً لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم : ( وإن ) أي وإنه ) يكاد ( وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم(8/116)
صفحة رقم 117
بالوصف فقال : ( الذين كفروا ) أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل .
ولما كانت ( ن ) مخففة ، أتى باللام التي هي علمها فقال : ( ليزلقونك ) أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم ) بأبصارهم ) أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي ، وهو من قولهم : نظر إليّ نظراً كاد يصرعني ، يعني لو أمكنه أن يصرعني به لصرعني كما قال تعالى
77 ( ) يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ( ) 7
[ الحج : 72 ] وقيل : يهلكونك بإصابة العين ، قال القشيري : كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئاً بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ثم نظروا إلى ذلك الشيء وقال : ما أحسنه من شيء ، فيسقط المنظور إليه في الوقت ، ففعلوا ذلك بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : ما أنصحه من رجل ، فحفظه الله منهم ، وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( العين حق ) وفي رواية عند أحمد وابن رفعه : ( يحضر بها الشيطان وحسد ابن آدم ) ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه : ( العين حق ولو أن شيئاً سابق القدر سبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا ) ولأبي نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه رفعه : ( العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر ) ولأبي داود من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما : ( وإنها لتدرك الفارس فتدعثره ) ولما ذكر هذا الإزلاق العظيم ، ذكر ظرفه معبراً بالماضي تذكيراً بالحال الماضية فقال : ( لما سمعوا الذكر ) أي القرآن الذي غلب عليه التذكير بأمور يعليها كل أحد من(8/117)
صفحة رقم 118
نفسه ، ومن الآفاق كان هواياه أول ما سمعوه حسداً على ما أوتيت من الشرف فكان سماعهم له باعثاً لما عندهم من البغض والحسد على أنه لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً بدلالة ) ويقولون ) أي قولاً لا يزالون يجددونه .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية البعد عما يشين ، أكدوا قولهم : ( إنه لمجنون ( حيرة في أمرك وتنفيراً عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان معك وارتبط بك واغتبط بما جئت به ، وعن الحسن أن قراءة هذه الآية دواء للإصابة بالعين .
ولما كان معنى قولهم هذا أن ما يقوله تخاليط من يصرع بالجن ، أكد بقصر القلب قوله معجباً منهم ) وما ) أي والحال أن هذا القرآن أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما ) هو إلا ذكر ) أي موعظة وشرف ) للعالمين ) أي كلهم عاليهم ودانيهم ليس منهم أحد إلا وهو يعلم أنه لا شيء يشبهه في جلالة معانيه وحلاوة ألفاظه وعظمة سبكه ودقة فهمه ورقة حواشيه وجزالة نظومه ، ويفهم منه على حسب ما هيأه الله له ليناسب عموم ذكريته عموم الرسالة للمرسل به ، وكل ما في من وعد ووعيد وأحكام ومواعظ شامل لهم كلهم ، فوجبت التفرقة بين مسلمهم ومجرمهم لتصدق أقوالهم فيكمل جلاله وجماله فقد رجعت خاتمتها - كما ترى - على فاتحتها بالنون والقلم وما يسطرون من هذا الذكر ، وسلب ما قالوا فيه من الجنون والإقسام على الخلق العظيم الذي هو هذا الذكر الحكيم ، ونبه كونه ذكراً لجميع الخلق بما فيه من الوعد والوعيد على أنه لا بد من الحاقة وهي القيامة ليظهر فيها تأويله وإجماله وتفصيله ، ويتضح غاية الاتضاح سبيله ، وتحق فيها حقائقه وتظهر جلائله ودقائقه بما يقع من الحساب ، ويتبين غاية البيان ويظهر الخطأ من الصواب - والله الهادي .
.. .(8/118)
صفحة رقم 119
سورة الحاقة
مقصودها تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم للكليات والجزئيات وكمال القدرة على العلويات والسلفيات ، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات ، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم ، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك وهو أدل ما فيها عليه ) بسم الله ( الذي له الكمال كله ، نزاهة وحمدا ) الرحمن ( الذي عم جوده بالعدل كبرا ومجدا ) الرحيم ( الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده لينالوا بطيب جواره علوا وجدا وفوزا بالأماني وسعدا .
الحاقة : ( 1 - 7 ) الحاقة
) الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ( )
لما قدم سبحانه في ( نون ) الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن ، وذكر القايمة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق ، وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج ، وختم بأن القرآن ذكر - أي شرف - وتذكير ، ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم برحمته ، أما من بعد إنزاله فبوعيده ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه ، وأما منقبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم ، وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إننما يظهر ظهوراً تاماً يوم الجمع الأكبر ، وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر ، تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان ، والسر في إنزال القرآن هو الذتكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود ، قال واصفاً للقيامة واليوم الذي يكشف فيه عن ساق ، واعظاً بذكرها ومحذراً من أمرها : ( الحاقة ) أي الساعة التي يكذب بها هؤلاء وهي أثبت الأشياء وأجلاها فلا كاذبة لها ولا لشيء عنها ، فلا بد من حقوقها فهي ثابتة في نفسها ، ومن إحضار الأمور فيها بحقائقها ، والمجازاة عليها(8/119)
صفحة رقم 120
بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق ، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها ، وهي فالعة أيضاً لأنها غالبة لكل خصم ، من فحققته أحقه أي غالبته في الحق فغلبته فيه ، فهي تحق الحق ولا بد فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين ، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان ، لأن ذلك مقتضى الحكمة لا يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم ، وقصة صاحب الحوت عليه السلام أدل دليل على القدرة عليها .
ولما كان ذلك كله أمراً رائعاً للعقول ، هازاً للقلوب ، مزعجاً للنفوس ، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي ، أكد أمره وزاد في تهويله ، وأطنب في تفخيمه وتبجيله ، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله ، معلماً أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقاً له بأداة الاستفهام مراداً بها التعظيم للشأن ، وأن الخبر ليس كالعيان : ( ما الحاقة ( فأداة الاستفهام مبتدأ أخبر عنه بالحاقة وهما خبر عن الأولى ، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه نحو زيد أي هو ، وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل .
ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق ، عظم التهويل بقوله : ( وما أدراك ) أي في الزمن الماضي ، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب ، أي وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء مع تعاطيك للبحث والمداورة ، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهماً والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم : ( ما الحاقة ) أي إنها بحيث لا يعلم كنهها أحد ولا يدركها ولا يبلغها درايته وكيف ما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك ، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما بنيت سورة ) ن والقلم ( على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم ، وبين حسدهم وعداوتهم
77 ( ) وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ( ) 7
[ القلم : 51 ] أتبعت بسورة الحاقة وعداً لهم وبياناً أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم
77 ( ) كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( ) 7
الحاقة : 4 ]
77 ( ) فهل ترى لهم من باقية ( ) 7
[ الحاقة : 8 ]
77 ( ) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن ( ) 7
[ الأنعام : 6 ]
77 ( ) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ( ) 7
[ يونس : 102 ] ، و
77 ( ) كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ( ) 7
[ مريم : 98 ] فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية .
ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم ، أتبع ذلك(8/120)
صفحة رقم 121
بذكر الوعيد الأخراوي
77 ( ) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ( ) 7
[ الحاقة : 18 ] ثم عاد الكلام إلى ما بنيت عليه سورة ) ن والقلم ( من تنزيهه ( صلى الله عليه وسلم ) وتكريمه مقسماً على ذلك
77 ( ) إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر - ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون ( ) 7
[ الحاقة : 41 ، 42 ] وانتهى نفي ما تقوله منصوصاً على نزاهته عن كل خلة منها في السورتين
77 ( ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ) 7
[ القلم : 2 ] وما الذي جئت به بقول شاعر ولا بقول كاهن بل هو تنزيل من رب العالمين ، وأنه لتذكره للمتقين وإنه لحق اليقين ، فنزه ربك وقدسه من عظيم ما ارتكبوه - انتهى .
فلما بلغ التهويل حده ، وكان سبب الإنكار للساعة ظن عدم القدرة عليها مطلقاً أو لعدم العلم بالجزيئات ، قال دالاً على تمام القدرة والعلم بالكليات والجزيئات ، قال دالاً على تمام القدرة والعلم بالكليات والجزئيات محذراً من أنكرها بانه قادر على تعجيل الانتقام ولكنه لإكرامه لهذه الأمة أخر عذابها إلى الآخرة إلى لمن كان منهم من الخواص فإنه يظهرهم في الدنيا ليتم نعيمهم بعد الموت بادئاً بأشد القبائل تكذيباً بالبعث لكون ناقتهم أول دليل على القدرة عليه ، وقالوا مع ذلك
77 ( ) أبشر منا واحداً نتبعه ( ) 7
[ القمر : 24 ] إلى أن قالوا :
77 ( ) بل هو كذاب أشر ( ) 7
[ القمر : 25 ] وقالوا في التكذيب بها
77 ( ) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ( ) 7
[ المؤمنون : 35 ، 36 ، 37 ] - الآية ، فإن الامر فيهم دائر بين عاد وثمود : ( كذبت ثمود ( وتقديمهم أيضاً من حيث أن بلادهم أقرب إلى قريش ، وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصحية وهي أشبه بصيحة النفخ في الصور المبعثر لما في القبور ) وعاد ( وكان الأصل أن يقال : بها ، ولكنه أظهرها بوصف زادها عظماً وهولاً فقال : ( بالقارعة ) أي التي تقرع ، أي تضرب ضرباً قوياً وتدق دقاً عنيفاً شديداً للأسماع وجميع العالم بانفطار السماوات وتناثر النيرات ونسف الجبال الراسيات ، فلا يثبت لذلك الهول شيء .
ولما جمعهم في التكذيب ، فصلهم في التعذيب لأجل ذلك التكذيب فقال : ( فأما ثمود ( وهم قوم صالح عليه السلام .
ولنما كان الهائل لهم لتقيدهم بالمحسوسات إنما هو العذاب ، لا كونه من معين ، بنى للمجهول قوله : ( فأهلكوا ) أي بأيسر أمر من أوامرنا ) بالطاغية ) أي الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة فرجفت منها الأرض والقلوب .
ولما ذكر المهلكين بالصيحة لأجل التكذيب بالقراعة تحذيراً لمن يكذب بها ، أتبعه المهلكين بما هو سبب لإنفاذ الصيحة وتقويتها دلالة على تمام القدرة على كل نوع من العذاب بالاختيار فقال تعالى : ( وأما عاد ( وهم قوم هود عليه السلام ) فأهلكوا ) أي بأشق ما يكون عليهم وأيسر ما يكون في قدرتنا ) بريح صرصر ) أي هي في غاية ما(8/121)
صفحة رقم 122
يكون من شدة البرد والصوت كأنه كرر فيها البرد حتى صار يحرق بشدته والصوت حتى صار يصم بقوته ، وقال الملوي : أصله صر وهو البرد الشديد أو الحر الشديد ) عاتية ) أي مجاوز للحد من شدة عصفها وعظمة قصفها وعظمة قصفها تفعل أفعال المستكبر الذي لا يبالي بشيء فلم يستطع خزانها ضبطها ، ولم يملك المعذب بها ردها ولا ربطها ، بل كانت تنزعهم من مكامنهم التي احتفروها ومصانعهم التي أتقنوها واختاروها فتهلكهم ، قال الملوي : قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ( لم ينزل قط ماء ولا ريح إلا بمكيال على يد ملك إلا يوم الطوفان فإن الله تعالى أذن للملاء فطغى على الخزان ويوم عاد أذن للريح فعتت على خزانها ) انتهى .
ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد ، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته ، وأنه هو الذي أوجها لا الطبيعة ولا غيرها ، بل إنما كانت بقدرته واختياره قهراً لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة ، فقال مستأنفاً دلالة على ذلك : ( سخرها ) أي قهرها على أن سلطها ، والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار ، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء ، فقال : ( عليهم ( وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عنها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره .
ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور ، وكشف المشكل وإيضاح الخفي ، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقاً لم يتقدم مثله ، فذكر الأيام والليالي ، وقدم الليالي لأن المصايب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ ، ولأن عددها مذكر في اللفظ ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة ، ولأنها سبع ، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريباً في حملة العرش ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال : ( سبع ليال ) أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبداً ) وثمانية أيام ( كذلك حال كونها ) حسوماً ( جمع حاسم أي بحس مانع من التصرف دائم متتابع لا فترة له ، من حسم الكي - إذا تابع فيه بالمكواة ، قاطع لكل خير ، مستأصل له ، فأتت عليهم من غير فترة أصلاً في جميع الوقت فاستأصلتهم لم تبق منهم أحد حتى أن عجزاً منهم(8/122)
صفحة رقم 123
توارت في سرب فانتزعتها وأهلكتها ، وبها سميت أيام العجوز ، أو لأنها عجز الشتاء وهي ذات برد ورياح شديدة وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر ، وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً ولا لم تكن الليالي سبعاً - فتأمل ذلك .
ولما كان الحاسم المهلك ، سبب عنه قوله مصوراً لحالهم الماضية : ( فترى القوم ) أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه : ( فيها ) أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها ) صراعا ) أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار ، جمع صريع ) كأنهم أعجاز ) أي أصول ) نخل ( قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم ) خاوية ) أي متآكلة الأجواف ساقطة ، من خوي النجم - إذا سقط للغروب ، ومن خوي المنزل - إذا خلا من قطانه ، قالوا : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم ، فالوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم من الحياة وتسويدها لهم .
الحاقة : ( 8 - 13 ) فهل ترى لهم. .. . .
) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( ( )
ولما كان هذا أمراً رائعاً لمن له أدنى معقول ، وكان الاستفهام ما يزيد الروعة ، قال مسبباً عن استئصالهم ليكون الإخبار به المستلزم لغاية العلم بالجزيئات كالدعوى بدليلها : ( فهل ترى ) أي إليها المخاطب الخبير الناس في جميع الأقطار ) لهم ) أي خصوصاً ، وأعرق في النفي وعبر بالمصدر المحلق بالهاء مبالغة فقال : ( من باقية ) أي بقاء أو نفس موصوفة بالبقاء ، وأنجى الله سبحانه وتعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرهم الطاغية وهوداً عليه الرسلام ومن آمن به نم بين عاد لم يهلك منهم أحد ، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزيئات كما أن له كمال الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته ، فلا يجعل المسلم أصلاً كالمجرم ولا المسيء كالمحسن .
ولما أخبر تعالى عمن أهلك بالريح ومن اهلك بما سببه الريح تسبيباً قريباً بغير واسطة ، وكان ذلك كله - لخروجه عن العادة - راداً على أهل الطبائع ، أخبر بمن أهلك بما سببه الريح تسبيباً قريباً بغير واسطة ، وكان ذلك كله - لخروجه عن العادة - راداً على أهل الطبائع ، أخبر بمن أهل مما سببته الريح من الماء بواسطة السحاب ، وكانت سبب تطابقه عليهم مع أن كفرهم(8/123)
صفحة رقم 124
بالتعطيل الذي هو أنحس أنواع الكفر للقول بالطبيعة التي تتضمن الإنكار للبعث ، وكان إغراقهم بما يكذب معتقدهم لخروجه عن العادة ، فقال منبهاً على قوة كفرهم بالمجيء : ( وجاء ) أي أتى إتياناً عالياً شديداً ) فرعون ) أي الذي ملكناه على طائفة من الأرض فعتى وتجبر وادعى الإلهية ناسياً هيبتنا وقدرتنا بنقمتنا وأنكر الصانع وقال بالطبائع ) ومن قبله ) أي في جهته وفي حيزه وما يليه وفي السير بسيرته من العلو في الأرض بغير الحق والعتو في الكفر ، وهو ظرف مكان ، هكذا على قراءة البصريين والكسائي بكسر الكاف وفتح الموحدة ، فعم ذلك كل من كان كافراً عاتياً من قبله ومن بعده ، وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل ( بعد ) بزيادة .
ولما كان قوم لوط عليه السلام قد جمعوا أنواعاً من الفسوق لم يشاركهم فيها أحد ، فاشتمل عذابهم على ما لم يكن مثله عذاب ، فكان كل من فعلهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين وعذابهم الذي ما كان مثله قبل ولا بعد ، راداً على أهل الطبائع ، نص عليه من بين من دخل فيمن قبله على القراءتين فقال : ( والمؤتفكات ) أي أهل المدائن المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلاً لما حصل لأهلها من الانقلاب حتى صاروا إياه واتبعت حجارة الكبريت وخسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله وهي قرى قوم لوط عليه السلام ) بالخاطئة ) أي الخطأ أو الأفعال ذات الخطأ التي تتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق والعناد والطغيان .
ولما كان الرسل كلهم جميعاً كالفرد الواحد لاتفاق مقاصدهم في الدعاء إلى الله والحمل على طاعته ، قال مستأنفاً مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح للكثير بإرادة الجنس : ( فعصوا ) أي خالفوا ونابذوا ) رسول ربهم ) أي خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإيداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادهها اغتراراً بإحسانه ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع ، وسبب عن العصيان قوله : ( فأخذهم ) أي ربهم أخذ قهر وغضب ) أخذة ( لم يبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من الأدميين لا بد من أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب ، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه وتعالى بالجزئيات والكليات ، وشمول قدرته ، وتلك الأخذة - مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة - جعلها سبحانه ) رابية ) أي عالية عليهم علية القدر في قوة البطش وشدة الفتك زائدة على الحد نامية بقدر زيادة أعمالهم في القبح ، والربا : النمو ، (8/124)
صفحة رقم 125
وأصله الزيادة ، فأغرق فرعون وجنوده ، وأغرق كل من كذب نوحاً عليه السلام ، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة ، وحمل مدائن لوط عليه السلام بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الحجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه .
ولما كان ربما وقع في وهم التعجب من وجود فرعون ومن بعده من الإخبار بأخذ من قبله على قراءة الجماعة مع أن ( من ) من صيغ العموم ، أشار إلى أنه أهلك جميع المخالفين وأنجى جميع الموافقين ، قال جواباً لذلك السؤال مؤكداً لأجل من يتعنت ولأن ذلك كان مما يتعجب منه ويتلذذ بذكره : ( إنا ) أي على قدرتنا وعظمتنا وإحاطتنا ) لما طغا الماء ) أي فزاد عن الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به فلم يطيقوا ضبطه ولا قاووه بوجه من الوجوه ، ولا وفقوا لركوب السفينة ، فكان خروجه عن العادة راداً على أهل الطبائع .
ولما كان الإيجاد نعمة فكان إنجاء آبائهم من الغرق حتى كان ذلك سبباً لوجودهم نقمة عليهم قال تعالى : ( حملناكم ) أي في ظهور آبائكم بعظمتنا ومشيئتنا وقدرتنا ) في الجارية ) أي السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق ، وهو تعبير بالصفة عن الموصوف ، ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة ، وإنما صنعها بوحي الله تعالى وبحفظه له من أن ينزل في صنعتها ، قال : اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء ، وأغرقنا سوى من في السفينة من جميع أهل الأرض من أدمي وغيره .
ولما بدأ سبحانه وتعالى بثمود الذين هم أقرب المهلكين إلى مكة المشرفة لأن التخويف بالأقرب أقعد ، وختم بقوم نوح عليه السلام لأنهم كانوا جميع أهل الأرض ولم يخف أمرهم على أحد ممن بعدهم ، علل اختيار إنجائهم بالسفينة دون غيرها فقال : ( لنجعلها ) أي هذه الفعلات العظيمة من إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بذلك العذاب أاحد وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد ، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه بإبقائها آية من آياته وأعجوبة من بدائع بيناته وغريبة في الدهر من أعجوباته ) لكم ) أي أيها الأناسي ) تذكرة ) أي سبباً عظيماص لذكر أول إنشائه والموعظة به لتستدلا بذلك على كمال قدرته تعلى وتمام علمه وعظمة رحمته وقهره ، فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه ) وتعيها ) أي ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم ، حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوى في وعاء .
ولما كان المنتفع بما يسمع الحافظ له قليلاً جداً ، دل على ذلك يتوحيد الأذن(8/125)
صفحة رقم 126
فقال موحداً منكراً مع الدلالة على تعظيمها : ( أذن ) أي عظيمة النفع ) واعية ) أي من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله كما نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض .
والوعي : الحفظ في النفس ، والإيعاء : الحفظ في الوعاء ، وفي ذلك توبيخ للناس بقلة الواعي منهم ، ودلالة على أن الأذن الواحدة إلا غفلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم ، وما سواها لا يبالي بهم الله بالة - قاله الأصبهاني والزمخشري وغيرهما .
ولما ذكر القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها ، ودل على قدرته عليها وعلى حكمته بقصص من ذكر على الوجه الذي مر إلى أن ختم بالذين كانت قصتهم أشبه تلك القصص بالقيامة من حيث أن أمر الله فيها عم أهل الأرض وفي زمن يسير ، وكان الناجون منها بالنسبة إلى المهلكين كالشعرة البيطاء في جلد الثور الأسود ، سبب عن جميع ما مضى قوله شرحاً لأمرها : ( فإذا نفخ ( وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأنه ما تأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه من جنده لذلك تأثر عنه ما يريده وذكره وإن كان المسند إليه مؤنثاً للفصل ولكونه غير حقيقي التأنيث وللدلالة على قوة النفخ ) في الصور ) أي القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها سعة فمه كما بين السماء والأرض ، وأسند الفعل إلى المصدر ليفيده بادئ بدء لا ليؤكده وإن كان التأكيد يفهم منه وهو غير مقصود بالذات فقال : ( نفخة ( ولما دل بالفعلة على الواحدة ، أكده دلالة على عظيم قدرته وحقارة الأشياء عنده بقوله : ( واحدة ) أي فهلك الخلائق كلهم ، هكذا قالوا إن هذه النفخة هي الأولى ، قالوا : وعندها خراب العالم ، وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث ، وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه لهم أهيب ، وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما .
الحاقة : ( 14 - 18 ) وحملت الأرض والجبال. .. . .
) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ( ( )
ولما ذكر التأثير في الإحياء ، أتبعه التأثير في الجمادات ، وبدأ بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر فقال : ( وحملت ) أي بمجرد القدرة ) الأرض ) أي المنبسطة ورجت رجاً ) والجبال ) أي التي بها ثباتها فرفعت من أماكنها ، وبستا بساً فكانت هباء منبثاً ، لم يبق فيهما حجر ولا كدية .(8/126)
صفحة رقم 127
ولما أريد قوة الدك والإبلاغ في تأثيره ، جعل الجبال شيئاً واحداً فقال : ( فدكتا ) أي مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطتا ودق بعضها ببعض ) دكة واحدة ) أي فصارتا كثيباً مهيلاً وسويتا بأيسر أمر فلم يميز شيء منهما من الآخر ، بل صار صارا في غاية الاستواء ، من قولهم : ناقة دكاء ، أي لا سنام لها .
وأرض دكاء ، أي متسعة مستوية ، قالوا : والدك والدق - أخوان ، والدك أبلغ ، قال أبو حيان : والدك فيه تفرق الأجزاء ، والدق فيه اختلاط الأجزاء .
ولما ذكر نفخس الصور عنه قوله : ( فيومئذ ) أي إذا دكتا وهي بدل من ( إذ ) كرر لطول الفصل وأفاد تهويلاً لها وتعظيماً ، ونصب الظرف بقوله : ( وقعت الواقعة ) أي التي وقع الوعد والوعيد بها ، فكانت كأنها شيء ثقيل جداً ليس له ممسك .
فما له من ذاته غير السقوط ، وهي القيامة والحاقة والقارعة ، نوع أسماءها تهويلاً لها أي قامت القيامة ، وكان المراد بها النفخة الثانية .
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي فقال : ( وانشقت السماء ) أي هذا الجنس لشدة ذلك اليوم ، ولما كان الشيء لا ينشق إلا لخلل فيه ، سبب عنه قوله تحقيقاً لذلك .
) فهي يومئذ ) أي إذا وقعت الواقعة ) واهية ) أي ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك .
ولما كانت العادة جارية فيما يعرف أن الملك يظهر أنواعاً من عظمته يوم عرض الجند ، قال معرفاً لنا بنحو ما ألفناه : ( والملك ) أي هذا النوع الذي يصدق على الواحد فما فوقه ، والجمع لا يصدق على ما دون الجمع فهذا أشمل ) على أرجائها ) أي نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم يتشقق منها ، قال الضحاك : يكونون بها حتى يأمرهم الله فينزلون فيحطون بالأرض ومن عليها - انتهى .
وقيل : أرجاء الأرض واحدها رجا ، مقصور ، والاثنان رجوان ، فيحيطون بالجن رجوان ، فيحيطون بالجن والإنس فيحشرونهم حشر الصيد لإرادة أخذه .
ولما كان الملك يظهر يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال : ( ويحمل عرش ( ولما كان هذا أمراً هائلاً مقطعاً للقلوب ، قال مؤنساً للمنزل عليه هذا الذكر مؤمناً له من كل ما يحذر : ( ربك ) أي المحسن إليك بكل ما يريده لا سيما في ذلك اليوم بما يظهر من رفعتك .
ولما كان العرش عاماً لجهة الفوق كلها ، أسقط الجار فقال : ( فوقهم ) أي فوق رؤوسهم ) يومئذ ) أي يوم إذ وقعت الواقعة بعدد ما كان تحته من السماوات السبع(8/127)
صفحة رقم 128
والكرسي ) ثمانية ) أي من الملائكة أشخاص أو صفوف يؤيد حملته الأربعة في الدنيا بأربعة أخرى لشدة ذلك اليوم وثقله ، وهو في حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والبغوي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فظاهره أنهم أشخاص ولفظه : ( ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ) وظاهر ذلك أنهم في الدنيا ، وكونهم في الدنيا أربعة فقط ذكره المفسرون وراه الطبراني من طريق ابن إسحاق ، قال : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين ) وهو مذكور في حديث الصور الطويل الذي يرويه أبو يعلى وغيره من طريق إسماعيل بن رافع عن يزيد بن زياد عن القرطبي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه وهذا العدد يحتمل أن يراد به أهل السماوات السبع والكرسي فتلك ثمانية ، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى ، وهو أوفق لإظهار العظمة ، ويمكن أن يراد بهم ثمانية أفراد ويكون حملهم له أظهر في العظمة ليعلم كل من يرى ذلك أن مثلهم لا يقدر على حمل مثله في عظمته وإحاطته ، وهذا هو أظهر المعاني من الأحاديث الواردة فيه ، واختيار هذا العدد أوفق للوجه الذي قبله لأنه يزيد على العدد الموضوع للمبالعة - وهو السبع - بواحدة إشارة إلى أنه أبلغ من عدة المبالغة لأنه إشارة إلى أنك كلما بالغت زاد الأمر على مبالغتك بما هو أول العدد ، وذلك إشارة إلى عدم الانتهاء والوقوف عند حد ، وإلى ذلك يشير أيضاً أن للثمانية من الكسور الصنف والربع والثمن ، وذلك سبعة ، والسبعة عدد جامع لجميع أنواع العدد الفرد والزوج وزوج الزوج وزوج الفرد ، وكل ذلك إشارة إلى المبالغة في أظهار العظمة والكبرياء والعزة وتمثيل لنا بما نعرف من احوال الملوك وإلا :
] فالأمر أعظم من مقالة قائل إن رقق البلغاء أو إن خفموا
إعلاماً بعظمته ذلك اليوم ليخشى العباد فيلزموا أسباب الإسعاد ، وهذا الذي قلته من سر السبعة قد ذكره الإمام بدر الدين بن الدماميني قريب شيوخنا في الكلام على الواو من حاشيته على مغني ابن هشام عن فسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المسمى الكفيل بمعاني التنزيل فقال : ونقل الأستاذ فقال : ونقل الأستاذ عبد الله الكفيف المالقي أنها لغة فصيحة(8/128)
صفحة رقم 129
لبعض العرب أن يقول : واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة - هكذا لغتهم ، ومتى جاء في كلامهم لفظ الثمانية أدخلوا الواو وقد نظم بعض أصحابنا في كون السبعة منتهى العدد أبياتاً وهي :
يا سائلي عن سر كون العدد غايته في سبعة لم تزدما سره إلا انحصار قسيمه في واحد فرد وشيء مسندوذلك الشيء الذي تسنده منحصر في واحد وأزيدفالفرد والفرد إذا ما اجتمعا زوج مع الفرد الذي لم يسندواثنان واثنان إذا ما اجتمعت أربعة تضم مع فيء اليدفتلك سبعة إذا تكاملت أربعة واثنان مع منفردوما أتى من بعده هذا فهو تك رار له لا زائد في العددثلاثة مع مثلها فرد وفر قد مضى وما مضى لا يعددوهكذا أربعة مع مثلها زوج وزوج قد مضى لا تزد
وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل : أكثر أصحاب العدد على أن الواحد لا يدخل في العدد ، فالعدد مصدره الأول الاثنان ، وهو ينقسم إلى زوج وفرد ، فالفرد الأول ثلاثة ، والزوج الأول أربعة ، وما وراء الأربعة مكرر كالخمسة فإنها مركبة من فرد وزوج ، ويسمى العدد الدائر ، والستة مركبة من فردين ، ويسمى العدد التام ، والسبعة مركبة من فرد وزوج ، وتسمى العدد الكامل ، والثمانية مركبة من زوجين وهي بداية الأخرى فصدر الحساب في مقابلة الواحد الذي هو علة العدد وليس يدخل فيه ، وذلك هو فرد لا أخ له .
ولما كان العدد مصدره من اثنين صار منهما المحقق محصوراً في قسمين ، ولما كان العدد منقسماً إلى فرد وزوج ، صار من ذلك الأصل محصوراً في سبعة ، فإن الفرد الأول ثلاثة ، والزوج الأول أربعة ، وهي النهاية ، وما عداها مركب منها ، وكان البسائط عامة الكلية في العدد واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهي الكمال ، وما زاد عليها من المركب الكلي فمركبات كلها ولا حصل لها ، وقال أبو الحكم ابن برجان في تفسير سورة القدر : انتهاء العدد ستة والسابع وترها .
ولما بلغ النهاية في تحذير العباد من يوم التناد ، وكان لهم حالتان : خاصة وعامة ، فالعامة العرض ، والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء ، زاده عظماً بقوله : ( يومئذ ) أي إذا كان ما تقدم .
ولما كان المهول نفس العرض ، بنى فعله للمفعول ولأنه كلام القادرين فقال :(8/129)
صفحة رقم 130
) تعرضون ) أي على الله سبحانه للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للإكرام والتقريب والإثابة ، والمفسد للإبعاد والتعذيب والإصابة ، عبر عن الحساب بالعرض الذي هو جزؤه ، فالمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش ) لا تخفى منكم ) أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه ) لا تخفى منكم ) أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه الخفاء في الدنيا لا من الأعمال ولا من الأنفس وإن كان في غاية الدقة والغموض لأن ذلك يوم الظهور التام من القبور ومن الصدور ، وغير ذلك من الأمور ، ليكون ذلك أجل لسعادة من سعد ، وأقبح لشقاوة من شقي فأبعد ، قال أبو موسى رضي الله عنه : هي ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تتطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله .
الحاقة : ( 19 - 24 ) فأما من أوتي. .. . .
) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( ( )
ولما كان من المعلوم أنهم قسمان : محسن ومسيء ، وكان التقدير : فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله ، فمنكم من تدفع إليه ف يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته ، ومنكم من يعطاها في شمالها فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته ، لأنه اوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته ، عطف عليه مفصلاً له قوله : ( فأما من أوتي ( بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين ) كتابه ) أي الذي أثبت فيه أعمال ) بيمينه فيقول ( لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت أعدائه وتفريح أوليائه ، قيل : إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها ، فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر ، فإذا أنهاه قيل له : قد غفرها الله ، اقلب الصحيفة ، فحيئذ يكون قوله : ( هاؤم ) أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم ، فيها صوت يفهم منه معنى : خذوا ، ويوصل تارة بالكاف وتارة بالهمزة ، اسم فعل ، وإنما اختارهم هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف من كان منهم باطناً من الملائكة والجن وغيرهم ، ومن كان منهم ظاهراً لأن الألف عند الربانيين غيب وإحاطة كما دل عليها مخرجها ، فهي عبارة عندهم عن القائم الأعلى المحيط ، وروي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والهمزة بدء غيبة ولذا كان مخرجها أقصى الحروف الحلقية دلالة على ذلك ، وبدء غيب الله سبحانه وتعالى أفعاله وهي تشمل الظاهر(8/130)
صفحة رقم 131
والخفي أصلها الكاف فهي عندهم ظهور متكامل ذو استقلال ، وهو من يكون من شأنه الظهور ، وأبناء الجنس أحق بهذا ، وقد دل على ذلك مخرج الكاف الذي بعد القاف من أصل اللسان الأقرب إلى وسطه ، ومفعول ( ما ) محذوف عند البصريين دل عليه ( كتابيه ) من قوله : ( اقرءوا كتابيه ( وهاؤه للسكت ، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد بسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي فما الظن بغيره ، وتشير أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم به والوثوق بأنه لا يغير .
ولما كانت حقيقة الحساب ذكر الأعمال والمجازاة عليها ، وكان الآدمي - لأنه مجبول على النقص - لا يقدر أن يقدر الله حق قدره ، وكلما كان الإنسان أعلى كان الاستشعار والنقص من نفسه أكثر ، وكان من نوقض الحساب - كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - عذب ، قال مؤكداً لأن من يرى حاله وكتابه ينكر أن يكون له ذنب أو منه تقصير : ( إني ظننت ) أي في هذا اليوم خوفاً من من سوء أعمالي التي أعرها من نفسي ) أني ملاق ) أي ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى بين يدي الديان ) حسابيه ( لأني كنت جامعاً كما أمرت بين الخوف والرجاء ، فأخاف أن يقابل بين حسناتي وبين النعم فلا تقوم لي أصغر نعمة فأعذب على سيئاتي وأرجوا غفرانه ، فحقق سبحانه رجائي وأمن خوفي ، فعلمت الآن أني لا أناقش الحساب ، وإنما حسابي العرض وهو الحساب اليسير بأن تعرض أعمالي فلا أجازى على سيئها وأثاب على حسنها مناً ورحمة وفضلاً ونعمة ، ويجوز أن يكون الظن في الدنيا ، عبر به عن اليقين إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف الحامل له على العمل ظن الخطر ، وفيه إشعار بهضم النفس لأن الإنسان لا ينفك عن خطرات من الشبه تعرض له وتهجم عليه وإذان بأن مثل ذلك لا يقدح في الجزم بالاعتقاد وتنبيه على أنه يكفي في إيجاب العمل الظن فيكون حينئذ تعليلاً لإعطاء الكتاب باليمين ، وفيه تبكيت للكفار ونداء عليهم بأنهم لم يصلوا في هذا الأمر المحقق إلى مرتبة الظن ، فكيف بالمحقق من العلم فأهملوا العمل له فخالفوا .
ولما كان تقدير هذا واضحاً ، سبب عند ما تأثر عن الحساب اليسير من إعطاء الثواب فقال : ( فهو في عيشة ) أي حالة من العيش .
ولما كان الرضى بالشيء لا يكون إلا إذا بلغ نهاية السؤل وغاية المأمول ، قال مسنداً الرضا إلى العيش كناية عن رضا صاحبها على الوجه الأبلغ : ( راضية ) أي ثابت له الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال ، والعرب لا تعبر عن أكثر(8/131)
صفحة رقم 132
السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها ، والمعتبر في كمال اللذة الرضى أو أنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها .
ولما شوق سبحانه إلى حال صاحب هذه العيشة ، وكانت أمراً إجمالياً ، فصلها وبينها بالإبدال منها زيادة في التشويق فقال : ( في جنة ) أي بساتين جامعه لجميع ما يراد منها .
ولما كان شرف المسكن العلو قال : ( عالية ) أي في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار .
ولما كان من شأن المعالي عسر الوصلو إليه قال : ( قطوفها ) أي جمع كثرة لقطف - بالكسر وهو ما يجنى من الثمرات المجتمعة في عرق من عروقه ) دانية ) أي قريبة المأخذ سهلة التناول جداً ، لراكب والقائم والقاعد والمضطجع ، كل ذلك على حد سواء دائماً من غير انقطاع ولا كلفة على أحد من أهلاه في تناول شيء من ذلك .
ولما كان كون الثمار بهذه الصفة دالاً على كثرة الري ، وكثرة الري دالة على المشرب ، وكانت من مفردات اللفظ عامة المعنى ، فكان قد أفرد الضمائر باعتبار لفظها تنصيصاً على كل فرد فرد جمع باعتبار المعنى إعلاماً باشتراك جميع أهلها في النعم حال الانفراد والاجتماع فقال : ( كلوا واشربوا ) أي مولى لهم ذلك إشارة إلى أن ذلك لا مانع منه وإلى أنهم يؤمرون به صريحاً دلالة على رضا صاحب الجنة لئلا يتنغص عليهم عيشهم بنوع من الأنواع الموهمة للخطر ، وحذف المفعول إيذاناً بالتعميم لئلا يظن أنه يستثني منها شيء فيكون سبب الفتنة كما وقع لآدم صلوات الله وسلامه عليه .
ولما كان المأكل والمشارب في هذه الدار تورث التخم والأمراض وفيها ما لا يلذ ، وكان ما وقع لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما الصلاة والسلام على أكلة واحدة من وخامة العاقبة معروفاً ، قال مؤمناً من ذلك : ( هنيئاً ) أي أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل ولا شيء مؤذ .
ولما شوق إلى المسببات حملهم على أسبابهم وحضهم على المسابقة في تحصيلها والمثابرة والمداومة على الاستكثار منها ؛ فقال زيادة في لذتهم بأن ذلك على وجه العوض لا امتنان عليهم في شيء منه لأحد من الخلق ، فإن أحب ما إلى الإنسان أن يأكل مما أفادته يمينه وحصله بعمله مع ما في ذلك من الشرف : ( بما أسلفتم ) أي أعطيتم من أنفسكم لآخرتكم طوعاً من الأعمال الصالحة وبما تركتم من الدنيا مما هو(8/132)
صفحة رقم 133
سافل بالنسبة إلى ما عوضتم عنه من أعمال القلب والبدن والمال ) في الأيام ( ولما كان سبحانه قد ضمن كل ما يشتغل به الإنسان من مصالح دنياه فهو واصل إليه لا محالة وإن فرغ أوقاته كلها لعباده ربه قال : ( الخالية ) أي الماضية في الدنيا التي انقضت وذهب واسترحتم من تعبها والتي لا شاغل فيها عن العبادة .
إما بترك الاشتغال بالمعاش للواصل إلى درجة التوكل ، وإما بالسعي على وجه الاقتصاد بقصد المساعدة للعباد في أمور هذه الدار والإفضال عليهم وإن لا يكون كلاًّ عليهم من غير اعتماد على السعي بل امتثالاً للأمر مع القناعة بالكفاف .
الحاقة : ( 25 - 33 ) وأما من أوتي. .. . .
) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى قسمين : مقبول ومردود ، وذكر سبحانه وتعالى المقبول بادئاً به تشويقاً إلى حاله وتغبيطاً بعاقبته وحسن مآله ، أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر أحواله فقال : ( وأما من ( ولما كان الدال على المساءة الإيتاء على وجه قبيح ، لا تعيين المؤتي ، قال بانياً للمفعول لذلك وللدلالة على ذل الأخذ وعدم قدرته على الامتناع عن شيء يسوءه : ( أوتي كتابه ) أي صحيفة أعماله - أعاذنا الله من ذلك ) بشماله فيقول ) أي لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما يرى من قبائحه التي قدمها ، وكل ما يأتي مما يوهم سكتة في ذلك اليوم فمن باب المكابرة والمدافعة بالباطل على ما كان عليه في الدنيا ) يا يلتني ( تمنياً للمحال ، وجرى عن نسق ما مضى في البناء للمفعول الدال على ذله وعدم جبلته فقال : ( لم أوت ) أي من مؤت ما ) كتابيه ) أي هذا الذي ذكرني بخبائث أعمالي جزاءها ) ولم ) أي ويا ليتني لم ) أدر ( ولو حاولت الدارية ) ما ) أي حقيقة ) حسابيه ( من ذكر العمل وذكر جزائه ، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا .
ولما تمنى هذين الشيئين ، استأنف مراده بهما فقال لأنه رأى أن ما يستقبله شر مما كان فيه من البرزخ : ( يا ليتها ) أي الموتة التي منها ) كانت القاضية ) أي الباتة الجازمة الملزمة لدوام الموت الخاتمة عليها حتى لا يكون بعدها بعث ولا شيء غير الموت كما اكنت أعتقد في الدنيا ؛ قال الإمام الرازي : وفي الحديث ( تمنوا الموت ) أي إذ ذاك ولم يكن في الدنيا شيء أكره منه عندهم .(8/133)
صفحة رقم 134
ولما كان التمني مفهماً لأنه كان له ضد ما تمناه من البعث على ما كانت تخبره به الرسل ومن الحساب الذي هو سر البعث وخالصه ، وقد كان يقول : إنه يتخلص منه ، على تقدير كونه ، بماله وجاهه قال معللاً لتمنيه : ( ما أغنى ( نافياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه ، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ، أو مستفهماً استفهام إنكار على نفسه وتوبيخ حيث سولت له ما أثمر له كل سوء وكل محال منازعة للفطرة الأولى المؤيدة بما أخبرت به الرسل حتى أوقعه ذلك التسويل في الهلكة ) عني ماليه ) أي الذي منعت منه حق الله وتعظمت به على عباده .
وهذا النفي للأغناء سائغ مفهوم على كل من تقريري النفي والاستفهام .
ولما كان المال سبب الوصول إلى السلطان ، قال نافياً لما أوصله إليه ماله شارحاً لعدم إغنائه ، ) هلك عني ) أي مجاوزاً لي حتى كأني لم أكن فيه ساعة قط ) سلطانيه ) أي تسلطي على الدعاة إلى الله بالشبه الباطلة التي كان يطلب اللسان بها فأساعده عليها مع ظهور بطلانها الملك الذي أوصل إليه المال فعاد لأن ذلك الملك الأعظم هلك والمساعد أبعد مباعد .
ولما كان كأنه قيل : فما يقال ؟ أجيب بأنه يقال للزبانية تعذيباً لروحه بالتوبيخ والأمر بالتعذيب على رؤوس الأشهاد : ( خذوه ) أي أيها الزبانية الذين كان يستهين بهم عند سماع ذكرهم .
ولما كان الأخذ دالاً على الإهانة الناشئة عن الغضب ، سبب عنه قوله : ( فغلوه ) أي اجمعوا يديه غلى عنقه ورجليه من وراء قفاه إلى ناصيته .
ولما كان الغل لما بعده من العقاب ، قال معظماً رتبة عقابه في الشدة والهول بالتعبير بأداة التراخي : ( ثم الجحيم ) أي النار العظمى التي تجمح على من يريد دفاعاً وتحجم عنها من رآها لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغظ والتشدد ) صلوه ) أي بالغوا في تصليته إياها وكرروها لغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ولا تصلوه في أول أمره غيرها لأنه كان لا يألو جهداً أن يحرق قلوب النصحاء بأشد ما يقدر عليه من الكلام وغيره ، وكان يتعظم على الضعفاء ، فناسب أن يصلي أعظم النيران ، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها ، فقال مؤذناً بعدم الخلاص : ( ثم في سلسلة ) أي عظيمة جداً لا ما هو دونها .
ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها ، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال : ( ذرعها ) أي في(8/134)
صفحة رقم 135
أيّ شيء فرضت من طول أو عرض ) سبعون ذراعاً ( يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة ، وأن يكون مبالغة ، والذي يدل على أنها للمبالغة ما رواه الترمذي - وقال : إسناده حسن - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو أن رصاصة مثل هذه ) وأشار إلى مثل الجمجمة ( وأرسلت من السماء إلى الأرض - وهي مسيرة خمسمائة سنة - لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها ) وأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال : ( فاسلكوه ) أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك - أي الحبل - الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلاً ، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال .
ولما ذكر على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه ، فقال بادئاً بأعظمها مؤكداً لأن كل كافر حتى المعطل يقر الله تعالى نوع إقرار ويدعي الإيمان به نوع ادعاء ، لأنه لا يقدر على غير ذلك لما له سبحانه من غلبة الظهور وانتشار الضياء والنور : ( إنه كان ) أي جبلة وطبعاً وإن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغنياء ) لا يؤمن ) أي الآن ولا في مستقبل الزمان ) بالله ) أي الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى .
ولما كانت عظمة الملك موجبة لزيادة النكال لمن يعانده على قدر علوها ، وكان الذي أورث هذا الشقي هذا الخزي هو تعظيمه على أمر الله وعباده ، أشار إلى أنه لا يستحق العظمة غيره سبحانه فقال : ( العظيم ) أي الكامل العظم .
الحاقة : ( 34 - 40 ) ولا يحض على. .. . .
) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( ( )
ولما بين عناده للملك الأعظم بإفساده القوة العلمية بين ما يوجبه الكفر من احتقاره للضعفاء إفساداً للقوة العملية إعلاماً بأنه مكلف بفروع الشريعة كما أنه مكلف بأصولها ، وبياناً لأن عناده لمن فوقه لرداءة طبعه لا لعلو همته ، فقال معظماً لهذا الذنب لجعله في سياق الكفر وبالتعبير بالحض مشيراً به إلى أن فاعل ذلك شديد الاستغراق في(8/135)
صفحة رقم 136
حب الدنيا لأنه لا يمنعه من حث غيره على الخير إلا ادخاره لنفسه : ( ولا يحض ) أي يحمل ويحث ) على ( بذل ) طعام ( أو إطعام ) المسكين ) أي تسهيله بإعانته عليه إن كان موجوداً ، والسؤال في بذله وما يقوم مقامه إن كان مفقوداً ، فكيف بالبذل من عنده ، فإن ذلك لا يحمل عليه إلا الإيمان لخلوه عن حظ ، والتقييد يفهم أنه يحث على خدمة الأكابر الجبابرة ويحب العكوف على أبوابهم والإضافة مع التعبير بالطعام دون الإطعام تشعر بأن الفقراء يملكون كفايتهم من أموال الأغنياء ، فدل ذلك على أنه مع كفره هو أشنع صفات الباطن في غاية الشح والقساوة وعدم المروءة للإعراض عن أسباب التمدح وعن التنزه عن سوء القالة وقدم المروءة للإعراض عن أسباب التمدح وعن التنزه عن سوء القالة وقبيح الذكر ، وذلك أشنع الرذائل ، فلذلك خصص هذين الأمرين ، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحض على طعامهم ويقول : خلعنا نصف السلسة بالإيمان أفلا نخلع الآخر - يعني بالحث على الإطعام ، وذمه على الاستهان بالمساكين يفهم الذم على الاستهانة بمن هم دونهم ممن هو أسوأ حالاً منهم بطريق الأولى .
ولما وصف سبحانه وتعالى بأقبح العقائد وأشنع الرذائل ، سبب عنهما في مقابلة إفساد القوتين العلمية قوله : ( فليس له اليوم ( ولما ذكر الزمان المتعقب للبعث ، ذكر المكان الكائن فيه وهو الدار الآخرة فقال : ( ههنا ) أي في مجمع القيامة كله ) حميم ) أي صديق خالص يحترق له ويحميه من العذاب لأنهم كلهم له أعداء كما أنه هو كان لا يرق على الضعفاء فيما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال .
ولما نفى عنه الجاه لانسلاخه من حزب الملك الولي الودود ، وتحيزه إلى حزب الشيطان العدو والجحود ، أتبعه المقصود بالمال الذي تنشأ عنه جميع الاستمتاعات لأجل ضعفهم الذي وهبه المال وأمره بمواساتهم فيه فقال : ( ولا طعام ( ولما كان الاستثناء معياراً للعموم قال : ( إلا من غسلين ) أي غسالة أهل النار من فيحهم وصديدهم ، فعلين من الغسل ، ويلزم من هذا الطعام أن يكون تحت غيره ليسيل ماء غسالته إليه .
ولما حصر طعامهم فيما لا يقربه أحد باختياره ، حصر من يتناوله معبراً عنهم بالوصف الذي أوجب لهم أكله فقال : ( لا يأكله ( وفرغ الاستثناء تنبيهاً على أن المستثنى هو المقصود حتى كأنه لا مستنثى منه فقال : ( إلا الخاطئون ) أي يأكله المتعمدون للخطايا لا غيرهم ، وهو من خطأ الرجل بوزن فرح مهموزاً - إذا تعمد الذنب ، وأما المخطئ فهو من قصد الخير فلم يصبه بغير تعمد ) فليس عليكم جناح(8/136)
صفحة رقم 137
فيما أخطأتم به ) أي اردتم الصواب فلم تصيبوه ، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها ، وهو بمنزلة ما كانوا يشحون به من أموالهم التي أبطنوها وادخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء .
ولما ذكر سبحانه وتعالى الحاقة التي جعلها دار الحساب للمحسن والمسيء اللذين قسمتها القدرة واقتضتهما الحكمة ، وصوب إليهما القرآن الذي هو ذكر للعالمين بالوعد والوعيد والبشارة والتهديد ، ومن المعلوم ببديهة العقل أنه لا يصح أصلاً في حكمة أحد أن يترك من تحت يده هملاً لا سيما إن كان تقدم إليهم بالأمر والنهي ، وأقام الدليل على قدرته عليها بتعذيب من استأصلهم لأجل تكذيب رسله ليكون عذابهم وتنجية المحسنين منهم مثلاً محسوساً تشهد فيه الحاقة ، لأن من قدر على ذلك كانت له القدرة التامة على كل ممكن ، وذكر ما دلت الحكمة عليه من تنعيم الطائع وتعذيب العاصي بما هو أنسب الأشياء لعمل كل منهما في هذه الأساليب المعجزة مفردات وتراكيب ومعاني ، فدل ذلك على آخر سورة ( ن ) عاد إلى تقريره بوجه آخر ، وهو أنه لتمام علمه وكمال قدرته لا يقرر من كذب عليه على كذبه فضلاً عن أن يؤيده ، فقال مسبباً عن ذلك حين بلغ الأمر في الوضوح إلى النهاية ، ذاكراً ما هو أبلغ من القسم لأن بعض أهل الجدل إذا حجه خصمه يقول : إنما غلبتني بأنك أتقن مني في الجدل بالحق ، فإن الحق معي ، فيحلف له صاحبه أنه ما غالطه ولا تعمد في جدله إلا الحق ، ) فلا أقسم ) أي لا يقع مني إقسام ) بما ) أي بمجموع ما ) تبصرون ) أي لكم أهلية إبصاره من كل ما دخل في عالم الشهادة ) وما لا تبصرون ) أي ما ليس لكم في هذا الدار أهلية إبصاره ، وذلك جميع الموجودات واجبها وجائزها معقولها ومحسوسها ، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت من أفارد هذا المجموع .
ولما أكد غاية التأكيد بما قال من أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتمل التأكيد ، فكان ذلك تأكيداً بعدم التأكيد ، استأنف الخبر عما أخبر أنه لا يحتاج إلى إقسام بإثبات أداة التأكيد لأجل إنكارهم ليكون الكلام جامعاً بين التأكيد بالنفي وبين التأكيد بالإثبات فقال : ( إنه ) أي هذا الذي ختمت به سورة ( ن ) ودل على الساعة بما أتى به نم هذه الأساليب التي هي مع كونها حكيمة معجزة ) لقول ) أي تلاوة ) رسول ) أي أنا أرسلته وعني أخذه ، وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً ، أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي .
ولما كان من شأن الرسول أن لا يبلغ إلا ما أرسله به مرسله ، وكان بعض الرسل(8/137)
صفحة رقم 138
ربما زاد أو نقص تعمداً أو سهواً ، أخبر أن له ( صلى الله عليه وسلم ) من الوصف ما يحفظه فقال : ( كريم ) أي هو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء فهو لا يزيد ولا يزيد ولا ينقص ، وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه .
الحاقة : ( 41 - 46 ) وما هو بقول. .. . .
) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( ( )
ولما أثبت أنه قوله سبحانه وتعالى لأنه قول رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لنا وهولا ينطق عن الهوى ، نفى عنه ما يتقولنه عليه ، فبدأ بالشعر وهو ما يقوله الإنسان من تلقاء نفسه على وزن مقصود صدقاً كان أو كذباً ، ولا بد فيه للتقيد بالوزن والقافية من التكلف الذي القرآن بعيد عنه ، وهو مع مشاركته للسجع في التكلف الناقص للمعنى أعلى منه بالوزن الذي يكسبه الرونق والحلاوة فقال : ( وما هو ) أي هذا الذكر في باطن أمره ولا ظاهره ، وأكد النفي فقال : ( بقول شاعر ) أي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن ، وإنما قيل أنه ليس بقول من هو كذلك لأنه ، لا يوافق الوزن فيه إلا أماكن نادرة بالنسبة إلى مجموع القرآن ، ومن المقطوع به أن ذلك لا يرضى به شاعر وهو أنه ينصب نفسه منصب النظم والارتهان بعهدة الوزن ، ثم يأتي بكلام أكثره غير موزون ، فعلم قطعاً أن الذي وافق الوزن فيه غير مقصود قليس بشعر .
ولما كانت مخالفة القرآن للشعر خفية من حيث أنه لا يعرف ذلك إلا الشعراء وهم قليل في الناس ، والأغلب لا يعرفون ذلك ، ختم الآية بالإيمان الذي هو التصديق بالغيب فقال تعالى : ( قليلاً ما تؤمنون ) أي ما توجدون التصديق الذي هو الإيمان إلا إيجاداً أو زماناً قليلاً ، وذلك لأني قد أخبرتكم بذلك في غير موضع فلم تصدقوا وفيكم شعراء كثير يعرفون معرفة تامة أنه مخالف للشعر ، وقد أخبركم بعضهم بذلك كالوليد بن المغير وعتبة ابن ربيعة وغيرهما ثم لا تتبعون ذلك ثمرته ، وهو الإيمان بالله ورسوله ، وإيمانهم القليل إقرار من أقر من شعرائهم أنه ليس شعر ، وإخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار وإفرادهم بالخالق بالخلق والربوبية ، وهو إيمان لغوي لا شرعي ، ولما كان من يعرف الشعر يعرف النثر فهو أعلى فقدمه ، أتبه النثر فقال : ( ولا بقول كاهن ( وهو المنجم الذي يخبر وهو المنجم الذي يخبر عن أشياء يوهمها لرئي يخبره بذلك ، وأغلبها ليس لها صحة ، وعبارته عن ذلك بالسجع المتكلف المقصود كونه سجعاً الذي كون المعنى فيه تابعاً للفظ للتحلية بمشاكلة المقاطع .
ولما كانت مباينة القرىن للسجع خفية جداص لما فيه من الفواصل في الأغلب وتركها(8/138)
صفحة رقم 139
في البعث فارق لأن الساجعين لا يرضون أن يأتوا بقرينة لا أخت لها ويعدون ذلك وعياً عيباً رديئاً ، وكذا تطويل السجع عن قرينتها وتضعيفها على عديلتها لا يرضى به ساجع ولو أنه هاجع ، ومباينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للكهنة ظاهرة جداً ، فإن الكاهن من ينصب نفسه للدلال على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيراً ، ويأخذ الجعل على ذلك ، ويقتصر على من يسأله ، فعبر لذلك ب ( كاهن ) دون ( ساجع ) أدار أمره على التفكر فقال : ( قليلاً ما ( وأكد أمر القلة والخفاء بإدغام تاء التفعل فقال تعالى : ( تذكرون ( فلذلك يلتبس عليكم الأمر أو على من تلبسون عليه بذلك ، فعلم أن الذي يفرق بينهما موجود فيهم لأنه يرى أن الكتاب تابع للمعنى الصحيح الثابت ، فإن صح غاية الصحة مع وجود القرائن المتوافقة في الروي كان وإلا انتقل عن ذلك إلى قرائن غير متوافقة في روي ولا ما يقاربه ، أو قريبة مفردة مع إمكان جعلها كما قبلها لكن مع نقصان المقصور وطول الكلام ونحو ذلك ، وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدّع يوماً من الأيام علم الغيب ولا نصيب نفسه الشريفة لشيء مما الكهان فيه ولا نقل في ساعة من الدهر عن الجن خبراً ذكراً أنه استفاده منهم ولا مدحهم لذلك كما تفعل الكهان ، بل ذم الفاسقين منهم غاية الذم وقال : إن أكثر ما يأتون به الكذب ، ولا سأل جعلاً عما يدعو إليه ولا اقتصر على من يأتيه اللسؤال ، بل هو ( صلى الله عليه وسلم ) يتبع الناس في مجامعهم يدعوهم إلى الله بإنقاذهم نم الضلال فمباينته للكهان لا يحتاج إلى غير تذكر قليل - كما أشار إليه إدغام تاء التفعل - فثبت أن القول ليس بكهانة ، وقائله والمؤدي له ليس بكاهن ، ونسبة القول إلى المبلغ لكونه مبلغاً واضحة الصحة .
ولما أثبت أنه قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ، ونفى عنه ما قد يلبس من الشعر والكهانة ، ولم يذكر ما كانوا يرمونه به من السحر والأضغاث لأنه عتاد محض لا يرتاب أحد فيه ، وكانت السورة مقصوداً فيه إثبات الحقائق التي قد تخفى ، وصفة بما يحقق ما أريد من نسبته إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( تنزيل ) أي على وجه التنجيم وأشار إلى إرساله إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله : ( من رب العالمين ) أي موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ، ورتب سبحانه نظمه على وجه سهله على كل منهم شيئاً يكفي في هدايته البيانية بخلاف الشعر والكهانة فإنه لا يفهمهما إلا قليل من الناس لا جميع العالمين ، بل كثير من أكابر العلماء وحذاقهم ربما قرىء على أحد منهم الآن القصيدة من قصائد العرب فلا يفهم المراد منها ولا يتضح له بوجه .
ولما كان قد بقي من الأقسام التي كانوا يتقولونها عليه الافتراء في الرسالة بمعنى(8/139)
صفحة رقم 140
أنه عثر على بعض كتب الله تعالى التي نزلت على من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فانتحلها من غير أن يوحى إليه ، وكان الدليل على أن ذلك ليس كذلك أن العادة تحيل أن يطلع شخص من الناس على شيء لم يطلع أحد منهم ولا سيما إن كان ذلك الشخص قليل المخالطة للعلماء فكيف إذا كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ كما كان ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال عاطفاً على ما تقديره : فلو لم يكن تنزيل رب العالمين عليه لم يعجزوا عنه : ( ولو تقوّل ) أي كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً ) علينا ( على ما لنا من صفات العظمة والجلال والبهاء والكمال والكبرياء ) بعض الأقاويل ( التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها ، وهو جمع أفعولة من القول كالأضاحيك جمع أضحوكة ، لا جمع أقوال ، ليكون جمع الجمع ، لأنه يلزم عليه أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال ) لأخذنا ) أي بعظمتنا أخذ قوة وغضب وقهر وإهلاك ، وأكده للإعلام بشدة الغضب من الكذب وشدة قبحه .
ولما كان أخذه أخذاً يتلاشى عنده كل أخذ لأن من افترى على الملوك لا يفعل به إلا ذلك قال : ( منه ) أي خاصة ) بالمين ) أي التي هي العضو الأقوى منه فيها يكون بطشه فنذهبه بشدة بطشنا ، أو اليمين منا ، فيكون كناية عن أخذنا له بغاية القوة ، فإنه قوة كل شيء في ميامنه ، وقيل : إذا أراد الملك إهانة شخص قال : خذه يا فلان ، فيأخذه بيمينه ، فهو كناية عن الإذلال ، وقيل : هذا تصوير قتل الصبر بأشنع صورة ، فإن الملك إذا أراد التخفيف على من يقتله امر السياف فأخذ يساره بيساره ، وضرب بالسيف من ورائه لأنالعنق منخلف أوسع فيكون أسرع قطعاً ولا يرى المقتول لمع السيف ، وإن أراد التعذيب والمبالغة في الإهانة أخذ يده المينى بيده اليسرى وضربه وهو مستقبل له يرى لمع السيف ، وربما وقعت الضربة لضيق المجال من قدام في حنكه فيحتاج إلى ثانية وثالثة فهو أفحش .
ولما صور مبدأ الإهلاك بأفظع صورة ، أتمه مشيراً إلى شدة بشاعته بحرف التراخي فقال : ( ثم لقطعنا ( حتماً بلا مثنوية بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع ) منه الوتين ) أي العرق الأعظم في العنق الثابت الدائم المتين الذي يسمى الوريد ، وهو بين العلباء والحلقوم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نياط القلب ، وفي القاموس : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه - انتهى .
واختير التعبير به لأن مادته بهذا الترتيب تدور على المتانة والدوام ، فلذا كان يفوت صاحبه بفواته ، وقال ابن برجان : عرق متصل بنياط القلب مستبطن للصلب يملأ الجسد كله تسقيه الكبد وهي بيت الدم وهو يجري منها الدم في البدن يأخذ منه ستون عرقاً هي أنهار الدم في الجسد كله ، من هذه(8/140)
صفحة رقم 141
الأنهار تأخذ الجسد ثمانية عشر تسقي الصدر ، وسبعة تسقي العين ، وأربعة تسقي الدماغ ، والوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين ، ثم ينقسم عنه سائر العروق إلى سائر الجسد ، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه ، وفي المائدة عند قوله ) ) والله يعصمك من الناس ( ) [ المائدة : 67 ] ما ينفع هنا .
الحاقة : ( 47 - 52 ) فما منكم من. .. . .
) فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما أتم تصوير ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه من أن يأخذ السيئات أو أعوانه بيمينه ويكبحه كالسيف فيضربه عنقه ، سبب عنه قوله إتماماً لعظمته بقوله : ( فما منكم ) أي أيها الناس ، وأعرق في النفي فقال : ( من أحد عنه ) أي القتل أو المقتول المنقول ، ولما كان ( أحد ) عاماً حقق عمومه واصفاً له ، وأخبر عن ( ما ) على لغة الحجاز بقوله : ( حاجزين ) أي يكون حاجزاً جزماً كثيفاً مانعاً من الوصول إليه فلا غرض يتعلق من عاقل أن ينصح لأحد بنصيحة تعود إلى المنصوح وحده بالنفع ولاحظ للقائل فيها بكذب يكلف نفسه تقوله على ملك لا يقدر ذلك المنضوح أن يحميه من عقوبته على ذلك الكذب ، واختار الإخبار بالجمع لأنه يدل على عدم حجز الفرد من باب الأولى و ( منكم ) حال لتقدمه ، وهذا كله كناية على أبلغ الوجوه عن أن هذا الذكر كلام الله لا شبهة فيه بوجه ، مضموماً ذلك إلى وجوه إعجازه ، فإن ( لو ) لامتناع الثاني لأجل امتناع الأول ، فالتقدير كما يقال في القياس الاستثنائي : لكنا لم نأخذه هذا الأخذ فثبت أنه ما تقول علينا شيئاً ، فثبت أن ماقال كلامنا ثبوتاً تاماً بالبراهان على وجه لا يرام نقضه .
ولما كان هذا كناية عن هذا من غير نظر إلى حقائق مفرداته ولا معنى شيء منها على انفراده ، فكان كأنه قيل : تنزيل من رب العالمين غير متخيل فيه الكذب بوجه ، عطف على ذلك قوله : ( وإنه ) أي القرآن بعد أن كان ذكراً لجميع العالمين ) لتذكرة ) أي مذكر عظيم جداً ) للمتقين ) أي من العالمين لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد .
ولما علم من هذا أنه سبحانه عالم بقسمي والحسن ظواهرهم وبواطنهم ، صرح بالقسم الآخر ، فقال مؤكداً لأجل إنكار الضلال : ( وإنا ) أي بما لنا من العظمة ) لنعلم ) أي علماً عظيماً محيطاً ) أن منكم ( أيها الأرضيون السفليون الذين ليس لهم أهلية العلو إلى تجريد الأرواح عن علائق الجسد الكثيفة ) مكذبين ) أي عريقين في التكذيب فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل ليظهر منكم إلى عالم الشهادة منها ما كنا نعمله(8/141)
صفحة رقم 142
في الأزل غيباً من تكذيب وإيمانه فتستحقون بذلك العقاب أو الثواب ، فلذلك وجب في الحكمة التي لا يكذب بها أحد ولا يشك في أنها خاصة الملك المظهرة للكمال أن يعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجاسمهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاًّ بما يليق به إظهاراً للعدل .
ولما كان سبب التكذيب ستر ما تجليه مرائي العقول من الدلائل ، وكان التقدير : فإنه بشرى للمؤمنين ، ولكنه طواه لأن السيق للتهديد بالحاقة ، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب به ، ) وإنه ) أي القرآن العظيم ) لحسرة ) أي بما يرى من تأويله في الدنيا والآخرة ) على الكافرين ) أي العريقين في الكفر لكونهم كذبوا به لما يظهر لهم من جزائهم وجزاء المؤمنين .
ولما كان كل من الفريقين يذوق جزاءه في الآخرة ، وكان كل أحد سمع القرآن ذاق أنه لا يقدر على الإتيان بشيء يماثله ولا يدانيه ، قال مؤكداً تنزيلاً لهم في عداد الجاهلين : ( وإنه ) أي القرآن أو الجزاء في يوم الجزاء ) لحق اليقين ) أي الأمر الثابت الذي يضاق فيصير لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق .
من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهو فوق علم اليقين ، وفي ذلك إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتحقق لذلك معرفة الحق فيكون مشاهداً للغيوب كمشاهدة المرئيات لما يشاهد من أمثالها ، فأمر البعث يشاهد كل يوم في الليل والنهار وفي العام في النبات وغير ذلك .
ولما كان البعث لهذا المقصد من أعظم الكمال ، وكان عدمه موجباً للنقص ، سبب عن كلا الأمرين إشارة وعبارة قوله آمراً بعد الإخبار في أول المسبحات : ( فسبح ) أي أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص ) باسم ) أي بسبب علمك بصفات ) ربك ) أي الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان ) العظيم ( الذي ملأت الأقطار كلها عظمته ، وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا يتسعه العقول لا سيما عن قولهم : لن يعيدنا ، فإنه سبحانه وتعالى قادر على ذلك لا يعجزه شيء ، وقد وعد بذلك وهو صادق الوعد ، وعدم البعث مخل بالحكمة لظلم أكثر الناس ، وفيه إشارة إلى المتاركة ، وتعجيب من حالهم في تصميمهم على الكذب والعناد ، والجلد على الجدل والفساد ، فقد رجع آخر السورة على أولها بإحقاق الحاقة لنفي ما وقع الخيط فيه في دار الاحتجاب بالأسباب من مواقع النقص ومظنات اللبس ، فيثبت الحق وينفي الباطل فيفرق بين المحسن والمسيء والسعيد والشقي ، فيحق السلام لحزب الرحمن ، ويثبت الهلاك لأصحاب الشيطان ، ويظهر اسمه الظاهر لكل مؤمن وكافر ، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب والله الهادي .
.. .(8/142)
صفحة رقم 143
( سورة المعارج )
وتسمى سأل .
مقصودها إثبات القيامة وأنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومهت وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار ، ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها ، ودل على ذلك بالقدرة في أ ، لها والعلم في اثنائها والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام يفي الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعدما كانوا عليه يفي زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الاتفاق على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب ، فعلم منه أ ، من بعده أولى بذلك لقربهم منها وأتبع ذلك الإعلام أنه دعاإلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين ، وأتبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زمانا - آخرهم زمانات وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، فبدا بسورة المزمل بنبوته ومزيد ترزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذي من مخالفته ، وأتبع ذلك الإنذار بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة ، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها ، اشرفها وأولاها ، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر عظيم جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد ، ثم اتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان ، فاليسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أملاها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه ، ثم عجب في " عم " منهم في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على زقزعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد ، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيله في تصديقه بها مع ما تبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها ، ثم صورها في " كورت " تصوير صارت من رأي عين لو(8/143)
صفحة رقم 144
كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا ، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنأ ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة ، والكل خاضعون مخبتون خاشعون ، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم هنالك صغارا وتحسرا ، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال ، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان ، واستمر على هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختمك بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي الدين وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيها إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة ، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة ، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه لا كتاب بعد هذا الكتاب ينتظر ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها وهو أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية ، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح ، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص ، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية ، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك ، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه ) الرحيم ( الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع لأحد في ادعاء خفائه ) الرحيم ( الذي اصطفى من عباده من وفقهم للفهم عنه والطاعة له ، فكان من أوليائه .
المعارج : ( 1 - 5 ) سأل سائل بعذاب. .. . .
) سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ( ( )
لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى ثبت أمره ، وتساوى سره وجهره ، ودل عليها حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين المحسن والمسيء ، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه من أمورالعمال بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين ، وكان السائل عن شيء يدل على أن السائل ما فهمه حق فهمه ، ولا اتصف بحقيقة علمه ، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال : ( سأل ( ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحدة من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله : ( سائل ( وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز .(8/144)
صفحة رقم 145
ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب الساعة والعذاب وطلبهم تجيل ذلك إنما هو استهزاء ، ضمن ( سأل ) استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليه بما تعدى به فقال ، أو انه حذف مفعول السؤال المتعدي ( بعن ) ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم ، وبرقت له متجلية أشعة الفهوم ، فبين المراد من دلالة النص بقوله : ( بعذاب ) أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً ) واقع ( وعبر باللام تهكماً منهم مثل ) فبشرهم بعذاب ( فقال : ( للكافرين ) أي الراسخين في هذا الوصف بمعنى : إن كان لهم في الآخرة شيء فهو العذاب ، وقراءة نافع وابن عامر بتخفيف الهمزة أكثر تعجيباً أن اندفاع فمه بالكلام وتحركت به شفتاه لأنه مع كونه يقال : سال يسأل مثل خاف يخاف لغة في المهموز يحتمل أن يكون من سأل يسأل ، قال البغوي : وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالعذاب قالوا : من أهل هذا العذاب ولمن هو ؟ سلوا عنه ، فأنزلت .
ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله : ( ليس له ) أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل ) من الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه ، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به ، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه .
ولما كان القادر يوصف بالعلو ، والعاجز يوسف بالسفول والدنو ، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً ، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً ، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء ، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة ، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى العديل : ( ذي المعارج ) أي الدرج التي لا انتهاء لها أصلاً - بما دلت عليه صيغة منتهى الجموع وهي كناية عن العلو ، وسيمت بذلك لأن الصاعد في الدرج يشبه مشية الأعرج ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السماوات ، ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله : ( تعرج الملائكة ) أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق ، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق ) والروح ) أي جبريل عليه السلام ، خصه تعظيماً له ، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة ، وقيل : روح العبد المؤمن إذا قبض ) إليه ) أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته ، وعلق بالعروج أو بواقع قوله : ( في يوم ) أي من أيامكم ، (8/145)
صفحة رقم 146
فيه آدمياً ) خمسين ألف ( وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن القيامة بأن قال : ( سنة ( ولم يقل : عاماً - مثلاً ، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة ، وأن يكون طوله على الكفر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صالة واحدة - انتهى .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى أنه لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار ، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا ، وقال مجاهد والحكم وعكرمة : هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله ، وقد مضى في سورة ) ألم السجدة ( ما ينفع ههنا .
ولما كان هذا كله تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن استعجالهم إياه بالعذاب استهزاء وتكذيباً سواء أريد تصوير العظمة أو العذاب ، سبب عنه قوله : ( فاصبر ) أي على أذاهم ولا ينفك ذلك عن تبليغهم فإنك شارفت وقت ا لانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه ، والصبر : حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام ، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت والباطن بالعرفان ) صبراً جميلاً ) أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال ، ولا شكوى ولا استعجال ، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك ، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها ، وهذا قبل الأمر بالقتال .
المعارج : ( 6 - 13 ) إنهم يرونه بعيدا
) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( ( )
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انطوت سورة الحاقة على أشد وعيد وأعظمه أتبعت بجواب من استبطأ ذلك واستبعده إذ هو مما يلجأ إليه المعاند الممتحن ، فقال تعالى : ( ) سأل سائل بعذاب واقع ( ) [ المعارج : 1 ] إلى قوله ) ) إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً ( ) [ المعارج : 6 و 7 ] ثم ذكر حالهم إذ ذاك ) ) يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ( ) [ المعارج : 11 ] الآية ، ثم أتبع بأن ذلك لا يغني عنه ولا يفيده ) ) إنها لظى ( ) [ المعارج : 15 ] ثم ختمت السورة بتأكيد الوعيد وأشد التهديد ) ) فذرهم يخوضوا(8/146)
صفحة رقم 147
ويلعبوا ( ) 7
[ المعارج : 42 ] إلى قوله
77 ( ) ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ( ) 7
[ المعارج : 44 ] ذلك يوم الحاقة ويوم القارعة - انتهى .
ولما كان كونه تعالى ، بما تقدم في العظمة ، أمراً معلوماً بما له من الآثار من هذا الكون وما فيه ، وكان استبعادهم لما أخبر به أمراً واهياً ضعيفاً سفسافاً لا يكاد يصدق أن أحداً يحاول أن يرد به هذه الأمور التي هي في وضوحها كالشمس لا خفاء بها أصلاً ولا لبس قال مؤكداً : ( إنهم ) أي الكفار المكذبين المستعجلين ) يرونه ) أي ذلك اليوم الطويل أو عذابه ) بعيداً ) أي زمن وقوعه ، لأنهم يرونه غير ممكن أو يفعلون أفعال من يستبعده ) ونراه ( لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو عينا هين ) قريباً ( سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان ، فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة ، وكل آت قريب والبعيد والقريب عندنا على حد سواء .
ولما ذكر عن هذا اليوم ما يبعث على السؤال عنه ، استأنف بيانه مبيناً عظمته فقال : ( يوم ) أي يقع حين ) كالمهل ) أي الشيء المذاب من المعادن في مهل أو دردي الزيت ) وتكون الجبال ( التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها ) كالعهن ) أي الصوف المصوبغ ألواناً المنقوش ، تطيره الريح كالهباء ، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى
77 ( ) ومن الجبال جدد وبيض وحمر ( ) 7
[ فاطر : 27 ] الآية ، قال البغوي : ولا يقال عهن إلا للمصبوغ ، قال : وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً - انتهى .
) ولا يسأل ( من شدة الأهوال ) حميم حميماً ) أي قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشف لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً ، وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب لما كشف الابتلاء عن أنه لا عز إلا بالتقوى - هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وعلى قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول المعنى أنه لا يطالب أحد بأحد كما بعض الحكام في الدنيا من أنه يلزم أقارب من قربه لأنه لا حاجة له بذلك ، لأن القدرة محيطة بالكل على حد سواء .
ولما كان عدم السؤال قد يكون لعدم رؤية بعضهم بعضاً لكثرة الجمع وشدة الزحام وتفرق الناس فيه على حسب مراتب أعمالهم ، استأنف الجواب لمن كأنه يقول : لعل ذلك يترك لعدم رؤيتهم لهم ؟ فقال دالاً بالمجهول والتفعيل على عظمة ذلك التبصير وخروجه عن العادة جامعاً لأن المقصود من الحميم الجنس والجمع أدل على عموم(8/147)
صفحة رقم 148
التبصير ، قال البغوي : وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس - انتهى ، وكان حكمة ذلك أنه أدل على تقطع الأسباب فلا يسأل أحد منهم الآخر عن شيء من أمره لاشتغال كل بنفسه ، فعدم السؤال فعدم السؤال لا للخفاء بل للاشتغال وهم كل إنسان بما عنده : ( يبصرونهم ) أي يبصرهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ويفر كل من الآخر لشغله بنفسه ، ولما تناهى الإخبار بعظمة ذلك اليوم إلى حد لا تحتمله القلوب ، ذكر نتيجة ذلك فقال مستأنفاً : ( يود ) أي يتمنى ويشتهي ) المجرم ) أي هذا النوع سواء كان كافراً أو مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه ، وقيد به لأن المسلم الطائع يشفع فيمن أذن له فيه ولا يهمه شيء من ذلك ، ودل على أن هذه الودادة مجرد تمن بقوله : ( لو يفتدي ) أي نفسه ) من عذاب يومئذ ) أي يوم إذ كانت هذه المخاوف بأعلق الناس بقلبه وأقربهم منه فضلاً عن أن يسأل عن أحواله .
ولما كان السياق للافتداء ، بدأ بأعزهم في ذلك بخلاف ما يأتي في عبس فقال : ( ببنيه ( لشدة ما يرى .
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه لنصره والذب عنه ، أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة وما الافتداء به لا سيما عند العرب من أقبح العار فقال : ( وصاحبته ) أي زوجته التي يلزمه الذب عنها والكون دائماً معها لكونها عديلة روحه في الدنيا .
ولما ذكر الصحابة لما لها من تمام الوصلة ، أتبعها الشقيق الذي لا يلزم من الذب عنه ما يلزم من لاذب عن الحيم وربما كان مبايناً ، فقال : ( وأخيه ( .
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال : ( وفصيلته ) أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه ) التي تؤويه ) أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه ، لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها فهم أعظم الناس حقاً عليه وأعزهم لديه .
المعارج : ( 14 - 21 ) ومن في الأرض. .. . .
) وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( ( )
ولما كانت هذه الآية في الفدية ، قدم الأبعد عن ذلك فالأبعد من جهة النفع والمعرة .
ولما كانت آية عبس في الفرار والنفرة ، قدم الألصق فالألصق ، والأعلق في الأنس فالأعلق .
ولما خص هنا عم فقال : ( ومن في الأرض ) أي من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بد في كل حال منه أو لا .
ولما كان ربما خص ذلك(8/148)
صفحة رقم 149
بغيره ، قال محققاً لإرادة الحقيقة في معنى ( من ) : ( جميعاً ( .
ولما كان الإنسان تكشف له الأمور هناك أي كشف ، وتظهر له أم ظهور ، قال تعالى ) فبصرك اليوم حديد ( فيعلم أنه لا ينجيه من الخطايا المحيطة المحبطة شيء ، دل على الاستبعاد بأداة البعد فقال عاطفاً على ( يفتدي ) : ( ثم ينجيه ) أي ثم يود لو يكون له بذلك نجاة تتجدد له في وقت من الأوقات .
ولما كان هذا مما قد يطمع في النجاة ، فإن بعض الناس يطبع على قلبه فيستغويه الأطماع حتى يعد المحال ممكناً ، قال معبراً بمجمع الروادع والزواجر الصوادع : ( كلا ) أي ليكن للمجرم ردع أيّ ردع عن وداده هذا وترتب أثره عليه ، فإن ذلك لا يكون أبداً بوجه من الوجوه .
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر في المهيع الذي هو فيه ، لأن ذلك إشارة إلى أنه مستحضر في الذهي لا يغيب أصلاً لما للمقام عليه من عظيم الدلالة ، قال بعد هذا الردع العظيم عن النجاة بل عن ودادة تمنيا : ( إنها ) أي النار التي هي سوط الملك المعد لمن عصاه ، المهدد في هذا السياق بعذابها ، المستولية عليه لتكونه سجنه : ( لظى ) أي ذات اللهب الخالص المتناهي في الحر يتلظى أي يتوقد فيأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل ما وجدته كائناً ما كان ) نزاعة للشوى ) أي هي شديدة النزع لجلود الرؤوس بلغيته فما الظن بغيره من الجلد ، وقال في القاموس : الشوى : اليدان والرجلان والأطراف وقحف الرأس وما كان غيره مقتل - انتهى ، وقيل : والجلد كله واللحم تنزع ذلك ثم يعود كماكان في الحال يروا التعب الذي كانوا ينكرونه في أنفسهم في كل لحظة .
ولما كان الخلاص غير ممكن من الداعي القادر على الإحضار كنى عن إحضارها إياهم وجذبها لهم بقوله : ( تدعوا ( ويجوز أن يكون ذلك حقيقة فتقول في الدعاء في نفسها : إليّ يا مشرك إليّ يا منافق ، ونحو ذلك ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب ) من ) أي كل شخص ) أدبر ) أي من الجن والإنس أي من وقع منه إدبارهما من حقه الإقبال عليه سواء كان ذلك الإدبار عنها أو عن الأعمال التي من شأنها التنجية منها ، ولما كان الإدبار قد يكون عن طبع غالب فيكون صاحبه في عداد من يعذر ، بين أن الأمر ليس كذلك فقال : ( وتولى ) أي كلف فطرته الأولى المستقيمة الإعراض عن أساب النجاة .
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين ، فكان الإقبال على إحداهما دالاً على(8/149)
صفحة رقم 150
الإعراض عن الأخرى ، قال دالاً على إدباره بقلبه : ( وجمع ) أي كل ما كان منسوباً إلى الدنيا .
ولما كانت العادة جارية بأن من كانت الدنيا أكبر همه كان همه بجمعه الاكتناز لا الإنفاق ، سبب عن جمعه قوله : ( فأوعى ) أي جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله فيه ، فكان همه الإيعاء لا إعطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة .
ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه ، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله ، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه ، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم : ( إن الإنسان ) أي هذا الجنس ، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه .
ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله : ( خلق هلوعاً ) أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له ، وروي عنه أن تفسيره ما بعده .
ولما كان الهلع شدة الحرص وقلة الصبر ، نشر معناه فقال مقدماً المعمول الذي هو الظرف على العامل بياناً لإسراعه في ذلك : ( إذا مسه ) أي أدنى مس ) الشر ) أي هذا الجنس وهو ما تطاير شروره من الضر ) جزوعاً ) أي عظيم الجزع ، وهو ضد الصبر بحث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت ) وإذا مسه ) أي كذلك ) الخير ) أي هذا الجنس وهو ما يلائمة فيعينه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق ) منوعاً ) أي مبالغاً في الغمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة ، وهذا الوصف ضد الإيمان ، لأنه نصفان : صبر وشكر .
المعارج : ( 22 - 29 ) إلا المصلين
) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ(8/150)
صفحة رقم 151
وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) 73
( ) 71
التقدير : فهو يسارع في آصار ما جبل عليه ما يترتب على الجزع مما لا يجوز في الشرع ومما يترتب على المنع من ذلك أيضاً فيكون من أهل النار ، وكان من القدرة البالغة أن يحفظ سبحانه من أراد من الخزي مع جبلته ويحمله على كسر نفسه مرة بعد أخرى حتى يتلاشى ما عنده من جبلة الشر وتبقى الروح على حالها عند الفطرة الأولى ، فلا تزال تحثه على المبادرة إلى طاعته سبحانه وتعالى وحفظ حدوده ، فكان لا كرامة أعظم من حفظ المكلف لحدود الشرع مع المنافاة لطبعه ، فيكون جامعاً للإيمان بنصفيه : الصبر والشكر ، لما جمع من هذه الأوصاف الثمان المعادة لأبواب الجنة الثمان ، فكان أسباباً لها ، استثنى من هذا النوع الهلوع ولذلك جمع فقال : ( إلا المصلين ) أي المحافظين على الصلاة التي هي مواطن الافتقار ، العريقين في هذا الوصف ، فإنه لا يشتد هلعهم فلا يشتد جزعهم ولا منعهم ، فيكونوا في أحسن تقويم معتدلين مسارعين فيما يرضي الرب ، لأنه سبحانه قرن بما جبلهم عليه من الهلع من طهارة الجسد لطهارة طينته وزكان روحه ما هيأه لتهذيب نفسه مما يسره له من أصدقاء الخير وأولياء المعروف وسماع المواعظ الحسان والإبعاد عن معادن الدنس من البقاع والأقران والكلام والأفعال وغير ذلك من سائر الأحوال ، والملابسة بكل ما يحمل على المعالي من صالح الخلال حتى كانوا من أهل الكمال ، ولذلك وصفهم بما يبين عراقتهم في الوصف لها فقال : ( الذين هم ) أي بكلية ضمائرهم وظواهرهم ) على صلاتهم ) أي التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم - بما أفادته الإضافة ، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض ، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله : ( دائمون ) أي لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها بل يلازمونها ملازمة يحكم بسببها أنها في حال الفراغ منه نصب أعينهم بدوام الذكر لها والتهيؤ لأدائها لأنها صلتهم بمعبودهم الذي لا خير عندهم إلا منه ، فلم يكونوا ناسين لمساؤئهم ولا آسين بمحاسنهم ، وكفى بالصلاة بركة في دلالتها على النجاة من هذا الوصف الموجب لأسباب النار ، وهي عبادة ذات شروط وأركان وأبعاض وهيئات وسنن وآداب مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم ، وهي منقسمة إلى ذات ركوع وسجود ، وإلى ذات سجود بلا ركوع كسجدة الشكر والتلاوة ، وإلى ما لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة .
ولما ذكر زكاة الروح ، أتعبه زكاة عديلها المال ، فقال مبيناً للرسوخ في الوصف(8/151)
صفحة رقم 152
بالعطف بالواو : ( والذين في أموالهم ) أي التي منَّ سبحانه بها عليهم ) حق ( ولما كان السياق هنا لأعم من المحسنين الذين تقدموا في الذاريات اقتصر على الفرض فقال : ( معلوم ) أي من الزكوات وجميع النفقات الواجبة .
ولما كان في السؤال من بذل الوجه وكسر النفس ما يوجب الرقة مع وقاية النفس مع المذمة ، قدم قوله : ( للسائل ) أي المتكلف لسؤال الإنفاق المتكفف .
ولما كان في الناس من شرفت همته وعلت رتبته على مهاوي الابتذال بذل السؤال من الإقلال بذب المقبل على الله للتفطن والتوسم لأولئك فقال : ( والمحروم ) أي المتعفف الذي لا يسأل فيظن غنياً ولا مال له يغنيه فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره ، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وإسراره إلا إلى إفاضة مدامعه بذله وانكساره ، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى ، وقد كان للسلف الصالح في هذا وأشباهه قصب السبق ، حكي عن زين العابدين أنه أنه لما مات وجد في ظهره آثار سود عن غسله كأنها السيور ، فعجبوا منها ، فلما كان بعد أيام قال نسوة أرامل : كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء وأجربة الدقيق على ظهره ففقدناه واحتجنا ، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك ، وحي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه حتى يعلم إلى أين يقصد ، فلم يزل رضي الله عنه حتى جاء إلى بيت نسوة أرامل فقال : أعندكن ماء وإلا أملأ لكن ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهن ، والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة شهيرة جداً .
ولما كان المال قد يصرف لإصلاح الدنيا ، بين أن النافع منه إنما هو المصدق للإيمان فقال : ( والذين يصدقون ) أي يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجددونه كل وقت ) بيوم ( ولما كان المقصود الحث على العلم لأجل العرض على الملك الأعلى عبر بقوله : ( الدين ) أي الجزاء الذي ما مثله وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه والدينونة على النقير والقطمير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة ، فالذين يعملون لذلك اليوم هم العمال ، وأما المصدقون بمجرد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال .
ولما كان الدين معناه الجزاء من الثواب والعقاب ، وكان ربما صرفه صارف إلى الثواب فقط للعلم بعموم رحمته سبحانه ، وأن رحمته غلبت غضبه ، صرح بالعقاب فقال : ( والذين هم ) أي بجميع ضمائرهم ) من عذاب ربهم ) أي المحسن إليهم ، لا(8/152)
صفحة رقم 153
من عذاب غيره ، فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه ، وإذا خيف مع تجليه في مقام الإحسان كان الخوف أولى عند اعتلائه في نعوت الجلال من الكبر والقهر والانتقام ) مشفقون ) أي خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو الدنيا أو فيهما ، فهم لذلك لا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه .
ولما كان المقام للترهيب ، ولذلك عبر عن الرجاء على فعل الطاعات بالدين ، فصار العذاب مذكوراً مرتين تلويحاً وتصريحاً ، زاده تأكيداً بقوله اعتراضاً مؤكداً لما لهم من إنكاره : ( إن عذاب ربهم ) أي الذي رباهم وهم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان ) غير مأمون ) أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه ، بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة لأن الملك مالك وهو تام الملك ، له أن يفعل ما يشاء - ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء .
ولما ذكر التحلي بتطهير النفس بالصلاة وتزكية المال بالصدقة ، ندب إلى التخلي عن امر جامع بين تدنيس المال والنفس وهو الزنا الحامل عليه شهة الفرج التي هي أعظم الشهوات حملاً للنفس على المهلكات ، فقال بعد ذكر التخويف بالعذاب إعلاماً بأنه أسرع إلى صاحب هذه القادورة وقوعاً من الذباب في أحلى الشراب فقال : ( والذين هم ) أي ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم ) لفروجهم ) أي سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً ) حافظون ) أي حفاظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله عنه .
المعارج : ( 30 - 32 ) إلا على أزواجهم. .. . .
) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( ( )
ولما ذكر هذا الحفظ على هذا الوجه ، ذكر ما أذن فيه في أسلوب الاستثناء إشعاراً بأنه كأنه لم يذكر فيخرج إلا بعد تقرير عموم الحفظ لا أنه مقصود ابتداء بقصد الصفة فقال : ( إلا على أزواجهم ) أي بعقد النكاح .
ولما قدمهن لشرفهن وشرف الولد بهن أتبعه قوله : ( أو ما ( عبر بما هو الإغلب لغير العقلاء ندباً غلى إيساع البطان في احتمالهن ) ملكت أيمانهم ) أي من السراري اللاتي هن محل الحرث والنسل اللاتي هن أقل عقلاً من الرجال .
ولما كان الناكح عبادة نادراً جداً ، وكان الأصل في العبادة الخروج عن العادة ، (8/153)
صفحة رقم 154
وإن لم يتجرد للعبادة كن ملوماً ، اكتفى في مدحه بنفي اللوم عنه ، وأكده لأن الأصل كان استحقاقه للملام لإقباله على تحصيل ما له من المرام فقال مسبباً عن المستثنى : ( فإنهم ) أي بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك ) غير ملومين ) أي في الاستمتاع بهن من لائم ما - كما نبه عليه بالبناء للمفعول - فهم يصحبونهن قصداً للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله .
ولما أفهم ذلك تحريم غير المستثنى ووجب الحفظ للفروج عنه ، صرح به على وجه يشمل المقدمات فقال مسبباً عنه : ( فمن ابتغى ) أي طلب ، وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب ) وراء ذلك ) أي شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى ، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة أحنسها وأجملها .
ولما كان الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بتسبب من الفاعل ربط بالفاء قوله : ( فأولئك ) أي الذين هم في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة ) هم ) أي بضمائرهم وظواهرهم ) العادون ) أي المختصون بالخروج عن الحد المأذون فيه .
ولما ذكر العادي أتبعه الواقف عند الحدود فقال : ( والذين هم ) أي ببذل الجهد من توجيه الضمائر ) لأماناتهم ) أي كل ما ائتمنهم الله عليه من حقه وحق غيره .
ولما كان ذلك قد يكون من غير عهد ، قال مخصصاً : ( وعهدهم ) أي ما كان من الأمانات بربط بالكلام وتوثيق ) راعون ( أيحافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار .
المعارج : ( 33 - 38 ) والذين هم بشهاداتهم. .. . .
) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( ( )
ولما كان أجل العهود والأمانات ما كان بإشهاد قال مبيناً لفضل الشهادة : ( والذين هم ) أي بغاية ما يكون من توجيه القلوب ) بشهاداتهم ( التي شهدوا بها أو يستشهدون بها لطلب أو غيره ، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها ) قائمون ) أي يتحملونها ويؤدونها على غابة التمام والحسن أداء من هو متهيئ لها واقف في انتظارها ولما كانت أضداد هذه المذكورات نقائص مهلكات ، وكان الأنفس - لما لها من النقص - نزاعة إلى النقائص ميالة إلى الدسائس ، ذكر اسبحانه بالدواء المبرئ من كل(8/154)
صفحة رقم 155
داء ، فقال مشيراً إلى حفظ أحوال الصلاة وأوصافها بعد ذكر الحفظ لذواتها وأعيانها تنبيهاً على شدة الاهتمام بها : ( والذين هم ( ولما وسط الضمير إشارة إلى الإقبال بجميع القلب قدم الصلة كا فعل بما قيل تأكيداً وإبلاغاً في المراد إلى أقصى ما يمكن كما لا يخفى على ذي ضوق فقال : ( على صلاتهم ( من الفرض والنقل ) يحافظون ) أي يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم أو يسابقون غيرهم في حفظها لأوقاتها وشروطها وأركانها ومتمماتها في ظواهرها وبواطنها من الخضوع والمراقبة ، وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ولا بد ناهية لفاعلها ( أن الصلاة ) الكاملة ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها ، ولكون السياق هذا للتخلي عن الأوصاف الجارة إلى الكفر وحد الصلاة إشارة إلى أنه يكفي في ذلك الفرائض وإن كان الجاس يشمل ، وفي المؤمنون السياق لأهل الرسوخ في المحاسن ، فلذلك جمع بين النوعين : الإفراد في الأول لينصب بادئ بدئ إلى الفرائض ، والجمع في بعض القراءات ليفهم مع ذلك النوافل بأنواعها ، وفي فتح الأوصاف بالصلاة وختمها بها من بيان جلالتها وعظمتها أمر باهر .
ولما ذكر حلاهم أتبعه ما أعطاهم فقال مستأنفاً ومستنتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة : ( أولئك ) أي الذين هم في غاية العلو لمان لهم من هذه الأوصاف العالية ، وعبر بما يدل على أنه عجل جزاءهم سبحانه فقال : ( في جنات ) أي في الدنيا والآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً ، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور ، وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور ، وضدها النار ، وزادهم على ذلك بقوله : ( مكرمون ( معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره لأنه سبحانه قضى بأن يعلو مقدارهم حتى يكونوا أعظم مشخص ؟ لهم في الغيب مبالغاً في إكرامهم عند المواجهة ليكون لهم نصيب من خلق نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ( لقيه يوم بني قريظة علي رضي الله عنه وكان قد سبقه إليهم فقال : يا رسول الله ، ما عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخباث ؟ فقال : ولم ، لعلك سمعت بي منهم أذى ، لو قد دنوت منهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ، ثم دنا منهم فقال : هل أخزاكم الله يا إخوان القدرة والخنازير ، فقالوا : مه يا أبا القاسم ما(8/155)
صفحة رقم 156
كنت جهولاً ) وكلموه بأحسن ما يمكنهم ، وكذا كانت معه قريش قبل الهجرة في أكثر أحوالهم ، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيتلقاهم الملائكة بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى حين دخولهم إلى قصورهم .
ولما تحرر بهذا الكلام الألهي الذي يشك عاقل في أن مخلوقاً لا يقدر عليه ، وأنه لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا شريك له ، العالم بكل شيء ، القدر على كل شيء ، أنه لا يتفصى عن نقائص الإنسان حتى يتخلص من ظلمات النقصان إلى نور الإحسان إلا من لازم هذه الأوصاف وزكى نفسه بها ليصير كاملاً مع العلم القطعي عند المسلم والكافر أن الكمال سبب السعادة ، وأن الإنسان مطبوع على ما صدر به سبحانه من النقائص ، علم أن المتصفين بهذه الأوصاف هم المختصون بالسعادة بالأخروية ، وكان الكفار يأتون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به ، وكان العقال لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على هيئة الإسراع إلا لتحصيل السعادة ، سبب عن ذلك قوله معبراً عن عظمة القرآن بما حاصله أنهم حين يسمعونه يصيرون لشدة ما يفزعهم أمره لا يتمالكون فيفعلون أفعال من لا وعي له : ( فمال الذين كفروا ) أي أي شيء من السعادة للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرارا بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس ، حال كونهم ) قبلك ) أي نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك ) مهطعين ) أي مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مالك هيبة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه .
ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات ، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه ، فلم يدعه يتأمل ، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء : ( عن ) أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة ) اليمين ) أي منك حيث يتمنون به ) وعن الشمال ) أي منك وإن كانوا يتشاءمون به ) عزين ) أي حال كونهم جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة ، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزى إليه الأخرى ، جمع سلامة شذوذاً .
ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا فيما يتحقق أنه(8/156)
صفحة رقم 157
مسعد ، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي أن يكون إلا فيما تحصل به السعادة الأبدية ؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له مع أنه كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا : إن كان ما يقول حقاً من أمر البعث والجنة لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً عنهم في قوله : ( ) ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ( ) [ فصلت : 50 ] وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لانه خير في نفسه الأمر ، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به ، ولا يدري أنه لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت ، أو يكون شيء بغير إرادته : ( أيطمع ) أي بهذا الإتيان ، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له .
ولما كان إيتانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال : ( كل امرئ منهم ) أي على انفرادنه ، ولما كان المحبوب دخول الجنة لا كونه من مدخل معين ، قال بانياً للمفعول : ( أن يدخل ) أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن ) جنة نعيم ) أي لا شيء فيها غير النعم في كل ما فيها على تقدير ضبطه .
المعارج : ( 39 - 44 ) كلا إنا خلقناهم. .. . .
) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ( ( )
ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي : لا يدخل ، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال : ( كلا ) أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له - بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء .
ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال : فلان خلق من كذا ، علل ذلك بقوله مؤكداً ، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال : ( إنا ( على ما لنا من العظمة ) خلقناهم ( بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها ) مما يعلمون ) أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى ، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى ، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض ، فهي يتحلب منها البول والعذرة ، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص ، فلا يصلحون لدار الكمال إلا(8/157)
صفحة رقم 158
بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال ، روى البغوي بسنده عن بشر بن حاش رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال : ( يقول عز وجل : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق ، وأنّى أوان الصدقة ( انتهى .
ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشار عظيمة إلى ما كانوا يقولون : إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه الدنيا بهذه النعم الظاهرة إلا هو سبحانه ، وقد فضل المؤمنين بالنعم الباطنة التي زادتهم في التمكن فيها التزكية بهذه الأوصاف العملية الناشئة عن الصفة العلمية ، وهو قادر على أن يضم إلى النعم الباطنة النعم الظاهرة ، ولذلك سبب عنه قوله : وأكد بنفي القسم المشير إلى عدم الحاجة إليه لكثرة الأدلة المغنية عنه لما لذلك المقسم عليه من الغرابة في ذلك الوقت لكثرة الكفار وقوة شوكتهم : ( فلا ) أي فتسبب عن خلقنا لهم من ذلك المنبه على أنا نقدر على كل شيء نريده وأنه لا يعجزنا شيء أي لا ) أقسم ( فلفت القول إلى أفراد الضمير معرى عن مظهر العظمة لئلا يتعنت متعنت في أمر الواحدانية ) برب ) أي مربي وسيد ومبدع ومدبر ) المشارق ( التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره ، والقانون القويم الذي أتقنه وسخره ، ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة ) والمغارب ( كذلك على هذا الترتيب المحكم الذي لا يعتريه اختلال ، وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة ، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب ، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده كما يريده من غير كلفة ما .
ولما كان المعنى : لا أقسم بذلك وإن كان عظيماً لأن الأمر في وضوحه لا يحتاج إلى قسم ، كما لو قال خصم لخصمه : احلف ، فيقول له : الأمر غني عن حلفي إذ يحتاج إلى اليمين من لا بينة له ، ثم يأتي من البينات بما لا يكون معه شبهة ، وكانوا في تفضيل أنفسهم - مع الاعتراف لله بالقدرة - كالمنكرين للقدرة على قلب الأمر ، أكد قوله عائداً على مظهر العظمة بعد دفع اللبس بما هو في وضوحه أجلى من الشمس : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) لقادرون ( بأنواع التأكيد بالأداة والأسمية والالتفات إلى مظهر(8/158)
صفحة رقم 159
العظمة في كل من الاسم والخبر ، فكان في إخباره بعد الإقسام مع التأكيد إشارة إلى أعلى مراتب التأكيد ) على أن نبدل ) أي تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم ) خيراً منهم ) أي بالخلق أو تحويل الوصف فيكونوا أشد بسطة في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً ووجاهة وحزماً وخدماً ، فيكونوا عندك خلقاً على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق وكل ما يضيق به صدرك ، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر ، والتمكن في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة ، فرجوا الكرب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال .
ولما كان الإنسان قد يفعل شيئاً ثم ينقض عليه ، أخبر أنه سبانه على غير ذلك فقال : ( وما ( وأكد الأمر بالأسمية الكائنة في مظهر العظمة فقال : ( نحن ( وأعرق في النفي فقال : ( بمسبوقين ) أي من سابق ما يغلب على شيء لم نرده بوجه من الوجوه ، ولذلك أتى باسم المفعول .
ولما ثبت أن له سبحانه العظمة البالغة الباهرة من شمول العلم وتمام القدرة ، فأنتج اعتماد أهل حزبه عليه وإعراضهم عن كل ما سواه ، سبب عن ذلك قوله تهديداً للمخالفين وتسلية للمؤالفين : ( فذرهم ) أي اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم ) يخوضوا ) أي يفعلوا في مقالهم وفعالهم الذي لا شيء منه على إتقان بل هو كفعل الخائض في الماء الذي لا يضع رجله في موضع يعلم أنه يرضيه ، فهو بصدد أن يقع أو يغرق ) ويلعبوا ) أي يفعل فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان والتعطل عما يهم من عظيم الشأن .
ولما كان ما توعد الله من أحوال الآخرة لا بد من وقوعه كان كأنه قادم على الإنسان والإنسان ساع بجهده إليه ، فلذلك عبر بالمفاعلة فقال : ( حتى يلاقوا ( ولما كان ما يقع للكفار منه أعظم ، كان ذلك اليوم كأنه خاص بهم فقال : ( يومهم الذي ( ولما كان الوعيد - وهو ما كان من الخبر تخويفاً للمتوعد - صادعاً للقلوب إذا كان من القادر من غير حاجة إلى ذكر المتوعد ، بني المفعول قوله : ( يوعدون ( وهو يوم كشف الغطاء الذي أول تجليته عند الغرغرة ونهايته النفخة الثانية إلى دخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره ، والآية منسوخة بآية السيف .
ولما كان ما بعد النفخة الثانية أعظمه وأهوله ، أبدل منه قوله : ( يوم يخرجون ((8/159)
صفحة رقم 160
أي هؤلاء الذي يسألون عنه سؤال استهزاء ويستبعدونه ، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة ) من الأجداث ) أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع الحافر الخف ، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ ، فإن الجدث القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم ) سراعاً ) أي نحو صوت الداعي .
ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة ، وعادتهم - هم بالخصوص - المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي عليه من الخساسة خفة منهم في العلوم وطيشاً في الحلوم قال : ( كأنهم إلى نصب ) أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول : هذا نصب عيني وضرب الأمير - هذا على قراءة الجماعة بالفتح ، وعلى قراءة ابن عامر وحفص بالضم : إلى علم أو شيء يبعدونه من دون الله على ما فيه من الداء القاتل والبلاء ، أو الحجر يذبحون عليه ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : النَصْب والنُصْب والنُصُب : الداء والبلاء : والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً ، والنَصْب والنَصَب : العلم المنصوب ، والنُصْب والنُصُب : كل ما عبد من الله ، والجمع أنصاب ، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح عليها لغير الله ، وانصاب الحرم : حدوده ، وقال أبو حيان : والنصب ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعاً إليه نم علم أو بناء أو صنم ، غلب في الأصنام حتى قيل : الأنصاب ) يوفضون ) أي يعجلون عجلة من هو ذاهب إلى ما يسره حتى كأنه يطرد إليه كما كانوا يسرعون إلى أنصابهم .
ولما كان إيفاضهم إلى الأنصاب على حال السرور ، أخبر أن هذا على خلاف ذلك ، وأن ذكر النصب وتصير حالة الإتيان إليه ما كان إلا تهكماً بهم فقال : ( خاشعة ) أي منكسرة متواضعة لما حل بها من الذل والصغار ، وأحلقها علامة التأنيث زيادة في هذا المعنى ومبالغة فيه بقوله : ( أبصارهم ( .
ولما كان خشوعها دائماً فعبر بالاسم ، وكان ذلهم يتزايد في كل لحظة عبر بالفعل المضارع المفيد للتجدد والاستمرار فقال : ( ترهقهم ) أي تغشاهم فتعمهم ، وتحمل عليم فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع إليهم ) ذلة ( ضد ما كانوا عليه في الدنيا لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة ، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة .
ولما صوره بهذه الصورة أشار إلى أن هذا ما تدركه العقول من وصفه وأنه أعظم(8/160)
صفحة رقم 161
من ذلك فقال : ( ذلك ) أي الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علو الرتبة في العظمة ) اليوم الذي كانوا ) أي في حال الدنيا على غاية ما يكون من المكنة في الوعيد .
ولما كان الوعيد لا يتحقق إلا إذا كان من القادر ، وإذا كان كذلك كان مخفياً موجعاً من غير ذكر من صدر عنه ، بني للمفعول قوله : ( يوعدون ) أي يجدد لهم الإيعاد به في الدنيا في كل وقت لعلهم يتعظون فترق قلوبهم فيرجعون عماهم فيه من الجبروت ، وهذا هو زمان العذاب الذي سألوا عنه أول السورة ، فقد رجع كما ترى آخرها على أولها أي رجوع ، وانضم مفصلها غلى موصلها انضمام المفرد إلى الجموع - والله الهادي إلى الصواب .
.. .(8/161)
صفحة رقم 162
سورة نوح
مقصودها الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر " سأل " من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم ، ومن القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون وبه لا هون ، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك ، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبهم له في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور ) بسم الله ( الذي له الكمال كله من الجلال والإكرام ) الرحمن ( الذي عم بما أفاضه من ظاهر الإنعام ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بلزوم الطاعة في الابتداء وإتمام النعمة في الختام .
نوح : ( 1 - 4 ) إنا أرسلنا نوحا. .. . .
) إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما ختمت ( سأل ) بالإنذار للكفار ، وكانوا عباد أوثان ، بعذاب الدنيا والآخرة ، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام ، وكان قومه عباد أوثان ، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر ، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبورك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم ، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم ، وابتدأها بالإنذار تخويفاً منعواقب التكذيب به ، فقال مؤكداً لأجل إنكاهرم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة الباهرة البالغة ) أرسلنا نوحاً ( وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم ) إلى قومه ) أي الذين كانوا في غاية لاقوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن(8/162)
صفحة رقم 163
يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ويكرمونه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان ، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين .
ولما بان مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم ، وكان الإرسال متضمناً معنى القول ، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال : ( أن أنذر ) أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً ) قومك ( من الاستمرار على الكفر .
ولما كان المقصود ( إعلامهم بذلك ) في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره ، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال : ( من قبل أن يأتيهم ) أي على ما هم من الأعمال الخبيثة ) عذاب أليم ( .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر على قومه في قوله :
77 ( ) فاصبر صبراً جميلاً ( ) 7
[ المعارج : 5 ] وجليل الإغضاء في قوله :
77 ( ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا ( ) 7
[ المعارج : 42 ] أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه قومه إلى الإيمان ، وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له ( صلى الله عليه وسلم ) في غير هذا الموضع
77 ( ) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ( ) 7
[ الأحقاف : 35 ]
77 ( ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( ) 7
[ فاطر : 8 ] فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك ، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً
77 ( ) قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ( ) 7
[ نوح : 4 - 7 ] ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير دعائه ، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله ، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام
77 ( ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( ) 7
[ نوح : 26 ] وذلك ليأسه من فلاحهم ، وانجر في هذا حض نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) على الصبر على قومه والتحمل منهم كما صرح به في قوله تعالى :
77 ( ) خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ( ) 7
[ الأعراف : 199 ] وكما قيل له قبل
77 ( ) فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ( ) 7
[ القلم : 48 ]
77 ( ) وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( ) 7
[ هود : 120 ] انتهى .
ولما أخبر عن رسالته ومضمونها بما أعلم من ان الفساد كان غالباً عليهم ، استأنف قوله بياناً لامتثاله : ( قال ) أي نوح عليه السلام : ( يا قوم ( فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم .(8/163)
صفحة رقم 164
ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب ، أكد قوله : ( إني لكم نذير ) أي مبالغ في النذارة ) مبين ) أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من ضدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه ، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي .
ولما كان ترك ما أنذرهم بسببه من الكفر لا يغنيهم إلا أن آمنوا ، وكان الإيمان مخلصاً عن عواقب الإنذار لأنه لا يصح إلا مع ترك جميع أنواع الكفر ، فسر الإنذار بقوله : ( أن اعبدوا الله ) أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال ، وذلك بأن تخلصوا التوجه إليه فإن غناه يمنع من أن يقبل عبادة فيه شرك وهذا هو الإيمان ) واتقوه ) أي اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه ، فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته ، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء .
ولما كان لا سبيل إلى معرفة ما يرضي الملك ليلزم وما يسخطه ليتكر إلا منه ، ولا وصول إلى ذلك إلا من خاصته ، ولا خاصة مثل رسوله الذي ائتمنه على سره قال : ( وأطيعوا ) أي لأعرافكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم ، وأدلكم على اجتلاب آدب تهديكم ، واجتناب شبهة ترديكم ، ففي طاعتي ، فلا حكم يرضي الملك عنكم ، وهذا هو الإسلام ، فقد جمع هذا الدعاء الإيمان والإسلام والعمل ، وهي الأثافي التي تدور عليها أسباب الفلاح .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم ، أشار إلى ذلك مرغباً متسعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر : ( يغفر لكم ) أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً .
ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام قال : ( من ذنوبكم ) أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر - هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل ، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه .
ولما كان الإنسان ، لما يغلب عليه من النسيان ، والاشتغال بالآمال ، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه ، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية - وإن كان مع رغد العيش - عدم ، مهدداً لأنه قادر على الإهلاك في كل حين : ( ويؤخركم ) أي تأخيراً ينفعكم ، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا(8/164)
صفحة رقم 165
يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة أو العصيان فقال : ( إلى أجل مسمى ) أي قد سماه الله وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ، فيكون موتكم على العادة متفرقاً وإلا أخذكم جميعاً بعذاب الاستئصال ، فهذا من علم ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وذلك أنه علم أنهم إن أطاعوا نوحاً عليه السلام كان موتهم على العادة وإلا هلكوا هلاك نفسه واحدة ، وعلم أنهم لا يطيعونه ، وأن موتهم إنما يكون بعذاب الاستئصال .
ولما كان الإنسان مجبولاً على الأطماع الفارغة ، فكان ربما قال للتعنت أو غيره : لم لا يخلدنا ؟ قال فطماً عن ذلك مؤكداً لاقتضاء المقام له : ( إن أجل الله ) أي الذي له الكمال كله فلا راد لأمره ) إذا جاء لا يؤخر ( وأما قبل مجيئه فببما يقع الدعاء والطاعات والبر في البركة فيه يمنع الشواغل وإطابة الحياة ، فبادروا مجيء الأجل بالإيمان لأنه إذا جاء لم يمكنكم التدارك ، ولا ينفعكم بعد العيان الإيمان .
ولما كان من يعلم هذا يقيناً ، ويعلم أنه إذا كشف له عند الغرغرة أحب أن يؤخر ليتوب حين لاتأخير ، أحسن العمل خوفاً من فوات وقته وتحتم مقته ، نبه على ذلك بقوله : ( لو كنتم تعلمون ) أي لو كان العلم أو تجدده وقتاً ما في غرائزكم لعلمتهم تنبيه رسولكم ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله يفعل ما يشاء ، وأن الأجل آت لا محالة فعملتم للنجاة ، ولكنكم تعملون في الانهماك في الشهوات عمل الشاك في الموت .
نوح : ( 5 - 7 ) قال رب إني. .. . .
) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ( ( )
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) أطول الأنبياء عمراً ، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم ، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً : ( قال ( منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره ، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال : ( رب ( ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً ، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه ، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى : ( إني دعوت ) أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ) قومي ) أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون .(8/165)
صفحة رقم 166
ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال : ( ليلاً ونهاراً ( فعبر بهذا عن المداومة .
ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال : ( فلم يزدهم دعاءي ) أي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها ) إلا فراراً ) أي بعداً عنك ونفوراً وبغضاً وعراضاً حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ، وأسند الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها .
ولما كان الفرار مجازاً عن رد كلامه ، عطف عليه ما يبينه ، فقال مؤكداً لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق : ( وإني كلما ( على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات ) دعوتهم ) أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك .
ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح ، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال : ( لتغفر لهم ) أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محواً بالغاً فلا يبقى لشيء من ذلك عيناً ولا أثراً حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم ) جعلوا ) أي في كل دعاء ، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال : ( أصابعهم ( كراهة له واحتقاراً للداعي ) في آذانهم ( حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك ، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله : ( واستغشوا ثيابهم ) أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع لكلامه والنظر إليه إظهاراً لكراهته وكراهة كلامه ، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً ) وأصروا ) أي داموا على سوء أعمالهم دواماً هم في غاية الإقبال عليه ، من أصر الحمار على العانة - إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها ، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته ) واستكبروا ) أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه ، وأكد ذلك بقوله : ( استكباراً ( تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة ، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك ، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحاً عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار ، وباطناً بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل ، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول : إنهم وافقوه بالفعل ، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم ، والغطية هي الغفر ونخحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها ، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفاً لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف ، (8/166)
صفحة رقم 167
ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه ، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان ، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض ، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولاً ) ) إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ( ) [ الفرقان : 44 ] ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان ، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة ، أنه قال له : ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضاً ، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد ، وهو عندي يحاشى عن ذلك ، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحاً نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول : الفاعل مرفوع ، فإنهم يضحكون منه ، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض - هذا مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن طولون ، فاختبره فوجده في العلم كما وصف ، فسأله عن سبب ثباته على النصارنية مع علمه فقال : السبب تناقضها مع أنه دانبها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون ومدبرون ، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك ، فدنت بها ، فقال له : اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت ، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك ، وهو القضاء والقدرة الذي حمل كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك ، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه ، وفي هذا تصديق قوله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ) وهم أهل الكتاب ، وقد أشبعت القول في هذافي كتابي ( القارض في تكفير ابن الفارض ) الذي بينت فيه عوارهم ، وأظهرت عارهم ، وكذا كتابي ( صواب الجواب للسائل المرتاب ) و ( تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض ) ولم أبق على شيء من ذلك شيئاً من لبس - ولله الحمد .
نوح : ( 8 - 13 ) ثم إني دعوتهم. .. . .
) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( ( )(8/167)
صفحة رقم 168
ولما ذكر دعاءه في جميع الأوقات مع إعراضهم ، وكان هذا مؤيساً وموجباً للإقلاع عن الدعاء ، وإن وجد الدعاء بعده في غاية البعد منه على إيجاده مع الاستغراق به لجميع الحلات كما استغرق جميع الأوقات ، فعبر بأداة التراخي للدلالة على تباعد الأحوال فقال : ( ثم ( وأكد لنحو ما مضى من أن تجرد إقبالهم على دعائهم بعد ذلك لا يكاد يصدق فضلاً عن الإكثار منه فقال : ( إني دعوتهم ) أي إلى الإيمان ومنابذة الشيطان .
ولما كان الجهر أحد نوعي الدعاء ، نصبه به نصب المصدر فقال : ( جهاراً ) أي مكاشفة في فخامة الصوت والتعميم لجماعتهم جليلهم وحقيرهم والإخلاص في ذلك والمداومة له حتى كاد بصري يكل من شدة التحديث إليهم والإقبال عليهم من غير احتجاب عنهم ولا ارتقاب منهم بل مباغتة ، وكررت ذلك عليهم حتى أخرجت ما عندهم من الجواب ، ولم أكف عند سد آذانهم واستغشائهم ثيابهم .
ولما كان الجهر قد لا يشيع ولا ينشر في جماعاتهم ، قال مشيراً إلى أنه أذاع ذلك ، وأكد للإشارة إلى ما فيه من الشدة فقال : ( ثم إني أعلنت ) أي أظهرت وأشعت وشهرت ليعلموا أنه الحق من ربهم لكوني لست بوجه فإني كررت ذلك عليهم بعد أن سقط الوجوب عني ، ولما قدم الجهر لأنه أقرب إلى عدم الاتهام ، وكان السر أجدر بمعرفة الضمائر وأقرب إلى الاستمالة ، أتبعه به فقال : ( وأسررت لهم ) أي دعوت كل واحد منهم على انفراده ليكون أدعى له وأجدر بقبوله النصيحة ، وأدل على الإخلاص ، وكل ذلك ما فعلته إلا لأجل نصيحتهم ، لا حظ لي أنا في ذلك ، ولما كان تحين الإنسان ليكون وحده ليس عنده أحد ولا هو مشتغل بصارف مما يعسر جداً فلا يكاد يصدق أكده فقال : ( إسراراً ( وليدل بتأكيده على تأكيد ما قبله من الأفعال ، والظاهر من حاله ومن هذا الترتيب مما صرح به من الاجتهاد أنه سار فيه على مقتضى الحكمة ، فدعا أولاً أقرب الناس إليه وأشدهم به إلفاً ، ثم انتقل إلى من بعدهم حتى عمهم الدعاء ، وكانت هذه الدعوة سراً كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحه ولا يحمل الدعاء ، وكانت هذه الدعوة سراً كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحة ولا يحمل أحد منهم ذلك على تبكيت ولا تقريع ، جهر ليعلموا أنه ملجأ من الله إلى ذلك ، وأنها عزمة إن قصروا فيها عن الأجابة عوقبوا ، فلما أصروا جمع بين السر والعلن ، فلما تمادوا وطال الأذى شكى ، وعلى هذا فثم لبعد الرتب لا للترتيب في الزمان ، ويمكن كونها للترتيب لأن الجهر أبعد عن الاتهام ثم الإعلان بعده أزيد بعداً .(8/168)
صفحة رقم 169
ولما أخبر بأنه بالغ في الدعوة إلى حد لا مزيد عليه ، فلم يدع من الأوقات ولا من الأحوال شيئاً ، سبب عنه بيان ما قال في دعوته وهو التسبب في السعادة كلها بدفع المضار وجلب المسار ، فقال مقدماً لطلب الغفران عن الكفر ليظهروا فيكونوا قابلين للتحلية بالمحاسن الدينية بعد التخلية عن الأخلاق الدنية : ( فقلت ) أي في دعائي لهم : ( استغفروا ربكم ) أي اطلبوا من المحسن إليكم ، المبدع لكم ، المدبر لأموركم ، أن يمحو ذنوبكم أعيانها وأثارها ، بالرجوع عن عبادة غيره إلى الإخلاص في عبادته .
ولما ذكر أنه استعطفهم أولاً ببيان أن رجوعهم ممكن ، لئلا يقولوا : إنا قد بالغنا في المعاصي فلا نقبل ، وأعملهم أن الاستغفار باب الدخول إلى طاعة الجبار ، أكد ذلك الاستعطاف بقوله معللاً للأمر ولجوابه بنحو : يغفر لكم ، مؤكداً لأجل توقفهم : ( إنه كان ) أي أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً ) غفاراً ) أي متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه على أبلغ الوجوه وأعلاها ، وإذا وقع الغفران دفع المضار كلها .
ولما قرر أمر التوبة وبين قبولها وقدمه اهتماماً به لأنه أصل ما يبتنى عليه ، ولأن التخلي قبل التحلي ، ودرء المفاسد قبل جلب المصالح والفوائد ، رغب فيها بما يكون عنها من الزيادة في الإحسان على أصل القبول ، وينشأ عن الاستغفار من الآثار الكبار من الأفضال بجلب المسار بما هو مثال للجنة التي كان سبب الإخراج منها النسيان لأنهم أحب شيء في الأرباح الحاضرة والفوائد العاجلة لا سيما بما يبهج النفوس ويشرح الصدور لإذهابه البؤس ، فقال مجيباً لفعل الأمر : ( يرسل السماء ) أي المظلة الخضراء أو السحاب أو المطر ) عليكم ) أي بالمطر وأنواع البركات ) مدراراً ) أي حال كونها كثيرة الدورة متكررته ، وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث ) ويمددكم ( أظهر لأن الموضع لإرادة المبالغة والبسط والسعة ) بأموال وبنين ( وذلك يفهم أن من اكثر الاستغفار حباه الله ما يسره ، وحماه ما يضره ) ويجعل لكم ) أي في الدارين ) جنات ) أي بساتين عظيمة ، وأعاد العامل للتأكيد والبسط لأن المقام له فقال : ( ويجعل لكم أنهاراً ( يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك ، فإن من لزم الاستغفار استسقى فلم يزد على الاستغفار فلما نزل قيل : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر ، ثم قرأ هذه الآية ، وقال القشيري : من وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلا تقديم الاستغفار ، وقال : إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك ، ازداد نوح في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان .(8/169)
صفحة رقم 170
ولما كان من رجا ملكاً بما يرضيه .
ومن خافة تجنب ما يسخطه ، نبههم على ذلك بالإشارة إلى الجلال الموجب للتوقير والجمال بالإحسان إلى الخلق ، مصرحاً لهم بالترغيب ملوحاً إلى الترهيب ، فقال مستأنفاً في جواب من يقول منهم : هل بقي شيء من قولك ؟ : ( ما ) أي أيّ شيء يحصل ) لكم ( حال كونكم ) لا ترجون ) أي تكونون في وقت من الأوقات على حال تؤملون بها ، وبين فاعل الوقار ومبدعه بتقديمه ، فإنه لو أخره لكان ل ( وقاراً ) فقال : ( لله ) أي الملك الذي له الأمر كله ) وقاراً ) أي ثواباً يوقركم فيه ولو قل ، فإن قليله أكثر من كثير غيره ، ولا تخافون له إهانة بالعقاب بأن تعلموا أنه لا بد من أن يحاسبكم بعد البعث فيثيب الطائع ويعاقب العاصي ، كما هي عادة كل أحد مع من تحت يده ، فتوقروا رسله بتصديقهم فتؤمنوا وتعملوا ، فإن من أراد من أحد أنه يوقره وقره وعظمه ليجازيه على ذلك ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وذلك إنما يكون بمعرفة الله بما له من الجلال والجمال ، والخلق إنما تفاضلوا بالمعرفة بالله ، لا بالأعمال ، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه الناس بشيء وقر في صدره ، فإن بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال ، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ، ولا تنازع له اختياراً ، وتعظم أمره ونهيه ، بعدم العارضة بترخيص جاف أو تشديد غال أو حمل على توهم الانقياد ، وتعظم حكمه بأن لا تبغي له عوجاً ولا تدافعه بعلم ، ولا ينبغي له غرض وعلة ، ولأجل أن المطلوب تحصيل الأعمال التي هي أسباب ظاهرية ، عبر بالرجاء ليسرهم بأن أعمالهم مؤثرة ، وعبر بالطمع في غير هذه الآية تنبيهاً على أنه لا سبب في الحقيقة إلا رحمة الله لحال دعاء إلى ذلك .
نوح : ( 14 - 21 ) وقد خلقكم أطوارا
) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ( ( )
ولما كان هذا إشارة إلى الاستدلال على البعث بما يعلمونه من أنفسهم صرح بعد ما لوح ، فقال آتياً بحرف التوقع لأنه مقامه : ( وقد ) أي والحال أنه قد أحسن إليكم مرة بعد مرة بما لا يقدر عليه غيره ، فدل ذلك على تمام قدرته ، ثم لم يقطع إحسانه عنكم فاستحق ان تؤمنوا به لأنه ) خلقكم ) أي أوجدكم من العدم مقدرين ) أطواراً ) أي تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوان ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء ، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً(8/170)
صفحة رقم 171
طوالاً وقصاراً بيضاً وسوداً وبين ذلك - إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور ، ومن قدر على هذا الابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة ، وقد ثبتت حكمته وأنه لم يخلق الخلق الخلق سدى بما بان من هذا التطوير على هذه الهيئات العجيبة التي لا قدرة لغيره عليها بوجه ، وهم يتهارجون في هذه الدار تهارج الحمر ، ويموت المظلوم على حاله ، والظالم يبلغ آماله ، فلا بد أن يعيدهم ليفصل بينهم فيظهر حكمته وعدله وإكرامه وفضله ، ولو ترك ذلك لكان نقصاً في ملكه ، ومن قدر على ذلك كان قادراً على الجزاء بالثواب والعقاب ، فهو أهل لأن يخشى ويرجى .
ولما كان هذا واضحاً ولكنهم قوم لد ، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة ، ذكرهم - بعد التذكير بما في أنفسهم - بما هو أكقر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي ، وبدأ بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم ، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات ، فقال : دالاًّ على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب : ( ألم تروا ) أي أيها القوم .
ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج إلى دقة وتوقف على عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن فاعلها لا يعجزه شيء ، وقال منكراً عليهم عدم التأمل : ( كيف خلق الله ) أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة ) سبع سماوات ( هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة ، يعرف كونها سبعاً بما فيها من الزينة .
ولما كانت المطابقة بين المتقابلات في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد ، قال : ( طباقاً ) أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ( ما لها من فروج ) لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب .
ولما كان المحيط لا يتوصل إلى داخله إلى محيط العلم والقدرة ، قال دالاًّ على كما قدرته وتصرفه معبراً بالجعل الذي يكون عن تصيير وتسبيب : ( وجعل القمر ) أي الذي ترونه وهو في السماء الدنيا ، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر مرة وغيبته في ليالي السرار ثم ظهوره ، وذلك أعجب في القدرة .
ولما كانت السماء شفافات قال : ( فيهن ) أي السماوات جميعهن ) نوراً ) أي لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات ، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض والثاني لأهل السماوات ، ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال : ( وجعل ( معظماً لها بإعادة العامل ) الشمس ) أي في السماء الرابعة ) سراجاً ) أي نوراً عظيماً كاشفاً لظلمه الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة ، وروى ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري عن(8/171)
صفحة رقم 172
ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم : ( إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء ، وأقفيتهما إلى الأرض ) ؛ وروى الحاكم منه ذكر القمر وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المحسنين له في الجنة فإنه يرى كل أحد كلاًّ من مكانه مخلياً به ، وكذلك يرونه سبحانه عياناً جهاراً كما رأوه في الدنيا بالإيمان نظراً واعتباراً ، ولما دل على كمال علمه وتمام قدرته بخلق الإنسان ثم بخلق ما هو أكبر منه أعاد الدلالة بخلق الإنسان لأنه أعظم المحدثات وأدلها على الله سبحانه وتعالى على وجه آخر مبين لبعض ما أشار إليه الأول من التفصيل مصرحاً بالبعث فقال مستعيراً بالإنبات للإنشاء : ( والله ) أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ) أنبتكم ) أي بخلق أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام ) من الأرض ) أي كما ينبت الزرع ، وعبر بذلك تذكيراً لنا لما كان من خلق أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ، وأشار إلى أنه جعل غذءانا من الأرض التي خلقنا منها ، وبذلك الغذاء نمونا .
ولما كان إنكارهم للبعث كأنه إنكار للابتداء أكده بالمدصر وأجراه على غير فعله بتجريده من الزيادة ، إشارة إلى هوانه عليه سبحانه وتعالى وسهولته مع أنه إبداع وابتداء واختراع فقال : ( نباتاً ( ومع ذلك فالآية صالحة للاحتباك : ذكر ( أنبت ) أولاً دال على حذف مصدره ثانياً ، دال على حذف فعله أولاً ، ليكون التقدير : أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً .
ولما كان في الموت دليل على تمام العلم والقدرة غير أنه ليس كدلالة الابتداء بالابتداع ، وكان مسلماً ليس فيه نزاع ، ذكره من غير تأكيد بالمصدر فقال دالاًّ على البعث والنشور : ( ثم يعيدكم ( على التدريج ) فيها ) أي الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال ) ويخرجكم ) أي فيها بالإعادة ، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدة العناية به وتحتيم وقوعه لإنكارهم له فقل : ( إخراجاً ) أي غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية ، تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لأحدهما عن الآخر .
ولما كان النابت من الشيء لا يتصرف في ذلك الشيء ، دل على كمال قدرته بخرق تلك العادة لهم على وجه الإنعام عليهم ، فقال مظهراً للاسم الشريف مرة بعد أخرى تعظيماً للأدلة لئلا تقيد القدرة بما يقترن به الاسم دالاًّ بالعالم السفلي بعد الإرشاد بالعلوي وآخر السفلي لأن آياته على ظهورها خفيت بكثرة الإلف لها : ( والله ) أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام ) جعل لكم ) أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم ) الأرض بساطاً ) أي سهل عليكم الصترف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في(8/172)
صفحة رقم 173
البساط ، ثم علل فقال : ( لتسلكوا ) أي منجدين ) منها ) أي الأرض مجددين لذلك ) سبلاً ) أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة ) فجاجاً ) أي ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً ، فيعم الانتفاع بجميع البقاع ، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره .
ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان ، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال ، طوى ذلك مشيراً إليه بقوله مستأنفاً : ( قال نوح ) أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكياً منهم : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري .
ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل ، فقال مؤكداً لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه : ( إنهم ) أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) عصوني ) أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة ) واتبعوا ) أي بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلاً وآجلاً ) من ) أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم ، وفسرهم بقوله : ( لم يزده ) أي شيئاً من الأشياء .
ولما كان المال يكون للإنسان الولد ، وكان ينبغي ان يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له يراً في الدارين وكذا الولد قال : ( ماله ) أي بكثرته ) وولده ( كذلك ، وهو الجنس في قراءة التحريك - وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد ، أو يكون على هذه جمعاً كالأسد والأسد ، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم - وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم - فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سبباً لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم فغلبوا عليهم فكانوا سبباً في شقائهم وخسراتهم بخسارتهم ، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة ، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها .(8/173)
صفحة رقم 174
نوح : ( 22 - 24 ) ومكروا مكرا كبارا
) وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ( ( )
ولما كانت كثرة الرؤساء قوة أخرى إلى قوتهم بمتاع الدنيا ، وكان التقدير : فأمرتهم بالإيمان فأبوا وأمروهم بالكفر فانقادوا لهم ، عطف عليه مبيناً لكثرتهم بضمير الجمع العائد على ( من ) عاطفاً على ( لم يزده ) المفردة الضمير للفظ جامعاً له للمعنى لتجمع العبارة الحكم على المفرد والجمع ، فيكون أدل شيء على المراد منها فقال : ( ومكروا ) أي هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني - وأكد الفعل بالمصدر دلالة على قوته فقال : ( مكراً ( وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة فقال : ( كباراً ( فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير ، فلم يدعوا أحد منهم بذلك المكر يتبعني ) وقالوا ) أي لهم في أداني المكر الذي حصل منهم .
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح ، أكدوا قولهم : ( لا تذرن آلهتكم ) أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة ، وأضافوها إليهم تحسباً فيها ، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً : ( ولا تذرن ( ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير ، فناسب التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا : ( ولا يغوث ( ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن التأكيد للعلم بإرادته ، وكان هؤلاء ناساً صالحين ، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقاً إلى العمل بطرائقهم الحسنة فصوروهم ، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون ، وجعلوا أصناماً آلهة من دون الله ، وكانت عابدة هؤلاء أول عبادة الأوثان فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم ، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب ، فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع ، وقيل غير ذلك - والله أعلم قال البغوي : سواع لهذيل ويغوث لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عن سبأ ويعوق لهمذان .
قال أبو حيان : قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ، يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، (8/174)
صفحة رقم 175
فينزلون حوله ويضربون عليه بناء ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف ، والعزى لسليم وغطفان وجشيم ، ومنات بديد لهذيل ، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة ، وكان إساف حيال الحجر الأسود ، ونايلة حيال الركن اليماني ، وكان هبل في جوف الكعبة - انتهى ، وقال الواقدي : ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر - انتهى .
ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم ، فكأن وداً كان أكملهم في الرجولية ، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة ، وكان يغوث شجاعاً ، ويعوق كان سباقاً قوياً ، واكن نسر عظيماً طويل العمر - والله تعالى أعلم .
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم ، عطف عليه ما توقع السامع من أمره فقال : ( وقد أضلوا ) أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة ) كثيراً ( من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .
ولما كان التقدير : فلا تزد الظالمين إلا خساراً ، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : ( ولا تزد الظالمين ) أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في في الظلام في وقوعها مختلة ، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم ) إلا ضلالاً ) أي طبعاً على عقولهم وقلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد ، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الشد على قلوب فرعون وملئة لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام ، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصة : إن هذا الدعاء حسن في حقهم ، وقال : إن الضلال أهدى من الهدى ، وإن الضال أحسن حالاً من المهتدي ، لأن الضال لا يزال قريباً من القطب المقصود دائراً حوله ، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة ، فهو(8/175)
صفحة رقم 176
يبعد عن المقصود ، فأبان أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أسفه منه غلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره ، فعليهم أشد الخزي واللعنة .
نوح : ( 25 - 28 ) مما خطيئاتهم أغرقوا. .. . .
) مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ( ( )
ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم ، ودعا رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلم يبق إلا إهلاكهم .
وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن ، قال مبيناً ، مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر : ( مما ( .
ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات : يكفره في الإيمان بالطاغوت ، وتكذيب ربه ، وتكذيب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان ذلك كافياً في استحقاقه للأخذ قال : ( خطيئاتهم ( جامعاً له جمع السلامة - في قراءة الجماعة ، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب .
ولما كان الموجع إغرافهم لا كونه من معين ، قال مخبراً عما فعل بهم في الدنيا : ( أغرقوا ) أي بالطوفان بانياً له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار ، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل ، فلم يبق منهم أحداً ، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله : ( فأدخلوا ) أي بقهر القهار في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً ) ناراً ) أي عظيمة جداً أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ ، قال الشيخ ولي الدين الملوي : فعذبوا في الدنيا بالغرق ، وفي الآخرة بالحرق ، والإياس من الرحمة ، وأيّ عذاب أشد من ذلك ، وقال الضحاك : في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى ، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر .
ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى ، قال مسبباً عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب ، فإن الإنسان - كما(8/176)
صفحة رقم 177
قال الملوي : - إذا كان في العذاب ويرجوا الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص ، معلماً بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئاً ، توبيخاً لمن يعبد مثلها : ( فلم يجدوا ( وحقق الأمر فيهم بقوله : ( لهم ) أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته .
ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى ، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب ، قال مثبتاً الجار : ( من دون الله ) أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظيمته وتذل لعزه وجليل سطوته ) أنصاراً ( ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما يشهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراد سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقتلهم لم يعقد منهم أحد لكونهم أولياءه ، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم ، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضاً ضال أشد ضلال ، فلعنة الله على من يقول : إن الله تعالى كان غير ناصرهم ، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم ، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه ، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة ، ونظمه أياً ابن الفارض في تأئيته التي سماها بنظم السلوك ، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنة بعد ما نثب من الضلال الذي سعر به البلاد ، وأردى كثيراً من العباد .
ولما أتم الخبر عن إغراقهم ، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) فيخرجوه إلى مثل ذلك ، عطف على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى انهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما طال بلاؤه بهم حتى أن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له : احذر هذا أن يضلك ، وإن أبي حذر به ، وكانت صيغة العموم ليست بنص في أفرادها أبداً ، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده : ( وقال نوح ( وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال : ( رب لا تذر ) أي تترك بوجه من الوجوه أصلاً ولو على أدنى الوجوه ) على الأرض ) أي كلها من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها ) من الكافرين ) أي الراسخين العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار فعّال ، وإلا لكان دواراً ، (8/177)
صفحة رقم 178
ويجوز - وهو أقرب - أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم ، يريد به العموم كراهية أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه ، لا أصل الإغراق ، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه .
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما فيه مصلحة الدين ، علل دعاءه بقوله وأكده إظهاراً لجزمه باعتقاد ما أنزل عليه من مضمون قوله تعالى :
77 ( ) إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ( ) 7
[ هود : 36 ] وإن كان ذلك خارجاً عن العادة : ( إنك ) أي يا رب ) إن تذرهم ) أي تتركهم على أي حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض على ما هم عليه من الكفر والضلال والإضلال ولو كانت حالة دنية ) يضلوا عبادك ) أي الذين آمنوا بي والذين يولدون على الفطرة السليمة .
ولما كان ربما كان الإنسان ضاراً ووجد له ولد نافع ؛ نفى ذلك بقوله : ( ولا يلدوا ) أي إن قدرت بقاءهم في الدنيا ) إلا فاجراً ) أي مارقاً من كل ما ينبغي الاعتصام به ، واكتفى فيه بأصل الفاعل إشارة إلى أن من جاوز الحد أو شرع في شيء بعده من التمادي في الغي صار ذلك له ديدناً فبالغ ، فلذلك قال : ( كفاراً ) أي بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله لأن قولك يا رب لا يتخلف أصلاً ، والظاهر أن هذا الكلام لا يقوله إلا عن وحي كما في سورة هود عليه السلام من قوله تعالى :
77 ( ) إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ( ) 7
[ هود : 36 ] فيكون على هذا حتى صغارهم معذبين بما يعلم الله منهم لو بلغوا لا بما عملوه كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) في أولاد الكفار ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) ولما دل هذا كله على أنه دعا على أعداء الله ، دعا أيضاً لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه رأس تلك الأمة ، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبي ، فإن من كانت طبيعته طبعت على شيء لا تحول عنه .
ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال : ( اغفر لي ) أي فإنه لا يسعني وإن لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك ورحمتك .
ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على الأحق فالأحق فقال : ( ولوالديّ ( وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش ، قال أبو حيان : وقال ابن عباس(8/178)
صفحة رقم 179
رضي الله عنهما : لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام .
وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال : ( ولمن دخل بيتي ( لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه ، ولذا قال : ( مؤمناً ( ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال : ( وللمؤمنين والمؤمنات ) أي العريقين في هذا الوصف في كل أمة غلى آخر الدهر ولا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه الاحتباك : ولا تكرم المارقين ، عطف عليه قوله : ( ولا تزد الظالمين ) أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال ) إلا تباراً ) أي إلا هلاكاً مدمراً مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم مخبراً لديارهم وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران بالسعادة والتبار في جميع الأعصار إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار ، والأية من الاحتباك : إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً ، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً ، وهذا الآخر المصح بالتبار هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار ، فقد انطبق الآخر على الأول على أصرح وجه وأكمل ، وأحسن حال وأجمل منال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال .
.. .(8/179)
صفحة رقم 180
سورة الجن
وتسمى " قل أوحى "
مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أنه وأصحابه وذريته ، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما ، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره ، وذلك لعظمة هذا القرآ ، ولطف ما له من غريب الشأن ، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن ويقل أوحي ، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك ، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك ، ) بسم الله ) أي المحيط بالكمال أرسل رسوله الخاتم بالهدى ليظهره على الدين كله بما له من الجلال والجمال ) الرحمن ( الذي بعموم رحمته عم بهذا الإرسال ليعم بالبيان ما يلزم الخلق من المقال والفعال ) الرحيم ( الذي خص من بيتن أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال لما سبق لهم من الفوز في أزل الآزال .
الجن : ( 1 - 4 ) قل أوحي إلي. .. . .
) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ( ( )
ولما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض ، وكان قومه عباد أوثان ، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان منهم نسباً ولساناً ، وختمت سورته بدعائه عليهم ، وكان نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين ، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق ، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأسميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار ، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم(8/180)
صفحة رقم 181
ابتدئت ، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلاً عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن ، فقال منبهاً له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر ، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده بمعناه ونظمه ، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه ) قل ) أي يا محمد لقومك .
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به ، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد ، بنى للمفعول قوله مبيناً لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثاً من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان : شرف العلم لكمال أنفسهم ، والتعليم لتكميل غيرهم ، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه : ( أوحي إليّ ) أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اتقضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعاً على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه ، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله : ( أنه ) أي الشأن العظيم ) استمع ) أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعاً هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن ) نفر ( هم في غاية النفرة جبلة وطبعاً ) من الجن ( الذين هم في غاية الاستتار ، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما تغلب على أجاسم الإنس الترابية ، والنفر ما بين الثلاثة والعشرة ، قال البغوي : وكانوا تسعة من جن نصيبين ، وقيل : كانوا سبعة ، وفي هذه العبارة دليل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما رآهم ولا قرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان : المشهور أنه هو ، وقيل : هو غيره ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى ، والسورة التي استمعوها قال عكرمة : العلق ، وقيل : الرحمن ، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم ، ويظهر من الحديث تعدد الواقعة ، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح ( أنهم فقدوه ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة من الليالي فالتمسوه في الأودية والشعاب ، فلما أصبح إذا جاء من قبل حراء فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، ومنها ما كان معه عبد الله رضي الله عنه فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطاً ، وقال : لا تجاوزه ، فانحدر عليه أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم حتى غشوه فلا أراه ، وأومأ إليّ بيده أن اجلس ، فتلا(8/181)
صفحة رقم 182
القرآن ، فلم يزل صوته يرتفع واختفوا بالأرض حتى ما أراهم ) قال الأصبهاني : وقيل : كانوا من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس ، وقال القشيري : لما رجمت الشياطين بالشهب فرق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فآمنوا ثم أتوا قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجباً ، يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته ، وجاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سبعين من قومهم فأسلموا ، فذلك قوله تعالى :
77 ( ) وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه ( ) 7
[ الأحقاف : 29 ] الآيات ) فقالوا ) أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع ، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالاً لقوله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله امرأً سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها ) وكان قولهم سكوناً إلى هذا ا لقرآن وأنسابه ، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز : ( إنا ( بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ) سمعنا ( حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه فأهامنا ) قرآناً ) أي كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما نحتاج إليه ، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا : ( عجباً ) أي بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن كلام الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساؤئ والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب ، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه ، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم ، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم ، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقة وقرب وقوعه في المعارج فم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه ، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله : فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم ومن أنفسهم فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته ، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون ، فقد بهرت العقول آياته ، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته ، وقد علموا أنهم لا يقدرون على(8/182)
صفحة رقم 183
معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين ، ومع ذلك عموا وصموا - غذب الله عليهم ولعنهم - وسبق إلى الإيمان من ليس من جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم ، وهم الجن ممن سبقت لهم من الله الحسنى فآمنوا وصدقوا ، وامراً ( صلى الله عليه وسلم ) بالإخبار بذلك ، فأنزل الله تعالى عليه
77 ( ) قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن ( ) 7
[ الجن : 1 ] الآيات إلى قوله إخباراً عن تعريف الجن سائر أخوانهم بما شاهدوه من عنااد كفار العرب ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً ) ثم استمرت الآي ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة - انتهى .
ولما بينوا فضله من جهة الإعجاز وغيره ، بينوا المقصود بالذات الدال على غوصهم على المعاني بعد علمهم بحسن المباني فقالوا : ( يهدي ) أي يبين غاية البيان مع الدعاء في لطف وهدى ) إلى الرشد ) أي الحق والصواب الذي يكاد يشرد لثقله على النفوس الداعية إلى الهوى وخفة ضده الغي والسفه الملائم لنقص النفوس .
ولما وصفوه بهذه الكمالات سببوا عن ذلك قولهم إعمالاً للقوة العملية في المبادرة إلى الصواب من غير تخلف أصلاً : ( فآمنا ) أي كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع ) به ) أي أوقعنا الأمان لمبلغ القرآن أن نكذبه أو نخالفه أدنى مخالفة بسبب هذا القرآن .
ولما أخبروا عن الماضي ، وكان الإيمان لا يفيد إلا مع الاستمرار ، قالوا عاطفين على ما تقديره : فوجدنا الله في الحال لأن ذلك نتيجة الإيمان بالقرآن وخلعنا الأنداد : ( ولن ) أي والحال أنا مع إيقاع الإيمان في الحال لن ) نشرك ( بعد ذلك أصلاً ، أكدوا أنه أمر لا يكاد يصدق ) بربنا ) أي الذي لا إحسان قائم بنا من الإيجاد ومابعده إلا منه ) أحداً ) أي من الخلق لأنه لم يشركه في شيء من مرنا أحد ، وقد وضحت الدلائل على التوحيد فيما سمعنا من هذا القرآن .
ولما أظهروا القوتين العلمية بفهمهم القرآن ، والعملية بما حصل لهم من الإذعان ، أعملوا ما لهم في الدعاء إلى الله تعالى من قوة البيان ، فبعد أن نزهوه سبحانه عن الشرك عموماً خصوا مؤكدين في قراءة ابن كثير والبصريين وأبي جعفر بالكسر لما تقدم من أن مثل هذه السهولة لا تكاد تصدق ، فقالوا عطفاً على
77 ( ) إنا سمعنا ( ) 7
[ الجن : 1 ] : ( وأنه ) أي الشأن العظيم قال الجن : ( تعالى ) أي انتهى في العلو والارتفاع إلى حد لا يستطاع ) جد ) أي عظمة وسلطان وكمال غنى ) ربنا ) أي الموجد لنا والمحسن إلينا ، وإذا كان هذا التعالي لجده فما بالك به ، وكذا حكت هذه القراءة بقوله الجن ما بعد هذا إلا
77 ( ) وأن لو استقاموا ( ) 7
[ الجن : 16 ] و
77 ( ) أن المساجد لله ( ) 7
[ الجن : 18 ] و
77 ( ) أنه لما قام ( ) 7(8/183)
صفحة رقم 184
[ الجن : 19 ] فإنه مفتوح فيها عطفاً على الموحى به فهو في محل رفع إلا عند أبي جعفر فإنه فتح ) ) وأنه تعالى ( ) [ الجن : 3 ] و ) ) أنه كان يقول ( ) [ الجن : 4 ] ) ) وأنه كان رجال ( ) [ الجن : 6 ] ووافقهم نافع وأبو بكر عن عاصم في غير ) ) وأنه لما قام ( ) [ الجن : 19 ] فإنهما كسراها وفتح الباقون وهم ابن عامر وحمزة والكسائر وحفص عن عاصم الكل إلا ما صدر بالفاء على أنه معطوف على محل الجار في ( به ) أي صدقناه وصدقنا أنه - لا على لفظه وإلا لزم إعادة الجارّ عند نحاة البصرة ، وقيل : عطف على لفظ الضمير في ( به ) على المذهب الكوفي الذي نصره أبو حيان وغير واحد من أهل اللسان .
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص ، بينوه بنفي ما ينافيه بقولهم إبطالاً للباطل : ( ما اتخذ ( عبر بصيغة الافتعال بياناً لموضع النقص لا تقيداً ) صاحبة ) أي زوجة ) ولا ولداً ( لأن العادة جارية بأنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة وتسبيب ، ومثل ذلك لا يكون إلا لمحتاج لا يصح أصلاً أن يكون إلهاً وإن كان بغير تسبيب ومهلة ، فهو عبث لأن مطلق الاختراع مغن عنه ، فلم يبق إلا العبث الذي ينزه الإله عنه والصاحبة لا بد وأن تكون من نوع صاحبها ، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة ، والولد لا بد وأن يكون جزءاً منفصالاً عن والده ، ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً ، ومن المقطوع به أن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي .
ولما تبين لهم ما هو عليه سبحانه من النزاهة عن كل شائبة نقص ، وصفوا من قال بضده صيانة لدينهم وعرضهم بالترفع عن الخسائس والرذائل بعدم التمادي في الباطل مقتاً للخلق في ذات الخلق مؤكدين لما للسامع في الغالب من تصديق ما يسمع والمحاجة عنه فقالوا : ( وأنه ) أي وقالوا إلى الشأن - هذا على قراءة الكسر ، وآمنا به - على قراءة الفتح ) كان يقول ) أي قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة والطبع ) سفيهنا ( وهو الجنس فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أولياً ، وكل من تبعه ممن لم يعرف الله لأن ثمرة العلم معرفة الله ، فمن لم يعرفه فهو الذي يلازم الطيش والغي لأنه لا علم عنده أصلاً يحمله على الرزانة ، كاذباً متقولاً ) على الله ) أي الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه في الولد ) شططاً ) أي قولاً هو في بعده عن الصواب نفس البعد ومجاوزة الحد .
الجن : ( 5 - 9 ) وأنا ظننا أن. .. . .
) وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ(8/184)
صفحة رقم 185
الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ) 73
( ) 71
ولما ذكروا ما هدوا إليه من الحق في الله وفيمن كان يحملهم على الباطل ، ذكروا عذرهم في اتباعهم للسفيه وفي وقوعهم في مواشع التهم ، فقالوا مؤكدين لأن ما كانوا عليه من الكفر جدير بأن يظن أنه لا يخفى على أحد لشدة وضوح بطلانه : ( وأنا ) أي معشر المسلمين من الجن ) ظننا ) أي بما لنا من سلامة الفطر المقتضية لتحسين الظن بشهادة حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند أحمد ( المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم ) ) أن ) أي أنه ، وزادوا في التأكيد لما مضى فقالوا : ( لن تقول ( وبدأوا بأفضل الجنسين فقالوا : ( الإنس ( وأتبعوهم قرنائهم فقالوا : ( والجن ) أي متخرصين ) على الله ) أي الملك الأعلى الذي بيده النفع والضر ) كذباً ) أي قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب ، وهو في قراءة أبي جعفر بفتح القاف والواو المشددة المفتوحة مصدر من غير اللفظ ، وإنما ظننا ذلك لما طبع عليه المطبوع على الشهوات من تصديق الأشكال لا سيما إذا كان قولهم جازماً وعظيماً لا يقال مثله إلا بعد تثبت لا سيما إذا كان على ملك الملوك لا سيما إذا كان القائل كثيراً لا سيما إذا تأيدوا بجنس آخر ، فصاروا لا يحصون كثرة ، ولا تطيق العقول مخالفة جمع بهذه الصفة إلا بتأييد إلهي بقاطع نقلي ، والآية على قراءة أبي جعفر من الاحتباك : فعل التقول أولاً دليل على فعل الكذب ثانياً ، ومصدر الكذب ثانياً دليل على مصدر التقول أولاً ، وسره أن التقول دال على التعمد فهو أفحش معنى والكذب أفحش لفظاً ، وهذا مرشد إلى أنه لا ينبغي التقليد في شيء لأن الثقة بكل أحد عجز ، وإنما ينكشف ذلك بالتجربة ، والتقليد قد يجر إلى الكفر المهلك هلاكاً أبدياً ، وإليه أرشد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرجه الشيخان عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه بأن ( من اتقى الشبهات استبرأ لديه وعرضه ) وفي ذلك غاية الحث على أن الإنسان لا يقدم ولا يحجم في أصول الدين إلا بقاطع .(8/185)
صفحة رقم 186
ولما علم من قولهم أن مستند الضلال ظنون وشبه متى حكت على محك النظر بان فسادها ، وأظهر زيفها نقادها ، أتبعه شبهة أخرى زادت الفريقين ضلالاً بعضهم ببعض للتقيد بالمحسوسات ، والوقوف مع الخيلات الموهومات ، فقال حاكياً عنهم تنبيهاً على عدم الاغترار بالمدح والإطراء الموجبين للغلط في النفس وعلى أنه يجب التثبت حتى لا يقع الغلط في الأسباب المسخرة فيظن أنها مؤثرة فيتجاوز بها الحد عن رتبة الممكنات إلى رتبة الواجب ، مؤكدين لأنه لا يكاد يصدق أن الجن يخاطبهم الإنس فيكارمونهم : ( وإنه ) أي الشأن ) كان رجال ) أي ذوو قوة وبأس ) من الإنس ) أي النوع الظاهر في عالم الجنس ) يعوذون ) أي يلجؤون ويعتصمون - خوفاً على أنفسهم وما معهم - إذا نزلوا وادياً ) برجال من الجن ) أي القبيل المستتر عن الأبصار فإنه كان القوم منهم إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجن في بعض الأحيان لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله تعالى ولا دين صحيح ، ولا كتاب من الله صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم فكان الرجل يقول عند خوفه : إني أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه أو نحو هذا فلا يرى إلا خيراً ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال ، وفتنة الجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا : الجن والإنس ، فيضلوا ويضلوا ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فزادوهم ) أي الإنس الجن باستعاذتهم هذه المرتب عليها إعاذتهم ، والجن الإنس بترئيس الإنس لهم وخوفهم منهم ) رهقاً ) أي ضيفاً وشدة وغشياناً لما هم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منهم الضيق والشدة ، وأصل وشدة وغشياناً لما هم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها لاضيق والشدة ، وأصل الرهق غشيان بقوة وشدة وقهر ، وقال البغوي : والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم .
كما يتفق لمن يسلك من أهل التصوف على غير أصل فيرى في أثناء السير أنواراً وأشياء تعجبه شيطانية فيظنها رحمانية ، فيقف عندها ويأنس بها لفساد في أصل جبلته نشأ عنه سوء مقصده ، فربما كان ذلك سبباً لكفره فيزداد هو وأمثاله من الإنس ضلالاً ويزداد من أضله من الجن ضلالاً وإضلالاً وعتواً ، ويزداد الفريقان بعداً عن اللجأ إلى الله وحده ، ولقد إغنانا الله سبحانه وتعالى بالقرآن والذكر المأخوذ عن خير خلقه بشرطه في أوقاته عن كل شيء كما أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) أن من قال عند إتيانه الخلاء ( بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) ستر عن الجن ، وأن من قال إذا أتى امرأته ( اللهم(8/186)
صفحة رقم 187
جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني ) فأتاه ولد لم يقدر الشيطان أن يضره ، ومن أذن أمن تغول الغيلان ، وروى الترمذي وأحمد - قال المنذري : ورواته رواة الصحيح - عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من مسلم يأخذ مضجعة فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله تعالى به ملكاً فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هب ) وللطبراني في الكبير - قال المنذري : ورواته رواة الصحيح إلا المسيب بن واضح ، قال الهيثمي : وهو ضعيف وقد وثق - عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : ( خرجت من حمص فآواني الليل إلى البقيعة بحضرني من أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف
77 ( ) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] إلى آخر الآية ، فقال بعضهم لبعض : احرسوه الآن حتى يصبح ، فلما أصبحت ركبت دابتي ) والأحاديث في هذا كثيرة في آية الكرسي وغيرها ، وكذا حكايات من اعترضه بعض الجن فلما قرأ ذهب عنه .
ولما كان التقدير : فضل كل من الفريقين بالآخر ضلالاً بعيداً حتى أبعدوا عن الشرائع النبوية ، واعتقدوا ما لا يجوز اعتقاده من التعطيل واعتقاد الطبيعة ، فلا يزال الأمر هكذا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا رسول يهديهم ولا بعث للأرض على بارئهم ، عطف عليه قولهم مؤكدين في قراءة الكسر إشارة إلى ظهور دلائل البعث ، وأنه لا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به منبهاً على أن الأهواء والأغاليط قد يتطابق عليها الجم الغفير ، حثاً للمهتدي على أن لا يستوحش في طريق الهدى لقلة السالكين ، ولا يغر بطرق الردى لكثرة الهالكين : ( وأنهم ) أي الإنس إن كانوا يخاطبون الجن ، والجن إن كانوا يخاطبون الإنس ) ظنوا ) أي الجن أو الإنس ظناً ليسوا فيه على ثلج والظن قد يصيب ، وقد يخطىء وهو أكثر ) كما ظننتم ) أي أيها الجن أو الإنس ، والمعنى في قراءة الفتح : وأوحى إليّ أن الإنس أن الجن ظنوا ، وسدوا عن مفعولي ( ظن ) بقوله : ( أن ) أي أن الشأن العظيم ) لن ( أكد للدلالة على شدة إنكارهم لذلك ) يبعث ( وأشاروا إلى خطأ هذا الظن بالتعبير بالجلالة فقالوا : ( الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة(8/187)
صفحة رقم 188
) أحداً ) أي بعد موته لما لبس به عليهم إبليس حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن ، أو أحد من الرسل يزيل به عماية الجهل وما عليه الإنس من استغواء الجن لهم وغير ذلك من الضلال ، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظن كاذب وأنه لا بد من البعث في الأمرين لأنه حكمة الملك وخاصة الملك .
ولما كان عدم البعث من خلل في القدرة ، شرعوا في إثبات تمام القدرة على وجه دال على صحة القرآن وحراسته من الجان ، لئلا يظن أنه من نحو ما للكهان ، فقالوا مؤكدين في قراءة الكسر لاستبعاد الوصول إلى السماء حثاً على طلب المهمات وإن بعد مكانها : ( وإنا ( ولما كان يعبر عن الإمعان في التفتيش بالالتماس ، وكان تجريد الفعل أعظم من ذل للدلالة على الخفة وعدم الكلفة قال : ( لمسنا السماء ) أي الدنيا التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا لاستماع ما يغوى به الإنسان التماساً هو كالحس باللمس باليد ) فوجدناها ( من جميع نواحيها وهو من الوجدان ) ملئت ) أي ملأً هو في غاية السهولة والخفة على فاعله ) حرساً ) أي حراساً اسم جمع ، فهو مفرد اللفظ ، ولذلك وصف بقوله : ( شديداً ) أي بالملائكة ) وشهباً ( جمع سهاب وهو المتوقد من النار ، فعلت هممهم حتى طلبوا المهمات الدين المحققة من مسيرة ساعة أو دونها ، وأن يقعد في مجلس العلم ساعة أو دونها ، والتعبير بالملء يدل على أنها كانت قبل ذلك تحرس لكن لا على هذا الوجه فقيل : إنها حرست لنزول التوراة ثم اشتد الحرس للانجيل ثم ملئت لنزول القرآن فمنعوا من الاستماع أصلاً إلا ما يصدق القرآن إرهاصاً للنبوة العظمى الخاتمة لئلا يحصل بهم نوع لبس .
ولما أخبروا عن حالهم إذ ذاك لأنه الأهم عندهم ، أخبروا عن حالها قبل ، فقالوا مؤكدين لما للإنس من التكذيب بوصول أحد إلى السماء : ( وإنا كنا ) أي فيما مضى ) نقعد منها ) أي السماء ) مقاعد ) أي كثيرة قد علمناها لا حرس فيها فهي صالحة ) للسمع ) أي لأن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة بما أمروا بتدبيره ، وقد جاء في الخبر أن صفة قعودهم هي أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء ، قال أبو حيان : فمتى احترق الأعلى كان الذي تحته مكانه فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدون معها الكذب .
ولما كان التقدير : فنستمع منها فنسمع ما يقدر لنا من غير مانع ، عطف عليه قوله : ( فمن يستمع ) أي يجتهد في الوصول إلى السمع ) الآن ) أي في هذا الوقت فيما يستقبل أنهم قسموا الزمان إلى ما كان من إطلاق الاستماع لهم وإلى ما صار إليه(8/188)
صفحة رقم 189
الحال من الحراسة ، وأطلقوا ( الآن ) على الثاني كله ، لأنهم أرادوا وقت قولهم فقط أو أراوه لأنهم يعلمون ما بعده فيجوزون أن يكون الحال فيه على غير ذلك ) يجد له ) أي لأجله ) شهباً ) أي شعلة من نار ساطعة محرقة .
ولما كان الشهاب في معنى الجمع لأن المراد أن كل موضع منها كذلك ، وصفه باسم الجمع فقال : ( رصداً ) أي يرصده الرامون به من غير غفلة ، ويجوز أن يكون مصدراً على المبالغة كرجل عدل ، والرصد الترقب لأنه لما كان لا تأخر عن رميه عند الدنوّ من السماء كان كأنه هو الراصد له ، المراقب لأمره ، الملاحظ الذي لا فتور عنده ولا غفلة بوجه بل هو الرصد وهو المعنى بنفسه ، فمتى تسنم للاستماع رمي به فيمنعه من الاستماع وإن أدركه أحرقه ، وأما السمع فقد امتنع لقوله تعالى ) ) وإنهم عن السمع لمعزولون ( ) [ الشعراء : 212 ] .
الجن : ( 10 - 13 ) وأنا لا ندري. .. . .
) وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ( ( )
ولما أخبروا عن إيمانهم أنه كان عقب سماعهم من غير توقف ، ثم ذكروا منعهم من الاستراق ، ذكروا أنه اشتبهعليهم المنع فلم يعملوا سره دلالة على أن جهل بعض المسائل الفرعية لا يقدح ، وندباً إلى رفع الهمة عن الخوض في شيء بغير علم ، وحثاً على التفويض إلى علام الغيوب ، فبينوا الذي حملهم على ضرب مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ القرآن : فقالوا مؤكدين لأن العرب كانوا ينسبوهم إلى علم المغيبات وحل المشكلات : ( وإنا لا ندري ) أي بوجه من الوجوه وإن دافعنا واجتهدنا ) أشر ( ولما كان المحذور نفس الإرادة الماضية لا كونها من معروف مع أن الفاعل معروف ، وهو الفاعل المختار الذي له الإرادة الماضية النافذة ، بنوا للمفعول قولهم : ( أريد ( معلمين للأدب في أن الشر يتحاشى من إسناده إليه سبحانه حيث لا إشكال في معرفة أنه لا يكون شيء إلا به ) أم أراد بهم ربهم ) أي المحسن إليهم المدبر لهم ، بنوه للفاعل في جانب الخير إعلاماً مع تعليم الأدب بأن رحمته سبقت غضبه ، وإشارة إلى أنه قد يكون أراد بهذا المنع الخير ) رشداً ) أي سداداً فينشأ عنه الخير ، فالآية من الحتباك : ذكر الشر أولاً دليلاً على الخير ثانياً ، والرشد ثانياً دليلاً على الغنى أولاً .
ولما أخبر سبحانه بسهولة إيمانهم ، فكان ربما ظن أن ذلك ما كان إلا لأن شأنهم(8/189)
صفحة رقم 190
اللين ، أتبعه ما يعلم أن ذلك خارقة لأجله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ، ولإعظامه وإكرامه وجدت ، فقال حكاية عنهم مؤكدين لأن الكلام السابق ظاهر في سلامة طباع الكل : ( وإنا منا ) أي أيها الجن ) الصالحون ) أي العريقون في صفة الصلاح التي هي مهيئة لقبول كل خير .
ولما كان غير الصالح قد يكون فاسداً بأن يكون مباشراً للفساد قاصداً له وقد يكون غير مباشر له ، قالوا متفطنين لمراتب العلوم والأعمال المقربة والمبعدة : ( ومنا ( وبنى الظرف المبتدأ به لإضافته إلى مبني فقيل : ( دون ) أي قوم في أدنى رتبة من ) ذلك ) أي هذا الوصف الشريف العالي .
ولما كان من دون الصالح ذا أنواع كثيرة بحسب قابليته للفساد أو الصلاح وتهيؤه له أو بعده عنه ، حسن بيان ذلك بقولهم : ( كنا ( أو كوناً هو كالجبلة ) طرائق ) أي ذوي طرق أي مذاهب ووجوه كثيرة ، وأطلقوا الطرق على أصحابها إشارة إلى شدة تلبسهم بها .
ولما كان الانفصال قد يكون بأدنى شيء ، بين أنه على أعلى الوجوه فأطلق عليهم نفس المنقطع ووصفهم به فقال : ( قدداً ) أي فرقاً متفرقة أهواؤها ، جمع قدرة وهي الفرقة من الناس هواها على غير هواهم ، من القد وهو القطع الموجب للتفرق العظيم مثل السيور التي تقطع من الجلد وقد منه بحيث تصير كل فرقة على حدتها ، قال الحسن والسدي : كافرين ومسلمين ورافضة ومعتزلة ومرجئة وغير ذلك مثل فرق الإنس .
ولما دلوا على قهرهم عما كانوا يقدرون عليه من أمر السماء بما ذكروا ، وعلى قهر مفسديهم بهذا القرآن عن كثير مما كانوا يفعلونه بأهل الأرض ، فقهروا بهذا القرآن العظيم الشأن في الحقيقة عن الخافقين فمنعنا منهم وحفظاً به ، ودلوا على أنهمم موضع القهر بالتفرق ، كان ذلك موجباً للعلم بشمول قدرته تعالى حتى لا يدركه طالب ، ولا ينجو منه هارب ، لما بدى لهم من شؤون عظمته وقهره في الحراسة وغيرها ، فذكر سبحانه ما أثر ذلك عندهم من الاعتراف والإذعان للواحد القهار ، فقال حاكياً عنهم ذلك ندباً إلى الاقتداء بهم في معرفة النفس بالعز والذل والضعف بالتفرق والانقسام ، ومعرفة الرب سبحانه بالقدرة الكاملة والسلطان والعظمة بالتفرد التام الذي لا يقبل المماثلة ولا القسمة : ( وإنا ( أكدوا لظن الإنس في قوتهم غير ما هو لها ) ظننا ( أطلقوا الظن على العلم إشارة إلى أن العاقل ينبغي له ما يخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع الحيل فكيف إذا تيقن ) أن ) أي أن الشأن العظيم ، وزادوا في التأكيد لما تقدم فقالوا : ( لن نعجز الله ) أي أن نقاومه إن أراد بنا سواءاً لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له ، ودلوا على وجه الضعف بقولهم : ( في الأرض ) أي كائنين فيها(8/190)
صفحة رقم 191
مقيمين وهي جهة السفل الملزومة للقهر ، وذلك أقصى جهدنا فأين نحن من سعة ملكه الذي هو في قبضته ) ولن نعجزه ) أي بوجه من الوجوه ) ولن نعجزه ) أي بوجه من الوجوه ) هرباً ) أي ذوي هرب أو من جهة الهرب ، أي هربنا من الأرض إلى غيرها فإن السماء منعت منا وليس لنا مضطرب إلا في قبضته ، فأين أم إلى أين المهرب ، وقد منعوا بذلك وجهي النجاة باللقاء والنصر والهرب عند القهر .
ولما كان الظانّ قد يبادر على العمل بموجب وقد لا ، بينوا أن مرادهم به العلم ، وأنهم بادروا إلى العمل بما دعا إليه ، فقالوا مؤكدين لما للجن من الإباء والعسر : ( وإنا لما سمعنا ) أي من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الهدى ) أي القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوغ أن يطلق عليه نفس الهدى : ( آمنا به ) أي من غير وقفة أصلاً عملاً بما له من هذا الوصف العظيم .
ولما كان التقدير : فآمنا بسبب إيماننا الذي قادنا إليه حفظ السماء من الإيقاع به لتمام قدرته علينا الذي هدانا إليه منعنا من الاستماع بالحراسة ، سببوا عن ذلك قولهم معترفين بالعجز عن مقاومة التهديد من الملك طالبين التحصن بتحصينه والاعتصام بحبله : ( فمن يؤمن ) أي يوجد حقيقة الإيمان ويستمر على تجديدها كل لحظة .
ولما فهموا أن دعاءه إليه وبيانه للطريق مع قدرته التامة إنما هو من عموم لطفه ورحمته ، ذكروا وصف الإحسان لزيادة الترغيب فقالوا : ( بربه ) أي المحسن إليه منا ومن غيرنا .
ولما كان المؤمن هو المختص من بين الخلق بالنجاة ، أدخل الفاء على الجواب ورفعه على تقدير مبتدأ دلالة على ذلك وعلى أن نجاتهم ما لا بد منه فقال : ( فلا ) أي فهو خاصة لا ) يخاف ( أصلاً ) بخساً ) أي نقصاً وقلة وخبثاً ونكداً في الثواب والإكرام بوجه من الوجوه ) ولا رهقاً ) أي مكروهاً يلحقه فيقهره لأنه لم يفعل مع أحد شيئاً من ذلك ليجازى عليه ، فهذا حث للمؤمن على اجتناب ذلك لئلا يجازى به ، وقد هدىالسياق إلى تقدير : ومن يشرك به فلا ، يأمن محقاً ولا صعقاً .
الجن : ( 14 - 18 ) وأنا منا المسلمون. .. . .
) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( ( )
ولما كان هذا ظاهراً في أنهم أسلموا كلهم ، قالوا نافين لهذا الظاهر مؤكدين لأن إسلامهم مع شديد نفرتهم لا يكاد يصدق : ( وأنا منا ) أي أيها الجن ) المسلمون ) أي المخلصون في صفة الإسلام للهادي فأسلموه قيادهم فهم عريقون في ذلك مقسطون(8/191)
صفحة رقم 192
مستقيمون ، فلا يفارقون الدليل فهم على الصراط السوي العدل الرضي ، ومنا الجافون الكافرون ) ومنا القاسطون ( وهم الجائرون عن المنهج الأقوم الساقطون في المهامه المجاهل التي ليس بها معلم ، فهم بربهم كافرون ، ومنا المقسطون ، يقال : قسط - إذا جار جوراً ، أسقطه عن رتبة الإنسان إلى رتبة أدنى الحيوان ، وأقسط - إذا أزال الجور فعدل ، فالآية من الاحتباك : ( المسلمون ) يدل على الكافرين ، و ( القاسطون ) يدل على المقسطين .
ولما كانوا قد علموا مما سمعوا من القرآن أنه لا بد من البعث للجزاء ، سببوا عن هذه القسمة قولهم : ( فمن أسلم ) أي أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه للدليل من الجن ومن غيرهم .
ولما كان في مقام الترغيب في الحق ، ربط بفعلهم ذلك تسبيباً عنه قوله مدحاً لهم : ( فأولئك ) أي العالو الرتبة ) تحروا ) أي توخوا وقصدوا مجتهدين ) رشداً ) أي صواباً عظيماً وسداداً ، كان - لما عندهم من النقائص - شارداً عنهم فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً ، من قوله : الحرا - بالقصر : أفحوص القطاة يأوي إليه الظبي ، والناحية والموضع ، ومان أحراه بكذا : ما أوجبه له ، وبالحرا أن يكون كذا أي خليق كونه ، وفلان حري بكذا أي خليق ، وقد يجيء بالحر - من غير ياء ، يراد به بالجهد ، وتحريت الشيء : قصدت ناحية ، فكان لهم ذلك إلى الجنة سبباً ، ومن قسط فأولئك ضنوا فنالوا غياً وشططاً .
ولما عرفوا بالأمن الاعتصام بطاعة الله ، نبهوا على خطر التعرض لبطشه فقالوا : ( وأما القاسطون ) أي العريقون في صف الجور عن الصواب من الجن وغيرهم فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحروا لها فضلوا فأبعدوا عن المنهج فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها : ( فكانوا ( بجبلاتهم ) لجهنم ) أي النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة ) حطباً ( تقود بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء ، وهم أحياء ما دامت تتقد لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون ، فالآية من الاحتباك ، وهو منطوف لما أوجبه من السياق لا مفهوم : ذكر التحري أولاً دليلاً على تركه ثانياً وذكر جهنم ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً ، وسر ذلك أنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر ، وطووا ما يجب العلم به لأن الله تعالى لا يضيع لأحد أجراً بل لا يقتصر على ما يقابل الحسنة في العرف بل لا بد أن يزيد عليها تسعة أضعافها وعنده المزيد ولا حول ولا قوة لنا إلا به سبحانه وتعالى .
ولما رغب ورهب سبحانه على ألسنة الجن بما هداهم له ونور قلوبهم به ، وكانت(8/192)
صفحة رقم 193
الآية السالفة آخر ما حكى عنهم ، كان التقدير : أوحي إلي أن القاسطين من قومي وغيرهم لو آمنوا فعل بهم من الخير ما فعل بمؤمني الجني حين آمنوا ، فأغناهم الله في الدنيا بحلاله عن حرامه من غير كلفة فكسا لهم كل عظم لقوه لحماً أوفر ما كان ، وأعاد لهم كل روث رأوه أحسن ما كان ببركة هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ) وأن ) أي وأوحي إليّ أن الشأن العظيم ) لو استقاموا ) أي طلب القاسطون من الخلق كلهم الجن والإنس القوم وأوجدوه ، كائنين ) على الطريقة ) أي التي لا طريقة غيرها وهي التي فهمها الجن من القرآن من الإسلام والإقساط المؤدية إلى الفلاح في الدارين .
ولما كان الماء أصل كل خير كما قال تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام
77 ( ) يرسل السماء عليكم مدراراً ( ) 7
[ نوح : 11 ] وكان منه كل شيء حيّ وكان عزيزاً عند العرب ، قال معظماً له بالالتفات إلى مظهر العظمة : ( لأسقيناهم ) أي جعلنا لهم بما عندنا من العظمة ) ماء غدقاً ) أي كثيراً عظيماً عظيم النفع نكثر به الرزق ونزين به الأرض ونرغد به العيش .
ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها ، قال تعالى معرفاً غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح : ( لنفتنهم ) أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة ) فيه ) أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر ، قال الرازي : وهذا بعد ما حبس عنهم المطر سنين - انتهى .
وقال غيره : قال عمر رضي الله تعالى عنه : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة .
وقال الحسن وغيره : كانوا سامعين مطيعين ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه - يعني عثمان رضي الله تعالى عنه ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المارف الناشئة عن العبادات التي هي للفنوس كالنفوس للأبدان وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم الرذائل في الدنيا ولنقم في لآخرة ، من فتنت الذهب - إذا خلصته من غشه .
ولما كان التقدير : فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبداً ، عطف عليه قوله : ( ومن يعرض ) أي إعراضاً مستمراً إلى الموت ) عن ذكر ربه ) أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره ) نسلكه ) أي ندخله ) عذاباً ( يكون مطرفاً له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق ) صعداً ( أي(8/193)
صفحة رقم 194
شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه ، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً ، فإن الأعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان .
ولما كان التقدير : لأنه أوحى إليّ أن الأمر على ما تتعارفونه بينكم من أن من خدم غيره سيده عذابه أبداً ، عطف عليه قوله مبيناً لسيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يجب لهم من الكمال الذي يكون بقوتي العلم والعمل ، والتكميل الذي يكون بهما مع قوة البيان ، ومن لم يكن كاملاً لم يتصور منه تكميل ليكون له قلب كما أن من لم يكن بالغاص لم يتحقق منه ولد صلب ، ومبيناً لما يجوز عليهم وما يستحيل منهم وما لله تعالى من العناية بشأنهم : ( وأن ) أي وأوحى إليّ أن ) المساجد ) أي مواضع السجود من العالم الآفاقي من الأرض ومن العالم النفسي من الجسد - كما قاله سعي بن جبير وطلق بن حبيب ) لله ) أي مختصة بالملك الأعظم ) فلا تدعوا ) أي بسبب ذلك أيها المخلوقون على وجه العادة ) مع الله ) أي الذي له جميع العظمة ) أحداً ( لأن من تعبد لغير سيده في ملك سيده الذي هو العالم الآفاقي وبآلة سيده الذي هو العالم النفسي كان أشد الناس لوماً وعقوبة فكيف يليق بكم أن يخلق لكم وجعهاً ويدين ورجلين وأرضاً تنتفعون بها وسماء تتم فنعها فتسجدون بالأعضاء التي أوجدها لكم في الأرض التي أمكنكم من الانتفاع بها تحت السماء التي أتم منافعها بها لغيره فتكونون قد صرفتم نعمة السيد التي يجب شكره عليها لغيره أيفعل هذا عاقل ؟ قال البغوي : فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها بكسر الجيم ، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها فتح الجيم .
الجن : ( 19 - 22 ) وأنه لما قام. .. . .
) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ( ( )
ولما كان من يدعو سيده وينقطع إليه عاملاً للواجب عليه اللائق بأمثاله لا ينكر عليه ولا يعجب منه ، إنما يعجب ممن دعا غير سيده أو مال إليه أدنى ميل فيسأل عن سببه ، قال معجباً من القاسطين من الجن والإنس : ( وأنه ) أي أوحي إليّ أو قال الجن لمن أطاعهم من قومهم حاكين ما رأوا من صلاته ( صلى الله عليه وسلم ) وازدحام أصحابه عليه متعجبين من ذلك أن الشأن أو القصة العظيمة العجيبة ) لما ( قمت كادوا يكونون عليّ - هكذا كان الأصل ولكنه عبر بالعبد كما تقدم من أن من دعا سيده ولو كان ذلك السيد أحقر الموجودات لا يفعل به ذلك ، فكيف إذا كان سيده مالك الملك وملك الملوك ) قام عبد الله ) أي عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله الجمال فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله ) يدعوه ) أي يدعو سيده دعاء عبادة من حيث كونه عبدوه ومن حيث كون سيده يسمع من دعاه ويجيبه .(8/194)
صفحة رقم 195
ولما كان القاسطون أكثر الناس بل الناس كلهم في ذلك الزمان جناً وإنساً ، قال مبيناً لأنه يجوز على الأنبياء أن يؤذوا وينتقصوا رفعاً لدرجاتهم وتسلية لوراثهم وإن كانت رتبتهم تأبى ذلك ، ) كادوا ) أي قرب القاسطون من الفريقين الجن والإنس ) يكونون عليه ) أي على عبد الله ) لبداً ) أي متراكمين بعضهم على بعض من شدة ازدحامهم لا يعجب منه ، وإنما العجب ما فعلوا هم من عبادتهم لغيره سبحانه وتعالى ومن تعجبهم من عبادة عبده له وغخلاصه في دعائه ، وهو جمع لبد - بكسر اللام ، وقرىء بضم اللام جمع لبدة بضمها ، وهي ما تلبد بعضه على بعض .
ولما استشرفت - على قراءة الكسر - نفس السامع إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن تراكموا عليه من ذلك ، استأنف الجواب بقوله مبيناً لما يستحيل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من دعاء غير الله ومن ترك الدعاء إليه من مخالفة شيء من أمره قال ، أو لماتاقت نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) على قراءة الفتح إلى ما يدفع به ما رأى منهم ، قال تعالى مرشداً له إلى ذلك : ( قل ) أي لمن ازدحم عليك عاداً لهم عداد الجاهلين بما تصنع لأنهم عملوا عمل الجاهل : ( إنما أدعو ) أي دعاء العبادة ) ربي ) أي الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده ، لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني فتزدحموا عليّ والظاهر المتبادر إلى الفهم أن المعنى : وأوحي إليّ أي لما قمت في الصلاة أعبد الله في بطن نخلة ورآني الجن الذي وجههم إبليس نحو تهامة وسمعوا القرآن ازدحموا عليّ حتى كادوا يغشونني ويكون بعضهم على بعض فسمعوا توحيدي لله وتمجيدي له وإفراده بالقدرة والعلم وجميع صفات الكمال آمنوا ، وقيل : هو حكاية الجن لقومهم عن صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفعل أصحابه وراءه في تراصهم في صلاتهم وحفوفهم به ووعظه وتعليمه لهم ، ويحكى هذا القول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسعيد بن جبير فإن ذلك هيئة غريبة ، يحكى أن ملك الفرس أرسل من دخل في المسلمين لما قصدوا بلادوه فكان مما حكي له عنهم أن قال : إذا صلوا صفوا أنفسهم صفوفاً ويقدمهم رجل يقومون بقيامة ويسجدون بسجوده ويقعدون بقعوده ويفعلون كفعله ، لا تخالف بينهم ، فلما سمع الملك ذلك راعه بسجوده ويقعدون بقعوده ويفعلون كفعله ، لا تخالف بينهم ، فلما سمع الملك ذلك راعه وقال : ما لي ولهؤلاء ، ما لي ولعمر ، ونقل أبو حيان عن مكحول أنه بلغ من تابع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجن سبعين ألفاً وفرغوا عند انشقاق الفجر .
ولما كان الداعي لولي نعمته يمكن أن يكون أشرك غيره في دعائه ولو بأدنى وجوه الإشراك ، ويكون الحصر باعتبار الأغلب فاستحق الإنكار عليه والازحام ، نفى ذلك بقوله تأكيداً لمعنى الحصر وتحقيقاً له : ( ولا أشرك به ) أي الآن ولا في مستقبل الزمان(8/195)
صفحة رقم 196
بوجه من الوجوه ) أحداً ( من ود وسواع ويغوث وغيرها من الصامت والناطق .
ولما كان السامع ربما قال : ما له هو لا يهلكهم أو يدعو ربه في دفع المتبلدين عليه عنه بالإهلاك أو التوبة والمتابعة ، أمره بما يبن عظمة ربه وأنه لا يفعل إلا ما يريد بقوله مبيناً أنه يستحيل عليه الصلاة والسلام ما يستحيل على جميع الممكنات من أن يؤثر في شيء بنفسه أو يخالف ربه : ( قل ) أي لهؤلاء الذي خالفوك ، وأكد فطماً لمن ربما اعتقد - لكثرة ما يرى من الكرامات - أنه مهما أراده فعله الله له : ( إني لا أملك ) أي الآين ولا بعد ) لكم ( بنفسي من غير إقدار الله لي لأنه لا مؤثر في شيء من الأشياء إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما كان المقام لدفع شرهم عنه ، قال : ( ضراً ( فأفهم ذلك ( ولا نفعاً ولا غياً ) ) ولا رشداً ) أي صواباً وسداداً .
فالآية من الاحتباك وهو ظاهر على هذا التقدير ، قال أبو حيان : فحذف من كل ما يدل مقابله عليه - انتهى .
ويجوز أن يكون تقديره : لا أملك ضراً لأني لا أملك لكم إضلالاً ولا أملك لكم رشداً فلا أملك لكم نفعاً ، فإنه لا نفع في غير الرشاد ، ولا ضر في غير الضلال ، فقبح الله ابن عربي الطائي الذي يقول في فصوصه : إن الضلال أهدى من الهدى ، فلا أسخف عقلاً منه إلا من تبعه - عليهم لعنى الله وخزيه ، فإن قالوا : إنه أراد غير ما يفهم من ظاهر اللفظ فقل : كذبتم فقد بين مراده إطباقكم على الفسق والفجور لا يكاد يجد منكم من يتهم بمذهبه وهو يتقيد بشرع ، ولم تخرج الآية بهذا عن الاحتباك ، فإن ذكر الضر أولاً دل على حذف النفع ثانياً ، وذكر الرشد ثانياً دل على حذف الضلال أولاً .
ولما أجاب من تشوف إلى علة صبره عن دفعهم عنه بما حاصله أنه لا شيء بيده ، لأن إلهه من العظمة في إحاطة العلم والقدرة وأنه لا يخرج شيء عن مراده فلا يعجل في شيء بحيث لا فعل إلا ما يريد سواء سئل أو لا ، فكان ذلك ربما أوجب أن يظن منه ( صلى الله عليه وسلم ) موافقته لهم لئلا يضروه لأنهم يستعجلون في أذى من خالفهم ، أجاب ما حاصله أنه بين ضررين أحدهما منهم إن خالفهم ، والآخر منه سبحانه وتعالى إن أعرض عنه وهو سبحانه وتعالى يرد أذاهم إن أراد ، وهم لا يقدرون على رد أذاه بوجه فقال : ( قل ) أي لمن يدعوك إلى موافقتهم ، وأكد لما في ظن كثير نم الناس من أن الأسباب لا تتخلف فقال : ( إني ( وزاد في التأكيد لأن ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال : ( لن يجيرني ) أي فيدفع عني ما يدفع الجار عن جاره ) من الله ) أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ) أحد ) أي كائناً من كان إن أرادني سبحانه بسوء .
ولما كان من هو بهذه المثابة ربما هرب منه المطلوب قال مؤكداً : ( ولن أجد ) أي أصلاً .
ولما كانت(8/196)
صفحة رقم 197
كل رتبة دون رتبته ، وكانت الرتب التي دون رتبته كثيرة جداً لما له من العلو المطلق ولغيره من مراتب السفول التي لا تحد ، قال مشيراً لذلك بالجارّ : ( من دونه ) أي الله تعالى ) ملتحداً ) أي معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة ، وإن اجتهدت كل الجهد لأن اللحد أصله الميل ولا يقال إلا في ميل من حق إلى باطل ، والحد : جادل ومارى وركن .
الجن : ( 23 - 25 ) إلا بلاغا من. .. . .
) إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ( ( )
ولما كان من المعلوم أن هذا شيء لا مثنوية فيه ، وكانت الرتب التي دون شريف رتبته سبحانه كثيرة جداً لما له من العلو المطلق وكان ما يليها له حكم شرفها وحقيقها ، وكان أول ذلك البلاغ منه سبحانه بلا واسطة ثم البلاغ بواسطة ملائكته الكرام منه ، استثنى من ( ملتحداً ) على طريق لا ملجأً ولا منجى منك إلى إليك ففروا إلى الله فقال : ( إلا بلاغاً ) أي يبلغني كائناً ) من الله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ، ولكنه لسعة رحمته يجري الأمور على ما يتعارفونه في أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة يعترفون بأنها حجة .
ولما بين الرتبة الأولى التي هي أعلى ، أتبعها التي تليها فقال : ( ورسالاته ( التي أوحي إليّ بها بواسطة الملك فإني أتلقى ذلك حق تلقيه بحفظه والعمل به فيكون ، ذلك عاصماً من كل سوء في الدنيا والآخرة .
ولما كان التقدير لبيان أن الله شرف الرسل بأن أعطاهم عظمة من عظمته فجعل عصاينهم عصيانه ، فيكون جزاء من عصاهم هو جزاء من عصاه سبحانه وتعالى لأنهم إنما يتكلمون بأمره ، فمن يطع الله ورسوله فإن له جنة نعيم يكونون فيها مدى الدهر سعداء ، عطف عليه قوله : ( ومن يعص الله ) أي الذي له العظمة كلها ) ورسوله ( الذي ختم به النبوة والرسالة فجعل رسالته محيطة بجميع خلقه في التوحيد أو غيره على سبيل الجحد ) فإن له ) أي خاصة ) نار جهنم ( وأكد المعنى وحققه لقول من يدعي الانقطاع فقال : ( خالدين فيها ( وأكد المعنى وحققه لقول من يدعي الانقطاع فقال : ( أبداً ( وأما من يدعي أنها تحرق وأن عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من يتابعه على ضلاله وغيه ومحاله ، وليس لهم دراء إلا السيف في الدنيا والعذب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه .(8/197)
صفحة رقم 198
ولما ذكر تلبدهم عليه وقدم ما هو الأهم من أمره من كشف غمومهم بإعلامهم أن ذلك الذي أنكروه عليه هو الذي يحق له ، ومن أنه مع ضعفه عن مقاواتهم هو عن الإعراض عن الله أضعف لأن الله أقوى من كل شيء وأنه لا يسعه إلا امتثال أمره ، وأشار إلى أنهم عاجزون عن سطواته سبحانه بعدم القدرة على الإجارة عليه ، صرح بذلك مهداً لهم ، فقال مغيياً لتلبدهم عليه : ( حتى إذا رأوا ) أي بأبصارهم فيه ) ما ) أي الشيء الذي .
ولما كان المنكي من الوعيد بروكه على كل من كان لأجله الوعيد لا كونه من معين قال : ( يوعدون ) أي ما حصل الإيعاد في الدنيا أو في الآخرة أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فمثل إخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع اجتماع المشركين على المكر به لقتله واجتهادهم في ذلك ثم سراياه وغزواته مثل غزوة بدر وغيرها من أيام الله التي ملأت الأرض نوراً وأهل الحق سروراً وحبوراً ، وأهل الباطل خسراً وبوراً ورعباً وهلاكاً وقبوراً ) فسيعلمون ) أي من ذلك اليوم الذي يكون فيه تأويله بوعد لا خلف فيه ولا طولاً لأمده ) من أضعف ناصراً ) أي من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم ) وأقل عدداً ( وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله سبحانه ، فيا لله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضغفون أنفسهم من حيث هي ، ويذكرون قوتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك وله جنود السماوات والأرض بخلاف أهل الإلحاد فإنه لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء من سواهم ، وإذا حاققت أحداً من أتباع أحد منهم قال هذا على لسان النبوة - ونحو هذا من مخادعاتهم .
ولما كان من المعلوم أنهم إذا سمعوا هذا الوعيد قالوا استهزاء وعمى عن طريق الصواب واستعلاء : متى يكون عجل به ، استأنف قوله جواباً لهم جواب من لا يستخفه عجلة ولا ضجر لأنه لا يخاف الفوت ولا يلحقه ضرر ببقاء العدو واجتهاهم في أذى أوليائه ميبناً ما يجوز على الرسل من أنه يخفى عليهم ما على البشر ويطلعهم الله تعالى ما يخفي على غيرهم : ( قل ) أي في جوابهم إن كذبوا بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء منه عن وقت وقوعه أما كونه فلا بد منه لأنه قد برز الوعيد به ممن لا يخلف الميعاد ، وأما تعيين وقته فقد أخفاه سبحانه لأنه أقعد في التهديد وهو معنى قوله : ( إن ) أي ما ) أدري ( بوجه من الوجوه وإن عالجت ذلك وتسببت فيه ، وزاد في تقرير خفائه وأنه لا يزال في حيز ما يسأل عنه بصيغة الاستفهام فقال مقدماً ما يخفيهم : ( أقريب ما توعدون ) أي يكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب ) أم ( بعيد ) يجعل له ) أي لهذا الوعي .
ولما كان التأخير .
ولما كان التأخير ربما أفهم تهاوناً بالولي .
فقال دافعاً لذلك : ( ربي ) أي المحسن إليّ إن قدمه أو أخره ) أمداً ) أي أجلاً مضروباً عظيماً(8/198)
صفحة رقم 199
بكل اعتبار حتى في البعد لا يتأتى مع ذلك أن يكون الآن ولا أن يتوقع دون ذلك الأمد ، فهو في كل حال متوقع فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بد من وقوعه فوقوعه لا كلام فيه ، وإنما الكلام في تعيين وقته .
الجن : ( 26 - 28 ) عالم الغيب فلا. .. . .
) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ( ( )
ولما نفى ( صلى الله عليه وسلم ) علمه عن نفسه الشريف ، فنى ذلك عن غيره على وجه عام لجميع الغيب جالٍ من عظمة مرسله ما تنقطع دونه الأعناق فقال واصفاً له : ( عالم الغيب ) أي كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص سبحانه بعلمه ، فلذلك سبب عنه قوله : ( فلا يظهر ) أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات ) على غيبه ) أي الذي غيبه عن غيره فهو مختص به ) أحداً ( لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك .
ولما كان لا يعلم الغيب إلا ببروزه على عالم الشهادة ، وكان لأول من يطلع عليه شرف ينبغي أن يعرف له قال : ( إلا من ارتضى ) أي عمل الله تعالى في كونه رضي عمل من يتعمد ذلك ويجتهد فيه ، وبين ( من ) بقوله : ( من رسول ) أي من الملائكة ومن الناس فإنه يظهر عليه ذلك المرتضى الموصوف لا كل مرتضى بأن يظهره على ما شاء منه لأن الغيب جنس لا تحقق له إلا في ضمن أفارده ، فإذا ظهر فرد منه فقد ظهر فيه الجنس لظهور حصة منه ، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً ، وتارة يكون بشراً يكلمه الله بغير واسطة كموسى عليه الصلاة والسلام في أيام المناجاة ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى ، وإذا ظهر عليه الرسول خرج عن كونه غيباً ، وأوصله الرسول إلى من أذن له في إيصاله له تارة بالوحي للأنبياء وتارة بالنفث والإلهام للأولياء ، وذلك عند تهييء نفوسهم بسكون قواها عن منازعة العقل بالشهوات والحظوظ كما يكون للنفوس عامة حين سكون القوى عن المنازعة بالنوم فتكون متهيئة للنفث فيها فمن أعرض عن جانب الحس وأقبل على جناب القدس فقده هيأ نفسه لنفث الملك في ورعه بعلم ما لم يكن يعلم وليس أحد من الناس إلا وقد علم من نفسه أنه إذا أقبل على شيء بكلتيه حدث له فيه أمور حدسية إلهامية بغتة من غير سابقة فكر وطلب ، وعلى قدر التهيئة يكون النفث من قبل الله سبحانه وتعالى ، وربما كان النفث شيطانياً بما تلقته الشياطين من الاستراقات من الملائكة إما من الأرض بعد نزولهم أو من السماء بالاستراق فيها - والله أعلم ، ويجوز أن يكون للأولياء مشافهة من الملك كما كان لمريم عليها السلام من الملائكة ، وقال جبريل عليه الصلاة والسلام عن بعضهم إنه لو سلم رد(8/199)
صفحة رقم 200
عليه .
ولما دل هذا السياق على عزة علم الغيب واكنت عزته سبباً لحراسة من يطلع عليه ليؤديه إلى من أمر به كما أمر به ، أعلم سبحانه وتعالى بذلك بقوله مؤكداً تمييزاً له من علم الكهان الذي أصله من الجان دالاًّ على إجلال الرسل وإعظامهم وتبجيلهم وإكرامهم : ( فإنه ) أي الله سبحانه وتعالى يظهر ذلك الرسول على ما يريد من الغيب .
وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه ) يسلك ) أي يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقومه ونفوذه من غير أدنى تعريج إلى غير المراد .
ولما كان الغرض يحصل بمن يقيمه سبحانه من جنوده للحراسة ولو أنه واحد من كل جهة بل وبغير ذلك ، وإنما جعل هذا الإخراج للأمر على ما يتعارفه العباد ، عبر بالجارّ دليلاً على عدم استغراق الرصد للجهات إلى منقطع الأرض مثلاً فقال : ( من بين يديه ( إلى الجهة التي يعلمها ذلك الرسول ) ومن خلفه ) أي الجهة التي تغيب عن علمه ، فصار ذلك كفاية عن كل جهة ، ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل وخصهما لأن العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها ، ومتى حفظت لم يأت من غيرها ، لأنه يصير بين الأولين والآخرين ) رصداً ) أي حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه بحفظ ما معه من الغيب من اختطاف الشياطين أو غيرهم لئلا يسترقوا شيئاً من خبره - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال مقاتل وغيره رضي الله عنهما : يخبرونه بمن أنكره بأن يحذروه منه إن كان شيطاناً أو بأمره بالسماع منه إن كان ملكاً ، وذلك أن إبليس كان يأتي الأنبياء في صورة جبريل عليه السلام ولكن الله عصمهم منه .
ولما كان هذا الدأب نم الحفظ في كل رسول بين الغاية جامعاً تعييناً لما اقتضاء الجنس ، وبياناً لأن الأفراد أولاً مراد به الجمع ، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد منهم فقال : ( ليعلم ) أي الله علماً كائناً واقعاً على هذه الصفة التي تعلق بها علمه في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون ) أن ) أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام ) قد أبلغوا ) أي غلى من أرسلوا إليه ) رسالات ربهم ) أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته على ما هي عليه لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر .
ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد أزال ذلك بقوله : ( وأحاط ) أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط ) بما لديهم ) أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى ، ولما كان هذا كافياً في المقصود ، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفاً بالأمر على ما هو عليه ، فقال حاملاً على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه ، مبيناً غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في(8/200)
صفحة رقم 201
سورة والنجم : ( وأحصى ) أي الله سبحانه وتعالى ) كل شيء ) أي على العموم من غير استثناء أصلاً ) عدداً ) أي من جهة العدد لكل ما يمكن عده ولو على أقل مقادير الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال ، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى ابنت عظمتة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب ، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقاراءة ما تيسر منه ، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه ، ثم نهى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في وسرة القايمة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه ، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه ، وتشريعاً لأمته في ترك الاستعجال ، فإنه ليس من دأب الرجال ، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان ، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان ، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون ، فقال
77 ( ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( ) 7
[ الأعراف : 185 ] فسبحان من نظمه هذا النظام ، وجعله أقصى المراد وغاية المرام ، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام .
.. .(8/201)
صفحة رقم 202
سورة المزمل
مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال ، وتخفف الأحمال الثقال ، ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال ، والتجرد يفي خدمته يفي ظلمات الليال ، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال ، ومحو ظلل الضلال ، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال ، لما يرد من الكدورات في دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال ) بسم الله ( الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال ) الرحمن ( الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان المهدي والضال عليه في جميع الأحوال ) الرحيم ( الذي خص حزبه بالسداد يفي الأقوال والأفعال لإيصالهم إلى دار الكمال .
المزمل : ( 1 - 5 ) يا أيها المزمل
) يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( ( )
في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه ( صلى الله عليه وسلم ) أول هذه إلى القيامة بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب ، والبسط والجلوة لمن دق الباب ، للاعتلاء والمتاب ، المهيئ لحمل أعباء الرسالة ، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة ، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة ، أشار إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقص للمألوفات المطردات ، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية ، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد ، وبالتزمل لكونه منافقياً للقيام في الصلاة : ( يا أيها المزمل ) أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به - بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد ، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما(8/202)
صفحة رقم 203
قال ( صلى الله عليه وسلم ) في قتلى أحد - ( زملوهم بثيابهم ودمائهم ) مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل ، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن ، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به ، من قولهم : زمل الشيء - إذا رفعه وحمله ، والازدمال : احتمال الشيء ، وزملت الرجل على البعير وغيره - إذا حملته عليه ، ومن زملت الدابة في عدوها - إذا نشطت ، والزامل من حمر الوحوش الذي كأنه يظلع من نشاطه ، ورجل إزميل : شديد ، والزاملة : بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه ، ويقال للرجل العالم بالأمر : هو ابن زوملتها ، وقال ابن عطاء : يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية هذا أوان كشفه ، وقال عكرمة : يا أيها الذي حمل هذا الأمر ، وقال السدي : أراد يا ألها النائم ، وقال غيره : كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة ، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة ، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول : ( قم ) أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والزدمال بالاجتهاد في الاحتمال ، واترك التزمل فإنه مناف للقيام .
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة ، وكانت النية خيراً من العمل ، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف ، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشرفياً لإمامها ( صلى الله عليه وسلم ) ، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا ، فجعل غحياء البعض إحياء للكل ، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال : ( الليل ) أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده ، وهي حامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة ، وهي عمادها ، فذكرها دال على ما عداها .
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل : ( إلا قليلاً ) أي من كل ليلة ، ونودي هذا النداء لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال : ( زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي ) فسألته رضي الله عنها عن حاله ، فلما قص عليها أمره - قال : ( خشيت على نفسي )(8/203)
صفحة رقم 204
يعني أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة ، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة ، فقالت له وكانت وزيرة صدق : ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل ارحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق ) ونحو هذا من المقال الذي يثبت ، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه ، وقصر بصره وبصيرته على حسه ، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية ، وزال ما عرض من العلة البدنية .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى إلى مرماها وتم مقصدها ومبناها ، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة ، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة ، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم ، صرف الكلام إلى أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره ، مفتتحاً ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة ) يا أيها المزمل ) [ المزمل : 1 ] وكان ذلك تسلية له صل الله عليه وسلم وكان تسلية ( صلى الله عليه وسلم ) كما ورد
77 ( ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( ) 7
[ فاطر : 8 ] إلى آخره ، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه ، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى
77 ( ) فاصبر صبراً جميلاً ( ) 7
[ المعارج : 5 ]
77 ( ) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً ( ) 7
[ المزمل : 10 - 11 ] وهذا عين الوارد في قوله تعالى :
77 ( ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( ) 7
[ فاطر : 8 ] وفي قوله
77 ( ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار ( ) 7
[ ق : 45 ] ثم قال :
77 ( ) إن لدينا أنكالاً ( ) 7
[ المزمل : 12 ] فذكر ما أعد لهم ، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه ، وبان لك التحام ما ذكره ، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه - رضي الله عنه أجمعين - وأجزل جزاءهم مع قووع التقصر ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله
77 ( ) علم ان لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ( ) 7
[ المزمل : 20 ] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى :
77 ( ) علم أن لن تحصوه ( ) 7
[ المزمل : 20 ] انتهى .
ولما كان الليل اسماً لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ، وكان قيامه في غاية المشقة ، حمل سبحانه من ثقل ذلك ، فقال مبيناً لمراده بما حاط عليه الكلام بعد(8/204)
صفحة رقم 205
الاستثناء ، ومبدلاً من جملة المستثنى والمستثنى منه : ( نصفه ) أي الليل ، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف ، وسماه قليلاً بالنسبة إلى جميع الليل ، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه ، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما عمل فيه ، ويجوز أن يكون ( نصفه ) بدلاً من الليل ، فيكون كأنه قيل : قم نصف الليل إلا قليلاً وهو السدس أو انقص منه إلى الربع ، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث الليل بل ربعه فما فوقه كان محيياً لليل كله .
ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال : ( أو انقص منه ) أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه ، أو من الصنف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث ) قليلاً ( فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محيياً قليلاص كالسدس مثلاً ، فيكون الذي تقومه الثلثين مثلاً ، وعلى كل تقدير من هذه التقادير يصادف القيام - وهو لا يكون إلا بعد النوم : الوقت الذي يباركه الله بالتجلي فيه فإنه صح أنه ينزي سبحانه عن أن يشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء - حين يبقى ثلث الليل - وفي رواية : حين يبقى شطر الليل الآخر - إلى سماء الدنيا فيقول : هل من سائر فأعطيه ، هل من تائب فأتوب عليه ، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر .
وكان هذا القيام في أول الإسلام فرضاً عليهم على التخيير بين هذه المقادير الثلاثة فكانوا يشقون على أنفسهم ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب ، وكذا بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم ، وكان هذا قبل فريضة الخمس ، فنزل آخرها بالتخفيف بعد سنة
77 ( ) علم أن لن تحصوه ( ) 7
[ المزمل : 20 ] الآيات ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة .
ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه ، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال : ( ورتل القرآن ) أي اقرأه على تؤدة وبين حروفه بحيث يتمكن السامع من عدها وحتى يكون المتلو شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشهر ، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .
روى الترميذي عن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام حتى أصبح بآية ، والآية
77 ( ) إن(8/205)
صفحة رقم 206
تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ) [ المائدة : 118 ] ولما أعلم سحبانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال : ( ترتيلاً ( .
ولما كان المراد منه ( صلى الله عليه وسلم ) الثبات للنبوة ومن أمته الثبات في الاقتداء به في العمل والأمر والنهي ، وكان ذلك ي غاية الصعوبة ، وكان الإنسان عاجزاً إلا بإعانة مولاه ، وكان العون النافع غنما يكون لمن صفت نفسه عن الأكدار وأشرقت بالأنوار ، وكان ذلك إنما يكون بالاجتهاد في خدمته سبحانه ، علل هذا الأمر بقوله مبيناً للقرآن الذي أمر بقراءته ما هو وما وصفه ، معلماً أن التهدد يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات ، مؤكداً لأن الإتيان بما هو خارج عن جميع أشكال الكلام لا يكاد يصدق : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) سنلقي ) أي قريباً بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له .
ولما كان المقام لبيان الصعوبة ، عبر بأداة الاستعلاء فقال : ( عليك ( وأشار إلى اليسر مع ذلك إشارة إلى ) ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ) [ القمر : 17 ] بالتعبير بما تدور مادته على اليسر والخفة فقال : ( قولا ( يعني القرآن ) ثقيلاً ) أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس ، ومن جهة رزانة لفظه لامتلائه بالمعاني مع جلالة معناه وتصاعده في خفاء فلا يفهمه المتأمل ويستخرج ما فيه من الجواهر إلا بمزيد فكر وتصفية سر وتجريد نظر ، فهو ثقيل على الموافق من جميع هذه الوجوه وغيرها ، وعلى المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه مع أنه ثقيل في الميزان وعند تلقيه وله وزن وخطر وقدر عظيم ، روي في الصحيح : ( إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أتاه الوحي يفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشاتي الشديد البرد ( وكان - إذا أنزل عليه الوحي وهو راكب على ناقته وضعت جرانها فلا تكاد تتحرك حتى يسري عنه ) قال القشيري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة الأنعام نزلت عليه جملة واحدة وهو راكب فبركت ناقته من ثقل القرآن وهيبته ، وهو مع ثقله على الأركان خفيف على اللسان سهل التلاوة والحفظ على الإنسان .
المزمل : ( 6 - 9 ) إن ناشئة الليل. .. . .
) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( ( )(8/206)
صفحة رقم 207
ولما أفهم هذا أن التهجد في غاية العظمة ، أكد ذلك حاثاً على عدم الرضى بدون الأفضل الأجمل الأكمل بقوله : مؤكداً ليخف أمر القيام على النفس : ( إن ناشئة الّيل ) أي ساعاته التي كل واحدة منها ناشئة والعبادة تنشأ فيه بغاية الخفة ، من نشأ أي نهض من مضجعه بغاية النشاط لقوة الهمة ومضاء العزيمة التي جعلتها كأنها نشأت بنفسها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبله فليس بناشئة ، وقالت عائشة رضي الله عنها : الناشئة القيام بعد النوم ، وقال الأزهري : الناشئة القيام ، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو .
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة لشدة منافرته للطبع ، زاد في التأكيد ترغيباً فيه فقال : ( هي ) أي خاصة لما لها من المزايا ) أشد ) أي أثقل وأقوى وأمتن وأرصن ) وطأً ) أي كلفة ومشقة لما فيها نم ترك الراحة وفراق الألف والمحبوب ، وأشد ثبات قدم - على أنه مصرد وطئ في قراءة الجماعة - بفتح ثم سكون ، ومواطأة بين القلب واللسان في الحضور وفي التزام الدين بالإذعان والخصوع على أنه مصدر واطأ مثل قاتل على قراءة أبي عمرو وابن عامر بالكسر والمد وهي أبلغ لأن صيغة المفاعلة تكون بين انثين يغالبان فيكون الفعل أقوى .
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل ، وبين ما في الفعل لأنه أشق ، فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق ، أتبعه القول فقال : ( وأقوم قيلاً ) أي وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب بحضور القلب ورياقة الليل بهدوء الأصواء وتجلي الرب سبحانه وتعالى بحصول البركات ، وأخلص من الرياء والقصود الدنيات .
ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمه الأمر وبه صلاح الدارين ، وأظهر ما للتهجد من الفضائل ، فكان التقدير حتماً : فواظب عليه لتناول هذه الثمرات ، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش ، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود ، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة ، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه : ( إن لك ) أي أيها المتهجد أو يا أكرم العباد غن كان الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون آكد في إلزام الأمة به ) في النهار ( الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا .
ولما كان الإنسان يهتم في سعيه لنفسه حتى يكون كأنه لشدة عزمه وسرعة حركته كالسابح فيما لا عائق له فيه قال : ( سبحاً طويلاً ) أي تقلباً ممتد الزمان ، قال البغوي : وأصل السبح سرعة الذهاب ، وقال الرازي : سهولة الحركة .(8/207)
صفحة رقم 208
ولما كان التقدير : فاجتهد في التهجد ، عطف عليه قوله حاثاً على حضور الفكر : ( واذكر اسم ربك ) أي المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ودم على ذلك ، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص ، وذلك عون لك على مصالح الدارين ، أما الآخرة فواضح ، وأما الدنيا فقد أرشد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها لما سأتله خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم .
ولما كان الذكر قد يكون مع التعلق بالغير ، أعلم أن الذاكر في الحقيقة إنما هو المستغرق فيه سبحانه وبه يكون تمام العون فقال : ( وتبتل ) أي اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل ، والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً ، منتهياً : ( إليه ( ولا تزل على ذلك حتى يصير لك ذلك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع ومقطعة تقطعياً كثيراً بكل قاطع ، فيكون التقدير - بما أرشد إليه المصدر ( تبتلاً ) وبتلها ) تبتيلاً ( فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة الاهتمام وصعوبة المقام ، وهو من البتل وهو القطع ، صدقة بتلة أي مقطوعة عن صاحبها ، ولذلك قال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى ، والبتول مريم عليها السلام لانقطاعها إلى الله تعالى ، عن جميع خلقه ، وكذا فاطمة الزهراء البتول أيضاً لانقطاعها عن قرين ومثيل ونظير ، فالمراد بهذا هو المراد بكلمة التوحيد المقتضية للإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه ، وذلك بملازمة الذكر وخلع الهوى ، والآية من الاحتباك وهو ظاهر : ذكر فعل التبتل دليلاً على حذف مصدره ، وذكر مصدر بتل ديليلاً على حذف فعله .
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم ، بين أنه سبحانه الذي أنعم يسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه ، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره في قراءة ابن عامر ويعقوب والكوفيين غير حفص معظماً له بالقطع في قراءة الباقين بالرفع : ( رب المشرف ) أي موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ويضيء بها الصباح وعند الصباح يحمد القوم السرى بما أنالهم من الأنوار في مرائي قلوبهم وما زينها به من شهب المعاني كما أوجد لهم في آفاق أفلاكهم(8/208)
صفحة رقم 209
من شموس المعاني المثمرة ليدور الأنس في مواطن القدس ، فلا يطلع كوكب في الموضع الذي هو ربه إلا بإذنه ، وهو رب كل مكان ، وما أحسن ما قال الإمام الرباني تقي الدين بن دقيق العيد :
كم ليلة فيك وصلنا السرى لا نعرف الغمض ولا نستريح واختلف الأصحاب ماذا الذي يزيح من شكواهم أو يريح فقيل تعريسهم ساعة وقلت بل ذكراك وهو الصحيح
ولما ذكر مطالع الأنوار ، لأنها المقصود لما لها من جلي الإظهار ، ووحد لأنه أوفق لمقصود السورة الذي هو محطة لانجماح المدلول عليه بالتزمل ، أتبعه مقابله فقال : ( والمغرب ) أي الذي يكون عنه الليل والذي هو محل السكن وموضع الخلوات ولذيذ المناجاة ، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره سبحانه ، وإذا كان رب ما فيه هذه الصنائع التي هي أبدع ما يكون كان رب ما دون ذلك .
ولما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات ، المتفرد بإيجاد الموجودات ، كان أهلاً لأن يفرد بالعبادة وجميع التوجه فقال مستأنفاً : ( لا إله ) أي معبود بحق ) إلا هو ) أي ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأنهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص .
ولما علم تفرده سبحانه كان الذي ينبغي لعباده أن لا يوجه أحد منهم شيئاً من رغبته لغيره فلذلك سبب عنه قوله : ( فاتخذه ) أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى ) وكيلاً ) أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلؤها غاية الكلاية فإنه المتفرد بالقدرة عليها ، ولا شيء أصلاً في غيره ، فلا تهتم بشيء أصلاً ، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل ، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب ، فإنه يكون حينئذ كنم يطلب الولد من غير زوجة ، وهو مخالف لحكمة هذا الدار المبنية على الأسباب ، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً ووكيلك من الناس - إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر ، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه(8/209)
صفحة رقم 210
يرزقك وينفق عليك من ماله ، ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً ، ومات خالصاً شريفاً ، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً ، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ، ويتواضع لعظمته ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة .
المزمل : ( 10 - 15 ) واصبر على ما. .. . .
) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ( ( )
ولما كانت الوكالة لا تكون إلا فيما يعجز ، وكان الأمر بها مشيراً إلى أنه لا بد أن يكون عن هذا القول الثقيل خطوب طوال وزلازل وأهوال ، قال : ( واصبر ( وأشار إلى عظمة الصبر بتعديته بحرف الاستعلاء فقال : ( على ما ( وخفف الأمر بالإشارة إلى أنهم لا يصلون إلى غير الأذى بالقول ، وعظمه باسمرارهم عليه فقال : ( يقولون ) أي المخالفون المفهومون من الوكالة من مدافعتهم الحق بالباطل في حق الله وحقك .
ولما كانت مجانبة البغيض إلا عند الاضطرار مما يخفف من أذاه قال : ( واهجرهم ) أي أعرض عنهم جهاراً دافعاً للهرج مهما أمكن ) هجراً جميلاً ( بأن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرك وخاطرك ، فلا تخالطهم إلا فيما أمرك الله به على ما حده لك من دعائهم إليه سبحانه ومن موافاتهم في أرفاحهم وأحزانهم فتؤدي حقوقهم ولا تطالبهم بحقوقك لا تصريحاً ولا تلويحاً .
ولما كان في امره هذا بما يفعل ما يشق جداً بما فيه من احتمال علوهم ، أعلم بقرب فرجه بتهديهم بأخذهم سريعاً فقال : ( وذرني ) أي اتركني على أي حالة اتفقت مني في معاملتهم ، وأظهر في موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف وتعميماً فقال : ( والمكذبين ) أي العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم .
ولما ذكر وصفهم الذي استحقوا به العذاب ، ذكر الحامل عليه تزهيداً فيه وصرفاً عن معاشرة أهله لئسلا تكون المعاشرة فتنة فتكون حاملة على الاتصاف به وجارّة إلى حب الدنيا فقال : ( أولي النعمة ) أي أصحاب التنعم بغضارة العيش والبهجة التي أفادتهموها النعمة - بالكسر وهي الإنعام وما ينعم به من الأموال والأولاد ، والجاه الذي أفادته النعمة - بالضم وهي المسرة التي تقتضي الشكر وهم أكابر قريش وأغنياؤهم .(8/210)
صفحة رقم 211
ولما كان العليم القدير إذا قال مثل هذا لولي من أوليائه عاجل عدوه ، قال محققاً للمراد بما أمر به من الصبر من هذا في النعم الدنيوية بأن زمنها قصير : ( ومهلهم ) أي اتركهم برفق وتأن وتدريج ولا تهتم بشانهم .
ولا سره بوعيدهم الشديد بهذه العبارة التي مضمونها أن أخذهم بيده ( صلى الله عليه وسلم ) وهو سبحانه يسأل يف تأخيره لهم ، زاد في البشارة بقوله : ( قليلاً ) أي من الزمان والإمهار إلى موتهم أو الإيقاع بهم قبله ، وكان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر يسير - قاله المحب الطبري ، وفيه بشارة له ( صلى الله عليه وسلم ) بالبقاء بعد أخذهم كما كان ، وأنه ليس محتاجاً في أمرهم إلى غير وكلهم سبحانه وتعالى بإلقائهم عن باله ( صلى الله عليه وسلم ) وتفريغ ظاهره وباطنه لما هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى من الإقبال على الله سبحانه ، ففي الآية أن من اشتغل بعدوه وكله الله إلى نفسه ، فكان ذلك كالمانع من اخذ الله له ، فإذا توكل عليه فقد أزال ذلك المانع - .
ولما كان هذا منادياً بعذابهم ، وكان وصفهم بالنعمة مفهماً لأنهم معتادون بالمآكل الطيبة ، وكان منع اللذيذ من المآكل لمن اعتاده لا يبلغ في نكاية النفس بحد نكاية البدن إلاّ بعد تقدم إهانة ، استأنف قوله بياناً لنوع ما أفهمه التهديد من مطلق العذاب ، وأكد لأجل تكذيبهم : ( إن ( وأشار إلى شدة غرابته وجلالته وعظمته وخصوصيته وتحقق حضوره بقوله : ( لدينا ( دون عندنا ولما كان أشد ما على الإنسان منعه مما يريد من الانبساط به بالحركات ، قال ذاكراً ما يضاد ما هم فيه من النعمة والعز : ( أنكالاً ( جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لايفك أبداً إهانة لهم لا خوفاً من فرارهم ، جزاء على تقييدهم أنفسهم بالشهوات عن اتباع الداعي وإيساعهم في المشي في فضاء الأهوية .
ولما كان ذلك - محرقاً للباطن أتبعه حريق الظاهر فقال : ( وجحيماً ) أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد بما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب ، والتنعم برقيق اللباس والثياب ، وتكلف أنواع الراحة .
ولما أتم ما يقابل تكذيبهم ، أتبه ما يقابل النعمة فقال : ( وطعاماً ذا غصة ) أي صاحب انتشاب في الحلق كالضريع والزقوم يشتبك فيه فلا يسوغ : لا ينزل ولا يخرج بما كانوا يعانونه من تصفية المآكل والمشارب ، وإفراغ الجهد في الظفر بجميع المآرب .
ولما خص عم فقال : ( وعذاباً أليماً ) أي مؤلماً شديد الإيلام لا يدع لهم عذوبة بشيء من الأشياء أصلاً بما كانوا يصفون به أوقاتهم ويكدرون على من يدعوهم إلى ما ينفعهم بالخلاص من قيود المشاهدات والعروج من حضيض الشهوات إلى أوج الباقيات الصالحات .(8/211)
صفحة رقم 212
ولما ذكر هذا العذاب ذكر ظرفه فقال : ( يوم ترجف ) أي تضطرب وتتزلزل زلزالاً شديداً ) الأرض ) أي كلها ) والجبال ( التي هي أشدها .
ولما كان التقدير : فكانت الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، عطف عليه قوله : ( وكانت الجبال ) أي التي هي مراسي الأرض وأوتادها ، وعبر عن شدة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد فقال : ( كثيباً ) أي رملاً مجتمعاً ، فعيل بمعنى مفعول ، من كثبه - إذا جمعه ، ومادة كثب بتركيبها كثب - وكبث تدور على الجمع مع القرب ، وتلزمه القلة ، فإن حقيقة القرب قلة المسافة زماناً أو مكاناً ، والنعومة ، من كثبت التراب : درسته ، وكثب عليه - بمعنى حمل أوكر ، معناه قارب أن يخالطه ، وكثيب الرمل : قطعه تنقاد محدودبة - ناظر إلى القلة من معنى قطعاً ، وكل ما أنصب كذلك أيضاً لأن الانصاب عادة يكون لما قل وأما نعم كثاب بتقديم الثاء وبتأخيرها أيضاً أي كثير فجاءته الكثرة من الصيغة ، والكاثبة من الفرس هو أضيق موضع في عرضها ، والكثبة من الأرض : المطمئنة بين الجبال - لأنها تكون صغيرة غالباً ، وكباث كسحاب : النضيج من ثمر الأراك ، وقيل : ما لم ينضج ، وقيل : حمله إذا كان متفرقاً ، فإن أريد النضيج منه فتسميته به لأنه مجتمع ، وإن أريد ما لم ينضج فهو من مقاربة النضج ، وإن أريد المتفرق فلقرب بعضه من بعض لأن الأراك نفسه صغير الشجر ، وكبث اللحم - كفرح : بات مغموماً فتغير أو أروح أي جمع على إنائه الذي هو فيه إناء آخر ، أو جمع ما هو فيه حتى تضايق فهو من الجمع لهذا ، وأما الكنبث كقنفذ والثاء مؤخرة : الصلب الشديد ، فهو في الغالب من تجمع أجزائه والقرب معاً ، وأما كثبت كنانته - بمعنى نكثها ، فكان فعل استعمل هنا للإزالة ، أي أزال اجتماعها أو بمعنى أنه قربها نم رميه بتسييرها لسرعة التناول .
ولما كان الكثيب ربما أطلق مجازاً على ما ارتفع وإن لم يكن ناعماً قال : ( مهيلاً ) أي رملاً سائراص رخوياً ليناً منثوراً ، من هاله إذا نثره ، وقال الكلبي : هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده ، ولما ذكر العذاب ووقته وقدمهما ليكون السامع أقبل لما يطلب منه ، أتبعهما السبب فيه مشيراً إلى ما به إصلاح أمر الآخرة التي فيها المعاد وإليها المنتهى والمآب ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : ( إنا أرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ) إليكم ( يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة ، وإلى كل من بلغته الدعوة عامة ) سولاً ) أي جداً هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين وإمامهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) شاهداً عليكم ) أي بما تصنعون ليؤدي الشهادة عند طلبها منه بما هو الحق يوم ننزع من كل أمة شهيداً وهو يوم القيامة .(8/212)
صفحة رقم 213
ولما كانت هذه السورة من أول ما نزل والدين ضعيف وأهله في غاية القلة والذلة ليعتبر بهم من آل به أمره إلى أن كان في زمان صار فيه الدين غريباً كغربته إذ ذاك ، وكان فرعون أعتى الناس في زمانه وأجبرهم ، وأشدهم خداعاً وأمكرهم وكان بنو إسرائيل في غاية الذل له والطواعية لأمره ، ومع ذلك فلما أرسل الله إليه موسى عليه السلام الذي ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل لأجل أن يكون في جملة من ذبحه لأنه قيل له أنه يولد لبني إسرائيل مولود يكون هلاك القبط على يده أظهره به وأهلكه على قوته وأنجى منه معه لا ينبغي أن يقاوي ولو أنه أضعف الخلق ، وتنبيهاً لهم على أن من كان الله معه لا ينبغي أن يقاوي ولو أنه أضعف الخلق ، وتنبيهاً لهم على الاعتبار بحال هذا الطاغية الذي يزيد عليهم بالملك وكثرة الجنود والأموال : ( كما أرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ) إلى فرعون ) أي ملك مصر ) رسولاً ( ولعله نكره للتنبيه على أنه ليس من قوم فرعون فلا مانع له منه من حميم ولا شفيع يطاع ، ليعلم أنه من كانت له قبيلة تحامي عنه أولى بالنصرة .
المزمل : ( 16 - 20 ) فعصى فرعون الرسول. .. . .
) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما كان الإرسال سبباً للقبول أو الرد قال : ( فعصى فرعون ) أي بما له من تعود الطباع ) الرسول ) أي الذي تقدم أنا أرسلناه إليه فصار معهوداً لكم بعد ما أراه من المعجزات البينات والآيات الدامغات - بما أشار إليه مظهر العظمة ، ولذلك سبب عن عصيانه قوله : ( فأخذناه ) أي بما لنا من العظمة ، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله : ( أخذاً وبيلاً ) أي ثقيلاً شديداً متعباً مضيقاً رديء العاقبة من قولهم : طعام وبيل - إذا كان وخماً لا يستمرأ أي لا ينزل في المري ولا يخف عليه ، وذلك بأن أهلكناه ومن معه أجمعين لم ندع منهم أحداً - وسيأتي إن شاء الله تعالى في ( ألم نشرح ) قاعدة إعادة النكرة والمعرفة .
ولما علم بهذا أنه سبحانه شديد الأخذ ، وأنه لا يغني ذا الجد منه الجد ، سبب عن ذلك قوله محذراً لهم الاقتداء بفرعون : ( فكيف تتقون ) أي توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم ، ولما كان التنفير من سبب التهديد أهم لأنه أدل على رحمة المحذر وأبعث على اجتنابه ، قال مشيراً بأداة الشك إلى أن كفرهم بالله مع ما نصب لهم من الأدلة العقلية المؤيدة بالنقلية ينبغي أن لا يوجد بوجه ، وإنما يذكر ينبغي أن لا يوجد بوجه ، وإنما يذكر على سبيل الفرض والتقدير : ( إن كفرتم ) أي أوقعتم التسر لما غرس في فطركم من أنوار الدلائل القائدة إلى الإيمان(8/213)
صفحة رقم 214
فبقيتم على كفركم - على أن العبارة مشيرة إلى أنه عفا عنهم الكفر الماضي فلا يعده عليهم رحمة منه وكرماً ولا يعد عليهم إلا ما أوقعوه بعد مجيء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوماً ) أي هو مثل في الشدة بحيث إنه يقال فيه ) يجعل ( لشدة أهواله وزلزاله وأوجاله ) الولدان ) أي عند الولادة أو بالقرب منها ) شيباً ( جمع أشيب وهو من ابيض شعره ، وذلك كناية أن عن كثرة الهموم فيه لأن العادة جارية بأنها إذا تفاقمت أسرعت بالشيب ، والمعنى إنكار أن يقدروا على أن يجعلوا لهم وقاية بغاية جهدهم تقيهم عذاب ذلك اليوم الموصوف بهذا الهول الأعظم ، وذلك حين يقول الله : ( يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) وأسند الجعل إلى اليوم لكونه واقعاً فيه كما جعله المتقي ، وإنما المتقي العذاب الواقع فيه .
ولما كان هذا أمراً عظيماً ، صور أهواله زيادة في عظمه فقال : ( السماء ) أي على عظمها وعلوها وشدة إحكامها .
ولما كان المراد الجنس الشامل للكل ذكر فقال : ( منفطر ) أي منشق متزايل من هيبة الرب تزايل المتفرط من السلك ، ولو أنث لكل ظاهراً في واحدة من السماوات ، وفي اختيار التذكير أيضاً لطيفة أخرى ، وهي إفهام الشدة الزائدة في الهول المؤدي إلى انفطاره ما هو في غاية الشدة لأن الذكر في كل شيء اشد من الأنثى ، وذلك كله تهويلاً لليوم المذكور ) به ) أي بشدة ذلك اليوم وباؤه للآله ، ويجوز كونها بمعنى ( فيه ) أي يحصل فيه التفطر والتشقق بالغمام ونزول الملائكة وغير ذلك من التساقط والهي على شدة وثاقتها فما ظنك بغيرها .
ولما كان هذا عظيماً ، استأنف بيان هو انه بالنسبة إلى عظمته سبحانه وتعالى فقال : ( كان ) أي على حال وبكل اعتبار ) وعده ) أي وعد الله الذي تقدم ذكره في مظاهر العظمة ، فالإضافة للمصدر على الفاعل ) مفعولاً ) أي سهلاً مفروغاً منه في أي شيء كان ، فكيف إذا كان بهذا اليوم الذي هو محط الحكمة ، أو الضمير لليوم فالإضافة إلى المفعول ، إشارة إلى أن الوعد الواقع به وفيه لا بد منه ، ومعلوم أنه لا يكون إلا من الله .
ولما كان ما مضى من هذه السورة من الأحكام والترغيب والترهيب مرشداً إلى معالي الأخلاق منقذاً من كل سوء ، قال مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على عظمها وأنها مما ينبغي التنبيه عليه : ( إن هذه ) أي القطعة المتدقمة من هذه السورة ) تذكرة ) أي تذكير عظيم(8/214)
صفحة رقم 215
هو أهل لأن يتعظ به المتعظ ويعتبر به المعتبر ، ولا سيما ما ذكر فيها بأهل الكفر من أنواع العقاب .
ولما كان سبحانه قد جعل للأإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح ، واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قسر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها ، سبب عن ذلك قوله : ( فمن شاء ) أي التذكر للاتعاظ ) اتخذ ) أي أخذ بغاية جهده ) إلى ربه ) أي خاصة ، لا إلى غيره ) سبيلاً ) أي طريقاً يسلبه حظوظه لكونه لا لبس فيه ، فيسلك على وفق ما جاءه من التذكرة ، وذلك الاعتصام حال السير بالكتاب والسنة على وفق ما اجتمعت عليه الأمة ، ومتى زاغ عن ذلك هلك .
المزمل : ( 16 - 20 ) فعصى فرعون الرسول. .. . .
) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه ، وربما شق على غيره ، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفا لما يلحق الإنسان من النصب ، مشيرا إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة ، لأن منفعتها التزود من كل خير لما أدناه هو المقابر ، فإن الروح في غاية اللطافة ، والجسد في غاية الكثافة ، لأنها من عالم الأمر ، وهو مايكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجيد من عالم الأمر ، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التانيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام ، وذلك بصرف القلب كله عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات ، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزييز الغالي ، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة ، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال ، فقال مستأنفا الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة ) إن ربك ) أي المدبر لأمرك على ما يكون إحسانا إليك ورفقا بك وبأمتك ) يعلم أنك تقوم ) أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة .
ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك ، استعار للأقل قوله : ( أدنى ) أي زمانا أقل ، والآدنى مشترك بين الأقرب ، والأدون للأنزل رتبة لأن كلا منهما يلزم منه(8/215)
صفحة رقم 216
قلة المسافة ) من ثلثي الليل ( في بعض الليالي ) ونصفه وثلثه ) أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة ، والمعنى على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين ، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وه الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع .
ولما ذكر سبحانه قيامه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أتبعه قيام أتباعه ، فقال عاطفا على الضمير المستكن يفي تقوم وحسنه الفصل : ( وطائفة ) أي يقوم كذلك جماعة يفيها أهليبة التحلق بإقبالهم عليك وإقبال بعضهم على بعض ، ولما كانت العادة أن الصاحب ربما أطلق على من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله : ( من الذين معك ) أي بأقوالهم وأفعالهم ، أي على الإسلام ، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهعم أن طائفة لم تقم فلم يرد أن يسميهم مسلمين ، والمعية أعم .
ولما كان القيام - على هذا التفاوت مع الاجتهاد يفي السبق في العبادة دالا على عدم العلم بالمقادير على ماهي عليه قال تعالى : ( والله ) أي تقومون هكذا لعدم علمكم بالمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلمه وحده ) يقدر ) أي تقديرا عظيما ه فيغاية التحرير ) الليل والنهار ( فيعلم كل دقيقة منهما على ماه يعليه لأنه خالقهما ولا يوجد شيء منهما إلا به ) ألا يعلم من خلق ) [ الملك : 14 ]
ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علما وعملا ترجم ذلك بقوله : ( علم ( اي الله سبحانه ) أ ، لن تحصوه ) أي تطيقوا التقدير علما وعملا ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " استقيموا ولن تحصوا " ) فتاب ) أي فتسبب عن هذا العمل أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب ) عليكم ( بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة ، أي رفع التبعة عنكم في ترك القيامن على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن النائب ، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية .
ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبرا عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب : ( فاقرءوا ) أي يفي الصلاة أمو غيرها في الليل والنهار ) ما تيسر ) أي سهل وهان إلى الغاية عليكم وزلا انقاد لكم ) من القرآن ( في الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم ، قال القشيري : من خمس آيات إلى ما زاد ، ويقال : من عشر آيات إلى ما يزيد ، قال البغوي : قال قيس بن أبي(8/216)
صفحة رقم 217
حازم : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة ، فقرأ في أول ركعة الحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية. وقيل : إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف ، ولذلك روى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتا من المقنطرين " قال المنذري : من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية .
ولما كان هذا نسخا لما كان واجبا من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه ، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بيانا لحكمة أخرى للنسخ فثقال : ( علم أن ) أي أنه ) سيكون ( يعني بتقدير لا بد لكم منه ) منكم مرضى ( جمع مريض ، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ففي هذه البشارة بأ ، أهل الإسلام يكثرون جدا .
ولما ذكر عذر المريض وبه
أنه لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه ، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم ، فقال مبشرا مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم : ( وآخرون ) أي غير المرضى ) يضربون ) أي يوقعون الضرب ) في الأرض ) أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب الأرض برجله ، ثم أستأنف بيان علة الضرب بقوله : ( يبتغون ( ْ أي يطلبون طلبا شديدا ، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال : ( من فضل الله ) أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة به إليه بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم ) وآخرون ) أي منكم أيها المسلمون ) يقاتلون ) أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله ، ولذلك بينه بقوله : ( في سبيل الله ) أي ذلك القتل مظروف لطريق الملك الأعظم ، ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي ، وأظهر ولم يضمر تعظيما للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر ، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم ، فمن لا يرحم لا يرحم ، قال الغوي : روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي اله عنه قال : أيما رجل جلب شيئا من مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون ) [ المزمل : 20 ] الآية. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله .(8/217)
صفحة رقم 218
ولما كانت هذه أعذارا أخرى مقتضية للترخيص أو أسبابا لعدم الإحصاء ، رتب عليها الحكم السابق ، فقال مؤكدا القراءة بيانا لمزيد عظمتها : ( فاقرءوأ ) أي كل زاحد منكم ) ما تيسر ) أي لمن ) منه ) أي القرآن ، أضمره إعلاما بأنه عين السابق ، فصار الواجب قيام شيء من على وجه التيسير ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ، ولما كان صالحا لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها ، وأن يراج به نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف ، قال ترجيحا لإرادة هذا الثاني أو تنصيصا على إرادة الأول : ( وأقيموا ) أي أوجدوا إقامة ) الصلاة ( الكتوبة بجيمع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتممماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها .
ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد عمودي الإسلام البدني والمالي ، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال : ( وآتوا ( من طيب أموالكم التي أنعمنا بها عليكم ) الزكاة ) أي المفروضة ، ولما كان المراد الواجب المعروف ، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة ، فقال : ( وأقرضوا الله ) أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق ، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم ) قرضا حسنا ( من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله ، فإنه محفوظ لكم عنده مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفا أحوج ما تكونون إليه .
ولما كان هذا الدين جامعا ، وكان القرآن حكيما لأن منزلة له صفات الكمال فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماما بها ، أتبع ذلك أمرا عاما بجميع شرائع الدين فقال : ( وما تقدموا ( وحث على إخلاص النية بقوله : ( لأنفسكم ) أي خاصة سلفا لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال ) من خير ) أي أي خير كان من عبادات البدن والمال ) تجدوه ( محفوظا لكم ) عند الله ) أي المحيط بكل سيء قدرة وعلما ) هو ) أي لا غيره ) خيرا ) أي لكم ، وجاز وقوع الفصل بين غير معرفتين لأن " أفعل من " كالمعرفة ، ولذلك يمنع دخول أداة التعريف عليها .
ولما كان كل من عمل خيرا جوزي عليه سواء كان عند الموت أو في الحياة سواء كان كافرا أو مسلما مخلصا أو لا ، إن كان مخلصا كان جزاؤه في الآخرة ، وإلا ففي الدنيا ، قال : ( وأعظم أجرا ) أي مما لمن أوصى في مرض الموت ، وكان بحيث يجازي به الدنيا .
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب ، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره ، فلا يزال مقصرا(8/218)
صفحة رقم 219
فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثا على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيرا إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر : ( واستغفروا الله ) أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف بأداء حق خدمته لتقيركم عينا وأثرا بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه .
ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ العظمة إللى حد يؤيس من إجابته ، علل الأمر بقوله مؤكدا تقريبا لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة انتقامه وقوة بطشه " ) إن الله ( وأظهر إعلالما بأن صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين ) غفور ) أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا تكون عليها عتاب ولا عقاب ) رحيم ) أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالا وإحسانا وتشريفا وامتنانا وقد اشتملت هذه السورة على شرح قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أوتي من جوامع الكلم " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر " كما أشير إلى كل جملة منها في محلهعنا ، ولقد رجع آخر السورة - بالترغيب في العمل وذكر جزائه - على أولها الأمكر بالقيام بين ييديه وبإشارة الاستغفار إلى عظمم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام ، فسبحان من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لأحاطته بالجلال والإكرام ، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة .(8/219)
صفحة رقم 220
سورة المدثر
مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار ، وإثبات البعث في أ ، فس المكذبين الفجار ، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار ، بحلم العزيز الغفار ، واسمها المدثر أدل مافيها على ذلك ، وذلك واضح لمن تأمل النداء والمنادى به والسبب ) بسم الله ( الملك الأعلى الواحد القهار ) الرحمن ( الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان الأبرار والفجار ) الرحيم ( الذي خص أهل أصفيائه بالاستبصار ، والتوفبق إلى ما يوصل إلى دار القرار .
المدثر : ( 1 - 10 ) يا أيها المدثر
) يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( ( )
ولما ختمت ( المزمل ) بالبشارة لأرباب البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيىء للقيام بأعباء الدعوة ، افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب الخسارة ، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل ، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب : ( يا أيها المدثر ( المشتمل بثوبه ، من تدثر بالثوب : اشتمل به ، والدثار - بالكسر ما فوق الشعار من الثياب ، والشعار ما لاصق البدن ( الأنصار شعار والناس دثار ) والدثر : المار الكثير ، ودثر الشجر : أورق ، وتدثير الطائر : إصلاحه عشه ، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر ، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور ، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب ، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن ، والإدغام شديد المناسبة للدثار .(8/220)
صفحة رقم 221
ولما كان في حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالقيام ، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار ، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال : ( قم ) أي مطلق قيام ، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد .
ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد ، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة إليه فقال مسبباً عن قيامه : ( فأنذر ) أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إذناره فأنذر من كان راقداً في غفلاته ، متدثراً بأثواب سكراته ، لاهياً عما أماه من أهوال يوم القيامة ، وكذا من كان مستيقظاً ولكنه متدثر بأثواب تشويفاته وأغشيته فتراته ، فإنه يجب على كل مربوب أن يشكر ربه وإلا عاقبه بعناده له أو غفلته عنه بما أقله الإعراض عنه ، وحذف المفعول إشارة إلى عموم الإنذار لكل من يمكن منه المخالفة عقلاً وهم جميع الخلق ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان نزل عليه جبريل عليه لاسلام ب
77 ( ) اقرأ باسم ربك ( ) 7
[ العلق : 1 ] ونحوها فكان بذلك نبياً ثم نزلت عليه هذه الآية فكان بها رسولاً ، وذلك أنه نودي وهو في جبل حراء ، فلما سمع الصوت نظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً ، فرفع رأسه فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام جالس على عرش بين السماء والأرض ، ففرق من ذلك أشد الفرق ، فبادر المجيء إلى البيت ترجف بوادره وقال : ( دثروني دثروني ، لقد خشيت على نفس ، صبوا عليّ ماءً بارداً ) .
ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون ، وذلك عظيم على الإنسان ، وكان المفتر عن اتباع الداعي أحد أمرين : تركه مما يؤمر به ، وطلبه عليه الأجر ، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه ، وبعده عن أخذ الأجر عليه ، أمره بتعظيم نم أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه ، فهان عليه الدعاء وكان له معيناً على القبول فقال : ( وربك ) أي المربي لك خاصة ) فكبر ) أي وقم فتسبب عن قيامك بغاية الجد والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال ، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء ، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل ، ومن سؤال غيره ، والاشتغال بسواه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ملاءمتها لسورة المزمل واضحة ، واستفتاح(8/221)
صفحة رقم 222
السورتين من نمط واحد ، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه
77 ( ) يا أيها المزمل ( ) 7
[ المزمل : 1 ] ) يا أيها المدثر ) [ المدثر : 1 ] والأمر فيهما بما يخصه
77 ( ) قم الّيل إلا قليلاً نصفه ( ) 7
[ المزمل : 2 - 3 ] الآي ، وفي الآخرى ) قم فانذر وربك فكبر ) [ المدثر : 2 - 3 ] أتبعت في الأولى بقوله :
77 ( ) فاصبر على ما يقولون ( ) 7
[ المزمل : 10 ] وفي الثانية بقوله ) ولربك فاصبر ) [ المدثر : 7 ] وكل ذلك قصد واحد ، واتبع أمره بالصبر في الزمل بتهديد الكفار ووعيدهم
77 ( ) وذرني والمكذبين ( ) 7
[ المزمل : 11 ] الآيات ، وكذلك في الأخرى
77 ( ) ذرني ومن خلقت وحيداً ( ) 7
[ المدثر : 11 ] الآيات ، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد - انتهى .
ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود ، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة : ( وثابك فطهر ) أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها ، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية ، والمعنوية وهل كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس ، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية .
ولما أمر بمجانبة الذر في الثياب وأراد الحسية والمعنوية ، وكان ذلك ظاهراً في الحسية ، وجعل ذلك كناية عن تجنب الأقذار كلها لأن من جنب ذلك ملبسه أبعده عن نفسه من باب الأولى ، حقق العموم وأكد فقال : ( والرجز ) أي كل قذر فإنه سبب الدنايا التي هي سبب العذاب ، قال في القاموس : الرجز بالكسر والضم : القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك .
) فاهجر ) أي جانب جهاراً وعبادة ، ليحصل لك الثواب كما كنت تجانبها سراً وعادة ، فحصل لك الثناء الحسن حتى أن قريشاً إنما تسميك الأمين ولا تناظر لك أحداً منها .
ولما بدأ بأحد سببي القبول ، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال : ( ولا تمنن ) أي على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه ، أو لا تعط شيئاً حال كونك ) تستكثر ) أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو من قولهم ، منَّ - إذا اعطى ، وذلك لأنه الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى ، ويشكر الله الذي وفقه له ، وبالآخذ أن يستكثر ما أخذ ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً ، بل لله(8/222)
صفحة رقم 223
خالصاً ، فإنه إذا زال الاستكثرا حصل الإخلاص ، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال ، فكيف بالاستقلال ، فيكون العمل في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً ، ولا يراد لغير وجه الله تعالى ، وهذا هو النهاية في الإخلاص .
ولما كان الإنذار شديداً على النفوس يحصل به من المعالجات ما الموت دونه ، لأن ترك المألوفات أصعب شيء على النفوس ، وكذا ترك الفوائد ، قال أمراً بالتحلي بالعاصم بعد التخلي عن القاصم ، معلماً بأن الأذى من المنذرين أمر لا بد منه فيدخل في الطاعة على بصيرة ، فاقتضى الحال لذلك أن الإنذار يهون بالغنى عن الفانين والكون مع الباقي وحده ، فأشار إلى ذلك بتقديم الإله معبراً عنه بوصف الإحسان ترغيباً فقال : ( ولربك ) أي المحسن إليك ، المربي لك ، المدبر لجميع مصالحك وحده ) فاصبر ) أي على مشاق التكاليف أمراً ونهياً وأذى المشركين وشظف العيش وجميع البلايا ، فإنه يجزل عطاءك من خير الدارين بحيث لا يحوجك إلى أحد ، ويحوج الناس إليك ، ويهون عليك حمل المشاق في الدارين ولا سيما أمر يوم البعث ، فإن من حمل العمل في الدنيا حمله العمل في الآخرة .
ولما كان المقام للإنذار ، وكان من رد الأوامر تكذيباً كفر ، ومن تهاون بها من أطاع ولا شكر ، حذر من الفتور عنها بذكر ما للمكذب بها ، فقال مسبباً عن ذلك باعثاً على اكتساب الخيرات من غير كسل ولا توقف ، مذكراً بن الملك التقم القرن وأصغى بجبهته انتظاراً للأمر بالنفخ ، مشيراً بالبناء للمفعول إلى هوانه لديه وخفته عليه مؤذناً بأداة التحقق أنه لا بد من وقوعه : ( فإذا نقر ) أي نفخ وصوّت بشدة وصلاة ونفوذ وإنكاء ) في الناقور ) أي الصور وهو القرن الذي إسرافيل عليه السلام ملتقمه الآن وهو مصغ لانتظار الأمر بالنفخ فيه للقيامة ، ويجوز أن يراد الأيام التي يقضي فيها بالذل على الكافرين كيوم بدر والفتح وغيرهما كما جعلت الساعة والقيامة كناية عن الموت ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من مات فقد قامت قيامته ) عبر عنه بالنقر إشارة إلى أنه في شدته كالنقر في الصلب فيكون عنه صوت هائل ، وأصل النقر القرع الذي هو سبب الصوت فهو أشد من صدعك لهم بالإنذار للحذار من دار البوار ، فهنالك ترد الأرواح إلى أجسادها ، فيبعث الناس فيقومون من قبورهم كنفس واحدة ، وترى عاقبة الصبر ، ويرى أعداؤك عاقبة الكبر ، والتعبير فيه بصيغة المبالغة وجعله فاعلاً كالجاسوس إشارة إلى زيادة العظمة حتى كأنه هو الفاعل على هيئة هي في غاية الشدة والقوة ، وحذر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه رضي الله عنهم من النفخ في الصور وقربه فقالوا : ( كيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا حسبنا(8/223)
صفحة رقم 224
الله ونعم الوكيل ) ويجوز أن يكون التسبب عن الأمر بالصبر ، أي اصبر فلنأخذن بثأرك في ذلك اليوم بما يقر عينك ، فيكون تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) وتهديداً لهم .
ولما ذكر هذا الشرط هل ( ؟ ) الذي صوره بصوره هائلة ، أجابه بقوله : ( فذلك ) أي الوقت الصعب الشديد العظيم الشدة جداً البالغ في ذلك مبلغاً يشار إليه إشارة ما هو أبعد بعيد ، وهو وقت النقر ، ثم أبدل من هذا المبتدأ زيادة في تهويله قوله : ( يومئذ ) أي وقت إذ يكون النقر الهائل ) يوم عسير ) أي بالغ العسر ) على الكافرين ) أي الذين كانوا يتسهينون بالإنذار ويعرضون عنه لأنهم راسحون في الكفر الذي هو ستر ما يجب إظهاره نم دلائل الوحدانية ، ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً ، بين أنه ليس كذلك بقوله : ( غير يسير ( فجمع فيه بين إثابت الشيء ونفي ضده تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه وتأييداً لكونه ولأنه غير منقطع بوجه ، وتقييده بالكافرين يشعر بتيسره على المؤمنين .
المدثر : ( 11 - 17 ) ذرني ومن خلقت. .. . .
) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( ( )
ولما آذن هذا بأن أكثر الخلق يوافى يوم القيامة على كفره وخبث طويته وسوء أمره وكان ذلك مما يهم لشفقته ( صلى الله عليه وسلم ) على الخلق ، ولما يعلم من نصبهم للعداوة ، هون أمرهم عليه وحقر شأنهم لديه بوعده بالكفاية بقوله مستأنفاً منبهاً على أسباب الهلاك التي أعظمها الغرور وهو شبهة زوجتها شهوة : ( ذرني ) أي أتركني على أي حالة اتفقت ) ومن ) أي مع كل من ) خلقت ) أي أوجدت من العدم وأنشأت في أطوار الخلقة ، حال كونه ) وحيداً ( لا مال له ولا ولد ولا شيء ، وحال كوني أنا واحداً شديد الثبات في صفة الوحدانية لم يشاركني في صنعه أحد فلم يشكر هذه النعمة بل كفرهم بالشرك بالله سبحانه القادر على إعدامه بعد إيجاده .
ولما كانالمطغى للإنسان المكنة التي قطب دائرتها المال قال : ( وجعلت له ) أي بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا حول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك ) مالاً ممدوداً ) أي مبسوطاً واسعاً نامياً كثيراً(8/224)
صفحة رقم 225
جداً عاماً لجميع أوقات وجوده ، والمراد به كما يأتي الوليد بن المغيرة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار .
ولما كان أول ما يمتد إليه النفس بعد كثرة المال الولد ، وكان أحب الولد الذكر ، قال : ( وبنين ( ولما كان الاحتياج إلى فراقهم ولو زمنااً يسيراً شاقاً ، وكان ألزمهم له وأغناهم عن الضرب في الأرض نعمة أخرى قال : ( شهوداً ) أي حضوراً معه لغناه عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان ، وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقة الحذف ، قهم في غاية المعرفة بما يزيدهم الاطلاع عليه حيثما أرادهم وجدهم وتمتع بلقياهم ، ومع ذلك فيهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد بها غيرهم ، منهم خالد الذي من الله بإسلامه ، فكان سيف الله تعالى وسيف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان هذا كناية عن سعة الرزق وعظم الجاه ، وكان من بسط له في المال والولد والجاه تتوق نفسه إلى إتمام ذلك بالحفظ والتيسير ، قال مستعطفاً لما كان هكذا بالتذكير بنعمه : ( ومهدت ) أي بالتدريج والمبالغة ) له ) أي وطأت وبسطت وهيأت في الرئاسة بأن جمعت له إلى ملك الأعيان ملك المعاني التي منها القلوب ، وأطلت عمره ، وأزلت عنه موانع الرغد في العيش ، ووفرت أسباب الوجاهة له حتى دان لذلك الناس ، وأقام ببلده مطمئناً يرجع إلى رأيه الأكابر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : وسعت له ما بين اليمين إلى الشام فأكملت له من سعادة الدنيا ما أوجب التفرد في زمانه من أهل بيته وفخذه بحيث كان يسمى الوحيد وريحانة قريش فلم يزع هذه النعمة العظيمة : وأكد ذلك بقوله : ( تمهيداً ( .
ولما كان قد فعل به ذلك سبحانه ، فأورثته هذه النعمة من البطر والاستكبار على من خلوه فيها ضد ما كان ينبغي فيها ضد ما كان ينبغي له من الشكر والازدجار ، قال محققاً أنه سبحانه هو الذي وهبها له وهو الواحد القهار ، مشيراً بأداة التراخي إلى استبعاد الزيادة له على حالته هذه من عدم الشكر : ( ثم ) أي بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ) يطمع ) أي بغير سبب يدلي به إلينا مما جعلنا سبب المزيد من الشكر : ( أن أزيد ) أي فيما آتيته من دنياه أو آخرته وهو يكذب رسولي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان التقدير : إنه ليطمع في ذلك لأن المال والجاه يجران الشرف والعظمة بأيسر سعي ، هذا هو المعروف المتداول المألوف ، استأنف زجره عن ذلك بمجامع الزجر : علماً من أعلام النبوة ، وبرهاناً قاطعاً على صحة الرسالة ، فقال ما لا يصح أن يقوله غيره سبحانه لأنه مع أنه لا تردد فيه ولا افتراء طابع الواقع ، فلم يزد بعد ذلك(8/225)
صفحة رقم 226
شيئاً ، بل لم يزل في نقصان حتى هلك وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته ) كلا ) أي وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً ، وأما النقصان فسيرى إن استمر على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ، وليزدجر وليرتجع ، فإنه حمق محض وزخرف بحت ، وغرور صرف ، ولما ردعه هذا الردع المقتضي ولا بد للإذعان وصادق الإيمان ممن لم يستول عليه الحرمان ، علله بقوله مؤكداً لإنكارهم العناد والمعاد : ( إنه ) أي هذا الموصوف ) كان ( بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه ) لآياتنا ( على مالها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية ، لا لغيرها من الشبه القائدة إلى الشرك ) عنيداً ) أي بالغ العناد على وجه لا يعد عناده لغيرها وبسبب مزيد قبحه عناداً ، والعناد - كما قال الملوي : من كبر في النفس أو يبس في الطبع أو شرائة في الأخلاق أو خبل في العقل ، وقد جمع ذلك كله إبليس ، لأنه خلق من نار .
وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية ، وحقيقته ميل عن الجادة ، ومجاوزة للحد مع الإصرار واللزوم ، ومنه مخالفة الحق مع المعرفة بأنه الحق .
ولما كان هذا محراً للتشوف إلى بيان هذا الردع ، وكان العناد غلظة في الطبع وشكاسة في الخلق يوجب النكد والمشقة جعل جزاءه من جنسه فقال : ( سأرهقه ) أي ألحقه بعنف وغلظة وقهر إلحاقاً يغشاه ويحيط به بوعيد لا خلف فيه ) صعوداً ) أي شيئاً من الدواهي والأنكاد كأنه عقبة ، فإن الصعود لغة العقبة شاق المصعد جداً ، وروي الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي ، وفي رواية : أنه كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت ، فإذا رفها عادت وكذا رجله ، وقال الكلبي : إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها بجذب من أمامه بسلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً ، فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ، فذلك دأبه أبداً .
المدثر : ( 18 - 25 ) إنه فكر وقدر
) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( ( )
ولما حصل التشوف إلى بعض ما عاند به الآيات ، قال مبيناً لذلك مؤكداً لاستبعاد العقلاء لما صنع لبعده عن الصواب ومعرفة كل ذي لب أنه كذب : ( إنه ) أي هذا العنيد ) فكر ) أي ردد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن ) وقدر ) أي أوقع تقديراً للأمور التي يطعن بها فيه وقاتيها في نفسه ليعلم أيها أقرب إلى القولز ولما كان تفكيره وتقديره قد أوقع غيره في الهلاك بمنعه من حياة الإيمان أصيب هو بما منعه من حياة نافعة في الدارين ، وذلك هو الهلاك الدائم .
ولما كان(8/226)
صفحة رقم 227
الضار إنما هو الهلاك لا كونه من معين ، سبب عن ذلك بانياً للمفعول قوله مخبراً وداعياً دعاءً مجاباً لا يمكن تخلفه : ( فقتل ) أي هلك ولعن وطرد في دنياه هذه .
ولما كان التقدير غاية التفكير ، وكان التفكير ينبغي أن يهديه إلى الصواب فقاده إلى الغي ، عجب منه فقال منكراً عليه معبراً بأداة الاستفهام إشارة إلى أنه مما يتعجب منه ويسأل عنه : ( كيف قدر ) أي على أي يفية أوقع تقديره هذا ، وإذا أنكر مطلق الكيفية لكونها لا تكاد لبطلانها تتحق ، كان إنكار الكيف أحق .
ولما كان وقوعه في هذا الطعن عظيماً جداً لما فيه من الكذب المفضوح ومن معاندة من هو القوي المتين المنتقم القهار العظيم ومن غير ذلك من الوجوه المبعدة عن الوقوع فيه ، أكد المعنى زجراً عن مثله وحثاً على التوبة منه ، فقال معبراً بأداة البعد دلالة على عظمة هذا القتل بالتعبير بها وبالتكرار : ( ثم قتل ) أي هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة ) كيف قدر ( ولما كان الماهر بالنظر إذا فكر وصحح فكره نظر في لوازمه قال مشيراً إلى طول ترويه : ( ثم نظر ) أي فيما يدعف به أمر القرآن مرة بعد أخرى ، وفي ذلك إشارة إلى قبح أفعاله ، فظهور الحق له مع إصراره فإن تكرار النظر في الحق لا يزيده على كل حال إلا ظهوراً وفي الباطل لا يزيده إلا ضعفاً وفتوراً .
ولما كان من فعل كذلك فظهر له فساد رأيه ووقف مع حظ نفسه يصير يعبس ويفعل أشياء تتغير لها خلقته من غير اختياره قال : ( ثم عبس ) أي قطب وجهه وكلح فتربد وجهه مع تقبض جلده ما بين العينين بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في شيء وهو لا يجد في فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مطعناً ) وبسر ( اتباع لعبس تأكيداً لها ، وربما أفهمت أنه سبر ما قاله ووزنه بميزان الفكر وتتبعه تتبعاً مفرطاً حتى رسخت فيه قدمه ، كذا قالوا إنها اتباع إن أريد به التأكيد وإلا فقد وردت مفردة ، قال في القاموس : بسر - إذا عبس ، وبسر الحاجة : طلبها في غير أوانها ، وبسر الدين : تقاضاه قبل محله ، فكأنه لما طال عليه التفكير صار يستعجل حصوله إلى مراده ، ويقال : بسر - إذا ابتدأ الشيء ، فكأنه لما عبس خطر له السحر فابتدأ في إبداء ما سنح له من أمره ، قال ابن برجان : البسور هيئة في الوجه تدل على تحزن في القلب .
ولما كان هذا النظر على هذا الوجه أمدح شيء للمنظور فيه إذا لم يوصل منه إلى طعن ، وكان ظاهره إنه لتطلب الحق ، فكان الإصرار معه على الباطل في غاية البعد ، قال دالاً على ذلك من المدح وعدم وجدان الطعن معبراً بأداة البعد : ( ثم ) أي بعد هذا التروي العظيم ) أدبر ) أي عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوه عن(8/227)
صفحة رقم 228
المطاعن ، فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفائها ) واستكبر ) أي وأوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه ، وكان هذا غاية العناد ، فكان معنى العنيد ) فقال ) أي عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا ولم يفكر في عاقبة ذلك من جهة الله ، وأنه سبحانه لا يهدي كيد الخائنين ولا ينجح مراد الكاذبين ، ونحو هذا مما جربوه في دنياهم فكيف رقى نظره إلى أمر الآخرة ، وأكد الكلام لما يعلم من إنكار من يسمعه فقال : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي الذي أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلا سحر ) أي أمور تخييلية لا حقائق لها ، وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها .
ولما كان من المعلوم لهم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما سحر قط ولا تعلم سحراً ، فكان من ادعى ذلك علم كذبه بأدنى نظر بعد الأمر بقدر استطاعته فقال : ( يؤثر ) أي من شأنه أن ينقله السامع له من غيره ، فهو لقوة سحريته وإفراطها في بابها يفرق بمجرد الرواية بين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه وابنه إلى غير ذلك من العجائب التي تنشأ عنه .
ولما كان السامع يجوز أن يكون مأثوراً عن لاله فيوجب له ذلك الرغبة فيه ، قال من غير عاطف كالمبين للأول والمؤكد له ، وساقه على وجه التأكيد بالحصر لعلمه أن كل ذي بصيرة ينكر كلامه : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي القرآن ) إلا قول البشر ) أي ليس فيه شيء عن الله فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه ، وقد مدحه بهذا الذم بعد هذا التفكير كله من حيث إنه أثبت أنه معجوز عنه لأغلب الناس كما يعجزون عن السحر فسكت ألفاً ونطق خلفاً ، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم :
لو قيل ( كم خمس وخمس ) لاغتدى يوماً وليلته يعد ويحسب ويقول معضلة عجيب أمرها ولئن عجبت لها الأمري أعجب حتى إذا خدرت يداه وعورت عيناه مما قد يخط ويكتب أوفى على شرف وقال ألا انظروا ويكاد من فرح يجن ويسلب خمس وخمس ستة أو سبعة قولان قالهما الخليل وثعلب
وهكذا كل حق يجد المبالغ في ذمه لا ينفك ذمه عن إفهام مدح له ينقض كلامه ، ولكن أين النقاد المعدود من الأفراد بين العباد ، وهذا الكلام صالح لعموم كل من خلقه سبحانه هكذا في الروغان من الحق لما تفضل الله به عليه من الرئاسة لأن أهل العظمة في الدنيا هم في الغالب القائمون في رد الحق واتعاظم على أهله كما ذكر هنا ولا ينافي ذلك ما قالوه : إنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، بل ذلك من إعجاز كلام الله تعالى أن تنزل الآية في شخص فتبين حاله غاية البيان ويعم غيره ذلك البيان ، قالوا : كان(8/228)
صفحة رقم 229
للوليد هذا عشرة من البنين ، كل واحد منهم كبيرة قبيلة ، ولهم عبيد يسافرون في تجاراتهم ويعملون احتياجاتهم ، ولا يحوجونهم إلى الخروج من البلد لتجارة ولا غيرها ، وأسلم منهم ثلاثة : الوليد بن الوليد وخالد وهشام ، وقيل : إنه لما نزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول سورة غافر إلى قوله : ( ) المصير ( ) [ غافر : 3 ] أو أول ( فصلت ) قرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد والوليد يسمعه ، فأعاد القراءة فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، والله لقد سمعت من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق ، وإنه ليعلو ولا يعلى ، ثم انصرف فقالت قريش صبا والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلها ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال الوليد : ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني وهذه قريش تجمع لك نفقة تعينك بها على كبر سنك وتزعم أنك صبوت ، لتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحاف لتنال من فضل طعامهم ، فغضب الوليد وقال : ألم تعمل قريش أني من أكثرها مالاً وولداً ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه وأداروا الرأي فيما يقولونه في القرآن فقالوا له : ما تقول في هذا الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : قولوا أسمع لكم ، قالوا : شعر ، قال : ليس بشعر ، قد علمنا الشعر كله ، وفي رواية : هل رأيتموه يتعاطى شعراً ؟ قالوا : كهانة ، قال : ليس بكهانة ، هل رأيتموه يتكهن ؟ فعدوا أنواع البهت التي رموا بها القرآن فردها ، وأقام الدليل على ردها ، وقال : لا تقولوا شيئاً من ذلك إلا أعلم أنه كذب ، قالوا : فقل أنت وأقم لنا فيه رأياً نجتمع عليه ، قال : أقرب ذلك إليه السحر ، هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه وعشيرته ، فافترقوا على ذلك ، وكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم :
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءة الشجعان
المدثر : ( 26 - 30 ) سأصليه سقر
) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( ( )
ولما انقضى بيان عناده فحصل التشوف لتفصيل جزائه في معاده ، قال مبيناً لبعض ما أفهمه إرهاقه الصعود : ( سأصليه ) أي بوعيد لا بد منه عن قرب ) سقر ) أي الدركة النارية التي تفعل في الأدمغة من شدة حموها ما يجل عن الوصف ، فأدخله إياه وألوّحه في الشدائد حرها وأذيب دماغه بها ، وأسيل ذهنه وكل عصارته بشديد(8/229)
صفحة رقم 230
حرها جزاء على تفكيره ، هذا الذي قدره وتخيله وصوره بإدارته في طبقات دماغه ليحرق أكباد أولياء الله وأصفيائه .
ولما أثبت له هذا العذاب عظمه وهوله بقوله : ( وما أدراك ) أي أعلمك وإن اجتهدت في البحث ) ما سقر ( يعني أن علم هذا خارج عن طوق البشر لا يمكن أن يصل إليه أحد منهم بإعلام الله له لأنه أعظم من أن يطلع عليه بشر .
ولما أثبت لها هذه العظمة ، زادها عظماً ببيان فعلها دون شرح ماهيتها فقال : ( لا تذر ) أي تترك على حالة من الحالات ولو كانت أقبح الحالات فضلاً عما دونها ، بل هي دائمة الإهلاك لكل ما أذن فيه والتغيير لأحوال ما أذن لها في عذابه ، ولم يؤذن في محقه بالكلية ، لكل شيء فترة وملال دونها .
ولما كان تغير حال الإنسان إلى دون ما هو غليه غائطاً له موجعاً إذا كان ذلك تغير لونه لأن الظاهر عنوان الباطن ، قال الله تعالى دالاً على شدة فعلها في ذلك : ( لواحة ) أي شديدة التغيير بالسواد والزرقة واللمع والاضطراب والتعطيش ونحوها من الإفساد من شدة حرها ، تقول العرب : لاحت النار الشيء - إذا أحرقته وسودته ) للبشر ) أي للناس أو لجلودهم ، جمع بشرة وجمع البشر أبشار ) عليها ) أي مطلق النار بقرينة ما يأتي من الخزنة ) تسعة عشر ) أي ملكاً ، لطبقة المؤمنين وهي العليا ملك واحد ، وللست الباقية ثمانية عشر ، لكل واحدة ثلاثة ، لأن الواحد يؤازر بثان ، وهما يعززان بثالث ، فلذا والله أعلم كانوا ثلاثة ، أو لأن الكفر يكون بالله وكتابه ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان لكل تكذيب في كل طبقة من طبقاتها الست ملك أو صنف من الملائكة ، وعلى الأول في كونهم أشخاطاً بأعيانهم أكثر المفسرين ، وقد علم مام مضى أنهم غلاظ شداد كل واحد منهم يكفي لأهله الأرض كلهم كما أن ملكاً واحداً وكل بقبض جميع الأرواح ، وجاء في الآثار أن أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، نزعت منهم الرحمة ، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم ، قال عمرو بن دينار : إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدةأكثر من ربيعة ومضر .
وقيل : إن هذه العدة لمكافأة ما في الإنسان من القوى التي بها ينتظم قوامه ، وهي الحواس الخمس الظاهرة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، والخمس الباطنة : المتخيلة والواهمة والمفكرة والحافظة والذاكرة ، وقوتا الشهة والغضب ، والقوى الطبيعية السبع : الماسكة والهاضمة والجاذبة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وقيل : اختير هذا العدد لأن التسعة نهاية الآحاد ، والعشر بداية(8/230)
صفحة رقم 231
العشرات ، فصار مجموعهما جامعاً لأكثر القليل وأقل الكثير ، فكان أجمع الأعداد ، فكان إشارة إلى أن خزنتها أجمع الجموع ، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قراءة البسملة تنجي من خزنة النار لإإنها تسعة عشر حرفاً ، كل حرف منها لملك منهم .
المدثر : ( 31 ) وما جعلنا أصحاب. .. . .
) وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( ( )
ولما كان هذا غير مميز للمعدود ، وكانت الحكمة في تعيين هذا العد غير ظاهر ، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً ، قال تعالى مبيناً لذلك : ( وما جعلنا ) أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه ) أصحاب النار ) أي خزنتها ) إلا ملائكتة ) أي إنهم ليسوا من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق ، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسو كالبشر بل الواحد منم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود ، فكيف إذا كا كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى ) وما جعلنا ( على ما لنا من العظمة ) عدتهم ) أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا ) إلا فتنة ) أي حالة مخالطة مميلة محيلة ) للذين كفروا ) أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه ، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث إن بعض أغبياء قريش وهو أبو جهل ، قال : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم أدلهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، وهذا كله على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره ، وكان في علم أهل الكتاب أن هذه العدة عدتهم ، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً للشك أكثرهم وموضعاً للتعنت ، فلذلك علق بالفتنة أو ب ( جعلنا ) قوله : ( ليستقين ) أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة ) الذين أوتوا الكتاب ( بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي مع أنه معروف أنه هو الله ، قال البغوي : مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر .
) ويزداد الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ماعندهم من الإيمان ) إيماناً ( بتصيدق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه ، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم .(8/231)
صفحة رقم 232
ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت ، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال : ( ولا يرتاب ) أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب ) الذين أوتوا الكتاب ( لما عندهم من العلم المطابق لذلك ، قال ابن برجان : وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ( إن قوماً من أهل الكتاب جاؤوا إليه في قضية - فيها طول ، وفيها أنهم سالوه عن خزنة جهنم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بيده هكذا وهكذا ، في مرة عشرة وفي مرة تسعة ( ، فقالوا : بارك الله فيك يا أبا القاسم ، ثم سألهم : ( ما خزنة الجنة ( ؟ فسكتوا هيبة ثم قالوا : خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الخبزة من الدرمك ( ) والمؤمنون ) أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في مثل ضوء النهار ) وليقول الذين ( استقر ) في قلوبهم مرض ) أي شك أو نفاق وإن قل ، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة ، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور مقصودة لشيء بالقصد الأول ، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول : خرجت من البلد لمخالفة أكثر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض ) والكافرون ) أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق ) ماذا ) أي أي شيء ) أراد الله ) أي الملك الذي له جميع العظمة ) بهذا ( : أي العدد القليل في جنب عظمته ) مثلاً ) أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل ، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً ، وما علموا أن القليل من حيث العدد قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد ، ويكون أدل على استجماع العظمة .
ولما كان التقدير : أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي ، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي ، كان كأنه قيل : هل يفعل مثل هذا في غير هذا ؟ فقال جواباً : ( كذلك ) أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية ) يضل الله ) أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ) من يشاء ( بأي كلام شاء ) ويهدي ( بقدرته التامة ) من يشاء ( بنفس ذلك الكلام أو بغيره ، وذلك من حكم جعل الخزنة تسعة عشر والإخبار عنهم بتلك العدة فإن إبراز الأحكام على وجه الغموض من أعظم المهلكات والمسعدات ، لأن المنحرف الطباع يبحث عن عللها بحثاً متعنتاً ، فإذا عميت عليه قطع ببطلان تلك الأحكام أو شك ، وربما أبى الانقياد ، وذلك هو سبب كفر غبليس والمستقيم المزاج يبحث مع التسليم فإن ظهر له الأمر ازداد(8/232)
صفحة رقم 233
تسليماً وإلا قال : آمنت بذلك كل من عند ربنا - فكان في غاية ما يكون من تمام الانقياد لما يعلم سره - رزقنا الله التسليم لأمره وأعاننا على ذكره وشكره .
ولما كان هذا مما يوهم قلة جنوده تعالى ، أتبعه ما يزيل ذلك فقال : ( وما ) أي والحال أنه ما ) يعلم جنود ربك ) أي المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك بغاية الإتقان منجعل النار وخزنتها وجعلهم على هذه العدة وغير ذلك ، فلا تعلم عدتهم لأجل كثرتهم وخروجهم عن طوق المخلوق وماهم عليه من الأوصاف في الاجساد والمعاني ) إلا هو ) أي الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ، فلو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك ، فقد روي أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود إليهم نوبة أخرى ، وقد ورد أن الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة وكل سماء في التي فوقها كذلك ، وبد ورد في الخبر : أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي .
وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو ، ومن أراد إطلاعه على ذلك من عباده مع أن الكفاية تقع بدون ذلك ، فقد كان في الملائكة من اقتلع مدائن قوم لوط وهي سبع ورفعها إلى عنان السماء ، وكل ما في الإنسان من الجواهر والإعراض من جنود الله لو سلط عيله شيء من نفسه لأهلكه : لو تحرك عرق ساكن أو سكن متحرك أو انسد مجوف أو تجوف منسد لهلك .
ولما ذكر شيئاً من أسرار سوق الأخبار عنها غامضاً ، وكان ذلك من رحمة العباد ليفتح لهم باباً إلى التسليم لما يغمض من تذكيرهم بأمر مليكهم لأن العاجز لا يسعه في المشي على قانون الحكمة إلا التسليم للقادر وإلا أهلك نفسه وما ضر غيرها ، خص أمرها في التذكير تأكيداً للإعلام تذكيراً بالنعمة لأجل ما لأغلب المخاطبين من اعوجاج الطباع المقتضي للرد والإنكار ، المقتضي لسوق الكلام على وجه التأكيد فقال : ( وما هي ) أي النار التي هي من أعظم جنوده سبحانه وتعالى : ( إلا ذكرى للبشر ) أي تذكرة عظيمة لكل من هو ظاهر البشرة فبدنه أقبل شيء للتأثر بها لأجل ما يعرفون منها في دنياهم ، وإلا فهو سبحانه وتعالى قادر على إيجاد ما هو أشد منها وأعظم وأكثر إيلاماً مما لا يعلمه الخلائق .
المدثر : ( 32 - 41 ) كلا والقمر
) كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( ( )
ولما كان حصرها في الذكرى ربما أوهم نقصاً في أمرها يوجب لبعض المعاندين(8/233)
صفحة رقم 234
ريبة في عظمه وأنه لا حقيقة لها ولا عذاب فيها ، قال رادعاً من ذلك ومنبهاً على الاستعداد والحذر بكلمة لاردع والتنبيه : ( كلا ) أي إياك أن ترتاب في أهوالها وعظيم أمرها وأحوالها وأوجالها لأن الأمر أطم وأعظم مما يخطر بالبال ، فليرتدع السامع ولينزجر .
ولما حصر أمرها في الذكرى ونفى أن يظن بها نقص فيما جعلت له تأكيداً للكلام إشارة إلى ما لأغلب المخاطبين من الشكاسة والعوج إيقاظاً مام هم فيه من الغفلة وتلطيفاً لما لهم من اللوم والكثافة وتنبيهاً لهم على السعي في تقويم أنفسهم بما يستعملونه من الأدوية التي يرشدهم سبحانه إلى علاج أمراض القلوب بها ، زاد الأمر تأكدياً فأقسم على ذلك بما هو ذكرى للناس ولا يظهر معه ظلام الليل كما أن ضياء القرآن لا يظهر معه ظلام الجهل من أعمل عين فكرته ، وألقى حظوظ نفسه ، فقال : ( والقمر ) أي الذي هو آية الليل الهادية لمن ضل بظلامه ) واليل إذا أدبر ) أي مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه فزال الجهل بانكشافه ، وانصرفت الريب والشكوك بانصراف ) والصبح إذا إسفر ( أقبل ضياؤه بجل العلم بحلوله ، وحصلت الهداية بحصوله ، أو دبر بمعنى ( أقبل ) قال قطرب : تقول العرب : دبرني فلان أي جاء خلفي .
ولما أقسم على ما أخبر به من ذكراها ، واكده لإنكارهم العظيم لبلاياهم استأنف تعظيمها والتخويف منها تأكيداً للتخويف لما تقدم من الإنكار فقال : ( إنها ) أي النار التي سقر دركة من دركاتها ، وزاد في التأكيد على مقتضى زيادتهم في الاستهزاء فقال : ( لإحدى الكبر ) أي من الدواهي والعظائم ، جمع كبيرة وكبرى ، وهو كناية عن شدة هولها كما يقول : هو أحد الرجال أي لا مثل له ، أو المراد بها واحد سبع هي غاية في الكبر أي دركات النار ، وهو جهنم فلظى فالحطمة فالسعير فسقر فالجحيم فالهاوية ، هي أحداها في عظيم أقطارها وشديد إيلامها وإضرارها ، حال كونها ) نذيراً ( عظيماً أو من جهة نذارتها أو إنذاراً بالغاً : فعيل بمعنى المصدر مثل
77 ( ) فكيف كان نكير ( ) 7
[ الملك : 18 ] أي إنكاري ، وعبر بقوله : ( للبشر ( لما تقدم من الإشارة إلى إسراع الجسم العادي في قبول التأثر لا سيما بالنار .
ولما كان التقدم عند الناس لا سيما العرب محبوباً والتأخر مكروهاً ، وكان سبحانه وتعالى قد خلق في الإنسان قوة واختياراً بها يفعل ما قدره الله له وغطى عنه علم العاقبة حتى صار الفعل ينسب لأإيه وإن كان إنما هو بخلق الله ، قال تعالى باعثاً لهم على الخير ومبعداً من الشر مستأنفاً أو مبدلاً جواباً لمن يقول : وما عسى أن نفعل ؟ أو ينفع الإنذار(8/234)
صفحة رقم 235
وقد قال إنه هو الهادي المضل ) يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( ) لمن شاء ) أي بإرادته ، وصرح بالمقصود لئلا يتعنت متعنتهم فيقول : المراد غيرنا ، فقال : ( منكم ) أي أيها المعاندون ) أن يتقدم ) أي إلى الخيرات ) أو يتأخر ) أي عنها فيصل إلى غضب الله تعالى والنار التي هي أثر غضبه ، التي جعل ما عندنا من مؤلم الحر ومهلك البرد متأثراً عن نفسيها تذكيراً لنا ورحمة بنا ، وحذف المفعول لأن استعماله كثير حتى صار يعرف وإن لم يذكر ، وترجمة ذلك : لمن شاء أن يتقدم التقدم بما له من المكنة والاختيار في ظاهر الأمر ، ولمن شاء أن يتأخر التأخر ، و ) أن يتقدم ( مبتدأ ، وهو مثل ( لمن يتوضأ أن يصلي ) ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من ( للبشر ) على طريق الالتفات من الغائب إلى الحاضر ليصير كل مخاطب به كأنه هو المقصود بذلك بالقصد الأول فيتأمل المعنى في نفسه فيجده صادقاً ثم يتأمل فلا يجد مانعاً من تعديته إلى غيره من جميع البشر ، ويكون ( أن ) والفعل على هذا مفعولاً ل ( شاء ) .
ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال ، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان ، قال مبيناً لما يقدم وما يؤخر ) كل نفس ) أي ذكر أو أنثى على العموم ) بما كسبت ) أي خاصة لا بما كسب غيرها ) رهينة ) أي مرتهنة بالفعل ، اسم بمعنى .
الرهن كما في قول الحماسي :
أبعد الذي بالعنف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل
لا تأنيث ( رهين ) الذي هو وصف ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي مذكره ومؤنثه ، ولو كانت الفواصل التي يعبرون بها عن السجع تأدباً تراعى في القرآن بوجه لقيل : رهين - لأجل يمين ، ولكن لا نظر فيه لغير المعنى ، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة بمعنى موثقة إيثاقاً بليغاً محبوسة حبساً عظيماً فهي في النار ، فجعل الأصل في الكسب الموثق .
ولما كان الرهن تارة يفك وتارة يغلق ، وكان أكثر الخلق هالكاً ، جعل رهينة بمعنى هالكة ، ثم استثنى الممدوح فقال : ( إلا أصحاب اليمين ) أي الذين تقدم وصفهم وهم الذين تحيزوا إلى الله فائتمروا بأوامره وانتهوا بنواهيه ، فإنهم لا يرتهنون بأعمالهم ، بل يرحمهم الله فيقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم .
ولما أخرجهم عن حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه ، استأنف بيان حالهم فقال : ( في جنات ) أي بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً الارتهان دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وأثبت ثانياً الجنة دليلاً على حذف ضدها أولاً .(8/235)
صفحة رقم 236
ولما كان السؤال عن حال الغير دالاً دلالة واضحة على الراحة والفراغ عن كل ما يهم النفس ، عبر عن راحتهم في أجل عظ وألطف تحذير بقوله : ( يتساؤلون ) أي فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً ) عن المجرمين ) أي أحوال العريقين في قطع ما أمر الله به أن يوصل .
المدثر : ( 42 - 50 ) ما سلككم في. .. . .
) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( ( )
ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولاً بنفسه ، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره ، وكان أولياء الله غذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه ، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض : لا علم لنا ، فكشف الله - لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم ، زيادة في نعيمهم وثوابهم ، كما تقدم في الصافات عند قوله ) ) قال قائل منهم إني كان لي قرين ( ) [ الصافات : 51 ] وكان بساط - الكلام دالاً على هذا كله ، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالى ) ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ) [ المطففين : 34 ] الآية ، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين : ( ما ( هي محتملة للتوبيخ والتعجيب ) سللكم ) أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب ) في سقر ( فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم ، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنه شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا - مع كونهم من أهل السعادة - إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل ، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهو غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم وكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم ) قالوا ( ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلو بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتين تعريفاً بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة ، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الإعتقاد ، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم ، لأن العمل له صورة(8/236)
صفحة رقم 237
وحقيقة ، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق ، ومن صور شيئاً كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره ، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره ، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة ، وإيذان بأن من ادمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الإعتقاد ، وورطه في الضلال ، ) لم نك ( حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الغتناء عنه ، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين ، وكان ذلك مشيراً غلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم ، وكان ذلك منبهاً على فضيلة العلم : ( من المصلين ) أي صلاة يعتد بها ، فكان هذا تنبيهاً على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم ، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كان لا تصح منهم ، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها ، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال ، وأن الحساب بها يقدم على غيرها .
ولما نفوا الوصلة بالخالق ، أتبعوه إفساد القوة العملية بعدم وصلة الخلائق بترك الشفقة على خلق الله فقالوا : ( ولم نك ( بحذف النون أيضاً لما هم فيه من النكد ونفياً لأدنى شيء من الطبع الجيد ) نطعمك المسكين ) أي لأجل مسكنته ، نفوا هنا وجود إطعامه لأنهم إن اتفق إطعامهم له فلعله أخرى غير المسكنة ، وأما الصلاة فهم يوجدونها لله بزعمهم ، لكن لما كانت على غير ما أمروا به لم تكن مقبولة فلم يكونوا من الراسخين في وصفها .
ولما سلبهم التحلي بلباس الأولياء أثبت لهم التحلي بلباس الأشقياء بإفساد القوة النطقية جامعاً القول إلى الفعل فقالوا : ( مع الخائضين ( بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً فنقول في القرآن : إنه سحر ، وإنه شعر ، وإنه كهانة وغير هذا من الأباطيل ، لا نتورع عن شيء من ذلك ، ولا نقف مع عقل ، ولا نرجع إلى صحيح نقل ، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا .
ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية ، وغلبه ذلك ولا بد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق ، قالوا بياناً لاستحبابهم الخلود : ( وكنا نكذب ) أي بحيث صار لنا ذلك وصفاً ثابتاً ) بيوم الدين ( ولما كان التقدير : واستمر تكذيبنا لصيرورته لنا أوصافاً ثابتة .
بنوا عليه قولهم : ( حتى أتانا ) أي قطعاً ) اليقين ) أي بالموت أو مقدماته التي قطعتنا عن دار العمل فطاح الإيمان بالغيب .(8/237)
صفحة رقم 238
ولما أقروا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم ، فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه ، سبب عنه قوله : ( فما تنفعهم ) أي في حال اتصافهم بهذه الصفات وهي حالة لازمة لهم دائماً ) شفاعة الشافعين ) أي لو شفعوا فيهم .
ولما كان هذا الإخباربنعيم المنعم وعذاب المعذب موجباً للتذكر ، سبب عنه الإنكار عليهم فقال : ( فما ) أي أيّ شيء يكون ) لهم ( حال كونهم ) عن التذكرة ) أي التذكر العظيم خاصة بالقرآن خصوصاً وبغيره عموماً ) معرضين ( وعلى الباطل وحده مقبلين ، وذلك من أعجب العجب ، لأن طبع الإنسان إذا حذر من شيء حذره أشد الحذر كما لو حذر المسافر من سبع في طريقه فإنه يبذل جهده في الحيدة عنه والحذر منه وإن كان المخبر كاذباً ، فكيف يعرضون عن هذا المحذور الأعظم والمخبر أصدق الصادقي ، فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم ، وزاد ذلك عجباً شدة نفارهم حتى ) كأنهم ( في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفرة والإسراع في الفرة ) حمر ) أي من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً ، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست عليه ما يريبها ، وفي تشبيه الكفرة بالحمر ولا سيما في هذه الحالة مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين ، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل وعدم التثبت ) مستنفرة ) أي موجدة للنفار بغاية الرغبة فيه حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه من شأنها وطعبها - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أهل المدينة والشام بالفتح بمعنى أنه نفرها منفر .
المدثر : ( 51 - 56 ) فرت من قسورة
) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( ( )
ولما كان ذلك لا يكون إلا لسبب عظيم يتشوف إليه ، استأنف قوله : ( فرت من قسورة ) أي أسد شديد القسر عظيم القهر فنشبت في حبائل سقر أو صيادين .
ولما كان الجواب قطعاًك لا شيء لهم في إعراضهم هذا ، أضرب عنه بقوله : ( بل يريد ) أي على دعواهم وبزعمهم ) كل امرئ منهم ) أي المعرضين ، مع ادعائه الكمال في المروءة ) أن يؤتى ) أي من السماء بناه للمفعول لأن مرادهم معروف ) صحفاً ) أي قراطيس مكتوبة ) منشرة ) أي كثيرة جداً وكل واحد منها منشور لا مانع من قراءته وأخذه ، وذلك أنهم قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لن نتبعك حتى تأتي كلاًّ منا بكتاب من السماء فيه : من الله إلى فلان اتبع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) .(8/238)
صفحة رقم 239
ولما كان ذلك إنما هو تعنت ، لا أنه على حقيقته قال : ( كلا ) أي ليس لهم غرض في الاتباع بوجه من الوجوه لا بهذا الشرط ولا بغيره : ( بل ( علتهم الحقيقية في هذا الإعراض أنهم ) لا يخافون ) أي في زمن من الأزمان ) الآخرة ( ولما كان فعلهم هذا فعل من يعتقد في القرآن أنه ليس بوعظ صحيح يستحق أن يتبع ، قال رادعاً لهم عن هذا اللازم : ( كلا ) أي ليس الأمر قطعاً كما تزعمون من أن هذا القرآن لا يستحق الإقبال ، ثم أستأنف قوله مؤكداً لأجل ما تضمن هذا الفعل من إنكارهم : ( أنه ) أي القرآن ) تذكرة ) أي موضع وعظ عظيم يوجب إيجاباً عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه فليس لأحد أن يقول : أنامعذور لأني لم أجد مذكراً ولا معرفاً فإن عنده أعظم مذكر وأشرف مفرق .
ولما كان في غ آية السهولة والحلاوة لكل منعرفه بوجه من الوجوه ، وكان الله سبحانه قد خلق القوى والقدر ، وجعل للعبد اختياراً ، قال مسبباً عن كونه موضعاً للتذكر : ( فمن شاء ) أي أن يذكره ) ذكره ( فثبت في صدره وعلم معناه وتخلق به ، فليس أحد يقدر أن يقول : إنه صعب التركيب عظيم التعقيد عسر الفهم ، يحتاج في استخراج المعاني منه إلى علاج كبير وممارسة طويلة فأنا معذور في الوقوف عنه ، بل هو كالبحر الفرات ، من شاء اغترف ، لأنه خوطب به أمة أمية لا ممارسة لها لشيء من العلوم ، فسهل في لفظه ومعناه غاية السهولة مع أنه لا يوصل غلى قراره ولا يطمع في مناظرة أثر من آثاره ، بل كلما زاد الإنسان فيه تأملاً زاده معاني .
ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالاً بالتصرف ، قال معلماً بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلاوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبهاً على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق : ( وما يذكرون ) أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات ) إلا أن يشاء الله ) أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة ، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله .
ولما ثبت أنه سباحنه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته ، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه ، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك ، وكان عفو القادر مستحسناً ، قال مبيناً لأنه أهل للرهبة والرغبة : ( هو ) أي وحده ) أهل التقوى ) أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر ، ويجوز أن يكون الضمير للمتقي ) وأهل المغفرة ) أي لأن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب لأن له الجمال واللطف وهو قادر ولا قدرة لغيره ولا ينفعه شيء ولا يضره شيء ، فهو(8/239)
صفحة رقم 240
الحقيق بأن يجعل موضع الإنذار الذي أمر به أول السورة البشارة ، ويوفق عباده لتكبيره وهجران الرجز ، وكذا فعل سبحانه بقوم هذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني في الأوسط والحاكم وأبو يعلى والبغوي والبزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه قرأ هذه الآية ثم قال : ( يقول الله : أنا أهل أن أتقي ، فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأن أهل أن أغفر له ( وقال الترمذي وابن عدي والطبراني : تفرد به سهل بن أبي حزم القطعي ، فقد رجع آخر السورة على أولها ، وانطبق مفصلها على موصلها ، بضم البشارة إلى النذارة ، وصار كأنه قيل : أنذر العاصي فإنه أهل لأن يرجع إلى طاعاته ، فيكون سبحانه أهلاً لأن يعود عليه بستر زلاته .
.. .(8/240)
صفحة رقم 241
( سورة القيامة )
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار ( صلى الله عليه وسلم ) لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان بعد الرسوم بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه الله من وضوح المنعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظوم ورونق السبك وعلو المقاصد ، فهو لذلك معشوق لكل طبع ، معلوم ما خفي من أسراره وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر كأنه كان منسيا بعد حفظه فذكر ) فمن شاء ذكر ه ) [ عبس : 12 ] فحفظه وعلم معانيه وتخلق بها ، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى ، فمن شاء حجبه عنه أصلا رأسا ، ومن شاء شك ولا ارتياب ، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه ، وحلاه به ، فكان ملكه وسائسه ، كما كان المدثر ( صلى الله عليه وسلم ) حين كان خلقه القرآن ، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا ، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الأقسام عليه لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض ، ويتصرفون فيما خولهم فيه منه غير حساب ، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل عبيده أضعافهم من الملائكة فهم يديرون كل لحظة فيهم كؤوس المنايا ، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى داره البرزخ للتهئية للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور ، ويقيمهم بالنقر في الناقور ، والنفخ في الصور ، إلى ساحة الحساب للثواب والعقاب ، ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن شيء منه كمت أن ما جلاه لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى كان خلقه ، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا ونورا خالصا بحتا ) بسم(8/241)
صفحة رقم 242
الله ( الذي شرف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعجز الخلق بكتابه بما له من الجلال ) الرحمن ( الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان أهل الهدى والضلال ) الرحيم ( الذي خص أهل العناية بالسداد في الأقوال والأفعال .
القيامة : ( 1 - 7 ) لا أقسم بيوم. .. . .
) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( ( )
لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه ، ثم أعاد أمرها آخرها ، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها ، وكان الكفار يكذبون بها ، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات ، وكانت العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به ، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد ، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا معاند ، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها وإثبات أمرها بعدم الإقسام أو تأكيده : ( لا أقسم ) أي لا أوقع الإقسام أو أوقعه مؤكداً ) بيوم القيامة ( على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر غني فيه عن ذلك وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنفي ، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً ، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان : والله إن الله موجود ، أي لا شيء أحلف به على وجوده - يا أيها المنكر - أعظم منه حتى أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه ، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين الشيئين فلذا أوقع القسم بهما ، وسر التأكيد ب ( لا ) - كما قال الرازي في اللوامع ، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً ، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر .
ولما كان من المقرر المعلوم الذي هو في أقصى غايات الظهور أن من طلبه الملك طلب عرض وحساب وثواب وعقاب يلوم نفسه في كونه لم يبالغ في العمل بما يرضي الملك والإخلاص في موالاته ، والتحيز إليه ومصافاته .
وكان أكثر لوم النفس واقعاً في ذلك اليوم ، وكان إدراكها للوم المرتب على إدراك الأمور الكلية والجزئية ومعرفة الخير والشر ، والتمييز بينهما من أعظم الدلائل على تمام قدرة الخالق وكمال عظمته الموجب لإيجاد ذلك اليوم لإظهار عظمته وحكمه وحكمته قال ) ولا أقسم(8/242)
صفحة رقم 243
بالنفس ( على حد ما مضى في أن الباء صلة أو سبب ) اللوامة ) أي التي تلوم صاحبها وهي خيرة وشريرة ، فالخيرة تكون سبباً للنجاة فيه والأخرى تكون سبباً للهلاك فيه ، فإن لامت على الشر أو على التهاون بالخير أنجت ، وإن لامت على ضد ذلك أهلكت ، وكيفما كانت لا بد أن تلوم ، وهي بين الأمارة والمطمئنة ، فما غلب عليها منهما كانت في حيزه ، قال الرازي في اللوامع : فالمطمئنة التي انقادت لأوامر الله ، والأمارة المخالفة لها المتعبة للهوى ، واللوامة هي المجاهدة ، فتارة لها اليد وتارة عليها ، وهي نفس الإنسان خاصة لأنها بين طوري الخير والشر والكمال والنقصان والصعود والهبوط والطاعة والعصيان ، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من معارفه : وهي نفس واحدة لها صفات متغايرة ، فالملائكة في درجة الكمال ، والحيوانات الأخر في دركة النقصان .
ولهذا جمع بين القيامة وبين اللوامة ، لأن الثواب والعقاب للآدمي دون الملائكة والحيوانات العجم ، واللوامة يشتد لومها في ذلك اليوم على عدم الخير أو عدم الزيادة منه ، لا أقسم على ذلك بهذا الذي هو من أدل الأمور على عظمته سبحانه فإن الأمر في ذلك غني عن القسم .
ولما كان التقدير قطعاً بما يرشد إليه جميع ما مضى جواباً للقسم : إنك والله صادق في إنذارك فلا بد أن ينقر في الناقور بالنفخ في الصور .
قال بانياً عليه بعد الإشارة إلى تعظيم أمر القيامة بما دل عليه حذف الجواب من أنها في وضوح الأمر وتحتم الكون على حالة لا تخفى على أحد منكراً على من يشك فيها بعد ذلك : ( أيحسب الإنسان ) أي هذا النوع الذي يقبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفه والسرور بحسبه ، وأسند الفعل إلى النوع كله لأن أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله ) أن ) أي أنا .
ولما كان فيهم من يبالغ في الإنكار ، عبر أيضاً بأداة التأكيد فقال : ( لن نجمع ) أي على ما لنا من العظمة ) عظامه ) أي التي هي قالب بدنه وعماده من الأرض فيعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها وافتراقها وبلاها وانمحاقها ، وقد سدت المخففة مسد مفعولي ( يحسب ) المقدرين ب ( يحسبنا ) غير جامعين .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم قوله مخبراً عن أهل الكفر
77 ( ) وكنا نكذب بيوم الدين ( ) 7
[ المدثر : 46 ] ثم تقدم في صدر السورة قوله تعالى :
77 ( ) فإذا نقر في الناقور ( ) 7
[ المدثر : 8 ] إلى قوله :
77 ( ) غير يسير ( ) 7
[ المدثر : 9 ] والمراد به يوم القيامة ، والوعيد به لمن ذكر بعد في قوله
77 ( ) ذرني ومن خلقت وحيداً ( ) 7
[ المدثر : 11 ] الآيات ومن كان على حاله في تكذيب وقوع ذلك اليوم ، ثم تكرر ذكره عند جواب من سئل(8/243)
صفحة رقم 244
بقوله
77 ( ) ما سلككم في سقر ( ) 7
[ المدثر : 42 ] فبسط القول في هذه السورة في بيان ذكر ذلك اليوم وأهواله ، وأشير إلى حال من كذب به في قوله تعالى ) يسأل أيان يوم القيامة ) [ القيامة : 6 ] وفي قوله تعالى : ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) [ القيامة : 3 ] ثم أتبع ذلك بذكر أحوال الخلائق في ذلك اليوم
77 ( ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ( ) 7
[ القيامة : 13 ] انتهى .
ولما أسند الحسبان إلى النوع لأن منهم من يقول : لا نبعث لأننا نتفتت وننمحق ، قال مجيباً له : ( بلى ) أي لنجمعن عظامه وجمع أجزائه لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها من بعد ارتتاقها حال كونها نطفة واحدة لأن كل من قدر على التفصيل قدر على الجمع والتوصيل حال كوننا ) قادرين ) أي لما لنا من العظمة ) على أن ( .
ولما كانت تسوية الصغير أصعب ، قال : ( نسوي بنانه ) أي أصابعه أو سلامياته وهي عظامه الصغار التي في يديه ورجليه كل منها طول إصبع أو أقل ، خصها لأن أطرافه وآخر ما يتم به خلقه بأن نجمع بعضها إلى بعض على ما كانت عليه قبل الموت سواء ، فالكبار بطريق الأولى لأنها أبين ، ولا فرق بيبن تسويتنا ذلك من النطفة وتسويتنا له من التراب ، وهي لا تكون مسواة وهي قالب البدن إلا بتسوية ما عليه من لباس اللحم والعصب والجلد كما يعهدها العاهد ، فتسوية البنان كناية عن تسوية جميع البنيان كما لو قيل لك : هل تقدر على تأليف هذا الحنظل ، فقلت : نعم ، وعلى تأليف الخردل ، مع ما يفهم من تخصيصها من التنبيه على ما فيها من بديع الصنع المتأثر عنه ما لها من لطائف المنافع ، أو أن نسويها الآن فنجمعها على ما كانت عليه حال كونها نطفة من الاجتماع قبل فتقها وتفريقها حتى تكون كخف البعير ، فإن القادر على تفصيل الأنامل حتى تتهيأ للأعمال اللطيفة قادر على جمعها ، فتزول عنها تلك المنفعة .
ومن قدر على تفصيل الماء بعد اختلاطه وجمعه بعد انفصاله قادر على جمع التراب بعد افتراقه ، وكيفما كان فهو تنبيه على التأمل في لطف تفصيل الأنامل وبديع صنعها الموجب للقطع بأن صانعها قادر على كل ما يريد ، قال في القاموس : البنان : الأصابع أو أطرافها .
والسلامى - وزن حبارى : عظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد أو الرجل .
ولما تقدم ما أشار إلى أن القيامة في غاية الظهور ، أضرب عن هذا الإنكار فقال بانياً على ما تقديره : إنه لا يحسب عدم ذلك لأنه من الظهور في حد لا يحتاج إلى كبير تأمل فلو مشى مع عقله عرف الحق : ( بل يريد ) أي يوقع الإرادة ) الإنسان ( أظهر في موضع الإضمار للتصريح بالتعميم لمقتضى الطبع الموجب له عدم الفكر في الآخر مع شدة ظهورها لأنه معني بشهواته فلا نجاة إلا بعصمة الله تعالى ، وحذف مفعول ( يريد )(8/244)
صفحة رقم 245
إشارة إلى أن كل ما يريده بمقضتى طبعه وشهواته خارج عن طوره فهو معاقب عليه لأنه عبد ، والعبد يجب عليه أن يكون مراقباً للسيد ، لا يريد إلا مايأمره به ، فإذا أراد ما أمره به لم تنسب إليه إرادة بل الإرادة للسيد لا له .
ولما كان ذلك ، وكانت إرادته الخارجة الخارجة عن الأمر معصية ، قال معللاً : ( ليفجر أمامه ) أي يقع منه الإرادة ليقع منه الفجور في المستقبل من زمانه بأن يقضي شهواته ويمضي راكباص رأسه في هواه ، ونفسه الكاذبة تورد عليه الأماني وتوسع له في الأمل وتطمعه في العفو من دون عمل ، قال الحسن : المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ويقول : ما أردت بكلامي ؟ وما أردت بأكلي ؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .
ويجوز أن يعود الضمير على الله تعالى ليكون المعنى : ليعمل الفجور بين يدي الله تعالى وبمرأىً منه ومسمع ويطمع في أن لا يؤاخذه بذلك أو يجازيه بفجوره ، قال في القاموس : والفجر : الانبعاث في المعاصي والزنا كالفجور .
ولما كان عريقاً في التلبس بهذا الوصف ، أنتج له الاستهزاء بهذا الخطب الأعظم فترجم ذلك بقوله : ( يسئل ) أي سؤال استهزاء واستبعاد ، ويوضع موضع مفعول يسأل جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال : ( أيان ) أي أيّ وقت يكون ) يوم القيامة ( ولما كان الجواب : يوم يكون كذا وكذا ، عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول ، فقال دالاً على خراب العالم لتجرد الإنسان عن مسكنه وما ألفه من أحواله فلا يطرف من هول ما يرى - هذا على قراءة نافع بالفتح ، وهي إشارة إلى مبدأ حاله ، وقراءة الجماعة بالكسر مشيرة إلى مآله فإن معناها : تحير ودهش وغلب ، من برق الرجل - إذا نظر إلى البرق فحسر بصره وتفرق تفرق الشيء في المايع إذا انفتح عنه وعاؤه بدليل قراءة بلق من بلق الباب - إذا انفتح ، وبلق الباب كنصر : فتحه كله ، أو شديداً كأبلقه فانبلق ، وبلق كفرح : تحير - قاله في القاموس .
القيامة : ( 8 - 12 ) وخسف القمر
) وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( ( )
ولما كانت آيات السماوات أخوف ، ذكرها بادئاً بما طبعه البرد ، إشارة إلى شدة الحر والتوهج والأخذ بالأنفاس الموجب لشدة اليأس فقال : ( وخسف القمر ) أي وجد خسفه بأن خسفه الله تعالى أذهب صورته كما تذهب صورة الأرض المخسوفة ، وذلك بإذهاب ضوئه نم غير سبب لزوال ربط المسببات في ذلك اليوم بالأسباب وظهور(8/245)
صفحة رقم 246
الخوارق بدليل قوله : ( وجمع ) أي جمعاً هو في غاية الإحكام ولاشدة كما أفهمه التذكير وعلى أيسر الوجوه وأسهلها ) الشمس ) أي آية النهار ) والقمر ( مع عدم إنارته وإن كان نوره الآن من نورها فذهب الانتفاع بهما وهما مع ذهاب النور وتفرق البصر مدركان لوجود الكشف التام عن الخفيات كما قال تعالى : ( ) فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( ) [ ق : 22 ] وبعد جمعها يلقيان في النار كأنهما ثوران عقيران ، وبني الفعل للمفعول لأن المهول مطلق جمعها المخرج لهما عن العادة وللدلاة على السهولة .
ولما عظم أمر القيامة بما تقدم ، أكد ذلك بأن الأمر فيه على غير ما نعهده في الدنيا من وجدان مهرب أو حاكم غير الذي يخافه المطلوب أو شيء من تشعب الكلمة وتفرقها فقال : ( يقول الإنسان ) أي بشدة روعه جرياً مع طبعه ) يومئذ ) أي إذا كان هذا الخطب الأجل والقادح الأكبر ، والموضع الذي إليه الفرار والزمان القابل لذلك ، قول آيس مدهوش قاده إليه الطبع ، وذلك حين تقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بأيد سبعين ألف ملك ، لها زفير وشهيق .
ولما كان ذلك اليوم يوم انقطاع الأسباب ، قال نافياً بما سال عنه بأدة الردع : ( كلا ) أي لا يقال هذا فإنه لا سبيل إلى وجود معناه وهو معنى ) لا وزر ) أي ملجأ ومعتصم ولا حصن ولا التجاء واعتصام ، وكون هذا من كلام الإنسان رجوعاً من طبعه إلى عقله أقعد وأدل على الهول لأنه لا يفهم أنه بعد أن سأل من عظيم الهول نظر في جملة الأمر فتحقق أن لا حيلة بوجه أصلاً ، فقال معبراً بالأداة الجامعة لمجامع الردع .
ولما كان المعنى : لا مفر من الله إلا إليه ، لأن ملكه محيط وقدرته شاملة ، قال مترجماً عنه ذاكراً صفة الإحسان لوماً لنفسه على عدم الشكر : ( إلى ربك ) أي المحسن إليك بأنواع الإحسان وحده ، لا إلى شيء غيره ) يومئذ ) أي إذ كانت هذه الأشياء ) المستقر ) أي استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لأحد غيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا .
القيامة : ( 13 - 17 ) ينبأ الإنسان يومئذ. .. . .
) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( ( )
ولما كان موضع السؤال عن علة هذا الاستقرار ، قال مستأنفاً بانياً للمفعول لأن(8/246)
صفحة رقم 247
المنكئ إنما هو كشف الأسرار لا كونه من كاشف معين ، وللدلالة على يسر ذلك عليه سبحانه وتعالى بأن من ندبه إلى ذلك فعله كائناً من كان : ( ينبؤا ) أي يخبر تخبيراً عظيماً مستقصىً ) الإنسان يومئذ ) أي إذ كان هذا الزلزال الأكبر ) بما قدم ) أي من عمله العظيم ) وأخر ) أي في أول عمره وآخره - كناية عن الاستقصاء أو بما قدمه فآثره على غيره هل هو الشرع أو الهوى أو بماعمل في مدة عمره وبما أخر عمله لمعاجلة الموت له عنه فيخبر بما كان يعمله منأمله لو مد في أجله ، أو الذي قدمه هو ما عمله بنفسه وما أخره هو ما سنه فعمل به الناس من بعده من خير أو شر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وعليه مشى الغزالي في الباب الثالث من كتاب البيع من الإحياء .
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها ، وكان الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه ، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان ، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء ، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن ، فكان التقدير : وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به ، قال بانياً عليه : ( بل الإنسان ) أي كل واحد من هذا النوع ) على نفسه ( خاصة ) بصيرة ) أي حجة بينة على أعماله ، فالهاء للمبالغة - يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه ، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر - كما أشار إليه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( البر أم سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك ) رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت )(8/247)
صفحة رقم 248
- رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشوغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته ، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه .
ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله ، ويجادل أعظم مجادلة ، وكان المجادل في الغالب يظن أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً ، قال : ( ولو ألقى ) أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق ) معاذيره ) أي كل كلام يمكن أن يخلص به ، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل : وقال في القاموس : المعاذير : الستور والحجج جمع معذار ، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر المذنب والحجة في ستر الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها ، فلا تقبل منها الأعذار ، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهون النفس وشهواتها ، وتلك البصيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى : ( لا ينفع الظالمين معذرتهم ( .
ولما كان معنى هذا كله أن الإنسان محجوب في هذه الدار عن إدراك الحقائق بما فيه من الحظوظ والكسل والفتور ، لما فيه من النقائص ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مبرءاً من ذلك لخلق الله له كاملاً وترقيته بعد ميلاده كل يوم في مراقي الكمال حتى صار إلى حد لا يشغله عن العلوم شيء فكان بحيث يرى مواقع الفتن خلال البيوت كمواقع القطر ، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه ، ويقول : ( والله لا يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم أني أراكم من وراء ظهري ) وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يرى في أشد الظلام وغير ذلك مما له ( صلى الله عليه وسلم ) من رقة الجوهر الذي لم ينله أحد غيره ، وذلك مام يدل على الكشف التام ولكنه كان ( صلى الله عليه وسلم ) لتعظيمه لها فتستقصى ، ولأنه كلام الملك الأعظم ، وبأمره نزل إليه ( صلى الله عليه وسلم ) مع رسوله جبريل عليه الصلاة والسلام ، يعالج عند سماعه أول ما يأتيه شدة ، فكان يحرك به لسانه استعجالاً(8/248)
صفحة رقم 249
بتعهده ليحفظه ولا يشذ عنه منه شيء ، وكان قد ختم سبحانه ما قبلها بالمعاذير ، وكانت العجلة مما يعتذر عنه ، وكان الحامل على جميع ما يوجب الملامة والاعتذار ما طبع عليه الإنسان من حب العاجل ، قال سبحانه نتيجة عن هذه المقدمات الموجبة لانكشاف الأشياء للإنسان الموجب للإخبار بها والخوف من عواقبها لئلا يميل إلى العاجلة ولا يقع في مخالفة لولا ما شغله به من الحجب إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى قد دفع عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الحجب وأوسله من رتبة ( لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ) إلى أنهاها ، وأنه قادر على ما يريد من كشف ما يريد لمن يريد كما يكشف لكل إنسان عن أعماله في القيامة حتى يصير يعرف ما قدم منها وما أخر ، وتنبيهاً على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا كسب له في هذا القرآن بغير حسن التلقي إبعاداً له عن قول البشر وتمهيداً بما يحرك من لسانه بالقرآن قبل تمام الإلقاء لذم ما طبع عليه الإنسان : ( لا تحرك به ) أي القرآن الذي هو تذكرة من شاء ذكره لولا حجاب المشيئة ، وقد كشف سبحانه وتعالى حجاب المشيئة لهذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) وشاء أن يذكره حين قال
77 ( ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ( ) 7
[ الإنسان : 30 ] لأنه ما نزله إليه بغير اكتساب منه إلا وقد شاء ذلك ) لسانك ( الذي ليست له حركة إلا في ذكر الله تعالى .
ولما لم يكن لهذا التحريك فائدة مع حفظ الله له على كل حال إلا قصد الطاعة بالعجلة ، وكانت العجلة هي الإتيان بالشيء قبل أوانه الأليق به ، وإن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثاباً على ذلك أعظم الثواب لأنه لا حامل له عليه إلا حب الله وحب ما يأتي منه ، وجعلها الله سبحانه وتعالى علة وإن لم تكن مقصودة فقال : ( لتعجل به ) أي بحمله وأخذه قبل أن يفرغ من إلقاءه إليك رسولنا جبريل عليه الصلاة والسلام مخافة أن ينفلت منك ، لأن هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وغلى إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال موسى عليه الصلاة والسلام :
77 ( ) وعجلت إليك رب لترضى ( ) 7
[ طه : 84 ] لأنها من النفس اللوامة التي تلوم على ترك المبادرة إلى أفعال الخير فغيرها من أفعال المطمئنة أكمل منها ، فنقل ( صلى الله عليه وسلم ) من مقام كامل إلى أكمل منه ، وكان هذا الكلام المتعلق بالقرآن والذي بعده فرقاناً بين صفتي اللوامة في الخير واللوامة في الشر ، والآية ناظرة غلى قوله تعالى في المدثر حكاية ( إن هذا إلا قول البشر ) وما بينهما اعتراض في وصف حال القيامة جر إليه قوله تعالى :
77 ( ) سأصليه سقر ( ) 7
[ المدثر : 26 ] أي أن الذي خيل به المتقول في القرآن أمران : أحدهما أنه سحر والآخر أنه قول البشر ، والعلم اليقين حاصل بانتفاء الأول ، وأما الثاني فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخشى أن لا يتقن حفظه فتدخل عليه كلمة مثلاً فيكون من قول البشر فنهاه الله تعالى عن العجلة وضمن له الحفظ ، ثم(8/249)
صفحة رقم 250
علل هذا النهي بقوله مؤكداً لأنه من معجزاته : ( إن علينا ) أي بما لنا من العظمة ، لا على أحد سوانا ) جمعه ) أي في صدرك حتى نثبته ونحفظه ) وقرآنه ) أي إطلاق لسانك به وإثباته في رتبته من الكتاب حال كونه مجموعاً أتم جمع ميسراً حسن تيسير فأرح نفسك مما تعالج في أمره من المشقة وتكابده من العناء .
القيامة : ( 18 - 24 ) فإذا قرأناه فاتبع. .. . .
) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( ( )
ولما نهاه أمره فقال : ( فإذا قرأناه ) أي أقدرنا جبريل عليه الصلاة والسلام على تأديته إليك كما حملناه إياه بما لنا من العظمة وعلى حسبها ) فاتبع ) أي بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار ذهنك ) قرآنه ) أي قراءته مجموعة على حسب ما أداه إليك رسولنا وجمعناه لك في صدرك ، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة واعمل به حتى يصير لك خلقاً فيكون قائدك إلى كل خير ، فالضمير يجوز أن يكون للقرآن أي قراءة جبريل عليه السلام له ، ولو كان على بابه لم يكن محذوراً ، فإن المراد به خاص وبالضمير عام ، ويجوز أن يكون الضمير لجبريل عليه السلام أي اتبع قراءته ولا تراسله .
ولما كان بيان كلماته ونظومه على أي وجه سمعه من مثل صلصلة الجرس وغيرها وبيان معانيه وما فيه من خزائن العلم من العظمة بمكان يقصر عنه الوصف ، أشار إليه بأداة التراخي ، فقال دالاً على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، مشعراً بأنه كان يعجل بالسؤال عن المعنى كما كان يعجل بالقراءة : ( ثم ( وأكد ذلك إشارة إلى أنه لعظمه مما يتوقف فيه فقال : ( إن علينا ) أي بما لنا من العظمة ) بيانه ) أي بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء سمعته من جبريل عليه الصلاة والسلام على مثل صلصلة الجرس أو بكلام الناس المعتاد بالصوت والحرف ، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمتك ، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة لأنه إذا نهى عنها في أعظم وآخره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعالج من التنزيل شدة ، كان يحرك شفتيه ، قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحركهما ) فأنزل الله عز وجل الآية حتى قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) [ القيامة : 18 ] قال : فاستمع له وأنصت ثم إن(8/250)
صفحة رقم 251
علينا أن تقرأه ، قال فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام استمع مطرقاً فإذا انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام قرأه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما أقرأه جبريل عليه الصلاة والسلام كما وعده الله بكفالة قوله تعالى :
77 ( ) فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً ( ) 7
[ الجن : 27 - 28 ] ولما كان سبحانه وتعالى قد ختم الكلام في المكذبين بأن أعمالهم محفوظة ، وأن كل أحد على نفسه شاهد ، لأنه يعلم جميل ما يفعل من قبيحه وإن اعتذر ، ولولاه ما اشتد اتصاله به ، وختم بضمان البيان للقرآن ، فكان شاهداً بيناً على كل إنسان بما له من عظيم البيان .
قال نافياً لما يظن من جهلهم بقبيح أفعالهم الذي اقتضاه اعتذارهم مشعراً بأن الآدمي مطبوع على الاستعجال بعد النهي عن العجلة في أعز الأشياء وأعلاها وأهمها وأولاها ، لأنه أصل الدين ليكون ذلك مؤكداً للنهي عن العجلة بالقرآن ومؤكداً لذمهم بحب العاجلة مغلظاً لتوبيخهم على الميل مع الطبع وترك ما يقتضيه العلم والعقل : ( كلا ) أي لا يجهل أحد منهم قبائح ما ارتكبه وإن اعتذر وما ارتكب شيئاً منها عن جهل ) بل ( هم ) يحبون ) أي محبة متجددة مستمرة على تجدد الزمان ) العاجلة ( بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها فيأخذونها ، وحبّها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه فإن الآخرة والأولى ضرتان من أحب إحداهما فعل ولا بد ما يباعده عن الأخرى ، فإن ( حبك للشيء يعمي ويصم ) وهذا بخلاف نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في مطلق العجلة فكيف بالعاجلة إنما طبعناه على الكمال ، فكان يعالج من العجلة بالقراءة شدة فحين نهيناه عن ذلك انتهى رجوعاً إلى طبعه الكامل الذي لا يشوبه نقص ، وكذا كان أمره تكويناً لا إباء معه ولا كلفة ، فإن نفسه المطمئنة هي الغالبة ولها السلطان الأكبر ، ولأجل تضارر الدارين وكونهم يحبون العاجلة قال : ( وتذرون ) أي يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن ) الآخرة ( لانهم يبغضونها لارتكابهم ما يضربهم فيها ، وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان نظراً نظراً للمعنى إشارة إلى أنه لا يسلم من العجلة المذمومة إلا أفراد حفظهم الله بقدرته الباهرة ، والآية من الاحتباك : ذكر الحب أولاً دليلاً على البغض ثانياً ، والترك ثانياً دليلاً على الإقبال والأخذ أولاً ، فأنفسهم اللوامة تلومهم على التقصير في الشر كما أن نفسك تحثك على الازدياد من الخبر والمبادرة إليه ، فنعم النفس هي ولتعلين مقامها ، وأما أنفسهم فإنها تحثهم لأجل اللوم على التقصير في الشر على الإخلاد إلى العاجل الفاني والإقلاع عن الباقي لكونه غائباً فبئس الأنفس هي .(8/251)
صفحة رقم 252
ولما ذكر الآخرة التي أعرضوا عنها ، ذكر ما يكون فيها بياناً بجهلهم وسفههم وقلة علقهم ، ترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال : ( وجوه ) أي من المحشورين وهم جميع الخلائق ) يومئذ ) أي إذ تقوم القيامة ) ناضرة ( من النضرة بالضاد ، وهي النعمة والرفاهية أي هي بهية مشرقة ظاهر عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها ) إلى ربها ) أي المحسن لها خاصة باعتبار أن عُدَّ النظر إلى غيره كلا نظر ) ناظرة ) أي دائماً هم محدقون أبصارهم نحو جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصرره بأعينهم بدليل التعدية ب ( إلى ) وذلك ، النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين وجميع أهل السنة ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الأحاديث الصحاح من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة ، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث ( كما يرى القمر ليلة البدر ) كل من يريد رؤيته من بيته مخلياً به - هذا وجه الشبه ، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه - تعالى الله عن التشبيه ، وهكذا رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام من الأشخاص المستكثرة في البلاد المتباينة في الوقت الواحد ، وقدمالجار الدال على الاختصاص إشارة إلى هذا النظر مباين للنظر إلى غيره فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه ، وإلى أن تلك الوجوه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث لا تفتر عن ذلك ، ولا يعد نظرها إلى ما سواه شيئاً ، وهي آمنة من أن يفعل بها فاقرة ، وعبر بالوجوه عن أصحابه لأنها أدل ما يكون على السرور ، وليكون ذكرها أصرح في أن المراد بالنظر حقيقته ، وزاده صراحة بالتعدية ب ( إلى ) فإن الانتظار لا يعدى بها ، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء بعد أن جوّز أن يخلق الله النظر في الجهة وغيرها : والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة - انتهى ، وأهل الجنة متفاوتون في النظر : روي أن منهم من ينظر إلى الله بكرة وعشية ، وفي خبر آخر ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ، ومتفاوتون في مقدار الكشف في الجمال والأنس والبهجة التي يكون عنها اللذة بحسب أعمالهم .
ولما ذكر أهل النعمة ، أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال : ( ووجوه يومئذ ) أي في ذلك اليوم بعينه ) باسرة ) أي شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من(8/252)
صفحة رقم 253
الغم كأنها قد غرقت فيه فرسبت بعد أن سبرت أحوالها ، فلم يظهر لها وجه خلاص ، والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع لاشتداد كلوحه عند العراك ، وتلك الوجوه عن ربها محجوبة ، وإلى أنواع العذاب ناظرة .
القيامة : ( 25 - 32 ) تظن أن يفعل. .. . .
) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( ( )
ولما كان ظن الشر كافياً في الحذر منه والمبالغة في اتسعمال ما يحمي منه ، قال دالاً على أنه عبر بالوجه عن الجملة : ( تظن ) أي تتوقع بما ترى من المخايل : ( أن يفعل ( بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الشر لا كونه من معين ) بها ) أي بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى ) فاقرة ) أي داهية تكسر الفقاره وهو عظم سلسلة الظهر الذي هو أصلب ما في العظام فتكون قاصمة الظهر ، فالآية من الاحتباك : ذكر النظر في الأولى دليلى على ضده في الثانية ، وذكر الفاقرة في الثانية دليل على ضدها في الأولى .
ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، فاقتضى ذلك أنه حب غيره منفك التجدد أصلاً ، أخبر أنه ينقطع عن هول المطلع مع الدلالة على تمام القدرة ، وأنه لا يرد قضاؤه ، فقال رادعاً لمن يظن عدم انقطاعه : ( كلا ) أي لا يدوم هذا الحب بل لا بد أن ينقطع انقطاعاً قبيحاً جداً .
ولما كان المحب للدنيا هو النفس ، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها فقال ذاكراً ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة : ( إذا بلغت ) أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق - بما أفهمته أداة التحقق ) التراقي ) أي عظام أعالي الصدر ، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق ، ولكل إنسان ترقوتان ، وهو موضع الحشرجة ، لعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها ، وهذا كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح :
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ولما كان أهل الميت يشتد انزعاجهم إذ ذاك ويشتد تطلبهم لما ينجي المحتضر من غير أن يفيدهم ذلك شيئاً ، فكان قولهم كأنه لا قائل له على التعيين ، بني للمفعول قوله :(8/253)
صفحة رقم 254
) وقيل ) أي من كل قائل يعز عليه الميت استفهام استبعاد : ( من راق ) أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء إلا في الرقى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء : أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع ، والثاني الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضر والكسر في المضارع .
ولما كان الإنسان مطبوعاً على الترجح بين الأمور الممكنة تتعلق لما يغلب عليه من طبع الإلف وشدة الركون لما يألفه بأدنى شيء ، عبر عما هو أهل للتحقق بالظن فقال : ( وظن ) أي المحتضر لما لاح له من أمور الآخرة أو القائل ( هل من راق ) من أهله ) أنه ) أي الشأن العظيم الذي هو فيه ) الفراق ) أي لما كان فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله ، ففي الخبر أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وأن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول : السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة : ( والتفت الساق ) أي هذا النوع ) بالساق ) أي انضمت إليها واتصلت بها ودارت إحادهما بالأخرى فكانتا كالشيء الواحد ، وهو كناية عن الموت لأن المشي لا يكون إلا مع انفصال إحدى الساقين في مثل هذا السياق إلا في أمر شديد مثل ( شمر عن ساق ) وإذا اشتد حراب المتحاربين : ( دنت السوق بعضها في بعض ) فلا افتراق إلى عن موت أحدهما أو أشد من موته من هزيمته ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كناية عن اختلاط شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ، وجواب إذ محذوف تقديره : زال تعلقه الذي كان بالدنيا وحبه لها وإعراضه عن الآخرة .
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ، ذكر غاية ذلك فقال مفرداً النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره : ( إلى ربك ) أي موعد وحكم المحسن إليك بإرسالك وتصديقك في جميع ما بلغته عنه ونصرك على كل من ناواك ، لا إلى غيره ) يومئذ ) أي إذ وقع هذا الأمر ) المساق ) أي السوق وموضع السوق وزمانه ، كل ذلك داخل في حكمه ، قد انقطعت عنه أحكام أهل الدنيا ، فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة بينة وإما إلى شقاوة بينة ، أو هو كناية عن عرضه بعد الموت على الله تعالى فلا ينفعه إذا حقق له الوعظ بالموت قوله : أموت فأستريح ، فإنه يرجع بالموت إلى سيده ، فإن كان مطيعاً لقيه بما يرضيه ، وإن كان عاصياً لقيه بما يلقى به العبد الآبق على قدر إباقه .(8/254)
صفحة رقم 255
ولما ذكر كراهته للآخرة ذكر أن سببه إفساده ما آتاه الله من قوى العلم والعمل بتعطيلها عن الخير واستعمالهما في الشر فقال مبيناً عمل العبد الموافق والآبق ، عاطفاً على ) ) يسأل أيان ( ) [ القيامة : 6 ] الذي معناه جحد البعث : ( فلا صدق ( - أي هذا الإنسان الذي الكلام فيه - الرسول فيما أخبره بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ، ولا إيمانه بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مسنونة ، وحذف المفعول لأنه أبلغ في التعميم .
ولما ذكر أصل الدين ، أتبعه فروعه دلالة على أن الكافر مخاطب بها فقال : ( ولا صلّى ) أي ما أمر به من فرض وغيره ، فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل إلى حبل الخلائق على حد ما شرع ما .
ولما نفى عنه أفعال الخير ، أثبت له أفعال الشر فقال : ( ولكن ) أي فعل ضد التصديق بأن ) كذب ) أي بما أتاه من الله ) وتولى ) أي وفعل ضد الصلاة التي هي صلة بين المخلوق والخالق ، فاجتهد في خلاف ما تدعوه إليه فطرته الأولى المستقيمة من الإعراض عن الطاعة من الصلاة وغيرها حتى صار له ذلك ديدناً ، فصارت الطاعة لا تخطر له بعد ذلك على بال لموت الفطرة الأولى وحياة النفس الأمارة بالسوء ، وليس هذا بتكرار لأنه لا يلزم من عدم التصديق التكذيب .
القيامة : ( 33 - 40 ) ثم ذهب إلى. .. . .
) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ( ( )
ولما كان الإصرار على هذا عظيماً يبعد كل البعد أن يعمله أحد فكيف بالافتخار به والتكبر لأجله ، أشار إليه بأداة البعد ، فقال مؤذناً بأن الحال على التكذيب الكبر ، والحامل على الكبر الترف ، وسبب ذلك الانقياد أولاً مع الطبع في إفساد القوتين : العملية والعلمية حتى نشأ عنهما هذا الخلق السيىء ، وهو عدم المبالاة ، ولم يزل به ذلك حتى صار ملكة يفتخر به ) ثم ذهب ) أي هذا الإنسان بعد توليه عن الحق ) إلى أهله ( غير مفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حال كونه ) يتمطّى ) أي يفتخر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك ، من المط ، أبدل الحرف الثاني ألفاً تخفيفاً فصار من المطي وهو الظهر كأنه يساعده على مد الخطى ، أو أن المتبختر إذا مشى لوى ظهره ، وإنما فعل هذا لمرونه على المعصية بدل الاستحياء والخجل والانكسار .
ولما كان هذا غاية الفجور ، وكان أهل الإنسان يحبونه إذا أقبل إليهم لا سيما إذا(8/255)
صفحة رقم 256
كان على هذه الحالة عند أغلب الناس ، أخبر بما هو حقيق أن يقال له في موضع ( تحية أهله ) من التهديد العظيم فقال : ( أولى لك ) أي أولاك الله ما تكره ، ودخلت اللام للتأكيد بقوله : ( فأولى ) أي ابتلاك الله بداهية عقب داهية ، وأبلغ ذلك التأكيد إشارة إلى أنه يستحقه على مدى الأعصار ، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى عظيم ما ارتكب وقوة استحقاقه لهذا التأكيد : ( ثم أولى لك ) أي ألها الذي قد أحل نفسه بالغفلة دون محل البهائم ) فأولى ) أي وصلت إلى هذا الهلاك بداهية تعقبها تارة متوالياً وتارة متراخياً ، وبعضها أعظم من بعض ، لحقك ذلك لا محالة ، فإن هذا دعاء ممن بيده الأمر كله ، ويجوز أن يكون المعنى : أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك ، وقال ابن جرير في تفسير المدثر : إن أبا جهل لما استهزأ على جعل مزنة النار تسعة عشر أوحى الله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتيه فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له : أولى لك - إلى آخرها ، فلما قال ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال أبو جهل : والله لا تفعل أنت وربك شيئاً ، فأخزاه الله يوم بدر - انتهى .
ويمكن تنزيل الكلمات الأربع على حالاته الأربع : الحياة ثم الموت ثم البعث ثم دخول النار ، فيكون المعنى : لك المكروه الآن في الموت والبعث ودخول النار .
قال البغوي : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن لكل أمة فرعوناً ، وإن فرعو هذه الأمة أبو جهل ) وقد أفهمت الآية أن من أصلح قوتي علمه وعمله بأن صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأقبل وأقام الصلاة فتبعتها جميع الأعمال التي هي عمادها ، فنشأ عن ذلك خلق حسن وهو الوجل مع الطاعة ، فهنالك يقال له : بشرى لك فبشرى ثم بشرى لك فبشرى .
ولما كان هذ فعل من أعرض عن الله أصلاً فلم يخطر شيئاً من عظمته على باله ، فكان ظاناً أنه مهمل لا مالك له وأنه هو السيد لا عبودية عليه ، فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعمل إلا بمقتضى شهواته ، قال منكراً ليه معبراً بالحسبان الذي الحامل عليه نقص العقل : ( أيحسب ) أي أيجوز لقلة علقه ) الإنسان ) أي الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى في نفسه وأبناء جنسه .
ولما كان الحامل على الجراءة مطلق الترك هملاً ، لا كون الترك من معين ، قال بانياً للمفعول : ( أن يترك ) أي يكون تركه بالكلية ) سدى ) أي مهملاً لاعباً لاهياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما(8/256)
صفحة رقم 257
أسدى إليه ، فإن ذلك منافٍ للحكمة ، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما ، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء ، فاقتضت الحكمة ولا بد البعث للجزاء .
ولما كان الإنسان يجري على ما في طبعه من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة ، رحمه سبحانه بإعادة البرهان على المعاد بأمر يجمع القدرة والحكمة ، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعاً يصنع شيئاً ويتركه ضياعاً وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء والحاكمين فقال منكراً عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه المحكمة فيه ، مقرراً أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل على أنه لا مانع منها أصلاً ، حاذفاً نون الكون إعلاماً بأن الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لاجله فيحصل له الهلاك ، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته : ( ألم يك ) أي الإنسان ) نطفة ) أي شيئاً يسيراً جداً ) من مني ) أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله لابتلاء إخرادجها بما ركب فيه من الشهوة وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً ، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله ، ولما كان تكثير تلك النطفة وتحويلها أمراً عظيماً عجيباً ، أشار إليه بأداة البعد مع إفادتها للتراخي في الزمان أيضاً فقال : ( ثم كان ) أي كوناً محكماً ) علقة ) أي دماً أحمر عبيطاً شديد الحمرة والغلظة ) فخلق ) أي قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه ) فسوى ) أي عدل عن ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً .
ولما كان استعبادهم للقيام إما لاستبعاد القدرة على إعادة الأجزاء بعد تفرقها أو لاستبعاد القدرة على تمييز ترابها من تراب الأرض بعد الاختلاط ، وكان تمييز النطفة إلى ذكر وأنثى كافياً في رد الاستبعادين قال : ( فجعل ) أي بسب بالنطفة ) منه ) أي هذا الماء الدافق أو المخلوق المسوى وهما شيء واحد ) الزوجين ) أي القرينين اللذين لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر ، ثم بينهما بقوله : ( الذكر والأنثى ( وهما كما تعلمون متباينان في الطباع مختلفان في أوصاف الأعضاء والآلات والمتاع ، كما لم يترك النطفة حتى صيرها علقة ولا ترك العلقة حتى صيرها مضغة ولا ترك المضغة حتى صيرها عظاماً ولم يترك العظام حتى صيرها خلقاً آخر إلى تمام الخلقة لتمام الحكمة الظاهرة وفصلها(8/257)
صفحة رقم 258
إلى ذكر وأنثى وهي ماء ، تمييز ما يصلح منه للذكر وما يصلح منه للأنثى أشد وأخفى من تمييز تراب الميت من تراب الأرض ، فكذلك لا يترك الجسم بعد موته حتى يعيده ثم يبعثه إلى آخر ذلك لتمام الحكمة الباطنة وهي الجزاء والحكم الذي هو خاصة الملك .
ولما تقرر من حيث إتقان الاصطناع أنه لا يجوز معه الإهمال وانقطاع النزاع ، وكان ربما توقف من حيث ظن عدم القدرة على ذلك بعد الموت ، قال منبهاً على تمام القدرة مقرراً عليه منكراً على من يتوقف فيه موبخاً له مرتباً على ما قام على القدرة على الإعادة من دليل القدرة الشهودي على البداية : ( أليس ذلك ) أي الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على هذه الإنشاءات وصنع هذه الصنائع المتقنة التي لا يقدر غيره على شيء منها وأعرق في النفي فقال : ( بقادر ) أي عظيم القدرة ) على أن يحيي ) أي كيف أراد دفعة أو في أوقات متعاقبة ) الموتى ( فيقيم القيامة بل وعزته وجلاله وعظمته وكماله إنه على كل ما يريد قدير ، وقد رجع آخر السورة على أولها أتم رجوع ، والتأم به أتم التئام ، فتمت معانيها أعظم تمام بجمع العظام وإيجاد القيام ليوم التغابن والزحام - أعاننا الله فيه بحسب الختام ، روى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من قرأ منكم ) والتين والزيتون ) [ التين : 1 ] فانتهى إلى آخرها ) ألين الله بأحكم الحاكمين ) [ التين : 8 ] فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ ) لا أقسم بيوم القيامة ) [ القيامة : 1 ] فانتهى إلى قوله ) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) [ القيامة : 40 ] فيلقل بلى ، ومن قرأ المرسلات فقرأ ) فبأي حديث بعده يؤمنون ) [ المرسلات : 50 ] فيقل : ( آمنا بالله ( ورواه الترمذي وقال في آخر القيامة أن يحيي الموتى .
( بلى وعزة ربنا ) وقال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد : وروى أحمد وفيه رجلان لم أعرفهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من قرأ : والمرسلات عرفاً فبأي حديث بعده يؤمنون ، ومن قرأ : والتين والزيتون ، فيلقل : وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، فيقل بلى ( والله الهادي للصواب .
.. .(8/258)
صفحة رقم 259
سورة الإنسان
وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر .
مقصودها ترهيب الإنسلنت بما دل عليه آخر القيامة من العرض على الملك الديان بتعذيب العاصي في النيران وتنعيم المطيع في الجنان بعد جمع الخلائق كلها الإنس والجان والملائكة والجان وغير ذلك من الحيوان ، ويكون لهم مواقف طوال وأهوال وزلزال ، لكل منها أعظم شأن ، وأدل ما فيها على ذلك الإنسان بتأمل آيته وتدبر مبدئه وغايته ، وكذا تسميتها بهل أتى وبالدهر وبالأمشاج من غير ميل ولا اعوجاج ) بسم الله ( الملك الذي خلق الخلائق لمعرفة أسمائه الحسنى ) الرحمن ( الذي عمهم بنعمة الظاهرة فرادى ومثنى ) الرحيم ( الذي خص منهم من اختاره لوداده بالنعمة الباطنة والمقام الأسنى .
الإنسان : ( 1 - 3 ) هل أتى على. .. . .
) هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( ( )
ولما تقدم في آخر القيامة التهديد على مطلق التكذيب ، وأن المرجع إلى الله وحده ، والإنكار على من ظن أنه يترك سدى والاستدلال على البعث وتمام القدرة عليه ، تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكار على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى ، فقال مفصلاً ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد : ( هل أتى ) أي بوجه من الوجوه ) على الإنسان ) أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه ) حين من الدهر ) أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه ) لم يكن ) أي في ذلك الحين كوناً راسخاً ) شيئاً مذكوراً ) أي ذاكراً له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاوناً به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي ، ثم يذهب عدماً ليس الأمر كذلك ، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد(8/259)
صفحة رقم 260
خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور ، وذلك أن الدهر هو الزمان ، والزمان هو مقدار حركة الفلك - كما نقله الرازي في كتاب اللوامع في سورة ( يس ) عند قوله تعالى ( ولا الليل سابق النهار ) فإنه قال : الزمان ابتداؤه من حركات ا لسماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك - انتهى وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة كانت ، وكانت طينته - قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : خلق الله آدم عليه السلام من تراب فأقام أربعين سنة ثم من طين أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ثم خلقه بعد ستين ومائة سنة ، وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة : فحينئذ ما أتى عليه زمان إلا وهو شيء مذكور إما بالتخمير وإما بتمام التصوير ، فالاستفهام على بابه وهو إنكاري ، وليست ( هل ) بمعنى ( قد ) إلا إن قدرت قبلها الهمزة ، وكان الاستفهام إنكارياً لينتفي مضمون الكلام ، والمراد أنه هو المراد من العالم ، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله ، فهو أشرف الخلائق ، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء ، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات ، ويبقى الظرف الي ما خلق إلا صواناً له ، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلاً قرأه لا عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال : يا ليت ذلك لم يكن .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : قوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ) [ الإنسان : 1 ] تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه ، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه
77 ( ) وما بكم من نعمة فمن الله ( ) 7
[ النحل : 53 ] ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عناداً واستكباراً وتعامياً عن النظر والاعتبار
77 ( ) أيحسب الإنسان إن لن نجمع عظامه ( ) 7
[ القيامة : 3 ] وقوله بعد
77 ( ) فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى ( ) 7
[ القيامة : 31 - 33 ] أي يتخبتر عنواً واستكباراً ومرحاً وتجبراً ، وتعريفه بحاله التي لو فكر فيها لما كان منه ما وصف ، وذلك قوله
77 ( ) ألم يكن نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى ( ) 7
[ القيامة : 37 - 38 ] أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه قد كان لا شيء فلا نطفة ولا علقة ، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين ثم كان علقة ثم مضغة إلى إخراجه وتسويته خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حاله والواضح فناؤها واضمحلالها ، وأمده(8/260)
صفحة رقم 261
الله تعالى بتوفيقه عرف حرمان من وصف في قوله : ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) فسبحان الله ما أعظم حلمه وكرمه ورفقه ، ثم بين تعالى ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له ، ومن أدركه أدركه الغلط وارتكب الشطط - انتهى .
ولما ذكر مطلق خلقه ، وقرر أنه خلاصة الكون ، شرع يذكر كيفية خلقه ويدل على ما لزم من ذلك من أنه ما خلق الخلق إلا لأجله وأنه لا يجوز أن يهمل فقال معلماً بالحال التي هي قيد الجملة ومحط الفائدة أنه ما خلق إلا للآخرة ، مفصلاً أمر الإيجاد بالفاعل والصورة والمادة والغاية وأكده لإنكارهم له : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) خلقنا ) أي قدرنا وصورنا ، وأظهر ولم يضمر لأن الثاني خاص والأول عام لآدم عليه الصلاة والسلام وجميع ولده فقال : ( الإنسان ) أي بعد خلق آدم عليه الصلاة والسلام ) من نطفة ) أي مادة هي ماء جداً من الرجل والمرأة ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وهي المادة التي هي السبب الحامل للقوة المولدة .
ولما كان خلقه على طبائع مختلفة وأمزجة متفاوتة أعظم لأجره إن جاهد ما يتنازعه من المختلفات بأمر ربه الذي لا يختلف ، وكانت أفعاله تابعة لأخلاقه وأخلاقه تابعة لجبلته قال : ( أمشاج ) أي أخلاط - جمع مشج أو مشيج مثل خدن وخدين وأخذان ، وخلط وخليط وأخلاط ، من مشجت الشيء - إذا خلطته ، لأنه من مني الرجل ومني المرأة ، وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص تجتمع مع الأخلاط وهي العناصر الأربعة ، ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فيأهما علا كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فمن نظفة الرجل ، وما كان من دم ولحم وشعر فمن ماء المرأة ، وقال يمان : كل لونين اختلطا فهو أمشاج ، وقال قتادة : هي أطوار الخلق من النطفة وما بعدهما ، وكما يشبه ما غلب عليه من باطن الأمشاج من الطيب والخبث ، وكيفية تمشيجه أن الماء إذا قرار الرحم اختلط بماء المرأة ثم بدم الطمث وخثر حتى صار كالرائب ثم احمر وحينئذ يسمى علقة ، فاذا اشتد ذلك الامتزاج وقوي وتمتن حتى استعد لأن يقسم فيه الأعضاء سمي مضغة ، فإذا أفيضت عليه صورة الأعضاء صورة الأعضاء وتقسم كساه حينئذ مفيضه عز وجل لحماً ، فأفاض عليه القوة العاقلة ، ويسمى حينئذ جنيناً ، وذلك بعد تقسم أجزائه إلى عظام وعروق وأعصاب وأوتار ولحم ، فدور الرأس وشق في جانبيه السمع وفي مقدمه المبصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع ، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد - والطحال والرئة والمثانة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة مهينة كوّن منها العظام مع قوتها(8/261)
صفحة رقم 262
وشدتها وجعلها عماد البدن وقوامه وقدرها بمقادير وأشكال مختلفة ، فمنها صغير وكبير ، وطويل وقصير ، وعريض ومستدير ، ومجوف ومصمت ، ودقيق وثخين ، ولم يجعلها عظماً واحداً لأن الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه ثم جعل بين تلك العظام مفاصل ثم وصلها بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقها بالطرف الآخرة بالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة ، وفي الآخر حفراً موافقة لشكر الزوائد لتدخل فيها ، وخلق الرأس مع كريته من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال وألف بعضها مع بعض ، فجعل في القحف ستة وفي اللحى الأعلى أربعة عشر ، واثنان للأسفل ، والباقي في الأسنان ، وجعل الرقبة مركباً للرأس وركبها من سبع خرزات فيها تجويفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض ، وركب الظهر من أربع وعشرين خرزة وعظم العجز من ثلاثة أجزاء ، وجعل من أسفله عظم العصعص أو اللفة من ثلاثة أجزاء مختلفة ، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وغيرها حتى بلغ مجموع عظام بدن الإنسان مائتي عظم وثمانية وأربعين عظماً سوى العظام التي حشا بها خلل المفاصل ، وخلق سبحانه آلات التحريك للعظام وهي العضلات وهي خمسمائة وسبع وعشرون عضلة كل منها على قدر مخصوص ووضع مخصوص لو تغير عن ذلك أدنى تغير لاختلت مصالح البدن ، وكذا الأعصاب والأوردة والشرايين ، ثم انظر كيف خلق الظهر أساساً للبدن ، والبطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس مجمعاً للحواس ، ففتح العين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وأحكمها بحيث ينطبع في مقدار عدسة منها صورة السماوات على عظمها ، وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها ، ثم أودع الأذنين ماء مراً يدفع عنها الهوام وحاطهما بصدفين لجمع الصوت ورده إلى الصماخ وليحس بدبيب الهوام وجعل فيها تعرجياً لتطويل الطريق فلا تصل الهوام إلى جرم الصماخ سريعاً ، ثم رفع الأنف في الوجه وأودع فيه حاسة الشم للاستدلال بالروائح على الأطعمة والأغذية ولاستنشاق الروائح الطيبة لتكون مروحة للقلب ، وأودع الفم اللسان وجعله على كونه لحمة واحدة معرباً عما في النفس ، ويزن القم بالأنسان فحدد بعضها لتكون آلة للنقب وحدد بعضها لتصلح للقطع ، وجعل بعضها عريضاً مفلطحاً صالحاً للطحن وبيض ألوانها ورتب صفوفها وسوى رؤوسها ونسق ترتيبها حتى صارت كالدر المنظوم ، ثم أطبق على الفم الشفتين وحسن لونهما لتحفظا منفذه وهيأ الحنجرة لخروج الصوت ، وخالف اأشكال الحناجر في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة والرخاوة والطول والقصر ، فاختلفت الأصوات بسببها ليميز السامع المصوّتين بسبب تمييز أصواتهم فيعرفهم وإن لم يرهم ، وسخر كل عضو(8/262)
صفحة رقم 263
من أعضاء الباطن لشيء مخصوص ، فالمعدة لإنضاج الغذاء ، والكبد لإحالته إلى الدم ، والطحال لجذب السواد ، والمرارة لجذب الصفراء ، والكلية لجذب الفضلة المائية ، والمثانة لخدمة الكلية بقبول الماء عنها ثم إخراجه من طريقه ، والعروق لخدمة الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ، وكان مبدأ ذلك كله النطفة على صغرها في داخل الرحمن في ظلمات ثلاثة ولو كشف الغطاء وامتد البصر إليه لرأى التخطيط والتصوير يظهر عليه شيئاَ فشيئاً ولا يرى المصور ولا الإله ، فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر برهانه ، فيالله العجب ممن يرى نقشاً حسناً على جدار فيتعجب من حسنه وحذق صانعه ثم لا يزال يستعظمه ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ويحيره جلاله وحكمته .
ولما كان الإنسان مركباً من خفيف طاهر وبدن هو مركب الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات ، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان ، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه ، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق ، الناهي عن مساويها ، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة ، فيكمل أبناء نوعه ، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية : ( نبتليه ) أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه ، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس ، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان ، وكذا الطائع ، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق الله له من القوة والقدرة الصالحة في الجملة .
ولما ذكر الغاية ، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال : ( فجعلناه ) أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك ) سميعاً ) أي بالغ السمع ) بصيراً ) أي عظيم البصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ، ومعرفة الحجج ببصيرته ، فيصح تكليفه وابتلاؤه ، فقدم العلة الغائية لأنها متقدمة في الاستحضار على التابع لها من المصحح لورودها ، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية ، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى الخبر الفطري ثم يبتدئ منه الاختبار الكسبي - انتهى .
وذلك بنفخ الروح وهي حادثة بعد حدوث البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها ، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل ، وجعل السمع والبصر اللتين له ، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس ، ولأن البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع ، وجعل سبحانه له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها ، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى(8/263)
صفحة رقم 264
محل التكليف ليكمل تكليفه ، وذلك أنه سبحانه ركبه من العناصر الأربعة ، وجعل صلاحه بصلاحها ، وفساده بفسادها لتعاليها ، فاضطر إلى قوى يدرك بها المنافي فيجتنبه والملائم فيطلبه ، فرتب له سبحانه الحواس الخمس الظاهرة ، فجعل السمع في الأذن ، والبصر في العين ، والذوق في اللسان ، والشم في الأنف ، وبث اللمس في سائر البدن ، ليدفع به عم جميع الأعضاء ما يؤذيها ، وهذه الحواس الظاهر تنبعث عن قوة باطنة تمسى الحس المشترك بحمل ما أدركته فيرتسم هناك وهو في مقدم البطن الأول من الدماغ وينتقل ما ارتسم هنا إلى خزانة الخيال وهي في مؤخر هذا البطن منالدماغ فتحفظ فيها صورته وإن غابت عن الحواس ، وثم قوة أخرى من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات الشخصية كعداوة زيد وصداقته تسمى الوهم ومحلها الدماغ كله والأخص بها التجويف الاوسط وخصوصاً مؤخره ، وقوة أخرى أيضاً شأنها خزن ما أدركته القوة الوهمية من المعاني الجزئية تسمى الحافظة باعتبار ، والذاكرة باعتبار ، ومحلها التجويف المؤخر في الدماغ ، وقوة أخرى من شأنها تفتيش تلك الخزائين وتركيب بعض مودعاتها مع بعض وتفصيل بعضها مع بعض ومحلها وسلطانها في أول التجويف الأوسط ، وتلك القوة تسمى مخيلة باعتبار تصريف الوهم لها ومفكرة باعتبار استعمال النفس لها ، وقد اقتضت الحكمة الربانية تقديم ما يدرك الصور الجرمية وتأخير ما يدرك المعاني الروحانية ، وتوسيط المتصرف فيهما بالحكم والاسترجاع للأمثال المنمحية من الجانبين ، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها كما خدمتها الحواس الخمس إلى أن تصير عقلاً مستفاداً ، وهو قوة للنفس بها يكون لها حضور المعقولات بالفعل ، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل ، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات - الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصورة ، وهو قة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال الحواس في تصفيح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي ، وهو القوة النظرية المخدوم للهم والمخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة .
ولما كان كأنه قيل : هبه خلق هكذا فكان ماذا ؟ قال شفاء لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) هديناه ) أي بينا له لأجل الاتبلاء ) السبيل ) أي الطريق الواضح الذي لا طيق في الحقيقة غيره ، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل ، وذلك بما أنزل من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في(8/264)
صفحة رقم 265
الأنفس والآفاق ، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والبطال وما أشبهه .
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان ، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق ، قال بانياً حالاً من ضميره في ( هديناه ) مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان ، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان ، بجعله خلاصة الوجود وبقوله : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) في سياق ابتداء الخلق ، معبراً باسم الفاعل الخالي من المبالغة ، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم ، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه : ( إما شاكراً ) أي لإنعامه ربه عليه .
ولما كان الإنسان ، لما له نم النقصان ، لا ينفك غالباً عن كفر ما ، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه لا يأخذه إلاّ بالتوغل فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على من يرضى منه بقليل الشكر ، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال : ( وأما كفوراً ) أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة فإحسانه غير موف إساءته مفرطة ، وبدأ بالشكر لأنه الأصل ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كل مولود يولد على الفطرة بأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) الحديث ، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه ولفظه : ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً ) رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى عن الأسود بن سريع رضي الله عنه .
الإنسان : ( 4 - 9 ) إنا أعتدنا للكافرين. .. . .
) إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ(8/265)
صفحة رقم 266
وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ) 73
( ) 71
ولما قسمهم إلى القسمين ، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً لشاكر الذي اتعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم ، ومنذراً للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم ، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح ، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء ، وليكون الشاكر أولاً وآخراً ، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لا سيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية ، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين ، فإنها لا يفهمها إلا الخواص ، وأكد لأجل تكذيب الكفار : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) أعتدنا ) أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة ) للكافرين ) أي العريقين في الكفر خاصة ، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال : ( سلاسلاً ( يقادون ويرتقون بها ، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جداً ، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف ) وأغلالاً ) أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها ) وسعيراً ) أي نهاراً حامية جداً شديدة الاتقاد .
ولما اوجز في جزاء الكافر ، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب ، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله ، فقال مستنأفاً مؤكداً بتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنها ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها : ( إن الأبرار ( بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب ، أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا ) يشربون ) أي ما يريدون شربه ) من كأس ) أي خمر - قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه ) كان مزاجها ) أي الذي تمزج به ) كافوراً ) أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في الزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد .
ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً ، بين أنه هناك ليس كذلك ، فقال مبدلاً من ( كافور ) : ( عيناً يشرب بها ) أي بمزاجها كما تقول : شربت الماء بالعسل ) عباد الله ) أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه .(8/266)
صفحة رقم 267
ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال : ( يفجرونها تفجيراً ) أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها .
ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم ، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب : ( يوفون ) أي على سبيل الاستمرار ) بالنذر ( وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوفى ، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه .
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم ، قال عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين فهم يفعلون الوفاء لا لأجل الخوف بل لكرم الطبع : ( ويخافون ) أي مع فعلهم للواجبات ) يوماً كان ) أي كوناً هو في جبلته ) شره ) أي ما فيه من الشدائد ) مستطيراً ) أي موجود الطيران وجوداً كأنه بغاية الرغبة فيه فهو في غاية الانتشار ، والخوف أدل دليل على عمارة الباطن ، قالوا : وما فارق الخوف قلباً إلا خرب ، من خاف أدلج ، ومن ادلج المنزل ، فالخوف لاجتناب الشر ولاوفاء لاجتلاب الخير .
ولما كان من خاف شيئاً سعى في الأمن منه بكل ما عساه ينفع فيه ، وكان قد ذكر تذرعهم بالواجب ، أتبعه المندوب دلالة على أنهم لا ركون لهم إلى الدنيا ولا وثوق بها ، فقد جمعوا إلى كرم الطبع بالوفاء ورقة القلب شرف النفس بالانسلاخ من الفاني فقال : ( ويطعمون الطعام ) أي على حسب ما يتيسر لهم نم عال ودون على الدوام .
ولما كان الإنسان قد يسمع بما لا يلذ له قال : ( على حبه ) أي حبه إياه حباً هو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه كما قال تعالى :
77 ( ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( ) 7
[ آل عمران : 92 ] ليفهم أنهم للفضل أشد بذلاً ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أي الصحابة رضي الله عنهم - ولا نصيفه ) لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد ) مسكيناً ) أي محتاجاً احتياجاً يسيراً ، فصاحب الاحتياج الكثير أولى ) ويتيماً ) أي صغيراً لا أب له ذكراً كان أو أنثى ) وأسيراً ) أي في أيدي الكفار أي أعم من ذلك ، فيدخل فيه المملوك والمسجون والكفار الذي في أيدي المسلمين ، وقد نقل في غزوة بد أن بعض(8/267)
صفحة رقم 268
الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز ، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام ، وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما دفعهم إليهم قال : ( استوصوا بهم خيراً ) ومن حكم الأسير الحقيقي كل مضرو يفعلون ذلك والحال أنهم يقولون بلسان الحال أو القال إن احتيج إليه إزاحة لتوهم المن أو توقع المكافأة مؤكدين إشارة إلى أن الإخلاص أمر عزيز لا يكاد أحد يصدق أنه يتأتى لأحد : ( إنما نطعمكم ( أيها المحتاجون ) لوجه الله ) أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك ، وعبر به لأن الوجه يتسحيى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته .
ولما أثبتوا بهذا الإخلاص ، حققوه بنفي ما يغير فيه ، وفسروه لما لا يكون إلا به فقالوا : ( لا نريد منكم ) أي لأجل ذلك ) جزاء ) أي لنا من أعراض الدنيا ) ولا شكوراً ( بشيء من قول ولا فعل ، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن ألمنفي ما يتكلف له ، وأما مثل المحبة والدعاء فلا ، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله ، وروي في سبب نزول هذه الآية : ( إن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام ، وأصبحوا الرابع يرتعشون ، فلما رآهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ساءه ذلك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً له بها ) ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك ، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك ، فلا بدع أن تقف الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) .(8/268)
صفحة رقم 269
الإنسان : ( 10 - 17 ) إنا نخاف من. .. . .
) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ( ( )
ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء ، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً يفعل ما لا يقصد به شيئاً من ذلك ، وكان الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح في الإخلاص ، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم : ( إنا نخاف ( ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا : ( من ربنا ) أي الخالق لنا المحسن إلينا ) يوماً ) أي أهوال يوم هو في غاية العظمة ، وبينوا عظمته بقولهم : ( عبوساً ) أي ضيقاً قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب ، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو لعبوس أهله ك ( ليلة قائم ونهاره صائم وعيشة راضية ) ) قمطريراً ) أي طويلاً قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو شديد العبوس مجتمع الشر كالذي يجمع ما بين عينيه مأخوذ من الطقر لأن يومه يكون عابساً ، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة ، وهو يوم القيامة ، يقال : اقمطر اليوم فهو مقمطر - إذا كان صعباً شديداً .
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله ، سبب عنه جزاءهم فقال مخبراً أنه دفع عنهم المضار وجلب لهم المسار : ( فوقاهم الله ) أي الملك الأعظم بسبب خوفهم ) شر ذلك اليوم ) أي العظيم ، وأشار إلى نعيم الظاهر بقوله : ( ولقّاهم ) أي تلقية عظيمة فيه وفي غيره ) نضرة ) أي حسناً ونعمة تظهر على وجوههم وعيشاً هنيئاً ، وإلى نعيم الباطن بقوله : ( وسوراً ) أي دائماً في قلوبهم في مقابلة خوفهم في الدنيا على المبالغة في عبوس أهله ، وأشار إلى المسكن بقوله : ( وجزاهم بما صبروا ) أي بسبب ما أوجدوه من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الطيبات وبذل المحبوبات ) جنة ) أي بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون .
ولما ذكر ما يكسو الباطن ، ذكر ما يكسو الظاهر فقال : ( وحريراً ) أي هو في غاية العظمة .
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة ، أتبعه فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة : ( متكئين فيها ) أي لأن كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة(8/269)
صفحة رقم 270
إلى حركة أصلاً ، ودل على الملك بقوله ) على الأرائك ) أي الأسرة العالية التي في الحجال ، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة ، وقال بعضهم : هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه ، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرئك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها .
ولما كانت بيوت الدنيا وبساتينها تحتاج إلى الانتقال منها من موضع إلى موضع لأجل الحر أو البرد ، بين أن جميع أرض الجنة وغرفها سواء في لذة العيش وسبوغ الظل واعتدال الأمر ، فقال نافياً ضر الحر ثم البرد : ( لا يرون فيها ) أي بأبصارهم ولا بصائرهم أصلاً ) شمساً ) أي ولا قمراً ) ولا ) أي ولا يرون فيها أيضاً ببصائرهم أي لا يحسون بما يسمى ) زمهريراً ) أي برداً شديداً مزعجاً ولا حراً ، فالآية من الاحتباك : دل بنفي الشمس أولاً على نفي القمر ، لأن ظهوره بها لأن نوره اكتساب سببه الشمس ، فأفاد هذا أن الجنة غنية عن النيرين ، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين على معرفة زمان لأنه لا تكليف فيها بوجه ، وأنها ظليلة ومعتدلة دائماً لأن سبب الحر الآن قرب الشمس من مسامته الرؤوس ، وسبب البرد بعدها عن ذلك .
ولما كانت ترجمة هذا كما مضى : جنة ظليلة ومعتدلة ، عطف عليه بالواو دلالة على تمكن هذا الوصف وعلى اجتماعه مع ما قبله قوله : ( ودانية ) أي قريبة من الارتفاع ) عليهم ظلالها ( من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال ) وذللت قطوفها ( جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي المجنية ) تذليلاً ) أي سهل تناولها تسيهلاً عظيماً لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كان من اتكاء وغيره ، فإن كانوا قعوداً تدلت إليهم ، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتقت إليهم ، وهذا جواء لهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله .
ولما كان الدوران بالآنية متجدداً ، عبر فيه بالمضارع ، وبناه للمفعول أيضاً لأنه المقصود مطلقاً منغير تعيين طائفة فقال : ( ويطاف ) أي من أيّ طائف كان لكثرة الخدم ) عليهم بآنية ( جمع إناء جزاء على طوافهم على المحتاجين بما يصلحهم .
ولما كان مقصود هذه السورة ترهيب الإنسان الموبخ في سورة القيامة من الكفر ، وكان الإنسان أدنى أسنان المخاطبين في مراتب الخطاب ، اقتصر في الترغيب في شرف الآنية على الفضة دون الذهب المذكور في فاطر والحد المعبر فيهما بالناس ، فلعل هذا لصنف وذاك لصنف أعلى منه مع إمكان الجمع والمعاقبة ، وأما من هو أعلى من هذين الصنفين من الذين آمنوا ومن فوقهم فلهم فوق هذين الجوهرين من الجواهر ما لا عين(8/270)
صفحة رقم 271
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال : ( من فضة ) أي اسمه ذلك ، وأما الحقيقة فأين الثريا من يد المتناول .
ولما جمع الآنية خص فقال : ( وأكواب ( جمع كوب وهو كوز لا عروة له ، فيسهل الشهرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة ) كانت ) أي تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها ) قواريراً ) أي كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق والزهارة ، جمع قارورة وهي ما قر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف ، وقيل : هو خاص بالزجاج .
ولما كان هذا رأس آية ، وكان التعبير بالقارورة ربما أفهم أو أوهم أنها من الزجاج ، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة ، قال معيداً للفظ أول الآية الثانية ، تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها : ( قواريراً من فضة ) أي فجمعت صفتي الجوهرين المتباينين : صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه وبياض الفضة وشرفها لينها ، وقراءة من نوّن الاثنين صارفاً ما من حقه المنع مشيرة إلى عظمتها وامتداد كثرتها وعلوها في الفضل والشرف ، وقراءة ابن كثير في الاقتصار على تنوين الأول للتنبيه على أنه رأس آية والثاني أول التي بعدها مع إفهام العظمة لأن الثاني إعادة للأول لما تقدم من الإفادة ، فكأنه منون ، ووقف أبو عمرو على الأول بالألف مع المنع من الصرف لأن ذلك كاف في الدلالة على أنه رأس آية .
ولما كان الإنسان لا يجب أن يكون الإناء ولا ما فيه من مأكول أو مشروب زائداً عن حاجته ولا ناقصاً عنها قال : ( قدروها ) أي في الذات والصفات ) تقدراً ) أي على مقادير الاحتياج من غير زيادة ولا نقص لأن ما أراد كل منها كان ، لا كلفة ولا كدر ولا نقص .
ولما ذكر الأكواب ، أتبعها غايتها فقال تخصيصاً بالعطف على ما تقديره : يسقون فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم : ( ويسقون ( ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة ) فيها ) أي الجنة أو تلك الأكواب ) كأساً ) أي خمراً في إناء ) كان مزاجها ( على غاية الإحكام ) زنجبيلاً ( هو في غاية اللذة والنكهة .
الإنسان : ( 18 - 22 ) عينا فيها تسمى. .. . .
) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( ( )(8/271)
صفحة رقم 272
ولما كان الزنجبيل عندنا شجراً يحتاج في تناوله إلى علاج ، أبان أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحول عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل خرقاً للعوائد فقال : ( عيناً فيها ) أي الجنة يمزج فيها شرابهم كما يمزج بالماء .
ولما كان الزنجبيل يلذع الحق فتصعب إساغته قال : ( تسمى ) أي لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسمو وصفها ) سلسبيلاً ( والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة ، زيدت فيه الباء دلالة على المبالغة في هذا المعنى ، قالوا : وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع .
ولما ذكر المطوف به لأنه الغاية المقصودة ، وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة تصويراً لما هم يفه من الملك بعد ما نجوا منه من الهلك : ( ويطوف عليهم ) أي بالشاراب وغيره من الملاذ والمحاب ) ولدان ) أي غلمان هم في من هو دون البلوغ ( أقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام ) ) مخلدون ) أي قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير غلة ولا ارتفاع عن ذلك الحد مع أنهم مزينون بالخلد وهو الحلق والأساور والقرطة والملابس الحسنة ) إذ رأيتهم ) أي يا أعلى الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي من كان في أي حالة رأيتهم فيها ) حسبتهم ( من بياضهم وصفاء ألوانهم ولمع أنوارهم وانعكاس شعاع بعضهم غلى بعض وانبثاثهم في المجالس ذهاباً وإياباً ) لؤلؤاً منثوراً ( وذلك كناية عن كثرتهم وانتشارهم في الخدمة وشرفهم وحسنهم ؛ وعن بعضهم أن لؤلؤ الجنة في غاية الكبر والعظمة واختلاف الأشكال ، وكأنه عبر بالحسبان إشارة إلى أن ذلك مطلق تجويز لا مع ترجيح ، قال بعض المفسرين : هم غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين .
وقال بعضهم : هم أطفال المشركين لأنهم ماتوا على الفطرة ، وقال ابن برجان : وأرى والله أعلم أنهم من علم الله سبحانه وتعالى إيمانه من أولاد الكفار يكونون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لهم في الدنيا سبياً وخداماً ، وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم ، ويؤيد هذا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في ابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ( إن له لظئراً يتم رضاعه في الجنة ) فإنه يدل على استقبال شأنه فيما هنالك وتنقله في الأحوال كالدنيا ، ولا دليل على خصوصيته بذلك .(8/272)
صفحة رقم 273
ولما ذكر المخدوم والخدم شرع في ذكر المكان فقال : ( وإذا رأيت ) أي أجلت بصرك ، وحذف مفعوله ليشيع ويعم ) ثم ( هناك في أي مكان كان وأي شيء كان ) رأيت نعيماً ) أي ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ، ولما كان النعيم قد يكون في حالة وسطى قال : ( وملكاً كبيراً ) أي لم يخطر على بال مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة أدناهم وما فيهم دني الذي ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى ومهما أراده كان .
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ، ذكر لباسهم بانياً حالاً من الفاعل والمفعول : ( عليهم ) أي حال كون الخادم والمخدوم يعلو أجسامهم على سبيل الاستئناف ) ثياب سندس ( وهو ما رق من الحرير ) خضر ( رفعه الجماعة صفة لثياب ، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس ) وإستبرق ( وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب ، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج قاله في القاموس ، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم ونسقاً على ثياب ، وجره الباقون على سندس .
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية ، أخبر عن تحليتهم ، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال : ( وحلّوا ) أي وجدت تحلية المخدومين والخدم ) أساور من فضة ( وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب ، وقتدم سر تخصيص هذه السورة بالفظة والأساور بجمع ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه كما قال الملوي كان في الزمن القديم إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها ، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جميع الكثرة ، وهي بالغة في الأعضاء ما يبلغ التحجيل في الوضوء كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء إلى المنكبين وإلى الساقين .
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا ، وكان قد قال أولاً ) يشربون ( بالبناء للفاعل ، وثانياً ( يسقون ) بالبناء للمفعول ، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله(8/273)
صفحة رقم 274
الأعظم المتصف بغاية الإحسان على صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد الفعل إليه : ( وسقاهم ( وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك فقال : ( ربهم ) أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم ) شراباً طهوراً ) أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو من غيرهما ، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة ، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى في بواطنهم غش ولا وسواس ، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها ، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره ، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهة مائة رجل في الأكل وغيره ، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة ، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال : ( يجد لآخر قمة من اللذة ما يجد لأولها ) يفعل بهم هذا سبحانه قائلاً لهم مؤكداً تسكيناً لقلوبهم لئلا يظنون أن ما هم فيه على وجه الضيافة ونحوها فيظنوا انقطاعه ) إن هذا أي الذي تقدم من الثواب كله ) كان ) أي كوناً ثابتاً ) لكم ( بتكويني إياه من قبل موتكم ) جزاء ) أي على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم فكنتم كلما عملتم عملاً كونت من هذا ما هو جزاء له ) وكان ) أي على وجه الثبات ) سعيكم ( ولا كان المقصود القبول لأن القابل الشاكر هو المعمول له ، بني للمفعول قوله : ( مشكوراً ) أي لا يضيع شيئاً منه ويجازى بأكثر منه أضعافاً مضاعفة .
الإنسان : ( 23 - 27 ) إنا نحن نزلنا. .. . .
) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( ( )
ولما ذكر أنه بين للناس السبيل فانقسموا إلى مبصر شاكر وأعمى كافر ، وأتبعه جزاء الكافرين والشاكرين ، وختمه بالشراب الطهور الذي من شأنه أن يحيي ميت الأراضي كما أن العلم الذي منبعه القرآن يحيي ميت القلوب ، وسكن القلوب بتأييده الجزاء ، وختم الكلام بالشكر كما بدأه به ، وكان نصب ما يهدي جميع الناس امراً لا يكاد يصدق قال ذاكراً لما شرف به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا قبل الآخرة ، وجعل الشراب الطهور جزاء له لما بينهما من المناسبة على سبيل التأكيد ، وأكده ثانياً بما أفاد التخصيص(8/274)
صفحة رقم 275
لما لهم من الإنكار ولتطمئن أنفس أتباعه بما حث عليهم من الصبر إلى وقت الإذن في القتال : ( إنا نحن ) أي على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها ، لا غيرها ) نزلنا عليك ( وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزل خلقاً لك ) القرآن ) أي الجامع لكل هدى ، الحافظ من الزيغ ، كما يحفظ الطب للصحيح صحة المزاج ، الشافي لما عساه يحصل من الأدواء بما يهدي إليه من العلم والعمل ، وزاد في التأكيد لعظيم إنكارهم فقال : ( تنزيلاً ) أي على التدريج بالحكمة جواباً للسائل ورفقاً بالعباد فدرجهم في وظائف الدين تدريجاً موافقاً للحكمة ، ولم يدع لهم شبهة إلا أجاب عنها ، وعلمهم جميع الأحكام التي فيها رضانا ، وأتاهم من المواعظ والآداب والمعارف بما ملأ الخافقين وخصصناك به شكراً على سيرتك الحسنى التي كانت قبل النبوة ، وتجنبك كل ما يدنس ، فلما كان بتنزيلنا كان جامعاً للهدى لما لنا من إحاطة العلم والقدرة ، فلا ناظرة إلى قوله في القيامة
77 ( ) لا تحرك به لسانك ( ) 7
[ القيامة : 16 ] الملتفتة إلى ما في المدثر من أن هذه تذكرة ، الناظرة إلى ) أنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ( المشيرة إلى ما في سورة الجن من أمر القرآن ، فالحاصل أن أكثر القرآن في تقرير عظمة القرآن ، فإنه المقصود بالذات من أمر الآية الكبرى التي إذا ثبتت تبعها جميع المراد من الشريعة وتفريق تقرير شأنه أتقن ما يكون في إحكام أمره ، وذلك أن الحكيم إذا اهتم بشيء افتتح الكلام به ، فإذا رأى من ينكره انتقل إلى غيره على قانون الحكمة ، ثم يصير يرمي به في خلال ذلك ، رمياً كأنه غير قاصد له ، ولا يزال يفعل ذلك حتى يتقرر أمره غاية التقرير ويثبت في النفس من حيث لا يشعر .
ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان ، فعمي عنه لإعراضه عنه ، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبهاً على أمراض القلوب ، ومرشداً إلى دوائها : ( فاصبر لحكم ربك ) أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله ، وعلى كل ما ينوبك وأطعه في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسف ، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته ، والصبر : حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات .
ولما أمره سبحانه بالصبر ، وكان الأمر به مفهماً وجوده للمخالف ، وكان المخالفون له ( صلى الله عليه وسلم ) هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة ، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم ، وأخرى كفراً وتارة غير ذلك ، ذكر النتيجة ناهياً عن القسمين الأولين ليعلم أن(8/275)
صفحة رقم 276
المسكوت عنه لا نهي فيه فقال : ( ولا تطع منهم ) أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين ) آثماً ) أي داعياً إلى إثم سواء كان مجرداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له ) أو كفوراً ) أي مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير ، وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له ( صلى الله عليه وسلم ) يبذلون له الرغائب من الأموال ، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم نهي عن كل منهما ، فإن كلاًّ منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة
77 ( ) وذروا ظاهر الإثم وباطنه ( ) 7
[ الأنعام : 120 ] وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما ، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما ، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله .
ولما نهى عن طاعتهما القاطعة عن الله ، أمر بملازمة الموصل إلى الله وهو الذكر من غير عائق الذي هو دواء لما عساه يلحق من الأدواء لمجرد رؤية الآثم أو الكفور لأرباب القلوب الصافية ، والذكر مقدم على كل عبادة وإن وضع العباد لما كان طلباً للتواصل إلى نيل معرفة الله سبحانه ، وكان التصور بحسب الاسم أول مراتب التصور طلبعاً بدأ به وضعاً ، وذلك لأن النفس تحب السفول لما لها من النقائص ، فاحتاجت إلى سبب مشوق لها إلى الأعلى فوضعت لها العبادات ، وأجلها العبادة الشفوعة بالفكر ، لأنه السبب الموصل إلى المقصود ولا تفيد العبادة بدونه فقال : ( واذكر ) أي بلسانك ) اسم ربك ) أي المحسن إيلك بكل جميل ) بكرة ( عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكر أنه يحيي الموتى ويحشرهم جيمعاً ) وأصيلاً ( عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل ، وفي ذكر الوقتين أيضاً إشارة إلى دوام الذكر ، وذكر اسمه لازم لذكره ، ويجوز أن يكون أمراً بالصلاة لأنها أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أذكار لسانية وحركات وسكنات على هيئة مخصوصة من عادتها ألا تفعل إلا بين أيدي الملوك ، فكان تنبيهها على وجود الصانع والاعتراف بإلهيته وتفرده اكثر إلا بين أيدي الملوك ، فكان تنبيهها على وجود الصانع والاعتراف بإلهيته وتفرده أكثر فكانت أفضل ، فيكون هذاعلى هذا أمراص بصلاتي الصبح والعصر ، فإنه لم يكن أمر في اول الإسلام بغيرهما وبهما أمر من كان قبلنا ، وهما أفضل الصلوات وكانتا ركعيتن ركعتين ، ويجوز أن يكون أمراً بصلاتي الصبح والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما لأنه مطلق العشي ، وأما المغرب والعشاء ونافلة الليل فدخلت في قوله : ( ومن الّيل ) أي بعضه والباقي للراحة بالنوم ) فاسجد له ) أي فصل له صلاتي المغرب(8/276)
صفحة رقم 277
والعشاء ، وذكرهما بالسجود تنبيهاً على أنه أفضل الصلاة ، فهو إشارة إلى أن الليل موضع الخضوع ، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص ومزيد الفضيلة لأن الالتفات فيه إلى جانب الحق أتم لزوال الشاغل للحواس من حركات الناس وأصواتهم وسائر الأحوال الدنيوية ، فكان أبعد عن الرياء فكان الخشوع فيه واللذة التامة بحلاوة العبادة أوفى ) وسبحه ) أي بالتهجد ) ليلاً طويلاً ( نصفه أو أكثر منه أو أقل ، ولعله سماه تسبيحاً لأن مكابدة القيام فيه وغلبة النوم تذكر بما لله من العظمة بالتنزه عن كل نقيصة ، ولأنه لا يترك محبوبه من الراحة بالنوم إلا من كان الله عنده في غاية النزاهة ، وكان له في غاية المحبة .
ولما أنهى أمره بلازم النهي ، علل النهي بقوله محقراً بإشارة القريب مؤكداً لما لهم من التعنت بالطعن في كل ما يذكره ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن هؤلاء ) أي الذين يغفلون عن الله من الكفرة وغيرهم فاستحقوا المقت من الله ) يحبون ) أي محبة تتجدد عندهم زيادتهم في كل وقت ) العاجلة ) أي ويأخذون منها ويستخفون لما حفت به من الشهوات زمناً قليلاً لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال لعيها منشأ البلادة والقصور ، ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور ، ومن تعاطى أسباب المرض مرض وسمي كفوراً ، ومن تعاطى ضد ذلك شفي وسمي شاكراً ، ويكرهون الآخرة الآجلة ) ويذرون ) أي يتركون منها على حالة هي من أقبح ما يسوءهم إذا رأوه ) وراءهم ) أي أمامهم أي قدامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه ، أو خلفهم لأنه يكون بعدهم لا بد أن يدركهم ) يوماً ) أي منها .
ولما كان ما أعيا الإنسان وشق عليه ثقيلاً قال : ( ثقيلاً ) أي شديداً جداً لا يطيقون حمل ما فيه من المصائب بسبب أنهم لا يعدون له عدته ، فالآية من الاحتباك : ذكر الحب والعاجلة أولاً دلالة على ضدهما ثانياً ، اولترك والثقل ثانياً دالالة على ضدهما أولاً ، وسر ذلك أن ما ذكره أدل على سخافة العقل بعدم التأمل للعواقب .
الإنسان : ( 28 - 31 ) نحن خلقناهم وشددنا. .. . .
) نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( ( )
ولما كان تركهم لليوم الثقيل على وجه التكذيب الذي هو أقبح الترك ، وكان تكذيبهم لاعتقادهم عدم القدرة عليه قال دالاً على الإعادة بالابتداء من باب الأولى : ( نحن خلقناهم ( ، بما لنا من العظمة لا غيرنا ) وشددنا أسرهم ) أي قوينا وأتقنا ربط مفاصلهم الظاهرة والباطنة بالأعصاب على وجه الإحكام بعد كونهم نطفة أمشاجاً في(8/277)
صفحة رقم 278
غاية الضعف ، وأصل الأسر ، القد يشد به الأقتاب أو الربط والتوثيق ، ولا شك أن من قدر على إنشاء شخص من نطفة قادر على أن يعيده كما كان لأن جسده الذي أنشأه إن كان محفوظاً فالأمر فيه واضح ، وإن كان قد صار تراباً فإبداعه منه مثل إبداعه من النطفة ، وأكثر ما فيه أن يكون كأبيه آدم عليه السلام بل هو أولى فإنه ترابه له أصل في الحاية بما كان حياً ، وتراب آدم عليه السلام لم يكن له أصل قط في الحاية والإعادة أهون في مجاري عادات الخلق من الابتداء ، ولذلك قال معبراً بأداة التحقق : ( وإذا شئنا ) أي بما لنا من العظمة أن نبدل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم ) بدلنا أمثالهم ) أي بعد الموت في الخلقة وشدة الأسر ) تبديلاً ( أو المعنى : جئنا بأمثالهم بدلاً منهم وخلائف لهم ، أو يكون المراد وهو أقعد بالمثل الشخص أي بدلنا أشخاصهم لتصير بعد القوة إلى ضعف وبعد الطول إلى قصر وبعد البياض إلى سواد وغير ذلك من الصفات كما شوهد في بعض الأوقات في المسخ وغيره ، وكل ذلك دال على تمام قدرتنا وشمول علمنا .
ولما كان هذا دليل عظيماً على القدرة على البعث مخزياً لهم ، قال مؤكداً لإنكارهم عناداً : ( إن هذه ) أي الفعلة البدائية ، أو المواعظ التي ذكرناها في هذه السورة وفي جميع القرآن ) تذكرة ) أي موضع ذكر عظيم للقدرة على البعث وتذكر عظيم لما فعلت في الإنشاء أولاً ، وموعظة عظيمة فإن في تصفحها تنبيهات عظيمة للغافلين ، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر نفسه ، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه ، فمن أقل هذا الإقبال علم أنا آتيناه من الآلات والدلائل ما إن سلك معه مجتهداً وصل دون ضلال ولذلك سبب عن كونها تذكرة قوله من خطاب البسط : ( فمن شاء ) أي أن يجتهد في وصوله إلى الله سحبانه وتعالى ) اتخذ ) أي أخذ بجهده من مجاهدة نفسه ومغالبة هواه ) سبيلاً ) أي طريقاً واسعاً واضحاً سهلاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع أنفسهم عمن شئنا وركزنا ذلك في الطباع ، ولم يبق مانع من استطراق أصلاً غير مشيئتنا ، والفطرة الأولى أعدل شاهد بهذا .
ولما أثبت لهم المشيئة التي هي مناط التكليف ، وهي الكسب ، وكان ربما ظن ظان أو ادعى مدع في خلق الأفعال كما قال أهل الاعتزال ، قال نافياً عنهم الاستقلال ، لافتاً القول إلى خاطبهم ، وهو مع كونه خطاب قبض استعطافاً بهم إلى التذكر في قراءة الجماعة وبالغيب على الأسلوب الماضي في قراءة ابن كثير وابن عامر : ( وما تشاؤون ((8/278)
صفحة رقم 279
أي في وقت من الأوقات مشيئة من المشيئات لهذا وغيره على سبيل الاختراع والاستقلال ) إلا ( وقت ) أن شاء الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ، ولاأمر لأحد معه ، فيوجد المعاني في أنفسكم على حسب ما يريد ويقدر على ما يشاء من آثارها ، وقد صح بهذا ما قال الأشعرية وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى وتحريكها لقدرة العبد ، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون : إنا نحن نخلق أفعالنا ، ومذهب الجبرية القائلين : لا فعل لنا أصلا ، ومثَّل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدد سكيناً وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك ، ولو وضع عليها مالم يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل ، فالعب كالسكين خلقه الله وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل ، فمن قال : أنا أخلق فعلي مستقلاً به ، فهو كمن قال : السكين تقطع بمجرد وضعها من غير تحامل ، ومن قال : الفاعل هو الله ، من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال : هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين ، والذي يقول : إنه باشر بقدرته المهيأة للفعل بخلق الله لها وتحريكها في ذلك الفعل كان كمن قال : إن السكين قطعت بالتحامل عليها ، بهذا أجرى سبحانه عادته في الناس ، ولو شاء غير ذلك فعل ، ولا يخفى أن هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم قائلاً : ( إن الله ) أي المحط علماً وقدرة ) كان ) أي أزلاً وأبداً ) عليماً حكيماً ) أي بالغ العلم والحكمة ، فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه ، فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه ، ومن علم منه الشر ساقة إليه وحمله عليه ، وهو معنى ) يدخل من يشاء ) أي من علمه أهلاً للسعادة ، ليس بظالم ) في رحمته ( بحكمته فييسير له اتخاذ السبيل الموصل إليه بأن يوفقه للعدل ، ويعد له ثواباً جسيماً .
ولما بشر أهل العدل بالفعل المضارع المؤذن بالاستمرار ، ولم يجعله ماضياً لئلا يتعنت متعنت ممن هو متلبس بالضلال فيقول : أنا لا أصلح لأنه ما أدخلني ، عطف عليه ما لأضدادهم في جملة فعلية بناها على الماضي إعلاماً بأن عذابهم موجود قد فرغ منه فقال : ( والظالمين ) أي وأهان العريقين في وصف المشي على غير سنن مرضى كالماشي في الظلام فهو يدخلهم في نقمته وقد ) أعد لهم ) أي إعداداً أمضاه بعظمته ، فلا يزاد فيه ولا ينقص أبداً ) عذاباً أليماً ( فالآية من الاحتاك : ذكر الإدخال والرحمة أولاً دلالة على الضد ثانياً ، والعذاب ثانياً دلالة على الثواب أولاً ، وسر ذلك أن ما ذكره أولى بترغيب أهل العدل فيه وإن ساءت حالهم في الدنيا ، وبترهيب أهل الظلم منه وإن(8/279)
صفحة رقم 280
حسنت حالهم في الدنيا ، فقد رجع هذا الآخر المفصل إلى السعادة والشاقوة على أولها المؤذن بأن الإنسان معتنى به غاية الاعتناء ، وأنه ما خلق إلا للابتلاء ، فهو إما كافر مغضوب عليه ، وإما شاكر منظور بعين الرضى إليه فسبحان من خلقنا ويميتنا ويحيينا بقدرته والله الهادي .
.. .(8/280)
صفحة رقم 281
سورة المرسلات
وتسمى العرف .
مقصودها الدلالة على آخر الإنسان من إثابة الشاكرين بالنعيم ، وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم ، في يوم الفصل بعد جمع الأجساد وإحياء العباد بعد طي هذا الوجود وتغيير العالم المعهود بما له سبحانه من القدرة على إنبات النبات وإنشاء الأقوات وإنزال العلوم وإيساع الفهوم لأحياء الأرواح وإسعاد الأشباح بأسباب خفية وعلل مرئية وغير مرئية ، وتطوير الإنسان في أطوار الأسنان ، وإيداع الإيمان فيما يرضى من الأبدان ، وإيجاد الكفران في أهل الخيبة والخسران ، مع اشتراك الكل في أساليب هذا القرآن ، الذي عجز الإنس والجان ، عن الإتيان بمثل آية منه على كثرتهم وتطاول الزمان ، واسمها المرسلات وكذا العرف واضح الدلالة على ذلك لمن تدبر الأقسام ، وتذكر ما دلت عليه من معاني الكلام ) بسم الله ( الذي له القدرة التامة على ما يريد ) الرحمن ( الذي له عموم الإنعام على سائر العبيد ) الرحيم ( الذي خص أهل رضوانه بإتمام ذلك الإنعام وعنده المزيد .
المرسلات : ( 1 - 7 ) والمرسلات عرفا
) وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( ( )
لما ختمت سورة الإنسان بالوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه ، وكان الكفار يكذبون بذلك ، افتتح هذه بالإقسام على أن ذلك كائن فقال : ( والمرسلات ) أي من الرياح والملائكة ) عرفاً ) أي لأجل إلقاء المعروف من القرآن والسنة وغير ذلك من الإحسان ، ومن إلقاء الروح والبركة وتيسير الأمور في الأقوات وغيرها ، أو حال كونها متتابعة متكاثرة بعضها في أثر بعض ، من قول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد - إذا توجهوا إليه فأكثروا ، ويقال : جاؤوا عرفاً واحداً ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه .(8/281)
صفحة رقم 282
ولما كان العصوف للعواصف يتعقب الهبوب ، عطف بالفاء تعقيباً وتسبيباً فقال : ( فالعاصفات ) أي الشديدات من الرياح عقب هبوبها ومن الملائكة عقب شقها للهواء بما لها من كبر الأجسام والقوة على الإسراع التام ) عصفاً ) أي عظيماً بما لها من النتائج الصالحة .
ولما كان نشر الرياح للسحاب متراخياً عن هبوبها ومتباطئاً في الثوران وكذا نشر الملائكة لأجنحتها كما يفعل الطائر القوي في طيرانه ، عطف بالواو الصالحة للمعية والتعقب بمهلة وغيرها قوله : ( والناشرات ) أي للساحب والأجنحة على وجه اللين في الجو وللشرائع التي تنشر العدل بين الناس ) نشراً ( وإذا راجعت أول الذاريات ازددت في هذا بصيرة .
ولما كان السحاب يجتمع بعد الثوران من مجال البخارات ويتكاثف ثم يحمل الماء ، وكان ذلك مع كونه معروفاً قد تقدم في الذاريات والروم وغيرهما ثم بعد الحمل تضغط السحاب حتى يتحامل بعضه على بعض فتنفرق هناك فُرَج يخرج منها ، طوى ذلك وذكر هذا فقال بالفاء الفصيحة : ( فالفارقات فرقاً ) أي للسحاب حتى يخرج الودق من خلاله وللأجنحة وبين لاحق والباطل والحب والنوى وغير ذلك من الأشياء .
ولما كانت السحاب عقب الفرق ينزل منها ما في ذلك السحاب من ماء أو ثلج أو برد أو صواعق أو غير ذلك مما يريده الله مما يبعث على ذلك الله ولا بد والملائكة تلقي ما معها من الروح المحيي للقلوب ، قال معبراً بفاء التعقيب والتسبيب : ( فالملقيات ذكراً ( أطلق عليه الذكر لأنه سببه إن كان محمول السحاب أو محمول الملائكة ، وقد يكون محمول الملائكة ذكر الله حقيقة ، ولا يخفى أنهما سبب لإصلاح الدين والدنيا .
ولما ذكر هذه الأقسام عللها بقوله : ( عذراً أو نذراً ( وهما منصوبان على الحال جمعان لعذر بمعنى المعذرة أو العاذر ، والنذير بمعنى الإنذار أو المنذر ، أي كانت هذه منقسمة إلى عذر إن كانت ألقت مطراً نافعاً مريئاً مريعاً غير ضار كان بعد قحط فإنه يكون كأنه اعتذار عن تلك الشدة ، وإن كانت الملائكة ألقت بشائر فهي واضحة في العذر لا سيما إن كانت بعد إنذار ، وإلى نذر إن كانت ألقت صواعق أو ما هو في معناها من البرد الكبار ونحوها ، وكذا الملائكة ، والكل سبب لذكر الله هو سبب لاعتذار ناس بالتوبة ، وسبب لعذاب الذين يغفلون عن الشكر ، ويستقبلون ذلك بالمعاصي أو ينسبون ذلك إلى الأنواء .
ولما تمت هذه الأقسام مشتملة على أمور عظام منبهة على أن أسبابها من الرياح(8/282)
صفحة رقم 283
والمياه كانت مع الناس وهم لا يشعرون بها كما أنه يجوز أن تكون القيامة كذلك سواء بسواء ، قال ذاكراً للمقسم عليه مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إنما ) أي الذي ) توعدون ) أي من العذاب في الدنيا والآخرة ، ومن قيام الساعة ومن البشائر لأهل الطاعة ، وبناه للمفعول لأنه المرهوب لا كونه من معين مع أنه معروف أنه مما توعد به الله على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لواقع ) أي كائن لا بد من وقوعه وأسبابه عتيدة عندكم وإن كنتم لا ترونها كما في هذه الأشياء التي أقسم بها وما تأثر عنها .
المرسلات : ( 8 - 19 ) فإذا النجوم طمست
) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( ( )
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : أقسم تعالى بالملائكة المتتابعين في الإرسال ، والرياح المسخرة ، وولايته بالمطر والملائكة الفارقة بمائة بين الحق والباطل ، والملقيات الذكر بالمحوي إلى الأنبياء إعذاراً من الله وإنذاراً ، أقسم تعالى بما ذكر من مخلوقاته على صدق الموعود به في قوله : ( ) إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً ( ) [ الإنسان : 4 ] الآيات وقوله : ( ) إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً فمطريراً ( ) [ الإنسان : 10 ] وقوله : ( ) وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً ( ) [ الإنسان : 12 ] الآيات إلى ) ) وكان سعيكم مشكوراً ( ) [ الإنسان : 22 ] وقوله : ( ) ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ( ) [ الإنسان : 27 ] وقوله : ( ) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً ( ) [ الإنسان : 31 ] ولو لم يتقدم إلا هذا الوعد والوعيد المختتم به السورة لطابقه افتتاح الأخرى قسماُ عليه أشد المطابقة ، فكيف وسورة ) ) هل أتى على الإنسان ( ) [ الإنسان : 1 ] مواعد أخراوية وإخبارات جزائية ، فأقسم سبحانه وتلى على صحة الوقوع ، وهو المتعالي الحق وكلامه الصدق انتهى .
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون استهزاء : متى هو ؟ وكان وقته مما استأنثر الله بعلمه لأن إخفاءه عن كل أحد أوقع في النفوس وأهيب عند القعول ، سبب عن ذلك قوله ذاكراً ما لا يتحتمله العقول لتزداد الهيبة ويتعاظم الخوف معبراً بأدة التحقق : ( فإذا النجوم ) أي على كثرتها ) طمست ) أي أذهب ضوءها بأيسر أمر فاستوت مع بقية السماء ، فدل طمسها على أن لفاعله غاية القدرة ، وأعاد الظرف تأكيداً للمعنى زيادة في التخويف فقال : ( وإذا السماء ) أي على عظمتها ) فرجت ) أي انشقت فخربت(8/283)
صفحة رقم 284
السقوف وما بها من القناديل بأسهل أمر ) وإذا الجبال ) أي على صلابتها ) نسفت ) أي ذهب بها كلها بسرعة ففرقتها الرياح ، فكانت هباء منبثاً فلم يبق لها أثر ، وذلك كما ينسف الحب ، فزال ثبات الأرض بالأسباب التي هي الرواسي ، لأن تلك الدار ليست بدار أسباب .
ولما ذكر تغيير السماء والأرض ، ذكر ما فعل ذلك لأجله فقال : ( وإذا الرسل ) أي الذي أنذروا الناس ذلك اليوم فكذبوهم ) أقتت ) أي بلّغها الذي لا قدير سواه بأيسر أمر ميقاتَها الذي كانت تنتظره ، وهو وقت قطع الأسباب وإيقاع الرحمة والثواب للأحباب النقمة والعقاب للأعداء بشهادتهم بعد جمعهم على الأمم بما كان منهم من الجواب ، وحذف العامل في ( إذا ) تهويلاً له لتذهب النفس فيه كل مذهب ، فيمكن أن يكون تقديره : وقع ما توعدون فرأيتم من هذا الوعيد ما لا يحتمل ولا يثبت لوصفه العقول ، وعلى ذلك دل قوله ملقناً لما ينبغي أن يقال : وهو ) لأيّ يوم ) أي عظيم ) أجلت ) أي وقع تأجيلها به ، بناه للمفعول لأن المقصود تحقيق الأجل لا كونه من معين ، وتنبيهاص على أن الميعن له معلوم أنه الله الذي لا يقدر عليه سواه ، ثم أجبا عن هذا السؤال بقوله مبدلاً من ( لأي يوم ) : ( ليوم الفصل ) أي الذيإذاأطلق ذلك لم ينصرف أليه لأنه لا يترك فيه شيئاً إلا وقع الفصل فيه بين جميع الخلق من كل جليل وحقير ، ثم هوله وعظمه بقوله : ( وما أدراك ) أي وأي شيء أعلمك وإن اجتهدت في التعرف ، ثم زاده تهويلاً بقوله : ( ما يوم الفصل ) أي إنه أمر يستحق أن يسأل عنه ويعظم ، وكل ما عظم بشيء فهو أعظم منه ، ولا يقدر أحد من الخلق على الوصلو إلى علمه لأنه لا مثل له يقال عليه .
ولما هول أمره ذكر ما يقع فيه من الشدة على وجه الإجمال فقال : ( ويل ) أي هلاك عظيم جداً ) يومئذ ) أي إذ يكون يوم الفصل ) للمكذبين ) أي بالمرسلات التي أخبرت بذلك اليوم وغيره من أمر الله ، والويل في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله ، عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معناه ، وقد كررت هذه الجملة بعدة ألمقسم به وما ذكر هنا مما يكون في يوم الفصل من الطمس وما بعده وهو تسعة أشياء ، وزادت واحدة فتكون كل جملة بواحدة من المذكورات ، والعاشر للتأكيد دلالة على أن لهم من الويل ما لا ينتهي كما أن الواحد لا ينتهي على أنها لو كانت كلها لتأكيد الأول لكان ذلك حسناً ، فإن من كذبك في أشياء كان من البلاغة أن تقرره بواحدة منها ثم تقول له عند قيام الدليل ( ويل لك ) ثم تفعل فيما بعده كله كذلك وتيعد عليه ذلك القول بعينه تأكيداً له وتحقيقاً لوقوع معناه دلالة على أن الغيظ قد بلغ منتهاه والفجور وانقطاع العذر لم يدع(8/284)
صفحة رقم 285
موضعاً للتنصل منه والبعد عنه ، وذلك في كلام العرب شائع معروف سائغ .
ولما أقسم على وقوع الوعد والوعيد مطلقاً أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة لأنه قادر على كل ما يريد بأقسام دلت على القدرة عليه دلالة جلية ، أتبعه دلالة أجلى منها بما يشاهد من خراب العالم النفسي فقال منكراً على من يكذب به تكذيباً مع ما كان منه سبحانه إلى من كذب الرسل ومن آمن بهم : ( ألم نهلك ) أي بما لنا من العظمة ) الأولين ) أي إهلاك عذاب وغضب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوم نوح ومن بعدهم أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ، ولم ندع منهم أحداً .
ولما كان إهلاك من في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن لم ينقص عن إهلاك الأولين لم يزد ، وكان جواب هذا التقدير : بلى قد أههلكتهم ، قال عاطفاً على هذا الذي أرشد السياق إليه إرشاداً ظاهراً جعله كالمنطوق ما تقديره : نعم أهلكناهم ) ثم ) أي بعد إهلاكنا لهم .
ولما كان الفعل مرفوعاً ، علمنا أنه ليس معطوفاً على ( تهلك ) ليكون تقديراً ، بل هو إخبار للتهديد تقديره : نحن إن شئنا ) نتبعهم الآخرين ) أي الذين في زمانك من كفار العرب وغيرهم لتكذيبهم لك أو الذين قربوا من ذلك الزمان كأصحاب الرس وأصحاب الفيل .
ولما هدد من واجه الرسل بالتكذيب تسلية لهم ، سلى من قطعوه من أتباعهم مما يجب وصله بهم من المعروف فقال مستأنفاً منبهاً على الوصف الموجب لذلك الإهلاك : ( كذلك ) أي مثل ذلك الإهلاك ) نفعل بالمجرمين ) أي جميع الذين يفعلون فعل أولئك الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهم عريقون في ذلك القطع ، وذلك مثبت لنا القدرة على جمعهم ليوم الفصل كما قدرنا على جمعهم لوقت الإجرام وعلى فصلنا في الإهلاك والإنجاء بين مكذبي الأمم ومصدقيهم فلا بد من إيجادنا ليوم الفصل : ( ويل يومئذ ) أي إذا يوجد ) للمكذبين ) أي بالعاصفات التي أهلكنا بها تلك الأمم تارة بواسطة القلب وإمطار الحجارة وأخرى بواسطة الماء وتارة بالرجفة وتارة بغير واسطة .
المرسلات : ( 20 - 31 ) ألم نخلقكم من. .. . .
) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( ( )
ولما ذكر الإهلاك على ذلك الوجه الدال على القدرة التامة على البعث وعلى ما(8/285)
صفحة رقم 286
يوعد به بعد البعث ، أتبعه الدلالة بابتداء الخلق وهو أدل فقال مقرراً ومنكراً على من يخالف علمه بذلك عمله : ( ألم نخلقكم ) أي أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تعشرها عظمة ) من ماء مهين ) أي نطفة مذرة ذليلة ، وهو من مهن بالفتح ، قال في القاموس : والمهين : الحقير الضعيف والقليل ) فجعلناه ) أي بما لنا من العظمة بالإنزال لذلك الماء في الرحم ) في قرار مكين ) أي محفوظ مما يفسده من الهواء وغيره ومددنا ذلك لأجل التطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار الصنعة ) إلى قدر ) أي مقدار من الزمان قدره الله تعالى للولادة ) معلوم ) أي عندنا من تسعة أشهر للولادة إلى ما فوقها أو دونها لا يعلمه غيره .
ولما كان هذا عظيماً ترجمه وبينه معظماً له بقوله : ( فقدرنا ) أي بعظمتنا على ذلك أو فجعلناه على مقدار معلوم من الأرزاق والآجال والأعمال ) فنعم القادرون ( نحن مطلقاً على ذلك وغيره ، أو المقدرون في تلك المقادير لما لنا من كمال العظمة بحيث نجعل ذلك بمباشرة من أردناه منه بطوعه واختياره .
ولعل التعبير بما قد يفيد مع العظمة الجمع لما أقام سبحانه في ذلك من الأسباب بالملائكة وغيرها ، وفيه مع ذلك ابتلاء للعباد الموحد منهم والمشرك : ( ويل يومئذ ) أي إذ كان ذلك ) للمكذبين ) أي بالناشرات التي نشرت تلك النفوس وكل ما يراد نشره وهم يعلمون قدرتنا على ما ذكر وتقديره من ابتدائنا لخلقهم وغيره مما يفيد كمال القدرة وهم يكذبون بالبعث ولا يقيسونه بمثله .
ولما دل بابتداء الخلق على تمام قدرته ، أتبعه الدلالة بانتهاء أمره وأثنائه وانما دبر فيهما من المصالح فقال : ( ألم نجعل ) أي نصير ما سببنا بما لنا من العظمة ) الأرض كفاتاً ) أي وعاء قابلة لجمع ما يوضع فيه وضمه جميعاً فيه فتك وهدم ، وهو اسم لما يكفت من الحديد مثلاً أي يغلف بالفضة ويضم ويجمع ، كالضمام والجماع لما يضم ويجمع ، أو هو مصدرنعت به أوجمع كافتة ، كصائمة وصيام أو جمع كفت وهو الوعاء ، ولو شئنا لجعلناها ناشرة لكم إذا وضعتم فيها كما تنشر النبات ، وسنجعل ذلك إذا أردنا البعث ، ولما كان من المعلوم أنه حذف المفعول وهو لكم ، أبدى حالة دالة أيضاً عليه فقال : ( أحياء ) أي على ظهرها في الدور وغيرها ) وأمواتاً ) أي في بطنها في القبور وغيرها كما كنتم قبل خلق آدم عليه السلام .
ولما ذكر ما تغيبه من جبال العلم والملك وغيرهما ، أتبعه ما تبرزه من الشواهق إعلاماً بأنه لو كان للطبيعة ما كان الأمر هكذا ، فإنه لا يخرج هذه الجبال العظيمة على ما لها من الكبر والرسوخ والثقل والصلابة وغير ذلك من العظمة إلا الفاعل المختار ، هذا إلى ما يحفظ في أعاليها من المياه التي تنبت الأشجار وتخرج العيون(8/286)
صفحة رقم 287
والأنهار ، بل أكثر ما يخرج من المياه هو منها ، وكذا غالب المنافع من المعادن وغيرها قال : ( وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) فيها ) أي الأرض ) رواسي ( لولاها لمادت بأهلها ، ومن العجائب أن مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن ) شامخات ) أي هي مع كونها ثوابت في أنفسها مثبتة لغيرها طوال جداً عظيمة الارتفاع كأنها قد تكبرت على بقية الأرض وعلى من يريد صعودها ، وتنكيره للتعظيم .
ولما كان من العجائب الخارقة للعوائد فوران الماء الذي من طبعه أن يغور لا أن يفور لما له من الثقل واللطافة التي أفادته قوة السريان في الأعماق وفي كون ذلك منه من موضع من الأرض دون آخر ، وكونه من الجبال التي هي أصل الأرض ومن صخورها غالباً دلالة ظاهرة على أن الفعل للواحد المختار الجبال القهار لا للطبائع قال : ( وأسقيناكم ) أي جعلنا لكم بما لنا من العظمة شراباً لسقيكم وسقي ما تريدون سقيه من الأنعام والحرث وغير ذلك ) ماء ( من لأنهار والغدران والعيون والآبار وغيرها ) فراتاً ) أي عظيماً عذاباً سائغاً وقد كان حقيقاً بأن يكون ملحاً أجاجاً لما للأراضي الممسكة له من ذلك .
ولما كان في هذا دلالة على ظاهرة على قدرته على البعث وغيره قال : ( ويل يومئذ ) أي يوم إذ تقوم الساعة ليكون الفصل بين العباد فساقها مساق ما هو ثابت لا نزاع فيه إشارة إلى أننه لا يكذب بها بعد ظهور الأدلة إلا من لا مسكة له ) للمكذبين ) أي الذين هم في غاية الرسوخ في التكذيب حتى كذبوا بما لنا في هذا من الفرق الذي فرقنا به بين أرض وأخرى حتى جعلنا بعضها صالحاً لانفراق أرضه عن الماء ، وبعضها غير صالح وجعلنا بعضها قابلاً للجبال وبعضها غير قابل إلى غير ذلك من الفروق البديعة .
ولما وصلت أدلة الساعة في الظهور إلى حد لا مزيد عليه ، وحكم على المكذبين بالويل مرة ، وأكد بثلاث ، فكان من حق المخاطب أن يؤمن فلم يؤمن ، أمر بما يدل على الغضب فقال تعالى معلماً لهم بما يقال يوم القيامة إذا يحل بهم الويل : ( انطلقوا ) أي أيها المكذبون ) إلى ما كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) به تكذبون ( عدماً ، وتجددون ذلك التكذيب مستمرين عليه .
ولما كان المراد زيادة تبكيتهم وتقريعهم والتهويل عليهم ، كرر الأمر واصفاً ما أمروا بالانطلاق إليه فقال : ( انطلقوا ( هذا على قراءة الجماعة ، وقراءة رويس عن يعقوب بصيغة الماضي للدلالة على تمام انقيادهم هناك ، وأنه لا شيء من منعه عندهم(8/287)
صفحة رقم 288
أصلاً ، وهي استئنافية لجواب من يقول : ما كان حالهم عند هذا الأمر الفظيع ؟ ) إلى ظل ) أي من دخان جهنم الذي سمي باليحموم لما ذكر في الواقعة ) ذي ثلاث شعب ( ينشعب من عظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق ذوائب ، وخصوصية الثلاث لأن التكذيب بالله وكتبه ورسله ، فتعذبهم كل واحدة منها عذاباً يعلمون هناك لأي تكذيبه منها هي ، أو لأن الحاجب عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم ، أو لأن السبب فيه القوة الوهمية الحالة في الدماغ ، والغضبية التي في عين القلب ، والشهوية التي في يساره ، وقيل : تخرج عنق من النار تكون ثلاث فرق : نار ونور ودخان ، يقف النورعلى المؤمنين ، واللهب الصافي على الكافرين ، والدخان على المنافقي ، تكون كذلك إلى حين الفراغ من الحساب ، وقال الرازي : الشعب لهب وشرر ودخان .
ولما كان المبتادر من الظل ما يستروح إليه فظنوا ذلك ، أزال عنهم هذا التوهم على طريق التهكم بهم ليكون أشد في النكال فقال واصفاً ل ( ذي ) : ( لا ظليل ) أي من الحر بوجه من الوجوه .
ولما كان ما انتفى عنه غزارة الظل التي أفهمتها صيغة المبالغة قد يكون فيه نفع ما قال : ( ولا يغني ) أي شيئاً من إغناء ) من اللهب ) أي هذا الجنس .
المرسلات : ( 32 - 42 ) إنها ترمي بشرر. .. . .
) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( ( )
ولما بين أن هذا الظل في العذاب ، وكان من المعلوم أنه لا يكون دخان إلا من نار ، قال مبيناً أنه لو كان هناك ظل ما أغنى : ( إنها ) أي النار التي دل عليها السياق ) ترمي ) أي من شدة الاستعار ) بشرر ( وهو ما تطاير من النار إذا التهبت ، واحدتها شرارة وهي صواعق تلك الدار ) كالقصر ) أي كل شرارة منها كأنها قصر مشيد من عظمها وقيل : هو الغليظ من الشجر ، الواحدة قصر مثل جمر وجمرة ، وهي اسم جنس جمعي لم يستعمل إلى في جمع فهو شامل لكثير الجموع وقليلها ، وكذا كل ما فرق بين واحدة وجمعه التاء وليس بجمع لأنه ليس بجمع سلامة وهو ظاهر ولا تكسير لأن أوزانه معروفة وليس منها فعل وليس بجنس ، فإنه لا يشمل ما دون الجمع ومن عظمة شرارها تعرف عظمة جمرها .
ولما شبهه في عظمه ، شبهه في لونه فقال : ( كأنه جملات ( جمع جمالة جمع(8/288)
صفحة رقم 289
جمل مثل حجارة وحجر للدلالة مع كبره على كثرته وتتابعه واختلاطه وسرعة حركته ، ومن قرأ بضم الجيم فهو عنده جمع جمالة وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة شبهه به في امتداده والتفافه ، ولا تنافي فإن الشرر منه ما هو كما تقدم ) صفر ( جمع أصفر للون المعروف ، وقيل : المراد به سواد يضرب إلى صفرة كما هي ألوان الجمال .
ولما كان هذا أمراً هائلاً كانت ترجمته : ( ويل يومئذ ) أي إذ يكون ذلك ) للمكذبين ) أي العريقين في التكذيب بإلقاء الذكر على الأنبياء للبشارة والندارة .
ولما دلت قراءة ( انطلقوا ) بالفتح على امتثالهم للأمر من غير أن ينبسوا بكلمة ، صرح به فقال دالاً على ما هم فيه من المقت والغضب : ( هذا ) أي الموقف الذي هو بعض مواقف ذلك اليوم ، سمي يوماص لتمام أحكامه ، فلذا قال مخبراً عن المبتدأ : ( يوم لا ينطقون ) أي ببنت شفة من شدة الحيرة والدهشة في بعض المواقف ، وينطقون في بعضها فإنه يوم طويل ذو ألوان كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو لا ينطقون بما ينفعهم لأنهم كانوافي الدنيا لا ينطقون بالتوحيد الذي ينفعهم .
ولما كانوا لا يقدروا على شيء ما إلا بإذن الله ، وكان الموجع لهم عدم الإذن ، بني للمفعول قوله دلالة على عدم ناصر لهم أو فرج يأتيهم : ( ولا يؤذن ) أي من آذن ما ) لهم ) أي في كلام أصلاً ، ولما كان المراد أنه لا يوجد لهم إذن ولا يوجد منهم اعتذار من غير أن ينظر إلى تسببه عن عدم الإذن لئلا يفهم أن لهم عذراً ولكنهم لم يبدوه لعدم الإذن ، قال رافعاً عطفاً على ( يؤذن ) ) فيعتذرون ( فدل ذلك على نفي الإذن ونفي الاعتذار عقبه مطلقاً ، ولو نصبه لدل على أن السبب في عدم اعتذارهم عدم الإذن فينقض المعنى .
ولما كان هذا أمراً فظيعاً ترجمه بقوله : ( ويل يومئذ ) أي إذ كان هذا الموقف ) للمكذبين ) أي العريقين في التكذيب الإخبار بطمس النجوم فجعلت عقوبتهم سكوتهم الذي هو ذهاب نور الإنسان ليكون كالطمس كذبوا به .
ولما ذكر حيرتهم ودهشتهم التي هي أمارة قول الحكم ، وكانت مواطن ذلك اليوم تسمى أياماً لتمام الأحكام في كل مواطن منها ، وتميزه بذلك عما عداه ، قال : ( هذا ) أي ذلك اليوم كله ) يوم الفصل ) أي بين ما اختلف فيه العباد من الحق والباطل العالي والسافل ؛ ثم استأنف قوله : ( جمعناكم ) أي يا مكذبي هذه الأمة لنا من العظمة ) والأولين ) أي الذين تقدم أنا أهلكناهم ، وقد كانوا أكثر منكم عدداً وأعظم عدداً لنفصل بين المتنازعين ونصلي العذاب ونجزي بالثواب ، وقد كان منكم من يقول : أنا(8/289)
صفحة رقم 290
أكفي عشرة من ملائكة النار ، ثم أشار إلى انقطاع الأسباب فقال مسبباً عن ذلك : ( فإن كان لكم ) أي أيها المكذبون على وجه هو ثابت من ذواتكم ) كيد ) أي مقاواة بنوع حيلة أو شدة ) فكيدون ( تقريع لهم على كيدهم لأوليائنا المؤمنين في الدنيا بما مكنهم به من الأسباب وتنبيه على أنه من آذى وليه فقد آذنه بالحرب على أنهم عاجزون .
ولما كانوا أقل من أن يجيبوا عن هذا وأحقر من أن يمهلوا للكلام ، قال مترجماً لحالهم بعد هذا الكلام منبهاً على أنهم لو عقلوا بكوا على أنفسهم الآن لأنه لا حيلة إذ ذاك : ( ويل يومئذ ) أي إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابه ) للمكذبين ) أي الراسخين في التكذيب بأن السماء تفرج كما كانوا يكذبون بأنه يفصل بينهم بعد الموت .
ولما كان الواقع بعد الفصل قرار كل في داره ، وكان قد بدأ بالمكذبين لأن التحذير في السورة أعظم ففصلهم عن المصدقين فقال : انطلقوا إلى آخره ، ثنى بأضدادهم الفريق الناجي المشار إليه في آخر الإنسان بقوله تعالى : ( ) يدخل من يشاء في رحمته ( ) [ الإنسان : 31 ] فقال مؤكداً لأجل تكذيب الكفار بتلك الدار وبأن يكون المؤمنون أسعد منهم : ( إن المتقين ) أي الذين كانوا يجعلون بينهم وبين كل ما يغضب الله وقاية مما يرضيه لعراقتهم في هذا الوصف يوم القيامة ) في ظلال ( هي في الحقيقة الظلال لا كما تقدم من ظل الدخان ، ولا يشبهها أعلى ظل في الدنيا ولا أحسنه إلا بالاسم ، ودل على أنها على حقيقتها بقوله : ( وعيون ( لأنها تكون عنها الرياضوالأشجار الكبار كما دل على أن ذلك الظل المتشعب للتهكم بما ذكر بعده من أوصاف النار ، فهذه العيون تبرد الباطن وتنبت الأشجار المظلة كما أن اللهب يحرّ الظاهر والباطن ويهلك ما قرب منه من شجرة وغيره فلا يبقى ولا يذر .
ولما ذكر العيون ، أتبعها ما ينشأ عنها فقال دالاً على أن عيشهم كله لذة : ( وفواكه ( ولما كان يوجد في فواكه الدنيا الدون ، قال دالاً على أن عيشهم كله لذة وأنه ليس هناك دون : ( مما يشتهون ) أي الرغبة .
المرسلات : ( 43 - 50 ) كلوا واشربوا هنيئا. .. . .
) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما فهم من التعبير ب ( في ) أنهم متمكنون من هذا جميعه تمكن المظروف من(8/290)
صفحة رقم 291
ظرفه ، قال منبهاً على أنه أريد بالفاكهة جميع المآكل ، وإنما عبر بها إعلاماً بأن كل أكل فيها تفكه ليس منه شيء لجلب نفع غير اللذة ولا دفع ضر : ( كلوا ) أي مقولاً لهم تناولوا جميع المآكل على وجه التكفه التلذذ لا لحفظ الصحة فإنها حاصلة فإنها حاصلة بدونه ) واشربوا ) أي من جميع المشارب كذلك فإن عيونها ليست من الماء خاصة بل من كل شراب أكلاً وشرباً ) هنيئاً ( ليس في شيء من ذلك توقع ضر ، وزاد في نعيمهم بأن جعل ذلك عوضاً فقال : ( بما كنتم ) أي بجبلاتكم التي جبلتكم عليها ) تعلمون ) أي في الدنيا من الأعمال الصالحة المبنية على أساس العلم الذي أفاد التصديق بالجنة فأوجب دخولها كما أوجب تكذيب المجرمين بالنار دخولهم إياها وعذابهم بها ، وتكذبيهم بالجنة طردهم عنها وحرمانهم جزاء وفاقاً .
ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا الناس معينين في زمن مخصوص قال معلماً بالعتميم مؤكداً رداً على من ينكر : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) كذلك ) أي مثل هذا الجزاء العظيم ) نجزي المحسنين ) أي كل من كان عريقاً في وصف الإحسان لسنا كملوك الدنيا ، يعوقهم عن الإحسان إلى بعض المحسنين عندهم بما يرونه جزاء لهم بعضُ أهل مملكتهم لما لهم من الأهوية ولملوكهم من الضعف .
ولما كان هذا النعيم عذاباً عظيماً على من لا يناله قال : ( ويل يومئذ ) أي أذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ) للمكذبين ) أي الذين يكذبون بأن الجبال تنسف فتكون الأرض كلها سهلة دمثة مستوية لا عوج فيها أصلاً صالح للعيون والاشجار والتبسط في أرجائها كيفما يريد صاحبها ويختار .
ولما ذكر نعيم أهل الجنة الذي لا ينقضي لأن لهم غاية المكنة فيه ، وكان ذلك آجلاً ، وكان المكذبون في اتساع في الدنيا ، وتقدم قوله تعالى
77 ( ) إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ( ) 7
[ الطور : 7 ] وكان الشقاء متى وقع بعد نعيم نسخه وعد النعيم ولو كان كثيراً طويلاً قليلاً ، قال نتيجة لجواب القسم ضد ما يقال للمتقين تسلية لهم وتحزيناً للمكذبين بناء على ما تقديره : إن المكذبين في هذه الدنيا في استدراج وغرور ، ويقول لهم لسان الحال المعرب عن أحوالهم في المآل توبيخاً وتهديداً : ( كلوا ) أي أيها المكذبون في هذه الدنيا ) وتمتعوا ) أي كذلك بمثل اليجفة ، فإن المتاع من أسمائها كما مر غير مرة عن أهل اللغة ) قليلاً ) أي وإن امتد زمنه فإنه زائل مع قصر مدته في مدة الآخرة ، ولا يؤثر ذلك على الباقي النفيس إلا خسيس الهمة ، قال الرازي ، وقال بعضهم : التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين ، والسعي لها من افعال الظالمين ، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين ، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة(8/291)
صفحة رقم 292
من أفعال عوام المؤمنين ، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين ، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها .
ولما أحلهم هذا المحل الخبيث ، وكان التقدير : فإنه لا بد من وقوع العذاب بكم يوم الفصل ، علل ذلك بقوله مؤكداً لأنهم ينكرون وصفهم بذلك : ( إنكم مجرمون ) أي عريقون في قطع كل ما أراد الله به أن يوصل ، فلا جائز أن تعاملوا معاملة المحسنين ، فلذلك كانت نتيجة هذا ) ويل يومئذ ) أي إذ تعذبون بأجرامكم ) للمكذبين ) أي بوصول الرسل إلى وقتها المعلوم الذي كانت تتوعد به المجرمين في الدنيا حيث كذبوهم لأجل تمتعهم هذا القليل الكدر ، وعرضوا أنفسهم للعذاب الدائم المستمر .
ولما كان التقدير : فإنهم كانوا في دار العمل إذا قيل لهم آمنوا لا يؤمنوا ، عطف عليه قوله : ( وإذا قيل لهم ) أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان ) اركعوا ) أي صلوا الصلاة التي فيها الركوع ، وأطلقه عليها تسمية لها باسم جزء منها ، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ، ولأنه خاص بصلاة المسلمين ، ولأن بعض العرض نفر عن الدين من أجله ، وقال : لا أجبي لأن فيه زعم إبرازاً للاست فيكون ذلك مسبة ، وكذلك السجود ، قال في القاموس : جبى تجبئة : وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه ، والتجبئة أن تقوم قيام الركوع ) لا يركعون ) أي لا يخضعون ولا يوجد الصلاة فلذلك كان وعيدهم ، وفيه دلالة على أن الأمر للوجوب ليستحق تاركه العذاب وعلى أن الكفار مخاطبون بالفروع ) ويل يومئذ ) أي إذ يكون الفصل ) للمكذبين ) أي بذلك الذي تقدم في هذه السورة أو بشيء منه أو بغيره مما جاءت به الرسل ، وقد كررت هذه الجملة بعدد أجزاء طرف القسم أو أجزاء الجواب لتكون كل جملة منها وعيداً على التكذيب بواحد من تلك الأجزاء ، وتكون هذه الجملة العاشرة مؤكدة لتلك التسع ، وتكملة لعدها ومعناها ، ومعلمة بأن الويل لهم دائماً من غير انقضاء كما أن الواحد لا انقضاء له .
ولما أعمل هذا أن لهم الويل دائماً ، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً ، فقال مسبباً عن معنى الكلام : ( فبأيّ حديث ) أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة ) بعده ) أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم الجمل بعضها مع بعض ، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض(8/292)
صفحة رقم 293
الفنون ، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه ) يؤمنون ) أي يجددون الإيمان بسببه بكل ما أتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة ، والمعاني الشريفة الصالحة ، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب ، والبشائر المشوقة لكل سمع ، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره ، فإنه لا شيء يقاربه ولا يدانيه ، فكيف بأن يدعي شيء يباريه أو يراقيه ، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس ، فهو من أعظم أنواع التهديد ، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين ، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء المجرمين والله الهادي للصواب .
.. .(8/293)
صفحة رقم 294
سورة النبأ
النبأ : ( 1 - 9 ) عم يتساءلون
) عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ( ( )
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة الذي كانوا مجمعين على نفيه ، وصاروا بعد بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خلاف فيه مع المؤمنين ثابت ثباتاً لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه ، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير ، بنى لهم مسكناً وأتقنه ، وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه ، فكان ذلك أشد لإلفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض ، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم ، والحكيم لا يترك عبيده وهو تام القدرة كامل السلطان يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب ، فكيف إذا كان حاكماً فكيف إذا كان أحكم الحاكمين ، هذا ما لا يجوز في عقل ولا خطر ببال أصلاً ، فالعلم واقع به قطعاً ، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره وغايته ) بسم الله ( الحكيم العليم الذي له جميع صفات الكمال ) الرحمن ( الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد والجاه والمال ، وبيان الطريق الأقوام بالعقل الهادي والإنزال والإرسال ) الرحيم ( الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم فوفقهم لمحاسن الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر ، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء ، افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان ، فقال معجباً منهم غاية العجب زاجراً لهم ومنكراً عليهم ومتوعداً لهم ومفخماً للأمر بصيغة الاستفهام منبهاً على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم ، ولا يعرف محل نزاعهم ، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى(8/294)
صفحة رقم 295
العالم به إعلاماً بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلاً يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي فقال : ( عمَّ ) أي عن أي شيء خفف لفظاً وكناية بالإدغام ، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أان يحذف ، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف ) يتساءلون ) أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين رضي الله عنهم ، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته مطلق سؤال .
ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه ، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام : ( عن النبأ ) أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين ، وإخباره عن يوم الفصل ، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث ، وبوعده الجاز الحثيث .
ولما كان في مقام التفخيم له ، وصفه تأكيداً بقوله : ( العظيم ( مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه ، ففي ذلك كله تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره ، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع ؛ وعظم توبيخهم بقوله : ( الذي هم ) أي بضمائهرهم مع ادعائهم أنها أقوم الضمائر ) فيه مختلفون ) أي شديد اختلافهم وثباتهم فبعضهم صدق وبعضهم كذب ، والمكذبون بعضهم شك وبعضهم جزم وقال بعضهم : شاعر ، وبعضهم : ساحر إلى غير ذلك من الأباطيل ، وذلك الأمر هو أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي أهمه البعث بعد الموت اشتد التباسه عليهم وكثرت مراجعتهم في ومساءلتهم عنه مع عظمه وعظم ظهوره ، والعظيم لا ينبغي الاختلاف فيه بوجه ، فإن ذا المروءة لا ينبغي له أن يدخل في أمر إلا وهو على بصيرة فكيف به إذا كان عظيماً فكيف به إذا تناهى عظمه فكيف به إذا كان أهم ما يهمه فإنه يتعين عليه أن يبحث عنه غاية البحث ويطلب فيه الأدلة ويفحص عن البراهين ويستوضح الحجج حتى يصير من أمره بعد علم اليقين إلى عين اليقين من حين يبلغ مبلغ الرجال إلى أن يموت فكيف إذا كان بحيث تتلى عليهم الأدلة وتجلى لديه قواطع الحجج وتجلب إليه البينات وهو يكابر فيه ويماري ، ويعاند ويداري .
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : سورة النبأ أما مطلقها فمرتب على تساؤل واستفهام وقع منهم وكأنه وارد هنا في معرض العدول والالتفات ، وأما قوله : ( كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) [ النبأ : 4 5 ] فمناسب للوعيد المتكرر في قوله :
77 ( ) ويل يومئذ للمكذبين ( ) 7
[ المرسلات : 19 ] وكأن قد قيل : سيعلمون عاقبة تكذيبهم ، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شيء منه عبثاً بل يعتبر به ويستوضح وجه(8/295)
صفحة رقم 296
الحكمة فيه ، فعلم أنه لا بد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع تلك الدلائل ، ويستشغر من تكرار الفصول وتجدد الحالات وإحياء الأرض بعد موتها ، جرى ذلك في البعث واطراد الحكم ، وإليه الإشارة بقوله :
77 ( ) كذلك نخرج الموتى ( ) 7
[ الأعراف : 57 ] وقال تعالى منبهاً على ما ذكرناه ) ألم نجعل الأرض مهاداً ) [ النبأ : 6 ] إلى قوله :
77 ( ) وجنات ألفافاً ( ) 7
[ النبأ : 16 ] فهذه المصنوعات المقصود بها الاعتبار كما قدم ، ثم قال تعالى :
77 ( ) إن يوم الفصل كان ميقاتاً ( ) 7
[ النبأ : 17 ] أي موعداً لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم ( فويل يومئذ للمكذبين ) ويشهد لهذا القصد ما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين :
77 ( ) إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتاباً ( ) 7
[ النبأ : 27 29 ] ثم قال بعد :
77 ( ) إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً ( ) 7
[ النبأ : 31 32 ] وقوله بعد : ( ذلك اليوم الحق ( وأما الحياة الدنيا فلعب ولو وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وقوله بعد :
77 ( ) يوم ينظر المرء ما قدمت ياده ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ( ) 7
[ النبأ : 40 ] انتهى .
ولما كان الأمر من العظمة في هذا الحد قال مؤكداً لأن ما اختلفوا فيه وسألوا عنه ليس موضعاً للاختلاف والتساؤل بأداة الردع ، فقال تهديداً لهم وتوكيداً لوعيدهم : ( كلا ) أي ليس ما سألوا عنه واختلفوا فيه بموضع اختلاف أصلاً ، ولا يصح أن يطرقه ريب بوجه من الوجوه فلينزجروا عن ذلك وليرتدعوا قبل حلول ما لا قبل لهم به .
ولما كان كأنه قيل : فهل ينطقع ما هم فيه ؟ أجاب بقوله مهدداً حاذفاً متعلق العلم للتهويل لأجل ذهاب النفس كل مذهب : ( سيعلمون ) أي يصلون إلى حد يكون حالهم فيه في ترك العناد حال العالم بكل ما ينفعهم ويضرهم ، وهذا عن قريب بوعد لا خلف فيه ، ويكون لهم حينئذ عين اليقين الذي لا يستطاع دفاعه بعد علم اليقين الذي دافعوه ، وعظم ربتة هذا الردع والتهديد والزجر والوعيد بقوله : ( ثم كلا ) أي أن أمره في ظهوره رادع عن الاختلاف في أمره ) سيعلمون ) أي بعد الموت بعد علمهم قبله ما يكون من أمره بوعد صادق لا شك فيه ، ويصير حالهم إذا ذاك حال العالم في كفهم عن العناد ، وهم بين ذلول وذليل وحقير وجليل ، فأما من اخترناه منه للإيمان فيكون ذلولاً ، ومن أردنا شقاءه بالكفران فتراه ناكساً ذليلاً ، ويشترك الكل بالذوق في حق اليقين ، وقد كان هذا كما قال الجليل بعد زمن قليل ، عندما أوقعتهم أيام الله وأرغمت منهم الأنوف وأذلت الجباه ، وقراءة ابن عامر على ما قيل عنه بتاء الخطاب في الوعيد وأدل على الاستعطاف للمتاب .(8/296)
صفحة رقم 297
ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول ، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً ، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف : ( ألم نجعل ) أي بما لنا من العظمة ) الأرض مهاداً ) أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم ) والجبال ) أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها ) أوتاداً ( تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده ، قال الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة ، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لا سيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم ، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لا سيما إذا كان ذلك المختبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطرة الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى .
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة ، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال : ( وخلقناكم ) أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ) أزواجاً ( طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم .
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع ، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال : ( وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) نومكم ( الذي ركبنا البدن على قبوله ) سباتاً ) أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة ، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث ، قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه .
النبأ : ( 10 - 16 ) وجعلنا الليل لباسا
) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا(8/297)
صفحة رقم 298
سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ) 73
( ) 71
ولما ذكر النوم ، اتبعه وقته الأليق به مذكراً بنعمة الظرف الزماني بعد التذكير بالظرف المكاني ، فقال دالاً بمظهر العظمة على عظمه : ( وجعلنا الّيل ) أي بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن ) لباساً ) أي غطاء وغشاء ساتراً بظلمته ما أتى عليه عن العيون كما يستره اللباس لتسكنوا فيه عن المعاش ) وجعلنا النهار ) أي الذي آيته الشمس ) معاشاً ) أي وقتاً للتقلب الذي هو من أسباب التحصيل الذي هو من أسباب المعاش ، وهو العيش ووقته وموضعه ، مظهراً لما ستره الليل ، فالآية من الاحتباك : ذكر اللباس أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والمعاش ثايناً دليلاً على حذف ضده أولاً .
ولما ذكر المهاد وما فيه ، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال : ( وبنينا ) أي بناء عظيماً ) فوقكم ) أي عاماً لجميع جهة الفوق ، وهي عبارة تدل على الإحاطة ) سبعاً ) أي من السماوات ) شداداً ) أي هي في غاية القوة والإحكام ، لا صدع فيها ولا فتق ، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور ، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور .
ولما ذكر السقف : ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها : ( وجعلنا ) أي مما لا يقدر عليه غيرنا ) سراجاً ) أي نجماً منيراً جداً ) وهاجاً ) أي هو مع تلألئه وشدة ضيائه حار مضطرم الاتقاد وهو الشمس ، من قولهم : وهج الجوهر : تلألأ ، والجمر : اتقد .
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته ، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب ، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف ، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد ، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة ، والماء كالمني ، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال : ( وأنزلنا ) أي مما يعجز غيرنا ) من المعصرات ) أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعرصها الرياح فتمطر كما حصد الزرع إذا حان له أن يحصد ، قال الفراء : المعصر ، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض ، وقال الرازي : السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض ) ماء ثجاجاً ) أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً ، يقال : ثجه وثج بنفسه .(8/298)
صفحة رقم 299
ولما ذكر بدايته ، أتبعها نهايته فقال : ( لنخرج ) أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ) به ) أي الماء تسبيباً ) حباً ) أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد ، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما ) ونباتاً ( يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم .
ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر ، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال : ( وجنات ) أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ) ألفافاً ) أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري ، جمع لف كجذع ، قال البغوي : وقيل : هو جمع الجمع ، يقال : جنة لفاء ، وجمعها لف بضم اللام ، وجمع الجمع ألفاف .
وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة ، فاكتفى بذكره عن ذكرها ، قال مقاتل : وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث .
النبأ : ( 17 - 22 ) إن يوم الفصل. .. . .
) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً ( ( )
ولما ذكر ما دل على غاية القدرة ونهاية الحكمة فدل قطعاً على الوحدانية لأنه لو كان التعدد لم تكن الحكمة ولم تتم القدرة ، فأثمر المحبة لمن اتصف بذلك ، فأنتج للطائع الشوق إلى لقائه والترامي إلى مطالعة كما نعمائه ، وللعاصي ما هو حقيق به من الخوف من لقائه ليرده ذلك عن إعراضه وإبائه ، أتبع ما أعلم أنه ما ذكره إلا للدلالة على النبأ العظيم في لقاء العزيز الرحيم ، فقال منتجاً عما مضى من الوعيد وما دل على تمام القدرة مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إن يوم الفصل ) أي الذي هو النبأ العظيم ، وتقدم الإنذار به في المرسلات وما خلق الخلق إلا لجمعهم فيه وإظهار صفات الكمال ليفصل فيه بين كل ملبس فصلاً لا شبهة فيه ويؤدخ للمظلوم من الظالم ) كان ) أي في علم الله وحكمته كوناً لا بد منه جعل فيه كالجبلة في ذوي الأرواح ) ميقاتاً ) أي حداً يوقت به الدنيا وتنتيه عنده مع ما فيها من الخلائق .
ولما ذكره ، ذكر ما يه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له : ( يوم ( ولما كان الهائل المفزع النفخ ، لا كونه من معين ، بنى للمفعول قوله ) ينفخ ) أي من نافخ أذن الله له ) في الصور ( وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفاخات الأرض كما مر في آخر الزمر ، ولذلك قال : ( فتأتون ) أي بعد القيام من القبور الموقف أحياء كما كنتم أول(8/299)
صفحة رقم 300
مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم فيها ، واختلط تراب من بلي منكم بترابها وتراب بعضكم ببعض ، وتمييز ذلك وجمع وتركيبه كما كان وإعادة الروح فيه يسير عليه سبحانه وتعالى كما فعل ذلك كله من نطفة بعد أن فعله في آدم عليه السلام من تراب لا أصل له في الحياة ، حال كونكم ) أفواجاً ) أي أمماً وزمراً وجماعات مشاة مسرعين كل أمة بإمامها ، روى الثعلبي وابن مدرويه عن البراء رضي الله عنهم وقال شيخنا ابن حجر في ترجمة محمد بن زهير في لسان الميزان : إنه ظاهر الوضع أن معاذاً رضي الله عنه سأل عن هذه الأفواج فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن أمتي تحشر على عشرة أصناف : على صور القردة ، وعلى صور الخنازير ، وبعض منكسون يسحبون على وجوههم ، وبعض عمي وبعض صم بكم ، وبعض يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعض منقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعض مصلبون على جذوع من نار ، وبعض أشد نتناً من الجيف ، وبعض ملبسون جباباً سابغة من قطرن لازقة بجلودهم ، فسرهم بالقتات وآكلي السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم والعلماء الذي يخالف قولهم فعلهم والمؤذين للجيران والساعين بالناس للسطان ، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى والتكبرين خيلاء ) .
ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق ، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح ، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه : ( وفتحت السماء ) أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً ، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله : ( فكانت ) أي كلها كينونة كأنها جبلة لها ) أبواباً ) أي كثيرة جداً لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب .
ولما ذكر السقف ، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها ، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً : ( وسيرت ) أي حملت بأيسر أمر على السير ) الجبال ( على ما تعلمون من صلابتها وصعبوتها في الهواء كأنها الهباء المنثور ، وعلى ذلك دل قوله : ( فكانت ) أي كينونة راسخة ) سراباً ) أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب .(8/300)
صفحة رقم 301
ولما بين أن يوم الفصل هو النبأ العظيم بعد أن دل عليه وذكر ما فيه من المسير ، ذكر ما إليه من الدارين المصير ، فقال بعد التذكير بما في الجبال من العذاب بحزونتها وما فيها من السباع والحشرات والأشجار الشائكة والقواطع المتسابكة وغير ذلك من عجائب التقدير مؤكداً لتكذيبهم : ( إن جهنم ) أي النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون ) كانت ) أي جبلة وخلقاً ) مرصاداً ) أي موضع رصد لأعداء الله ترصدهم فيها خزنة النار ، فإذا رأوهم كدرسوهم فيها ، ولأولياء الله ترصدهم فيها خزنة الجنة لإنجائهم من النار عند ورودها أوهي راصدة بليغة الرصد للكفار حتى صارت مجسدة من الرصد لتجمع أصحابها فلا يفوت منهم واحد كالمطعان لكثير الطعن ، مجالس يسأل عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن لزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج ، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فينسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلا قيل : انظروا فإن كان له تطوع تكمل به أعماله .
فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة .
ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، قدم ذكر المخوف فقال : ( للطاغين ) أي المجاوزين لحدود الله ) مآباً ) أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى ، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها ، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب .
النبأ : ( 23 - 28 ) لابثين فيها أحقابا
) لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ( ( )
ولما ذكر مصيرهم إليها ذكر إقامتهم فيها فقال حالاً من ضمير ( الطاغين ) : ( لابثين فيها ( ولما كان جمع القلة يستعار للكثرة فكان الحقب يطلق على الزمان من غير حد ، ويطلق على زمان محدود ، فقيل على ثمانين سنة ، وعلى سبيعن ألف سنة ، فكان السياق من تصدير السورة بالنبأ وبوصفه مع التعبير بالنبأ العظيم وما بعد ذلك يفهم أن المراد الدوام إن أريد ما لا حد له وأن المراد إن أريد المحدود جمع الكثرة ، وأكثر ما فسر به الحقب ، وأنه للمبالغة لا التحديد ، كان جمع القلة هنا غير مشكل ، فمن حمله على ما دون ذلك فكفاه زاجراً لم يضره التعبير به ، من اجترأ عليه واستهان به كان فتنة له كما(8/301)
صفحة رقم 302
كان حصر عدد الخزنة للنار بتسعة عشر فلم يضر إلا نفسه ، فلذلك عبر عن ظرف اللبث بقوله : ( أحقاباً ) أي دهوراً عظيمة متتابعة لا انقضاء لها على أن التبعير به ولو حمل على الأقل وجعل منقضياً لا ينافي ما صرح فيه بالخلود لأنه أثبت شيئاً ولم ينف ما فوقه ، وعن الحسن أنه قال : لا يكاد يذكر الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها من غير انقضاء .
ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء ، قال ذاكراً حال هذا اللبث : ( لا يذوقون ) أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق ) فيها ) أي النار خاصة ، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير ) برداً ) أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد ) ولا شراباً ( من ماء أو غيره بغنيهم من العطش على حال من الأحوال ) إلا ( حال كون ذلك الشراب ) حميماً ) أي ماء حاراً يشوي الوجوه قد انتهى حره ) و ( حال كون ذلك الشراب مع حرارته ، أو البر د ) غساقاً ) أي عصارة أهل النار من القيح والصديد البارد المنتن ، فالاستثناء على هذا موزع الحميم من الشراب والغساق من البرد ، فالحميم شرابهم في دولة السعير ، والغساق في دولة الزمهرير .
ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق ، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك ) جزاء وفاقاً ) أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه ، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة ، ثم علل عذابهم بقوله ، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد ، فلا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به فلا يجوزه فقال : ( إنهم كانوا ) أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم ) لا يرجون ) أي في لحال من الأحوال ولو رأوا كل آية ) حساباً ( فهم لا يعملون بغير الشهوات ، فوافق هذا خلودهم في النار ، وعبر عن تكذيبهم بنفي الرجاء لأنه أبلغ ، وذلك لأن الإنسان يطمع في الخير بأدنى احتمال .
ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم الفسد للقوة العلمية ، صرح به على وجه أعم فقال : ( وكذبوا بآياتنا ) أي على ما لها منالعظمة الدالة أنها من عندنا ) كذاباً ( بها ، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يرجعون بها لاصادقين أنواع الحرق وقرئ للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم .(8/302)
صفحة رقم 303
النبأ : ( 29 - 35 ) وكل شيء أحصيناه. .. . .
) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً ( ( )
ولما كان التقدير : فكل شيء جعلنا له وزاناً ، عطف عليه قوله : ( وكل شيء ) أي مطلقاً من أعمالهم وغيرها أو كل ما يقع عليه الحساب ) أحصيناه ( ولما كان الإحصاء موافقاً للكتابة في الضبط ، أكد فعله بها فقال : ( كتاباً ( فلا جائز أن نترك شيئاً من الأشياء بغير جزاء ، ويمكن تنزيل الآية على الاحتباك وهو أحسن : دل فعل الإحصاء على حذف مصدره ، وإُبات مصدر ( كتب ) عليه أي أحصيناه إحصاء وكتبناه كتاباً ، وذلك الإحصاء والكتب لعدم الظلم .
ولما ذكر عذابه ووجه موافقته لجزائهم ، سبب عن تكذيبهم ما يقال لهم بلسان الحال أو المقال إهانة وزيادة في الجزاء على طريق الالتفات المؤذن بشدة الخزي والغضب عليهم وكمال القدرة له سبحانه وتعالى فقال : ويجوز أن يكون سبباً عن مقدر بعد ( كتاباً ) نحو : ليجازيهم على كل شيء منه ، قائلاً لهم على لسان الملائكة أو لسان الحال : ( فذوقوا ) أي من هذا العذاب في هذا الحال بسبب تكذيبكم بالحساب ، وأكد ذوقهم في الاستقبال فقال : ( فلن نزيدكم ) أي شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات ) إلا عذباً ( فإن دراكم ليس بها إلا الجحيم كما أن الجنة ليس بها إلا النعيم ، فأفهم هذا أن حصول شيء لهم غير العذاب محال .
ولما ذكر جزاء الكافرين وأشعر آخره بكونه إخزاء ، ذكر جزاء المؤمنين المخالفين لهم فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافرين به : ( إن للمتقين ) أي الراسخين في الخوف المقتضي لاتخاذ الوقاية مما يخاف فوقوا أنفسهم من سخط الله بما يرضيه من الأعمال والأقوال والأحوال ) مفازاً ) أي فوزاً وموضع فوز وزمان فوز بالراحة الدائمة من جميع ما مضى ذكره لطاغين الذين هم أضدادهم ، وقد كشفوا أنفسهم للعذاب كل الكشف ، ثم فسره أو أبدل منه على حذف مضاف أي فوز : ( حدائق ) أي بساتين فيها أنواع الأشجار ذوات الثمار والرياحين لتجمع مع لذة المطعم لذة البصرة والشم ، قد أحدقت بها الجدران وحوطت بها ، قال ابن جرير : فإن لم تكن بحيطان محدقة بها لم يقل لها حديقة .
وخص أشجار العنب لطيبها وحسنها وشرفها وما فيها من لذة الذوق وعبر عن أشجارها بثمرتها إعلاماً بأنها لا توجد إلا موقرة حملاً وأن ثمرتها هي جل منفعتها فقال : ( وأعناباً ((8/303)
صفحة رقم 304
ولما ذكر المساكن النزهة المؤنقة المعجبة ، ذكر ما يتمتع به وهو جامع لألذاذ الحواس : البصر واللمس والذوق فقال : ( وكواعب ) أي نساء كعبت ثديهن ) أتراباً ) أي على سن واحد من مس جلد واحد التراب قبل الأخرى ، بل لو كن مولودات لكانت ولادتهن في آن واحد .
ولما ذكر النساء ذكر الملائم لعشرتهن فقال : ( وكاساً ) أي من الخبر التي لا مثل لها في لذة الذوق ظاهراً وباطناً وكمال السرور وإنعاش القوى .
ولما كانت العادة جارية بأن الشراب الجيد يكون قليلاً ، دل على كثرته دليلاً على جودته بقوله : ( دهاقاً ) أي ممتلئة .
ولما كانت مجالس الخمر في الدنيا ممتلئة بما ينغصها من اللغو والكذب إلا عند من لا مروءة له فلا ينغصه القبيح ، قال نافياً عنها ما يكدر لذة السمع : ( لا يسمعون فيها ) أي الجنة في وقت ما ) لغواً ) أي لغطاً يستحق أن يلغى لأنه ليس له معنىً أعم من أن يكون مهملاً ليس له معنى أصلاً ، أو مستعملاً ليس له معنىً موجود في الخارج وإن قل ، أو له معنى ولكنه لا يترتب به كبير فائدة .
ولما انتفى الكذب بهذه الطريقة ، وكان التكذيب أذى للمكذب ، نفاه بقوله : ( ولا كذباً ( فإن هذه الصيغة تقال على التكذيب ومطلق الكذب ، فصار المعنى : ولا أدىً بمعارضة في القول ، مع موافقة قراءة الكسائي بالتخفيف فإن معناها كذباً أو مكاذبة ، وشدد في قراءة الجماعة لرشاقة اللفظ وموازنة ( أعناباً وأتراباً ) مع الإصابة لحلق المعنى من غير أدنى جور عن القصد ولا تكلف بوجه ما .
النبأ : ( 36 - 40 ) جزاء من ربك. .. . .
) جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ( ( )
ولما كان العطاء إذا كان على المعاوضة كان أطيب لنفس الآخذ قال : ( جزاء ( وبين أنه ما جعله جزاء لهم إلا إكراماً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء لأن أحداً لا يمكنه أن يوفي شكر نعمة من نعمه فإن عمله من نعمه فقال : ( من ربك ) أي المحسن إليك بإكرام أمتك بانواع الإكرام ، وفي ) عطاء ( إشارة إلى ذلك وهو بذل من غير جزاء ) حساباً ) أي على قدر الكفاية وإن فعل الإنسان منهم ما فعل وحسب جميع أناوع الحساب ، ومن قولهم : أعطاه فأحسبه إذا تابع عليه العطاء وأكثره حتى(8/304)
صفحة رقم 305
جاوز العد وقال : حسبي ، لا يمكن أن يحتاج مع هذا العطاء وإن زاد في الإنفاق ، واختير التعبير به دون ( كافياً ) مثلاً لأنه أوقع في النفس ، فإنه يقال : إذا كان هذا الحساب فما الظن بالثواب .
ولما ذكر سبحانه سعة فضله ، وصف نفسه الأقدس بما يدل على عظمته زيادة في شرف المخاطب ( صلى الله عليه وسلم ) لأن عظمة العبد على حسب عظمة السيد ، فقال مبدلاً على قراءة الجماعة وقاطعاً بالرفع على المدح عند الحجازيين وأبي عمرو : ( رب السماوات والأرض ) أي مبدعهما ومدبرهما ومالكهما ) وما بينهما ( ملكاً وملكاً .
ولما شمل ذلك العرش وما دونه ، علله بقوله : ( الرحمن ) أي الذي له الإنعام العام الذي أدناه الإيجاد ، وليس ذلك لأحد غيره ، فإن الكل داخل في ملكه وملكه ، ولذلك قال دالاً على الجبروت بعد صفة الرحمة : ( لا يملكون ) أي أهل السماوات والأرض ومن بين ذلك أصلاً دائماً في وقت من الأوقات في الدنيا ولا في الآخرة لا في يوم بعينه : ( منه ) أي العام النعمة خاصة ) خطاباً ( أيأن يخاطبوه أو يخاطبوا غيره بكلمة فما فوقها في أمرهم في غاية الاهتمام في غاية الاهتمام به بما أفاده التعبير بالخطاب ، فكيف بما دونه وإذا لم يملكوا ذلك منه فمن والكمل في ملكه وملكه ؟ وعدم ملكهم لأن خاطبهم مفهوم موافقة ، والحاصل أنهم لا يقدرون على خطاب ما من ذوات أنفسهم كما هو شأن المالك .
وأما غيره فقد يملكون أن يكرهوه على خطابهم وأن يخاطبوه بغير إذن من ذلك الغير ولا رضى وبغير تملك منه لهم لأنه لا ملك له ، وإذا كان هذا في الخطاب فما ظنك بمن يدعي الوصال بالاتحاد عليهم اللعنة ولهم سوء المآب ، ما أجرأهم على الاتحاد وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : كيف يكون للمكون المخلوق والفقير المسكين مكنة تملك منه خطاباً أو تتنفس نفساً كلا بل هو الله الواحد الجبار .
ولما كان هذا ربما أفهم سد باب الشفاعة عنده سبحانه ، وكان الكلام إنما ينشأ من الروح ، وكان الملائكة أقرب شيء إلى الروحية ، أكد هذا المعنى مزيلاً ما قد يوهمه في الشفاعة سواء قلنا : إن الروح هنا جنس أم لا ، فقال ذاكراً ظرف ( لا يتكلمون ) ) يوم يقوم الروح ) أي هذا الجنس أو خلق من خلق الله عظيم الشأن جداً ، قيل : هو الملك الموكل بالأرواح أو جبرائيل عليه السلام ، أو القرآن المشار إليه بمثل قوله تعالى
77 ( ) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ( ) 7
[ القدرة : 4 ]
77 ( ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( ) 7
[ الشورى : 52 ] قاله ابن زيد ) والملائكة ) أي كلهم ، ونبه بالاصطفاف على شدة الأمر فقال : ( صفاً ( للقاء ما في ذلك اليوم من شدائد الأهوال ولحفظ الثقلين وهم في وسط دائرة صفهم من الموج والاضطراب لعظيم ما هم فيه ، ثم زاد الأمر عظيماً(8/305)
صفحة رقم 306
بذكر العامل في لا يوم فقال : ( لا يتكلمون ) أي من تقدم كلهم بأجمعهم فيه بكلمة واحدة مطلق كلام خطاباً كان أي في أمر عظيم أو لا ، لا له سبحانه ولا لغيره أصلاً ولا أحد منهم ، ويجوز أن يكون هذا حالاً لهؤلاء الخواص فيكون الضمير لهم فغيرهم بطريق الأولى ) إلا من أذن له ) أي في الكلام إذناً خاصاً ) الرحمن ) أي الملك الذي لا تكون نعمه على أحد من خلقه إلا منه ) وقال صواباً ( فإن لم يحصل الأمر إن لم يقع الكلام من أحد منهم أصلاً ، وهذا كالدليل على آية الخطاب بأنه إذا كان الروح والقريب منه بهذه المثابة في حال كل من حضره كان أحوج ما يكون إلى الكلام فما الظن بغيرهم ؟ وهم في غيره كذلك بطريق الأولى وغيرهم فيه وفي غيره من باب الأولى ، وأما في الدنيا فإنه وإن كان لا يتكلم أحد إلا بإذنه لكنه قد يتكلم بالخطأ .
ولما عظم ذلك اليوم بالسكوت خوفاً من ذي الجبروت
77 ( ) وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً ( ) 7
[ طه : 108 ] أشار إليه بما يستحقه زيادة في عظمته فقال : ( ذلك ) أي المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلو منزلته ) اليوم الحق ) أي في اليومية لكونه ثابتاً في نفسه فلا بد من كونه ولا زوال له ثوبتاً لا مرية فيه لعاقل وثابتاً كل ما أثبته وباطلاً كل ما نفاه .
ولما قرر من عظمته ما يعجز غيره عن أن يقرر مثله ، وكان قد خلق القوى والقدر والفعل بالاختيار .
فكان من حق كل عاقل تدرع ما ينجى منه ، سبب عن ذلك تنبيهاً على الخلاص منه وحثاً عليه قوله : ( فمن شاء ) أي الاتخاذ من المكلفين الذين أذن لهم ) اتخذ ) أي بغاية جهده ) إلى ربه ) أي خالقه نفسه المحسن إليه أو رب ذلك اليوم باستعمال قواه التي أعطاه الله إياها في الأعمال الصالحة ) مآباً ) أي مرجعاً هو المرجع مما يحصل له فيه الثواب بالإيمان والطاعة ، فإن الله جعل لهم قوة واختياراً ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله .
ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد ، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : ( إنا ( على ما لنا من العظمة ) أنذرناكم ) أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها ) عذاباً ( ولما كان لا بد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث ، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال : ( قريباً ( .
ولما حذر منه .
عين وقته مشدداً لتهويله فقال : ( يوم ينظر المرء ) أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لا مرية فيه ) ما ) أي الذي ) قدمت يداه ) أي كسبه في الدنيا من خير وشر ، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلين به أو مشاركتين فيه خيراً كان أو شراً .
ولما كان التقدير : فيقول المؤمن :(8/306)
صفحة رقم 307
يا ليتني قمت قبل هذا ، عطف عليه قوله : ( ويقول الكافر ) أي العريق في الكفر عندما يرى تلك الأهوال متمنياً محالاً : ( يا ليتني كنت ) أي كوناً لا بد منه ولا يزول ) تراباً ) أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف ، أو في هذا اليوم فلم أعذب ، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر عن السجود لآدم عليه السلام المخلوق من التراب ، وعظم نفسه بالحمد والاتفخار بكونه مخلوقاً من نار ، يقول ذلك عندما يرى ما أعد الله لآدم عليه السلام ولخواص بنيه من الكرامة من النعيم المقيم ، ولهذا المتكبر على خالقه من العذاب الدائم الذي لا يزول ، وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن الله تعالى يقتص يوم البعث للبهائم بعضها من بعض ثم يقول لها : كوني تراباً ، فتكون فيتمنى الكافر مثل ذلك .
فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لا بد من كونه ، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من كونه من أعظم الجهل ، فرجع آخرها على أولها ، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها ، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال ، فإن المشرف بالنزع على الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن لدنيا ليس له بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب .
.. . .(8/307)
صفحة رقم 308
سورة النازعات
ونسمة الساهرة والطامة .
مقصودها بيان أواخر أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، ووقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبير في تقرير الوفاق ) بسم الله ( الظاهر الباطن الملك العلام ) الرحمن ( الذيي عم بالإنعام ) الرحيم ( الذي خص أهل ولايته بالتمام ، فاختصوا بالإكرام في دار السلام .
النازعات : ( 1 - 11 ) والنازعات غرقا
) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً ( ( )
لما ذكر سبحانه يوم يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم ، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى : ( والنازعات ) أي من الملائكة كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم للأرواح ولأنفسها من مراكزها في السماوات امتثالاً للأوامر الإليهة ) غرقاً ) أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القاموس فيبلغ أقصى المدّ ، وكان ذلك لنفوس الكفار والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول ، وعم ابن جرير كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال : والصواب أن يقال : إن الله تعالى لم يخصص ، فكل نازعة داخلة(8/308)
صفحة رقم 309
في قسمه يعني الاعتبار بما آتاهم الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده سبحانه .
ولما ذكر الشد مبتدئاً به لأنه أهول ، أتبعه الرفق فقال : ( والناشطات ) أي المخرجات برفق للأرواح أو لأجنحتها من محالها ) نشطاً ) أي رفقاً فلا تدع وإن كان رفيقاً بين الروح والسجد تعلقاً كما ينشط الشيء من العقال أي يحل من عروة كانت عقدت على هيئة الأنشوطة ، قال الفراء إنه سمع العرب يقولون : نشطت العقال إذا حللته ، وأنشطت إذا عقدت بأنشوطة والنشط أيضاً : الجذب والنزع ، يقال : نشطت الدلو نشطاً إذا نزعتها .
انتهى ، والنشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك حتى ينحل ، وكان هذا الأرواح أهل الطاعة ، وكذلك نزع النبات والإنساء والإنماء لكل ما يراد نزعه أو نشطه ، فالذي قدر بعض عبيده على هذا الذي فيه تمييز الأرواح من غيرها على ما لها من اللطافة وشدة الممازجة قادر على تمييز جسد كل ذي روح من جسد غيره بعد ان صار كل تراباً واختلط بتراب الآخر .
ولما ذكر نوعي السل بالشد والرفق ، ذكر فعلها في إقبالها إليه ورجوعها عنه فقال : ( والسابحات ) أي من الملائكة أيضاً في الجو بعد التهيؤ للطيران إلى ما أمرهم الله به من أوامره من الروح أو غيرها ) سبحاً ( هو في غاية السرعة لأنه لا عائق لها بل قد أقدرها الله علىالنفوذ في كل شيء كما أقدر السابح في الماء والهواء ، ولذلك نسق عليه بالفاء قوله : ( فالسابقات ) أي بعد السبح في الطيران إلى ما أمروا به من غمس الأرواح في النعيم أو الجحيم أو غير ذلك مما أمروا به في أسرع من اللمح مع القدرة والغلبة لجميع ما يقع محاولته ) سبقاً ( .
ولما بان بذلك حسن امثتالها للأوامر ، بان به عظيم نظرها في العواقب فدل على ذلك بالفاء في قوله : ( فالمدبرات ) أي الناظرات في أدبار الأمور وعواقبها لإتقان ما أمروا به في الأرواح وغيرها ) أمراً ) أي عظيماً ، ويصح أن يكون للشمس والقمر والكواكب والرياح والخيل السابحة في الأرض والجو لمنفعة العباد وتدبير أمورهم ، وبعضها سابق لبعض ، وبه قال بعض المفسرين ، والجواب بحذوف إشارة إلى أنه من ظهور العلم به بدلالة ما قبله وما بعده عليه في حد لا مزيد عليه ، فهو بحيث لا يحتاج إلى ذكره فحذفه كإثباته بالبرهان فتقديره : لتذهبن بالدنيا التي أنتم بها مغترون لنزعنا لها من حالها وتقطيع أوصالها ، فإن كل ما تقدم من أعمال ملائكتنا هو من مقدمات ذلك تكذيباً لقول الكفار
77 ( ) ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ( ) 7
[ الجاثية : 24 ] المشار إليه بتساؤلهم عنها لأنه على وجه الاستهزاء والتكذيب ولتقومن(8/309)
صفحة رقم 310
الساعة ؟ أو أنكم لمبعوثون بعد الموت وانتهاء هذه الدار ؟ ثم لمجازون بما عملتم بأسباب موجودة مهيأة بين أظهركم دبرناهم وأوجدناهم حين أوجبنا هذه الحياة الدنيا وإن كنتم لا ترونها كما أن هذه الأمور التي أخبرناكم بها في نزع الأرواح والنبات والمنافع موجودة بين أظهركم والميت أقرب ما يكون منكم وهو تعمل أعمالها .
والمحتضر أشد ما يكون صوتاً وأعظمه حركة إذا هو قد خفت وهمد بعد ذلك الأمر وسكت وامتدت أعضاؤه ومات ، وذهب عنكم قهراً وفات الذي فات كأنه قط ما كان ، ولا تغلب في زمن من الأزمان ، بتلك الأسباب التي تعمل أعمالها وتمد حبالها وترسي أثقالها ، وتلقي أهوالها وأوجالها ، وأنتم لا ترونها ، فيالله العجب أن لا يردكم ذلك على كثرته عن أن تستبعدوا على قدرته تمييز تراب جسد من تراب جسد آخر .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله
77 ( ) يا ليتني كنت تراباً ( ) 7
[ النبأ : 40 ] عند نظره ما قدمت يداه ، ومعانيته من العذاب عظيم ما يراه ، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال ، أتبع ذلك ما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه ، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخرة
77 ( ) وهو أهون عليه ( ) 7
[ الروم : 27 ] وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه ، وإلا فليس عنده سبحانه شيء أهون من شيء
77 ( ) إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ( ) 7
[ يس : 82 ] فقال تعالى : ( والنازعات غرقاً ) [ النازعات : 1 ( إلى قوله : يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة ) [ النازعات : 10 11 ] إذ يستبعدون ذلك ويستدفعونه
77 ( ) فإنما هي زجرة واحدة ( ) 7
[ النازعات : 13 ] أي صحية
77 ( ) فإذا هم بالساهرة ( ) 7
[ النازعات : 14 ] أي الأرض قياماً ينظرون ما قدمت أيديهم ويتمنون أن لو كانوا تراباً ولا ينفعهم ذلك ، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار ، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه
77 ( ) إن في ذلك لعبرة لمن يخشي ( ) 7
[ النازعات : 26 ] انتهى .
ولما أقسم على القيام بتلك الأفعال العظام التي ما أقدر أهلها عليها إلا الملك العلام .
ذكر ما يكون فيه من الأعلام تهويلاً لأمر الساعة لأن النفوس المحسوسات نزاعة ، فالغائبات عندهامنسية مضاعة فقال ناصباً الظرف بذلك المحذوف لأنه لشدة وضوحه كالملفوظ به : ( يوم ترجف ) أي تضطرب اضطراباً كبيراً مزعجاً ) الراجفة ( اي الصيحة ، وهي النفخة الأولى التي هي بحيث يبلغ من شدة إرجافها للقلوب وجميع الأشياء الساكنة من الأرض والجبال إلى نزع النفوس من جميع أهل الأرض مبلغاً تستحق به أن توصف بالعراقة في الرجف ، قال البغوي : وأصل الرجفة الصوت والحركة .(8/310)