صفحة رقم 642
إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال : ( فأولئك ) أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط ) ما عليهم ( وأكد بإثبات الجار فقال : ( من سبيل ) أي عقاب ولا عتاب ، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب رضي اله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : دونك فانتصري ، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئاً ، فرأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتهلل وجه .
ولما نفى السبيل عنه بعد تشوف السامع إلى موضع ما أشعر به الكلام السابق من الظلم ، بين ذلك فقال : ( إنما السبيل ) أي الطريق السالك الي لا منع منه اصلاً بالحرج والعنت ) على ( وجمع إعلاماً بكثرة المفسدين تجرئة على الانتصار منهم وإن كانوا كثيراً فإن الله خاذلهم فقال : ( الذين يظلمون الناس ) أي يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً ) ويبغون ) أي يتجاوزن الحدود ) في الأرض ( بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وفعلاً وعلماً وعملاً .
ولما كان الفعل قد يكون بغياً وإن كان مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه قال : ( بغير الحق ) أي الكامل ولما أثبت عليهم بهذا الكلام السبيل ، كان السامع جديراً بأن يسأل عنه فقال : ( أولئك ) أي البغضاء البعداء من الله ) لهم عذاب أليم ) أي مؤلم بما آلموا من ظلموه من عباد الله بحيث يعم إيلامه وأرواحهم بما لها من المشاعر الظاهرة والباطنة .
ولما أفهم سياق هذا الكلام وترتيبه هكذا أن التقدير : فلمن صبر عن الانتصار أحسن حالاً ممن انتصر ، لأن الخطأ في العفو أولى من الخطأ في الانتقام ، عطف عليه مؤكداً لما أفهمه السياق أيضاً من مدح المنتصر : ( ولمن صبر ( عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى ) وغفر ( فصرح بإسقاط العقاب والعتاب فمحا عين الذنب وأثره : ( إن ذلك ) أي ذلك الفعل الواقع منه البالغ في العلو جداً لا يوصف ) لمن عزم الأمور ) أي الأمور التي هي لما لها من الأهلية لأن يعزم عليها قد صارت في أنفسها كأنها دوات العزم أو متأهلة لأن تعزم على ما تريد ، والعزم : الإقدام على الأمر بعد الروية والفكرة ، قال أبو علي بن الفراء ؛ آيات العفو محمولة على الجاني النادم ، وآيات مدح الانتصار على المصر ، وذلك إنما يحمد مع القدرة على تمام النصرة كما قال يوسف(6/642)
صفحة رقم 643
عليه الصلاة والسلام لإخوته
77 ( ) لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ( ) 7
[ الآية : 92 ] وقال : فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مواطن كثيرة منها الموقف الأعظم الذي وقفه يوم الفتح عند باب الكعبة وقال لقريش وهو تحته كالغنم المطيرة ( ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش ) قالوا : خيراً ، أخ كيرم وابن أخ كريم ، قال ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه فلما رد عليه قام ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : ( يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد مظلم مظلمة فعفى عنها لله إلا أعز الله بها نصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة ) .
ولما بان في هذا الكلام المقتصر على الصبر والجامع إليه الغفر والمقتضي بالنصر أدرجهم كلهم في دائرة الحق ، أتبعه من خرج عن تلك الدائرة ، فقال مخبراً أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن عطفاً على نحو : فمن يهدي الله للوقوف عند هذه الحدود فما له من مضل ، مبيناً بلفظ الجلال أن ما شرعه من الطريق في غاية الوضوح لا يزيغ عنه أحد إلا بطرد عظيم : ( ومن يضلل الله ) أي الذي له صفات الكمال إضلالاً واضحاً بما أفاده الفك بعدم البيان أو بعدم التوفيق لمطلق الصبر أعم من أن يكون الاقتصار على أخذ الحق وبتأخير الحق إلى وقت وبالعفو وبالغفر .
ولما كان الضال عن ذلك لا يكون إلا مجبولاً على الشر ، سبب عنه قوله : ( فما له ) أي في ذلك الوقت ) من ولي ) أي يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله عنه أو التوفيق لما بينه له ) من بعده ) أي من بعد معاملة الله له معاملة البعيد من وكله إلى نفسه وغيره من الخلق في شيء من زمان البعد ولو قل .
ولما كان مبنى أمر الضال على الندم ولو بعد حين ، قال عاطفاً على نحو : فترى الظالمين قبل رؤية العذاب في غاية الجبروت والبطر والتكذيب بالقدرة عليهم ، فهم لذلك لا يرجون حساباً ولا يخافون عقاباً : ( وترى ( وقال : ( الظالمين ( موضع ( وتراهم ) لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه ، ولما كان عذابهم حتماً ، عبر عنه بالماضي فقال : ( لما رأوا العذاب ) أي المعلوم مصير الظالم إليه رؤية محيطة بظاهره وباطنه يتمنون الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة ) يقولون ((6/643)
صفحة رقم 644
أي مكررين مما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل : ( هل إلى مرد ) أي رد إلى دار العمل وزمانه مخلص من هذا العذاب ) من سبيل ( .
الشورى : ( 45 - 48 ) وتراهم يعرضون عليها. .. . .
) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ( ( )
ولما أثبت رؤيتهم العذاب ، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال : ( وتراهم ) أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم ) يعرضون ) أي يجدد عرضهم ويكرر ، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها ايضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم ) عليها ) أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم ) خاشعين ) أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم .
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال : ( من الذل ( لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه .
ولما كان الذل ألواناً ، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر : ( ينظرون ) أي يبتدئ نظرهم المتكرر ) من طرف ) أي تحريك للأجفان ) خفي ( يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطوف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره ، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه ، بل ربما تخليه بأعظم مما هو عليه .
ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو ، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران : ( وقال ) أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع ) الذين آمنوا ) أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الراب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال ، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح(6/644)
صفحة رقم 645
حالهم ، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم ، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا ههذ المواعظ : ( إن الخاسرين ) أي ) وأهليهم ( بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان .
ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها ، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به ، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال : ( يوم القيامة ) أي الذي هو يوم فوت التدراك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء .
ولما كان هذا نهاية الخسارة ، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك ، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار إنكار الظالمين لها من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين : ( ألا إن الظالمين ) أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها ) في عذاب مقيم ( لا يزايلهم أصلاً ، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات ، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء .
ولما كانت العادة جارية بأن من وقع في ورطة وجد في الأغلب ولياً ينصره لأو سبيلاً ينجيه ، قال عاطفاً على ) وتراهم ( أو ( ألا إن ) : ( وما كان ) أي صح ووجد ) لهم ( وأعرق في النفي فقال : ( من أولياء ( فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب الأولى .
ولما كان من يفعل فعل القريب لا يفيد إلا إن كان قادراً على النضرة قال : ( ينصرونهم ) أي يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات لا في الدنيا بأن يقدروا على إنفاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم مما جرى عليهم من العذاب .
ولما كان الله تعالى يصح منه أن يفعل ما يشاء بواسطة أو غيرها قال : ( من دون الله ) أي ما صح ذلك وما استقام بوجه بغيره ، وأما هو فيصح ذلك لمن اتصف بوصفهم كائناً من كان ، فقال بناء على نحو : لأنه هو الذي أضلهم : ( ومن يضلل الله ) أي يوجد ضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان له أو بعدم التوفيق بعد البيان :(6/645)
صفحة رقم 646
) فما له ( بسبب إظلال له جميع صفات الجلال والإكرام ، وأعرق في النفي بقوله : ( من سبيل ) أي تنجية من الضلال ولا مما تسبب عنه من العذب .
ولما كان هذا ، أنتج قطعاً قوله : ( استجيبوا ) أي اطلبوا الإجابة وأوجدوها ، ولفت القول إلى الوصف الإحساني تذكيراً بما يحث على الوفاق ، ويخجل من الخلاف والشقاق ، فقال : ( لربكم ( الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه فيما دعاكم إليه برسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوفاء بعهده في أمره ونهيه ، ولا تكونوا ممن ترك ذلك فتكونوا ممن علم أنه أضله فانسد عليه السبيل .
ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة ، قال مشيراً بالجار إلى أنه يتعد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت : ( من قبل أن يأتي يوم ) أي يكون فيه ما لا يمكن معه فلاح ؛ ثم وصفه بقوله لافتاً إلى الاسم الأعظم الجامع لأوصاف الإحسان والإنعام على المطعين والقهر والانتقام من العاصين : ( لا مرد ) أي لا رد ولا موضع رد ولا زمان رد ) له ( كائن ) من الله ) أي الذي له جميع العظمة وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن مرد من غيره ، ومتى ذاك أنتج قوله : ( ما لكم ( وأعرق في النفي بقوله : ( من ملجأ يومئذ ) أي مكان تلجؤون إليه في ذلك اليوم وحصن تتحصنون فيه من شيء تكرهونه ، وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال : ( وما لكم من نكير ) أي من إنكار يمكنكم به من النجاة لأن الحفظة يشهدون عليكم فإن صدقتموهم وإلا شهدت عليكم أعضاؤكم وجلودكم ، ولا لكم من أحد ينكر شيئاً مما تتجاوزون به ليخلصكم منه .
ولما أنهى ما قدمه في قوله ) شرع لكم من الدين ( نهايته ، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء ، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب : ( فإن أعرضوا ) أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بنا تأيد به من الحجج ، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال : ( فما أرسلناك ( مع ما لنا من العظمة ) عليهم حفيظاً ) أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به .
ولما كان التقدير .
فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً ، وضع موضعه : ( إن ) أي ما ) عليك إلا البلاغ ( لما أرسلناك به ، وأما الهداية والإضلال فإلينا .
ولنا ضمن لهذه الآية ما أرسله له ، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا(6/646)
صفحة رقم 647
حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع ، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله ) يبسط الرزق لمن يشاء ( حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل ، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترئ بأدنى تأنيس على من تجسد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته : ( وإنا إذا أذقنا ( بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها .
ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً ، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال : ( الإنسان ) أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك ) منا رحمة ) أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك ، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ، وكذا عبر بالإنسان فقال : ( فرح بها ) أي ولو أن أهل الأرض كلهم على غير ذلك ، وكذا عبر بالإنسان فقال : ( فرح بها ) أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر ، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة ، فأوقع نفسه في أعظم البلاء .
ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الاصل لعموم رحمته ، وأنها سبقت غضبه ، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها باداة الشك والمضارع فقال : ( وإن ( ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب ، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً ، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال : ( تصبهم سيئة ) أي نقمة وبلاء وشدة .
ولما كانت الرحمة فضلاً منه ، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال : ( بما قدمت أيديهم ( وعبر باليد عن الجملة لأن اكثر العمل بها .
ولما كان الجواب على نهج الأول : حزنوا فكفروا ، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران ، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر ، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا اصل لغيرهما ، فقال مظهراً موصع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو : ( فإن الإنسان ) أي الآنس بنفسه المعرض من غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر ) كفور ) أي يبلغ الستر للنعم نساء له ، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم ، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة ، فإن كان في نعمه أشر وبطر ، وإن كان في نقمه أيس وقنط ، وهذا حال الجنس من حيث هو ، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
وليس ذلك إلا المؤمن ، والآية من الاحتباك : قكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً ، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً .(6/647)
صفحة رقم 648
الشورى : ( 49 - 51 ) لله ملك السماوات. .. . .
) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ( )
ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان ، وغير ذلك من بديع الشأن ، فقال في افتتاح السورة ) كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك ( وأتبعه أشكاله إلى أن قال ) أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك ( الآية ) فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفكسم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً ( - الآية ) له مقاليد السماوات والأرض ( ) الله لطيف بعباده يرزق من يشاء ( ) من كان يريد حرث الآخرة ( - الاية ، ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( ، ) ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام ( - الاية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله ) وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون ( - الآيات ، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام ، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم ، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجاداً وإعداماً إهانة وإكراماً ، فقال صارفاً القول عن أسلوب العظمة التي من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى : ( لله ) أي الملك الأعظم وحده لا شريك له ) ملك السماوات ( كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها ) والأرض ( جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف اقطارها وسكانها واتساعها .
ولما أخبر بانفراده بالملك ، دل عليه بقوله تعالى : ( يخلق ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ) ما يشاء ) أي وأن كان على غير اختيار العباد ، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فانه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم .
كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلاً إلا به .
ولما كانت ولادة الإناث أدل دليل على أنه لا اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال : ( يهب ( خلقاً ومولداً ) لمن يشاء ( أولاداً ) إناثاً ) أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه السلام ، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن(6/648)
صفحة رقم 649
التدبيرات الإلهية ، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية ، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيهاً على أن الأنثى نعمة ، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت ، وإيقاظاً من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيساً وتوصية لهن واهتماماً بأمرهن ، نقل ابن مليق عن ابن عطية عن الثعلبي أن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث ، ولذلك رغب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجراً كبيراً ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له .
ولما كان الذكر حاضراً في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث ، عرف لذلك وجبراً لما فوته من التقديم في الذكر تنبهاً على انه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال : ( ويهب لمن يشاء الذكور ) أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام .
ولما فرغ من القسمين الأولين عطف عليهما قسيماً لهما ودل على أنه قسم بأو فقال : ( أو يزوجهم ) أي الأولاء بجعلهم ازواجاً لأأي صنفين حال كونهم ) ذكراناً وإناثاً ( مجتمعين في بطن ومنفردين كما منح محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورتبها هنا على الأصل تنبيهاً على أنه ما فعل غير ذلك فيما مضى إلا لنكت جليلة فيجب تطلبها ، وعبر في الذكر بما هو ابلغ في الكثرة ترغيباً في سؤاله ، والخضوع لديه رجاء نواله .
ولما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة ، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك ، فقال موضع أن يقال مثلاً : ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء : ( ويجعل من يشاء عقيماً ) أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام - كذا قالوه ، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج ، قال ابن ميلق ، وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر ، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء - انتهى .
فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم ، وأدل على القدرة لأن شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه ، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه السلاة والسلام .
ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويوله له ، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع ، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام ، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام ، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهو أغلب الناس ، فتمت الدلالة على أنه ما شاء(6/649)
صفحة رقم 650
كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن ، ولا مكون له ولا مانع أعطى ولا معطي لما منع .
ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بينت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم ، كانت النتيجة قطعاً لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك : ( إنه عليم ) أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها ) قدير ( شامل القدرة على تكوين ما يشاء .
ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة ، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية ، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب ، وقد يكون بتوسيط سبب ، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر التقدير في القسم الأول الكلام في قلبه قال : ( وما ) أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما ) كان لبشر ( من الأقسام المذكورة ، وحل المصدر الذي هو اسم ( كان ) ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال : ( أن يكمله ( وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال : ( الله ) أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً ) إلا وحياً ) أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلبهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير
77 ( ) وأوحينا إلى أم موسى ( ) 7
[ القصص : 7 ]
77 ( ) وأوحى ربك إلى النحل ( ) 7
[ النحل : 68 ]
77 ( ) وأوحى في كل سماء أمرها ( ) 7
[ فصلت : 12 ] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه - والله أعلم .
وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز : وقد قيل في قوله تعالى ) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ( الآية أي ما يليقه في قلب دون واسطة ، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه : والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة .(6/650)
صفحة رقم 651
ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان ، استعير لمطلق الخفاء فقال : ( أو من ) أي كلاماً بلا واسطة ، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من ) وراء حجاب ) أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر ، قال القشيري : والمحجوب العبد لا الرب ، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية ، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام - انتهى .
والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً ، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً ، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً ، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة .
ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه اخفى القسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات ، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال : ( أو يرسل ( وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله ) رسولاً ) أي من الملائكة .
ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال : ( فيوحي ) أي على سبيل التجديد والترتيب ، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير : أو هو يرسل .
ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله ، رد ذلك بقوله : ( بإذنه ) أي بإقدار وتمكينه ، فذلك المبلغ إنما هو آلة .
ولما كان رسوله لا يخرج عما وحده له بوجه قال : ( ما يشاء ) أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهم المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام : أولها فيه قسمان ، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعه ، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة .
ولما كانت الأقسام دالة على العظمة الباهروة ، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة بالإرادة والحس ، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة : ( إنه ) أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم ) عليّ ) أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً ، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة ) حكيم ( يتقن ما يفعله إتقاناً ر تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كمات كان براً بعد بر ، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال ، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك(6/651)
صفحة رقم 652
السياق ، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء .
الشورى : ( 52 - 53 ) وكذلك أوحينا إليك. .. . .
) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ( ( )
ولما كان الوحي روحاً مدبراً للروح كما أن الروح مدبر للبدن ، صرح به فقال : ( وكذلك ) أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا ) أوحينا إليك ( صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقساك ، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور ، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله : ( أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ) والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً ، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه ، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم ) روحاً ) أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً .
وزاد عظمه بقوله : ( من أمرنا ) أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح ، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياء بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء ، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء ، ودل على ذلك بقوله ، نافياً مبيناً حاله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل هذا الوحي : ( ما كنت ) أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى ) تدري ( وعبر بأداة الاستفهام إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه ، وعلق بجملة الاستنفهام الدارية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدارية ) ما الكتاب ) أي ما كان في جلبتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها ) ولا الإيمان ) أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ، (6/652)
صفحة رقم 653
ولا شك ان الشهادة له نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك ، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه .
ولما كان المعنى : ولكن نحن أدريناك بذلك كله ، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفلعون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله : ( ولكن جعلناه ) أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة ) نوراً يهدي ( على عظمتنا ) به من نشاء ( خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا ) من عبادنا ( بخلق الهداية في قلبه ، قال ابن برجان : فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات ، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور ، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به ، وقال الأصبهاني في سورة النور : هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلاً على اظلرض والجدار وغيرهما ، يقال : استنارت اظلرض ، وقال حجة الإسلام الغوالي ضي الله عنه : ومن المعلوم ان هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لن المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود اليعن الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك ، فكان وصف االاظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم اطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش : إن نور عينيه ضعيف ، وفي العمى انه فقد نور البصر ، غذا ثبت هذا فنقول : للأنسان بصر وبصيرة ، وكل واحد من الإدراكين يقنضي نوراً ، ونور العقل اثوى وأسد من نور العين ، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها ، والقوة العاقلة تدرك نفسها ، وغدراكها وآلتها فتور العقل اكمل من نور البصر ، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها ، وإدراك الكليات أشرف لانه لا يتغير بخلاف الجزئيات ، وغدراك العقل منتج وادراك الجزئي غير منتج ، والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وبطانها فان الباطن والظاهر من جسمه واللون القائم به ، والقوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الظاهر والباطن ، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن ، ومدرك الفوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله ، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شؤرف القوة العاقلة إلى شرف القفوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال ، (6/653)
صفحة رقم 654
والقوة الباصرة كالخدم والقوة العاقلة كالامبير ، والامير أشرف من الخادم ، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط ، إن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور ، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً ، والإدراك العقلي قسمان : أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والالات وهي التعقلات الفطرية ، والثاني ما يكون مكتسباً ، وهي التعقلات النظرية ، ولا يكون منت لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً البتة ، فهذه الأنورا إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب ، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد مكن هاد ومرشد ، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه ، فتكون منزلة ىيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين ، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى :
77 ( ) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ( ) 7
[ التغابن : 8 ] ) قد جاءكم برهان من ربكم (
77 ( ) وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ( ) 7
[ النساء : 74 ] وإذا ثبت أن بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية اعظم في النوراينة من الشمس كما أن الشمس في علم الأجسام العقلية لسائر النفوس البشرية ولا تستفيد النور العقلي من شيء من النفوس البشرية ، فلذلك وصف الله الشمس بأنها سراج ، ووصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه سراج ، قن قال : ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال ، وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منه إلى طشت الشمس ، التي هي المعدن ، وثانيهما في القمر ، وثالثهما في المرآة ، ورابعهما في الماء ، وخامسها في السقف ، وكل من كان أقرب إلى المعدن كان أقوى فكذا الأنوار السماوية لما كانت مترتبة لا جرم كان النور المفيد اشد غشراقاً ، ثم تلك الانوار لا تزال مترتبة المراد بقوله
77 ( ) يوم يقوم الروح والملائكة صفا ( ) 7
[ النبأ : 38 ] ثم نقول : إن هذه الأنوار الحسية سفلية كانت كانوار النيران أو علوية كأنوار فإنها ممكنة لذواتها والممكن لذاته لا يستحق الوجود لذاته بل وجوده من غيره ، والعدم هو الظلمة والوجود هو النور ، فكل ما سوى الله زظلم مستنير بإنارة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها ودجودها حاصل من وجود الله تعالى فإن الحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن(6/654)
صفحة رقم 655
كانت في ظلمات العدم ، وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره ، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف ، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وإن إطلاق النور على غيره مجاز ، وكل ما سوى الله من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معدوم ، والمعدوم مظلم ، فالنور إذا نظر من حيث هو ممكن مظلم ، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه افاض عليها نور بنور ، وأضاف النور إلى الخافقين في قوله ) نور السماوات والأرض ( لأنهما مشحونتان بالأنوار العقلية والأنوار الحسية ، أما الحسية فما نشاهده في السماوات من الكواكب وغيرها ، وفي الأرض من الأشعة المنسبطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت بها الأكوان المختلفة ، ولولاها لما كان للألوان ظهور بل وجود ، وأما الأنوار العقلية فلعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأدنى مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية ، والنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم بأسره كما أنه بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي ، وإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار البصرية الظاهرة والعقلية الباطنة ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض وإن بينها ترتيباً في الغايات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وذلك هو الله وحده لا شريك له ، فإذا الكل نوره ، ثم قال : قال الإمام الغزالي : قد بن أن القوة المدركة أنوار .
ومراتب القوة المدركة الإنسانية خمسة ، أحدهما القوة الحساسة وهي التي تلتقي ما تورده الحواس الخمس ، وكأنها اصل الروح الحواني إذ بها يصير الحيوان حيواناً ، وهي موجودة للصبي والرضيع وثانيها القوة الخيالية وهي التي تسبب ما أوردته الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه عن القوة العقلية عند الحاجة إليه ، وثالثهما القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ، ورابعهما القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً تستنتج منه علماً بالمجهول ، وخامسها القوة القدسية التي يختص بها الأنباء وبعض الأولياء ، وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، إليه إشار قوله ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( الآية ، وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات ، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها(6/655)
صفحة رقم 656
بالأمور الخمسة التي ذكرها الله في المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت ، أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصته وجدت أنواره خارجة من ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين ، فأرتفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة ، وأما الثاني وهو الروح الخيالي فله خواص ثلاثة : الأول أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو شكل وحيز ، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة ، والثاني أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق صار موازناً للمعارف العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني العقلية كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبختم فروج الناس وأفواهم على الأذان قبل الصبح ، والثالث أن الخيال في البداية محتاج إليه لتضبط به المعارف العقلية ولا تضطرب ، وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه من الانطفاء بالزجاج ، واما الثالث وهو القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح ، وأما الرابع وهو القوة الفكرية فمن خاصيتها أنها تأخذ ماهية واحدة ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا : الموجود إما واجب وإما ممكن ، ثم تجعل كل قسم قسمين ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى ما لا يقبل القسمة ، ثم تنتهي بالاخرة إلى نتائج هي ثمرتها ، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم بشجرة السفرجل والتفاح بل بشجرة الزيتون خاصة لأن لب الإشراق وقلة الدخان ، وإذا كانت الماشية التب يكثر دجرها ونسلها والشجرة التي يكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا نهاية لمنفعتها وثمرتها أولى أن تسمى شجرة مباركة ، وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا نهاية لمنفعتها وثمرتها أولى أن تسمى شجرة مباركة ، وإذا كانت شعب الإفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ، فبالحري أن لا تكون شرقية ولا غريبة ، وأما الخامس وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء ، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما تحتاج إلى تعليم وإلى ما لا يحتاج إليه ، ولا بد من وجود هذا القسم دفعاً للتسلسل فبالحري أن يعبر عن هذا القسم لكماله وصفاته بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار ، فهذا المثال موافق لهذه الأقسام ، وهذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض ، فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال ، والخيال كالمقدمة للعقل - انتهى كلام الغزالي رحمه الله تعالى عن نقل الأصفهاني في تفسيره عنه - والله أعلم .
ولما كان المعنى بناء على ما تقدم من صفة الروح الإلهي : فهديناك به ، عطف(6/656)
صفحة رقم 657
عليه قوله تعالى : ( وإنك لتهدي ) أي تبين وترسد ، وأكده لإنكارهم ذلك ) إلى صراط ) أي طريق واضح جداً ، وإن عانيت في البيان مشقة بنفسك وبالوسائط بما أفادته التعدية ب ( إلى ) فيفهم من ذلك أنه يهدي للصراط بدون ذلك من العناية لمن يسر الله أمره ويهدي الصراط لمن هو أعظم توفيقاً من ذلك ) مستقيم ) أي شديد التقوم لأنه كأنه يريد أن يقوم نفسه فهو بعد وجود تقومه حافظ لها من أدنى خلل ، وهو كل ما دعا إليه من خصال هذا الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم أبدل منه تعظيماً لشأنه قوله بدل كل معرفة من نكرة لافتاً القول من مظهر والنقمة ترغيباً وترهيباً : ( صراط الله ) أي الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال ، ثم وصفه بأنه مالك لما افتتح هذا الكلام بأن له ملكه فقال : ( الذي له ( ملك ) ما في السماوات ) أي هو جميع السماوات التي هي في عرشه والأرض لأنها في السموات وما في ذلك من المعاني والأعيان ) وما في الأرض ( .
ولما أخبر سبحانه أنه المخترع لجميع الأشياء والمالك لعالمي الغيب والشهادة والخلق والأمر وأنه المتفرد بالعظمة كلها ، وكان مركوزاً في العقول مغروزاً في الفطر أن من ابتدأ شيئاً وليس له كفوء قادر على إعادته وأن يكون مرجع أمره كله إليه ، فلذلك كانت نتيجة جميع ما مضى على سبيل المناداة على المنكرين لذلك وعداً ووعيداً لأهل الطاعة والمعصية بناء على ما تقديره : كيف يكون له ما ذكر على سبيل الدوام ونحن نرى لغيره أشياء كثيرة تضاف إليه ويوقف تصريفها والتصرف فيها عليه : ( إلا إلى الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل أو مدان وهو الكبير المتعالي ، لا إلى أحد غيره ) تصبر ) أي على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له ، قال أبو حيان : أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله : زيد يعطي ويمنع أي من شأنه ذلك ولا يراد به حقيقة المستقبل : ( الأمور ) أي كلها من الخلق والأمر معنىّ وحساً خفياً في الدنيا بما نصب من الحكام وجعل بين الناس من الأسباب ، وجلياً فيما وراءها حيث قطع ذلك جميعه وحده العزيز الحكيم العلي العظيم ، فقد رجع آخر السورة على اولها ، وانعطف مفصلها على موصلها ، واتصل من حيث كونه في الوحي الهادي في أول الزخرف على أتم عادة لهذا الكتاب المنير من اتصال الخواتم فيه بالبوادي والروائح بالغوادي - والله أعلم بالصواب .
.. . .(6/657)
صفحة رقم 3
سورة الزخرف
الزخرف : ( 1 - 7 ) حم
) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ( )
مقصدوها البشارة بإعلاء هذه الأمة بالعقل والحكمة حتى يكونوا أعلى الأمم في العلم وما ينشأ عنه شأناً لأن هدايتهم بأمر لدني هو من أغرب الغريب الذي هو للخواص ، فهو في الرتبة الثانية من الغرابة وأن ذلك أمر لا بد لهم منه وإن اشتدت نفرتهم منه وإعراضهم عنهوأنه لذكر لك ولقومك حتى تكونوا أهلاً للجنة وفيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، ولم يقل : وهم ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالزخرف لما في آيتها من أنه لو أراد أن يعم الكفر جميع الناس لعمهم بسبوغ النعم ، ولكنه لم يعمهم بذلك ، بل فاوت بينهم فأفقر بعضهم وأكثر بؤسهم وضرهم وفرق أمرهم ، ليسهل ردهم عن الكفر الذي أدتهم إليه طبائعهم وحظوظهم ونقائصهم بما يشهدون من قباحة الظلم والعدوان إلى ما يرونه من محاسن الدين والإيمان ، ولذة الخضوع للملك الديان ، فتخضع لهم الملوك والأعيان ، ويصير لهم الفرقان على جميع أهل العصيان ) بسم الله ( الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعلي من شاء وإن طال سفوله ) الرحمن ( الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده ) الرحيم ( الذي يقبل بمن شاء إلى ما يقربه لديه زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى ) حم ( حكمة محمد التي أوحاها الله إليه .
ولما قدمن آخر تلك أنه جعل ما أوحي إليه ( صلى الله عليه وسلم ) نوراً يهدي به من يشاء ، وكان قد تقرر في السورة الماضية ما له من الجلالة بأناه تنزيله ، وختم بأنه لا أمر يخرج عنه سبحانه(7/3)
صفحة رقم 4
إشارة إلى أنه يردهم عن غيبهم وكانوا يمكرون أن يرجعوا ، فاقتضى الحال غاية التأكيد ، وكان إقسام الله تعالى بالأشياء إعلاماً بجلالة ما فيها من الحكم وتنبيهاً على النظر فيما أودعها من الأسرار التي أهلها للإقسام بها ، افتتح هذه بتعظيم هذا الوحي بالإقسام به حثاً على تدبر ما فيه من الوجوه التي أوجبت أن يكون قسما ًثم تعظيم أثره .
فقال : ( والكتاب ) أي وإعجاز هذا الجامع لكل خير وغير ذلك من أنواع عظمته ) المبين ) أي البين في نفسه ، المبين لجميع ما فيه من العظمة والشرائع والسنن ، واللطائف والمعارف والمنن ، بياناً عظيماً شافياً .
ولما كانوا ينكرون أن يرجعوا به عما هم فيه ، وأن يكون من عند الله ، أكد ما يكذبهم من قوله فيما مضى آخر الشورى أنه نور وهدىً وروح معبراً بالجعل لذلك دون الإنزال لأنه قددل عليه جميع السور الماضية تارة بلفظه وأخرى بلفظ الوحي ، فقال مقسماً بالكتاب على عظمة الكتاب ، قال السمين : ومن البلاغة عندهم كون القسم والمقسم عليه من واد واحد ، وهذا إن أريد بالكتاب القرآن فإن أريد به أعم منه كان بعض القئم به ، وصرف القول إلى مظهر العظمة تشريفاً للكتاب : ( إنا جعلناه ) أي صيرناه ووضعناه وسميناه مطابقة لحاله بالتعبير عن معانيه بما لنا من العظمة ) قرآناً ) أي مع كونه مجموع الحروف والمعاني جامعاً ، ومع كونه جامعاً فارقاً بين المتبسات ) عربياً ) أي جارياً على قوانين لسانهم في الحقائق والمجازات والمجاز فيه أغلب لأنه أبلغ ولا سيما اللكنايات والتمثيلات ، وصرف القول عن تخصيص نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب إلى خطابهم تشريفاً له ( صلى الله عليه وسلم ) ولهم فيما يريده بهم وتنبيهاً على سفول أمرهم في وقت نزولها فقال : ( لعلكم تعقلون ) أي لتكونوا أيها العرب على رجاء عند من يصح منه رجاء من أن تعقلوا أنه من عندنا لم تبغوا له أحداً علينا وتفهموا معانيه وجميع ما في طاقة البشر مما يراد به من حكمه وأحكامه ، وبديع وصفه ومعجز وصفه ونظامه ، فترجعوا عن كل ما أنتم فيه من المغالبة ، ولا بد أن يقع هذا الفعل ، فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ، ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق ، وسيبلغ هذا الجامع أقصاكم كما عرض على أدناكم وكل منكم يعلم أنه عاجز عن مباراة آية منه في حسن معناها ، وجزالة ألفاظها وجلالة سبكها ، ونظم كل كلمة منها بالمحل الذي لا يمكن زحزحتها عنه بتقديم ولا تأخير ، ولا أن يبدل شيء منها بما يؤدي معناه أو يقوم مقامه ، كما أن ذلك في غاية الظهور في موازنة
77 ( ) في القصاص حياة ( ) 7
[ البقرة : 179 ] مع ( القتل أنفى للقتل ) وذلك بعض آية فكيف بآية فما فوقها فتخضع له جبابرة ألبابكم وتسجد له جباه عقولكم .
وتذل لعظزته شوامخ أفكاركم ، فتبادرون إلى تقبله وتسارعون إلى حفظه وتحمله .(7/4)
صفحة رقم 5
علماً منكم بأنه فخر لكم لا يقاربه فخر ، وعز لا يدانيه عز ، ثم يتأمل الإنسان منكم من خالفه فيه من بعيد أو قريب ولد أو والد إلى أن تدين له الخلائق ، وتتصاغر لعظمته الجبال الشواهق ، والآية ناظرة إلى آية فصلت
77 ( ) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا ( ) 7
الآية ) فصلت : 44 ] .
ولما كانوا ينكرون تعظيمه عناداً وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات ، قال مؤكداً لذلك وتنبيهاً على أنه أهل لأن يقسم به ، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبه ، بل ولا يدانيه بوجه : ( وإنه ) أي القرآن ، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتماماً بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده ) في أم الكتاب ) أي كائناً في أصل كل كتاب سماوي ، وهو اللوح المحفوظ ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال مرتباً للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده ) لدينا ( على ما هو عليه هناك ) لعليّ ( .
لوما كان العلي قد يتفق علوه ولاتصحبه في علوه حكمة ، فلا يثبت له علوه ، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه ، قال : ( حكيم ) أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخاً لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه ، ولا يبارى في حكيم معناه ، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره ، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء ، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء ، إلا بتفهيم العلي الكبير ، الذي هو على كل شيء قدير .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير ، لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله :
77 ( ) وإن الذين أورثوا الكتاب في بعدهم لفي شك منه مريب ( ) 7
[ الشورى : 14 ] ووصى نبيه صلى الله عليه وسمل بالتبري من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال
77 ( ) ولا تتبع أهواهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ( ) 7
الآية [ الشورى : 15 ] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله
77 ( ) وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً ( ) 7
[ الشورى : 7 ] وقوله
77 ( ) الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ( ) 7
[ الشورى : 17 ] وقوله ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ( - إلى آخر السورة ، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال ) حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ( ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به ، أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده ورحمتهم وبكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال : ( أفنضرب عنكم الذكر(7/5)
صفحة رقم 6
صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين ( ولما قدم في الشورى قوله ) لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً ( فأعلم أن ذلك إنما يكون بقدرته وإرادته ، والجاري على هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار ، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال ) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ( فكمل الواقع هنا بما تعلق به ، وكذلك قوله تعالى ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( وقوله في الزخرف ) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ( إلى آخره - انتهى .
ولما أفهم تكرير هذا التأكيد أنهم يطعنون في علاه ، ويقدحون في بديع حلاه ، فعل من يكره ويأباه ، إرادة للإقامة على ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، قال منكراً عليهم : ( أفنضرب ) أي نهملكم فنضرب أن ننحي ونسير مجاوزين ) عنكم ( خاصة من بين بني إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) الذكر ) أي الوعظ السمتلزم للشرف ) صفحاً ) أي بحيث يكون حالنا معكم حال المعرض المجانب بصفحة عنقه ، فلا نرسل إليكم رسولاً ، ولا ننزل معه كتاباً فهو مفعول له أي نضرب لأجل إعراضنا عنكم ، أو يكون ظرفاً بمعنى جانباً أي نضربه عنكم جانباً ، قال الجامع بين العباب والمحكم ، أضربت عن الشيء : كففت وأعرضت ، وضرب عنه الذكر وأضرب عنه : صرفه ، وقال الإمام عبد الحق في الواعي : والأصل في ضرب عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابته فأراد أن يصرفه عن جهته ضربه بعصاه ليعدله عن جهته إلى الجهة التي يريدها ، فوضع الضرب في موضع الصرف والعدل ، قال الهروي : قال الأزهري : يقال : ضربت عنه وأضربت بمعنىّ واحد ، ونقل النواوي عنه أنه قال : إن المجرد قليل ، فالحاصل أن الضرب إيقاع الشيء على آخر بقوة ، فمجرده متعد إلى واحد ، فإن عدي إلى آخر ب ( عن ) ضمن معنى الصرف ، وإذازيدت همزة النقل فقيل : أضربت عنه ، أفادت الهمزة قصر الفعل ، وأفهمت إزالة الضرب ، فمعنى الآية : أفنضرب صارفين عنكم الذكر صفحاً ، أي معرضين إعراضاً شديداً حتى كأنا ضربنا الذكر لينصرف عنكم معرضاً كإعراض من ولى إلى صفحة عنقه ، ثم علل إرادتهم هذا الإعراض بما يقتضي الإقبال بعذاب أو متاب فقال : ( إن ) أي أنفعل ذلك لأن ) كنتم قوماً مسرفين ) أي لأجل أن كان الإسراف جبلة لكم وخلقاً راسخاً ، وكنتم قادرين على القيام به في تكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والقدح فيما يأتي به والاستهزاء بأمره بترككم خشية من شدتكم أو رجاء من غير تذكير لتوبتكم وقد جعل حينئذ المقتضى مانعاً ، فإن المسرف أجدر بالتذكير وأحوج إلى الوعظ ، هذا(7/6)
صفحة رقم 7
إن كان مقرباً ، وأما البعيد فإنه لا يلتفت إليه من أول الأمر ، بل لو أراد القرب طرد ، وعلى قراءة نافع وحمزة والكسائي بكسر ( إن ) على كونها شرطية يكون الكلام مسبوقاً على غاية ما يكون من الإنصاف ، فيكون المعنى : أنترككم مهملين فننحي عنكم الذكر والحال أنكم قوم يمكن أن تكونوا متصفين بالإسراف ، يعني أن المسرف أهل لأن يوعظ ويكلم بما يرده عن الإسراف ، وأنتم وإن ادعيتم أنكم مصلحون لا تقدرون أن تدفعوا عنكم إمكان الإسراف فكيف يدعف عنكم إنزال الذكر الواعظ وأنتم بحيث يمكن أن تكونوا مسرفين فتحتاجون إليه - هذا ما لا يفعله حكيم في عباه ، بل هو سبحانه للطفه وزيادة بره ل ايترك دعاء عباده إلى رحمته وإن كانوا مسرفين قد أمعنوا في الشراد ، والجحد والعناد ، فيدعوهم بأبلغ الحجة ، وهو هذا القرآن الذي هو أشرف الكتاب على لسان هذاالنبي الذي هو أعظم الرسل ليهتدي من قدرت هدايته وتقوم الحجة على غيره .
ولما كان المعنى أن لا نترككم هملاً ، كان كأنه قيل : هيهات منكم فلنرفعنكم كما رفعنا بني إسحاق من إسرائيل وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، فلقد أرسلنا إليكم مع أنكم أعلى الناس رسولاً هو أشرفكم نسباً وأزكاكم نفساً وأعلاكم همة وأرجحكم عقلاً وأوفاكم أمانة وأكرمكم خلقاً وأوجهكم عشيرة ، فعطف قوله تأنيساً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتأسية وتعزية وتسلية : ( وكم أرسلنا ) أي على ما لنا من القدرة على ذلك والعظمة الباهرة المقتضية لذلك .
ولما كان الإرسال يقع على أنحاء من الأشكال ، ميزه بأن قال : ( من نبي في الأولين ( ثم حكى حالهم الماضية إشارة إلى استمرار حال الخلق على هذا فقال : ( وما ) أي والحال أنه ما ) يأتيهم ( وأغرق في النفس بقوله : ( من نبي ) أي في أمة بعد أمة بعد أمة وزمان بعد زمان ) إلا كانوا ) أي خلقاً وطبعاً وجبلة ) به يستهزءون ( كما استهزأ قومك ، وتقديم الظرف للإشارة إلى أن استهزاءهم به لشدة مبالغتهم فيه كأنه مقصور عليه .
الزخرف : ( 8 - 13 ) فأهلكنا أشد منهم. .. . .
) فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( ( )(7/7)
صفحة رقم 8
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به ، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة ، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به ، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال : ( فأهلكنا ( وكان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال : ( أشد منهم ) أي من قريش الذي يستهزئون بك ) بطشاً ( من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى .
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عن الإهلاك كان أضعف حال حال ليعتبر هؤلاء فقال : ( ومضى مثل الأولين ) أي وقع إهلاك الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم ، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء ، فإن الحال أدى إلى انهم أضعف من الأضعف من بين العنكبوت فينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة .
ولما كان التقدير : فلئن سألتهم عمن سمعوا بخبره ممن ذكرناهم من الأولين ليعترفن بما سمعوا من خبرهم لأنا لم نجعل لهم على المباهتة فيه جرأة لما طبعناهم عليه في أغلب أحوالهم من الصدق ، عطف عليه قولهم مبيناً لجهلهم بوقوعهم في التناقض مؤكداً له لما في اعترافهم به من العجب المنافي لحالهم : ( ولئن سألتهم ( أيضاً عما هو أكبر من ذلك وأدل على القدرة ، وجميع صفات الكمال فقلت لهم : ( من خلق السموات ( على علوها وسعتها ) والأرض ( على كثرة عجائبها وعظمتها ) ليقولن ) أي من غير توقف .
ولما كان السؤال عن المبتدأ ، كان الجواب المطابق ذكر الخبر ، فكان الجواب هنا : الله - كما في غيره من الآيات ، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية لافتاص القول عن مظهر العظمة إلى ما يفيد من الأوصاف القدرة على كل شيء ، وأنه تعالى يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء مكرراً للفعل تأكيداً لاعترافهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظيم غلطهم ، فقال معبراً بما هو لازم لاعترافهم له سبحانه بالتفرد بالإيجاد لأنه أنسب الأشياء لمقصود السورة وللإنابة التي هي مطلعها .
) خلقهن ( الذي هو موصوف بأنه ) العزيز العليم ) أي الذي يلزم المعترف بإسناد هذا الخلق إليه أن يعترف بأنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء وأن علمه محيط بكل شيء ، فيقد على إيجاده على وجه من(7/8)
صفحة رقم 9
البداعة ثم على أكمل منه ثم أبهج منه وهلم جرا إلى ما لا نهاية له - هذا هو الأليق بكمال ذاته وجليل صفاته ، ونعوذ بالله من عمى المعتزلة والفلاسفة أصحاب الأذهان الجامدة والعقول الكاسدة والعرب لجهلهم يعبدون مع اعترافهم بهذا غيره ، وذلك الغير لا قدرة له على شيء أصلاً ، ولا علم له بشيء أصلاً ، فقد كسر هذا السؤال بجوابه جحتهم ، وبان به غلطهم وفضيحتهم ، حتى بان لأولي الألباب أنهم معاندون .
ولما كان جوابهم بغير هاتين الصفتين ودل بذكرهما على أنهما لا زمان لاعترافهم تنبيهاً لهم على موضع الحجة ، أتبعهما من كلامه دلالة على ذلك قوله التفاتاً إلى الخطاب لأنه أمكن في التقريع والتوبيخ والتشنيع وتذكيراً لهم بالإحسان الموجب للإذعان وتفصيلاً للقدرة : ( الذي جعل لكم ( فإنه لو كان ذلك قولهم لقالوا لنا ) الأرض مهداً ) أي فراشاً ، قارة ثابتة وطية ، ولو شاء لجعلها مزلزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال ، أو جعلها مائدة لا تثبت لكونها على تيار الماء ، ولما جعل الأرض قراراً لأشباحكم جعل الأشباح قراراً لأرواحكم وطوقها حمل قرارها وقوة التصرف به في حضورها وأسفارها ليدلكم ذلك على تصرفه سبحانه في الكون وتصريفه له حيث أراد ، وأنه الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن الذي لا أبطن منه ، قال القشيري : فإذا انتهى مدة كون النفوس على الأرض حكم الله بخرابها ، كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكلية قضى الله بخرابها ، وأعاد الفعل تنبيهاً على تمكنه تعالى من إقامة الأسباب لتيسير الأمور الصعاب إعلاماً بأنه لا يعجزه شيء : ( وجلع لكم فيها سبلا ) أي طرقاً تسلكونها بين الجبال والأودية ، ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ، ثم ذكر العلة الغائبة في ذلك فقال : ( لعلكم تهتدون ) أي ليكون خلقنا لها كذلك جاعلاً حالكم حال من يرجى له الهداية إلى مقاصد الدنيا في الأٍفار وغيرها ظاهراً فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة للأمور الرافقة النافعة ، فإنها إذا تكرر سلوكها صار لها من الآثار الناشئة من كثرة التكرار ما يهدي كل مار وإلىالمقاصد الأخرى وحكمتها باطناً إذا تأمل الفطن حكمة مسخرها وواضعها وميسرها .
ولما كان إنزال الماء من العلو في غاية العجب لا سيما إذا كان في وقت دونه وقت ، وكان إنبات النبات به أعجب ، وكان دالاً على البعث ولا بد ، وكان مقصود السورة أنه لا بد من ردهم عن عنادهم بأعظم الكفران إلى الإيمان ، والخضوع له بغاية الإذعان ، قال دالاً على كمال القدرة على ذلك وغيره بالتنبيه على كمال الوصف بالعطف وبإعادة الموصول الدال على الفاعل المذكر بعظمته للتنبيه على أن الإعادة التي هذا(7/9)
صفحة رقم 10
دليلها هي سر الوجود ، فهي أشرف مما أريد من الآية الماضية بمهد الأرض وسلك السبل : ( والذي نزل ) أي بحسب التدريج ، ولولا قدرته الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها ) من السماء ) أي المحل العالي ) ماء ( عذباً لزروعكم وثماركم وشربكم بأنفسكم وأنعامكم ) بقدر ( وهو بحيث ينفع الناس ولا يضر بأن يكون على مقدار حاجاتهم ، ودل على عظمة الإنبات بلفت القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أنه الدليل الظاهر على ما وصل به من نشر الأموات فقال مسبباً عن ذلك : ( فأنشرنا ) أي أحيينا ، والمادة تدور على الحركة والامتداد والانبساط ) به ) أي الماء ) بلدة ) أي مكاناً يجتمع الناس فيه للإقامة معتنون بإحيائه متعاونون على دوام إبقائه ) ميتاً ) أي كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحى به ، ولعله أنت البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في العضف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه وقحط الزمان واضمحلال ما كان به من النبات .
ولما كان لا فرق بين جمع الماء للنبات من أعماق الأرض بعد أن كان تراباً من جملة ترابها وإخراجه كما كان رابياً يهتز بالحياة على هيئته وألوانه وما كان من تفاريعه أغصانه بأمر الله وبين جميع الله تعلى لما تفتت من أجساد الآدميين وإخراجه كما كان بروحه وجميع جواهره وأعراضه إلا أن الله قادر بكل اعتبار وفي كل وقت بلا شرط أصلاً ، والماء لا قدرة له إلا بتقدير الله تعالى ، كان فخراً عظيماً لأنتنتهز الفرصة لتقدير ما هم له منكرون وبه يكفرون من أمر البعث ، فقال تعالى إيقاظاً لهم من رقدتهم بعثاً من موت سكرتهم : ( كذلك ) أي مثل هذا الخراج العظيم لما تشاهدونه من النبات ) تخرجون ( من الموت الحسي والمعنوي بأيسر أمر من أمره تعالى وأسهل شأن فتخرجون في زمرة الأموات من الأرض ثانياً
77 ( ) فإذا أنتم بشر تنتشرون ( ) 7
[ الروم : 20 ] وتخرجون من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان فإذا أنتم حكماء عالمون .
ولما انتهزت هذه الفرصة ، وسوغ ذكرها ما أثره سوء اعتقادهم من عظيم الغصة ، شرع في إكمال ما يقتضيه الحال من الأوصاف ، فقال عائداً إلى أسلوب العزة والعلم للإيمان إلى الحث على تأمل الدليل على بعث الأموات بانتشار الموات معيداً للعاطف تنبيهاً على كمال ذلك الوصف الموجف التحقيق مقصود السورة من القدرة على ردهم بعد صدهم : ( والذي خلق الأزواج ) أي الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود ) كلها ( من النبات والحيوان ، وغير ذلك من سائر الأكوان ، لم يشاركه في شيء منها أحد .(7/10)
صفحة رقم 11
ولما ذكر الأزواج ، وكان المتبادر إلى الذهب إطلاقها على ما هو من نوع واحد ، دل على أن المراد ما هو أعم ، فقال ذاكراً ما تشاكل في الحمل وتباين في الجسم : ( وجعل لكم ( لا لغيركم فاشكروه ) من الفلك ) أي السفن العظام في البحر ) والأنعام ( في البر ) ما تركبون ( وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك .
ولما ذكر النعمة الناشئة عن مطلق الإيجاد ، ذكر بنعمة الراحة فيه فقال معللاً : ( لتستووا ) أي تكونوا مع الاعتدال والاستقرار والتمكن والراحة ) على ظهوره ) أي ظهور كل من ذلك المجعول ، فالضمير عائد على ما جمع الظهر نظراً للمعنى تكثيراً للنعمة ، وأفرد الضمير رداً على اللفظ دلالة على كمال القدرة بعظيم التصريف براً وبحراً أو تنبيهاً بالتذكير على قوة المركوب لأن الذكر أقوى من الانثى .
ولما أتم النعمة بخلق كل ما تدعو إليه الحاجة ، وجعله على وجه دال على ما له من الصفات ، ذكر ما ينبغي أن يكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم ، فقال دالاً على عظيم قدر النعمة وعلو غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي : ( ثم تذكروا ) أي بقلوبكم ، وصرف القول إلى وصف التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال : ( نعمة ربكم ( الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونها من غيرها .
ولما كان الاعتدال عليه أمراً خارفاً للعادة بدليل ما لا يركب من الحيوانات في البر والجوامد في البحر وإن كان قد أسقط العجب فيه كثرة إلفه ذكر به فقال : ( إذا استويتم عليه ( ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال : ( وتقولوا ) أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان .
ولما كان الاستواء على ذلك مقتضياً لتذكر النقص بالاحتياج إليها في بلوغ ما ركبت لأجله وفي الثبات عليها وخوف العطب منها وتذكر أن من لا يزال يحسن إلى أهل العجز الذين هم في قبضته ابتداء وانتهاء من غير شيء يرجوه منهم لا يكون إلا بعيداً من صفات الدناءة وأن استواءه على عرشه ليس كهذا الاستواء المقارن لهذه النقائص وأنه ليس كمثله شيء ، كان المقام للتنزيه فقال : ( سبحان الذي سخر ) أي بعلمة الكامل وقدرته التامة ) لنا هذا ) أي الذي ركبناه سفينة كان أو دابة ) وما ) أي والحال أنا ما ) كنا ( ولما كان كل من المركوبين في الواقع أقوى من الركاب ، جعل عدم إطاقتهم له وقدرتهم عليه كأنه خاص به ، فقال مقدماً للجار دلالة على ذلك : ( له مقرنين ) أي ما كان في جبلتنا إطاقة أن يكون قرناً له(7/11)
صفحة رقم 12
وحده لخروج قوته من بين ما نعالجة ونعانيه عن طاقتنابكل اعتبار ولامكافئين في القوة غالبين ضابطين ، مطيقين من أقرن الأمر : أطاقه وقوي عليه فصار بحث يقرنه بما شاء .
الزخرف : ( 14 - 18 ) وإنا إلى ربنا. .. . .
) وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ( )
ولما كان كل راكب شيئاً من هذين الصنفين مستحضراً كل حين أنه ينقل بطن شقة أسفاره إلى محل قراره ، ذكرهم سبحانه بذلك أن ظهر هذه الأرض لهم مثل ظهور السفن والدواب يسبحون بها في لجج أمواج الزمان وتصاريف الحدثان ، هم على ظهرها مسافرون ، ولكنهم لطول الإلف عنه غافلون ، وقليلاً ما يذكرون ، وأنهم على خطر فيما صاروا إليه من ظهور هذه الأشياء يوشك أن يكون سبب موتهم ومثير هلكهم وقتهم ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن ربنا كان ابتداؤنا لا نعلم شيئاً ولا نقدر على شيء ، والآن نحن متى شئنا ساكنون ، ومهما أردنا منتشرون ) وإنا إلى ربنا ( المحسن إلينا بالبداءة والإقرار على هذه التنقلات على هذه المراكيب لا إلى غيره ) لمنقلبون ) أي لصائرون ومتوجهون وسائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار ، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي ، وأكد لأجل إنكارهم للبعث حتى لا يزالوا مراقبين للمنعم عليهم ، ويجوز أن يكون المعنى أنه لما أمرهم بالمراقبة على نعمة الركوب ، عبر بالانقلاب تذكيراً بنعمته عليهم في حال الدعة والسكون قبل الانقلاب وبعده ، أي وإنا بعد رجوعنا إلى نعمة ربنا لمنقلبون أي وإنا في نعمة في كل حال ، روى أحمد وأبو داود والترمذي - وقال : حسن صحيح - والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه وضع رجله في الركاب وقال : بسم الله ، فملا استوى على الدابة قال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا - الآية ، ثم حمد الله ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال : سبحانك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، ثم شحك ، وأخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعل مثله ، وقال : ( يعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ) روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أردفه على دابة ، فلما استوى عليها كبر ثلاثاً وحمد الله ثلاثاً وسبح ثلاثاً وهلل الله واحدة(7/12)
صفحة رقم 13
ثم استلقى عليه فضحك ثم أقبل علي فقال : ( ما من امرىء مسلم يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك ) وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا ركب راحلته ثلاثاً ثم قال : ( سبحان الذي سخر لنا هذا الآية ) ، ثم يقول : ( اللهم إني أسألك في سفري هذاالبر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصبحنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا ) ، وكان إذا رجع إلى أهله قال : ( آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربينا حامدون ) وروى أحمد عن أبي لاس الخزاعي رضي الله عنه قال : يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه ، فقال : ( ما من بيعد إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل ) .
ولما علم بهذا الاعتراف منه وما تبعه من التقريب أن العالم كله متزاوج بتسخير بعضه لبعض ، فثبت أن خالقه مباين له لا يصح أصلاً أن يكون محتاجاً بوجه لأنه لا مثل له أصلا ، كان موضع التعجيب من نسبتهم الولد إليه سبحانه : فقال لافتاً القول عن خطابهم للإعراض المؤذن بالغضب : ( وجعلوا ) أي ولئن سألتهم ليقولن كذا اللازم منه قطعاً لأنه لا مثل ) له ( والحال أنهم نسبوا له وصيروا بقولهم قبل سؤالك إياهم نسبة هم حاكمون بها حكماً لا يتمارون فيه كأنهم تمكنون من ذلك تمكن الجاعل فيه يجعله ) من عباده ( الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم ) جزءاً ) أي ولداً هو لحصرهم إياه في الأنثى أحد قسمي الأولاد ، ولد فهو جزء من والده ، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذكل لقولهم : الملائكة بنات الله ، فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم .
ولما كان هذا في غاية الغلظة من الكفر ، قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم(7/13)
صفحة رقم 14
كفر : ( إن الإنسان ) أي هذا النوع الذي هم بعضه ) لكفور مبين ) أي مبين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر بياناً لذلك لكل أحد هذا ما يقتضيه طبعه بما هو عليه من النقص بالشهوات والظهوظ ليبين فضل من حفظه الله بالعقل على من سواه من جميع المخلوقات بمجاهدته لعدو وهو بين جنبيه مع ظهور قدرة الله الباهرة بذلك .
ولما كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتهكماً بهم حيث لم يرضوا بأن جعلوا لمن إليه الجعل من عباده جزءاً حتى جعلوه شر الجزئين الإناث ، وهم أشد الناس نفرة منهن : أوهل له ذلك الجزء الذي جعلتموه إناثاً غيره قسراً بحيث لم يقدر أن ينفك عنه كما قدم في السورة التي قبله ن نفسه المقدس أنه يهب لمن يشاء إناثاً ولا يقدر على التقصير عنهن بوجه ، عادله بقوله عائداً إلى الخطاب لأنه أعقد في التبكيت على اختيار الغي عن الصواب : ( أم اتخذ ) أي عالج هو نفسه فأخذ بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم ) مما يخلق ) أي يجدد إبداعه في كل وقت كما اعترفتم ) بنات ( فلم يقدر بعد التكليف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزئين إليكم ، ونكر لتخصيصهم اتخاذه ببعض هذا الصنف الذي شاركه فيه غيره ، وعطف على قوله ( اتخذ ) ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار : ( وأصفاكم ( وهو السيد وأنتم عبيده ) بالبنين ) أي الجزء الأكمل لديكم المستحق لأن يكون دائماً مستحضراً في الخاطر فلذلك عرفه ولأنهم ادعوا أن هذا النوع كله خاص بهم لم يشاركهم في شيء منه ، فكان هذا الكفر الثاني أعرق في المحال من الأول للزيادة على مطلق الحاجة بالسفه في أنه رضي بالدون الخسيس فلم يشاركهم في شيء من الأعلى ، بل جعل لهم ذلك خالصاً صافياً عن أدنى ما يشوبه من كدر .
ولما كانت نسبة الولد إليه سبحانه مما لا يبنغي أن يخطر بالبال على حال من الأحوال .
وكانت نسبته على سبيل الحقيقة أبعد منها على طريق المثال بأن يقال : الملائكة عنده في العزة بمنزلة البنات عند الأب ، قال مرشداً إلى أن ما قالوه لو كان على قصد التمثيل في غاية القباحة فضلاً عن أن يكون على التحقيق ، عائداً إلى الإعراض المؤذن بالمقت والإبعاد .
) وإذا ) أي جعلوا ذلك والحال أنه إذا ) بشر ( من أي مبشر كان ) أحدهم ( أطلق عليه ذلك تنبيهاً على أنه مما يسر كالذكر سواء في أن كلاً منهما ولد وتارة يسر وتارة يضر وهو نعمة من الخالق لأنه خير من العقم ) بما ضرب ( وعدل عن الوصف بالربوبية لأنه قد يدعى المشاركة في مطلق التربية إلى الوصف الدال على عموم الرحمة ، فتأمله بمجرده كاف في الزجر عن سوء قولهم فقال : ( للرحمن ) أي الذي لا نعمة على شيء من الخلق إلا وهو منه ) مثلاً ) أي جعل له شبهاً وهو الأنثى ، وعبر به دونه أن يقول : بما جعل ، موضع ( بما ضرب ) تعليماً للأدب(7/14)
صفحة رقم 15
في حقه سبحانه في هذه السورة التي مقصودها العلم الموجب للأدب وزيادة في تقبيح كفرهم لا سيما إن أرادوا الحقيقة بالإشارة إلى أن الولد لا يكون إلا مثل الوالد ، لا يتصور أصلاً أن يكون خارجاً عن شبهه في خاص أوصافه .
ولما كان تغير الوجه لا سيما بالسواء لا يدرك حق الإدراك إلا بالنهار ، عبر بما هو حقيقة في الدوام نهاراً وإن كان المراد هنا مطلب الدوام : ( ظل ) أي دام ) وجه مسوداً ) أي شديد السواد لما يجد من الكراهة الموصلة إلى الحنق بهذه البشارة التي أبانت التجربة عن أنها قد تكون سارة ) وهو كظيم ) أي حابس نفسه على ما ملئ من الكرب فكيف يأنف عاقل من شيء ويرضاه لعبده فضلاً عن مكافيه فضلاً عن سيده - هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به .
ولما كان الملك لا يأخذ في جنده إلا من يصلح للجندية بالمجالدة والمجادلة أو بإحداهما ، نبه على إنكار آخر بأن الإنثا لا يصلحن لشيء من هذين الوصفين ، فقال معبداً لإنكار الثالث تنبيهاً على أنه بالغ جداً في إثارة الغضب : ( أو من ) أي اتخذ من لا يرضونه لأنفسهم. . .
لنفسه مع أنفتهم منه واتخذ من ) ينشؤا ) أي على ما جرت به عوائدكم على قراءة الجماعة ، ومن تنشؤونه وتحلونه بجهدكم على قراءة ضم الباء وتشديد الشين ) في الحلية ) أي في الزينة فيكون كلا على أبيه لا يصلح لحرب ولا معالجة طعن ولا ضرب ) وهو ) أي والحال أنه ، وقدم لإفادة الاهتمام قوله : ( في الخصام ( إذا احتيج إليه ) غير مبين ) أي لا يحصل منه إبانة مطلقة كاملة لما يريده لنقصان العقل وضعف الرأي بتدافع الحظوظ والشهوات وتمكن السعة ، فلا دفاع عنده بيد ولا لسان .
الزخرف : ( 19 - 23 ) وجعلوا الملائكة الذين. .. . .
) وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ( ( )
ولما كان ربما ظن أن المحذور إنما هو جعلهم عيهم السلام إناثاً بقيد النسبة إليه سبحانه ، نبه على أن ذلك قبيح في نفسه مطلقاً لدلالته على احتقارهم وانتقاصهم فهو كفر ثالث إلى الكفرين قبله : نسبة الولد إليه سبحانه ثم جعل أخص النوعين ، فقال :(7/15)
صفحة رقم 16
) وجعلوا ) أي مجترئين على ما لا ينبغي لعاقل فعله ) الملائكة الذين هم ( متصفون بأشرف الأوصاف أنهم ) عباد الرحمن ( العامة النعمة الذي خلقهم فهم بعض من يتعبد له وهم عباده وحقيقة لأنهم ما عصوه طرفه عين ، فهم أهل لأن يكونوا على أكمل الأحزوال ، وقراءة ( عند ) بالنون شديدة المناداة عليهم بالسفه ، وذلك أن أهل حضرة الملك الذين يصرفهم في المهمات لا يكونون إلا على أكمل الأحوال وعنديته أنهم لم يعصوه قط وهم محل مقدس عن المعاصي مشرف بالطاعات وأهل الاصطفاء ، وذكر المفعول الثاني للجعل الذي بمعنى التعبير الاعتقادي والقول فقال : ( إناثاً ( وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وذاتاً وصفة ، ثم دل على كذبهم في هذا المطلق ليدل على كذبهم في المقيد من باب الأولى فقال تهكماً بهم وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم إظهاراً لفساد عقولهم بأن دعاويهم مجردة عن الأدلة : ( أشهدوا ) أي حضروا حضوراً هم فيه على تمام الخبرة ظاهراً وباطناً - هذا هو معنى قراءة الجماعة ، وأدخل نافع همزة التوبيخ على أخرى مضمومة بناء الفعل للمفعول تنبيهاص على عجزهم عن شهود ذلك إلا بمن يشهدهم إياه ، وهو الخالق لا غيره ، ومدها في إحدى الرايتين زيادة في المادة عليهم بالفضيحة ، وسهل الثانية بينها وبين الواو إشارة إلى انحطاط أمرهم وسفول آرائهم وأفعالهم ، وجميع تقلباتهم وأحوالهم كما سيكشف عنه الزمان ونوازل الحدثان ) خلقهم ) أي مطلب الخلق في أصله أو عند الولادة أو بعدها على حال من الأحوال حضوراً أوجب لهم تحقق ما قالوا بأن لم يغيبوا عن شيء من ألأحوال الدالة على ذلك أعم من أن تكون تلك الشهادة حسية بنظر العين أو معنوية بعلم ضروري أو استدلالي بعقل أو سمع .
ولما كان الجواب قطعاًك لا ، قال مهدداً لهم مؤكداً لتهديدهم بالسين لظنهم أن لا بعث ولا حساب ولا حشر ولا نشر فقال : ( ستكتب ( بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به - هذا على قراءة التهديد في قراءة النون المفيدة للعظمة والبناء للفاعل ونصب الشهادة ) شهادتهم ) أي قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة ، فهو قول ركيك سخيف ضعيف - بما أشار إليه التأنيث في قراءة الجماعة ) ويسألون ( عنها عند الرجوع إلينا ، ويجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ولاعلم لهم به ، فإنه قد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب(7/16)
صفحة رقم 17
الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبح الله أو يستغفر ) رواه الشعبي والبغوي من طريقه والطبراني والبيهقي من طريق جعفر عن القاسم عن أبي أمامة والبيهقي من رواية بشر بن نمير عن لقاسم نحوه وأبو نعيم في الحلية وابن مدويه من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عورة بن رويم عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه ، وروى الحاكم وقال : صحيح الإسناد عن أم عصمة العوصية رضي الله تعالى عنها قال : ( ما من مسلم يعمب ذنباً إلا وقف الملك ثلاث ساعات ، فإن استغفر من ذنبه لم يوقعه عليه ولم يعذب يوم القيامة ) .
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة ، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم ، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه ، : ( وقالوا ) أي بع دعبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله : ( لو شاء الرحمن ) أي الذي له عموم الرحمة ) ما عبدناهم ( لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته ، فعبادتنا لهم حق ، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة .
ولما كان كأنه قيل : بماذا يجابون عن هذا ، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع : ( ما لهم بذلك ) أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به ، ومن أن الملائكة إناث ، وأكد الاستغراق بقوله : ( من علم ) أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال ، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق ، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً ، وهو بديهي الاستحالة .
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك : ( إن هم ( أي(7/17)
صفحة رقم 18
ما هم ) إلا يخرصون ) أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ، والذين جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر ، فكان أكثر قولهم كذباً ، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح ، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى ) قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال ، مطابقاً لمقتضى الحال ، وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات : ادعاء الولدية للغني المطلق ، وكون الولد أدنى الصنفين ، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل ، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول ، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجميع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به .
ولما كان الإيمان بالملائكة الذين هم جند الملك من دعائم أصول الدين ، وكان الإيمان بالشيء إن لم يكن على ما هو عليه الشيء ولو بأدنى الوجوه كان مختلاً ، وأخبر سبحانه أنهم وصفوهم بغير ما هم عليه ففرطوا بوصفهم بالبنات حتى الأمرين من صريح العقل بما أشار إليه ما مضى ، أتبع ذلك أنهم عريئون أيضاً من صحيح النقل ، فقال معادلاً لقوله ) أشهدوا خلقهم ( إنكاراً عليهم بعد إنكار ، موجباً ذلك أعظم العار ، لافتاً القول عن الوسف بالرحمة تنبيهاً بمظهر العظمة على أن حكمه تعالى متى برز لم يسع سامعة إلا الوقوف عنده والامتثال على كل حال وإلا حل به أعظم النكال : ( أم آتيناهم ( بما لنا من العظمة ) كتاباً ) أي جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه ) من قبله ) أي القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلناهم إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به ) فهم ) أي فتسبب عن هذا الإيتاء أنهم ) به ) أي وحده ) مستمسكون ) أي موجودون الاستمساك به وطالبون للثبات عليه في عبادة غير الله ، وفي أن ذلك حق لكونه لم يعاجلهم بالعقوبة ، وفي وصفهم الملائكة بالأنوثة ، وفي غير ذلك من كل ما يرتكبونه باطلاً ، والإنكار يقتضي نفي ما دخل عليه من إيتاء الكتاب كما انتفى إشهاده لهم خلقهم ، وهذه المعادلة التي لا يشك فيها من له بصر بالكلام تدل على صحة كون الإشارة في ) ما لهم بذلك من علم ( شاملة لدعواهم الأنوثة في الملائكة .(7/18)
صفحة رقم 19
ولما كان الجواب قطعاً عن هذين الاستفهامين : ليس لهم ذلك على مطلق ما قالوا ولا مقيده من صريح عقل ولا صحيح نقل إلى من يصح النقل عنه من أهل العلم بالأخبار الإلهية ، نسق عليه قوله إرشاداً إليه : ( بل قالوا ) أي في جوابهم عن قول ذلك واعتقاده مؤكدين إظهاراً جهلاً أو تجاهلاً لأن ذلك لم يعب عليهم إلا لظن أنه لا سلف لهم أصلا فيه ، فإذا ثبت أنه عمن تقدمهم انفصل النزاع : ( إنا وجنا آباءنا ) أي وهم أرجح منا عقولاً وأصبح أفهاماً ) على أمة ) أي طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم مثل رحلة بمعنى شيء هو أهل لأن يرحل إليه ، وكذا قدوة ونحوه .
وقراءة الكسر معناها حالة حسنة يحق لها أن تؤم ) وإنا على آثارهم ) أي خاصة لا على غيرها ونحن في غاية الاجتهاد والقص للآثار وإن لم نجد عيناً نتحققها .
ولماعلم ذلك من حالهم ، ولم يكن صريحاً في الدلالة على الهداية ، بينوا الجار والمجرور ، وأخبروا بعد الإخبار واستنتجوا منه قولهم استئنافاً لجواب من سأل : ( مهتدون ) أي نحن ، فإذا ثبت بهذا الكلام المؤكد أنا ما أتينا بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار ، فلا اعتراض علينا بوجه ، هذا قوله في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك ، ولو ظهر ألأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أي مخالفة ، ما هذا إلا لمحض الهوى وقصور النظر ، وجعل محطه الأمر الدنيوي الحاضر ، لا نفوذ لهم في المعاني بوجه .
ولما كان ترك المدعو للدليل واتباعه للهوى غائظاً موجعاً ومنكئاً مولماً ، قال يسليه ( صلى الله عليه وسلم ) عاطفاً على قوله : ( وكذلك ) أي ومثل هذا الفعل المتناهي في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ ثم فسر ذلك بقوله : ( ما أرسلنا ( مع ما لنا من العظمة .
ولما كانت مقالة قريش قد تقدمت والمراد التسلية بغيرهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين فلا أمة لغيره في زمانه ولا بعده يسليه بها ، سلاه بمن مضى ، وقدم ذكر القبلية اهتماماً بالتسلية وتخليصاً لها من أن يتوهم أنه يكون معه في زمانه أو بعده نذير ، وإفهاماً لأن المجد لشريعته إنما يكون مغيثاً لأمته وبشيراً لا نذير لثباتهم على الدين بتصديقهم جميع النبيين فقال تعالى : ( من قبلك ) أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً ، فإن التسلية بالأقرب أعظم ، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في ( سبأ ) لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم .
ولما كان أهل القرى أقرب إلى العقل وأولى بالحكمة والحكم ، قال :(7/19)
صفحة رقم 20
) في قرية ( وأعرق في النفي بقوله : ( من نذير ( وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء ) إلا قال مترفوها ) أي أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الطريق يكون خاصة بالمترف ، وذلك موجب للقلة وهو موجب للراحة والبطالة الصارف عن جهد الاجتهاد إلى سفالة التقليد ، وهو موجب لركون الهواء ولو بان الدليل ، وهو موجب للبغي والإصرار عليه واللجاجة فيه والتجبر والطغيان ، ومعظم الناس في الأغلب أتباع لهؤلاء : ( إنا وجنا آباءنا ) أي وهم أعرف منا بالأمور ) على أمة ) أي أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم وطريقة ودين ، وأكدوا قطعاً لرجاء المخالف من لفتهم عن ذلك ) وإنا على آثارهم ( لا غيرها ، ثم بينوا الجار والمجرور وأخبروا خبراً ثانياً واستأنفوا لإتمام مرادهم قولهم إيضاحاً لأن سبب القص القدوة : ( مقتدون ) أي مستنون أي راكبون سنن طريقهم لازمون له لأنهم مقتدون لأن تقدم عليهم ، وحالنا أطيب ما يكون في الاستقامة وأقرب وأسرع .
الزخرف : ( 24 - 28 ) قال أولو جئتكم. .. . .
) قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : فقال كل نذير : فما أصنع ؟ أجاب بقوله : ( قل ) أي يا أيها النذير - هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة ابن عامر وحفص وعاصم يكون التقدير أن السامع قال : فما قال النذير في جوابهم ؟ فأجيب بقوله : قال إنكاراً عليهم : ( أولو ) أي أتقتدون بآبائكم على كل حال وتعدونهم مهتدين ولو ) جئتكم ( والضمير فيه للنذير ، وفي قراءة أبي جعفر : أو لو جئتكم للنذر كلهم ) بأهدى ) أي أمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة ) ما وجدتم ) أي أيها المقتدون بالآباء ) عليه آباءكم ( كما تضمن قولكم أنكم تقنفون في اتباعهم بالآثار في أعظم الأشياء ، وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى من التصرف فيها من طريقهم ولو بأمر يسير ، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل ، فيا له من نظر ما أقصره ، ومتجر ما أخسره .
ولما كان من المعلوم أن النذر قالوا لهم ما أمروا به ؟ فتشوف السامع إلى جوابهم لهم ، أجيب بقوله : ( قالوا ( مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل : ( إنا بما أرسلتم به ) أي أيها(7/20)
صفحة رقم 21
المدعون للإرسال من أي مرسل كان ، ولو ثبت ما زعمتموه من الرسالة ولو جئتمونا بما هو أهدى ) كافرون ) أي ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعهم فيه مخلوق .
ولما علم بهذا أن أمرهم وصل إلى العناد المسقط للاحتجاج ، سبب عنه قوله موعظة لهذه الأمة وبياناً لما خصها به من الرحمة : ( فانتقمنا ) أي بما لنا من العظمة التي استحقوا بها ) منهم ) أي بسبب التعرف لذلك وبالاستفهام إشارة إلى أن ذلك أمر هو جدير لعظمه بخفاء سببه فقال : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) المكذبين ) أي إرسالنا فإنهم هلكوا أجمعون ، ونجا المؤمنون أجمعون ، فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك .
ولما ذكر لهم الأدلة وحذرهم بالأخذ وتحرر أنهم مع التقليد لا ينفكون عنه ، ذكرهم بأعظهم آبائهم ومحط فخرهم وأحقهم بالاتباع للفوز بأتباع الأب في ترك التقليد أو في تقليده إن كان لا بد لهم من التقليد لكونه أعظم الآباء ولكونه مع الدليل ، فقال عاطفاً على ما تقديره للإرشارة إلى تأمله وإمعان النظر فيه : اذكر لهم ذلك : ( وإذ ) أي واذكر لهم حين ) قال ( أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم ) إبراهيم لأبيه ( من غير أن يقلده كما أنتم قلدتم آبائكم ، ولما كانت مخالفة الواحد للجمع شديدة ، ذكر لهم حاله فيها بياناً لأنهم أحق منهم بالانفكاك عن التقليد ) وقومه ( الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض كما قلت : إنا لكم سواء ولما كانوا لا يتخيلون أصلاً أن أحداً يكون مخالفاً لهم ، أكد بالحرف وإظهار نون الوقاية فقال : ( إنني ( وزاد بالنعت بالمصدر الذي يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره لكونه مصدراً وإن وقع موقع الصفة باللفظ الدال على أنه مجسد من البراءة جعله على صورة المزيد لزيادة التأكيد فقال : ( براء ( ومن ضمه جعله وصفاً محضاً مثل طوال في طويل ) مما تعبدون ( في الحال والاستقبال مهما كان غير من اشتبه ، فإنهم كانوا مشركين فلا بد من الاستثناء ومن كونه متصلاً ، قال الإمام أبو علي الحسن بن حييى بن نصر الجرجاني في كتاب بيان نظم القرآن ما حاصله : سر قول السلف أن الكلمة هنا أي الآية في قوله كلمة باقية ) لا إله إلا الله ( أن النفي والتبرئة واحد فإنني براء بمنزلة لا ، وقوله ) مما تعبدون ( بمنزلة إله إذا كل معبود يسمى إلهاً فآل ذلك إلى : لا إله ) إلا الذي فطرني ( قال : فقد ضممت بهذا التأويل إلى فهمك الأول الذي استفدته من الخبر فهم المعرفة الحقيقية الذي أفاد له طباعك بالعبرة ، ونبه(7/21)
صفحة رقم 22
بالوصف بالفطر على دليل اعتقاده أي الذي شق العدم فأخرجني منه ثم شق هذه المشاعر والمدرك ، ومن كان بهذه الباهرة كان منفرداً بالعظمة .
ولما كان الله سبحانه - وله المنّ - قد أنعم بعد الإيجاد بما أشار إليه من العقل والحواس المهيئ ، للهداية من غير طلب ، فكان جديراً بأن يمنح قاصده بأعظم هداية قال مسبباً عن قطعه العلائق من سواه ، مؤكداً لأجل من ينكر وصوله إلى حد عمي عنه أسلافه ) فإنه سيهدين ) أي هداية هي الهداية إلى ما لاح لي من الحقائق من كل ما يصلحني لتوجهي إليه وتوكلي عليه ، لا مرية عندي في هذا الإعتقاد ، وقد أفاد بهذه المقترنة بالسين هدايته في الاستقبال بعد أن أفاد بقوله المحكي في الشعراء ) فهو يهدين ( الهداية في الحال وكأنه خص هذا بالسين لأجل ما عقبها به من عقبه ، فجعل هدايتهم هدايته ) وجعلها ) أي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة التي هي التوحيد بدليله ) كلمة باقية في عقبه ) أي ذريته دعا وهو مجاب الدعوة في قوله : ( وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( وفي قوله ) ومن ذريتي ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ( : ( لعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم حال من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة وأعوجاج حال من يرجى رجوعه ، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه ، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به ( إذ ) أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليداً لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر فتضمن لمتبعها حتماً تمام النصر ، وفي سوقه المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين : صنفاً يرجع وآخر لا يرجع .
الزخرف : ( 29 - 32 ) بل متعت هؤلاء. .. . .
) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( ( )
ولما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم : يا رب بل رجعوا ، أجيب بقوله : ( بل ) أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغاً عظيماً ، واستمروا في(7/22)
صفحة رقم 23
ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني ) متعت ( بإفراده ضميرهم سبحانه لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهراً ولا باطناً سواه وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي
77 ( ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ( ) 7
[ القلم : 45 ] ) هؤلاء ) أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين ) وآباءهم ( فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان ، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم ، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي ، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل ) حتى جاءهم الحق ( بهذا الدين المتين ) ورسول مبين ) أي أمره ظاهر في نفسه ، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره ف نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه ، و ) متعت ( بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب لأنه يدعو انتهازاً للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول : يا رب قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره .
ولما كان التقدير : فلم يردهم التمتيع بإدرار النعم عليهم وإسراعنا بها إليهم مع وضوح الأمر لهم ، بل كان الإنعام عليهم سبباً لبطرهم ، وكان البطر سبباً لتماديهم على الاستعانة بنعمتنا على عصيان أمرنا وهم يدعون أنهم أتبع الناس للحق وأكفهم عن الباطل ، عطف عليه قوله ؛ ) ولما جاءهم الحق ) أي الكامل في حقيته بمطابقة الواقع إياه من غير إلباس ولا اشتباه ، الظاهر في كماله لكل من له أدنى لب بما عليه القرآن من الإعجاز في نظنه ، وما عليه ما يدعو إليه من الحكمة من جميع حكمه ، والتصادق مع ما يعلمونه من دين إبراهيم عليه(7/23)
صفحة رقم 24
الصلاة والسلام قبل أن يبدلوه ومن أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسالم من التوحيد ، زادوا على تلك الغفلة التي أدى إليها البطر بالنعمة ما هو شر من ذلك وهو التكذيب بأن ) قالوا ( مكابرة وعناداً وحسناً وبغياً من غير وقفة ولا تأمل : ( هذا ( مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع ، فلا شيء أثبت منه وهو القرآن وغيره مما أتى به من دلائل العرفان ) سحر ) أي خيال لا حقيقة له ، ولما كان الحال مقتضياً من غير شك ولا وقفة لمعرفتهم لما جاء به وإذعانهم له قالوا مؤكدين لمدافعه ما ثبت في النفوس من ذلك : ( وإنا به كافرون ) أي عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع .
ولما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملاً بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر زيادة وإمعاناً فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال : ( وقالوا ( لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة ، وكذا من بعده من أولاده فلم تيهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي لا يسأل عما يفعل ، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم : ( لولا ) أي هل لا ولولا .
ولما كان إنزال القرآن نجوماً على حسب التدريج ، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا : ( نزل ) أي من المنوزل الذي ذكره محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم ) هذا القرآن ) أي الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وادعى أنه جامع لكل خير ، ففيه إشارة إلى التحقير ) على رجل من القريتين ) أي مكة والطائف ، ولم يقل : إحدى - اغتناء عنها بوحدة رجل ) عظيم ) أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن شأن الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية ، ويعلمون أن للملك المرسل له ( صلى الله عليه وسلم ) الغني المطلق لكنهم جهلوا - مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه - أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما ، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل ، فقد جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطاً للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار .
ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك ، قال منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً إليهم ولا موقوفاً عليهم بل هو إلى الله وحده
77 ( ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( ) 7
[ الأنعام : 124 ] ) أهم ) أي أهؤلاء الجهلة العجزة ) يقسمون ) أي على التجدد والاستمرار : ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تشريفاً له وإظهاراً لعلي قدره : ( رحمت ربك ) أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال ، وجعلك وأنت ألفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف المتاع الزائل بمثل ذلك .
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جواباً لمن كأنه قال : فمن القاسم ؟ دالاً على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء ن قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم ، لافتاً القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة(7/24)
صفحة رقم 25
إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد : ( نحن قسمنا ) أي بما من العظمة ) بينهم ) أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم ) معيشتهم ( التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة ) في الحياة الدنيا ( التي هي أدنى الأشياء عندنا ، وإشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل ، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود ، وبها سعادة الدارين : ( ورفعنا ( بما لنا من نفوذ الأمر ) بعضهم ( وإن كان ضعيف البدن قليل العقل ) فوق بعض ( وإن كان قوياً عزيز العقل ) درجات ( في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود ، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع ، والمعارف والبضائع ، ويكون كل ميسر لما خلق له ، وجانحاً إلى ما هي له لتعاطيه ، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره وترتقي فوق منزلته .
ولما ذكر ذلك ، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال : ( ليتخذ ) أي بغاية جهده ) بعضهم بعضاً ( ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به ، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال : ( سخرياً ) أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للأآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه ، فهذا بماله ، وهذا بأعماله ، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش ، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة ، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا ، قال ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة - انتهى .
وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفاً القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهاراً لشرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ورحمة ربك ) أي المربي لك ولمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرك رحمة ) خير مما يجمعون ( من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه ، فهذا بالنسبة إلى النبوة ، وما قارنا مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش .
الزخرف : ( 33 - 39 ) ولولا أن يكون. .. . .
) وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ(7/25)
صفحة رقم 26
الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) 73
( ) 71
ولما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء ، وكان التقدير : فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأراذل ابتلاء للعباد ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد ، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم ، وعطف : عليه قوله مذكراً بلطفه بالمؤمنين وبره لهم برفعه ما يقضتي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة : ( ولولا أن يكون الناس ) أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم ) أمة واحد ) أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله ) لجعلنا ) أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت ، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين .
ولما كان تزيين الظرف دائماً بحسب زينة المظروف ، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل ، فقال مبدلاً من ) لمن ( بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع : ( لبيوتهم ) أي التي ينزلونها ) سقفاً ) أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعاً ) من فضة ( كأنه خصها لإفادتها النور ) ومعارج ) أي من فضة ، وهي المصاعد من الدرج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ) عليها يظهرون ) أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي ) ولبيوتهم أبواباً ) أي من فضة أيضاً .
ولما كان إفراد السرير يوهم أنه واحد يدار به على الكل ، جمع ليفهم أن لكل واحد ما يخصه من الأسرة بخلاف السقف فإنه لال يهوم ذلك فلعله قرئ بإفراد وجمعه ، فقال : ( وسرراً ( بالجمع خاصة ، ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتها(7/26)
صفحة رقم 27
وأحوالهم بقوله : ( عليها يتكئون ( ودل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله : ( وزخرفاً ) أي هذباً وزينة عامة كاملة .
ولما كان لفظ الزخرف دالاً على كون ذلك أمراً ظاهرياً متلاشياً عند التحقيق ، دل عليه بقوله مؤكداً لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك ، وما كان مقرراً عندهم من أن السعيد في الأول سعيد في الآخرة على تقدير كونها : ( وإن ) أي وما ) كل ذلك ) أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا ، ولأن صاحبه لا يزال فقيراً وإن استوسقت له الدنيا ملكاً وملكاً ، لأنه لا بد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبوناً ) لما ) أي إلا - هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد : وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة ، وما مؤكدة والخبر هو ) متاع الحياة الدنيا ) أي التي اسمعها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة ، وهو منقطع بالموت ، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب ) والآخرة ( التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي .
ولما كانت الإضافة إلى الجليل دالة على جلالة إليه فقال : ( عند ربك ( وأشار بالوصف بالرب إلى أن الجلالة بالحسن والراحة ، وبالإضافة إليه ( صلى الله عليه وسلم ) في أعلى الغايات ) للمتقين ) أي الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم ، وهذا ملا ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الأخرى ) ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة من الجبابرة من زخرفة الأبنية وتركيب السقوف وغيرها من مساوئ الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة بالكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول : الله ، وفي الزمن الدجال من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنهم لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة ، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك .
ولما كان التقدير : ولكنا لم نجعل ذلك علماً منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة لأن من وسع عليه في دنياه اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين ، فساقه ذلك إلى كل سوء ، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده(7/27)
صفحة رقم 28
بملك فهو له معين ، عطف عليه قوله معبراً عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصوراً لم نينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيراً عن ذلك ) من يعش ) أي يفعل فعل المعاشي ، وهو من شاء بصره بالليل والنهار أو عمي على قراءة شاذه وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزاً ) عن ذكر الرحمن ( الذي عمت رحمته ، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك ، وهو شيء يسير جداً ، فأعرضوا عن الآية والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشي بصره ) نقيض ) أي نقرر ونسلط ونقدر عقاباً ) له ( على إعراضه عن ذكر الله ) شيطاناً ) أي شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً محيطاً به مضيقاً عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل ) فهو له قرين ( مشدود به كما يشد الأسير ، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله ، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى ، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير ، فذكر الله حصن حصين من الشطيان ، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث ، قال في القاموس : العشى مقصور : سوء البصر بالليل والنهار أو العمى ، عشى كرضى ودعا ، والعشوة بالضم والكسر : ركوب الأمر على غير بيان ، قال ابن جرير : وأصل العشو النظر بغير ثبت لعلة في العين ، وقال الرازي في اللوامع : وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء .
ولما كانت ) من ( عامة ، وكان القرين للجنس ، وأفرده لأنه نص على كل فرد ، فكان التقدير : فإنهم ليحملونهم على أنواع الدنايا ويفتحون لهم أبواب الرذائل والبلايا ، ويحسنون لهم ارتكاب القبائح والرزايا ، عطف عليه قوله مؤكداً لما في أنفس الأغلب .
كما أشار إليه آخر الآية - أن الموسع عليه هو المهتدي .
جامعاً دلالة على كثرة الضال : ( وإنهم ) أي القرناء ) ليصدونهم ) أي العاشين ) عن السبيل ) أي الطريق الذي من حاد عنه هلك ، لأنه لا طريق في الحقيقة سواه .
ولما كانت الحيدة عن السبيل إلى غير سبيل ، بل إلى معاطب لا يهتدي فيها دليل ، عجباً ، أتبعه عجباً آخر فقال : ( ويحسبون ) أي العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ : ( أنهم مهتدون ) أي عريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين .(7/28)
صفحة رقم 29
ولما كان من ضل عن الطريق ، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب ضم إلى العجبين الماضيين عجباً ثالثاً بياناً له على ما تقديره : ونملي لهذا العاشي استدراجاً له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته ) حتى ( وحقق الخبر بقوله : ( إذا ( ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس ، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد ، فكان التعبير به أهول ، وكان السياق دالاً على من الضمير له قال : ( جاءنا ) أي العاشي ، ومن قرأ بالتثنية أراد العاشي والقرين ) قال ) أي العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل : ( يا ليت بيني وبينك ( أيها القرين ) بعد المشرقين ) أي ما بين المشرق والمغرب على التغليب - قاله ابن جرير وغيره ، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ؛ ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام : ( فبئس القرين ) أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني غلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض وأحسست في هذا الوقت بذلك الذي كنت تؤذيني به أنه أذى بالغ ، فكنت كالذي يحك جسمه لما به من قروح متأكلة حتى يخرج منه الدم فهو في أوله يجد له لذة بما هو مؤلم له في نفسه غاية الإيلام .
ولما كان الإيلام قد يؤذي الجسد ، وكان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق فيقال لهم : فلن ينفعكم ذلك اليوم يوم جئتمونا إذ تمنيتهم هذا التمني حين عاينتم تلك الأهوال اشتراككم اليوم في يوم الدنيا في الظلم وتمالؤكم عليه منافرة بعضكم لبعض ، عطف عليه قوله : ( ولن ينفعكم اليوم ) أي في الدنيا شيئاً من نفع أصلاً ) إذ ( حين ) ظلمتم ( حال كونكم مشتركين في الظلم متعاونين عليه متناصرين فيه ، واحد منكم يقول لصاحبه سروراً به وتقرباً إليه وتودداً : يا ليت أنا لا نفترق أبدالً فنعم القرين أنت ، فيقال لهم توبيخاً : ( أنكم في العذاب ) أي العظيم ، وقدمه اهتماماً بالزجر به والتخويف منه ) مشتركون ) أي اشتراككم فيه دائماً ظلمكم أنفسكم ظلماً باطناً بأمور أخفاها الطبع على القلوب وهو موجب للارتباك في أشراك المعاصي الموصلة إلى العذاب الظاهر يوم التمني ويوم القيامة عذاباً ظاهراً محسوساً ، وذلك كمن يجرح جراحة بالغة وهو مغمي عليه فهو معذب بها قطعاً ، ولكنه لا يحس إلا إذا أفاق فهو كما تقول أناس يريدون أن يتمالؤوا على قتل نفس محرمة : لن ينفعكم اليوم إذا تتعاونون على قتله اشتراككم غداً في الهلاك بالسجن الضيق والضرب المتلف وضرب الأعناق ، مرادك بذلك زجرهم عن ظلمهم بتذكيرهم بأنهم يصلون إلى هذا الحال ويزول ما هم فيه من المناصرة فلا ينفعهم شيء منها - والله الموفق ، فالآية من الحتباك ، وبه زال عنها ما كان من إعراب المعربين لها موجباً للرتباك ( فيا ليت ) - إلى آخره ، دال على تقدير ضده ثانياً ( ولن ينفعكم ) - إلى آخره ، دال على تقدير مثله أولاً .(7/29)
صفحة رقم 30
الزخرف : ( 40 - 45 ) أفأنت تسمع الصم. .. . .
) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( ( )
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الإرادة لإقبالهم يكاد يقتل نفسه أسفاً إدبارهم ، وكان هذا الزجر الذي لا يسمعه من له أدنى عقل إلا خلع قلبه فرجع عن غيره وراجع رشده قد تلا عليهم فلم ينتفعوا به ، فكان كأنه قيل : إن هؤلاء لصم عمي محيط بهم الضلال إحاطة لا يكادون ينفكون عنه من كل جانب ، فلا وصول لأحد إلى إسماعهم ولا تبصيرهم ولا هدايتهم ، قال بانياً عليه مسبباً عنه تخفيفاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يقاسي من الكرب في المبالغة في إبلاغهم حرصاً على إقبالهم والغم من إعراضهم بهمزة الأنكار الدالة على نفي ما سيقت له : ( أفأنت ) أي وحدك من غير إرادة الله تعالى ) تسمع الصم ( وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء ) أو تهدي العمي ( الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية البلادة والخسارة ، فصار ما اختارون لأنفهسم من العشى عمياً مقروناً بصممهم ) ومن كان ) أي جبلة وطبعاً ) في ضلال مبين ) أي بين في نفسه أن ضال وأنه محيط بالضلال مظهر لكل أحد ذلك ، فهو بحيث لا يخفى على أحد ، فالمعنى : ليس شيء من ذلك إليك ، بل هو إلى الله القادر على كل شيء ، وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ .
ولما كان هذا كالمؤيس منهم ، وكان اليأس من صلاح الخصم موجباً لتمني الراحة منه بموت أحدهما ، سبب عن التقديرين قوله مبيناً أن الإملاء لهم ليس لعجز عنهم ولا لإخلاف في الوعد ، مؤكداً بالنون و ( ما ) ثم ( أنا ) والاسمية لمن يظن خلاف ذلك ، ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) مشرف عنده سبحانه وتعالى معظم لديه فذهابه به مما يستبعد ، ومن حقه أن ينكر ، وكذا إراءته ما توعدهم به لأن المظنون إكرامهم لأجله : ( فإما نذهبن بك ) أي من بين أظهرهم بموت أو غيره ) فإنا منهم ) أي الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لأنهم لن تنفعهم مشاعرهم ) منتقمون ) أي بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم ) أو نرينك ( وأنت بينهم ) الذي وعدناهم ) أي من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه فيعم ) فإنا ( بما تعلم من عظمتنا التي أنت أعلم الخلق بهم ) عليهم مقتدرون ( على كلا التقديرين ، وأكد ب ( أن ) لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته ، وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال ، وأحد هذين التقديرين سبق العلم الأزلي بأنه لا يكون ، فالآية من أدلة القدرة على المحال(7/30)
صفحة رقم 31
لغيره وهي كثيرة جداً ، وقد أكرم الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسمل عن أن يريه شيئاً يكرهه في أمته حتى قبض .
ولما أوقف سبحانه السامع بهاتين الشرطيتين بين الخوف والرجاء لبيان الاستبداد بعلم الغيب تغليباً للخوف ، وأفهم السياق وإن كان شرطاً أن الانتقام منهم أمر لا بد منه ، وأنه لا قدرة لأحد على ضرهم ولا نفعهم إلا الله ، سبب عنه قوله : ( فاستمسك ) أي أطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال الإمساك ) بالذي أوحي إليك ( من حين نبوتك وإلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره .
ولما كان المقام لكثرة المخالف محتاجاً إلى تأكيد يطيب خواطر الأتباع ويحملهم على حسن الابتاع ، علل ذلك بقوله : ( إنك على صراط ) أي طريق واسع واضح جداً : ( مستقيم ( موصول إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج ، فإذا فعلت ذلك لم يضرك شيء من نقمتهم .
ولما أثبت حسنه في نفسه المتقضي للزومه ، عطف عليه نفعه لهم .
وأكد لإنكارهم فقال : ( وإنه ) أي الذي أوحى إليك في الدنيا ) لذكر ) أي شرف عظيم جداً وموعظة وبيان ، عبر عن الشرف بالذكر للتنبيه على أن سببه الإقبال على الذكر وعلى ما بينه وشرعه والاستمساك به والاعتناء بشأنه : ( لك ولقومك ( قريش خصوصاً والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم من جهة نزوله على واحد منهم وبلسانهم ، فكان سائر الناس تبعاً لهم ومن جهة إيراثه الطريقة الحسنى والعلوم الزاكية الواسعة وتأثيره الظهور على جميع الطوائف والإمامة لقريش بالخصوص كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان ما أقاموا الدين ) فمن أقام هذا الدين كان شريفاً مذكوراً في ملكوت السماوات والأرض ، قال ابن الجوزي : وقد روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا سئل : لمن هذا الأمر ، من بعدك ، لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : لقريش - وهذا يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن ، وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية بشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم - انتهى .
ولما كان التقدير : فسوف تشرفون على سائر الملوك وتعلمون ، عطف عليه قوله :(7/31)
صفحة رقم 32
) وسوف تسألون ) أي تصيرون في سائر أنواع العلم محط رحال السائلين دنياً ودنيا بحيث يسألكم جميع أهل الأرض من أهل الكتاب ومن غيرهم عما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم لما يعتقدون من أنه لا يوازيكم أحد في العلم بعد أن كنتم عندهم أحقر الأمم ضعفاً وجهلاً كما وقع لبني إسرائيل حيث رفعهم الله ، وكان ذلك أبعد الأشياء عند فرعون وآله ، ولذلك كانوا يتضاحكون استهزاء بتلك الآيات وينسبون الآتي بها إلى ما لا يليق بمنصبه العالي من المحالات ، وتسأولن عن حقه وأداء شكره وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له ، وهذا بوعد صادق لا خلف فيه أصلاً .
ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أجى إليها الجهل ، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق ، فكان التقدير إبطالاً لشبهتهم الوهمية القائلة ) لو شاء الرحمن ما عبدناهم ( : فاستحضر جميع ما اوحى إليك وتأمله غاية التأمل ، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله ، عطف عليه قوله نفياً لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله ) أم آتيناهم كتاباً ( ) واسأل من أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة .
ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء ، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان : ( من قبلك ( ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة ، عبر بالرسل فقال : ( من رسلنا ) أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها ، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرؤوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وببنت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشاببها إلى محكمها ، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس
77 ( ) فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ( ) 7
[ رقم : 94 ] ومن آي الأنبياء
77 ( ) هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ( ) 7
[ رقم : 24 ] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم ، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له ، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال : إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له ( صلى الله عليه وسلم ) في بيت المقدس ليلة الإسراء ، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه ، فإنهم إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم ، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى
77 ( ) فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( ) 7
[ النساء : 59 ] وقالك ومعلوم أن معنى(7/32)
صفحة رقم 33
ذلك : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب .
وهو عين ما قلته ، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال ( قبلك ) بإسقاط ( من ) ليستغرق الكل - والله أعلم .
ولما ذكر المسؤول مفخماً له مبا اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه ، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى : ( أجعلنا ) أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة ، مما ينافي ذلك ، وقرر حقارة ما سواه بقوله : ( من دون ( وزاد بقوله : ( الرحمن ) أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات ) آلهة ( ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً ، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت ، قال محترزاً : ( يعبدون ) أي من عابد ما بوجه ما .
ولما كان المترفون مولعين بأن يزدروا من جاءهم بالرد عن أغراضهم الفاسدة بنوع من الازدراء كما قال كفار قريش ) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ولا يزالون يردون هذا وأمثاله من الضلال حتى يقهرهم ذو الجلال بما أتتهم به رسله إما بإهلاكهم أو غيره وإن كانوا في غاية القوة ، أورد سبحانه قصة موسى عليه الصلاة والسلام شاهدة على ذلك بما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام من نحو ذلك ومن إهلاكه على قوته وإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم ، وتسلية للنبي صلى عليه وسلم وترجية .
الزخرف : ( 46 - 51 ) ولقد أرسلنا موسى. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ يأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : فلقد أرسلنا جميع رسلنا وهم أشرف الخلق بالتوحيد الذي جئت به ، وما كنا في إرسالنا إياهم مراعين لما يريده الأمم من جاه أو مال أو غير ذلك ، فلا وجه للاتكال عليك فيما أرسلناك به من التوحيد وغيره ، ولا لمعاداتك فيه ، عطف عليه أول من أرشد إلى سؤال أتباعهم فقال مؤكداً أجل ما يعاندون به من إنكار الرسالة ، وأتى بحرف التوقع لما اقتضاه من الأمر بسؤال الرسل عليهم الصلاة والسلام : ( ولقد أرسلنا ) أي بما ظهر من عظمتنا .
ولما كان الإرسال منه سبحانه ليس على حسب العظمة في الدنيا بما يراه أهلها كما قال هؤلاء ) لولا نزل هذا القرآن ( - الآية ، قال مناقضاً لهم : ( موسى ) أي الذي(7/33)
صفحة رقم 34
كان فرعون يرى أنه أحق الناس بتعظيمه لأنه رباه وكفله ) بآياتنا ) أي التي قهر بها عظماء الخلق وبجابرتهم ، فدل ذلك على صحة دعواه وعلى جميع الآيات لتساويها في القدرة وخرق العادة .
ولما كان السياق لسؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرسل عن أمر التوحيد ، كانت الآيات كافية ، فلم يذكر السلطان لأنه للقهر والغلبة : ( إلى فرعون ) أي لأنه طغى وبغى وادعى أنه هو الرب الأعلى ووافقه الضالون : ( وملأه ( الذين جعلهم آلهة دونه وعبدهم قومهم فلم يقرهم على ذلك لأنا ما رضيناه ) فقال ( بسبب إرسالنا ) إني رسول ( وأكد لأجل إنكارهم ما أنكره قومك من الرسالة .
ولما كان الإحسان سبباً للإذعان قال : ( رب العالمين ) أي مالكهم ومربيهم ومدبرهم .
ولما كانوا قد فعلوا من الرد لرسالته ( صلى الله عليه وسلم ) والاستهزاء بها ما فعلته قريش ، قال مسلياً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومهدداً لهم تسبيباً عما تقديره : فقالوا له ائت بآية ، فأتى بها على ما تقدم غير مرة بما هو كالشمس بياناً وحسناً : ( فلما جاءهم بآياتنا ( بالإتيان بآيتي اليد والعصا اللتين شهدوا فيهما عظمتنا ودلتاهم على قدرتنا على جميع الآيات ) إذا هم ) أي بأجمعهم استهزاء برسولنا ، وطال ما يضحك عليهم هو ومن آمن برسالته وبما جاء به عنا يوم الحسرة والندامة ) منها يضحكون ) أي فاجؤوا المجيء بها من غير توقف ولا كسل بالضحك سخرية واستهزاء .
ولما كان ربما ظن ظان أن في الآية ما يقبل شيئاً من ذلك ، بين حالها سبحانه بقوله : ( وما ) أي والحال أنا ما ) نريهم ( على ما لنا من الجلال والعلو والكمال ، وأعرق في النفي بإثبات الجار وأداة الحصر لأجل من قد يتوهم أنهم معذورون في ضحكهم فقال : ( من آية إلا هي أكبر ) أي في الرتبة ) من أختها ) أي التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها لأن الآدمي لما له من النسيان إذا أتاه الثاني من المتساويين رأى جميع من أتاه ناسياً ولا بعض من أتى الأول فيقطع بأنه أكبر منه ، أو أن هذا كناية عن أنها كلها ي نهاية العظمة كما قال شاعرهم :
( من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم )
أو أن بينها في الكبر عموماً وخصوصاً من وجه ، وأحسن من ذلك ما أشار إليه ابن جرير من أن كل آية أوضح في الحجة عليهم وأوكد مما قبلها ، لأنها دلت على ما دلت عليه وزادت ما أفادته المعاضدة من الضخامة فصارت هي مع ما قبلها أكبر مما قبلها عند ورودها وإقامة الحجة بها .
ولما كان التقدير : فاستمروا على كفرهم ولم يرجعوا لشيء من الآيات لأنا أصممناهم وأعميناهم وأحطنا بهم الضلال لعلمنا بحالهم ، عطف عليه قوله : ( وأخذناهم ) أي أخذ قهر وغلبة ) بالعذاب ) أي كله لأنا واترنا عليهم ضرباته على وجه(7/34)
صفحة رقم 35
معلم بأنا قادرون على ما نريد منه فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ) آيات مفصلات ( والقطع : البرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار ، وموت الأبكار ، فكانت آيات على صدق موسى عليه الصلاة والسالم بما لها من الإعجاز ، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة ، فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة ) لعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم عند ناظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه .
ولما كان فرعون في كثير من الضربات التي كان يضربه بها سبحانه - كما مضى في الأعراف عن التوراة - يقول لموسى عليه الصلاة والسلام : قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار ، فصلينا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة ، فيصرف عني كذا ، فإذا صرف الله ذلك عنهم عاد على ما كان عليه من الفجور ، كان فعله ذلك فعل من لا يعتقد أنه موسى عليه الصلاة والسلام نبي حقيقة ، بل يعتقد أنه ساحر ، وأن أفعاله إنما هي خيال ، فكذلك عبر عن هذا المعنى بقوله عطفاً على ما تقديره ، فلم يرجعوا : ( وقالوا ) أي فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له : ( يا أيها الساحر ( فنادوه بأداة البعد مع الإفهام بقالوا دون ( نادوا ) أنه حاضر إشارة إلى بعده من قلوبهم ، والتعبير بهذا توبيخ لقريش بالإشارة إلى أنهم وغيرهم ممن مضى يرمون الرسول بالسحر ويقرون برسالته عند الحاجة إلى دعائه في كشف ما عذبهم ربهم به ، وذلك قادح فيما يدعون من الثبات والشجاعة والعقل والإنصاف والشهامة ، وذلك كما وقع لقريش لما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف ) فقحطوا ، فلما اشتد عليهم البلاء أتى أبو سفيان بن حرب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة الشريفة فقال : يا محمد إنك قد جئت بصلة الأرحام وإن قومك قد هلكوا فادع اللهلهم ، فدعا لهم فأغيثوا ، فلا شك أن ترجمة حالهم هذا الذي ذكره الله من التناقض الذي لا يضاه لنفسه عاقل ، وهو وصفه بالسحر وطلب الدعاء منه يمنع اعتقاد أنه ساحر ، واعتقاد أنه ساحر يمنع طلب الدعاء منه عند العاقل ) ادع لنا ربك ) أي المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك ) بما ) أي بسبب ما ) عهد عندك ( من أنه يفعل من وضعها ورفعها على ما تريد على ما أخبرتنا أنه إن آمنا أكرمنا ، وغن تمادينا أهاننا ، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكداً تقريباً لحالهم البعيدة من الاعتداء بما يخبر به شاهد الوجود : ( إننا لمهتدون ) أي اهتداء ثابتاً يصير لنا وصفاً لازماً عند كشف ذلك عنا .(7/35)
صفحة رقم 36
ولما كان العاقل لا يخبر عن نفسه إلا بما هو صحيح ، فكيف إذا كان عظيماً بين قومه فكيف إذا أكد ذلك بأنواع من التأكيد ، فكان السامع لهذا الكلام يقطع بصدقه ، بين تعالى ما يصحح أن حالهم حال من يعتقد أنه ساحر بأنهم أسرعوا الخيانة بالكذب فيه من غير استحياء ولا خوف ، فقال معبراً بالفاء دلالة على ذلك : ( فلما كشفنا ( على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال ) عنهم العذاب ) أي الذي أنزلناه بهم ) إذا هم ينكثون ) أي فاجؤوا الكشف بتجديد النكث بإخلاف بعد إخلاف ) ونادى فرعون ) أي زيادة على نكثه ) في قومه ) أي الذين لهم غاية القيام معه ، وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد كما تشمل القريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع .
ولما كان كأنه قيل : لم نادى ؟ أجاب بقوله : ( قال ) أي خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوا من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ بالقلوب : ( يا قوم ( مستعطفاً لهم بإعلامهم بأنهم لحمة واحدة ، ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذوو قوة على ما يحاولونه ، مقرراص هلم على عذره في نكثه بقوله : ( أليس لي ) أي وحدي ) ملك مصر ) أي كله ، فلا اعتراض على بني إسرائيل ولا غيرهم ، لينتج له ذلك على زعمه أن غلبته على بني إسرائيل ومقاهرته على إخراجهم من تحت يده بغى على من له الملك فتكون فساداً فلا بأس عليه إذا خدع من فعل به ذلك بما عاهده عليه عند مس الضر ، ولم يقرأ بالصرف ليكون نصاً على مراده من العلمية ، ولأن المصر يطلق على المدينة الواحدة ، والتنوين يأتي للتحقير وهو ضد مراده .
ولما كان قد حصل له مما رأى من الآيات وورد عليه من تلك الضربات بأنواع المثلات ما أدهشه بحيث صار في عداد من يشك أتباعه في ملكه ، دل عليه بما بناه من الحال : ( وهذه ) أي والحال أن هذه ) الأنهار ( وكأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ، ونحو ذلك من أموره فقال : ( تجري من تحتي ) أي من أي موضع أردته بما لا يقدر عليه غيري ، وزاد في التقرير بقوله : ( أفلا تبصرون ) أي الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني ، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه .
الزخرف : ( 52 - 58 ) أم أنا خير. .. . .
) أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ(7/36)
صفحة رقم 37
أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) 73
( ) 71
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير : أفهذا الذي جاء يسلنا عبيدنا بني إسرائيل خير عندكم مني ؟ نسق عليه قوله : ( أم أنا خير ( مع ما وصفت لكم من صخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء ، ونقل ابن الجوزي وغيره من المفسرين عن سيبويه وأتساذه الخليل أنها معادلة لتقريرهم بالإبصار ، فكأنه قال : أفلا تبصرون ما ذكرتكم به فترون لعدم إبصاركم أنه خير مني أم أنا خير منه لأنكم لا تبصرون ، وكان هو أحق بهذه النصيحة منهم فإنه أراهم الطريق الواضحة إلى الضلال والموسلة إليه من غير مشقة ولا تعب بقوله : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء ، فيكون ذلك احتباكاً تقديره : أفلا تبصرون ما نبهتكم عليه ، فذكر الإبصار أولاً دليلاً على حذف مثلها ثانياً والخيرية ثانياً دليلاً على حذف مثلها أولاً ، وحقر من عظمة الآتي له بتلك الآيات ( صلى الله عليه وسلم ) لئلا يسرع الناس إلى اتباعه لأن آياته - لكونها من عند الله - كالشمس بهجة وعلواً وشهرة فقال : ( من هذا ( فكنى بإشارة القريب عن تحقيره ، ثم وصفهم بما يبين مراده فقال : ( الذي هو مهين ) أي ضعيف حقير قليل ذليل ، لأنه يتعاطى أموره بنفسه ، وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ) ولايكاد يبين ) أي لا يقرب من أن يعرب عن معنىً من المعاني لما في لسانه من الحبسة فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان يستجلب القلوب ويدهش الألباب فيكثر أتباعه ويضخم أمره ، وقد كذب في جميع قوله ، فقد كان موسى عليه الصلاة والسالم أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله الذي أرسله له وأمره غياه ولكن الخبث أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لأتباعه لأن موسى عليه الصلاة والسام ما دعا بإزالة حبسته بل بعقدة منها .
ولما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية ، والتحلي بحلي الملوك ، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله : ( فلولا ( ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء ، عبر به فقال : ( ألقي ) أي من أيّ ملق كان ) عليه ( من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة ) أسورة ( جمع أسورة - قاله الزجاج ، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية ، والسوار : ما يوضع في العصم من الحلية ) من ذهب ( ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات ) أو جاء معه ) أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا(7/37)
صفحة رقم 38
النبأ الجسيم والملم العظيم ) الملائكة ) أي هذا النوع ، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله : ( مقترنين ) أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج غلى دفاع وخصام ونزاع ، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه ، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به ، واستصغر موسى عليه الصلاة والسلام وعابه بالفقر والغي فسلطه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه - أفاده القشيري .
ولما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً ، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة ، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً ، وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام ، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال : ( فاستخف ) أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب ) قومه ( الذين لهم قوة عظيمة ، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم ) فأطاعوه ( بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره وهو منقوض على تقدير متانته بأن موسى ( صلى الله عليه وسلم ) على نبينا وعليه وسلم أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله ومهما طلبوه منه أجابهم إليه ، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات غلا المشاكلة في خباثة الأرواح ، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر : ( إنهم كانوا ) أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا ) قوماً ) أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا ) فاسقين ) أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية ، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً ، وكأن مدة محاولة الكليم عليه الصلاة والسلام لهم كانت قريبة ، فلذلك عبر بالفاء في قوله : ( فلما آسفونا ) أي فعلوا معناه ما يغضب إغضاباً شديداً بإغضاب أوليائنا كما في الحديث القدسي ( مرضت فلم تعدني ) لنكثرهم مرة بعد مرة وكرة في إثر كرة ) انتقمنا منهم ) أي أوقعنا بهم على وجه المكافأة لما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة(7/38)
صفحة رقم 39
مكروهة كأنها بعلاج ) فأغرقناهم ( في اليم ) أجمعين ( إهلاك نفس واحدة لم يفلت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم ، وهذا لا يكون في العادة إلا بعد علاج كثر أو اعتناء كبير .
ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله ، كانوا سبباً لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى : ( فجعلناهم ) أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه ) سلفاً ( متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى
77 ( ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( ) 7
[ القصص : 41 ] : ( ومثلاً ) أي حديثاً عجيباً سائراً مسير المثل ) للآخرين ( الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين ، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم ، ومن أراد النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم ، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه ، ومن أريد به الشر ، وجعل له منهم مثلاً يجترئ به على شره ، ويقوى على خبثه ومكره ، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلاً له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم ، ويجعل الخير إهلاكهم مثلاً له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم ، يقول أحدهم : أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون ، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم ، ونقول نحن : إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه ، وظن عزه وامتناعه ، كدأب آل فرعون ، ويقول من أريد به الشر : ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته ، وبلوغ النهاية منه صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره ، ولقد ضل به قوم وأضلوا ، وحلوا لمن داناهم عرى الدين فزلوا ، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان ، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهراً مطرهاً ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه ، وغروا الضعفاء بأن قالوا : إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى
77 ( ) وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( ) 7
[ يونس : 83 ]
77 ( ) وإن المسرفين هم أصحاب النار ( ) 7
[ غافر : 43 ] المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار ، وقوله تعالى
77 ( ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم(7/39)
صفحة رقم 40
فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين ( ) 7
[ القصص : 40 ]
77 ( ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ( ) 7
77 ( ) وأبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ( ) 7
وقوله تعالى
77 ( ) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ( ) 7
إلى أن قال
77 ( ) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ( ) 7
[ ص : 14 ] غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات ، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفاً ومثلاً للآخرين ، فمن أراد به خيراً يسر له مثل خير الحتذى به ، ومن أراد به شراً أضله بمثل سوء الأشياء به ، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الاشياء بأسباب وبغير أسباب ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر ، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به ، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة ، وصاروا يفرحون بما لا يا رضاه عاقل ولا يراه ، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا : ( ولما ضرب ابن مريم ) أي ضربه ضارب منهم مثلاً لآلهتهم ) إذا قومك ) أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه ) منه ) أي ذلك المثل يصدون أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض ، فيعرضون به عن إجابة دعائك ، يقال : صد عنه صدوداً : أعرض ، وصد يصد ويصل : ضج - قاله في القاموس ، فلذلك قال ابن الجوزي : معناهما جميعاً - أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها - يضجون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يعرضون ، قال ابن برجان : والكسر أعلى القراءتين - انتهى .
وذلك أن قريشاً قالوا كما مضى في الأنبياء ) إنا وما نعبد في جهنم ( مقتض أن يكون عيسى كذلك ، وأن نستوي نحند وآلهتنا به ، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا - إلى آخر ما قالوا وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في ( ما ) لما لا يعقل ، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكياً عنهم : ( وقالوا آلهتنا ( التي نعبدها من الأصنام والملائكة ) خير أم هو ) أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه .
ولما اشتد التشوف إلى جوابهم ، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء ، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى : ( ما ضربوه ) أي ما ضرب الكفار : ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازاً ، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام ) لك إلا جدلاً ) أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان(7/40)
صفحة رقم 41
إلا في أصنامهم ، ولأن الخصوص في كلامهم شائع ، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه ، فلم يقتدروا قط بما ألزموا به أنه لازم ) بل هم قوم ) أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه ) خصمون ) أي شديدو الخصام قادرون على اللدد ، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي إمامة رضي الله عنهم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ) ثم قرأ الآية (
الزخرف : ( 59 - 63 ) إن هو إلا. .. . .
) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( ( )
ولما تضمن هذا أنه غير مهان ، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال : ( إن ) أي ما ) هو ) أي عيسى عليه الصلاة والسلام ) ألا عبد ( وليس هو بإله ) أنعمنا ) أي بما لنا من العظمة والإحسان ) عليه ) أي بالنبوة والإقدار على الخوارق ) وجعلناه ( بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته ) مثلا ) أي أمراًعجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليض بذلك من يقف مع المحسوسات ، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني ) لبني إسرائيل ( الذين هم أعلم الناس به ، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب ، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات ، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات ، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره ، وقال : هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان ، فنال من الله الرضوان ، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام : مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر ، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب ، ومثل ابن خالته يحيى(7/41)
صفحة رقم 42
وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف ، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال ، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة ، وقال ابن برجان : خصهم - أي بني إسرائيل - بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه ، ثم قال : وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس ، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته - انتهى ، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره ، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة .
ولما كان التقدير : فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر ، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم ، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً ؟ لا أنيس بها ، عطف عليه قوله : ( ولو ( معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال : ( نشاء لجعلنا ) أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ) منكم ) أي جعلا مبتدئاً منكم ، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية ) ملائكة في الأرض يخلفون ) أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل ، ويجوز أن يكون المعنى : لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً ، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع ، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه ، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء ، وإن شاء في الأرض ، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الإعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو .
ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضاً ، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقاً ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : ( وإنه ) أي عيسى عليه الصلاة والسلام ) لعلم للساعة ) أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت ، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب(7/42)
صفحة رقم 43
عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة ، فهو سبب للعلم بالأمرين : عموم الإعدام وعموم القيام .
ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم - لكونهم أهل الكتاب - عن أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان النصارى مثلهم في ذلك ، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمراً مقطوعاً به عند الفريقين ، أما النصارى فيقولون : إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا ، وأما اليهود فيقولون : إنه إلى الآن لم يأت ، ويأتي بعد ، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه ، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتاً عظيماً جداً ، فصارت كأنها مشاهدة ، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ، لافتاً القول إلى مواجهتهم مؤكداً في مقابلة إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة : ( فلا تمترن ) أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل ) بها ) أي بسببها ، يقال : مرى الشيء وامتراه : استخرجه ، ومراه مائة سوط : ضربه ، ومراه حقه ، أي جحده ، والمرية بالضم والكسر : الجدل والشك ) واتبعون ) أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم ) هذا ) أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره ) صراط ) أي طريق واسع واضح ) مستقيم ) أي لا عوج فيه .
ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم ، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد ، فقال دالاً على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد ، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد : ( ولا يصدنكم ) أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ) الشياطين ( ولما كان كأنه قيل ما له يصدنا عن سبيل ربنا ؟ ذكر العلة تحذيراً في قوله : ( إنه لكم ) أي عامة ، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته : ( عدو مبين ) أي واضح العداوة في نفسه مناد بها ، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب ، عداوة ناشئة عن الحسد ، فهي لا تنفك أبداً .
ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلاً لبني إسرائيل ، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به ، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال ، وأمر باتباع الهادي ، ونهى عن اتباع المضل ، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة ، فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى ) وجعلناه مثلاً ( : ( ولما جاء عيسى ) أي إلى بني إسرائيل بعد(7/43)
صفحة رقم 44
موسى عليهما الصلاة والسلام : ( بالبينات ) أي من الآيات المسموعة والمرئية ، ) قال ( منبهاً لهم : ( قد جئتكم ( ما يدلكم قطعاً على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضاً ) بالحكمة ) أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال .
ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به ، فكان التقدير : لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمراً خاصاً هو من أحكم الحكمة فقال : ( ولأبين لكم ) أي بياناً واضحاً جداً ) بعض الذي تختلفون ) أي الآن ) فيه ( ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه ، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بياناً يرده غلى المحكم ، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه ، وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه ، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه ، فالمحكم ما لا لبس فيه ، والمتشابه ما يكون ملبساً ، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة الةتي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم ، أو يعجز فيقول : الله أعلم ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ولا يتزلزل ، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن .
ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر كله ، فهو فعال لما يشاءن وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى ، سبب عنه قوله تعالى : ( فاتقوا الله ) أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم ، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه ) وأطيعوا ( فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه ، فإني لا آخذ شيئاً إلا عنه ، ولا أتلقى إلا منه ، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى ، ولكما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه .
الزخرف : ( 64 - 69 ) إن الله هو. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ( ( )(7/44)
صفحة رقم 45
ولما أمرهم بطاعته ، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه ، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب : ( إن الله ) أي الذي اختص بالجلال والجمال ، فكان أهلاً لأن يتقى ) هو ) أي وحده ) ربي وربكم ( نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء ، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات ) فاعبدوه ( بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه ، أشار إلى ذلك كله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة ) هذا ) أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه ) صراط أي طريق واسع جداً وضاح ) مسقتيم ( لا عوج له .
ذكر ما يدل على أنه أتبى بالحكمة من الإنجيل
: قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى : فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية - وقال مرقس : يونانية - خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول : ارحمني يا رب يا ابن داود ابنتي بها شيطان رديء ، فمل يجبها بكلمة ، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين : اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا ، أجاب وقال لهم : لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل ، فأتت وسجدت له قائلة : يا رب أعني فأجاب : ليس هو جيداً أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب ، فقالت : نعم يا رب ، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها ، حينئذ أجاب يسوع وقال لها : يا امرأة عظيمة أمنتك يكون لك كما أردت ، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة ، وقال مرقس : فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي ، قد خرج الشيطان من ابنتك ، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها ، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه ، فأخرجوه وحده من الشعب ، وترك أصابعه في أذنيه ، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال : الفاثاً الذي هو التفتح ، وللوقت انفتح سمعه وسمع ، وانحل رباط لسانه وتكلم مستوياً ، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً فأتاهم فكانوا ينكرون كثيراً ويبهتون جداً ، قائلين : ما أحسن كل شيء يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون ، وقال مرقس : ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى ، وطلبوا منه أن يلمسه ، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجاً من القرية ، وتفل(7/45)
صفحة رقم 46
في عينيه ووضع يده عليه وسأله : ما ينظر ؟ قال : أنظر الناس مثل الشجر يمشون ، فوضع يده أيضاً على عينيه ، فأبصر حيناً ونظر إلى كل شيء ظاهراً ، قال : ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه : ماذا يقول الناس في ابن الإنسان ؟ فقال قوم : يوحنا المعمدان ، وآخرون : إليا ، وآخرون : إرميا ، وواحد من الأنبياء ، فقال لهم : فأنتم ماذا تقولون ؟ أجاب سمعان بطرس - وقال : أنت هو المسيح ، أجاب يسوع وقال له : طوبى لك يا سمعان ابن يونان لأنه ليس جسد يعسى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات ، وما ربطته الأرض يكون مربوطاً في السموات ، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السموات ، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشلين ويقبل الآماً كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة ، وقال : من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها ، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، وما ينع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه ، وقال لوقا : وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم : من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبينه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه ، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً ، من منكم يريد أن يبني برجاً ولا يجلس أولاً ويحسب نفقته ؟ وهل له ما يكمله لكيما يستهزىء به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله ، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولاً ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفاً إلا فما دام بعيداً منه يرسل رسلاً رسل سلامة ، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً ، وذكر لوقا أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلاً لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم : متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة ، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له : يا حبيب ارتفع إلى فوق ، حينئذ يكون لك مجداً قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع ، وكل من يتضع يرتفع ، وقال للذي دعاه : وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا إغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضاً فيكون لك مكافأة ، لكن إذا صنعت طعاماً فادع المساطكين والعور والضعفاء والعميان ، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك ، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين ، فسمع واحد من المتكئين ذلك ، فقال له : طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله ، وقال متى : وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له : من هو العظيم في ملكوت السماوات ، فدعا طفلاً وأقامه بينهم وقال : الحق أقول : إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات ، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات ، ومن قبل صبياً مثل هذا باسمي فقد قبلني ، (7/46)
صفحة رقم 47
قال مرقس : ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني ، وقال لوقا : ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني ، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر ، قال متى : ومن شك أحد هؤلاء الصغاؤ الؤمننين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته ، ويغرق في البحر ، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للأإنسان الذي يأتي منه الشكوك ، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك ، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد ، وقال مرقس : وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها - انتهى .
وإن شكتك عينك فاقلعها وألقها عنك فخير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة من أن يكون لك عينان وتلقى في جهنم ، وقال مرقس : وكل شيء بالنار يملح وكل ذبيحة تملح بالملح جيد هو الملح ، فإن فسد الملح فبما ذا يملح فليكن فيكم الملح ، ويكون سلام بعضكم بعضاً ، وقال لوقا : ثم قال : من أجل أقوام يقولون : إنهم صديقون ويحقرون البقية ، هذا المثل رجلان صعدا إلى الهيكل ليصليا ، أحدهما فريسي والآخر عشار ، فأما الفريسي فإنه كان يصلي بهذا في نفسه : اللهم إني أشكرك لأني لست مثل سائر الناس العاصين الظلمة الفجار ، ولا مثل هذا العشار ، فكان قائماً من بعيد ولا يرى أن يرفع عينيه إلى السماء ، وكان يضرب على صدره ويقول : اللهم اغفر لي فإني خاطئ ، أقول لكم : إن هذا نزل إلى بيته أمر من ذلك لأن كل من يرفع نفسه يتضع ، ولك من يضع نفسه يرتفع ، ثم قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ، فلما نظرهم التلاميذ نهروهم فقال : دعوا الصبيان يأتوا إليّ ولا تمنعوهم لأن ملكوت الله لمثل هؤلاء ، الحق أقول لكم ، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها ، وقال متى : انظروا لا تحقروا أحد هؤلاء الصغار ، لم يأت ابن الإنسان إلا ليطلب ويخلص من كان ضالاً ، ماذا تظنون إذا كان الإنسان مائة خروف فضل منها واحد ليس يترك التسعة والتسعين في الجبل ، ويمضي يطلب الضال ؟ وقال لوقا : حتى يجده ، الحق أقول لكم ، إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل ، هكذا ليس مشيئة ربي الذي في السموات أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار ، وقال لوقا : ودنا منه العشارون والخطأة ليسمعوا منه فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين : هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم ، فقال لهم : أي رجل منكم له مائة خروف فيتلف واحد منها ليس يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي إلى الضال حتى يجده ، فإذا وجده حمله على منكبيه فرحاً ، ويأتي به إلى بيته ويدعو أصدقاءه وجيرانه ويقول لهم : افرحوا معي لوجودي خروفي الضال ، أقول لكم : إنه يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الصديق الذين لا يحتاجون إلى توبة ، وأي امرأة لها عشر دراهم يتلف واحد(7/47)
صفحة رقم 48
منها أليس توقد سراجاً وتكنس بيتها وتطلبه مجتهدة حتى تجده ، فإذا وجدته دعت أحبابها وجاراتها قائلة : افرحوا لي لوجودي درهمي الضال ، هكذا أقول لكم : يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب ، وقال : إنسان له ابنان فقال الأصغر يا أبتاه أعطني نصيبي من مالك فقسم بينهما ماله ، وبعد أيام قليلة جمع الأصغر كل شيء له وسافر إلى كورة بعيده ، وبذر ماله هناك بعيش بذخ ، فملا نفد كل شيء له حدث جوع شديد في تلك الكورة فافتقر وانقطع إلى رجل منها فأرسله إلى حقله يرعى خنازير ، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله ، فلا يعطى ذلك ، ففكر في نفسه وقال : كم من أجراء أبي يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعاً ، أقوم أمضي إلى أبي وأقول : يا أبتاه أخطأت في السماء وبين يديك ، ولست بمستحق أن أدعى لك ابناً لكن اجعلني كأحد أجرائك فجاء إليه فنظره أبوه فتحنن وأسرع واعتنقه وقبله فقال : يا أبتاه أخطأت في السماء وقدامك ، ولست بمستحق أن ادعى لك ابناً ، فقال أبوه لعبيده : قدموا الحلة الأولى وألبسوه وأعطوه خاتماً في يده ، وحذاء في رجليه ، وائتوا بالعجل المعلوف واذبحوه ونأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش ، سمع المزاهر واتفاق الأصوات والرقص ، فدعا واحداً من الغلمة وسأله فقال له : إن أخاك قدم ، وذبح أبوك العجل المعلوف ، فغضب ولم يرد أن يدخل ، فخرج أبوه وطلب إليه فقال : كم لي من سنة أخدمك ولم أخالف لك وصية قط ولم تعطني جدياً واحد أتنعم به مع أصدقائي ، فلما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزناة ذبحت له العجل المعلوف ، فقال له : يا بني أنت معي في كل حين وفي كل شيء هو لي ، وينبغي لك أن تسر وتفرح لأن أخاك هذا كان متياً فعاش ، وضالاً فوجد .
وقال : رجل كان عنياً يلبس الأرجوان وكان يتنعم كل يوم ويلذ ، ومسكين كان اسمه العازر مطروحاً عند بابه مضروباً بقروح ، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني ، وكانت الكلام تأتي وتلطع قروحه ، فلما مات ذكل المسكين أخذته الملائكة إلى حصن إبراهيم ، ومات ذلك الغني وقبو فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ، فنظر إبراهيم من بعيد والعازر في حصنه ، فنادى : يا أبتاه إبراهيم ارحمني وأرسل العازر ليبل طرف إصبعه بما يبرد لساني لأني معذب في اللهب ، فقال له إبراهيم : يا ابني اذكر أنك قد قتلت جيرانك في حياتك والعازر في بلائه والآن فهو يستريح ههنا وأنت تعذب ، ومع ذلك فبيننا وبينكم أهوية عظيمة نائية لا يقدر أحد على العبور من ههنا إليكم ، ولا من هنا إلينا ، قال له : أسألك يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي ، فإن خمسة أخوة لكي يناشدهم(7/48)
صفحة رقم 49
لئلا يأتوا إلى موضع هذا العذاب ، قال له إبراهيم : عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم ، فقال له : يا أبتاه إبراهيم إن لم يمض إليهم واحد من الأموات ما يتوبون ؟ فقال له : إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فليس إن قام واحد من الأموات يصدقونه ، وقال لتلاميذه : سوف تأتي الشكوك والويل ، الذي تأتي الشكوك من قبله خير له لو علق حجر رحى الحماز في عنقه ويطرح في البحر من أن يشك أحداً من هؤلاء الضعفاء - والله أعلم .
ولما كان الطريق الواضح القديم موجباً للاجتماع عليه ، والوفاق عند سلوكه ، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله : ( فاختلف ( وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله : ( الأحزاب ) أي إنهم لم يكونوا فرقتين فقط ، بل فرقاً كثيرة .
ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك ، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجباً ، بين أنهم من أهل القسم فقال : ( من بينهم ) أي اختلافاً ناشئاً ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلاً لهم : وقال لهم : قد جئتكم بالحكمة ، فسبب عن اختلافهم قوله : ( فويل ( وكان أن يقال : لهم ، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميماً وتعليقاً للحكم به .
ولما كان في سياق الحكمة ، وهو وضع الشيء في أتقن مواضعه ، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال : ( للذين ظلموا ) أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم ( صلى الله عليه وسلم ) به من الحكمة ) من عذاب يوم أليم ) أي مؤلم ، وإذا كان اليوم مؤلماً لما الظن بعذابه .
ولما عم الظالمين بالوعيد بذلك اليوم فدخل فيه قريش وغيرهم ، أتبعه ما هو كالتعليل مبرزاً له في سياق الاستفهام لأنه اهول فقال : ( هل ( وجرد الفعل إشارة إلى شدة القرب حتى كأنه يمرأى فقال : ( ينظرون ) أي ينتظرون ) إلا الساعة ) أي ساعة الموت العام والبعث والقيام ، فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه .
ولما قدم الساعة تهويلاً تنبيهاً على أنها لشدة ظهور دلائلها كأنها مرئية بالعين هزاً لهم إلى تقليب أبصارهم لتطلب رؤيتها ، أبدل منها زيادة في التهويل قوله تعالى : ( أن تأتيهم ( وحقق احتمال رؤيتها بقوله : ( بغتة ( ولما كان البعث قد يطلق على ما يجهل من بعض الوجوه ، أزال هذا الاحتمال بقوله : ( وهم لا يشعرون ) أي لا يحصل لهم بعين الوقت الذي يجيء نوع من أنواع العلم ، ولا بما كالشعرة منه .
ولما كانت الساعة تطلق على الحبس بالموت وعلى النشر بالحياة ، بين ما يكون في الثاني الذي هم له منكرون من أحوال المبعوثين على طريق الاسئتناف في جواب من يقول : هل يقومون على ما هم عليه الآن ؟ فقال : ( الأخلاء ) أي في الدار ) يومئذ ( أي(7/49)
صفحة رقم 50
إذ تكون الساعة وهي ساعة البعث التي هي بعض مدلول الساعة ) بعضهم لبعض عدو ( ولما ينكشف لهم من أن تأخيرهم في الحياة هو السبب في عذابهم ، فيقول التابع للمتبوع : أنت غررتني فضررتني ، ويقول المتبوع : بل أنت كبرتني فصغرتني ، ورفعتني فوضعتني ، ونحو هذا من الكلام المؤلم أشد الإيلام ) إلا المتقين ( الذين تقم أمرهم بالتوقى وحثهم عليها .
ولما أفعهم هذا أنهم لا عداوة بينه ، بل يكونون في التواد على أضعاف ما كانوا عليه في الدنيا لما ظهر لهم من توادهم فيها وتناصرهم هو أفضى بهم إلى الفوز الدائم برضوان الله ، وصل به حالاً بين فيها ما يتلقاهم به من تواد فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال : ( لعباد ) أي مقولاً لهم هذا ، فخص بالإضافة إليه كما خصوه بالعبادة ) لا خوف ) أي بوجه من الوجوه ه ) عليكم اليوم ) أي في الآخرة مما يحويه ذلك اليوم العظيم من الأهوال والأمور الشداد والزلازل ) ولا أنتم تحزنون ) أي لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به .
ولما ناداهم بما يطمع فيه سائر أهل الموقف لأن كل حزب يقولون : نحن عباده ، خص المرادين بما يوئس غيرهم ولئلا يكون الوصف بالتقوى موقفاً لمن سمعه اليوم من الكفار عن الدخول وكانوا لا يستطيعون ذلك ، فوصف سبحانه المتقين بما يهون الوصول إلى درجتهم على غيرهم فقال : ( الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ) بآياتنا ( الظاهر عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثايناً ) وكانوا ) أي دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ) مسلمين ) أي منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد ، فبذلك يصلون إلى حقيقة التقوى التامة .
الزخرف : ( 70 ) ادخلوا الجنة أنتم. .. . .
) ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ( ( )
ولما ذكر ما لهم بشارة لهم وترغيباً لغيرهم في اللحاق بهم على وجه فيه إجمال ، شرح ذلك بقوله : ( ادخلوا الجنة ( ولما كانت الدار لا تكمل إلا بالرفيق السار ، قال تعالى : ( أنتم وأزواجكم ) أي نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات ، وأما(7/50)
صفحة رقم 51
قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله ) كانوا مسلمين ( ) تحبرون ) أي تكرمون وتزينون فتسرون سروراً يظهر أثره عليكم مستمراً يتجدد أبداً .
ولما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم ، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه ، ومنبهاً على ما غفل عنه ، فقال عائداً غلى الغيبة ترغيباً في التقوى : ( يطاف عليهم ) أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ) بصحاف ( جمع صحفة وهي القصعة ) من ذهب ( فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم .
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل ، جرى على ذلك المعهود ، فعبر بجمع القلة في قوله : ( وأكواب ( جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له ، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أيو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز ، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك .
ولما رغب فيها بهذه المغيبات ، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال : ( وفيها ) أي الجنة .
ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى : ( ما تشتهيه الأنفس ( من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا ، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم ، خصها فقال : ( وتلذ الأعين ( من الأشيء المبصرة التي أعلاها النظر إلى جهه الكريم تعالى ، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق .
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام ، قال عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب ، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب ، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم والموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة : ( وأنتم فيها خالدون ( لبقائها وبقاء كل ما فيها ، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات .
ولما كان التقدير : الجنة التي لمثلها يعمل العاملون ، عطف عليه قوله مشيراً إلى فخامتها بأداة البعد : ( وتلك الجنة ) أي العالية المقام ) التي ( ولما كان الإرث أمكن للملك .
وكان مطمح النفوس إلى المكنة في الشيء مطلقاً لا يبعد ، بني للمفعول قوله تعالى : ( أورثتموها ( ولما كان ما حصله الإنسان بسعيه ألذ في نفسه لسرورة بالتمتع به وبالعمل الذي كان من سببه ، قال تعالى : ( بما ( وبين أن العمل كان لهم كالجبلة التي(7/51)
صفحة رقم 52
جبلوا عليها ، فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله : ( كنتم تعملون ) أي مواظبين على ذلك لا تفترون .
ولما كان الأكل أعم الحاجات وأعم الطلبات ، قال تعالى مبيناً أن جميع أكلهم تفكه ليس فيه شيء تقوتاً لأنه لا فناء فيها لقوة ولا غيرها لتحفظ بالأكل ولا ضعف ) لكم فيها فاكهة ) أي ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً .
ولما كان ما يتفكه في الدنيا قليلاً قال تعالى : ( كثيرة ( ودل مع الكثرة على دوام النعمة بقصد التفكه بكل شيء فيها بقوله : ( منها ) أي لا من غيرها مما يلحظ فيها التقوت ) تأكلون ( فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع ، لا يؤخذ منه شيء إلا خلف مكانه مثله أو أكثر منه في الحال .
ولما ذكر ما للقسم الثاني من الإخلاء وهم المتقون ترغيباً لهم في التقوى ، أتبعه ما لأضدادهم اهل القسم الأول تحذيراً من مثل أعمالهم ، فقال استئنافاً مؤكداً في مقابلة إنكارهم : ( إن المجرمين ) أي الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ) في عذاب جهنم ) أي النار التي من شأنها لقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ) خالدون ( لأن إجرامهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا .
ولما بين إحاطته بهم إجاطة الظرف بمظروفه ، وكان من المعلوم أن النار لا تفتر عمن لابسته إلا بمفتر بمنعها بماء يصبه عليها أو تقليل من وقودها أو غير ذلك خرقاً للعادة ، بين أن لا يعتريها نقصان أصلاً كما يعهد في عذاب الدنيا لأنهم هم وقودها فقال تعالى : ( لا يفتر عنهم ) أي يقصد إضعافه بنوع من الضعف ، فنيف التفتير نفي للفتور من غير عكس ، قال البيضاوي : وهو من فترت عنه الحمى - إذا سكنت ، والتركيب للضعف .
ولما كان انتظار الفرج مما يخفف عن المتضايق ، نفاه بقوله : ( وهم فيه مبلسون ) أي ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج .
ولما كان ربما ظن من لا بصيرة له أن هذا العذاب أكبر وأكثر مما يستحقونه ، أجاب سبحانه بقوله ليزيد عذابهم برجوعهم باللائمة على نفسوهم ووقوعهم في منادمات الندامات : ( وما ظلمناهم ( نوعاً من الظلم لأنه تعالى مستحيل في حقه الظلم ) ولكن كانوا ( جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً دائماً ) هم ) أي خاصة ) الظالمين ( لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك بقوا ، والأعمال بالنيات ، ولو كانوا يقدرون على أن لا يموتوا لما ماتوا .(7/52)
صفحة رقم 53
ولما كان من مفهوم الإبلاس السكوت ، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم ، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك ، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم : ( ونادوا ( ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته : ( يا مالك ( وقراة ( يا مال ) للإشارة إلى أن العذاب أوهنهم عن إتمام الكلام ، ولذا قالوا : ( ليقض علينا ) أي سله سؤالاً حتماً أن القضاء الي لا قضاء مثله ، وهو الموت على كل وحد منا ، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا : ( ربك ) أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً ، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه ، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات ، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه ، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس ، فسكوتهم المقيد باليأس دائم ، فلذلك سألوا الموت ، والحاصل أنهم لا يتكلمون ما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك. . .
اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين .
ولما ذكر نداءهم ، استأنف ذكر جوابهم بقوله : ( قال ) أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة بغيرهم ) إنكم ماكثون ( .
الزخرف : ( 78 - 83 ) لقد جئناكم بالحق. .. . .
) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه الساعة عند عيسى عليه الصلاة والسلام فقال ) وإنه لعلم للساعة ( وأكد أمرها وشرح بعه أحوالها إلى أن ختم بمادل على انحلال عزائمهم ولين شكائمهم ، وكانوا غير مقريب بذلك ، قال مؤكداً جواباً لمن يبصر بعض البصر فيقول : أحق هذا ؟ ويتوقع الجواب : ( لقد جئناكم ) أي في هذه السورة خصوصاً وجميع القرآن عموماً ، سمى مجيء الرسل مجيئاً لهم لما لمجيئهم من العظمة التي أشارت إليها النون ) بالحق ( الكامل في الحقية ، ولما كان ظهور حقيته بحيث لا يخفى على أحد ولكن شدة البغض وشدة الحب تريان الأشياء على غير ما هي عليه ، قال إشارة إلى(7/53)
صفحة رقم 54
ذلك : ( ولكن أكثركم ) أي أيها المخاطبون ) للحق كارهون ( لما فيه من المنع عن الشهوات فلذلك أنتم تقولون : إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط ، لا لأجل أن في حقيته نوعاً من الخفاء .
ولما كان هذا خبراً لا جواب فيه لظهور الدلائل وتعالي العظمة إلا الرجوع ، وكان من لا يرجع إنما يريد بمحاربة الإله الأعظم ، قال عادلاً عن الخطاب إنزالاً لهم بالغيبة منزلة البعيد الذي لا يلتفت إليه معادلاً لما ) أمراً ( تقديره : أرجعوا لما ظهر لهم من الحق الظاهر ) أم أبرموا ) أي أحكموا ) أمراً ( في رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم .
ولما كان سبحانه مطلعاً بطية أمرهم وغائب سرهم ، سبب عما سأل عنه من إبرامهم ما دل على أنه عالم به وقد أبرم له قبل كونه ما يزيله ويعدمه ويحيله ، على سبيل التأكيد لإنكارهم أن يغلبوا فقال : ( فإنا مبرمون ) أي دائماً للأمور لعلمنا بها قبل كونها وقدرتنا واختيارنا ، تلك صفتنا التي لا تحول بوجه : العلم والقدرة والإرادة ، لم يتجدد لنا شيء لم يكن .
ولما كان إصرارهم بين العزم على مجاهرة القدير بالمعاداة وبين معاملته وهو عليم بالمساترة والممكارة في المعاداة والمباكرة والمسالمة والمناكرة قال تعالى : ( أم يحسبون أنا ( على ما لنا من العظمة المقتضية بجميع صفات الكمال ) لا نسمع ( ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط بالخفي والجلي ، نسبة كل منهما إليه على السواء ، ذكرهما وقدم من شأنه أن الخفي ولو كان في الضمائر فيما يعصينا ، ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعم ما في الضمائر وهي مما يعلم ، حقق أن المراد به حقيقته بقوله : ( ونجواهم ) أي كلامهم المرتفع حتى كأنه على نجوة أي مكان عال ، فعلم أن المراد حقيقة السمع ، وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ولو لم يكن في قدرتنا نحن سماعه ، فنكون فيه كالأصم بالنسبة إلى ما نسمعه نحن من الجهر ولا يسمعه هو لفقد قوة السمع فيه ، لا لأنه مما من حقه ألا يسمع .
ولما كان إنكار عدم السماع معناه السماع ، صرح به فقال : ( بلى ) أي نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ) ورسلنا ( وهم الحفظة من الملائكة على ما لهم من الظمة بنسبتهم إلينا .
ولما كان حضور الملائكة عمعنا وكتابتهم لجميع أعمالنا على وجه لا نحس به نوع أحساس أمراً هو في غاية الغرابة ، قال معبراً بلدى التي يعبر بها عبر(7/54)
صفحة رقم 55
اشتداد الغرابة : ( لديهم يكتبون ) أي يجددون الكتابة كلما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد ، لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة تجنب ما يخاف عاقبته .
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعاءهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله ) ستكتب شهادتهم ويسألون ( وذكر شبههم في قولهم ) لو شاء الرحمن ما عبدناهم ( وجهلهم فيها بقوله ) ما لهم بذلك من علم ( ونفى أن يكون لهم على ذلك دليل سمعي بقوله منكراً موبخاً ) أم آتيناهم كتاباً ( ومر في توهية أمرهم في ذلك وغيره بما لاحم بعضه بعضاً على ما تقدم إلى ما تمم نفي الدليل السمعي على طريق النشر المشوش بقوله تعالى ) واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ( ، ونظم به ما أتى به رسول أهل الكتاب مما يصدق ما أتى به كتابنا من التوحيد وما هدد به من أعراض عنه إلى أن أخبر أنه الحق الذي لا زوال أصلاً لشيء منه ، وأن رسله سبحانه تكتب جميع أعمالهم من شهادتهم في الملائكة وغيرها ، أعاد الكلام في إبطال شبهتهم في أن عبادتهم لهم لو كانت ممنوعةى لم يشأها الذي له عموم الرحمة لأن عموم رحمته يمنع على زعمهم مشيئة ما هو محرم ، فقال بعد أن نفى قوله ) واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ( أن يكون لهم دليل سمعي على أحد من رسله عليهم الصلاة والسلام .
) قل إن كان للرحمن ) أي العام الرحمة ) ولد ( على ما زعمتم ، والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة ، وغيرهم في غيرهم ، وقراءة حمزة والكسائي بضم ثم سكون على أنه جمع على إرادة الكثرة .
ولما كان المعنى : فأنا ما عبدت ذلك الولد ولا أعبده ، ولو شاء الرحمن ما تركت عبادته ، ولكنه شاء تركي لها وشاء فعلكم لها ، فإحداهما قطعاً مشيئة للباطل ، وإلا لاجتمع النقيضان بأن يكون الشيء حقاً باطلاً في حال واحد من وجه واحد ، وهو بديهي الاستحالة ، فبطلت شبهتكم بدليل قطعي - هكذا كان الأصل ، ولكنه عدل عنه إلى ما يفيد معناه وزيادة أنه يعبد الله مخلصاً ولا يعبد غيره ، أنه لا يستحق اسم العبادة لإا ما كان له خالصاً ، فقال : ( فأنا ) أي في الرتبة ) أول العابدين ( للرحمن ، العبادةَ التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة ، أي فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره ، ولم يشأ الرحمن لي أن أعبد الولد ، أو يكون المعنى : أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص ، لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات مما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيره ، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ، ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمة ، فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاء لي ، ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ، ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته ، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه(7/55)
صفحة رقم 56
وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً له يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له ، فبطلت شبهتكم بمثلها بل أقوى منها ، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ( أن ) نافية بمعنى : ما ينبغي أي ما كان له ولد ، فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ، ولو كان له ولد لعلمته فعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده .
ولما بطلت الشبهة على تقدير ببرهان ، وعلى آخر بشبهة أقوى منها ، وظهر الأمر واتضح الحق في أنه سبحانه يشاء لشخص فعل شيء ولآخر عدم فعل ذلك الشيء وفعل ضده أو نقيضه ، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يكون فعل النقيضين ولا الضدين في آن واحد حقاً من وجه واحد ، فعرف بذلك أن العبرة في الحلال والحرام بأمره ونهيه لا بإرادته ، وأنه لولا ذلك لما علم أنه فاعل بالاختيار يخص من يشاء منعباده بما يشاء بعد أن عمهم بما شاء ، كان موضع التنزيه عما نسبوه إليه من الباطلن فقال منزهاً على وجه مظهر أنه لا يصح أن ينسب إليه ولد أصلاً : ( سبحان رب ) أي مبدع ومالك ) السموات ( ولما كان المقام للتنزيه وجهة العلوية أجدر ، لأنه أبعد عن النقص والنقيض ، ولم يقتض الحال إعادة لفظ الرب بخلاف ما يأتي آخر الجاثية ، فإنه لإثبات الكمال ونظره إلى جميع الأشياء على حد سواء فقال : ( والأرض ) أي اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإجاد والتربية .
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً ، قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له ، ولم يعد العاطف لأن العرش من السماوات : ( رب العرش ) أي المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السموات والأرض ) عما يصفون ( من أنه له ولد أو شريك .
ولما حصحص الحق لمعت في الموجود كله أعلام الصدق بعد بطلان شبهتهم وبيان أغلوطتهم ، عرف أنهم فاعلون بوضع الأشيء في غير مواضعها فعل الخائض اللاعب ، فقال مسبباً عن ذلك : ( فذرهم ) أي اتركهم على أسوأ أحوالهم ) يخوضوا ) أي يفعلوا فعل الخائض في الماء في وضع رجله التي هي عماده فيما لا يعرفه ، وقد لا ينقصه ولا يزيده ) حتى يلاقوا ) أي يفعلوا بتصريم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا ) يومهم الذي يوعدون ( بوعد لا خلف فيه فيظهر فيه وعيدهم ويحق تهديدهم .(7/56)
صفحة رقم 57
الزخرف : ( 84 - 89 ) وهو الذي في. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يرَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه ، وكان ذلك غير ملازم للألوهية ، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم ، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور ، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره : تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى ) سبحان ( : ( وهو الذي ( هو ) في السماء إله ) أي معبود لا يشرك به شيء ) وفي الأرض إله ( توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال ، ويخلص له في جميع أوقات الأضطرار ، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذا الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق ، فعبادة غير باطلة ، قال في القاموس : أله - أي بالفتح - إلاهة وألوهة وألوهية : عبد عبادة ، ومنه : لفظ الجلالة - وأصله : إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه ، وأله كفرح : تحير ، فقد علم من هذا جزاز تعلق الجار بإله .
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد ، ولا يضرها إفساد مفسد ، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال : ( وهو الحكيم ) أي البليغ الحكمة ، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم قال تعالى : ( العليم ) أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به ، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه ، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد ، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان ، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان(7/57)
صفحة رقم 58
بحيث لا يخاف وعيده ، فلا يخوض ولا يعلب عبده ، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه ، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته .
ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم ، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقالك ) وتبارك ) أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال ، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له أو شريك ، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال : ( الذي له ملك السموات ) أي كلها ) والأرض ( كذلك ) وما بينهما ( وبين كل اثنين منها ، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار .
لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم ، قطع الأطماع بقوله : ( وعنده ) أي وحده ) علم الساعة ( سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون ، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع ، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته ، وخوفاً من سطواته ، ورجاء في بركاته ) وإليه ) أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة ) ترجعون ( بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته ، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب ، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب .
ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير : فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره ، عطف عليه قوله : ( ولا يملك ) أي بوجه م الوجوه في وقت ما ) الذين يدعون ) أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم ، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى : ( من دونه ( من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم ) الشفاعة ) أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم ) إلا من شهد ) أي منهم ) بالحق ( .
أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام ، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى .
ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى(7/58)
صفحة رقم 59
الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك ، فكأنه لا علم لهم قال : ( وهم ( أو والحال أن من شهد ) يعلمون ) أي على بصيرة مما شهدوا به ، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد ، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا ، أو يكون المعنى : وهم من أهل العلم ، والأصنام ليسوا كذلك ، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين عل ىكل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير ، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به ، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله ، قال الرازي في اللوامع : وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد ، وقد يكون مخالطاً للعدد ، وقد يكون ملازماً للعدد ، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات - انتهى .
ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات ، فغذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به ، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة ، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم ، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذكل يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم ، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة ، وقال ابن الجوزي : وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به .
ولما كان التقدي رلتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع : فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن : اللهن ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل ، فقال عطفاً عليه : ( ولئن سألتهم ) أي الكفار ) من خلقهم ) أي العابدين والمعبودين معاً ، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه ، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله : ( إذ سألتهم ( : ( ليقولن الله ( الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فأنّى ) أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر ) يؤفكون ) أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان ، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية ، وتارة بغيرها ، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله .
ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة ، وأقام حجج الحق ، ونصب براهين الصدق ، وأُبت ما ينفعهم ، وحذرهم ما يضرهم ، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره ) لقد جئناكم بالحق ( ثم حصر أمرهم في رد(7/59)
صفحة رقم 60
ذلك إن ردوه غلى قسمين في حالين : حال مجاهرة وحال مماكرة ، وأخبر أ ، ه لا نجاة لهم على حالة منهما ، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم ، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون ، عليه ، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها ، وختم بالعتجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها ، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله : الموجب لنصره ، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم ، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً ، وصار يشكا أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم ، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر ( قال ) المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد ، لأنه صار حالاً من الأحوال ، ووصل به الضمير من غير تقدم على سرهم المقدر بعد ) بلى ( في قوله تعالى : ( إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ( أو وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ ) الساعة ( ، وقرئ شاذاً بالرفع ، ووجهه أن الواو للحال ، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم ، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه : ( وقيله ( الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال ، الدال على وجه ثيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها ، والتعبير بقوله : ( يا رب ( دال على ذلك بما تفيده ( يا ) الدالة على بعد ، أو تقديره ، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية ، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين ، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء .
ولما كان الإرسال إليهم - والمرسل قادر - مقتضياً لإيمانهم ، أكاد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه : ( إن هؤلاء ( لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : قومي ، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم ، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة(7/60)
صفحة رقم 61
الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً ) قوم ) أي أقوياء على الباطل ) لا يؤمنون ) أي لا يتجدد منهم هذا الفعل .
ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد ، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة ، وذلك كله ببركته ( صلى الله عليه وسلم ) في سياق ظاهره التهديد وباطنه - بالنسبة إلى علمه - البشارة بالتشديد فقال : ( فاصفح عنهم ) أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ ) وقل ) أي لهم : ( سلام ) أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم ) فسوف يعلمون ( بوعد لا خلف فيه ، فهذا ظاهره تهديد كبير ، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً ، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل - بما أفهمه أول السورة - فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل ، فللّه دره من آخر عانق الأول ، ومقطع رد إلى المطلع تنزل ، يا ناظم اللآلئ أين تذهب عن هذا البناء العالي ، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي ، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألىء ، ثم أعلاه فأنزله ، وأغلاه بدر المعاني وفضله .
.. . .(7/61)
صفحة رقم 62
سورة الدخان
الدخان : ( 1 - 8 ) حم
) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ ( ( )
مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة مشتركة ، وعلى ذلك دل اسمها الدخان إذا تؤملت آياته وإفصاح ما فيها وإشاراته ) بسم الله ( الملك الجبار الواحد القهار ) الرحمن ( الذي عم بنعمة النذارة ) الرحيم ( الذي خص أهل وداده برحمة البشارة .
تقدمت الإشارة إلى شيء من أسرار أخواتها .
ولما ختمت الزخرف ببشارة باطنة ونذارة ظاهرة ، وكان ما بشر به سبحانه من علم العرب وسلامتهم من غوائل ما كانوافيه مستبعداً ، افتتح هذا بمثل ذلك مقسماً عليه .
فقال : ( والكتاب ) أي الجامع لكل خير ) المبين ) أي البين في نفسه ، الموضح لما تقدم من دقيق البشارة لأهل الصفاء والبصارة ، واضح النذارة بصريح العبارة ، وغير ذلك من كل ما يراد منه ، ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) أنزلناه ) أي الكتاب إما جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض ) في ليلة مباركة ) أي ليلة القدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو النصف من شعبان ، فلذلك يتأثر عنه من التأثيرات ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : ينزل إلى سماء الدنيا كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك السنة وسماها ) مباركة ( لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون العبد فيها(7/62)
صفحة رقم 63
حاضراً بقلبه مشاهداً لربه ، يتنعم فيها بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة ، وقال الرازي في اللوامع : وأعظم الليالي بركة ما كوشف فيها بحقائق الأشياء .
ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة ، علل الإنزال أو استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : ( إنا ) أي على ما نحن عليه من الجلال ) كنا ( بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا ) منذرين ( لا نؤاخذهم من غير إنذار ، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم قلوباً وأوعاهم سمعاً نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم قاربه من المالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه ، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله
77 ( ) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون ( ) 7
[ الزخرف : 44 ] وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة ، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض ، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ( ثم ذكر من فضلها فقال ) فيها يفرق كل أمر حكيم ( فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل ، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم ، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى ) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ( وما تقدمه من قوله ) أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون ( وقوله سبحانه ) أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم ( وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد - إلى آخر السورة ، ففصل بعض ما أجملته هذا الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان ) فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ( وقوله تعالى ) يوم نبطش البطشة الكبرى ( ، والإشارة إلى يوم بدر ، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلا واعتبروا ، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، ثم ذكر تعالى : ( شجرة الزقوم ( إلى قوله : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ( والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول ، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين ، ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( وقد(7/63)
صفحة رقم 64
أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه ) إنما يتذكر من يخشى ( ثم قال ) فارتقب ( وعدك ووعيدهم ) إنهم مرتقبون ( .
ولما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة ، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة ، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوىء من الأعمال قائدة إلى كل خير بدليل أن أتباع ذوي البركة من العماء ، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم ، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته ، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته ، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها ، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل : ( فيها ) أي الليلة المباركة سواء قلنا : إنها ليلة القدر أو ليلة النصف أصالة أو مآلاً ) يفرق ) أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة ) كل أمر حكيم ) أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها ، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً ، قال البغوي رحمه الله : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر ، والأرزاق والآجال ، قال : وروى أبو الضحى عنه أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان فيسلمها إلى أربابها في ليلة القدر .
وقال الكرماني : فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والشعرين من شهر رمضان .
ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها ، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه ، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة ، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم : ( أمراً ) أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير ، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في في أقل من لمح البصر ، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال : ( من عندنا ) أي من العاديات والخوارق وما وراءها .
ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الإنذار ، علله بقوله مؤكداً ملا هلم من الإنكار : ( إنا ) أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة ) كنا ) أي أزلاً وأبداً ) مرسلين ) أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد ، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس ، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل ، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض ، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال(7/64)
صفحة رقم 65
دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة ، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي ( مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ) وكذا قوله في سورة القدر ) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ( فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة ، وبين سبحانه حال الرسالات بقوله : ( رحمة ( وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله ( منا ) إلى قوله : ( من ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك ، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد ، وتمهيد الشرائع في العباد ، حتى استنارت القلوب ، واطمأنت النفوس ، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان ، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق ، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق .
ولما كانت الرسالة لا بد فيها من السمع والعلم ، قال : ( إنه هو ) أي وحده ) السميع ) أي فهو الحي المريد ) العليم ( فهو القدير البصير المتكلم ، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم ، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا ، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها .
ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال ، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الإنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم من التوراة ، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال : ( رب ) أي مالك ومنشئ ومدبر ) السماوات ) أي جميع الأجرام العلوية ) والأرض ( وما فيها ) وما بينهما ( مما تشاهدون من هذا الفضاء ، وما فيه من الهواء وغيره ، مما تعلمون من اكتساب العباد ، وغيرهما مما لا تعلمون ، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله .
ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به ، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال : ( إن كنتم موقنين ) أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق ، (7/65)
صفحة رقم 66
فأنتم تعلمون أنه لا بد لهذه الأجرام الكثيفة جداً المتعالي بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهودنه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب ، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو كامل العلم شامل القدرة ، مختار في تدبيره ، حكيم في شأنه كله وجيمع تقديره ، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملاً يبغي بعضهم على بعض منغير رسول معلم بأوامره ، وأحكامه وزواجره ، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم ، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته .
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته ، وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته ، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته ، صرح أي وإلا منبهاً لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلم ولا بد فقال تعالى : ( لا إله إلا هو ) أي وإلا لنازعه في أمرهما أو بعضه منازع ، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة .
وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه ، فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاول الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر ، وحال ثابت مستقر .
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ، ثبت قوله تعالى : ( يحيى ويميت ( لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير ، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء مما فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ، ويحال شيء من الأمور عليه ، فهما جملتان : الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة ، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث .
ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب ، وكان السلب إدل على القهر ، ذكرهم ما لهم من ذلك ي أنفسهم فقال سبحانه : ( ربكم ) أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها ) ورب آبائكم ( ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم ، رقي نظرهم إلى النهاية فقال : ( الأولين ) أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون ، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة .
الدخان : ( 9 - 15 ) بل هم في. .. . .
) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ( ( )(7/66)
صفحة رقم 67
ولما كان أكثرهم منكراً لما لزمه القطع به بهذا البرهان الزاهر والسلطان الظاهر القاهر عناداً ولدداً وإن كان باطنه على غير ذلك ، فكان فعله فعل الشاك اللاعب ، كان التقدير لأجل ما يظهر من حالهم : لكنكم غير موقنين لعلم من العلوم ، بنى عليه قوله مع الصرف إلى الغيبة إعراضاً عنهم أيذاناً بالغضب ، وأنهم أهل للمعاجلة بالعطب : ( بل هم ) أي بضمائرهم ) في شك ( لأنهم لا يجردون أنفسهم من شوائب المكدرات لصفاء العلم ، ثم أعلم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن الشاغل لهم عن هذا المهم حال الصبيان مع ادعائهم الكمال بأخلاق الأجلاء من الرجال فقال : ( يلعبون ) أي فعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أجد الجد الذي لا مرية فيه اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه بعد فعل الشاك بالإعراض وعدم الإسراع إلى التصديق والإيقاظ .
ولما كان هذا موضع أن يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المفهوم من السياق : فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان ، الذي لم يدع لبساً لإنسان ؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديداً لهم : ( فارتقب ) أي انتظر بكل جهد عالياً عليم نظاراً لأحوالهم نظر من هو حارس لها ، متحفظاً من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب ، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلاً لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب ، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلانهم ) يوم تأتي السماء ) أي فيما يخيل للعين لما يغشي البصر من شدة الجهد بالجوع إن كان المراد ما حصل لهم من المجاعة الناشئة عن القحط الذي سببه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ) وروي في الصحيح أن الرجل منهم كان يرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، وفي الواقع أن المراد عند قرب الساعة وعقب قيامها ، فإنه ورد أنه يأتي إذ ذاك فيغشي الناس ويحصل للمؤمن منه كهيئة الزكان ، ويجوز أن يكون المراد أعم من ذلك كله وأوله وقت القحط وكان آية على ما بعده ، أو منه ما يأتي عند خروج الدخان من القحط الذي يحصل قبله أو غيره كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني قد خبأت لك خبأ فما هو ؟ ) قال : الدخ ، ففسر بالدخان ، فلذلك قال تعالى : ( بدخان مبين ) أي واضح لا لبس فيه عند رائية ومبين لما سواه من الآيات للفطن ) يغشى الناس ) أي المهددين بهذا ، وهم الذين رضوا بحضيض النوس والاضطراب عن أوج الثبات في رتبة الصواب ، روى مسلم في صحيحه عن أبي(7/67)
صفحة رقم 68
هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : بادروا بالأعمال ستاً : الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم .
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون عند إتيانه جرياً على عادة جهلهم : ما هذا ؟ أجيبوا بقوله تعالى حكاية عن لسان الحال ، أو قول بعضهم أو بعض أولياء الله : ( هذا عذاب أليم ( يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه بما كنتم تؤلمون دعائكم إلى الله برد مقولهم والاستخفاف باغتراركم بكثرة العدد والقوة والمدد .
ولما كان كأنه قيل : فما قالوا حين تحققوا ذلك ؟ قيل : قالوا وقد انحلت عرى تلك الغزائم ، ووهت تلك القوى من كل عازم ، وسفلت بعد العو تلك الشوامخ من الهمم مدعين أنهم لغاية الإذعان من أهل القرب والرضوان : ( ربنا ) أي أيها المبدع لنا والمحسن إلينا ) اكشف عنا العذاب ( ثم عللوا ذلك بما علموا أنه الموجب كشفه ، فقالوا مؤكدين لما لحالهم من المنافاة لخبرهم : ( إنا مؤمنون ) أي عريقون في وصف الإيمان واصلون إلى رتبة الإيقان ، وهذا يصح أن يراد به بعد طلوع الشمس من مغربها ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تقوم الساعة حتى تطلع اشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها ) ثم قرأ الآية ، وإن كان المراد بالعذاب ما حصل من القحط كان هذا الإيمان على سبيل الوعد .
ولما كان كشف الآيات وإظهار العذاب لا يفيد في الدلالة على الحق أكثر مما أفاده الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما أقامه من المعجزات بل إفادة الرسول أعظم ، أجيب من كأنه سأل عن حالهم عند ذلك بقوله معرضاً عن خطابهم ، إيذاناً بدوام مصابهم ، لئلا يظن أنه ما كشف عنهم العذاب إلا لظن أنهم صادقون : ( أنى ) أي كيف ومن أين ) لهم الذكرى ) أي هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم ) وقد ) أي والحال أنه قد ) جاءهم ( ما هو أعظم من ذلك بما لا يقاس ) رسول مبين ) أي ظاهر غاية الظهور أنه رسولنا ، وموضح غاية الإيضاح لما جاء به عنا بما أظهر من الآيات ، وغير ذلك من الدلالات .
ولما كان الإعراض عنه مع ماله من العظمة بالبيان استخفافاً به وبمن جاء من(7/68)
صفحة رقم 69
بعده ، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي بعد ما له من عليّ الرتبة في نفسه وبالإضافة إلى من أرسله .
ولما كانت الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الحق ، نازعة إلى الانقطاع إلى الله والعكوف ببابه ، واللجاء إلى جنابه ، إلا بجهد من النفس في النفور وعلاج دواعي الثبور ، أشار إلى ذلك بالتعبير بصيغة التفعل فقال : ( تولوا عنه ) أي أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ ) وقالوا ) أي زيادة على إساءتهم بالتولي : ( معلم ) أي علمه غيره من البشر ) منون ( فلم يبالوا باتناقض البين الأمر ، وهذا يدل على أن من لا يبالي بعرضه ولا حياء له لا طيب لدائه لأنه لا وجود لدوائه ، وأنه إذا مس بما يلينه ويرده ويهينه لا يؤمن من رجوعه إلى الحال السيىء عند كشف ذلك الضر عنه .
ولما لفت سبحانه الخطاب عنهم إهانة لهم ، بين أن سببه أن داءهم عضال ، فليس به أبداً زوال ، فقال مؤكداً لاستبعادهم زوال ما هم فيه : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة بالعلم المحيط وغيره ) كاشفوا العذاب ) أي عنكم بدعاء رسولكم صل الله عليه وسلم في القول بأن الدخان ما كانوا يرونه بسبب الجوع من القحط ) قليلاً ( إقامة للحجة عليكم لا لخفاء ما في ضمائركم علينا .
ولما كانوا قد أكدوا الإخبار بإيمانهم ، وهو باطل ، أكد سبحانه الإخبار بكذبهم ، ومن أصدق منه سبحانه قيلاً ، فقال تحقيقاً لقوله تعالى ) ) ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ( ( ) ) وإنهم لكاذبون ( ) [ الأنعام : 28 ] : ( إنكم عائدون ) أي ثابت عودكم بعد كشفنا عنكم في ذلك الزمن القصير إلى الكفران وإن أكدتم حصول الإيمان بأكيد الإيمان لما في جبلاتكم من العوج ولطباعكم من المبادرة إلى الزلل ، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل ، وإن كان هذا في آخر الزمان فلا يدع أن يكون الخطاب لهم على حقيقته بملك أو غيره ممن يرده الله تعالى لأن ذلك زمان خرق العادات ونقض المطردات إقامة للحجة عليهم وله الحجة البالغة ، وتأديباً لنا وتعليماً .
الدخان : ( 16 - 18 ) يوم نبطش البطشة. .. . .
) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ( )
ولما كان اليوم قد يراد به المن المجتمع في حكم من الأحكام ، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يوماً واحداً لاتحاد ذلك الحكم ، أبدل من ) يوم الدخان ( قوله تهديداً بشق الأكباد : ( يوم نبطش ) أي بما لنا من العظمة ، والبطش : الأخذ بقوة ) ابطشة الكبرى ) أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم ، سواء(7/69)
صفحة رقم 70
كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه ، وتمرده على ربه وعصيانهن ويجوز أن يكون هذا ظرفاً لعائدون .
ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجباً لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده ، قال مؤكداً ) إنا منتقمون ) أي ذلك سفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا .
ولما كان التقدير : لفقد فتناهم بإرسالك إليهم ليكشف ذلك لمن لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عما نعلمه في الأزل ، وفيما لا يزال ولم يزل ، من بواطن أمورهم ، فتقوم الحجة على من خالفنا على مقتضى عاداتكم ، عطف عليه محذراً لقريش ومسلياً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله : ( ولقد فتنا ) أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال .
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش ، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكمنة ، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال : ( قبلهم ) أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة .
ولما كان فرعون من أقوى من جاءه رسول قبلهم بما كان له من الجنود والأموال والمكنة ، وكان الرسول الذي أتاه قد جمع له - ( صلى الله عليه وسلم ) - الآيات التي اشتملت على التصرف في العناصر الأربعة .
فكان فيها الماء والتراب والنار والهواء ، وكانوا إذا أتتهم الآية قالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ، فإذا كشف عنهم ذلك عادوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر تعالى عن هؤلاء عند مجيء الدخان - إلى غير ذلك أجمعين ، فكانوا أجلى مثل لقوله تعالى في التي قبلها
77 ( ) فأهلكنا أشد منهم بطشاً ( ) 7
[ الزخرف : 8 ] خصهم بالذكر من بين المفتونين قبل فقال : ( قوم فرعون ) أي مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا ، وسيأتي التصريح به في آخر القصة ) وجاءهم ) أي المضافين والمضاف إليه في زيادة فتنتهم ) رسول كريم ) أي يعلمون شرفه نسباً وأخلاقًا وأفعالاً ، ثم زاد بيان كرمه بما ظهر لله به من العناية بما أيده به من المعجزات .
ولما أخبر بمجيئه إليهم بالرسالة التي لا تكون إلا بالقول ، فسر ما بلغهم منها بقوله : ( أن أدوا ) أي أوصلوا مع البشر وطيب النفس ، وأبرز ذلك في صيغة الأمر الذي لا يسوغ مخالفته ولما كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين تصرفه في قومه حائل كثيف منظلم فرعون وقومه ، أشار إليه بحرف الغاية فقال : ( إليّ ( ونبهه على أنه لا(7/70)
صفحة رقم 71
حكم له عليهم بقوله ) عباد الله ) أي بني إسرائيل الذين استعبدتموهم ظلماً وليست عليهم عبودية إلا للذي أظهر في أمورهم صفات جلاله وجماله بما صنع مع آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده وما سيظهر مما ترونه وما يكون بعدكم .
ولما كان لهم به من النفع إن تبعوا ما جاءهم به والضر إن ردوه ما ليس لغيرهم ، وكان لا يقدر على تأدية بني إسرائيل إليه من أهل الأرض غيرهم لاحتوائهم عليهم كان تقديم الجار في أحكم مواضعه فلذلك قال مؤكداً فإنكارهم لرسالته عليه الصلاة والسلام : ( إني لكم ) أي خاصة بسبب ذلك ) رسول ) أي من عند من لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه ، ولما كان الإنسان لا يأتمن على السياسة إلا ثقة كافياً ، قال واصفاً لنفسه بما يزيل عذهرم ويقيم الحجة عليهم : ( أمين ) أي بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك .
الدخان : ( 19 - 24 ) وأن لا تعلوا. .. . .
) وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ( ( )
ولما كان استبعاد عبد الغير بغير حق في صورة العلو على مالك العبد قال : ( وأن لا تلعوا ) أي تفعلوا باستعبادكم لبني إسرائيل نبي الله ابن خليل الله فعل العالي ) على الله ( الذي له مجامع العظمة ومعاقد العزة بنفوذ الكلمة وجميع أصاف الكمال فإنكم إن فعلتم ذلك أخذكم بعزته ودمركم بعظمته .
ولما كان علو من يتصرف في العبد على مالك العبد لا يثبت إلا بعد ثبوت أنه ملكه وأنه لا يحب التصرف فيه ، علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل أن ما أتى به بصدد أن ينكروه لأن النزوع عما استقر في النفس ومضى عليه الإلف بعيد : ( إني آيتكم ( وهو يصح أن يكون سام فاعل وأن يكون فعلاً مضارعاً .
ولما كان فعلهم فعل العالي على السلطان ، قال : ( بسلطان ) أي أمر باهر قاهر من عند مالكهم ، لا يسوغ لأحد الاستعلاء عليه فكيف بالاستعلاء على من هو بأمره ) مبين ) أي وضاح في نفسه سلطنته ومظهر لغيره ذلك .
ولما كان من العجائب أن يقتل منهم نفساً ثم يخرج فاراً منهم ثميأتي إليهم لا سيما إتيناً يقاهرهم فيه في أمر عظيم من غير أن يقع بينهم وبينه ما يمحو ما تقدم منه ، نبههم على إتيانه هذا على هذا الحال آية أخرى دالة على السلطان ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنهم أنه في قبضتهم : ( وإني عذت ) أي اعتصمت وامتنعت ) بربي ( الذي رباني على(7/71)
صفحة رقم 72
ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إليّ ) وربكم ( الذي أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إيه حكمته من جبروتكم وتكبركم وقوة مكنتكم ) أن ترجمون ) أي أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي ، ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك ، فإني قلت ) إني اخاف أن يقتلون ( فقال
77 ( ) سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا ( ) 7
[ القصص : 38 ] فهو من أعظم ياتي أن لا تصلوا على قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني .
ولما كان التقديرك فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم ، عطف عليه قوله : ( وإن لم تؤمنوا لي ) أي تصدقوا لأجلي ما أخبرتكم به ) فاعتزلون ) أي وإن لم تعتزلوني هلكتم ، ولا تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم سوء العذاب ، وما قتلتم أبناءهم إلا من أجلي ، فرباني على كف من ضاقت عليه الأرض بسببي وسفك الدماء في شأني ، ومنعه الله من أن يصل إليّ منه سوء قبل أن أعوذ به ، فكيف به بعد أن أرسلني وعذب به فأعاذني ، واستجرت به فأجارني .
ولما كان التقدير : لم يؤمنوا به ولا لأجله ولم يتعزلوه ، بل بغوا له الغوائل وراموا أن يواقعوا به الدواهي والقواصم ، فلم يقدروا على ذلك وآذوا قومه وطال البلاء ، سبب عنه قوله : ( فدعا ربه ( الذي أحسن إليه وضمن له سياسته وسياسة قومه ، ثم فسر ما دعا به قوله : ( أن هؤلاء ) أي الحقيرون الأراذل الذليلون ) قوم ) أي لهم قوة على القيام بما يحاولونه ) مجرمون ) أي عريقون في قطع ما أمرت به أن يوصل ، وذلك متضمن وصل ما أمرت به أن يقطع ، فكان المعنى : فدعا بهذا المعنى ، ولذلك أتى ( بأن ) الدالة على المصدرية .
ولما كان ممن يستجيب دعاءه ويكرم نداءه ، سبب عن ذلك قوله : ( فأسر ) أي فقلنا له : سر عامة الليل - هذا على قراءة المدنيين وابن كثير بوصل الهمزة وعلى قراءة غيرهم بالقطع المعنى : أوقع السرى وهو السير عامة الليل ) بعبادي ( الذين هم أهل لإضافتهم إلى جنابي ، قومك الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي لا لعبادة غيري .
ولما كان سبحانه قد تقدم إلى بني إسرائيل في أن يكونوا متهيئين في الليلة التي أمر بالسرى فيها بحيث لا يكون لأحد منهم عاقة أصلاً كما تقدم بيانه في الأعراف عن التوراة ، بين تأكيده لذلك بقوله : ( ليلاً ( فصار تأكيداً بغير اللفظ ، وإنما أمره بالسير في الليل لأنه أوقع بالقبط موت الأبكار ليلاً ، فأمر فرعون موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج بقومه في ذلك خوفاً من أن يموت القبط .(7/72)
صفحة رقم 73
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت ، منعوهم الخروج ، وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فيقتلوهم ، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمروهم بالخروج كان حال من لا يصدق له ترجع في قوله : ( إنكم متبعون ) أي مطلوبون بغاية الشهوة والجهد من عدوكم ، فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسب وقوع الموت الفاشي فيهم ، فإن القلوب بيد الله ، فهو يقسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بهم ، فلم أكلفكم لمباشرة شيء من أمرهم .
ولما أمره بالإسراء وعلله ، أمره بما يفعل فيه وعلله فقال : ( واترك البحر ) أي إذا أسريت بهم وتبعك العدو ووصلت إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجوتم ) رهواً ( بعد خروجكم منه بأجمعكم أي منفرجاً واسعاً ساكناً بحيث يكون المرتفع من مائه مرتفعاً والمنخفض منخفضاً كالجدار ، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها ليدخل فيه عدوكم فنمجد بإغراقهم كما وعدناكم ، وقال البغوي : راهياً أي ذي رهو فسمي بالمصدر - وعزاه إلى مقاتل - انتهى .
ولما كانت هذه أسباباً لدخول آل فرعون فيه ، علل لما يكون عنها تسكيناً لقلوبهم في ترك البحر طريقاً مفتوحاً يدخله العدو ، فقال مؤكداً لأجل استبعاد بني إسرائيل مضمون الخبر لأنه من خوارق العادات مع ما لفرعون وآله في قلوبهم من الهيبة الموجبة لأن يستبعدوا معها عمومهم بالإهلاك ) إنهم جند مغرقون ) أي متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور .
الدخان : ( 25 - 31 ) كم تركوا من. .. . .
) كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ( ( )
ولما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير : فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتعبهم آل فرعون كما أخبر سبحانه ، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من(7/73)
صفحة رقم 74
شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد ، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف : ( كم تركوا ) أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا ) من جنات ) أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم ويستر الهموم ، ودل على كرم الأرض بقوله : ( وعيون وزروع ) أي مما هو دون الأشجار .
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بمنازل ومناظر في الجنان غيرها فقال : ( ومقام كريم ) أي مجلس شريق هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه ، لأن النهاية فيما يرضيه .
ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه ، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف ، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال : ( ومقام كريم ) أي مجلس شريف هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه ، لأن النهاية فيما يرضيه .
ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه ، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف ، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال : ( ونعمة ( هي بفتح النون اسم للتنعم بمعنى الترفه والعيش اللين الرغد ، وأما التي بالكسر فهي الإنعام ) كانوا فيها ) أي دائماً ) فاكهين ) أي فعلهم في عيشهم فعل المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه .
ولما كان هذا أمراً عظيماً لا يكاد يصدق أن يكون لأحد ، دل على عظمه وحصوله لهم بقوله : ( كذلك ) أي الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه ، فلا يغترن أحد بما ابتليناه به من النعم لئلا يصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم .
ولما أفهم سوق الكلام هكذا إغراقهم كلهم ، زاده إيضاحاً بالتعبير بالإرث الذي حقيقته الأخذ عن الميت أخذاً لا منازع فيه فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد اسم الإشارة : ( وأورثناهم ) أي تلك الأمور العظيمة ) قوماً ) أي ناساً ذوي قوة في في القيام على ما يحاولونه ، وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقه بقوله : ( آخرين ( قال ابن برجان ، وقال في سورة الظلمة : ( وعيون وكنوز ) مكان ( وزروع ) لما كان المعهود من الزرع الحصد في أقرب المدة أورث زروعها وجناعها وما فيها من مقام كريم قوماً بآل فرعون فإنهم أهلكوا ولا نبي إسرائيل فإنهم قد عبروا البحر ، ولما توطد ملكهم في الأرض المقدسة اتصل بمصرن فورثوا الأرض بكنوزها وأموالها ونعمتها ومقامها الكريم - انتهى .
ولما كان الإهلاك يوجب أسفاً على المهلكين ولو من بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعاً فكيف إذا كانوا أهل مملكة ولا سيمنا إذا كانوا في نهاية الرئاسة ، أخبر بأنهم كانوا لهوانهم عنده سبحانه وتعالىعلى خلاف ذلك ، فسبب عما مضى قوله : ( فما بكت عليهم ( استعارة لعدم الاكتراث لهم لهوانهم ) السماء والأرض ( وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه ، روى أبو يعلى في مسنده والترمذي في(7/74)
صفحة رقم 75
جامعه - وقال : غريب والربذي والرقاشي يضعفان في الحديث - عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من مسلم إلا وله في السماء بابان ، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه ) وتلا هذه الآية ، وقال علي رضي الله عنه : إن المؤمن إذا مات بكى مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء .
ولما جرت العادة بأن العدو قد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله ، أخبر تتميماً لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال : ( وما كانوا ( ولما كان هذا لكونه خيراً عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير من بعدهم فقط ، لم يذكر التقييد بذلك الوقت بإذن ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال كان كأنه لم يكن لعظم هذا الأخذ بخلاف ما مر في في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم ، فإن تقييد عدم الإنظار بذلك الوقت لرد السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى : ( منظرين ) أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة من ممهل ما لحظه فما فوقها يتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهولته علينا في أسرع من اللمح ، لم يقدرا على دفاع ، فنالهم عذاب الدنيا وصاروا إلى عذاب الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم .
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم ، أكد سبحانه الإخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيهاً على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال : ( ولقد نجينا ) أي بما لنا من العظمة ( تنجية عظيمة ) مع كونها بسبب الآيات المتفرقات كانت على التدريج ) بني إسرائيل ( عبدنا المخلص لنا ) من العذاب المهين ( بسبب أنهم كانوا عندهم في عداد العبيد يتسخدمون الرجال والنساء بل أذل للزيادة على التصرف العبيد بالتذبيح للأبناء ولما تشوف السامع إلى صاحب ذلك العذاب قال مبدلاً مما قبله إفهاماً لأن فرعون نفسه كان عذاباً لإفراطه في أذاهم : ( من فرعون ( ثم علل ذلك بما يعرف منه صحة الوصف للعذاب فقال مؤكداً لأن حال قريش في استذلال المؤمنين حل من يكذب بأن الله أنجى بني إسرائيل على ضعفهم فهو ينجي غيرهم من الضعفاء أو يكذب بأن(7/75)
صفحة رقم 76
فرعون كان قوياً ) إنه كان عالياً ( في جبلته العراقة في العلو ) من المسرفين ) أي العريقين في مجاوزة الحدود .
الدخان : ( 32 - 37 ) ولقد اخترناهم على. .. . .
) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( ( )
ولما كانت قريش تفتخر بظواهر الأمور من الزينة والغرور ويعدونه تعظيماً من الله ويعدونضعف الحال في الدنيا شقاء وبعداً من الله ، رد عليهم قولهم بما أتى بني إسرائيل على ما كانوا فيه من الضعف وسوء الحال بعد إهلاك آل فرعون بعذاب الاستئصال ، فقال مؤكداً لاستبعاد قريش أن يختار من قل حظه من الدنيا : ( ولقد ( اخترناهم أي فعلنا بما لنا من العظمة في جعلنا لهم خياراً فعل من اجتهد في ذلك ، وعظم أمرهم بقوله بانياً على ما تقديره : اختياراً مستعلياً ) على علم ) أي منا بما يكون منهم من خير وشر ، وقد ظهر من آثاره أنكم صرتم تسألونهم وأنتم صريح ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام عمنا ينوبكم وتجعلونهم قدوتكم فيما يصيبكم وتضربون إليه أكباد الإبل ، وهكذا المفضل عليه فقال : ( على العالمين ) أي الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتاب وأرسلنا إليهم من الرسل .
ولما أعلم باختيارهم ، بين آثار الاختيار فقال : ( وآتيناهم ) أي على ما لنا من العظمة ) من الآيات ) أي العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه الصلاة والسلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين يحيله إلى غير ما كان عليه ، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات الستع ، وفي هذا ما هو رادع للعرب عن بعض أقوالهم من خوف التخطف من العرب والفقر لقطع الجلب عنهم وغير ذلك ) مبين ) أي بين لنفسه موضح التخطف من العرب والفقر لقطع الجلب عنهم وغير ذلك ) مبين ) أي بين لنفسه موضح لغيره ، وما أنسب هذا الختم لقوله أول قصتهم ( ولد فتنا قبلهم قوم فرعون ) .
ولما ثبت بما مضى أنه سبحانه متصف بالإحياء والإماتة ، وكان إنكار ذلك عناداً لا يستطيع أحد يثبت الإله أن ينكره ، وكان الإقرار بذلك في بعض وإنكاره في بعض تحكماً ومخالفاً لحاكم العقل وصارم النقل ، وكان من الآيات التي أوتوها إحياؤهم بعد إماتتهم حين طلبوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة ، وحين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر(7/76)
صفحة رقم 77
الموت ، وكان ذلك هو البعث بعينه ، وكان العرب ينكرونه ويبالغون في إنكارهم له ولا يسألونهم عنه ، قال موبخاً لهم شيراً بالتأكيد إلى أنه لا يكاد يصدق أن أحداً ينكر ذلك لما له من الأدلة : ( إن ( وحقرهم بقوله : ( هؤلاء ) أي الأدنياء الأقلاء الأذلاء ) ليقولون ) أي بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار في نظير تأكيد الإثبات : ( إن ) أي ما .
ولما كان قد تقدم قوله تعالى ) يحيي ويميت ( وهم يعلمون أن المراد به أن يتكرر منه ألحياء للشخص الواحدن وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه
77 ( ) وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ( ) 7
[ البقرة : 28 ] أي بالانتشار بعد الحياة وقال
77 ( ) أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ( ) 7
[ غافر : 11 ] قالوا : ما ) هي إلا موتتنا ( على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا ) الأولى ) أي التي كانت قبل نفخ الروح - كما سيأتي في الجاثية ) إن هي إلا حياتنا الدنيا ( وعبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبة لها منه ، وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها ، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى ، فحط الأمر على أن الأبتداء كان من موت لم يتقدمه حياة ، أكدوه بما يفهمه تصريحاً فقالوا برد ما أثبته الله على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما نحن ( وأكدوا النفي فقالوا : ( بمنشرين ) أي من منشر ما بالبعث بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت ، يقال : نشره وأنشره - إذا أحياه .
ولما كانوا يزعموه أن دعوى الإحياء لا يصح إلا إذا شاهدوا أحداً من الأموات الذين يعرفونه حياً بعد أن تمزق جلده وعظامه ، سببوا عن إنكارهم مخاطبين للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تبعه : ( فأتوا ) أي أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت إيذاناً بأنهم لا يصدقون بذلك وغن كثر معتقدوه من جنس بشرهم وتبعهم ) بآبائنا ) أي لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم فلا نشك في أن ذلك إحياء لمن مات ليكون ذلك آية لنا على البعث ، وأكدوا تكذيبهم بقوله : ( إن كنتم صادقين ) أي ثابتاً صدقكم .
ولما أخبروا على هذه العظمة تنطعاً لأنها لو وقعت لم يكن بأدل على ثبوت النبوة المستلزمة لتصديق كل ما يقول لهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما يأتيهم به من الآيات ، غير خائفين من الله وهم يعلمون قدرته وإهلاكه للماضين لأجل تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكأنهم يدعون خصوصيته في مكنة من عين أو معنى ينجون بها من مساواة من قبلهم في ذلك فقال تعالى منكراً عليهم : ( أهم خير ) أي في الدين والدنيا ) أم قوم(7/77)
صفحة رقم 78
تبع ) أي الذين ملك بهم تبع الأرض بطولها والعرض وحيرة الحيرة وبنى قصر سمرقند وكان مؤمناً ، وقومه حمير ومن تبعهم أقرب المهلكين إلى قريش زماناً ومكاناً .
وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار ، وقال الرازي في اللوامع : هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق .
وقال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار لما قتل ابنه غيلة بالمدينة الشريفة وما وعظته به اليهود في الكف عن إخراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش : فصدقهم وتبع دينهم ، وذلك قبل نسخه ، وقال عن الرقاشي : آمن تبع بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث بسبعمائة عام ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً .
ولما كان ذلك في سياق التهديد بالإهلاك لأجل مخالفتهم ، وكان الإهلاك لذلك إنما كان لبعض من تقدم زمانهم لا لجميع الخلق ، أدخل الجار فقال : ( والذين من قبلهم ) أي من مشاهير الأمر كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد .
ولما كان كأنه قيل : ما لهؤلاء الأمم ؟ قيل : ( أهلكناهم ) أي بعظمتنا وإن كانوا عظماء لا يشعرهم هؤلاء فيما لهم من المكنة لقطعهم من أمر الله به أو يوصل من الرسل وأتباعهم ، وتكذيبهم بما أتوا به ، ولذلك علل الإهلاك تحذيراً للعرب بقوله مؤكداً لظنهم أن هلاكهم إنما هو على عادة الدهر : ( إنهم كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) مجرمين ) أي عريقين في الإجرام ، فليحذر هؤلاء إذا ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم وأن يحل بهم ما حل بهم .
الدخان : ( 38 - 45 ) وما خلقنا السماوات. .. . .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ( ( )
ولما كان التقدير للاستدلال على الجزاء الذي جامعه التكفل بجميع أنحائه يوم القيامة : فإنا ما خلقنا الناس عبثاً يبغي بعضهم على بعض ثم لا يؤاخذون ، عطف عليه ما هو أكبر في الظاهر منه فقال : ( وما خلقنا السماوات ) أي على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها ، وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد من العبث مع أن إدراك تعددها مما يقتضي المشاهدة بما فيها من الكواكب ، ووحد في سورة الأنبياء تخصيصاً بما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته لما ذكر هناك من اختصاص ( لدن ) بما بطن .(7/78)
صفحة رقم 79
ولما كان الدليل على تطابق الأرضي دقيقاً وحدها فقال : ( والأرض ) أي على ما فيها من المنافع ) وما بينهما ) أي النوعين وبين كل واحدة منها وما يليها ) لاعبين ) أي على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص ، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً ، بل اللعب أخف منه ، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين لصفة القدوسية ، فإنه ( لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها بالحق من قويها غير متعتع ) - رواه ابن ماجة عن أبي سعيد وابن جميع في معجمه عن جابر ، وصاحب الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنهم رفعوه ، وهو شيء لا يرضى به لنفسه أقل حكم الدنيا ، فكان هذا برهاناً قاطعاً على صحة الحشر ليظهر هناك الفصل بالعدل والفضل .
ولما كان أكثر الخلق لا يعلم ذلك لعظمته عن النظر في دليله وإن كان قطعياً بديهيّاً .
) ولكن أكثرهم ) أي أكثر هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون : ( إن هي إلا موتتنا الأولى ( وكذا من نحا نحوهم ) لا يعلمون ) أي أنا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق فهم لأجل ذلك يجترئون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ، ولو تذكروا ما ركزناه في جبلاتهن لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه كما يتولى حكمها المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم ، ويشرطون الحكم بالحق ، ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه .
ولما كان كأنه قيل : إنا نرى أكثر المظلومين يموتون بمرير غصصهم مقهورين ، وأكثر الظالمين يذهبون ظافرين بمطالبهم مسرورين ، فمتى يكون هذا الحق ؟ قال جواباً لذلك مؤكداً لأجل(7/79)
صفحة رقم 80
تكذبيهم : ( إن يوم الفصل ( عند جمع الأولين والآخرين من جميع المكلفين الذين ينتظره كل أحد للفرق بين كل ملبس ، فلا يدع نوعاً منه حتى أنه يميز بين المكاره المحاب ودار النعيم وغار الجحيم ، وبين أهل كل منهما بتمييز المحق من المبطل بالثواب والعقاب وهو بعد البعث من الموت ) ميقاتهم ) أي وقت جمع الخلائق للحكم بينهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت به الكتب على ألسنة الرسل ) أجمعين ( لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات .
ولما ذكر هذا اليوم الذي دل على عظمته بهذه العبارة إفراداً وتركيباً ، ذكر من وصفه ما يحمل على الخوف والرجاء ، أو رق من أعلى أو أسفل ) عن مولى ( أريد أخذه بما وقع منه ) شيئاً ( من الإغناء .
ولما كان الإغناء تارة يكون بالرفق وأخرى بالعنف ، صرح بالثاني لأنه أعظمها والسياق للإهلاك والقهر فقال : ( ولا هم ) أي القسمان ) ينصرون ) أي من ناصر ما لو أراد بعضهم نصرة بعض ، أو أراد غيرهم لو فرض أن ينصرهم ، وعبر بالجمع الذي أفاده الإبهام للمولى ليتناول القليل والكثير منه لأن النفي عنه نفي عن الأفراد من باب الأولى .
ولما نفى الإغناء استثنى منه فقال : ( إلا من رحم الله ) أي أراد إكرامه الملك الأعظم وهم المؤمنون يشفع بعضهم لبعض بإذن الله في الشفاعة لأحدهم فيكرم الشافع فيه بقبول شفاعته ويكرمه بقبوله الشفاعة فيه .
ولما كان ما تقدم دالاً على تمام القدرة في الإكرام والانتقام ، وكان الإكرام قد يكون عن ضعف ، قال نافياً لذلك ومقرراً لتمام القدرة اللازم منه الاختصاص بذلك مؤكداً له تنبيهاً على أنه ما ينبغي أن يجعل نصب العين وتعقد عليه الخناصر ، ولأن إشراكهم وتكذيبهم بالبعث يتضمن التكذيب بذلك : ( إنه هو ) أي وحده ) العزيز ) أي المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب ، بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد .
ولما كان العزيز قد لا يرحم قال : ( الرحيم ) أي الذي لا تمنع عزته أن يكرم من يشاء .
ولما كان السياق للانتقام ، أخبر عن حال الفجار على سبيل الاستئناف ، فقال مؤكداً لما يكذبون به : ( إن شجرة الزقوم ( التي تقدم من وصفها ما يقطع القلوب من أنها تخرج من أصل الجحيم ، وأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وغيره مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى والذي تعرفونه من ذلك في الدنيا أنها شجرة صغيرة الورق ذفرة أي شديد النتن - مرة ، من الزقم ، أي اللقم الشديد والشوب والمفرط ، وقال عبد الحق في كتابه الواعي : الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها ذفرة لها كعابر في(7/80)
صفحة رقم 81
سوقها أي عقد كالأنابيب ولها ورد تجرسه النحل ، ورأس ورقها قبيح جداً ، وهي مرعى ، ومنابتها السهل ، قال ابن برجان : وهي في النار في مقابلة شجرة طوبى في الجنة ، يضطرون إلى أكلها وإلى شرب الغسلين كما يضطر أهل الدنيا لإدخال الطعام والشراب ) طعام الأثيم ) أي المبالغ في اكتساب الآثام حتى مرن عليها فصارت به إلى الكفر ) كالمهل ) أي القطران الرقيق وما ذاب من صفر أو حديد أو دردية ، روى أحمد والترمذي - وقال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين - وابن حبان في صحيحه والحاكم من وجه آخر - وقال الحاكم : صحيح الإسناد - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) كالمهل ( قال : ( كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه ) .
) تغلي ) أي الشجرة - على قراءة الجماعة بالتأنيث ، والطعام على قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب بالتذكير ولا يعود الضمير على المهل لأنه مشبه به ) في البطون ) أي من شدة الحر .
الدخان : ( 46 - 54 ) كغلي الحميم
) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ( ( )
ولما كان للتذكير بما يعرف شأن عظيم من الإقبال أو التنفير وإن كان دون ما شبه به قال : ( كغلي ) أي مثل غلي ) الحميم ) أي الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته ، فهو يثبت كأنه يريد أن يتخلص مما هو فيه من الحر ، روى - وقال حسن صحيح - والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال صحيح على شرطهما - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معائشهم فكيف بمن يكون هذا طعامه ) .(7/81)
صفحة رقم 82
ولما كان كأنه قيل : ما للأثيم يأكل هذا الطعام ، وما الحامل له عليه وعلى مقاربة مكانه ، أجيب بأنه مقهور عليه ، يقتضيه صفة العزة فيه الرحمة لإعادته بأن يقال اللزبانية : ( خذوه ) أي أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً ) فاعتلوه ) أي جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول ، وقال الرازي في اللوامع : والعتل أن يأخذ بمجامع ثوبه عند صدره يجره ، وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر ) إلى سواء ) أي وسط ) الجحيم ) أي النار التي في غاية الاضطرام والتوقد ، وهي موضع خروج الشجرة التي هي طعامه .
ولما أفهم هذا صار في موضع يحيط به العذاب فيه من جميع الجوانب ، بين أن له نوعاً آخر من النكد رتبته في العظمة مما يستحق العطف بأداة التراخي فقال : ( هم صبوا ) أي في جميع الجهة التي هي ) فوق رأسه ( ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه ) من عذاب الحميم ) أي العذاب الذي يغلي به الحميم أو الذي هو الحميم نفسه ، والتعبير عنه بالعذاب أهول ، وهذا في مقابلة ما كان لهم من البركة بما ينزل من السماء من المطر ليجتمع لهم حر الظاهر بالحميم والباطن بالزقوم .
ولما علم بهذا أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، بل وصل إلى غاية الهوان ، دل عليه بالتهكم بما كان يظن في نفسه من العظمة التي يترفع بها في الدنيا على أوامر الله ، فقيل بناء على ما تقديره : يفعل به ذلك مقولاً له : ( ذق ) أي من هذا أوصلك إليه تغررك على أولياء الله .
ولما كان أولياء الله منالرسل وأتباعهم يخبرون في الدنيا أنه .
لإبائه أمر الله - هو الذليل ، وكان هذا الأثيم وأتباعه يكذبون بذلك ويؤكدون قولهم المقتضي لعظمته لإحراق أكباد الأولياء حكى له قولهم على ما كانوا يلفظون به زيادة في تذعيبه بالتوبيخ والتقريع معللاً للأمر بالذوق : ( إنك ( وأكد بقوله : ( أنت ( وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك ) العزيز ) أي الذي يغلب ولا يغلب ) الكريم ) أي الجامع إلى الجود شرف النفس وعظم الإباء ، فلا تنفعك عن ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها فلست بلئيم أي بخيل مهين النفس خسيس الإباء ، فهو كناية عن مخاطبته بالخسة مع إقامة الدليل على ذلك بما هو فيه من المهالك ، وقراءة الكسائي بفتح ( إن ) دالة على هذا العذاب قولاً وفعلاً على ما كان يقال له من هذا الدنيا ويعتقد هو أنه حق .
ولما دل على أنه يقال هذا لكل من الأثماء ويفعل به على حدته ، دل على ما يعمون به ، فقال مؤكداً رداً لتكذيبهم سائقاً لهم على وجه مفهم أنه علة ما ذكر من عذابهم : ( إن هذا ) أي العذاب قولاً وفعلاً وحالاً ) ما كنتم ) أي جبلة وطبعاً طبعناكم عليه لتظهر قدرتنا في أمركم دنيا وأخرى ) به تمترون ) أي تعالجون أنفسكم(7/82)
صفحة رقم 83
وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لا سيما لمن جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك .
ولما وصف سبحانه ما للمبالغ في المساوئ وأفرده أولاً إشارة إلى قليل في قوم هذا النبي الكرمي الذي تداركهم الله بدعوته تشريفاً له وإعلاء لمقداره ، وجمع آخراً ذاكراً من آثار مناستحق به ذلك من مشاركة في أوزاره ، ففهم أن وصفه انقضى ، ومر ومضى ، فتاقت النفس إلى تعرف ما لأضداده الذين خالفوه في مبدئه ومعاده ، قال مؤكداً لما لهم من التكذيب : ( إن المتقين ) أي العريقين في هذا الوصف ) في مقام ) أي موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه ) أمين ) أي يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه .
ولما كان الوصف بعد الوصف شديد الترغيب في الشيء ، قال مبدلاً من ( مقام ) : ( في جنات ) أي بساتين تقصر العقول عن إدراك وصفها كل وصفها ) وعيون ( كذلك بحيث تقر بها العيون ، ولما كان قد أشار إلى وصف ما للباطن من لذة النظر ولباس الأكل والشرب ، أتبعه كسوة الظاهر وما لكل من القرب فقال : ( يلبسون ( ولما وصف ما أعد لهم من اللبس في الجنة ، دل على الكثرة جداً بقوله : ( من سندس ( وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً ، وزاد صنفاً آخر فقال : ( وإستبرق ( وهو ما غلظ منه يعمل بطائن ، وسمي بذلك لشدة بريقه .
ولما كان وصف الأثماء بما لهم من القبض الشاغل لكل منهم عن نفسه وغيره بعد ما تقدم في الزخرف في آية الأخلاء ما أعلم بكونهم مدابرين وصف أضدادهم بما لهم من البسط مع الاجتماع فقال : ( متقابلين ) أي ليس منهم أحد يدابر الآخر لا حساً ولا معنى ، وود أن كلاًّ منهم يقابل الآخر ناظراً إليه ، فإذا أرادوا النساء حالت الستور بينهم .
ولما كان هذا أمراً يبهر العقل ، فلا يكاد يتصوره ، قال مؤكداً له : ( كذلك ) أي الأمر كما ذكرنا سواء لا مرية فيه .
ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال : ( وزوجناهم ) أي قرناهم كما تقرن الأزواج ، وليس المراد به العقد لأنه فعل متعد بنفسه وهو لا يكون في الجنة لأن فائدته الحل ، والجنة ليست بدار كلفة من تحليل أو تحريم ، وذكر مظهر العظمة تنبيهاً على كمال الشرف ) بحور ) أي على حسب التوزيع بجواري بيض حسان نقيات الثياب ) عين ) أي واسعات الأعين .
الدخان : ( 55 - 59 ) يدعون فيها بكل. .. . .
) يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ( ( )(7/83)
صفحة رقم 84
ولما كان الإنسان في الدنيا يخشى كلفة النفقات ، وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال : ( يدعون ) أي يطلبون طلباص هو بغاية المسرة ) فيها بكل ( لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف ببعد مكان ولا فقد أوان ، ولا غير ذلك من الشأن ، وقال : ( فاكهة ( إيذاناً بأن ذلك مع سعته ليس فيها شيء لإقامة البينة وإنما هو للفتكه ومجرد التلذذ .
ولما كان التوسع في التلذذ يخشى منه غوائل جمة قال : ( آمنين ) أي وهم في غاية الأمن من كل مخوف .
ولما ذكر الأمان ، وكان أخوف ما يخاف أهل الدنيا الموت ، قال : ( لا يذوقون فيها ) أي الجنة ) الموت ) أي لا يتجدد لهم أوائل استطعامه فكيف بما وراء ذلك .
ولما كان المراد نفي ذلك على وجه يحصل معه القطع بالأمن على أعلى الوجوه ، وكان الاستثناء معيار العموم ، وكان من المعلوم أن ما كان في الدنيا من ذوق الموت الذي هو معنى من المعاني قد استحال عوده ، قال معللاً معلقاً على هذا المحال : ( إلا الموتة ( ولما كان المعنى مع إسناد الذوق إليه لا يلبس لأن ما قبل نفخ الروح ليس مذوقاً ، عبر بقوله : ( الأولى ( وقد أفهم التقييد بالظرف أن النار يذاق فيها الموت ، والوصف بالأولى أن المذوق موتة ثانية ، فكان كأنه قيل : لكن غير المتقين ممن كان عاصياً فيدخل النار المتقين أعم من الراسخين وغيرهم ، فيكون الحكم على المجموع ، أي أن الكل لا يذوقون ، وبعضهم - وهم من أراد الله من العصاة - يذوقونه في غيرها وهو النار ، ويجوز أن تكون الموتة الأولى كانت في الجنة المجازية فلا يكون تعليقاً بمحال ، وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا مجازاً بما له من التسبب وبما سبق من حكم الله له بها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( المؤمن إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ) ، قيل : وما خرفة الجنة ؟ قال : ( جناها ) ( وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ) وكذا المحكوم له بما هو فيها عند الموت وبعده بما له من التمتع بالنظر ونحوه من الأكل للشهداء وغير ذلك مما ورد في الأخبار الصحيحة ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمه النضر رضي الله عنه(7/84)
صفحة رقم 85
قال يوم أحد : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد ، ثم قاتل حتى قتل .
ثم يكون تمام ذلك النعيم بالجنة بعد البعث ، قال ابن برجان : الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن المتقي وتتبع النظر فيها فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياهم فيها وقربه منهم ونظره إليهم وذكرهم له وعبادتهم إياه وشغلهم به وهو معهم أنهما كانوا .
ولما كان السياق للمتقين قال : ( ووقاهم ) أي جملة المتقين في جزاء ما اتقوه ) عذاب الجحيم ) أي التي تقدم إصلاء الأثيم لها ، وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله من أراد منهم النار فيعذر كلاًّ منهم على قدر ذنوبه ثم يمتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله في الشفاعة فيهم فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم أهل الجنة من ماء الحياة ، روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في الإيمان من صحيحه وابن حبان في الشفاعة من سننه والدرامي في صفة الجنة والنار من سننه المشهور بالمسند ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أما أهل النار الذين هم أهلها ) - وقال الدارمي : الذين هم للنار - ( فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم ) - أو قال : ( بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة ) وقال الإمام أحمد : ( فيميتهم إماتة ) وقال الدرامي : ( فإن النار تصيبهم على قدر ذنوبهم فيحرقون فيها حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ) وقال الدرامي : ( فيخرجون من النار ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل الجنة ، أفيضوا عليهم ، فينبتون ) وقال الدرامي فتنبت لحوهم نبات الحبة في حميل السيل .
الضبائر قال بعد الغافر الفارسي في مجمع الرغائب : جمع ضبارة مثل عمارة عمائر : جماعات الناس ، وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة ، فيقول أهل الجنة : من هؤلاء ؟ ، فيقال : هؤلاء الجهنميون ) ولأحمد بن منيع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يوضع الصراط ) فذكر شفاعة المؤمنين في إخوانهم بعد جواز الصراط وإذن الله لهم في إخراجهم ، قال : ( فيخرجونهم منها فيطرحونهم في ماء الحياة فينبتون نبات الزرع في غثاء السيل ) ، ولابن أبي عمر عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال : قال رسول(7/85)
صفحة رقم 86
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يخرج الله قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيها وصاروا فحماً فيلقون في نهر على باب الجنة يسمى نهر الحياة ، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل - أو كما تنبت الثعارير - فيدخلون الجنة ، فيقال : هؤلاء عتقاء الرحمن ) .
الثعاير - بالثاء المثلثة والعين والراء المهملتين : نبات كالهليون ، وروى الترمذي - وقال : حسن صحيح - وروي من غر وجه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة .
) ولما كان السياق للمتقين ، فكان ربما ظن أن هذا الذي فعل بهم حق لهم لا بد و لا محيد عنه ، بين أن الأمر على غير ذلك ، وأنه سبحانه لو واخذهم ولم يعاملهم بفضله وعفوه لهلكوا ، فقال : ( فضلاً ) أي فعل بهم ذلك لأجل الفضل ، ولذلك عدل عن مظهر العظمة فقال تعالى : ( من ربك ) أي المحسن إليك بكمال إحسانه إلى اتباعك إحساناً يليق بك ، قال الرازي في اللوامع : أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال ، ولما عظمه تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، زاد في تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال : ( ذلك ) أي الفضل العظيم الواسع ) هو ) أي خاصة ) الفوز ) أي الظفر بجميع المطالب ) العظيم ( الذي لم يدع جهة الشرف إلا ملأها .
ولما قدم سبحانه في هذه السورة ما للقرآن من البركة بما اشتمل عليه من البشارة والندارة والجمع والفرق ، وذكرهم بما يقرون به من أنه مبدع هذا الكون مما يستلزم إقرارهم بتوحيده المستلزم لأنه يفعل ما يشاء من إرسال وإنزال وتنبيه وبعث وغير ذلك ، وهددهم بما لا يقدر عليه غيره من الدخان والبطشة ، وفعل بعض ذلك ، وذكرهم بما يعرفون من أخبار من مضى من قروم القرون وأنهم مع ذلك كله أنكروا البعث ، ثم ذكر ما يقتضي التحذير والتبشير - كل ذلك في أساليب فأتت كل المدى ، فأعجزت جميع القوى ، مع ما لها من المعاني الباهرة ، والبدائع الزاهرة القاهرة ، سبب عن قوله فذلكة للسورة : ( فإنما يسرناه ) أي جعلنا له يسراً عظيماً وسهولة كبيرة .
ولما كان الإنسان كلما زادت فصاحته وعظمت بلاغته ، كان كلامه أبين وقوله أعذب وأرصن وأرشق وأمتن ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) أفصح الناس وأبعدهم لذلك من التكلف ، أضافه إليه فقط فقال : ( بلسانك ) أي هذا العربي المبين وهم عرب تعجبهم الفصاحة(7/86)
صفحة رقم 87
) لعلهم يتذكرون ) أي ليكونوا عند من يراهم وهو عارف بلسانهم ممن شأنه كشأنهم على رجاء من أن يتذكروا أن هذا القرآن شاهد بإعجازه بصحة ما فيه من التوحيد والرسالة وغيرهما مما سبق إليك وجلى عليك وإلا لقدروا هم وهم أفصح الناس على معارضة شيء منه فيتذكروا ما غفلوا عنه من أنه عزيز بإهلاكه الجبابرة ، وأنه حكيم بنصبه الآيات لأنبيائه وتأييدهم بالمعجزات ، ومن أن الكبير منهم لا يرضى أن يطعن أحد في كبريائه ولا أن يترك من له عليه حكم وهو تحت قهره أن يبغي بعضهم على بعض ثم لا ينصر المظلوم منهم على ظالمه ويأخذ بيده حتى لا يستوي المحسن بالمسيء ، فإذا تذكروا ذلك مع ما يعرفون من قدرة الملك وكبريائه وحكمته علموا قطعاً أنه لا بد من البعث للتمييز بين أهل الصلاح والفساد ، والفصل بين جميع العباد ، فتسبب عن ذلك قوله : ( فارتقب ) أي ما رجيتك به من تذكرهم الستلزم لهدايتهم .
ولما كانوا يظهرون تجلداً ولدداً أنهم لا يعبؤون بشيء من القرآن ولا غيره مما يأتي به ولا يعدون شيئاً منه آية ، أخبر عما يبطنون من خوفهم وانتظارهم لجميع ما يهددهم به مؤكداً لأجل ظن من حمل تجلدهم على أنه جلد فقال : ( إنهم ( وزاد الأمر بالإخبار بالاسم الدال على الثبات والدوام فقال : ( مرتقبون ) أي تكليفهم أنفسهم المراقبة وإجهادهم أفكارهم في ذلك دائم لا يزايلهم بل قد قطع قلوبهم وملأ صدورهم ، فقد انطبق آخر السورة على أولها ، بل وعلى المراد من مجملها ومفصلها ، بذكر الكتاب والأرتقاب لأنواع العذاب - والله الهادي إلى الصواب ، إنه الكريم الوهاب .
.. .(7/87)
صفحة رقم 88
سورة الجاثية
الجاثية : ( 1 - 5 ) حم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ( )
مقصودها الدلالة على أن منزل هذا الكتاب - كما دل عليه في الدخان - ذو العزة لأنه لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ، والحكمة لأنه لم يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه ، فعلم أنه المختص بالكبرياء ، فوضع شرعاً هو في غاية الاستقامة لا تستقل العقول بإدراكه ولا يخرج شيء منه عنه ، أمر فيه ونهى ، ورغب ورهب ثم بطن حتى أنه لا يعرف ، ثم ظهر حتى أنه لا يجهل ، فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه فشهد جلاله فسمع وأطاع ، ومنه من تبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ وأضاع فاقتضت الحكمة ولا بد أن يجمع سبحانه الخلق ليوم الفصل فيظهر كل الظهور ويدبن عباده ليشهد رحمته المطيع وكبرياءه العاصي ، وينشر العدل ويظهر الفضل ، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه ، وعلى ذلك دل اسمها الشريعه ، واسمها الجاثية واضح الدلالة فيه إذا تؤمل كل من آيتهما - والله سبحانه وتعالى الهادي .
) بسم الله ( الذي تفرد بتمام العز والكبرياء ) الرحمن ( الذي أحكم رحمته البيان العام للسعداء والأشقياء ) الرحيم ( الذي خص بملابس طاعته الأولياء ) حم ) أي حكمة محمد إليها المنتهى كما تقدم في الدخان ما أفهم إنزاله من أم الكتاب جملة غلى بيت العزة ، ودل على بركته مما دل على حكمة منزله وعزته بالبشارة والنذارة والإيقاع بالمجرمين بعد طول الحلم والأناة والنجاة للمتقين وغير ذلك من أمور هي في غاية الدلالة على ذلك لأنها راجعة إلى الحسن لمن ألقى السمع ، وهو شهيد ، وأشار إلى سهولتها على من تأمل هذا الذكر المترجم بلسان أعلى الخلق وأكملهم وأشرفهم خلائق وأفضلهم ، ابتداء هذه بالإعلام بأنه زاد ذلك يسراً وسهولة بإنزاله منجماً بحسب الوقائع مطابقاً لها أتم مطابقة بعد إنزاله جملة من أم(7/88)
صفحة رقم 89
الكتاب ثم مرتباً لما أنزل منه ترتيباً يفهم علوماً ويوضح أسراراً غامضة مهمة فقال : ( تنزيل الكتاب ) أي إنزال الجامع لكل خير مفرقاً لزيادة التسهيل في التفهيم والإبلاغ في اليسر في التعليم وغير ذلك من الفضل العميم وزاده عظماً بقوله : ( من الله ) أي كائن من المحيط بصفات الكمال .
ولما كان - كما مضى - للعزة والحكمة أعظم بركة هنا قال : ( العزيز الحكيم ( فكان كتابه عزيزاً حكيماً لا كما تقول الكفرة من أنه شعر أو كذب أو كهانة لأنه لا حكمة لذلك ولا عزة بحيث لتبس أمره بأمره هذا الكتاب المحيط بدائرة الحكمة والصواب ، ودل بشواهد القدرة وآثار الصنعة من نسخة هذا الكتاب على الصفتين وعلى وحدانيته فيهما اللازم منه تفرده المطلق فقال مؤكداً لأجل من ينكر ذلك ولو بالعمل ، وترغيباً في تدقيق النظر بتأمل آيات الوجود التي هذا الكتاب شرح لمغلقها وتفصيل لمجملها .
وإيماء إلى أنها أهل لصرف الأفكار إلى تأملها ) إن في ( ولما كانت الحواميم - كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس رضي الله عنهما - لباب القرآن ، حذف ما ذكر في البقرة من قوله ( خلق ) ليكون ما هنا أشمل فقال : ( السماوات ) أي ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة ما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب ) والأرض ( كذلك وبما حوت من المعادن والمعايش والمنابع والمعاون ) لآيات ) أي دلائل على وحدنيته وجميع كماله ، فإن من المعلوم أنه لا بد لكل من ذلك من صانع متصف بذلك ) للمؤمنين ) أي لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة ، وأدلة الإلهية فيهما واضحة ، ولعله أشار بالتعبير بالوصف إلى أنه لا بد في رد شبه أهل الطبائع من تقدم الإيمان ، وأن من لم يكن راسخ الإيمان لم يخلص من شكوكهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت السورة المتقدمة إيضاح أمر الكتاب وعظيم بيانه وأنه شاف كاف وهدى ونور ، كان أمر من كفر من العرب أعظم شيء لانقطاعهم عجزهم وقيام الحجة به عليهم حتى رضوا بالقتل والخزي العاجل وما قاموا بادعاء معارضته ولا شتوفوا إلى الإسناد إلى عظيم تلك المعارضة ، أتبع ذلك تعالى تنبيهاً لنبيه والمؤمنين إلى ما قد نصبه من الدلائل سواه مما صد المعرض عن الاعتبار بها أو ببعضها مجرد هواه ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فقال تعالى بعد القسم بالكتاب المبين ) إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) أي لو لم تجئهم يا محمد بعظيم آية الكتاب فقد كان لهم فيما نصبنا من الأدلة أعظم برهان وأعظم تبيان
77 ( ) أو لم(7/89)
صفحة رقم 90
يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بنيهما إلا بالحق وأجل مسمى ( ) 7
) الروم : 8 ] فملا نبه بخلق السماوات والأرض ، أتبع بذكر ما بث في الأرض فقال ) وفي خلقكم وما بث فيهما من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الّيل والنهار ) أي في دخول أحدهما على الآخر بألطف اتصال وأربط انفصال ) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ( ثم نبه على الاعتبار بإنزال الماء من السماء وسماه رزقاً بحط القياس فقال ) وما أنزل الله من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ( ثم قال ) وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ( الاستدلال بهذه الآي يستدعي بسطاً يطول ، ثم قال ) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ) أي علاماته ودلائله ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ( ثم قال ) فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ( أبعد ما شاهدوه من شاهد الكتاب وما تضمنه خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهن من عجائب الدلائل الواضحة لأولي الألباب ، فإذا لم يعتبروا بشيء من ذلك فبماذا يعتبر ، ثم أردف تعالى بقريعهم وتوبيخهم في تصميمهم مع وضوح الأمر فقال ) ويل لكل أفاك أثيم ( الآيات الثلاث ، ثم قال ) هذا هدى ( وأشار إلى الكتاب وجعله نفس الهدى لتحمله كل أسباب الهدى وجميع جهاته ، ثم توعد من كفر به ثم أردف ذلك بذكر نعمه وآلائه ليكون ذلك زائداً في توبيخهم ، والتحمت الآي عاضدة هذا الغرض تقريعاً وتوبيخاً ووعيداً وتهديداً إلى آخر السورة - انتهى .
ولما ذكر سبحانه بالنظر في آيات الآفاق ، أتبعها آيات الأنفس فقال : ( وفي خلقكم ) أي المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار ) وما يبث ) أي ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية بثاً على سبيل التجد والاستمرار ) من دآبة ( مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم في الحركة بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزئيات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والمنافع والطبائع ونحوها ) آيات ) أي على صفات الكمال ولا سيمنا العزة والحكمة ، وهي على قراءة حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب هنا ، وفي الذي بعده عطف الآيتين على حيز إن في الآية الأولى من الاسم والخبر ، فلهذه الآية نظر إلى التأكيد ، وهو على قراءة الجماعة مبتدأ بالعطف على ( إن ) وما في حيزها ، وهي أبلغ لأنها تشير إلى أن ما في تصوير الحيوان وجميع شأنه من عجيب الصنع ظاهر الدلالة على الله فهو بحيث لا ينكره أحد ، فهو غني عن التأكيد ، ويجوز أن تكون الآية على قراءة النصب من الاحتباك : حذف أولاً الخلق بما دل عليه ثانياً ، وثانياً ذوات الأنفس بما دل عليه من ذوات السماوات أولاً .(7/90)
صفحة رقم 91
ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف ، قال : ( لقوم ) أي فيهم أهلية القيام بما يحاولونه ) يوقنون ) أي يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان ، فلا يخالطهم شك في وحدانيته ؛ قال الحرالي في تفسير ) أو كالذي مر على قرية ( : آية النفس منبهة على آية الحس ، وآية الحس منبهة على آية النفس ، إلا أن آية النفس أعلق ، فهي لذلك أهدى ، غاية آية الآفاق الإيمان ، وغاية آية النفس اليقين .
ولما ذكر الظرف وما خلق لأجله من الناس ، ضم إليهم بعض ما خلقه لأجلهم لشرفه بالحياة ، أتبعه ما أودع الظرف من المرافق لأجل الحيوان فقال : ( واختلاف الّيل والنهار ( بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره ، وجر ( اختلاف ) بتقدير ( في ) فينوب حرف العطف مناب عامل واحد للابتداء عند من رفع ( آيات ) ، ومناب ( إن ) عند من نصب ، فلم يلزم نيابته مناب عاملين مختلفين في الابتداء في الرفع وفي ( إن ) في النصب .
ولما كان المطر أدل مما مضى على البعث والعزة ، لأن الشيء كلما قل الإلف له كان أمكن للتأمل فيه ، أولاه إياه فقال : ( وما أنزل الله ) أي الذي تمت عظمته فنفذت كلمته .
ولما كان الإنزال قد يستعمل فيما اتى من علو معنوي وإن لم يكن حسياً ، بين أن المراد هنا الأمران فقال : ( من السماء ( ولما كانت منافع السماء غير منحصرة في الماء قال : ( من رزق ) أي مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق ) فأحيا به ) أي بسببه وتعقبه ) الأرض ) أي الصالحة للحياة ، ولذلك قال : ( بعد موتها ) أي يبسها وتهشم ما كان فيها من النبات وانقلابه بالاختلاط بترابها تراباً ، فإذا نزل عليها الماء جمعه منها فأخرجه على ما كان عليه كلما تجدد نزوله ، ولذلك لم يأت بالجار إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل .
ولما ذكر ما يشمل الماء ، ذكر سبب السحاب الذي يحمله فقال : ( وتصريف الرياح ( في كل جهة من جهات الكون وفي كل معنى من رحمة وعذاب وغير ذلك من الأسباب ، ولم يذكر الفلك والسحاب كما في البقرة لاقتضاء اللبابية المسماة بها الحواميم ، ذلك لأنهما من جملة منافع التصريف ، وتوحيد حمزة والكسائي أبلغ لأن تصريف الشيء الواحد في الوجوه الكثير أعجب ) آيات ( قراءة الرفع أبلغ لإشارتها بعدم الحاجة إلى التأكيد إلى أن ما في الآية ظاهر الدلالة على القدرة والاختيار للصانع بما في التصريف من الاختلاف ، والماء بما يحدث عنه من الإنبات أوضح دلالة من بقيتها على(7/91)
صفحة رقم 92
البعث ، ولاجل شدة ظهورها ناط الأمر فيها بالعقل فقال : ( لقوم يعقلون ( وقال القالي : والمعنى أن المنصفين لما نظروا في السماوات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم .
الجاثية : ( 6 - 12 ) تلك آيات الله. .. . .
) تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات ، وكانت كلها مشتركة في العظم ، بعد ما أشار إلى تباين رتبها في الخفاء والجلاء بفواصلها ، قال مشيراً إلى علو رتبها بأداة البعد : ( تلك ) أي الآيات الكبرى ) آيات الله ) أي دلائل المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجلى ولا أظهر ولا أوضح منها .
ولما كان كأنه قيل : ما لها ؟ قال ، أو يكون المراد : نشير إليها حال كوننا ) نتلوها ) أي نتابع قصها ) عليك ( سواء كانت مرئية أو مسموعة ، متلبسة ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله فليس بسحر ولا كذب ، فتسبب عن ذلك حينئذ الإنكار عليهم وعلى من يطلب إجابتهم إلى المقترحات طمعاً في إيمانهم في قوله تعالى : ( فبأي حديث ) أي خبر عظيم صادق يتجدد علمهم به يستحق أن يتحدث به ، واستغرق كل حديث فقال : ( بعد الله ) أي الحديث الأعظم عن الملك الأعلى ) وآياته ) أي والحديث عن دلالاته العظيمة ) يؤمنون ( من خاطب - وهم الجمهور - ردوه على قوله ( وفي خلقكم ) وهو أقوى تبكيتاً ، وغيرهم وهم أبو عمرو وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) نتلوها عليك بالحق ( .
ولما كان لا يبقى على الكفر نوع بقاء فضلاً عن الإصرار بعد هذا البيان إلا من يستحق النكال لمجاهرته بالعناد ، قال على وجه الاستنتاج مهدداً : ( ويل ) أي مكان معروف في جهنم ) لكل أفاك ) أي مبالغ في صرف الحق عن وجهه ) أثيم ) أي مبالغ في اكتساب الإثم وهو الذنب ، وعمل ما لا يحل مما يوجب العقاب ، وفسر هذا بقوله : ( يسمع آيات الله ) أي دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها ) تتلى ( أي(7/92)
صفحة رقم 93
يواصل استماعه لها بلسان القال أو الحلا من أيّ تال كان ، عالية ) عليه ( بجميع ما فيها من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق .
ولما كانت تلاوتها موجبة لإقلاعه فكان إصراره مع بعد رتبته في الشناعة مستبعداً كونه قال : ( ثم يصر ) أي يدوم دوماً عظيماً على قبيح ما هو فيه حال كونه ) مستكبراً ) أي طالباً الكبر عن الإذعان وموجداً له .
ولما كان مع ما ذكر من حاله يجوز أن يكون سماعه لها ، خفف من مبالغته في الكفر ، بين أنها لم تؤثر فيه نوعاً من التأثير ، فكان قلبه أشد قسوة من الحجر فقال : ( كأن ) أي كأنه ) لم يسمعها ( فعلم من ذلك ومن الإصرار وما قيد به من الاستكبار أن حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء ، وقد علم بهذا الوصف أن كل منلم ترده آيات الله تعالى كان مبالغاً في الإثم والإفك ، فكان له الويل .
ولما كان الإصرار معناه الدوام المتحكم ، لم يذكر الوقر الذي هو من الأمراض الثابتة كما ذكره في سورة لقمان ، قال ابن القطاع وابن ظريف في أفعالهما ، أصر على الذنب والمكروه : أقام ، وقال عبد الغافر الفارسي في المجمع : أصررت على الشيء أي أقمت ودمت عليه ، وقال ابن فارس في المجمل : والإصرار : العزم على الشيء والثبات عليه ، وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه ونقله عن عبد الحق في واعيه ، وأصل الصر الإمساك ، ومنه يقال : أصر فلان على كذا ، أي أقام عليه وأمسكه في نفسه وعقهد لأنه قد يقول ما ليس في نفسه وما لا يعتقده ، والرجل مصر على الذنب أي ممسك له معتقد عليه ، ثم قال : من الإصرار عليه وهو العزم على أن لا يقلع عنه ، وقال الأصفهاني تبعاً لصاحب الكشاف : وأصله من أصر الحمار على العانة ، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه .
ولما أخبر عن ثباته على الخبث ، سببب عنه تهديده في أسلوب دال - بما فيه من التهكم - على شدة الغضب وعلى أنه إن كان له بشارة فهي العذاب فلا بشارة له أصلاً فقال تعالى : ( فبشره ) أي على هذا الفعل الخبيث ) بعذاب ( لا يدع له عذوبة أصلاً ) أليم ) أي بليغ الإيلام .
ولما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات ، أتبعه ما هو أعم منه فقال : ( وإذا علم ) أي أيّ نوع كان من أسباب العلم ) من آياتنا ) أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا ) شيئاً ( وراءه وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه ، قال مبيناً للعذاب : ( جهنم ) أي تأخذهم لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها ، ويحسن التعبير بالوراء أن الكلام في الأفاك ، وهو انصراف الأمور عن أوجهها إلى اقفائها فهو(7/93)
صفحة رقم 94
ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره ، ويستعمل ، ( وراء ) في الإمام ، فيكون حينئذ مجاراً عن الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها عالمون والجهة التي هم بها جاهلون ، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل بطراً وأشراً ، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات .
ولما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية ، قال : ( ولا يغني عنهم ) أي في دفع ذلك ) شيئاً ) أي من إغناء .
ولما كان هؤلاء لما هم عليه من العمى يدعون إغناء آلهتهم عنهم ، قال مصرحاً بها : ( ولا ما اتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها .
ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك ، فكانوا يقولون ( الله ) أيضاً ، قال معبراً بما يفهم سفول ما سواه : ( من دون الله ) أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم ) أولياء ) أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع ) ولهم ( مع عذابه بخيبة الأمر ) عذاب عظيم ( لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه .
ولما أخبر عما لمن أعرض عن الآيات بما هو أجل موعظة وأردع زاجر عن الضلال ، قال مشيراً إلى ما افتتح به الكلام من المتلو الذي هذا منه : ( هذا ) أي التنزيل المتلو عليكم ) هدى ) أي عظيم جداً بالغ في الهداية كامل فيها ، فالذين اهتدوا بآيات ربهم لأنهم - لم يغتروا بالحاضر لكونه زائلاً فاستعملوا عقولهم فآمنوا به لهم نعيم مقيم ) والذين كفروا ) أي ستروا ما دلتهم عليهم مرائي عقولهم به - هكذا كان الأصل ، ولكنه نبه على أن كل جملة من جمله ، بل كل كلمة من كلماته دلالة واضحة عليه سبحانه فقال : ( بآيات ربهم ) أي وهذه التغطية بسبب التكذيب بالعلامات الدالة على وحدانية المحسن إليهم فضلوا عن السبيل لتفريطهم في النظر لغروهم بالحاضر الفاني ) لهم عذاب ( كائن ) من رجز ) أي عقاب قذر شديد جداً عظيم القلقلة وةالاضطراب متتابع الحركات ، قال القزاز ، الرجز والرجس واحد ) أليم ) أي بليغ الإيلام ، الآية من الاحتباك : ذكر الهدى أولاً دليلاً على الضلال ثانياً ، والكفر والعذاب ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً ، وسره أنه ذك رالسبب المسعد ترغيباً فيه ، والشمقى ترهيباً منه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية ، ذكر بعض آثارها وما فيها من أياته ، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم : ( الله ) أي الملك الأعلى المحيط بجميع(7/94)
صفحة رقم 95
صفات الكمال .
ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح ، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال : ( الذي سخر ) أي وحده منغير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه ) لكم ( أيها الناس بربكم وفاجركم ) البحر ( بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القبلية للسير فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفوا عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد ) لتجري الفلك ) أي السفن ) فيه بأمره ( ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها .
ولما كان التقدير : لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به ، عطف عليه قوله : ( ولتبتغوا ) أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك ) من فضله ( لم يصنع شيئاً منه سواه .
ولما كان التقدير : لتظهر عليكم آثار نعمته ، عطف عليه قوله تعالى : ( ولعلكم تشكرون ) أي ولتكونوا بحيث يرجوا منكم من ينظر حالكم ذلك الشكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة .
الجاثية : ( 13 - 15 ) وسخر لكم ما. .. . .
) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما ذكر آية البحر لعظمتها ، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله ، على عظمه إلا لنا ، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى : ( وسخر لكم ) أي خاصة ولو شاء لمنعه ) ما في السماوات ( بإنزاله إليكم منبهاً على أنها يحث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه ، وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم ، وأفعالهم أفعال من ينكره ، فقال : ( وما في الأرض ( وأوصالكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه ، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله : ( جميعاً ( حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها ) منه ( لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك ، قال الرازي في اللوامع : قال أبو يعقوب النهر جوري : سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء ، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى ، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه ، وقال القشيري : ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للانسان به انتفاع ، فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك .(7/95)
صفحة رقم 96
ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني ، حسن جداً قوله ، مؤكداً لأن عملهم يخالفه : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون ) لآيات ) أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا ) لقوم ) أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم ) يتفكرون ( أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً .
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم ، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة ، وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه ، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف : ( قل ) أي بقالك وحالك ) للذين آمنوا ) أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله : اغفروا تسنناً به من أساء إليكم .
ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه ، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء ، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره ، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله : ( يغفروا ) أي يستروا ستراً بالغاً .
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه ، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال : ( للذين ( وعبر في موضع ) أساؤوا إليهم ( بقوله تعالى : ( لا يرجون ) أي حقيقة ومجازاً ، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف ، وقال بعد ما نبه عليه بتلك العبارة من جليل الإشارة : ( أيام الله ) أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدلة الدول تارة لهم وأخرى عليهم ، وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين ، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه ، فصار حاله حال الآئس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي ، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما ، قال ابن برجان : وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى
77 ( ) ما ننسخ من آية أو ننسها ( ) 7
[ البقرة : 106 ] وليس بنسخ بل هو حكم ضعف ، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف ، وتركت هذه وأمثالها مسطورة(7/96)
صفحة رقم 97
في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم ربهم .
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا ، سقط عنه أمرها في الآخرة ، وكان المسلط للجاني ف يالحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة ، علل الأمر بالغفران مهدداً للجاني ومسلياً للمجني عليه : ( ليجزي ) أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل ، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون ، وبناه أبو جعفر للمعفول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم .
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة ، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم عل ىظلامته لمثل ذلك قال : ( قوماً ) أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف ) بما ) أي بسبب الذي ) كانوا ) أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج ) يكسبون ) أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر ، والحاصل أنه تعالى يقول : أعرض عمن ظلمك وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحداً ، فسوف أجزيك على صبرك أجزيه على بغيه وأنا قادر ، وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم ، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه ، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى
77 ( ) وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً ( ) 7
[ الدهر : 12 ] ليجزي الملك الأعظلم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً ، فجعل الجزاء كالفاعل وإن كان مفعولاً كما جعل ( زيد ) فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى : تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي من جزائه ومحيصاً به لأن الله تعالى بعظم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له ، قال الله تعالى
77 ( ) سيجزيهم وصفهم ( ) 7
[ الأنعام : 139 ] بما كانوا يعملون ، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير ( الذين ) بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى : سجيزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم فيجعل كلاًّ منهم فداء لكل منهم من النار ، وربما رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا ، روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما(7/97)
صفحة رقم 98
تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل ) .
ولأحمد والترمذي اللفظ له وقال حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر ) - أو كلمة نحوها ، وروى الحاكم وصحح إسناده ، قال المنذري : وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : ( من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه ) .
ولما رغب سبحانه ورهب وتقرر أنه لا بد من الجزاء ، زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال شارحاً للحزاء : ( من عمل صالحاً ( قال أو جل ) فلنفسه ) أي خاص عمله يرى جزاءه في الدنيا أو في الآخرة ) ومن أساء ) أي كذلك إساة قلت أو جلت ) فعليها ( خاصة إساءته كذلك ، وذلك في غاية الطهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً وإن كانت نقائص النفوس قد غطت على كثير من العقول ذلك ومن جزائه أنه يديل المسيء على المحسن لهفوة وقعت له ليراجع حاله بالتوبة .
ولما كان سبحانه قادراً لا يفوته شيء كان بحيث لا يعجل فأخر الجزاء إلى اليوم الموعود : ( ثم ) أي بد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ ) إلى ربكم ) أي المالك لكم وحده لا إلى غيره ) ترجعون (
الجاثية : ( 16 - 19 ) ولقد آتينا بني. .. . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ( ( )(7/98)
صفحة رقم 99
ولما علم بهذه الحكم ما افتتحت به السورة من أن منزل هذا الكتاب عزيز حكيم ، فكان التقدير فذلكة لذلك : لفقد آتيناك الكتاب والحكم والنبوة وفضلناك وأمتك على العالمين وأرسلناك لتنبه الناس على ما أمامهم وكان قومه بعد ائتلافهم على الضلال قد اختلفوا بهذا الكتاب الذي كان ينبغي لهم أن يشتد اجماعهم به واستنصارهم من أجله ، عطف عليه مسلياً قوله : ( ولقد آتينا ) أي على ما لنا من العظمة والقدرة الباهرة ) بني إسرائيل ( نبي الله ابن عمكم إسحاق نبي الله ابن أبيكم إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام ) الكتاب ( الجامع للخيرات وهو يعم التوارة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم ) والحكم ) أي العلم والعمل الثابتين ثبات الاحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل ، وللعمل من الإتقان بالعلم ) والنبوة ( التي تدرك بها الأخبار العظيمة التي لا يمكن اطلاع الخلق عليها بنوع اكتساب منهم ، فأكثرنا فيهم من الأنبياء ) ورزقناهم ( بعظمتنا لإقامة أبدانهم ) من الطيبات ( من المن والسلوى وغيرهما من الأرزاق اللدنية وغيرها ) وفضلناهم ( بما لنا من العزة ) على العالمين ( وهم الذين تحقق إيجادنا لهم في زمانهم وما قبله فإنا آتيناهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثرنا فيهم من الأنبياء ما لم نفعله لغيرهم ممن سبق ، وكل ذلك فضيلة ظاهرة ) وآتيناهم ( مع ذلك ) بينات من الأمر ( الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ، ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته ، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً .
ولما كان حالهم بعد هذا الإيتاء مجملاً ، فصله فقال تعالى : ( فما اختلفوا ) أي أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم ، ولما لم يكن اختلافهم مستغرقاً لجميع الزمن الذي بعد الإيتاءن أثبت الجار فقال : ( إلا منبعد ما جاءهم العلم ( الذي من شأنه الجمع على المعلوم ، فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق لأن الله تعالى أراد ذلك وهو عزيز .
ولما كان هذا عجباً ، بين علته نحذراً من مثلها فقال : ( بغياً ) أي للمجاوزة في الحدود التي اتقضاها لهم طلب الرئاسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس .
ولما كان البغي على البعيد مذموماً ، زاده عجباً بقوله : ( بينهم ( واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم ، وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل ، ولذلك استأنف قوله الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أوامرهم ، مؤكداً لأجل إنكارهم .
) إن ربك ) أي المحسن(7/99)
صفحة رقم 100
إليك بإرسالك وتكثير أمتك وحفظهم مما ضل به القرون الأولى وبيان يوم الفصل الذي هو محط الحكمة بياناً لم يبينه على لسان أحد ممن سلف ) يقضي بينهم ( بإحصاء الأعمال والجزاء عليها ، لأن هذا مقتضى الحكمة والعزة ) يوم القيامة ( الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك مع أنه لايجوز في الحكمة إنكاره ) فيما كانوا ) أي بما هو لهم كالجبلة ) فيه يختلفون ( بغاية الجهد متعمدين له بخلاف ما كان يقع منهم خطأ فإنه يجوز في الحكمة أن يتفضل عليهم بالعفو عنه فقد علم أنه لا يجوز في الحكمة أصلاً أن يترك المختلفون من غير حكم بينهم لأن هذا لا يرضاه أقل الملوك فإنه لايعرف الملك إلا بالقهر والعزة ولا يعرف كونه حكيماً إلا بالعدل ، وإذا كان هذا لا يرضاه ملك فكيف يرضاه ملك الملوك ، وإذا كان هذا القضاء مقتضى الحكمة كان لا فرق فيه بين ناس ناس ، فهو يقتضي بينكم أيضاً كذلك ، ومن التأكيد للوعد بذلك اليوم التعبير باسم الرب مضافاً إليه ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان معنى هذا أنه سبحانه وتعالى جعل بني إسرائيل على شريعة وهددهم على الخلاف فيها ، فكان تهديدهم تهديداً لنا ، قال مصرحاً بما اقتضاه سوق الكلام وغيره من تهديدنا منبهاً على علو شريعتنا : ( ثم ) أي بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم ) جعلناك ) أي بعظمتنا ) على شريعة ) أي طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدئة ) من الأمر ( الذي هو وحينا وهو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباحز ولما بين بهذه العبارة بعض فضلها على ما كان قبلها ، سبب عنه قوله موجهاً الخطاب إلى الإمام بما أراد به المأمومين ليكون أدعى إلى اجتهادهم ، فإن أمرهم تكليف وأمر إمامهم تكوين : ( فاتبعها ) أي بغاية جهدك .
ولما كانت الشريعة العقل المحفوظ الذي أخبر الله أنه به يأخذ وبه يعطي ، كان الإعراض عنها إلى غيرها إنما هو هوى ، ولما كان أحاد الأمة غير معصومين أشار إلى العقو عن هفواتهم بقوله تعالى : ( ولا تتبع ) أي تتعمدا أن تتبعوا ) أهواء الذين لا يعلمون ) أي لا علم لهم أو لهم علم ولكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم ، فإن من تعمد اتباعهم فعلت بهم ما فعلت ببني إسرائيل حيث لعنتهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام بعد ما لعنتهم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله : مؤكداً تنبيهاً على أن من خالف أمر الله لأجل أحد كان عمله عمل من يظن أنه يحميه : ( إنهم ( وأكد النفي فقال تعالى : ( لن يغنوا عنك ) أي لا(7/100)
صفحة رقم 101
يتجدد لهم نوع إغناء مبتدىء ) من الله ( المحيط بكل شيء قدرة وعلماً واصل إليه ، وكل ما لا يكون ذا وصلة به فهو عدم ) شيئاً ( من إغناء إن تبعتهم كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم .
ولما كان التقدير : فإنهم ظلمة لا يضعون شيئاً في موضعه ، ومن ابتعهم فهو منهم قال تعالى عاطفاً عليه : ( وإن ( وكان الأصل : وإنهم ولكنه أظهر للاعلام بوصفهم فقال : ( الظالمين ) أي العريقين في هذا الوصف الذميم ) بعضهم أولياء بعض ( فلا ولاية - أي قرب - بينهم وبين الحكيم أصلاً لتباعد ما بين الوصفين فكانت أعمالهم كلها باطلة لبنائها على غير أساس خلافاً لمن يظن بها غير ذلك تقيداً بالأمور الظاهرة في هذه الدار ) والله ) أي الذي له جميع صفات الجلال والجمال والعز والكمال ) ولي المتقين ( الين همهم الأعظم الاتصاف بالحكمة باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله ولا ولاية بينه وبين الظالمين .
الجاثية : ( 20 - 22 ) هذا بصائر للناس. .. . .
) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( ( )
ولما أوصل سبحانه إلى هذا الحد من البيان ، الفائت لقوى الإنسان ، قال مترجماً عنه : ( هذا ) أي الوحي المنزل .
ولما كان في عظم بيانه وإزالة اللبس عن كل ملبس دق أو جل بحيث لا يلحقه شيء من خفاء ، جعله نفس البصيرة ، مجموعة جمع كثرة بصيغة منتهى الجموع كما جعله روحاً فقال : ( بصائر للناس ) أي الذين هم في أدنى المراتب ، يبصرهم بما يرضهم وما ينفعهم ، فما ظنك بمن فوقهم من الذين آمنوا ثم الذين يؤمنون ومن فوقهم .
ولما بين ما هو لأهل السفول ، بين ما هو لأهل العلو فقال تعالى : ( وهدى ) أي قائد إلى كل خير ، مانع من كل زيغ ) ورحمة ) أي كرامة وفوز ونعمة ) لقوم يوقنون ) أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً .
ولما كان التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء : أعلم هؤلاء المخاطبون - لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية لهم عن حضيص الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق بين المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين(7/101)
صفحة رقم 102
المحسنين الذين نحن أولياؤهم ، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله : ( أم ( قال الأصبهاني : قال الإمام : كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً - انتهى .
وكان الأصل : حسبوا ، ولكنه عدل عنه للتنبيه على أن ارتكاب السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال : ( حسب الذين اجترحوا ) أي فعلوا بغاية جهدهم ونزوع شهواتهم ) السيئات أن نجعلهم ( مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة ) كالذين آمنوا وعملوا ( تصديقاً لإفرارهم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية ) الصالحات ( بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء .
ولما كانت المماثلة مجملة ، بينهما اشتئنافاً بقوله مقدماً ما هو عين المقصود من الجملة الأولى : ( سواء ) أي مستو استواء عظيماً ) محياهم ومماتهم ) أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه ف يالارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني .
ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا يغيره ، قال معبراً بمجمع الذم : ( ساء ما يحكمون ) أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له كل ساعة أقصى نهايات السوء ، فهو مما يتعجب منه ، لأنه لا يدري الحامل عليه ، وذلك أنه نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده .
ولما أنكر التسوية وذمهم على الحكم بها ، أتبع ذلك الدليل القطعي على أن الفريقين لا يستويان وإلا لما كان الخالق لهذا الوجود عزيزاً ولا حكيماً ، فقال دالاً على إنكار التسوية وسوء حكمهم بها ، عاطفاً على ما تقديره : فقد خلق الله الناس كلهم بالحق وهو الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، وهو ثبات أعمال المحسنين وبطلان أفعال المسيئين ، عطف عليه قوله : ( وخلق الله ) أي الذي له جميع أوصاف الكمال ولا يصح ولا يتصور أن يحلقه نوع نقص ) السماوات والأرض ( اللتين هما ظرف لكم وابتدئت باطلاص ، فمتى وجد سبب الشيء وانتفى مانعه وجد ، ومتى وجد مانع الشيء وانتفى سببه انتفى ، لا يتخلف ذلك أصلاً ، ولذلك جملة ما وقع من خلقهما طابقه الواقع الذي هو قدرة الله وعلمه وحكمته وجميع ما له من صفات الكمال التي دل خلقهما عليها ، فإذا كان الظرف على هذا الإحكام فما الظن بالمظروف الذي ما خلق الظرف إلا من أجله ، هل يمكن في الحكمة أن يكون على غير ذلك فيكون الواقع الذي هو تفضيل المحسن على المسيء غير مطابق لأحوالهم ، ومن جملة المظروف ما بينهما فلذا لم يذكر هنا ، ولو كان ذلك من غير بعث ومجازاة بحسب الأعمال لما كان هذا الخلق العظيم بالحق بل بالباطل الذي تعالى عنه الحكيم فكيف وهو أحكم الحاكمين .(7/102)
صفحة رقم 103
ولما كان التقدير : ليكون كل مسبب مطابقاً لأسبابه ، عطف عليه قوله : ( ولتجزى ( بأيسر أمر ) كل نفس ) أي منكم ومن غيركم ) بما ) أي بسبب الأمر الذي .
ولما كان السياق للعموم ، وكان المؤمن لا يجزى إلا بما عمله على عمد منه وقصد ليكتب في أعماله ، عبر بالكسب الذي هو أخص من العمل فقال : ( كسبت ) أي كسبها من خير أو شر ، فيكون ما وقع الوعد به مطابقاً لكسبها ) وهم ) أي والحال أنهم ) لا يظلمون ) أي لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه ، وهذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل ، ولو وجد منه سبحانه غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم ، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم لهم في نفس الأمر ، فهذا الخطاب إنما هو على ما نتعارفه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر .
الجاثية : ( 23 ) أفرأيت من اتخذ. .. . .
) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( ( )
ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأنه لا بد من جمعه الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة والقدرة ، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه ، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً ، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله ، ولم يرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك التعجيب ممن يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال : ( أفرءيت ) أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس ) من اتخذ ) أي بغاية جهده واجتهاده ) إلهه هواه ) أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه ، فهو تابع لهواه ليس غير ، فهو في أودية الضلال يهيهم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء ، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل ، ولدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به - انتهى .
ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية ، ولك متشبثات قريش التي عابهم الله بها تشبثت بها الاتحادية حتى قولهم ) ) وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( ((7/103)
صفحة رقم 104
[ الزمر : 3 ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى ، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدث الطين حرقاً ، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب ، ولو كان التقديم في هذا لحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا الهوى لأن السياق والسباق له وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا ومفعول ( رأى ) الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام ) فمن يهديه ( تقديره : أيمكن أحداً غير الله دايته ما دام هواه موجوداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى .
ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء ، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها .
فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن ، فلذلك هو يوجب الهوان ، قال الأصبهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى ، فقال : هوان سرقة نونه ، فنظمه من قال :
نون الهوان من الهوى مسروقة وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر ولم يخطىء المعنى وأجاد :
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
) وأضله الله ) أي بما له من الإحاطة ) على علم ( منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر ، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة ، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم ، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها ، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر .
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره ، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال : ( وختم ) أي زيادة على الإضلال الحاضر ) على سمعه ( فلا فهم له في الآيات المسموعة .
ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال : ( وقلبه ) أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه .
ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال : ( وجعل على بصره غشاوه ( فصار لا يبصر الآيات المرئية ، وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة .
ولما صار هذا الإنسان الذي صار لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه ، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان ، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار عما تقدمه : ( فمن يهديه ( وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله : ( من(7/104)
صفحة رقم 105
بعد الله ) أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء .
ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غير ، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر حثاً على التذكر فقال مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر : ( أفلا تذكرون ) أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور ، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته .
الجاثية : ( 24 - 27 ) وقالوا ما هي. .. . .
) وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( ( )
ولما كان التقدير للدلالة على الختم على مشاعرهم ، فقد قالوا مع اعترافهم بتفرده تعالى بخلقهم ورزقهم وخلق جميع الموجدات في إنكار الوحدانية : إن له شركاء ، عطف عليه قوله : ( وقالوا ) أي في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه قادر على كل شيء ومعرفتهم أنه قد وعد بذلك في الأساليب المعجزة وأنه لا يليق بحكيم أصلاً أن يدع من تحت يده يتهارجون من غير حكم بينهم : ( ما هي ) أي الحياة ) إلا حياتنا ) أي أيها الناس ) الدنيا ) أي هذه التي نحن فيها مع أن تذكر مدلول هذا الوصف الذي هو أمر نسي لا يعقل إلا بالإضافة إلى حياة أخرى بُعدى كافٍ في إثبات البعث .
ولما أثبتوا بادعائهم الباطل هذه الحياة أتبعوها حالها فقالوا : ( نموت ونحيا ) أي تنزع الروح من بعض فيموت ، وتنفخ في بعض آخر فيحيى ، وليس وارء الموت حياة أخرى للذي مات ، فقد أسلخوا أنفسهم بهذا القول من الإنسانية إلى البهيمية لوقوفهم مع الجزئيات ، ولما كان هلاكهم في زعمهم لا آخر له ، عدوا الحياة في جنبه عدماً فلم يذكروها وقالوا بجهلهم : ( وما يهلكنا ) أي بعد هذه الحياة ) إلا الدهر ) أي الزمان الطويل بغلبته علينا بتجدد إقباله وتجدد إدبارنا بنزول الأمور المكروهة بنا ، من دهره - إذا غلبة .
ولما أسند إليهم هذا القول الواهين بين حالهم عند قوله فقال تعالى : ( وما ) أي قالوه والحال أنه ما ) إن ) أي ما ) هم إلا يظنون ( بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف ، وأنه لم يرجع أحد من الموتى .
ولما كان هذا من قولهم عجباً ، زاده عجباً بحالهم عند سماعهم للبراهين القطعية ، (7/105)
صفحة رقم 106
فقال عاطفاً على ( قالوا ) : ( وإذا تتلى ) أي تتابع بالقراءة من أيّ تال كان ) عليهم آياتنا ) أي على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها ) بينات ) أي في غاية المكنة في الدلالة على البعث ، فلا عذر لهم في ردها ) ما كان ) أي بوجه من وجوه الكون ) حجتهم ) أي قولهم الذي ساقوه مساق الحجة ، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة ) إلا أن قالوا ( قولاً ذميماً ولم ينظروا إلى مبدئهم ) ائتوا ( أيها التالون للحجج البينة من النبي - صل الله عليه وسلم - وأتباعه الذين اهتدوا بهداه ) بآبائنا ( الموتى ، وحاصل هذا أنه ما كان لهم كفاهم مناداتهم على أنفسهم بالجهل حتى عرضوا لأهل البينات بالكذب فقالوا : ( إن كنتم صادقين ) أي عريقين في الكون في أهل الصدق الراسخين فيه من أنه سبحانه وتعالى يبعث الخلق بعد موتهم ، وذلك استبعاد منهم لأن يقدر المعلوم قطعاً أن من قدر على إنشاء شيء من العدم قدر على إعادةه بطريق الأولى .
ولما كان سبحانه وتعالى إنما يقبل الإيمان عند إمكان تصوره ، وذلك إذا كان بالغيب لم يجبهم إلى إحياء آبائهم إكراماً لهذه الأمة لشرف نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سنته الإلهية جرت بأن من لم يؤمن بعد كشف الأمر بإيجاد الآيات المقترحات أهلكه كما فعل بالأمم الماضية ، فرفعهم عن الحس إلى التدريب على قدرة وعلماً وحكمة ) يحييكم ) أي يجدد هذا تجديداً لا يحصى كما أنتم به مقرون إحياء لأجساد يخترعها من غير أن يكون لها أصل في الحياة ) ثم يميتكم ( بأن يجمع أرواحكم من أجسادكم فيستلها منها لا يدع ( شيئاً ) منها في شيء من الجسد وما ذلك على الله بعزيز فإذا هو كما كان قبل الإحياء كما تشاهدون ، ومن قدر على هذا الإبداء على هذا الوجه من التكرر ثم على تمييز ما بث من الروح في حال سلها من تلك الأعضاء الظاهر عادة مستمرة كان المخبر عنه بأنه يجمع الخلق بعد موتهم من العريقين في الصدق ، فلذلك قال من غير تأكيد : ( ثم يجمعكم ) أي بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد ، منتهين ) إلى يوم القيامة ) أي القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق الذين أماتهم .
ولما صح بهذا الدليل القطعي المدعى ، أنتج قوله : ( لا ريب ) أي شك بوجه من الوجوه ) فيه ( بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً ) ولكن أكثر الناس ( بما لهم من السفول بما ركبنا فيهم من الحظوظ والشهوات التي غلبت على غريزة العقل فردوا بها(7/106)
صفحة رقم 107
أسفل سافلين في حد النوس وهو التردد لم يرتقوا إلى الإيمان ) لا يعلمون ) أي لا يتجدد لهم علم لما لهم من النوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل ، فهم واقفون مع المحسوسات ، لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور التظهر قدرتنا ويتحقق اسمنا الباطن كما تحقق عند من هديناه لعلم ذلك .
ولما دل على قدرته على الإعادة بهذا الدليل الخاص الذي تقديره : فالله الذي ابتدأ خلقكم من الأرض على هذا الوجه قادر على إعادتكم ، عطف عليه دليلاً آخر جامعاً فقال تعالى : ( ولله ) أي الملك الأعظم وحده ) ملك السموات ( كلها ) والأرض ( التي ابتدأكم منها ، ومن تصرف في ملكه بشيء من الأشياء ، كان قادراً على مثله ما دام ملكاً .
ولما كان التقدير : له ملك ذلك أبداً ، فهو يفعل فيه اليوم ما تشاهدون مع رفع هذا وخفض هذا ، فلو أن الناس سلموا لقضائه لوصلوا إلى جميع ما وصلوا إليه بالبغي والعدوان ، فإنه لا يخرج شيء عن أمره ولكن أكثر الناس اليوم في ريبهم يترددون ، بنى عليه قوله تعالى : ( ويوم تقوم الساعة ) أي توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمامه أمره الناهض بأعباء ما يريد ، وكرر سبحانه للتهويل والتأكيد قوله : ( يومئذ ) أي إذا تقول يخسرون - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال للتعميم والتعليق بالوصف : ( يخسر المبطلون ) أي الداخلون في الباطل العريقون في الاتصاف به ، الذين كانوا لا يرضون بقضائي فيستعجلون فيتوصلون إلى مراداتهم بما لم آمر به ، ولا يزالون يبغون إلى أن يأتي الوقت الذي قدرت وصلوهم إليها فيه ، فيصلون ويظنون أنهم وصلوا بسعيهم ، وأنهم لو تركوا لما كان لهم ذلك فيخسروا لأجل سعيهم بما جعلت لهم من الاختيار بمرادي فيهم على خلاف أمري ، خسارة مستمرة التجدد لا انفكاك لهم عنها ويفوز المحقون .
الجاثية : ( 28 - 32 ) وترى كل أمة. .. . .
) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( ( )
ولما كان ذلك من ِأن اليوم مهولاً ، عم في الهول بقوله مصوراً لحاله : ( وترى ) أي في ذلك اليوم ) كل أمة ( من الأمم الخاسرة فيها والفائزة ) جاثية ) أي مجتمعة لا(7/107)
صفحة رقم 108
يخلطها غيرها ، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً ملا لعلها تؤمر به ، جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ، ينتظروا القضاء الحاتم ، والأمر الجازم اللازم ، لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم .
ولما كان كأن قيل : هم مستوفزون ، قال : ( كل أمة ) أي من الجاثين ) كنتم ( بما هو لكم كالجبلات ) تعملون ) أي مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر .
ولما أخبر بالجزاء ، بين كيفي ما به يطبق بين كتاب الإنزال وكتاب الأعمال ، فما حكم به كتاب الإنزال أنفذه الكبير المتعال ، فقال مشيراً إلى كتاب الإنزال بأداة القريب لقبه وسهولة لهمه : ( هذا كتابنا ) أي الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا ) ينطق ) أي يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق ) عليكم بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم ، ذلك بأن يقول : من عمل كذا فهو كافر ، ومن عمل كذا فو عاص ، ومن عمل كذا فهو مطيع ، فيطبق ذلك على ما عملتموه فإذا الذي أخبر به الكتاب مطابق لأعمالكم لا زيادة فيه ولا نقص ، كل كلي ينطبق على جزئيه سواء بسواء كما نعطيكم علم ذلك في ذلك اليوم ، فينكشف أمر جبلاتكم وما وقع منكم من جزئيات الأفعال لا يشذ عنه منه ذرة ، وتعلمون أن هذا الواقع منكم مطابق لما أخبر به الكتاب الذي أنزلناه ، فهو حق لأن الواقع طابقه ، هذا نطقه عليكم ، وأما نطقه لكم فالفضل : الحسنة بعشر أمثالها إلى ما فوق ذلك .
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق ، وكانوا كأنهم يقولون : من يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان ، وكانوا ينكرون أمر الحفظة وغيره مما أتت به الرسل ، أكد قوله مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك : ( إنا ( على ما لنا من القدرة والعظمة الغنية عن الكتابة ) كنا ( على الدوام ) نستنسخ ) أي نأمر ملائكتنا بنسخ أي نقل ) ما كنتم ( طبعاً لكم وخلقاً ) تعلمون ( قولاً وفعلاً ونية ، فإن كان المراد بالنسخ مطلق النقل فهو واضح ، وإن كان النقل من أصل فهو إشارة إلى لوح الجبلات المشار إليه بكنتم أو من اللوح المحفوظ ليطابق به ما يفعله العامل ، ومن المشهور بين الناس أن كل أحد يسطر في جبينه ما يلقاه من خير أو شر .
ولما صرح بالمطلين حسب ما اقتضاه الحال كما تقدم ، وأشار إلى المحقين ، (7/108)
صفحة رقم 109
صرح بما لوح إيه من أمر المحقين وعطف عليهم أضدادهم ، فقال بادئاً بهم على طريق النشر المشوش مفصلاً : ( فأما الذين آمنوا ) أي من الأمم الجاثية ) وعملوا ( تصديقاً لدعواهم الإيمان ) الصالحات فيدخلهم ) أي في ذلك اليوم الذي ذكرنا عظمته وشدة هوله ) ربهم ( الذي أحسن إليهم بالتوفيق بالأعمال الصالحة المرضية الموصلة ) في رحمته ) أي تقريبه وإكرامه بجليل الثواب وحسن المآب ، وتقول لهم الملائكة تشريفاً : سلام عليكم أيها المؤمنون ، ودل على عظيم الرحمة بقوله : ( ذلك ( الإحسان العالي المنزلة ) هو ) أي لا غيره ) الفوز ( .
ولما كان السياق لغباوتهم وخفاء الأشياء عليهم قال تعالى : ( المبين ( الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره ، لأنه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص ، بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا ، فإنها - مع كونها كانت فوزاً - كانت خفية جداً على غير الموقنين ) وأما الذين كفروا ) أي ستروا ما جلته لهم مرائي عقولهم وفطرهم الأولى من الحق الذي أمر الله به ولو عملوا جميع الصالحات غير الإيمان ، فيدخلهم الملك الأعظم في لعنته .
ولما كان هذا الستر سبباً واضحاً في تبكيتهم قال : ( أفلم ) أي فيقال لهم : ألم يأتكم رسلي ، وأخلق لكم عقولاً تدلكم على الصواب من التفكر في الآيات المرئية من المعجزات التي يأتوكم بها وأنزل عليكم بواسطتهم آيات مسموعة فلم ) تكن آياتي ( على ما لها من عظمة الإضافة إليّ وعظمة الإتيان إليكم على ألسنة رسلي الذين هم أشرف خلقي .
ولما كانت هذه الآيات توجب الإيمان لما لها من العظمة بمجرد تلاوتها ، بني للمعفول قوله : ( تتلى ) أي تواصل قراءتها من أيّ تال كان ، فكيف إذا كانت بواسطة الرسل ، تلاوة مستعلية ) عليكم ( لا تقدرون على رفع شيء منها بشيء يرضاه منصف ) فاستكبرتم ) أي فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع أن طلبتم الكبر لأنفسكم وأوجدتموه على رسلي وآياتي ) وكنتم ( خلقاً لازماً ) قوماً ) أي ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه ) مجرمين ) أي عريقين في قطع ما يستحق الوصل ، وذلك هو الخسران المبين ، والآية من الاحتباك : ذكر الإدخال في الرحمة أولاً دليلاً على الإدخال في اللغنة ثانياً ، وذكر التبكيت ثانياً دليلاً على التشريف أولاً ، وسره أن ما ذكره أدل على شرف الولي وحقارة العدو ) وإذا ) أي وكنتم إذا ) قيل ( من أيّ قائل كان ولو على سبيل التأكيد : ( إن وعد الله ( الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال ) حق ) أي ثابت لا محيد عنه يطابقه الواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف(7/109)
صفحة رقم 110
فيه مناقضاً للحكمة ) والساعة ( التي هي مما وعد به وهي محط الحكمة فهي أعظم ما تعلق به الوعد ) لا ريب فيها ( بوجه من الوجوه لأنها محل إظهار الملك لما له من الجلال والجمال أتم إظهار ) قلتم ( راضين لأنفسكم بحضيض الجهل : ( ما ندري ) أي الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه ) ما الساعة ) أي نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها .
ولما كان أمرها مركوزاً في الفطر لا يحتاج إلى كبير نظر ، بما يعلم كل أحد من تمام قدرة الله تعالى ، فمتى نبه عليها نوع تنبيه سبق إلى القلب علمها ، سموا ذلك ظناً عناداً واستكباراً ، فقالوا مستأنفين في جواب من كأنه يقول : أفلم تفدكم تلاوة هذه الآيات البينات علماً بها : ( إن ) أي ما ) نظن ) أي نعتقد ما تخبروننا به عنها ) إلا ظناً ( وأما وصوله إلى درجة العلم فلا .
ولما كان المحصور لا بد وأن يكون أخص من المحصور فيه كان الظن الأول بمعنى الإعتقاد ، ولعله عبر عنه بلفظ الظن تأكيداً لمعنى الحصر ، ولذلك عطفوا عليه - تصريحاً بالمراد لأن الظن قد يطلق على العلم - قولهم : ( وما نحن ( وأكدوا النفي فقالوا : ( بمستيقنين ) أي بموجود عندنا اليقين في أمرها ولا بطالبين له - هذا مع ما تشاهدونه من الآيات في الآفاق وفي أنفسكم وما يبث من دابة وما ينبهكم على ذلك من الآيات المسموعة ، وهذا لا ينافي آية ) إن هي إلا حياتنا الدنيا ( لأن آخرها مثبت للظن ، فكأنهم كانوا تارة يقوى عندهم ما في جبلاتهم وفطرهم الأولى من أمرها فيظنونها ، وتارة تقوى عليهم الحظوظ مع ما يقترن بها من الشبهة المبنية على الجهل فيظنون عدمها فيقطعون به لما للنفس إليه من الميل ، أو كانوا فرقتين - والله أعلم .
الجاثية : ( 33 - 35 ) وبدا لهم سيئات. .. . .
) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ( ( )
ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد ، التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشديد الغضب فقال تعالى : ( وبدا ) أي ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال ، والزلازل والأهوال ، وظهر ) لهم ( غاية الظهور ) سيئات ما ( ولما كان السياق للكفرة ، وكانوا مؤاخذين بجميع أعمالهم فإنه ليس لهم أساس صالح يكون سبباً لتكفير شيء مما تقلبوا فيه ولم يقتض السياق خصوصاً مثل الزمر ، عبر بالعمل الذي هو أعم من الكسب فقال : ( علموا ( فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك ) وحاق بهم ) أي أحاط على حال القهر والغلبة ، (7/110)
صفحة رقم 111
قال أبو حيان : ولا يستعمل إلا في إلا في المكروه .
) ما كانوا ( جبلة وخلقاً ) به يسهزءون ) أي يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك ) وقيل ) أي لهم على قطع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له ، فكأنه بلسان كل قائل : ( اليوم ننساكم ) أي نفع لمعكم بالترك من جميع ما يصلحكم فعل المنسي الذي نقطع عنه جميع إحساننا فيأتيه كل شر ) لقاء يومكم هذا ) أي الذي عملتم في أمره عمل الناسي له ، ومن نسي لقاء اليوم نسيء لقاء الكائن فيه بطريق الأولى ، وقد عابهم الله سبحانه تعالى بذلك أشد العيب لأن ما عملوه ليس من فعل الحزمة أن يتركوا ما ضرره محتمل لا يعتدون له ، وإنما هذا فعل الحمق الذين هم عندهم أسقال لا عبرة لهم ولا وزن لهم ، وعبر بالنسيان لأن علمه مركوز في طبائعهم ، وعبر في فعله بالمضارع ليدل على الاستمرار ، وفي فعلهم بالماضي ليدل على أن من وقع منه ذلك وقتاً ما وإن قل كان على خطر عظيم بتعريض نفسه لاستمرار الإعراض عنه .
ولما كان تركه على هذا الحال يلزم منه استمرار العذاب ، صرح به إيضاحاً له لئلا يظن غير ذلك ، فقال مبيناً لحالهم : ( ومأواكم النار ( ليس لكم براح عنها أصلاً ، لأن أعمالكم أدخلتكموها ، ولا يخرج منها إلا من أذنا من إخراجه ، نحن قد جعلناكم في عداد المنسي فلا يكون م نقبلنا لكم فرج ) وما لكم ( في نفس الأمر سواء أفكرتم وأنتم مكذبون في مدافعة هذا اليوم أو تركتموه ترك المنسي ) من ناصرين ( ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة .
ولما ذكر جزاءهم على ما هو الحق المساوي لأعمالهم طبق الفعل بالفعل ، علله بما لزم على أعمالهم فقال : ( ذالكم ) أي العذاب العظيم ) بأنكم اتخذتم ) أي بتكليف منكم لأنفسكم وقسر على خلاف ما أدى إليه العقل ، وجاءت به الرسل ، وساعدت عليه الفطر الأول ) آيات الله ) أي الملك الأعظم الذي لا شيء أعظم منه ) هزواً ) أي جعلتموها عين ما أنزلت للإبعاد منه ) وغرتكم ( لضعف عقولكم ) الحياة الدنيا ) أي الدنية فآثرتمها لكونها حاضرة وأنت كالبهائم لا يعدو نظركم المحسوس فقلتم : لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ، ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالأخرى .
ولما أوصلهم إلى هذا الحد من الإهانة ، سبب عنه زيادة في إهانتهم وتلذيذاً لأوليائه الذين عادوهم فيه وإشماتاً لهم بهم : ( فاليوم ( بعد إيوائهم فيها ) لا يخرجون ( بمخرج ما ) منها ( لأن الله لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك ) ولا هم ( خاصة ) يستعتبون ) أي يطلب من طالب ما منهم الإعتاب ، وهو الاعتذار بما يثبت لهم(7/111)
صفحة رقم 112
العذر ويزل عنهم العتب الموجب للغضب بعمل من الأعمال الصالحات لأنهم في دار الجزاء لا دار العمل .
الجاثية : ( 36 - 37 ) فلله الحمد رب. .. . .
) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ ( ( )
ولما أثبت سبحانه بعده بإثبات الآيات المرئية والمسموعة وإعزاز أوليائه وإدلال أعدائه من غير مبالاة بشيء ولا عجز عن شيء مع الإحاطة التامة بكل شيء قدرة وعلماً ، تسبب عن ذلك حتماً قوله تعالى : ( فللّه ) أي الذي له الأمر كله ) الحمد ) أي الإحاطة بجميع صفات الكمال .
ولما أبان سبحانه أن ذلك ثابت له لذاته لا لشيء آخر ، أثبت أنه لا بالإحسان والتدبير فقال تعالى : ( رب السماوات ) أي ذات العلو والاتساع والبركات .
ولما كان السياق لإثبات الاختصاص بالكمال ، وكانوا قد جعلوا له سبحانه ما دل على أنهم لا شبهة لهم في عبادتهم بحصر أمرهم في الهوى ، أعاد ذكر الرب تأكيداً وإعلاماً أن له في كل واحد من الخافقين أسراراً غير ما له في الآخر ، فالتربية متفاوتة بحسب ذلك ، وأثبت العاطف إعلاماً بأن كمال قدرته في ربوبيته للأعلى والأسفل على حد سواء دفعاً لتوهم أن حكمه في الأعلى أمكن لتوهم الاحتياج إلى مسافة فقال تعالى : ( ورب الأرض ) أي ذات القبول للواردات .
ولما خص الخافقين تنبيهاً على الاعتبار بما فيهما من الآيات لظهورها ، عم تنبيهاً على أن له وراء ذلك من الخلائق ما لا يعلمه إلا لله سبحانه وتعالى فقال مسقطاً العاطف لعدم الاحتياج إليه بعد إثبات استواء الكونين الأعلى والأسفل في حكمه من حيث العلم والقدرة للتنزه عن المسافة ، وذلك لا يخرج عنه شيء من الخلق لأنه إما أن يكون علوياً أو سفلياً ) رب العالمين ( فجمع ما مفرده يجل على جميع الحوادث لأن العالم ما سوى الله .
تنبيهاً على أصنافه وتصريحاً بها وإعلاماً بأنه أريد به مدلوله المطابقي لا البعض بدلالة التضمن ، وأعاد ذكر الرب تنبيهاً على أن حفظه للخلق وتربيته لهم ذو ألوان بحسب شؤون الخلق ، فحفظه لهذا الجزء على وجه يغاير حفظه لجزء آخر ، وحفظه للكل من حيث هو كل على وجه يغاير حفظه لكل جزء على حدته ، مع أن الكل بالنسبة إلى تمام القدرة على حد سواء .
ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفوء له ، عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال : ( وله ) أي وحده ) الكبرياء ) أي الكبر الأعظم الذي لا نهاية(7/112)
صفحة رقم 113
له : ( في السماوات ( كلها ) والأرض ( جميعها اللتين فيهما آيات للمؤمنين ، روى مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قالرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يقول الله عز وجل : ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار ) ، وفي رواي : عذبته ، وفي رواية : قصمته .
) وهو ( وحده ) العزيز ( الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) الحكيم ( الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه ، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات ، وفواصل وغايات ، وبعد أن حرر معانيه وتنزيله جواباً لما كانوا يعتنون به ، فصار معجزاً في نظمه ومعناه وإنزاله طبق أجوبة الوقائع على ما اقتضاه الحال ، فانبق آخرها على أولها بالصفتين المذكورتين ، وبالحث على الاعتبار بآيات الخافقين ، والتصريح بما لزم ذلك من الكبرياء المقتضية لإذلال الأعداء وإعزاز الأولياء .
والله الهادي إلى الصواب وإله المرجع والمآب - والله أعلم بمراده .
.. .(7/113)
صفحة رقم 114
سورة الأحقاف
الأحقاف : ( 1 - 3 ) حم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ ( ( )
مقصودها إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضاد حال بلادهم وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأن فعل ذلك لا شريك له فهو المستحق للإفراد بالعبادة ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف الدالة على هدوء الريح وسكون الجو بما دلت عليه قصة قوم هود عليه الصلاة والسلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه عنهم ولا يصح تسميتها بهود ولا تسمية هود بالأحقاف لما ذكر من المقصود بكل منهما ) بسم الله ( الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى ) الرحمن ( الذي سبقت رحمته غضبه بزواجر الإنذار ) الرحيم ( الذي يخص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار بدخول الجنة والنجاة من النار .
) حم ( حكمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد .
ولما بنيت الجاثية على النظر في آيات الخافقين خطاباً لأهل الإيمان استدلالاً على يوم الفصل المدلول عليه في الدخان بآية ) ) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ( ) [ الأنبياء : 16 ] والتي بعدها ، فأنتجت العلم بأن الكبرياء لخالقهما بما يشاهد من قهره للملوك فمن سواهم بالموت وما دونه من غير مبالاة بأحد وبينت - بما أفهمه الملك والكبرياء والحكمة لأن عادة من كان بهذا الوصف ألا يكون كلامه إلا بحسب الحاجة .
أن الكتاب منزل نجوماً لبيان ما يحاولون به مدحض لحجتهم هادم لعزتهم بحكمته وعزته ، فثبت الحشر وحق النشر ، وختم بصفتي العزة والحكمة ، ذكر بما ثبت من ذلك كله تأكيداً لأمر البعث وتحقيقاً لليوم الآخر على وجه مبين أن الخلق كله آيات وحكم(7/114)
صفحة رقم 115
واعتبارات لأنه أثبت أنه كله حق ، ونفى عنه كل باطلب ، فقال خطاباً لأهل الأوثان من سائر الأديان الصابية والمجوس وغيرهم الذين افتتحت السورة بهم وختمت بالفسف الجامع لهم الموجب لكفرهم : ( تنزيل الكتاب ) أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح ) من الله ) أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال الذي هو الحمد بما دلت عليه ربوبيته ، وختم بقوله : ( العزيز الحكيم ( تقريراً لأنه لم يضع شيئاً إلا في أوفق محاله ، وأنه الخالق للشر كما أنه الخالق للخير ولجميع الافعال وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه ويحكم أمر دينه فيظهره على الدين كله من غير أن يقدر أحد على معارضته في شيء منه فصارت آية الجاثية مقدمة لهذه وهذه نتيجة .
ولما ثبت في الجاثية مضمون قوله تعالى في الدخان ) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ( بما ذكر فيهما من الآيات والمنافع والحكم ، أثبت هنا مضمون ما بعد ذلك بزيادة الأجل فقال دالاً على عزته وحكمته : ( وما خلقنا ) أي على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرد بالكبرياء ) السموات والأرض ( على ما فيهما من الآيات التي فصل بعثها في الجاثية .
ولما كان من المقاصد هنا الرد على المجوس وغيرهم ممن ثبت خلقاً لغير الله قال : ( وما بينهما ) أي من الهواء المشحون بالمنافع وكل خير وكل شر من أفعال العباد وغيرهم ، وقال ابن برجان في تفسيره : جميع الوجوه .
أوله وآخره نسخة لأم الكتاب والسماوات والأرض إشارة إلى بعض الوجود ، وبعضه يعطي من الدلالة على المطلوب ما يعطيه الكل بوجه ما ، غير أن علا أصح دلالة وأقرب شهادة وأبين إشارة ، وما صغر من الموجودات دلالته مجملة يحتاج المستعرض فيه إلى التثبت وتدقيق النظر والبحث - انتهى .
) إلا بالحق ) أي الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرف المطلق ، فخلق الباطل بالحق لأنه تصرف في ملكه الذي لا شائبة لغيره فيه للابتلاء والاختبار للمجازاة بالعدل والمن بالفضل إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها سواه ، وفي خلق ذلك على هذا الوجه أعظم دلالة على وجود الحق سبحانه ، وأنه واحد لا شريك له ، ودل على قهره بقوله : ( وأجل مسمى ) أي لبعث الناس إلى دار القرار لفصل أهل الجنة من أهل النار ، وفناء الخافقين وما نشأ عنهما من الليل والنهار .
ولما كان التقدير : وأمرنا الناس بالعمل في ذلك الأجل بطاعتنا ووعدناهم عليها جنان النعيم ، فالذين آمنوا على ما أنذروا مقبلون ، ومن غوائله مشفقون ، فهم بطاعتنا عاملون ، عطف عليه من السياق له من قوله : ( والذين كفروا ) أي ستروا من أعلام الدلائل ما لو خلوا أنفسهم وما فطرناها عليه لعلموه فهم لذلك ) عما أنذروا ( ممن هم(7/115)
صفحة رقم 116
عارفون بأن إنذاره لا يتخلف ) معرضون ( ومن غوائله آمنون ، فهم بما يغضبنا فاعلون ، شهدت عندهم شواهد الوجود فما سمعوا لها ولا أصغوا إليها وأنذرتهم الرسل والكتب من عند الله فأعرضوا عنها واشمأزوا منها .
الأحقاف : ( 4 - 6 ) قل أرأيتم ما. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( ( )
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما قدم ذكر الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه ، وأردف ذلك بما تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه قد نصب من دلائل السماوات والأرض إلى ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها كاف في الدلالة وقائم بالحجة ، ومع ذلك فلم يجر عليهم التمادي على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيىء محالهم ، أردفت بسورة الأحقاف تسجيلاً بسوء مرتكبهم وإعلاماً باليم منقلبهم فقال تعالى ) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ( ولو اعتبرا بعظيم ارتباط ذلك الحق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثاً ، ولكنهم عموا عن الآيات وتنكبوا عن انتهاج الدلالات ) والذين كفروا عما أنذروا معرضون ( ثم أخذ سبحانه وتعالى في تعنيفهم وتقريرعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال ) أفرأيتم ما تدعون من دون الله ( - إلى قوله : ( وكانوا بعبادتهم كافرين ( ثم ذكر عنادهم عن سماع الآيات فقال : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ( الآيات ، ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة - انتهى .
ولما قرر سبحانه الأصل الدال على التوحيد وإثبات العدل والحرمة بالبعث للفصل ، وكانوا يقولون : إنهم أعقل الناس ، وكان العاقل لا يأمن غوائل الإنذار إلا أن أعد لها ما يتحقق دفعه لها وكان لا يقدر على دفع المتوعد إلا من يساوه أو يزيد عليه بشركة أو غيرها ، وكانوا يدعون في أصنامهم أنها شركاء ، بنى على ذلك الأصل فتاريعه ، وبدأ بإبطال متمسكهم فقال سبحانه وتعالى آمراً له ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينبههم على سفههم بأنهم أعرضوا عما قد يضرهم من غير احتراز منه دالاً على عدم إلهية ما دعوه آلهة بعدم الدليل على إلهيتها من عقل أو نقل ، لأن منصب الإلهية لا يمكن أن يثبت وله من الشرف ما هو معلوم بغير دليل قاطع : ( قل ) أي لهؤلاء المعرضين أنفسهم لغاية الخطر منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً : ( أرءيتم ) أي أخبروني بعد تأمل ورؤية باطنة ) ما تدعون ((7/116)
صفحة رقم 117
أي دعاء عبادة ، ونبه على سفولهم بقوله تعالى : ( من دون الله ) أي الملك الأعظم الذي كل شيء دونه ، فلا كفوء له .
ولما كان من المعلوم أن الاستفهام عن رؤية ما مشاهدتهم له معلومة لا يصح إلى بتأويل أنه عن بعض الأحوال ، وكان التقدير : أهم شركاء في الأرض ، استأنف قوله : ( أروني ما ( وأكد الكلام بقوله سبحانه وتعالى : ( ماذا خلقوا ) أي اخترعوه ) من الأرض ( ليصح ادعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزي .
ولما كان معنى الكلام وترجمته : أروني أهم شركاء في الأرض ؟ عادله بقوله : ( أم لهم ) أي الذين تدعونهم ) شرك في السماوات ( أ ] نوع من أنواع الشركة : تدبير - كما يقول أهل الطبائع ، أو خلق أو غيره ، أروني ذلك الذي خلقوه منها ليصح ادعاؤكم فيهم واعتمادكم عليهم بسببه .
فالآية من الاحتباك : ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والشركة ثانيةً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما كان الدليل أحد شيئين : سمع وعقل ، قال تعالى : ( ائتوني ) أي حجة على دعواكم في هذه الأصنام أ ، ها خلقت شيئاً ، أو أنها تستحق أن تعبد ) بكتاب ) أي واحد يصح التمسك به ، لا أكلفكم إلى الإتيان بأكثر من كتاب واحد .
ولما كانت الكتب متعددة ولم يكن كتاب قبل القرآن عاماً لجميع ما سلف من الزمان ، أدخل الجابر فقال تعال : ( من قبل هذا ) أي الذي نزل عليّ كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهذا من أعلام النبوة فإنها كلها شاهدة بالوحدانية ، لو أتى بها آت لشهدت عليه .
ولما ذكر الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به ، وهو النقل القاطع ، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه الذي منه العقل ، وأقنع منه ببقية واحدة ولو كانت أثراً لا عيناً فقال : ( أو أثارة ) أي بقية رسم صالح للاحتجاج ، قال ابن برجان : وهي البقية من أثر كل شيء يرى بعد ذهابه وحال رؤيته بأثرها خلق عن سلف يتحدثون بها في آثارهم ، قال البغوي : وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية .
) من علم ) أي قطعي بضرورة أو تجربة أو مشاهدة أو غيره ولو ظناً يدل على ما ادعيتم فيهم من الشركة .
ولما كان لهم من النفرة من الكذب واستشناعه واستبشاعه واستفظاظه ما ليس لأمة من الأمم ، أشار إلى تقريعهم بالكذب إن لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله تعالى : ( إن كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) صادقين ) أي عريقين في الصدق على ما تدعون لأنفسكم .
ولما أبطل سبحانه وتعالى قولهم في الأصنام بعدم قدرتها على إتيان شيء من ذلك لأنها من جملة مخلوقات في الأصل ، أتبعه إبطاله بعدم علمها ليعلم قطعاً أنهم أضل الناس حيث ارتبطوا في أجل الأشياء - وهو أًول الدني - بما لا دليل عليه أصلاً ، (7/117)
صفحة رقم 118
فقال تعالى منكراً أن يكون أحد أضل منهم ، عاطفاً على ما هدى السياق حتماً إلى تقديره وهو : فمن أضل ممن يدعي شيئاً من الأشياء وإن قل بلا دليل : ( ومن أضل ممن ( يدعي أعظم الأشيء بغير دليل ما عقلي ولا نقلي ، فهو ) يدعوا ( ما لا قدرة له ولا علم ، وما انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل ، وأرشد إلى سفولها بقوله تعالى : ( من دون الله ) أي من أدنى رتبة من رتب الذي له جميع صفات الجلال والجمال والكمال ، فهو سبحانه يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء بحيث يجيب الدعاء ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء ، ويدبر عبده لما يعلم من سره وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به ، ويريد العبد في كثير من الأشيء ما لو وكل العبد فيه إلى نفسه وأجيب إلى طلبته كان فيه حتفه ، فيدبره سبحانه بما تشتد كراهيته له فيكشف الحال عن أنه لم يكن له فرج إلا فيه ) من لا يستجيب له ) أي لا يوجد الإجابة ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها لأنه لا أهلية له لذلك .
ولما كان أقل الاستجابة مطلق الكلام ، وكانوا في الآخرة يكلمونهم في الجملة وإن كان بما يضرهم ، غيى هذا النفي بوقت لا ينفع فيه استجابة أصلاً ولا يغني أحد عن أحد أبداً فقال تعالى : ( إلى يوم القيامة ) أي الذي صرفنا لهم من أدلته ما هو أوضح من الشمس ولا يزيدهم لك إلا إنكاراً وركوناً إلى ما لا دليل عليه أصلاً وهم يدعون الهداية ويعيبون أشد عيب الغواية .
ولما كان من لا يستجيب قد يكون له علم بطاعة الإنسان له ترجى معه إجابته يوماً ما ، فنى ذلك بقوله زيادة في عيبهم في دعاء ما لا رجاء في نفعه : ( وهم عن دعائهم ) أي دعاء المشركين إياهم ) غافلون ) أي لهم هذا الوصف ثابت لا يفكون عنه ، لا يعلمون من يدعوهم ولا من لا يدعوهم ، وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعم من الأصنام وغيرها ممن عبدوه من عقلاء الإنس والجن وغيرهم واتصافاً إن كان المراد الأصنام خاصة ، أو تهكماً كأنه قيل : هم علماء فإنكم أجل مقاماً من أن تعبدوا ما لا يعقل ، وإنما عدم استجابتهم لكم دائماً غفلة دائمة كما تقول لمن كتب كتاباً كله فاسد : أنت عالم لكنك كنت ناعساً .
ونحو هذا .
ولما غيى سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه ، بين ما يحاورونهم به إذ ذاك فقال : ( وإذا حشر ) أي جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر ) الناس ) أي كل من يصح منه الّنوس - أي التحرك - يوم القيامة ) كانوا ) أي المدعوون ) لهم ) أي للداعين ) أعداء ( ويعطيهم الله قوة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدو عدوه ) وكانوا ) أي المعبودون ) بعبادتهم ) أي الداعين ، وهم المشركون - إياهم ) كافرين ((7/118)
صفحة رقم 119
لأنهم كانوا عنها غافلين كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام ) ) وقال شركاؤوهم ما كنتم إيانا تعبدون ( ) [ يونس : 28 ] .
الأحقاف : ( 7 - 9 ) وإذا تتلى عليهم. .. . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما بين أنهم في غاية السفه في عبادة ما لا دليل بوجه على عبادته ، أتبعه بيان أنهم في غاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه ، فقال عاطفاً على ) والذين كفروا عما أنذروا معرضون ( : ( وإذا تتلى ) أي تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة ) عليهم آياتنا ) أي التي لا أعظم منها ف يأنفسها وبإضافتها إلينا ) بينات ( لا شيء أبين منها قالوا - هكذا كان الأصل ولكنه بين الوصف الحامل لهم على القول فقال : ( قال الذين كفروا ) أي ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها - هكذا كان الأصل ولكنه قال : ( للحق ) أي لأجله ) لما ) أي حين ) جاءهم ( بيانها لأنها مع بيانها لا شيء أثبت منها وأنهم بادروا أول سماعهم لها إلى إنكارها دون تفكر : ( هذا ) أي الذي تلي ) سحر ) أي خيال لا حقيقة له ) مبين ) أي ظاهر في أنه خيال ، فدل قولهم هذا - بمبادرتهم إليه من غير تأمل أصلاً ، وبكونه أبعد الأشياء عن حقيقة ما قيل فيه - على أنهم أكثر الناس عناداً وأجرؤهم على الكذب وهم يدعون أنهم أعرق الناس في الإنصاف وألزمهم للصدق .
ولما دلت هذه الآيات بعظيم حججها وزخار ما أغرق من لججها ، على أن ما يدينون به أوهى من الخيال ، وأن هذاالكتاب في صدقه وكل شيء من أمره أثبت من الجبال ، فكانوا أجدر الخلق بأن يقولوا : رجعنا عما كنا فيه وآمنا ، كان موضع أن يقال : هل أقروا بأنك صادق في نسبة هذا الكتاب إلى الله ، فعادله بقوله دليلاً عليه : ( أم يقولون ( مجددين لذلك متابعين له ) افتراه ) أي تعمد كذبه ، فيكون ذلك من قولهم عجباً لأنه قول مقرون بما يكذبه ويبطله كما يأتي في تقريره .
ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، وقد قرحوا القلوب به فماذا يردهم عنه ؟ قيل : ( قل ( ما هو أشد عليهم من وقع النبل ، وهو ما يرد ما رموك به عليهم بحجة هي أجلى من الشمس في الظهيرة صحواً ليس دونها سحاب .
ولما كان من عادة الملوك أنه(7/119)
صفحة رقم 120
متى كذب عليهم أحد عاجلوه بالعقوبة قال : ( إن افتريته ) أي تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم ، فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً ، وذلك هو معنى قوله : ( فلا تملكون ) أي أيها المنصوحون في وقت من الأوقات بوجه من الوجوه ) لي من الله ) أي الملك الأعظم العزيز المتكبر الحكيم ) شيئاً ( مما يدر عني انتقامه مني لأن الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب ، فكيف بمن يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة ويلازمه مساء وصباحاً غدواً وراحاً ، فأي حامل لي حينئذ عل ىافترائه ، والمقصود به لا ينفعني ، والمكذوب عليه لا يتركني ؛ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله : ( هو أعلم ) أي منكم ومن كل أحد ) بما تفيضون فيه ( من نسبتي إلى الكذب ، فلو أنه كما تقولون ما ناظرني فضالاً عن أنه يؤيدني وينصرني ، وفيه على ذلك تهديد لهم وتسلية له وتفريج عنه .
ولما كان الإملاء وحده ليس قاطعاً في ذكل وإن كان ظاهراً فيه ، فكان لا بد في دعوى الصدق من دلي لقاطع وبرهان ساطع ، وكانت شهادة الملك الذي الكلام فيه أعظم الأدلة لأنه الأعلم ، ومدار الشهادة العلم ، فأنتج الكلام قطعاً قوله : ( كفى ( وأكد الكلام بما قرن بالفاعل من حرف الجر تحقيقاً للفعل ونفياً للمجاز فقال : ( به شهيداً ) أي شاهداً بليغ الشهادة لأنه الأعلم بجميع أحوالنا ) بيني وبينكم ( يشهد بنفسه الأقدس للصادق منا وعلى الكاذب ، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين وأنتم عرب مثلي ، بل وأنا أمي وفيكم أنتم الكتبة والذين خالطوا العلماء وسمعوا أحاديث الأمم وضربوا - بعد بلاد العجم - في بلاد العرب ، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون ) وهو الغفور ( الذي من شأنه أن يمحو الذنوب كلها أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ) الرحيم ( الذي يكرم بعد المغفرة ويفضل بالتوفيق لما يرضيه ، ففي هذا الختام ترغيب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الصفح عنهم فيما نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء ، وندب إلى الإحسان إليهم ، وترغيب لهم في التوبة ، ومنع من أن يقولوا : فلم لا يعاجلنا بالعقوبة على نسبتنا لك إلى الكذب إن كنت صادقاً بأنه يجوز أن يمهل الكاذب ، وأما أنه يؤيده بما يشد به كذبه اللازم منه أنه يزيد فيه فلا يجوز ، لأن ذلك قادح ف يالحكمة وفي الكبرياء وفي الملك .
ولما كان من أعظم الضلال أن ينسب الإنسان إلى الكذب من غير دليل في شيء لم يبتدعه ، بل تقدمه بمثله ناس قد ثبت صدقهم في مثل ذلك ومضت عليه الأزمان وتقرر غاية التقرر في القلوب والأذهان ، قال تعالى : ( قل ) أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى(7/120)
صفحة رقم 121
الافتراء : ( ما كنت ) أي كوناً ما ) بدعاً ) أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً ) من الرسل ( لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به ، وهو الحرف الذي طال النزاع بيني وبينكم فيه وعظم الخطب وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله بمثل ما صدقني به ، فثبتت بذلك رسالاتهم وسعد بهم من صدقهم من قومهم ، وشقي بهم من كذبهم ، فانظروا إلى آثارهم ، واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والبدعة الاسم لما ابتدع وضد البدعة السنة ، لأن السنة ما تقدم له إمام ، والبدعة ما اخترع على غير مثال ، وفي الحديث ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) معنا - والله أعلم - أن يبتدع ما يخالف السنة إذ كانت البدعة ضد السنة ، فإذا أحدث ما يخالفها كان بغحداثه لها ضالاً مشركاً ، وكان من أحدث في النار ، ولم يدخل تحت هذا ما يخترع الإنسان من أفعال البر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكرنا إن كان له نظير في الأصول ، وهو الحض على كل أفعال البر ما علم منها وما لم يعلم ، فإن أحدث محدث منذلك شيئاً فكأنه زيادة فيما تقدم من البر وليس بضد لما تقدمه من السنة ، بل هو باب من أبوابها ، ويقولون : ما فلان ببدعة في هذا الأمر أي ليس هو بأول من أصابه ولكن سبقه غيره أيضاً ، قال الشاعر :
ولست ببدع من النائبات ونقض الخطوب وإمرارها
ويقال : أبدع بالرجل - إذا كلت راحلته ، وأبدعت الركاب إذا كلت وعطبت ، وقيل : كل من عطبت ركابه فانقطع به فقد أبدع به ، وقال في القاموس : والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد ( صلى الله عليه وسلم ) من الأهواء والأعمال ، وأبدع بالرجل : عطبت ركابه ، وبقي منقطعاً به ، وأبدع فلان بفلان : قطع به وخذله ، ولم يقم بحاجته ، وحجته بطلت ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : وشيء بدع - بالكسر أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع ، وقوم أبداع ، عن الأخفش : والبديع المبتدع والبديع المبتدع أيضاً ، وأبدعت حجة فلان - إذا بطلتب وأدبعت : أبطلت - يتعدى ولا يتعدى .
ولما أُبت بموافقته ( صلى الله عليه وسلم ) للرسل أصل الكلام وبقي أن يقال : إن التكذيب في أن الله أرسله به ، قام الدليل على صدقه في دعواه ، وذلك بأنه مماثل لهم في أصل الخلقة ليس له من ذاته من العلم إلا ما لهم ، وليس منهم أحد يصح له حكم على المغيبات ، فلولا(7/121)
صفحة رقم 122
أن الله أرسله لما صح كل شيء حكم به على المستقبلات ولم يتخلف من ذلك شيء فقال : ( وما أدري ) أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد ) ما ) أي الذي ) يفعل ) أي من أيّ فاعل كان سواء كان هو الله تعالى بلا وساطة أو بواسطة غيره ) بي ( وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع وكذلك في الانفراد أيضاً فقال : ( ولا ) أي ولاأدري الذي يفعل ) بكم ( هذا في أصل الخلقة وأنتم ترونني أحكم على نفسي بأشياء لا يختل شيء منها مثل أن أقول : إني آتيكم من القرآن بما يعجزكم ، فلا تقدرون كلكم على معارضة شيء منه فيضح ذلك على سبيل التكرار لا يتخلف أصلاً ، فلولا أن الله أرسلني به لم أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه كلكم ، وإن قدرت على شيء كنتم أنتم أقدر مني عليه ، وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء ، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله .
ولما سوى نفسه الشريفة بهم في أصل الخلقة ، وكان قد ميزه الله عنهم بما خصه من النبوة والرسالة ، أبرز له ذلك - سبحانه وتعالى على وجه النتيجة فقال : ( إن ) أي ما ) أتبع ) أي - بغاية جهدي وجدي ) إلا ما ) أي الذي ) يوحى ) أي يجدد إلقاؤه ممن لا يوحي بحق إلا هو ) إليّ ( على سبيل التدريج سراً ، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري ، ومنه ما أخبر فيه عن المغيبات فيكون كما قلت ، فلا يرتاب في أني لا أقدر على ذلك بنفسي فعلم أنه من الله .
ولما نسبوه إلى الافتراء تارة والجنون أخرى ، وكان السبب الأعظم في نسبتهم له إلى ذلك صدعهم بما يسوءهم على غير عادته السالفة وعادة أمثاله ، قال على سبيل القصر القلبي : ( وما أنا ) أي بإخباري لكم عما يوحى إليّ ) إلا نذير ) أي لكم ولكل من بلغه القرآن ) مبين ) أي ظاهر أني كذلك في نفسه مظهر له - أي كوني نذيراً - ولجميع الجزيئات التي أنذر منها بالأدلة القطعية .
الأحقاف : ( 10 - 13 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ( )(7/122)
صفحة رقم 123
ولما أثبت أنه من عند الله بشهادة الله نفسه بعجزهم عن المعارضة ، قبح عليهم إصرارهم على التكذيب على تقدير شهادة أحد ممن يثقون بهم يسألونهم عنه من أهل الكتاب فقال تعالى : ( قل أرءيتم ) أي أخبروني وبينوا لي وأقيموا ولو ببعض حجة أو برهان ) إن كان ) أي هذا الذي يوحى إليّ وآتيكم به وأنذركم وأعلمكم أنه من الله فإنه ) من عند الله ) أي الملك الأعظم .
ولما كان مقصود السورة إنذار الكافرين الذين لا ينظرون في علم ، بل شأنهم تغطية المعارف والعلوم ، عطف بالواو الدالة على مطلق الجميع الشامل لمقارنة الأمرين المجموعين من غير مهلة فيدل على الإسراع في الكفر من غير تأمل قال : ( وكفرتم به ) أي على هذا التقدير ) وشهد شاهد ) أي واحد وأكثر ) من بني إسرائيل ( الذين جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم ) على مثله ) أي مثل ما في القرآن من أن من وحد فقد آمن ، ومن أشرك فقد كفرن وأن الله أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم ، فطابقت عليه كتبهم ، وتظافرت به رسلهم ، وتواتر على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام ، ثم سبب عن شهادته وعقب وفصل فقال : ( فآمن ) أي هذا الذي شهد هذه الشهارة بهذا القرآن عندما رآه مصدقاً لما ذكر وعلم أنه الكتاب الذي بشرت به كتبهم ، فاهتدى إلى وضع الشيء في محله فوضعه ولم يستكبر .
ولما كان الحامل لهم بعد هذه الأدلة على التمادي على الكفر إنما هو الشماخة والأنفقة قال : ( واستكبرتم ) أي أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرئاسة والفخر والنفاسة ، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة أصلاً فضللتم فكفرتم فوضعتم الشيء في غير موضعه فانسد عليكم باب الهداية .
ولما كانوا يدعون أنهم أهدى الناس وأعدلهم ، وكان من رد شهادة الخالق والخلق ظالماً شديد الظلم ، فكان ضالاً علىعلم ، قال الله تعالى مستأنفاً دالاً على أن تقدير الجواب : أفلم تكونوا بتخلفكم عن الإيمان بعد العلم قد ظلمتم ظلماً عظيماً بوضع الكفرن موضع الإيمان ، فتكونوا ضالين تاركين للطريق الموصل على عمد ) إن الله ) أي الملك الأعظم ذا العزة والحكمة ) لا يهدي القوم ) أي الذين لهم قدرة على القيام بما يريدون محاولته ) الظالمين ) أي الذين من شأنهم وضع الأمور غير مواضعها ، فلأجل ذلك لا يهديكم لأنه لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه ضلالكم ، أما من كان منكم عالماً فالأمر فيه واضح ، وأما من كان منكم جاهلاً فهو كالعالم لعدم تدبره مثل هذه الأدلة التي ما بين العالم بلسان العرب وبين انكشافها له إلا تدبها مع ترك الهوى ، وقال الحسن - كما نقله البغوي - الجواب : فمن أضل منكم كما قال في(7/123)
صفحة رقم 124
( فصلت )
77 ( ) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ( ) 7
[ فصلت : 52 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإيمان أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والاستكبار والظلم وعدم الهداية ثانياً دليلاً على أضدادها أولاً ، وسره أنه شكر سببي السعادة ترغيباً وترهيباً .
ولما دل على أن تركهم للإيمان إنما هو تعمد للظلم استكباراً ، عطف على قولهم ) إنه سحر ( ما دل على الاستكبار فقال تعالى : ( وقال الذين كفروا ) أي تعمدوا تغطية الحق ) للذين ) أي لأجل إيمان الذين ) آمنوا ( إذ سبقوهم إلى الإيمان : ( لو كان ( إيمانهم بالقرآن وبهذا الرسول ) خيراً ) أي من جملة الخيور ) ما سبقونا إليه ( ونحن أشرف منهم وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير فكأن لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها ، لكنه ليس بخير ، فلذلك سبقوا إليه فكان حالهم فيه حالهم فيما هو محسوس من أمورهم في المال والجاه .
ولما أخبر عما قالوا حين سبقهم غيرهم ، أخبر عما يقولون عند تعمد الإعراض عنه فقال : ( وإذ ( اي وحين ) لم يهتدوا به ( يقولون عناداً وتكبراً : لو كان هدى لأبصرناه ولم يعلموا أنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور .
ولما أخبر عما قالوا حين سبقهم غيرهم ، أخبر عما يقولون عند تعمد الإعراض ولما كان التقدير : فإن قيل لهم : فما هو ؟ أجابه بقوله مسبباً عن هذا المقدر علماً من أعلام النبوة : ( فسيقولون ( بوعد لا خلف فيه لأن الناس أعداء ما جهلوا ولأنهم لم يجدوا على ما يدعونه من أنه لو كان خيراً لسبقوا غيرهم إليه دليلاً : ( هذا ) أي الذي سبقتم إليه ) إفك ) أي شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه ) قديم ( أفكه غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله .
ولما كان هذا الكلام ساقطاً في نفسه لما قام من الأدلة الباهرة على صدق القرآن وكان الوقوف مع المحسوسات غالباً عليهم لعدم نفوذهم في المعقولات ، دل على بطلانه لموافقة القرآن لأعظم الكتاب القديمة التوراة التي اشتهر أنها من عند الله وأن الآتي بها كلم وقد صدقه الله في الإتيان بها بما لم يأت به قبله من المعجزات والآيات البينات وهم يستفتون أهلها ، فقال على وجه التبكيت لهم والتوبيخ : ( ومن ) أي قالوا ذلك والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من ) قبله ) أي القرآن العظيم الذي حرموا تدبر آياته وحل مشكلاته وأعجزهم فصاحته ) كتاب موسى ( كلم الله وصفوته عليه الصلاة والسام وهو التوراة التي كلمه الله بها تكليماً حال كون كتابه ) إماماً ) أي يستحق أن يؤمه كل من سمع به في أصول الدين مطلقاً وفي جميع ما فيه قبل تحريفه(7/124)
صفحة رقم 125
ونسخه وتبديله ) ورحمة ( لما فيه من نعمة الدلالة على الله والبيان الشافي فهبهم طعنوا في هذ االقرآن وهم لا يقدرون على الطعن في كتاب موسى الذي قد سلموا لأهله أنهم أهل العلم وجعلوهم حكماء يرضون بقولهم في هذا النبي الكريم ، وكتابهم مصادق لكتابهم فقد صروا بذلك مصدقين بما كذبوا به ، ولذلك قال الله تعالى : ( وهذا ) أي القرآن المبين المبيّن ) كتاب ) أي جامع لجميع الخيرات .
ولما أريد تعميم التصديق بجميع الكتب الإلهية والحقوق الشرعية ، حذف المتعلق فقال : ( مصدق ) أي لكتاب موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى فإن جميع الكتب التي جاءةت به الرسل ناطقة بتوحد الله وأن هذا الكتاب لميخرج عن هذا فأنّى يضح فيهما هذا شأنه أن يكون إفكاً ، إنما الإفك ما كذب كتب الله التي أتت بها أنبياؤه وتواثها أولياؤه .
ولما كان الكتاب قد تقوم الأدلة على مصادقته لكتب الله ويكون بغير لسان المكذب به فيكون في التكذيب أقل ملامة ، احترز عن ذلك بقوله : ( لساناً ) أي أشير إلى هذا المصدق القريب منكم زماناً ومكاناً وفهماً حال كونه ) عربياً ( في أعلى طبقات اللسان العربي مع كونه أٍهل الكتب تناولاً وأبعدها عن الكليف ، ليس هو بحيث يمنعه علوه بفخامة الألفاظ وجلالة المعاني وعلو النظم ورصافة السبك ووجازة العبارة ، وظهور المهاني ودقة الإشارة مع سوهلة الفهم وقرب المتناول بعد بعد المغزى .
ولما دل على أن الكتاب حق ، بين ثمرته فقال : ( لينذر ) أي أشير إلى الكتاب في هذا الحال لينذر الكتاب بحسن بيانه وعظيم شأنه ) الذين ظلموا ( سواء كانوا عريقين في الظلم أم لا ، فأما العريقون فهو لهم نذري كاملة ، فإنهم لا يهتدون كما تقدم ، وأما غيرهم فيهتدي بنذارته ويسعد بعبارته وإشارته ، وليبشر الذين أحسنوا في وقت ما ) ما ( هو ) بشرى ( كاملة ) للمحسنين ( لا نذارة لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً ) ينذر ( و ) الذين ظلموا ( دلالة على حذف نحوه ثانياً ، ) وبشرى ( و ) للمحسنين ( ثانياً دلالة على ) نذري ( ) وللظالمين ( أولاً .
ولما بين حالة المحسنين شرح أمرهم فقال مستأنفاً في جواب من سأل عنهم وعن بشراهم : ( إن الذين قالوا ربنا ) أي خالقنا ومولانا والمحسن إلينا ) الله ( سبحانه وتعاللى لا غيره .
ولما كانت الاستقامة - وهي الثبات على كل ما يرضي الله مع ترتبها على التوحيد - عزيزة المنال عليه الرتبة ، وكانت ف يالغالب لا تنال إلا بعد منازلات طويلة ومجاهدات شديدة ، أشار إلى كل من بعدها وعلو رتبتها بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي بعد قولهم ذلك الذي وحدوا به ) استقاموا ) أي طلبوا القوم طلباً عظيماً وأوجدوه .(7/125)
صفحة رقم 126
ولما كان الوصف لرؤوس المؤمنين ، عد أعمالهم أسباباً فأخبر عنهم بقوله : ( فلا خوف عليهم ) أي يعلوهم بغلبة الضرر ، ولعله يعبر في مثل هذا بالاسم إشارة إلى أن هيبته بالنظر إلى جلاله وقهره وجبروته وكبره وكماله لا تنتفي ، ويحصل للأنسان باستحضارها إخبات وطمأنينة ووقار وسكينة يزيده في نفسه جلالاً ورفعة وكمالاً ، فاملنفي خوف يقلق النفس ) ولا هم ( في ضمائرهم ولا في ظواهرهم ) يحزنون ) أي يتجدد لهم شيء من حزن أصلاً .
الأحقاف : ( 14 - 16 ) أولئك أصحاب الجنة. .. . .
) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ( ( )
ولما نفى عنهم المحذور ، مدهم بإيثار السرور ، فقال تعالى : ( أولائك ) أي العلو الدرجات ) أصحاب الجنة ( ولما دلت الصحبة على الملازمة ، صرح بها بقوله تعالى : ( خالدين فيها ( خلوداً لا آخراً له ، جوزوا بذلك ) جزاء ( ولما كانوا محسنين فكانت أعمالهم في غاية الخلوص جعلها تعالى أسباباً أولاً وثانياً ، فقال مشيراً إلى دوامها لأنها في جبلاتهم ) بما كانوا ) أي طبعاً وخلقاً ) يعملون ( على سبيل التجديد المستمر .
ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها ووفقه لها أسباباً قرن بالوصية بطاعته - لكونه المبدع - الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الإيجاد ، فقال في هذا السياق الذي عد فيه الأعمال لكونه سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها ، وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح ، وفي الترمذي : ( رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما ) وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته ) ) وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً ( ) [ البقرة : 83 ] ) ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ( ) [ النساء : 36 ] وكذاما بعدهما عاطفاً على ما قدرته أو السورة من نحو أن يقال : وأمرنا الناس أجميعن أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين : ( ووصينا الإنسان ) أي هذا النوع الذي أنس بنفسه ) بوالديه ( ولما(7/126)
صفحة رقم 127
استوفى ) وصى ( مفعوليه كان التقدير : ليأتي إليهما حسناً ، وقرأ الكوفيون : ( إحساناً ( وهو أوفق للسياق .
ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره ، وذكر ما للأم لأن أمده يسير ، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو معللاً : ( حملته أمه ) أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها ، حملاً ) كرهاً ( بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه ) ووضعته ) أي بعد تمام مدة حمله ) كرهاً ( فدل هذا - مع دلالته على وجوب حق الأم - على أن الأمر في تكوينه لله وحده ، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى : ( وحمله وفصاله ) أي ومدة حمله وغاية فطامه من الرضاع ، وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة ) ثلاثون شهراً ( فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وبه قال الأطباء ، وربما أشعر بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر لأن أغلب الحمل تسعة أشهر .
ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك في مؤنته الأبوان وتارة ينفرد أحدهما ، طوي ذكرهما ، وذكر حرف الغاية مقسماً للموصي إلى قسمين : مطيع وعاصي ، ذاكراً ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة ، إرشاداً إلى أن المعنى : واستمر كلاًّ على أبويه أو أحدهما ) حتى إذا بلغ أشده ( قال في القاموس : قوته ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين ، واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما ، أوجمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدرة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل ، أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب ، وما هما بمسموعين بل قياس - انتهى ، وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جداً ، وروى الطبراني في ترجمة ابن أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم - قال الهيثمي : وفيه صدقة بن يزيد وثقة أبو زرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات ، قال الزمخشري : وهو أول الأشد وغايته الأربعون : ولما كانت أيام الصبى والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهِر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية(7/127)
صفحة رقم 128
لما يحملانه عليه من نتائج الشهوات ونوازع الغضب والبطالات ، عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيهاً على ذلك ، فقال شارحاً للستواء ومعبراً عنه : ( وبلغ أربعين سنة ( فاجتمع أشده وتم حزمه وجده ، وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل ، ولذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء ، وهو يشعر بأن أوقات الصبى أخف في المؤاخذة مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد والأربعين ) قال ( إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ بالإجياد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره ) أوزعني ) أي اجعلني أطيق ) أن أشكر نعمتك ) أي وازعاً للشكر أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات ، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق ، ووحدها تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس .
ولما كان ربما ظن ظان أن المراد بنعمته قدرته على الإنعام ليكون المعنى : أن أشكر لك لكونك قادراً على الإنعام ، قال : ( التي أنعمت عليّ ) أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي ) وعلى والديّ ( ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن ، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ ، وقد مضى في النمل ما يتعين استحضاره هنا ولما كان المقصود الأعظم من النعمة الماضية نعمة الإيجاد المراد من شكرها التوحيد ، أتبعها تمام الشكر فقال ، ) وأن أعمل ) أي أنا في خاصة نفسي ) صالحاً ( .
ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال : ( ترضاه ( والتنكير إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن يقّدر الله حق قدره أحد .
ولما دعا لنفسه بعد أن أوصى برعاية حق أبيه ، لقنه سبحانه الدعاء لمن يتفرع منه ، حثاً على رعاية حقوقهم لئلا يسلطهم على عقوقه فقال : ( وأصلح ) أي أوقع الإصلاح ، وقال : ( لي في ذريتي ( لأن صلاحهم يلحقه نفعه ، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سراياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين .
ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان إغلبه ضائعاً فدعا ، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة ، علله بقوله : ( إني تبت ) أي رجعت ) إليك ) أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك ، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع فينكر إخباره به ، وكذا قوله : ( وإني من المسلمين ) أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك فانقادوا أتم انقياد وأحسنه .
ولما وصف هذا المؤمن بادئاً به لكونه في سياق الإحسان ، وكان المراد بالإنسان(7/128)
صفحة رقم 129
الجنس ، قال مادحاً له بصيغة الجمع منبهاً على أن قبول الطاعات مشروط ببر الوالدين لأن ما ظهر دليل ما بطن ، ومن لا يشكر من كان من جنسه لا سيما وهو أقرب الناس إليه لا سيما وهو السبب في إيجاده لم يشكر الله كما في الحديث ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) ومن صلح ما بينه وبني الله صلح ما بينه وبين الناس عامة لا سيما الأقارب نسباً أو مكاناً لا سيما الوالدين : ( أولائك ) أي العالو الرتبة ) الذين نتقبل ( بأسهل وجه ) عنهم ( وأشار سبحانه بصيغة التفعل إلى أنه عمل في قبوله عمل المعتني ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيه وفي الذي بعده ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( أحسن ( ويجوز أن يراد به مطلق الدعاء أو الطاعات ويكون ما دون الأحسن مقبولاً ، قبولاً مطلقاً على مقدار النية فيه ، وتكون التعدية بعن إشارة إلى أن جبلاتهم مبنية على الترقي في معارد الكمال في كل وقت إلى غير نهاية ، فتكون هذه المحاسن ليست منهم بمعنى أنهم مجبولون على أعلى منها في نهاياتهم والعبرة بالنهايات ولذلك قال تعالى : ( ما علموا ( ولم يقل : أعمالهم .
ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً ، نبه على ذلك وعلى أن شرط تكفير السيئات التوبة بقوله تعالى : ( ونتجاوز ) أي بوعد مقبول لا بد من كونه ، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي بالنون في الفعلين ) عن سيئاتهم ) أي فلا يعابهم عليها .
ولما كان هذا مفهمهماً لأنهم من أهل الجنة ، صرح به زيادة في مدحهم بقوله : ( في أصحاب الجنة ) أي أنه فعل بهم ذلك وهم في عدادهم لأنهم لم يزالوا فيه لأنهم ما برحوا بعين الرضا .
ولما كان هذا وعداً ، أكد مضمونه بقوله : ( وعد الصدق ( لكونه مطابقاً للواقع ) الذين كانوا ( بكون ثابت جداً ) يوعدون ) أي يقطع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم ، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام .
الأحقاف : ( 17 - 18 ) والذي قال لوالديه. .. . .
) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه هذا المحسن بادئاً به لكون المقام للأحسان ، أتبعه المسيء المناسب لمقصود السورة المذكور صريحاً في مطلعها فقال تعالى : ( والذي قال لوالديه ( مع اجتماعهما كافراً فنعمهما نابذاً لوصيتنا بهما فكان كافراً بنعمة أعظم منعم محسوس بعد الكفر بنعم أعظم منعم مطلقاً ، والتثنية مشيرة إلى أنه أغلظ الناس كبداً ، (7/129)
صفحة رقم 130
لأن العادة جرت بقبول الإنسان كلام أصله ولو كان واحداً ، وأن الاجتماع مطلقاً له تأثير فكيف إذا كان والداً : ( أف ) أي تضجر وتقذر واسترذال وتكره مني ولغاتها أربعون - حكاها في القاموس ، والمتواتر منها عن القرء ثلاث : الكسر بغير تنوين وهو قراءة الجمهور ، والمراد به أن المعنى الذي قصده مقترن بسفول ثابت ، ومع التنوين وهو قراءة المدنيين وحفص والمراد به أنه سفول عظيم سائر معالدهر بالغلبة والقهر ، والفتح من غير تنوين وهو قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب ، والمراد به اقتران المعنى المقصود بالاشتهار بالعو والانتشار مع الدوام ، وقد تقدم في الإسراء عن الحرالي - وهو الحق - أن التأفيف أنهى الأذى وأشده ، فإن معناه أن المؤفف به لاخطر له ولا وزن أصلاً ، ولا يصلح لشيء بل هو عدم بل العدم خير منه مع أنهى القذر .
ولما كان كأنه قيل : لمن هذا التأفيف ؟ قال : ( لكما ( ولما كانا كأنهما قالا له : لم هذا التقذير العظيم بعد الإحسان لا تقدر على جزائنا به ، قال مبكتاً موبخاً منكراً على تقدير كونه وعداً : ( أتعدانني ) أي على سبيل الاستمرار بالتجديد في كل وقت ) أن أخرج ) أي من مخرج ما يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً أحيى كما كنت أول مرة ) وقد ) أي والحال أنه قد ) خلت ) أي تقدمت وسبقت ومضت على سنن الموت ) القرون ) أي الأجيال الكثيرة من صلابتهم ، وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدرة طويلة ، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال : ( من قبلي ) أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب ، وتأيد ذلك بأنه لم يرجع أحد منهم ) وهما ) أي والحال أنهما كلما قال لهما ذلك ) يستغيثان الله ) أي يطلبان بدعائهما من له جميع الكمال أن يعينهما بإلهامة قبول كلامهما ، قائلين لولدهما مجتهدين بالنصيحة له بعد الاجتهاد بالدعاء : ( ويلك ( كما يقول المشفق إذا زاد به الكرب وبلغ منه الغم ، إشارة إلى أنه لم يبق له إن أعرض إلا الويل وهو الهلاك ) آمن ) أي أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره ، وهو الذي ينقذ من كل هلكة ، ويوجب كل فوز بالتصديق بالعبث وبكل ما جاء عن الله ، ثم عللا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره فقالا : ( إن وعد الله ) أي الملك الأعظم المحيط بجميع صفات المهابة والكمال الموصوف بالعزة والحكمة ) حق ) أي ثابت أعظم ثبات لانه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الإخلاف الذي لا يرضاه لنفسه أقل العرب فكيف وهو يلزم منه منافاة الحكمة بكون الخلق حينئذ على وجه العبث لأنهم عباد ورعايا لا يعرضون على ملكهم الذي أبدعهم مع علمه بما هم عليه من ظلم بعضهم لبعض وبغي بعضم على بعض ) فيقول ( مسبباص عن قولهما ومعقباً له : ( ما هذا ( أي(7/130)
صفحة رقم 131
الذي ذكرتماه لي من البعث ) إلا أساطير الأولين ) أي خرافات كتبها على وجه الكذب الأولائل وتناقلها منهم الأعمار جيلاً بعد جيل فصارت بحيث يظن الضعفاء أنها صحيحة - هذا والعجب كل العجب أنه بتصديقه لا يلزمه فساد على تقدير من التقادير الممكنة ، بل يحمله التصديق على محاسن الأعمال ومعالي الأخلاق التي هو مقر بأنها محاسن من لزوم طريق الخير وترك طريق الشر ، وتكذيبه يجره إلى المرح والأشر ، والطبر وأفعال الشر ، ودنايا الأخلاق مع احتمال الهلاك الذي يخوفانه به وهو لا ينفي أنه متحتمل وإن استبعده فما دعوه إليه كما ترى لا يأباه عاقل ولكنها عقول كادها باريها .
ولما كان هذا الكلام ، ومع بلوغ النهاية في حسن الانتظام ، وقد حصر الإنسان هذين القسمين مثلاً بليغاً لكفار العرب ومؤمنيهم ، فالأول للمؤمنين التابعين لملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، الآتي بها أعظم أنيائه الكرام محمد عليه الصلاة والسلام الذي يعرفونه منه والثاني للكفار المنابذين لأعظم آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يعرفونه منه نقلاً يتوارثونه من آبائهم ، وق ) آناً معجزاً كأنهم سمعوه من خالقهم أناه موحد لله مقر بالبعث محذر من غوائله ، وكان قد ابتدأ سبحانه الحديث عنهم بما ذكر مما كفروا فيه المنعمين واستحقوا كلتا السوءتين ، خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، أخبر عنهم بما أنتجه نقلاً يتوارثونه من آبائهم ، وقرآناً معجزاً كأنهم سمعوه من خالقهم أنه موحد لله مقر بالبعث محذر من غوائله ، وكان قد ابتدأ سبحانه الحديث عنهم بما ذكر مما كفروا فيه المنعمين واستحوا كلتا السوءتين ، خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، أخبر عنهم بما أنتجه تكذيبهم بموعد ربهم وعقوقهم لوالديهم حقيقة أو تعليماً بقوله : ( أولائك ) أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير ) الذين حق ) أي ثبت ووجب .
ولما كان هذا وعيداً ، دل عليه بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم القول ) أي الكامل في بابه بأنهم أسفل السافلين ، وهذا يكذب من قال : إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فحقت له الجنة .
ولما أثبت لهم هذه الشنيعة ، عرف بكثرة من شاركهم فيها فقال : ( في ) أي كائنين في ) أمم ) أي خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس ويتبع بعضهم بعضاً ) قد خلت ( تلك الأمم .
ولما كان المحكوم عليه بعض السالفين ، أدخل الجار فقال : ( من قبلهم ( فكانوا قدوتهم ) من الجن ( بدأ بهم لأن العرب تستعظمهم وتستجير بهم ، وذلك لأنهم يتظاهرون لهم يؤذونهم ولم يقطع أذاهملهم وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن ، فإنه أحرقهم بأنواره وجلاهم عن تلك البلاد بجلي آثاره ) والإنس ( وما نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم ، ثم علل حقوق الأمر عليهم أو استأنف بقوله مؤكداً تكذيباً لظن هذا القسم الذي الكلام فيه أن الصواب مع الأكثر : ( إنهم ) أي كلهم ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه ) خاسرين ) أي عريقين في هذا الوصف .(7/131)
صفحة رقم 132
الأحقاف : ( 19 - 21 ) ولكل درجات مما. .. . .
) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما قسمهم في الأعمال ، جمعهم في العدل والإفضال فقال : ( لكل ) أي من فريقي السعداء والبعداء من القبيلتين : الجن والإنس ، في الدنيا والآخرة ) درجات ) أي دركات أي منازل ومراتب متفاضلين فيها ) من ( أجل ) ما عملوا ( أو من جوهره ونوعه من الأعمال الصالحة والطالحة .
ولما كان التقدير : ليظهر ظهوراً بيناً أنه سبحانه فاعل بالاختيار بالمفاوته بين العقلاء ويظهر بيناً لا وقفة فيه أن الحقائق على غير ما كان يتراءى لهم في الدنيا ، فإن حجب المكاره والشهوات كانت ترى الأمور على خلاف ما هي عليه ، عطف عليه قوله في قراءة البصريين وعاصم وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه : ( وليوفيهم ) أي ربهم الذي تقدم إقبال المحسن عليه ودعاؤه له ، وقراءة الباقين بالنون أنسب لمطلع السورة ولما يشير إليه من كشف حجب الكبرياء في يوم الفصل .
ولما كان سبحانه يعلم مثاقيل اذر وما دونها وما فوقها ويجعل الجزاء على حسبها في المقدار والشبه والجنس والنوع والشخص حتى يكاد يظن العامل أن الجزاء هو العمل قال : ( أعمالهم ) أي جزاءها من خير وشر وجنة ونار - وهذا ظاهر ، أو نص في أن الجن يثابون بالإحسان كما يعاقبون بالعصيان ، وسورة الرحمن كلها خطاب للثقلين بالثواب لأهل الطاعة ، والعقاب لأهل المعصية من كل من القبيلتين ؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ويجزى مطيعهم بالثواب كما يجازى عاصيهم بالعقاب - قاله مالك وابن أبي ليلى والضحاك وغيرهم كما نقله البغوي ) وهم ) أي والحال أنهم ) لا يظلمون ) أي لا يتجدد لهم شىء من ظالم ما من ظلم في جزاء أعمالهم بزيادة في عقاب أو نقص من ثواب ، بل الرحمانية كما كانت لهم في الدنيا فهي لهم في الآخرة فلا يظلم ربك أحداً بأن يعذبه فوق ما يستحقه من العقاب ، أو ينقصه عما يستأهل من الثواب .
ولما كان الظاهر في هذه السورة الإنذار كما يشهد به مطلعها ، قال ذاكراً بعض ما يبكت به المجرمون يوم البعث الذي كانوا به يكذبون ويكون فيه توفية جزاء الأعمال ، عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا لعلهم يأنفون أن يكونوا المسيئين فيكونوا من المحسنين : ( ويوم ) أي واذكر لهم يوم يعرضون - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر(7/132)
صفحة رقم 133
الوصف الذي أوجب لهم الجزاء إشارة إلى أن الأمر كان ظاهراً لهم ولكنهم ستروا ، أنوار عقولهم فقال : ( يعرض الذين كفروا ) أي من الفريقين المذكورين ) على النار ) أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى ، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والشتنيع لأنهم لم يذكروا الله حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها مع مخالفة أمره سبحانه ونهيه : ( أذهبتم ( في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين بالإخبار ، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ ) طيباتكم ) أي لذاتكم باتباعكم الشهوات ) في حياتكم ( ونفر منها بقوله تعالى : ( الدنيا ) أي القريبة الدنية لأجلها حتى نلتموها ) واستمتعتم ) أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم ) بها ( وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم .
ولما كان ذلك استهانة بالأوامر والنواهي للاستهانة بيوم الجزاء ، سبب عنه قوله تعالى : ( فاليوم تجزون ) أي على إعراضكم عنا بجزاء من لا تقدرون التقصي من جزائه بأيسر أمر منه ) عذاب الهون ) أي الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلك وخزي ) بما كنتم ( جبلة وطبعاً ) تستكبرون ) أي تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار ) في الأرض ( التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب ، أحق شيء بالتواضع والذل والهوان .
ولما كان الاستكبار يكون بالحق لكونه على الظالمين فيكون ممدوحاً ، قيده بقوله : ( بغير الحق ) أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا ، ودل بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة ) وبما كنتم ( على الاستمرار ) تفسقون ) أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى العقل إلى نوازع المعاصي .
ولما هددهم سبحانه بالأمور الأخروية ، وستر الأمر بالتذكير بها لكونها مستورة وهم بها يكذبون في قوله ( ويوم ) ، وختم بالعذاب على الاستكبار المذموم والفسق ، عطف عليه تهديهم بالأمور المحسوسة لأنهم متقيدون بها مصرحاً بالأمر بالذكر فقال تعالى : ( واذكر ) أي لهؤلاء الذين لا يتعظون بمحط الحكمة الذي لا يخفى على ذي لب ، وهو البعث .
ولما كان أقعد ما يهددون به في هذه السورة وأنسبه لمقصودها عاد لكونهم أقوى الناس أبداناً وأعتاهم رقاباً وأشدهم قلوباً وأوسعهم ملكاً وأعظمهم استكباراً بحيث كانوا يقولون ) من أشد منا قوة ( وبنوا البنيان الذي يفني الدهر ولا يفنى ، فلا يعمله إلا من نسي الموت أو رجا الخلود واصطنعوا جنة على وجه الأرض لأن ملكهم عمها كلها مع قرب بلادهم لكونها في بلاد العرب من قريش ومعرفتهم(7/133)
صفحة رقم 134
بأخبارهم ورؤيتهم لديارهم وكون عذابهم نشأ من بلدهم بدعاء من دعا منهم ، ذكر أمرهم على وجه دل على مقصود السورة ، وعبر بالأخوة تسلية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لأن فظيعة القوم لمن هو منهم ويعلمون مناقبه ومفاخره أنكأ فقال : ( أخا عاد ( وهو أخو هود عليه الصلاة والسلام الذي كان بين قوم لا يعشرهم قومك في قوة ولا مكنة ، وصدعهم مع ذلك بمر الحق وبادأهم بأمر الله ، لم يخف عاقبتهم ونجيته منهم ، فهو لك قدوة وفيه أسوة ، ولوقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة .
ولما ذكره عليه الصلاة والسلام لمثل هذه المقاصد الجليلة ، أبدل منه قصته زيادة في البيان ، فقال مبيناً أن الإنذار هو المقصد الأعظم من الرسالة : ( إذ ) أي حين ) أنذر قومه ) أي الذين لهم قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه ) بالأحقاف ( قال الأصبهاني : قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة ، قال : وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة ، إليه ينسب الإبل المهرية ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذاهاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم .
وقال قتادة : كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر ، والأحقاف جمع حقف بالكسر ، وهو رمل الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازله ، وكانوا من قبيلة إرم .
وقال قتادة : كانوا مستطيل مرتفع فيه انحناء ، وقال ابن زيد : هو ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً ، وقال في القاموس : وهو الرمل العظيم المستدير ، وأصل الرمل ، واحقوقف الرمل والظهر والهلال : طال واعوج .
ومن الأمر الجلي أن هذه الهيئة لا تكون في بلاد الريح بها غالبة شديدة لأنه لو كان ذلك انسف الجبل نسفاً بخلاف بلاده الجبال كمكة المشرفة ، فإن الريح تكون بها غاية في الشدة لأنها إما أن تصك الجبل فتنعكس راجعة بقوة شديدة ، أو يكون هناك جبال فتراد بينها أو تنضغط فتخرج مما تجد من الفروج على هيئة مزعجة فينبغي أن يكون أهل الجبال أشد من ذلك حذراً .
ولما ذكر النذير والمنذرين ومكانهم لما ذكر من المقاصد ، ذكر أنهم أعرضوا عنه ولم يكن بدعاً من الرسل ولا كان قومه جاهلين بأحوالهم ، فاستحقوا العذاب تحذيراً من مثل حالهم ، فقال : ( وقد ) أي والحال أنه قد ) خلت ) أي مرت ومضت وماتت ) النذر ) أي الرسل الكثيرون الذين محط أمرهم الإنذار .
ولما لم يكن إرسالهم بالفعل مستغرقاً لجميع الأزمنة ، أدخل الجار فقال : ( من بين يديه ) أي قبله كنوح وشيث وآدم عليه الصلاة والسلام فما كان بدعاً منها ) ومن خلفه ) أي الذين أتوا من بعده فما كنت أنت بدعاً منهم .
ولما أشار إلى كثرة الرسل ، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء ، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي : ( ألا تعبدوا ) أي أيها العباد المنذرون ، بوجه من الوجوه ، شيئاً من الأشياء ) إلا الله ( الملك الذي لا ملك(7/134)
صفحة رقم 135
غيره ولا خالق سواه ولا منعم إلا هو ، فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم ، والملك لا يقر على مثل هذا .
ولما أمرهم ونهاهم ، علل ذلك فقال محذراً لهم من العذاب مؤكداً لما لهم من الإنكار لاعتمادهم على قوة أبدانهم وعظيم شأنهم : ( إني أخاف عليكم ( لكونكم قومي وأعز الناس علي ) عذاب يوم عظيم ( لا يدع جهة إلا ملأها عذابه ، إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك .
الأحقاف : ( 22 - 25 ) قالوا أجئتنا لتأفكنا. .. . .
) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( ( )
ولما تشوف السامع إلى جوابهم عن هذه الحكمة ، أجيب بقوله تعالى : ( قالوا ) أي منكرين عليه : ( أجئتنا ) أي يا هود ) لتأفكنا ) أي تصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه ) عن آلهتنا ( فلا نعبدها ولا نعتد بها .
ولما كان معنى الإنكار النفي ، فكان المعنى : إنا لا ننصرف عنها ، سببوا عنه قولهم ) فأتنا بما تعدنا ( سموا الوعيد وعداً استهزاء به .
ولما كان ذلك معناه تكذيبه ، زادوه وضوحاً بقولهم معبرين بأداة الشك إشارة إلى أن صدقه في ذلك من فرض المحال : ( إن كنت ) أي كما يقال عنك .
كوناً ثابتاً ) من الصادقين ( في أنك رسول من الله وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا .
ولما تضمن قولهم هذا نسبة داعيهم عليه الصلاة والسلام إلى ما لا دلالة لكلامه عليه بوجه ، وهو ادعاء العلم بعذابهم والقدرة عليه وتكذبيه في كل منهما اللازم منه أمنهم اللازم منه ادعاؤهم العلم بأنهم لا يعذبون ، وكانوا كاذبين في جميع ذلك كان كأنه قيل : بم أجابهم ؟ فقيل : ( قال ( مصدقاً لهم في سلب علمه بذلك وقدرته عليه ، مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء منهما وإلى أنفسهم بأنه لا يقع : ( إنما العلم ) أي المحيط بكل شيء عذابكم وغيره ) عند الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ، فهو ينزل علم ما توعدون على من يشاء إن شاء ولاعلم لي الآن ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة .
ولما كان العلم المحيط يستلزم القدرة ، فكان التقدير : فليست القدرة على الإتيان بعذابكم إلا له سبحانه وتعالى لا لي ولا لغيري ، وليس عليّ إلا البلاغ كما أوحى إليّ ربي بقوله سبحانه ) ) إن عليك إلا البلاغ ( ) [ الشورى : 48 ] وقد أبلغتكم ما أرسلت به(7/135)
صفحة رقم 136
إليكم من الوعظ بأن أعمالكم أعمال من قد أعرض عن سيده وعرض نفسه للهلاك والعذاب بإشراكه بالمحسن المطلق من لا يكافئه بوجه فهو يحث يخشى عليه الأخذ ، عطف عليه قوله : ( وأبلغكم ) أي أيضاً في الحال والاستقبال ) ما أرسلت ) أي ممن لا مرسل في الحقيقة غيره ، فإنه يقدر على نصر رسوله ) به ) أي من التوحيد وغيره ، سواء كان وعداً أو وعيداً أو غيرهما لو لم يذكر الغاية لأن ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم .
ولما كان معنى الإخبار بالإبلاغ أنه ليس عليّ إلا ذلك ، وكان معنى قصر العلم المطلق على الله تصديقهم في نفي علمه عليه الصلاة والسلام بذلك ، حسن قوله مستدركاً علمه بجهلهم : ( ولكني أراكم ) أي أعلمكم علماً هو كالرؤية ) قوماً ( غلاظاً شداداً عاسين ) تجهلون ) أي بكم مع ذلك صفة الجهل ، وهو الغلظة في غير موضعها مع قلة العلم ، تجددون لك على سبيل الاستمرار بسبب أنكم تفعلون بإشراككم بالمحسن المطلق وهو الملك الأعظم من لا إحسان له بوجه أفعال من يستحق العذاب ثم لا تجوزون وقوعه وتكذبون من ينبهكم على أن ذلك أمر يحق أن يحترز منه ، وتنسبونه إلى غير ما أرسل له من الإنذار من ادعاء القدرة على العذاب ونحوه .
ولما تسبب عن قولهم هذا إتيان العذاب فأتاهم في سحاب أسود ، استمروا على جهلهم وعادتهم في الأمرن وعدم تجويز الانتقام ، وكأن إتيانه كان قريباً من استعجالهم به ، فلذلك أتى بالفاء في قوله مسبباً عن تكذيبهم مبيناً لعظيم جهلهم بجهلهم في المحسوسات ، مفصلاً لما كان من حالهم عند رؤية البأس : ( فملا رأوه ) أي العذاب الذي يعدهم به ) عارضاً ) أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر ، حال كونه قاصداً لعارضاً فهو نكرة إضافته لفظية وإن كان مضافاً إلى معرفة ، وكذا ( ممطرنا ) ) قالوا ( علىعادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل ، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم : ( هذا عارض ) أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها ) ممطرنا ( لكونهم رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم ، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً ، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم ، فلذلك قال الله تعالى مضرباً عن كلامهم ، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم : ( بل هو ) أي هذا العارض الذي ترونه ) ما استعجلتم به ) أي طلتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب .(7/136)
صفحة رقم 137
ولما اشتد تشوف السامع إلى معرفته قال : ( ريح ) أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه ) فيهاعذاب أليم ) أي شديد الإيلام ، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حى ترى كأنها جرادة ، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم ) تدمر ) أي تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً سريعاً تأتي بغتة على طريق الهجوم ) كل شيء ) أي أتت عليه ، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه الصلاة والسلام ومن آمن به رضي الله عنهم فسلامته أمر خارق للعادة كما أن أمرها في إهلاك كل ما مرت عليه أمر خارق للعادة ، والجملتان يحتمل أن تكونا وصفاً لريح ويحتمل وهو أعذب وأهز للنفس وأعجب أن تكونا استئنافاً ، ولما كان ربما ظن ظان أنها مؤثرة بنفسها قال : ( بأمر ربها ) أي المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام بها من أعدائه .
ولما ذكرها بهذا الذكر الهائل ، وكان التقدير : جاءتهم فدمرتهم لم تترك منهم أحداً ، سبب عن ذلك زيادة في التهويل قوله : ( فأصبحوا ( ولما اشتد إصغاء السامع إلى كيفية إصباحهم ، قال مترجماً لهلاكهم : ( لا ترى ) أي أيها الرائي ، فلما عظمت روعة القلب وهول النفس قال تعالى : ( إلا مساكنهم ) أي جزاء على إجرامهم ، فانطبقت العبارة على المعنى ، وعلم أن المراد بالإصباح مطلق الكون ، ولكنه عبر به لأن المصيبة فيه أعظم ، وعلم أنه لم يبق من المكذبين ديار ولا نافخ نار ، وهذا كناية عن عموم الهلاك لهم سواء كان الرمل دفنهم أو على وجه الأرض مرتبين كما في الآية الأخرى
77 ( ) فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ( ) 7
[ الحاقة : 7 ] وروي أن هوداً عليه الصلاة والسلام لما أحس بالريح اعتزل بمن آمن معه في حظيرة فأمالت الريح على الكفرة الأحقاف التي كانت مجتمعهم إذا تحدثوا ومحل بسطهم إذا لعبوا ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت عنهم فاحتملتهم فقذفتهم في البحر وكذا أهلكت مواشيهم وكل شيء لهم فيه روح ولم يصب هوداً عليه الصلاة والسلام ومن معه رضي الله عنهم منها إلا ما لين أبشارهم ونعش أرواحهم ، والآية على هذا على حقيقتها في أنه لم يصبح الصباح ومنهم أحد يرى .
ولما طارت لهذا الهول الأفئدة واندهشت الألباب ، قال تعالى منبهاً على زبدة المراد بطريق الاستئناف : ( كذلك ) أي مثل هذا الجزواء الهائل في أصله أو جنسه أو نوعه أو شخصه من الإهلاك ) نجزي ( بعظمتنا دائماً إذا شئنا ) القوم ( وإن كانوا أقوى ما يكون ) المجرمين ) أي العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل فيصلون ما حقه القطع ، وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع ، فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا .(7/137)
صفحة رقم 138
الأحقاف : ( 26 - 29 ) ولقد مكناهم فيما. .. . .
) وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( ( )
لما كان هذا محلاً يتوقع فيه الإخبار عن حال مكنتهم ليعلم هل تركوا الدفع لمانع فيهم أو لأن ما أتاهم بحيث لا يمكن لأحد دفاعه ، قال ذاكراً حرف التوقع مخوفاً للعرب مقسماً لأن قريشاً قد قال قائلهم : إنهم يدفعون العذاب بدفع الزبانية ، ونحوها : ( ولقد ) أي فعل بهم ذلك والحال أنا وعزتنا قد ) مكناهم ( تمكيناً تظهر به عظمتنا ) فيما إن ) أي الذي ما ) مكناكم فيه ( من قوة الأبداء وكثرة الأموال وغيرها ، وجعل النافي ( أن ) لأنها أبلغ من ( ما ) لأن ( ما ) تنفي تمام الفوت لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك و ( أن ) تنفي أدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه من تمامه لأن الهمزة أول مظهر لفوت الألف والنون لمطلق الإظهار - هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ وصونه عن ثقل التكرار إلى غير ذلك من بدائع الأسرار .
ولما كانت قريش تفتخر بعقولها فرمبا ظنت أنها فيالعقل ومقدماته من الحواس أمكن منهم ، وأنهم ما أتى عليهم إلا من عدم فيهمهم ، قال تعالى : ( وجعلنا ) أي جعلاً يليق بما ( زدناهم عليكم ) من المكنة على ما اقتضته عظمتنا ) لهم سمعاً ( بدأ به لأن المقام للإنذار المنبه بحاسة السمع على ما في الآيات المرئيات من المواعظ ، المرئيات من مطابقة واقعها لأخبار السمع ، وجمع لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار ، وكذا في قوله : ( وأفئدة ) أي قلوباً ليعرفوا بها الحق فيتبعوه والباطل فيجتنبوه ويشكروا من وهبها لهم ، وختم بها لأنها الغاية التي ليس بعد الإدراك منتهى ولا وراءها مرمى ، وعبر بما هو من التفود وهو التجرد إشارة إلى أنها في غاية الذكاء ) فما أغنى عنهم ( في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان نبينا هود عليه الصلاة واسلام ثم النقمة بيد الريح ) سمعهم ( وأكد النفي بتكرير النافي فقال : ( ولا أبصارهم ( وكذا في قوله : ( ولا أفئدتهم ) أي لما أردنا إهلاكهم ، وأكد بإثبات الجار فقال : ( من شيء ) أي من الإغناء ، وإن قلّ لا في دفع العذاب ، ولا في معرفة الصواب ، بل صرفوا ما وهبنا لهم من القوى فيما لا ينبعي(7/138)
صفحة رقم 139
تعليق الهمم به من أمور الدنيا حتى فاقوا في ذلك الأمم وعملوا أعمال من تخلد كما قيل :
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولما ذكر نفي الإناء ، ذكر ظفره على وجه يفهم التعليل ، فإنه إذا ذكر الانتقام في وقت فعل الشيء علم أن علته فعل ذلك الشيء فقال : ( إذ كانوا ) أي طبعاً لهم وخلقاً ) يجحدون ) أي يكررون على مر الزمان الجحد ) بآيات الله ) أي الإنكار لما يعرف من دلائل الملك الأعظم ) وحاق ) أي أحاط على جهة الأحراق والعظم بأمور لكونه خلقاً وجه المخلص منها ) بهم ما ) أي عقاب الذي ) كانوا ( على جهة الدوام لكونه خلقاً لهم ) به يستهزءون ) أي يوجدونه على سبيل الاستمرار إيجاد من هو طالب له عاشق فيه .
ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم ، أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك ، فقال مكرراً لتخويفهم دالاً على إحاطة قدرته بإحاطة علمه ، ) ولقد أهلكنا ( بما لنا من العظمة والقدرة المحيطتين الماضيتين بكل ما نريد ) ما حولكم ) أي يا أهل مكة ) من القرى ( كأهل الحجر وسبا ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس وثمود وغيرهم ممن فيهم معتبر ، ولما كان الموعوظ به الإهلاك ذكر مقدماً ، فتشوف السامع إلى السؤال عن حالهم في الآيات فقال عاطفاً بالواو التي لا يمنع معوطفها التقدم على ما عطف عليه : ( وصرفنا الآيات ) أي حولنا الحجج البينات وكررناها موصلة مفصلة مزينة محسنة على وجوه شتى من الدلالات ، خالصة عن كل شبهة .
ولما كان تصريف الآيات لا يخص أحداً بعينه ، بل هو لكل من رآه أو سمع به لم يقيدها بهم وذكر العلة الشاملة لغيرهم فقال : ( لعلهم ) أي الكفار ) يرجعون ) أي ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات حال من يرجع عن الغي الذي كان يركبه لتقليد أو شبهة كشفته الآيات وفضحته الدلالات فلم يرجعوا ، فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكنا لهم .
ولما كانوا قد جعلوا محط الهم في الشركاء أنهم سبب التواصل بينهم والتفاوت ، وادعوا أنهم يشفعون فيهم فيقربونهم إلى الله زلفى ويمنعونهم من العذاب في الآخرة ، وكان أددنى الأمور التسوية بينه وبين عذاب الدنيا ، سبب عن أخباره عن إهلاك الأمم الماضية قوله مقدماً للعلة التي جعلها محط نظرهم منكراً عليهم موبخاً لهم :(7/139)
صفحة رقم 140
) فلولا ) أي فهل لا ولم لا ) نصرهم ) أي هؤلاء المهلكين ) الذين اتخذوا ) أي اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل والفطر الأولى حتى أخذوا ، وأشار إلى قلة عقولهم ببيان سفولهم فقال : ( من دون الله ) أي الملك الذي هو أعظم من كل عظيم ) قرباناً ) أي لأجل القربة التقريب العظيم يتقربون إليها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله ) آلهة ( أشركوهم مع الملك الأعظم لأجل ذلك - قاتلهم الله وأخزاهم .
ولما كان التخصيص يفهم أنهم ما نصروهم ، أضرب عنه فقال : ( بل ضلوا ) أي غابوا وعموا عن الطريق الأقوم وبعدوا ) عنهم ( وقت بروك النقمة وقروع المثلة حساً ومعنى .
ولما كان التقدير : فذلك الاتخاذ الذي أدتهم إليه عقولهم السافل جداً البعيد من الصواب كان الموصل إلى مآلهم هذا ، عطف عليه قوله : ( وذلك ) أي الضلال البعيد من السداد الذي تحصل من هذه القصة من إخلاف ما كانوا يقولون : إن أثوانهم آلهة ، وإنها تضر وتنفع وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده ) إفكهم ) أي صرفهم الأمور عن وجهها إلى أقفائها ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى العذاب ، أي وهذا العذاب جزاؤهم في مقابلة إفكهم ) وما كانوا ) أي على وجه الدوام لكونه في طباعهم ) يفترون ) أي يتعمدون كذبه لأن إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا لذلك لأن من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى .
ولما كان ما ذكر من البعد من الإيمان معتصريف العظات والعبر والآيات يكاد أن يؤنس السامع من إيمان هؤلاء المدعوين ، قربه دلالة على عزته وحكمته بالتذكير بالإيمان من هم أعلى منهم عتواً وأشد نفرة وأبعد إجابة وأخفى شخصاً ، فقال جواباً عما وقع له ( صلى الله عليه وسلم ) في عرض نفسه الشريفة على القبائل وإبعادهم عنه لا سيما أهل الطائف ، دالاً على تمام القدرة بشارة للمنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وتوبيخاً لما تأخر عن إجابته من قومه عاطفاً على ما تقدره : اذكر هذه الأخبار : ( وإذ ) أي واذكر حين ) صرفنا إليك ) أي وجهنا توجيهاً خالصاً حسناً متقناً فيه ميل إليك وإقبال عليك ، وإعراض عن غيرك ، بوادي نخلة عند انصرافك من الطائف حين عرضت نفسك الشريفة عليهم بعد موت النصيرين فردوك رداً تكاد تنشق منه المرائر ، وتسل من تذكاره النواظر .
ولما كان استعطاف من جل على النفرة وإظهار من بني على الاجتنان أعظم في النعمة ، عبر بما يدل على ذلك فقال : ( نفراً ( وهو اسم يطلق على ما دون العشرة ، وهو المراد هنا ، ويطلق على الناس كلهم ، وحسن التعبير به أن هؤلاء لما خصوا بشرف السبق وحسن المتابعة كانوا كأنهم هم النفر لا غيرهم ) من الجن ( من أهل نصيبين من الناحسة التي منها عداس الذي جبرناك به في الطائف بما شهد به لسيديه عتبة وشيبة ابني(7/140)
صفحة رقم 141
ربيعة أنك خير أهل الأرض مع أنه ليس لهؤلاء النفر من جبلاتهم إلا لنفرة والاجتنان وهو الاختفاء والستر فعلناهم ألفين لك ظاهرين عندك لتبلغهم ما أرسلناك به فإنا أرسلناك إلى جميع الخلائق ، وهذا جبر لك وبشارة بإيمان النافرين من الإنس كما أيدناك منهم بعد نفرة أهل الطائف بعداس ، ثم وسفهم بقوله : ( يستمعون القرآن ) أي يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير ، الفارق بين كل ملبس وأنت في صلاة الفجر في نخلة تصلي بأصحابك ، ودل على قرب زمن الصرف من زمن الحضور بتعبيره سبحانه بالفاء في قوله تعالى مفصلاً لحالهم : ( فلما حضروه ) أي صاروا بحيث يسمعونه ) قالوا ) أي قال بعضهم ورضي الآخرون : ( أنصتوا ) أي اسكتوا وميلوا بكلياتكم واستمعوا حفظاً للأدب على بساط الخدمة ، وفيه تأدب مع العلم في تعلمه وأيضاً مع معلمه ، قال القشيري : فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار ، والثورات والانزعاج يدل على غيبة أو قلة تيفظ ونقصان من الاطلاع ، ودل على أن ما استمعوه كان يسيراً وزنه قصيراً ، وعلى تفصيل حالهم بعد انقضائه بالفاء في قوله تعالى : ( فلما ) أي فأنصتوا فحين ) قضي ) أي حصل الفراغ من قراءته الدالة على عظمته من أيّ قارئ كان ) ولوا ) أي أوقعوا التولية - أي القرب - بتوجيه الوجوه والهمم والعزائم ) إلى قومهم ( الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه ، ودل على حسن تقبلهم لما سمعوه ورسوخهم في اعتقاده بقوله تعالى : ( منذرين ) أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : جعلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسلاً إلى قومهم .
الأحقاف : ( 30 - 32 ) قالوا يا قومنا. .. . .
) قَالُواْ يقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : ما قالوا لهم في إنذارهم ؟ قيل : ( قالوا ) أي لقومهم حين أقبلوا عليهم ) يا قومنا ( مترفقين لهم ومشفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم يهمهم ما يهمهم ويكربهم كما قيل : وإن أخاك الحق من كان معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ولما كانوا - بنزول ما ف يأسفار الأنبياء من بني إسرائيل والزبور والإنجيل خالية من الأحكام والحدود إلا يسيرا من ذلك في الإنجيل - قاطعين أو كالقاطعين بأنه لا ينزل(7/141)
صفحة رقم 142
كتاب يناظر التوراة في الأحكام والحدود ، وغيرها فكان قومهم ربما توقفوا في الإخبار بإنزال ما هو أشرف من ذلك ، أكدوا قولهم ) إنا سمعنا ) أي بيننا وبين القارئ واسطة ، وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع الشرائع فقالوا على سبيل التبين لما سمعوا : ( كتابا ) أي ذكرا جامعا ، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل ) أنزل ) أي ممن لا منزل في الحقيقة غيره ، وهو مالك الملك وملك الملوك لأن عليه من روق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز ، وعلموا قطعا بعربيته أنه عربي وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار ، وبأنه مباين لجميع ذلك أنه قريب العهد بالنزول من محل العظمة ، فقالوا مثبتين للجاز : ( من بعد موسى ( عليه الصلاة والسلام ، فلم يعتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة من الإنجيل وما قبله ، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع ، ولا يعشر هذا الكتاب في الأحكام والحكم واللطائف والمواعظ مع ما زاد به من الإعجاز وغيره .
ولما أخبروا بأنه منزل ، أتبعوه ما يشهد له بالصحة فقالوا : ( مصدقا لما بين يديه ( ْ أيس من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله ، ثم بينوا تصديقه بقولهم : ( يهدي إلى الحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به ، الكامل في جميع ذلك ) وإلى طريق ( موصل إلى المقصود الأعظم وهو الإيمان بمنزله ) مستقيم ( فهو يوصل بغاية ما يمكن من السرعة ، لا يمكن أن يكون فيه عوج ، فيقدر السالك فيه على أن يختصر طريقاً يكون وتراً لما تقوس منه .
ولما أخبروهم بالكتاب وينوا أنه من عند الله وأنه أقرب موصل إيه ، فكان قومهم جديرين بأن يقولوا : فما الذي ينبغي أن نفعل ؟ أجابوهم بقوله : ( يا قومنا ( الذين لهم قوة العلم والعمل ) أجيبوا داعي الله ) أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال ، فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق ، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره .
ولما كنا المجيب قد يجيب في شيء دون شيء كما كان أبو طالب عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، عطفوا في خطابهم لهم في الدعوة أن قالوا : ( وآمنوا به ) أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر ، فإن المفعول معه مفعول مع من أرسله وهو الله الذي جلت قدرته وآمنوه من كل تكذيب ، أو الضمير للمضاف إليه وهو الله بدليل قولهم : ( يغفر لكم ( : فإنه يستر ويسامح ) من ذنوبكم ) أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله(7/142)
صفحة رقم 143
تعالى أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام وأدخلوا ( من ) إعلاماً بأن مظالم العباد لا تغفر إلا بإرضاء أهلها وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات ولنكبات والهموم ونحوها مما أشار إيه قوله تعالى
77 ( ) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( ) 7
[ الشورى : 30 ] ) ويجركم ) أي يمنعكم ( إذاأجبتم ) منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه ) من عذاب أليم ( واقتصارهم على المغفرة تذكير بذنوبهم لأن مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله ي هذه السورة
77 ( ) ولكل درجات مما عملوا ( ) 7
[ الأنعام : 132 ] في إثبات الثواب ، ونقله أبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها .
ولما فرغوا من التعريف بالحق والدلالة عليه والدعاء إليه والإنذار بالرفق بما أفهم كلامهم من أنهم إن لم يجيبوا انتقم منهم بالعذاب الأليم ، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه فقالوا : ( ومن لا يجب ) أي لا يتجدد منه أن يجيب ) داعي الله ) أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء الذي لا كفوء له ولا طاقة لأحد بسخطه فعم بدعوة هذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جميع الخلق .
ولما دل الكتاب والسنة كما قدمته في سورتي الأنعام والفرقان على عموم الرسالة ، وكان التارك لإجابة من عمت رسالته عاصياً مستحقاً للعذاب ، عبر عن عذابه ، بما دل على تحتمه فقال تعالى : ( فليس بمعجز ) أي لما يقضي به عليه ) في الأرض ( فإنه آ ] ة سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به ) وليس له من دونه ) أي الله الذي لا يجير إلا هو ) أولياء ( يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء والمناصبة لأجله .
ولما انتفى عنه الخلاص من كل وجه ، وكان ذلك لا يختلف سواء كان العاصي واحداً أو أكثر ، أنتج قوله سبحانه وتعالى معبراً بالجمع لأنه أدل على القدرة ودلالة على أن العصاة كثيرة لملاءمة المعاصي لأكثر الطبائع : ( أولائك ) أي البعيدون من كل خير ) في ضلال مبين ) أي ظاهر في نفسه أنه ضلال ، مظهر لكل أحد قبح إحاطتهم به ، قال القشيري : ويقال : الإجابة على ضربين : إجابة الله ، وإجابة الداعي ، فإجابة الداعي بشهود الواسطة وهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإجابة الله بالجهر إذا بلغت المدعو رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) على لسان السفير ، وبالسر إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب ، فمستجيب بنفسه ، ومستجيب بقلبه ، و مستجيب بروحه ، ومستجيب بسره ، ومن توقف عن دعاء الداعي إياه هجر فما كان يخاطب به .(7/143)
صفحة رقم 144
الأحقاف : ( 33 - 35 ) أو لم يروا. .. . .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ( )
ولما أتم سبحانه وتعالى ما اقتضاه مقصود هذه السورة من أًول الدين وفروعه والتحذير من سطواته بذكر بعض مثلاته ، وختم بضلالة من لم يجب الداعي ، نبه على أن أوضح الأدلة على إحاطته بالجلا والجمال وقدرته على الأجل المسمى الذي خلق الخلق لأجله ما جلى به مطلع السورة من إبداع الخافقين وما فيهما من الآيات الظاهرة للأذن والعين ، فقال مبكتاً لهم على ضلالهم عن إجابة الداعي ومنكراً عليهم وموبخاً لهم مرشداً بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير : ألم ير هؤلاء الضلال ما نصبنا في هذه السورة من أعلام الدلائل وواضح الرسائيل في المقاصد والوسائل ، عطفاً عليه قوله تعالى رداً لمقطع السورة بتقرير المعاد على مطلعها المقرر للبدء بخلق الكونين بالحق : ( أو لم يروا ) أي يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية ) أن الله ( ودل على هذا الاسم الأعظم بقوله : ( الذي خلق السموات ( على ما احتوت عليه مما يعجز الوصف من العبر ) والأرض ( على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر ) ولم يعي ) أي يعجز ، يقال : عيي بالأمر - إذ لم يهتد لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطق إحكامه ، قال الزجاج : يقال : عييت بالأمر - إذ لم تعرف وجهه ، وأعييت : تعبت ، وفي القاموس : وأعيى بالأمر : كل ) بخلقهن ) أي بسببه فإنه لو حصل له شيء من ذلك لأدى إلى نقصان فيهما أو في إحدهما ، وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجار في حيز ( إن ) فقال تعالى : ( بقادر ) أي قدرة عظيمة تامة بليغة ) على أن يحيي ) أي على سبيل التجديد مستمراً ) الموتى ( والأمر فيهم لكونه إعادة ولكونهم جزاء يسيراً منها ذكر اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً .
ولما كان هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، أجابه بقوله تعالى ) بلى ( قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إتقانه كالرؤية بالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك ، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم ، ولكنهم عن ذلك ، غافلون لأنهم عنه معرضون ، ولما كانوا مع هذه الأدلة الواضحة التي هي أعظم من المشاهدة بالبصر ينكرون ما دلت عليه هذه الصنعة من إحاطة القدرة ، علل ذلك مؤكداً له بقوله مقرراً للقدرة على وجه عام يدخل فيه البعث الذي ذكر أول السورة أنه ما خلق هذا(7/144)
صفحة رقم 145
الخلق إلا لأجله ليختم بما بدأ به ) إنه على كل شيء ) أي هو أهل لأن تتعلق القدرة به ) قدير ( .
ولما ثبت البعث بما قام من الدلائل ذكر ببعض ما يحصل في يومه من الأهوال تحذيراً منه ، فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا القياس الناطق بالمراد وما مضى في هذه السورة من الزواجر ) ويوم ) أي واذكر يوم ) يعرض ( بأيسر أمر من أوامرنا ) الذين كفروا ) أي ستروا بغفلتهم وتماديهم عليه هذه الأدلة الظاهرة ) على النار ( عرض الجند على الملك فيسمعوا من تغيظها وزفيرها ويروا من لهيبها واضطرامها وسعيرها ما لو قدر أن أحداً يموت من ذلك لماتوا من معاينته وهائل رؤيته .
ولما كان كأنه قيل : ماذا يصنع بهم في حال عرضهم ؟ قيل : يقال على سبيل التبكيت والتقريع ولتوبيخ : ( أليس هذا ) أي الأمر العظيم الذي كنتم به توعدون ولرسلنا في أخبارهم تكذبون ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فلا قدرة لكم على صليه أمر هو خيال وسحر ، فلا تبالون بوروده .
ولما اشتد تشوف السمامع العالم بما كانوا يبدون من الشماخة والعتو إلى جوابهم ، قال في جوابه مستأنفاً : ( قالوا ) أي مصدقين حيث لا ينفع التصديق : ( بلى ( وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه لأن حالهم كان مباعداً للإقرار ، وذكروا صفة الإحسان زيادة في الخضوع والإذعان ) وربنا ) أي إنه لحق هو من أثبت الأشياء ، وليس فيه شيء مما يقارب السحر ، ثم استأنف جواب من سأل عن جوابه لهم بقوله تعالى : ( قال ( مبكتاً لهم بياناً لذلهم موضع كبرهم الذي كان في الدنيا مسبباً عن تصديقهم هذا الذي أوقعوه في غير موضعه وجعلوه في دار العمل التي مبناها على الإيمان بالغيب تكذيباً معبراً بما يفهم غاية الاستهانة لهم : ( فذوقوا العذاب ) أي باشروه مباشرة الذائق باللسان ثم صرح بالسبب فقال : ( بما كنتم ) أي خلقاً وخلقاً مستمراً دائماً أبداً ) تكفرون ( في دار العمل .
ولما علم بما قام من الأدلة وانتصب من القواطع أن هذا مآلهم ، سبب عنه قوله رداً على ما بعد خلق الخافقين في مطلعها من أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونسبتهم له إلى الافتراء وما بعد : ( فاصبر ) أي على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة ، قال القشيري : والصبر هو الوقوف بحكمِ الله والثبات من غير بث ولا استكراه .
) كما صبر أولوا العزم ) أي الجد في الأمر والجحزم في الجد والإرادة والمقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه ، الذين مضوا في أمر الله مضياً كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد في جبلته والرجل الشديد(7/145)
صفحة رقم 146
الشجاع المحفوف بقبيلته ، قال الرازي في اللوامع : فارقت نفوسهم الشهوات والمنى فبذلوا نفوسهم لله صدقاً لاتفاق النفس القلب على البذل .
ولما تشوف السامع إلى بيانهم قال : ( من الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ، وقيل وهو ظاهر جداً : أن ( من ) للتبعيض ، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها ، ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد نظمهم بعضهم في قوله :
أولو العزم نوح والخليل بن آزر وموسى وعيسى والحبيب محمد
والخلاف في تعيينهم كثير منتشر هذا القول أشهر ما فيه ، وكله مبني على أن ( من ) للتبعيض وهو الظاهر ، والقول بأنهم جميع الرسل - قال ابن الجوزي - قاله ابن زيد واختاره ابن الأنباري وقال : ( من ) للتجنيس لا للتبعيض ، وفي قول أنهم جميع الأنبياء إلا يونس عليه الصلاة والسلام - قال ابن الجوزي : حكاه الثعلبي .
ولما أمره بالصبر الذي من أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل ، ليصح التحلي بفضيلة الصبر الضامنة للفوز والنصر فقال : ( ولا تستعجل لهم ) أي تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوهم في غير حينه الأليق به .
ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة ، سهله بقوله مستأنفاً : ( كأنهم يوم يرون ) أي في الدنيا عند الموت مثلاُ أو في الآخرة والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة ، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا ) ما يوعدون ( من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة ، وبناه للمفعول لأن المنكىء هو الإيعاد لا كونه من معين ) لم يلبثوا ) أي في الدنيا حيث كانوا عالين ) إلا ساعة ( .
ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل ، حقق أمرها وحقرها بقوله : ( من نهار ( ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة .
والبراهين الباهرة ببيان ما هو مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس ، وكان مقصودها آئلاً إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهو التوحيد اللام منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت بما ختمت به إبراهيم إلا أن لحواميم لباباً ، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل : ( بلاغ ) أي هذا الذي ذكر هنا هو من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم ، ومن لم يوصله فذلك الذي حكم العزيز بشقائه فلا حيلة لغيره في شفائه من عظيم دائه ، ولذلك سبب عن كونه بلاغاً قوله زيادة على ختام إبراهيم ما يناسب(7/146)
صفحة رقم 147
مطلعها : ( فهل يهلك ( بني للمفعول من أهلك ، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك ، وللدالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جداً ) إلا القوم ( الذين فيهم أهليه القيام بما يحاولنه من اللدد ) الفاسقون ) أي العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة الأولى من الطاعة الآتي بها النقل إلى مضل المعصية الناهي عنها واعقل ، وأما الذين فسقوا والذين يفسقون فإن هادي هذه السورة يردهم ويوصلهم إلى المقصود ، فهذا الآخر نتيجة قوله أولها ) والذين كفروا عما أنذرووا معرضون ( وذكر اليوم الموعود هو الأجل الذي أوجد الخافقان لأجله وبسببه والدلالة على القدرة بخلقهما من غير إعياء هو ذكره أولهما أنهما ما خلقا إلا بالحق .
وذكر البلاغ هو تنزيل الكتاب من الله وحكمه على العريق بالفسق بالهلاك مع الهادي الشفيق ولغيره بالنجاة بعد انسيابه في الفسق مع التكرر هو من ثمرات العزة والحكمة ، فقد التحم هذا الآخر بذاك الأول التي تليها أحسن التئام فسبحان من جعله أشرف الكلام ، لكونه صفة الملك العلام ، منزلاً على خاتم الرسل الكرام ، ورسول - الملك العلام - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الكرام وسلم تسليماً كثيراً .
.. . .(7/147)
صفحة رقم 148
سورة محمد
محمد : ( 1 - 3 ) الذين كفروا وصدوا. .. . .
) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( ( )
مقصودها التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهادة للكفار ، حتى يلزموهم الصغار ، أو يبطلوا ضلالهم كما أصل الله أعمالهم ، لا سيما أهل الردة الذين فسقوا عن محيط الدين إلى أودية الضلال المبين ، والتزام هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى ذلك دل اسمها ) الذين كفروا ( لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته و أنك إن لم تقاتله كن مثله ، واسمعها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبإ وفي الفاتحة ، ومتى كان كف عن أعداء الله كان الذم ، وأوضح أسمائها في هذا المقصد القتال ، فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي أقام جنده للذب عن حماه ) الرحمن ( الذي عمت رحمته تارة بالبيان وأخرى بالسيف والسنان ) الرحيم ( الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان .
لما أقام سبحانه الأدلة في الحواميم حتى صارت كالشمس ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وختم بأنه يهلك بعد هذه الأدلة القوم الفاسقون ، افتتح هذه بالتعريف بهم فقال سبحانه وتعالى : ( الذين كفروا ) أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على علم ) وصدوا ) أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر ) عن سبيل الله ) أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم ) أضل ) أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر(7/148)
صفحة رقم 149
) أعمالهم ( التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أو وفر سيئاتهم وأفسد بالهم ، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم بهل أنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم وأنتم في غاية الاجتراء عليهم ، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم ، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً ، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره ، محتوم بخيبته وخسره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى وكفر وفجر ، وافتتحت السورة بإعراضهم ، ختمت بما قد تكرر من تقريعهم وتوبيخهم ، فقال تعالى : ( ألم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ) أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة ، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله ) فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( فلما ختم بذكر هلاكهم ، اففتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفرا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ( الآية بعد ابتداء السورة بقوله ) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ( فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده ، فنبه على الطريقين بقوله ) أضل أعمالهم ( وقوله في الآخر ) كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ( ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختباراً ، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال : ( إن تنصروا الله ينصركم ( ثم التحمت الآي - انتهى .
ولما ذكر أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم ، ذكر أضدادهم كذلك ليعم من كان منهم من جميع الفرق فقال تعالى : ( والذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان باللسان ) وعملوا ( تصديقاً لدعواهم ذلك ) الصالحات ) أي الأعمال الكاملة في الصلاة بتأسيسها على الإيمان .
ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، خصهم بقوله تعالى : ( وآمنوا ) أي مع ذلك .
ولما كان بعضهم كحيي بن أخطب ومن نحا نحوه قد طعن في القرآن بنزوله منجماً مع أن التوراة ما نزلت إلا كذلك ، وليس أحد منهم يقدر أن ينكره قال : ( بما نزل ) أي ممن لا منزل إلا هو منجماً مفرقاً ليجددوا بعد الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه ) على محمد ( النبي الأمي العربي القرشي المكي ثم المدني الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولما كان هذا(7/149)
صفحة رقم 150
معلماً بأن كل إيمان لم يقترن بالإيمان به ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعتد به ، اعترض بين المبتدأ وجوابه بما يفهم علته حثاً عليه وتأكيداً له فقال تعالى : ( وهو ) أي هذا الذي نزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) مختص بأنه ) الحق ) أي الكامل في الحقية لأن ينسخ ولا ينسخ كائناً ) من ربهم ( المحسن إليهم بإرساله ، أما إحسانه إلى أمته فواضح ، وأما سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة ، وأمته هي الشاهدة لهم .
ولما ثبت بهذا أنهم أحق الناس بالحق ، بين ما أثمر لهم ذلك دالاً على أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، فلا يسع الخلق إلا العفو لأنهم وإن اجتهدوا في الإصلاح بدا لهم لنقصانهم من سيئات أو هفوات فقال تعالى : ( كفر ) أي غطى تغطية عظيمة ) عنهم ( في الدارين بتوبتهم وإيمانهم لأن التوبة تجب ما كان قبلها كالإيمان ) سيئاتهم ) أي الأعمال السيئة التي لحقتهم قبل ذلك بما يظهر لهم من المحاسن وهدى أعمالهم .
ولما كان من يمل سوءاً يخاف عاقبته فيتفرق فكره ، إذ لا عشية لخائف قال تعالى : ( وأصلح بالهم ( اي موضع سرهم وفكرهم بالأمن والتوفيق والسداد وقوة الفهم والرشاد لما يوفقهم له من محاسن الأعمال ويطيب به اسمهم في الداري ، قال ابن برجان : وإذا أصلح ذلك من العبد صلح ما يدخل إليه وما يخرج عنه وما يثبت فيه ، وإذا فسد فبالضد من ذلك .
ولذلك إذا اشتغل البال لم ينتفع من صفات الباطن بشيء ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر ضلال الكفار أولاً دليلاً على إرادة الهدى للمؤمنين ثانياً ، وإصلاح البال ثانياً دليلاً على حذف إفساده أولاً .
ولما كان الجزاء من جنس العمل ، علل ما تقدم من فعله بالفريقين بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين ) بأن ) أي بسبب أن ) الذين كفروا ) أي ستروا مرائي عقولهم ) اتبعوا ) أي بغاية جهدهم ومعالجتهم لما قادتهم إليه فطرهم الأولى ) الباطل ( من العمل الي لا حقيقة له في الخارج يطابقه ، وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى إيثاراً للحظوظ فضلوا ) وأن الذين آمنوا ) أي ولو كانوا في أقل درجات الإيمان ) اتبعوا ) أي بغاية جهدهم متابعين لما تدعو إليه الفطرة الأولى مخالفين لنوازع الشهوات ودواعي الحظوظ على كثرتها وقوتها ) الحق ) أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهي العمل بموافقة العلم وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه ) من ربهم ( الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا .
ولما علم من هذا أن باطن حال الذين كفروا الباطل ، وباطن حال الذين آمنوا الحق ، وتقدم في البقرة أن المثل هو ما يتحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة ، فيكون ألطف من الشيء المحسوس ، وأن ذلك هو وجه الشبه ، علم أن مثل كل منالفريقين ماعلم من باطن حاله فمثل الأول الباطل ومثل الثاني الحق ، (7/150)
صفحة رقم 151
فلذلك قال سبحانه استئنافاً جواباً لمن كأن قال لما أدركه من دهش العقل لما راعه من علو هذا المقال : هل يضرب مثل مثل هذا : ( كذلك ) أي مثل هذا الضرب العظيم الشأن ) يضرب الله ) أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ) للناس ) أي كل من فيه قوة الاضطراب والحركة ) أمثالهم ) أي أمثال أنفسهم وأمثال الفريقين المتقدمين أو أمثال جميع الأشيء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها مبيناً لها مثل هذا البيان ليأخذ كل واحد من ذلك جزاء حاله ، فقد علم من هذا المثل أن من اتبع الباطل أضل الله عمله ووفر سيئاته وأفسد باله ، ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان ، وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والعمل بهما .
محمد : ( 4 - 5 ) فإذا لقيتم الذين. .. . .
) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( ( )
ولما تحرر أن الكفار أحق الخلق بالعدم لأن الباطل مثلهم وحقيقة حالهم ، سبب عنه قوله : ( فإذا لقيتم ) أي أيها المؤمنون ) الذين كفروا ( ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ مكان كان وأيّ زمان اتفق .
ولما كان المراد القتل المجهر بغاية التحقق ، عبر عنه مؤكداً له من الاختصار بذكر المصدر الدال على الفعل مصوراً له بأشنع صوره مع ما فيه من الغلظة على الكفار والاستهانة بهم فقال تعالى : ( فضرب الرقاب ) أي عقبوا لقيكم لهم من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم ، فإن ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط ، وكذلك النفس التي هي أعدى العدو إذا ظفرت بها وجب عليك أن لا تدع لها بقية ، قال القشيري : فالحية إذا بقيت منها بقية فوضعت عليها إصبع ثبت فيها سمها .
ولما كان التقدير : ولا يزال ذلك فعلكم ، غياه بقوله : ( حتى ( وبشرهم بالتعبير بأداة التحقق فقال تعالى : ( إذا أثخنتموهم ) أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه بحيث صاروا لا حراك بهم كالذي ثخن فأفرط ثخنه ؛ فجعل ذلك شرطاً للأسر كما قال تعالى ) ) وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( ) [ الأنفال : 67 ] ثم قال تعالى مبيناً لما بعد الثخن : ( فشدوا ) أي لأنه لا مانع لكم الآن من الأسر ) الوثاق ) أي الرباط الذي يستوثق به من الأسر بالربط على أيديهم مجموعة إلى أعناقهم - مجاز عن الأسر بغاية الاستيلاء والقهر .
ولما كان الإمام مخيراً في أسراهم بين أربعة أشياء : القتل والإطلاق مجاناً والإطلاق بالفدية وهي شيء يأخذه عوضاً عن رقابهم والاسترقاق ، عبر عن ذلك بقوله(7/151)
صفحة رقم 152
مفصلاً : ( فإما منّاً ) أي أن ينعموا عليهم إنعاماً ) بعد ) أي في جميع أزمان ما بع الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع الإطلاق ثم الإطلاق إما مجاناً ) وإما فداء ( بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك ، فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بكل جائز ، ودخل في الإبقاء ثلاث صور : الاسرقاق والإطلاق مجاناً وبالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء الذي معناه الأخذ على وجه أن قسيم للمن ، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل ، وأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء جواز القتل لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة ، فقد دخلت السور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين - والله الهادي ، وكل هذا على ما يراه الإمام أو نائبه مصللحة ، قال القشيري : كذلك حال المجاهدة مع النفس إذا كان في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويح للنفس من الكد وقوة على الجهد فيما يستقبل من الأمر على ما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد وفتوى لسان الوقت أو فراسة صاحب المجاهدة - انتهى .
وقد أفهم هذا السياق أن هذا الحكم ثابت غير منسوخ والأمر بالقتل وحده في غيرها من الآيات عام غير مخصوص بما أفهمته الغاية من أن التقدير : والجهاد على هذه الصفة باق وماض مع كل أمير راً كان أو فاجراً ، لا يزال طائفة من الأمة قائمين به ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ، وهو - والله أعلم - المراد بقوله تعالى : ( حتى ) أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن ) تضع الحرب أوزارها ( وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح والكراع ونحوه ، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر ، وذلك على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام حين تخرج الأض بركاتها ، وتكون الملة واحدة وهي الإسلام لله رب العالمينن فيتخذ الناس حديد السلاح سككاً ومناجل وفؤوساً ينتفعون بها في معاشهم كما ورد في الحديث : ( الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ) - رواه في الفردوس عن أنس رضي الله عنه ( الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر ) رواه داود عن أبي هريرة رضي الله عنه .(7/152)
صفحة رقم 153
ولما كانت الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة ، أكد أمرها بما معناه : إن هذا أمر قد فرغ منه ، فقال تعالى : ( ذلك ) أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع الموجب لكل خير .
ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا يمكن انتظامه إلا به ، أتبعه ما يزيل هذا الإيهام فقالك ) ولو ( ولما كان لو عبر بالماضي أفاد أنه كان ولم يبق ، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده فقال : ( يشاء الله ) أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال والقدرة على ما يمكن ) لانتصر منهم ) أي بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً ) ولكن ( أوجب ذلك عليكم ) ليبلوا ( .
ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل المحاسن وأهل المساوئ من كل منهم ، قال تعالى : ( بعضكم ( من الفرقة المؤمنين بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء ) ببعض ) أي يفعل في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد .
ولما أفهم هذا أن الابتلاء بين فريقين بالجهاد ، قال عاطفاً على ما تقديره : فالذين قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم : ( والذين قتلوا ( وفي قراءة البصريين وحفص ) قتلوا ( وهي أكثر ترغيباً والأولى أعظم ترجية ) في سبيل الله ) أي لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال .
ولما كان في سياق الترغيب ، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سبببه فقال تعالى : ( فلن يضل ) أي يضيع ويبطل ) أعمالهم ( لكونها غير تابعة لدليل بل يبصرهكم باللأدلة ويوفقهم لاتباعها ، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً : ( سيهديهم ) أي في الدارين بوعد لا خلق فيه بعد المجاهدة إلى كل ما ينفعهم مجدداً ذلك على سبيل الاستمرار ) ويصلح بالهم ) أي موضع فكرهم فيجعله مهيأ لكل خير بعيداً عن كل شر آمناً من المخاوف مطمئناً بالإيمان بما فيه من السكينة ، فإذاقتل أحد في سبيله تولى سبحانه وتعالى ورثته بأحسن من تولي المقتول لو كان حياً .
محمد : ( 6 - 9 ) ويدخلهم الجنة عرفها. .. . .
) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( ( )
ولما كان هذا ثواباً عظيماً ونوالاً جسيماً ، أتبعه ثواباً أعظم منه فقال تعالى : ( ويدخلهم الجنة ) أي دار القرار الكاملة في النعيم ، وأجاب من كأنه يسأل عن كيفية(7/153)
صفحة رقم 154
إدخالهم إياها وكيفيتها عند ذلك بقوله تعالى : ( عرفها لهم ) أي بتعريف الأعمال الموصلة إليها والتوفيق لهم إليها في الدنيا وأيضاً بالتبصير بالمنازل في الآخرة حتى أن أحدهم يصير أعرف بمنزله فيها منه بمنزله في الدنيا ، وطيب رائحتها وجعل موضعها عالياً وجدرانها عالية وهي ذات أغراف وشرف ، وفي هذه الآية بشرى عظيمة لمن جاهد ساعة ما بأن الله يميته على الإسلام المستلزم لئلا يضيع له عمل ، ويؤيده ما رواه الطبراني في الكبير عن فضلاة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( للإسلام ثلاث أبيات : سفلى وعليا وغرفة ، فأما السفلى فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحداً منهم إلا قال : أنا مسلم ، وأما العليا فتفاضل أعمالهم بعض المسلمين أفل من بعض ، وأما الغرفة العليا فالجهاد في سبيل الله لا ينالها إلا أفضلهم ) .
ولما ذكر القتال ، تشوف السامع إلى حال المقاتل من النصر والخذلان فأجاب بما يعرف بشرط النصر فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بذلك وإن كان في أدنى الدرجات بما أشعرت به أداة البعد والصلة بالماضي ) إن تنصروا الله ) أي يتجدد لكم نية مستمرة وفعل دائم على نصرة دين الملك الأعظم بإيضاح أدلته وتبيينها وتوهية شبه أهل الباطل وقتالهم ، ويكون ذكل خالصاً له لا لغيره من النيات الفاسدة المعلولة بطلب الدنيا أو الشهرة بالشجاعة والعلم وطيب الذكر الغضب للأهل وغير ذلك ) ينصركم ( فإنه الناصر لا غيره من عدد أو عدد فيقمع أعداء الدين بأيديكم .
ولما كان النصر قد يكون مع العجز والكسل والجبن والفشل بين أنه يحميهم من ذلك فقال : ( ويثبت أقدامكم ) أي تثبيتاً عظيماً بأن يملأ قلوبكم سكينة واطمئناناً وأبدانكم قوة وشجاعة في حال القتل ووقت البحث والجدال ، وعند مباشر جميع الأعمال ، فتكونوا عالين قاهرين في غاية ما يكون من طيب النفوس وانشراح الصدور ثقة بالله واعتزازاً به وإن تملأ عليكم أهل الأرض .
ولما ذكر أهل الإيمان ، بين ما لأهل الكفران ، فقال سبحانه : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما دل عليه العقل وقادت إليه الفطر الأولى ، وبين أن سوء أعمالهم أسباب وبالهم بالفاء .
فقال مؤكداً بجعل الخبر مفعولاً مطلقاً لأجل استبعادهم بما لهم من القوة(7/154)
صفحة رقم 155
بكثرة العدد والملاءة بالعدد : ( فتعساً ) أي فقد عثروا فيقال لهم ما يقال للعاثر الذي يراد أنه لا يقوم : تعساً لا قيام معه ، كما يقال لمن عثر وأريد قيامه : تعساً لك ، والمراد بالتعس الانحطاط والسفول والهوان والقلق .
ولما كان كأنه قيل : لمن هذا ؟ قيل : ( لهم ( فلا يكادون يثبتون في قتال لمن صلحت من الأعمال .
ولما كان الإنسان قد يعثر ويقع ويقال له : تعساً ، ويقوم ذلك ، ولا يبطل عمله ، بين أن قوله ليس كذلك ، بل مهما قاله كان لا يتخلف أصلاً ، فقال معبراً بالماضي إشارة إلى التحتم فيه ، وأما الاستقبال فربما تاب على بعضهم فيه عاطفاً على ما تقديره فقال تعالى لهم ذلك : ( وأضل أعمالهم ( وإن كانت ظاهرة الإيقان لأجل تضييع الأساس بالإيمان .
ولما بين ما صنع بهم ليجترئ به حزبه عليهم ، بين سببه ليجتنب فقال : ( ذلك ( الأمر البعيد من الخير ) بأنهم ) أي بسب بأنهم ) كرهوا ( بغضوا وخالفوا وأنكروا ) ما أنزل الله ) أي الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه ، والذي أنزله من القرآن والسنة هو روح الوجود الذي لا يعاندونه ، فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبتها أشباحهم ، وهو معنى قوله مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم : ( فأحبط ) أي أبطل إبطالاً لا صلاح معه ) أعمالهم ( بسب أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح ، لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له يقبل من العمل إلا ما حده ورسمه ، وهذا وعيد للأمةبأنها إن تخلت عن نصر الله والجهاد في سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها سبحانه إلى نفسها وتخلى عن نصرها وسلط عليها عدوها ، ولقد وجد بعض ذلك من تسلط الفسقة لما وجد التهاون في بعض ذلك والتواكل فيه .
محمد : ( 10 - 14 ) أفلم يسيروا في. .. . .
) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ ( ( )
ولما كان لا يستهين بهذه القضايا ويجترئ مثل هذه البلايا إلا من أمن العقوبة ، ولا يأمن العقوبة إلا من أعرض عن الله سبحانه وتعالى ، وكان يكفي في الصد عن الأمرين وقائعه تعالى بالأمم الخالية لأجل تكذيب رسله ومناصبة أوليائه والاعتداء على(7/155)
صفحة رقم 156
حدوده ، قال منكراً عليهم وموبخاً لهم تقدماً إليهم بالتحذير من بطشه وسطوته وشديد أخذه وعقوبته ، مسبباً تصحيح أعمالهم وبنائها على أساس ) في الأرض ) أي التي فيها آثار الوقائع فإنها هي الأرض في الحقيقة لما لها من زيادة التعريف بالله ) فينظروا ( عقب سيرهم وبسبه .
ولما كانت وقائعه خلعة للقلوب بما فيها من الأمور الباهرة الناطقة بها ألسنة الأحوال بعد التنبيه بالمقال ، ساق ذلك بسوقه في أسلوب الاستفهام مساقاً منبهاً على أنه من العظمة بحيث يفرغ الزمان للعناية بالسؤال عنه فقال : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين ( ولما كان ميمكنهم معرفة ذلك من جميع المهلكين ، نبه بإثبات الجار على أنهم بعضهم بل بعض المكذبين للرسل ، وهم الذين سمعوا أخبارهم ورأوا ديارهم بعاد وثمود ومدين وسا وقوم لوط فقال تعالى : ( من قبلهم ( ولما كان كأنه قيل : ما لهم ؟ قال : ( دمر الله ) أي أوقع الملك الأعظم الهلاك العظيم الداخل بغي إذن ، الهاجم بغتة ) عليهم ( بما علم أهاليهم وأحوالهم وكل من رضي فعالهم أو مقالهم ، وعدل عن أن يقول : ( ولهؤلاء ) إلى قوله : ( وللكافرين ( تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العارقة في الكفر ، فكان فيه بشارة بأن بعضهم سينجيه الله تعالى من أسباب الهلاك لكونه ليس عريقاً في الكفر ، لأنه لم يطبع عليه ) أمثالها ) أي أمثال هذه العاقبة .
ولما بين أن يعلي أولياءه ويذل أعداءه ، بين علته فقال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الذي فعله بالفريقين ) بأن الله ) أي بسبب أن الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ) مولى الذين آمنوا ) أي القريب من المصدقين به المرضين له ، فهو يفعل معهم بما له من اللال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له ، قال القشيري : ويصح أن يقال : أرجى آية في كتاب الله هذه الآية لأنه لم يقل : الزهاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد .
يعني بل ذكر أدنى أسنان أهل الإيمان .
) وأن الكافرين ) أي العريقين في هذا الوصف ) لا مولى لهم ( بهذا المعنى ، لأنهم بعيدون من الله الذي لا يعبد على الحقيقة إلا هو ، فلا ينفعهم قرب قريب أصلاً وإن كان الله مولاهم بغير هذا المعنى بل بمعنى أنه سيدهم ومالكهم ، وفيه إيماء إلى أنه سبحانه وتعالى ولي من لم يكن عريقاً في الكفر فيخرجه من الظلمات إلى النور .
ولما تشوف السامع إلى تعرف تمام آثار الولاية ، قال شافياً لعيّ سؤالهم مؤكداً لأجل كثرة المكذبين : ( إن الله ) أي الذي له جميع الكمال ) يدخل الذين آمنوا ) أي أوقعوا التصديق ) وعملوا ( تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه ) الصالحات ( فتمتعوا بما(7/156)
صفحة رقم 157
رزقهم الله من الملاذ لا على وجه أنها ملاذ بل على وجه أنها مأذون فيها ، وهي بلاغ إلى الآخرة وأكلوا لا للترفه بل لتقوية البدن على ما أمروا به تقوتاً لا تمتعاً ) جنات ) أي بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها ) تجري ( وبين قرب الماء من وجهها بقوله : ( من تحتها الأنهار ) أي فهي دائمة النمو والبهجة والنصارة والثمرة لأن أصول أشجارها ربى وهي بحيث متى أثرت بقعة مناه أدنى إثارة جرى منها نهر ، فأنساهم دخولهم عصص ما كانوا فيه في الدنيا من نكد العيش ومعاناة الشدائد ، وضموا نعيمها إلى ما كانوا فيه في الدنيا من نعيم الوصلة بالله ثم لا يحصل لهم كدر ما أصلاً ، وهي مأواهم لا يبغون عنها حولاً ، وهذا في نظير ما زوي عنهم من الدنيا وضيق فيها عيشهم نفاسة منهم عنها حتى فرغهم لخدمته وألزمهم حضرته حباً لهم وتشريفاً لمقاديرهم ) والذين كفروا ) أي غطوا ما دل عليه العقل فعملوا لأجل كفرهم الأعمال الفاسدة المبعدة عن جناب الله ) يتمتعون ) أي ف يالدنيا بالملاذ لكونها ملاذ كما تتمتع الأنعام ، ناسين ما أمر الله معرضين عن لقائه بل عن الموت أصلاً بل يكون ذكر الموت حاثاً لهم على الانهماك في اللذات مسابقة له جهلاً منهم بالله ) ويأكلون ( على سبيل الاستمرار ) كما تأكل الأنعام ( أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف كان الأكل في سبعة أمعاء ، أي في جميع بطونهم من غير تمييز للحرام من غيره لأن الله تعالى أعطاهم الدنيا ووسع عليهم فيها وفرغهم لها حتى شغلهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم لأنه علم حالهم قبل أن يوجدهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة ) والنار ) أي والحال أن ذات الحرارة العطمى والإحراق الخارج عن الحد ) مثوى ) أي منزل ومقام ) لهم ( تنسيهم أول انغماسهم فيها كل نعيم كانوا فيه ثم لا يصير لهم نعيم ما أصلاً ، بل لا ينفك عنهم العذاب وقتاً ما ، فالآية من الاحتباك ، ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنات أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً ، والتمتع والمثوى ثانياً دليلاً على حذف التعلل والمأوى أولاً ، فهو احتباك في احتباك واشتباك مقارن لاشتباك .
ولما وعد سبحانه أنه ينصر من ينصره لأنه مولاه ويدخله دار نعمته ، ويخذل من يعانده لأنه عاداه إلى أن يدخله دار شقوته ، كان التقدير دليلاً على ذلك : فكأين من قوم هم أضعف من الذين اتبعوك نصرناهم على من كذبتهم ، فلا خاذل لهم ، فعطف عليه قوله : ( وكأين ( ولما كانت قوة قريش في الحقيقة ببلدهم ، وكان الإسناد إليها أدل على تمالؤ أهلها وشدة اتفاقهم حتى كأنهم كالشيء الواحد قال : ( من قرية ) أي كذبت رسولها ) هي أشد قوة ( وأكثر عدة ) من قريتك ( ولما كان إنزال هذه بعد الهجرة ، عين فقال : ( التي أخرجتك ) أي أخرجك أهلها متفقين في أسباب الإخراج من أنواع الأذى(7/157)
صفحة رقم 158
على كلمة واحدة حتى كأن قلوبهم قلب واحد فكأنها هي المخرجة - وهي مكة - كذبوك وآذوك حتى أخرجناك من عندهم لننصرك عليهم بمن أيدناك بهم من قريتك هذه التي آوتك من الأننصار نصراً جارياً على ما تألفونه وتعتادونه ) أهلكناهم ( بعذاب الاستئصال كما اقتضت عظتنا ، وحكى حالهم الماضية بقوله : ( فلا ناصر لهم ( .
ولما كان هذا دليلاً شهودياً بعد الأدلة العقللية على ما تقدم الوعد به ، سبب عنه الإنكار عليهم فقال : ( أفمن كان ) أي في جميع أحواله ) على بينة ) أي حالة ظاهرة البيان في أنها حق ) من ربه ( المربي المدبر له المحسن إليه بما يقيم من الأدلة التي تعجز الخلائق أجمع عن أن يأتوا بواحد منها فبصر سوء عمله وأريه على حقيقته فرآه سيئاً فاجتنبه مخالفاً لهواه ، قال القشيري : العلماء في ضياء برهانهم والعارفون في ضياء بيانهم .
) كمن زين له ( بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه وخلقنا للآثار بأيسر أمر ) سوء عمله ( من شرك أو معصية دونه .
ولما كان التقدير : فرآه حسناً فعمله ملازماً له ، فكان على عمى وضلال ، وكان قد أفرد الضمير لقبول ( من ) له من جهة لفظها ، جمع رداً على معناها بتعميم القبح مثنى وفرادى ، وإشارة إلى أن القبيح يكون أولاً قليلاً جداً ، فمتى غفل عنه فلم تحسم مادته دب وانتشر فقال عاطفاً على ما قدرته : ( واتبعوا أهواءهم ( فلا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل ، والآية من الاحتباك ذكر البينة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، والتزيين واتباع الهوى ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً ، وسره أنه ذكر الأصل الجامع للخير ترغيباً والأًل الجامع للشر ترهيباً .
محمد : ( 15 ) مثل الجنة التي. .. . .
) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ( ( )
ولما تكرر ذكر الجنة والنار في هذه السورة إلى أن ختم بهذه الآية التي قسم الناس فيها إلى أولياء مهتدين وأعداء ضالين معتدين ، فهدى سياقها إلى أن التقدير : أفمن كان على بينة من ربه أحياه الحياة الطيبة في الدارين ، ومن تبع هواه أراده فيها ، أتبعه وصف الجنة التي هي دار أوليائه قادهم إليها الهدى ، والنار التي هي دار أعدائه ساقهم إليها الضلال المحتم للردى ، فقال : ( مثل الجنة ) أي البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها .
ولما تكرر وعده سبحانه للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها(7/158)
صفحة رقم 159
بالضمير العائد إليه ، صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسله أمر ، وفرغ منه إلى أن صار حاضراً لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهور أعلى لأمره فقال : ( التي وعد المتقون ) أي الذي حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : مقبل عليه بكليته فهو متبع ، ومعرض عنه جملة ، وسمتمع غير منتفع .
ولما كان التقدير : مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة ، وكان ما هو بههذ الصفة إنما هو موهوم لنا ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافاً : ( فيها ) أي الجنة الموعودة .
ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل والامتنان ، فقال : ( أنهار من ماء ( ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم على ثلاثة : حلو وعذب وملح ، مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن فاعل ذلك قادر مختار ، وقد يكون آسناً أي متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال : ( غير آسن ) أي ثابت له في وقت ما شيء من الطعم أو الريح أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه .
ولما كان أكثر شرابه بعد الماء اللبن ، ثنى به فقال سبحانه : ( وأنهار من لبن ( ولما كان التغير غير محمود ، وكانوا يعهدون ف يالدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة ، ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى ، وأنه إنما يتغير بعد حلبه ، عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال : ( لم يتغير طعمه ) أي بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر ، وهذا يفهم أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير ، وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعاً .
ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال : ( وأنهار من خمر ( ولما كانت الخمر يكثر طعمها ، وإنما يشربها شاربوها لأثرها ، وأنه متى تغير طعمها زال اسمها ، عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال : ( لذة ) أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وعبده ) للشاربين ( في طيب الطعم وحسن العاقبة .(7/159)
صفحة رقم 160
ولما كان العسل أعزها وأقلها ، أخره وإن كان أجلها فقال : ( وأنهار من عسل ( ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً بالشمع وغيره من القذى قال : ( مصفى ) أي هو صاف صفاء ما أجتهد في تصفيته من ذلك ، وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له عنه في وقت ما ، فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذكل مجرداً عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي : قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سبحان نهر عسلهم .
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر .
وقال ابنعبد لحكم في فتوح مصر : حدثنا عثمان بن صالح ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار رضي الله عنه : هل تجد لهذا النيل في كتاب الله تعالى خبراً ؟ قال : أي والذي فلق البحر لموسى ، إني لأجده ف يكتاب الله أن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين ، ويحي إليه عن جريه أن الله يأمرك أن تجري ، فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك : يا نيل غر حميداً .
حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول : أربعة أنها من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا .
فالنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة .
وسيحان نهر الماء في الجنة .
وجيحان نهر اللبن في الجنة .
حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي جنادة الكناني أنه سمع كعباً يقول : النيل في الآخرة عسلاً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، ودجلة في الآخرة لبناً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، والفرات خمراً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله وأصل هذا كله ما في الصحيح في صفة الجنة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة ) وقال أبو حيان في حكمة ترتيبها غير ما تقدم : إنه بدئ بالماء الذي لا يستغنى عنه في المشروبات ، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات(7/160)
صفحة رقم 161
في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يتلذذ به ، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب - انتهى .
وأحسن منه أنه لما كان السياق للتعجب في ضرب المثل لأنه قول لا ينفك عن غرابة بدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلادهم وشدة حاجتهم إليها ، ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه ، ولما كان اللبن أقل فكان جريه أنهاراً أغرب ، ثنى به ، ولما كان الخمر أعز ثلث به ، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به ، ونبه - مع هذا التذكير متمحض للشرابية كالخمر وبعضها في غذائية وهي فيه أغلب ، وهو العسل ، وبعضها ينزع إلى كل منهما وهو اللبن كلها من الماء مع تمايزها مذاقاً وأثراً في الغذاء والدواء وغير ذلك ، فإن لماء أصل النبات ، ومن النبات يكون اللبن والخمر والعسل بما لا يخفى من الأسباب ، وأما الآخرة فغنيه عن الأسباب لظهور اسمه الظاهر سبحانه هناك لأنه لا ابتلاء فيها ، وبهذا فهم للترتيب سر آخر وهو أنه تعالى قدم الماء لأنه الأصل لها ، وتلاه بأقرب الأشياء إليه في الشرابية والطبع : اللبن ، ثم بما هو أقرب إلى اللبن من جهة أنه شراب فقط ، ثم بالعسل لأنه أبعدها منه .
ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد سائغ الشراب قال تعالى : ( ولهم فيها ( ولما كان أهلها متفاوين في الدرجات فلا تجمع جنان أغلبهم جميع ما في الجنة من الثمار بعض فقال : ( من كل الثمرات ) أي جميع أصنافها على وجه لا حاجة معه من قلة ولا انقطاع .
ولما كان العيش لا يطيب مع الإنصاف بما يوجب العتب ، قال مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، لأن الرتب متضائلة عن رتبته سبحانه : ( ومغفرة من ربهم ) أي المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وأثارها بحيث لا يخشون لها عاقبة بعقاب .
لا عتاب وعدم بلوغهم إلى ما يحق له من الشكر سبحانه .
ولما أرشد هذا السياق إلى أن التقدير : أفمن هو في هذا النعيم الأكبر المقيم ، بنى عليه قوله : ( كمن هو خالد ) أي مقيم إقامة لا انقطاع معها ، ووحده لأن الخلود يعم من فيها على حد سواء ) في النار ) أي التي لا يطفأ لهيبها ، لا يفك أسيرها ولا يؤنس عريبها .
ولما كان كل واحد من داخليها له سقي يخصه على حسب عمله ولا يظلم ربك أحداً .
كان المؤثر لضرهم السقي على الكيفية التي تذكر لا كونه من ساق معين ، بني للمجهول قوله مسنداً إلى ضمير الجمع قوله تعالى : ( وسقوا ) أي عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة ) ماء حميماً ) أي في غاية الحرارة ) فقطع أمعاءهم ( ويمكن أن(7/161)
صفحة رقم 162
تكون الآية من الاحتباك ، وذلك أنه تعالى لما قدم أن المؤمنين في جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأن الكافرين مأواهم النار ، وكان التقدير إنكاره على من لم يرتدع للزواجر تنبيهاً على أن عمله عمل من يسوي بين الجنة والنار لأن كون النار جزاء لمثله والجنة جزاء المؤمن صار في حد لا يسوغ إنكاره : أمثل الجنة الموصوفة كمثل النار ، ومن هوخالد في الجنة كمن هو خالد في النار - والله الموفق للصواب .
محمد : ( 16 - 17 ) ومنهم من يستمع. .. . .
) وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ( ( )
ولما كان التقدير بعد هذا التمثيل والوصف والتشويق الذي يبهر العقول : فمن الناس من يسمع منك بغاية المحبة والإنصاف فيعليه الله بفهم ما يتلوه واعتقاده والعمل به واعتماده وهم المتقون الذين وعدوا الجنة ، عطف عليه قوله تعالى : ( ومنهم من يستمع ) أي بغاية جهده لعله يجد في المتلو مطعناً يشك به على الضعفاء ، وبين تعالى بعدهم بقوله : ( إليك ( ولما أفرد المستمع نظراً إلى لفظ ( من ) إشارةإلى قلة المستمع جمع نظراً إلى معناه إشارة إلى كثرة المعرضين الجامدين المستهزئين من المستمعين منهم والسامعين فقال تعالى : ( حتى ) أي واستمر إجهادهم لأنفسهم بالإصغاء حتى ) إذا خرجوا ) أي المستمعون والسامعون جميعاً ) من عندك قالوا ) أي الفريقان عمى وتعاميا واستهزاء .
ولما كان مجرد حصول العلم النافع مسعداً ، أشار إلى تعظيمه ببنائه لما لم يسم فاعله فقال تعالى : ( للذين أوتوا العلم ) أي بسبب تهيئة الله لهم بما آتاهم من صفاء الأفهام لتجردهم عن النفوس والحظوظ وانقيادهم لما تدعوا إليه الفطرة الأولى : ( ماذا قال ) أي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) آنفاً ) أي قبل افتراقنا وخروجنا عنه من ساعة - أي أول وقت - تقرب منه ، من أنفة الصلاة - بالتحريك ، وهو ابتداؤها وأولها ، قال أبو حيان : حال ، اي مبتدئاً ، أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه .
ورد كونه ظرفاً بأنه تفسير معنى ، وأنه لا يعلم أحداً من النحاة عده في الظروف .
وقال البغوي : ائتنفت الأمر : ابتدأته ، وأنف الشيء أوله ، قال مقاتل : وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذاخرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه استهزاء : ماذا قال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال ابن عباس رضي الله عنه : وقد سئلت فيمن سئل .(7/162)
صفحة رقم 163
ولما دل هذا من المصغي ومن المعرض على غاية الجمود الدال على غاية الشقاء ، أنتج قوله : ( أولئك ) أي خاصة هؤلاء البعداء من الفهم ومن كل خير ) الذين طبع الله ) أي الملك الأعظم الذي لا تناهي لعظمه جل وعلا ) على قلوبهم ) أي فلم يؤمنوا ولم يفهموا فهم الانتفاع لأن مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك .
ولما كان التقدير : إنهم ضلوا حتى صاروا كالبهائم ، عطف عليه ما هو من أفعال البهائم فقال : ( واتبعوا ) أي بغاية جهدهم ) أهواءهم ) أي مجانبين لوازع العقل وناهي المروءة ، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع الحطام ، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية ( مثل الجنة ) بأنهم زين لهم سوء أعمالهم .
ولما ذكر ما هم عليه وشنع عليهم أقبح الذكر ، ذكر الذين آتاهم العلم فقال : ( والذين اهتدوا ) أي اجتهدوا باستماعهم منك في مطاوعة داعي الفطرة الأولى إلى الوقوع على الهدى بالصدق في الإيمان والتسليموالإذعان بأنواع المجاهدات ) زادهم ) أي الله الذي طبع على قلوب الجهلة ) هدى ( بأن شرح صدورهم ونورها بأنوار المشاهدات فصارت أوعية للحكمة ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ) ) وآتاهم تقواهم ) أي بين لهم ما هو أهل لأن يحذر ووفقهم لاجتنابه مخالفة للهوى ، فهم القسم الأول من آية توطئة المثل ) الذين هم على بينة من ربهم ( ومعنى الإضافة أنه آتى كلاًّ منهم منها بحسب ما يقتضيه حاله ، قال ابن برجان : التقوى عمل الإيمان كما ان أعمال الجوارح عمل الإسلام - انتهى .
محمد : ( 18 - 19 ) فهل ينظرون إلا. .. . .
) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( ( )
ولما كان أشد ما يتقى القيامة التي هم بها مكذبون ، سبب عن اتباعهم الهوى قوله تعالى : ( فهل ينظرون ) أي ينتظرون ، ولكنه جرده إشارة إلى شدة قربها ) إلا الساعة ( ولما كان كأنه قيل : ما ينتظرون من أمرها ؟ أبدل منها قوله : ( أن تأتيهم ) أي تقوم عليهم ، وعبر بالإتيان زيادة في التخويف ) بغتة ) أي فجاءة من غير شعور بها ولا استعداد لها .(7/163)
صفحة رقم 164
ولما دل ذلك على مزيد القرب ، وكان مجيء علامات الشيء أجل على قربه مع الدلالة على عظمته ، قال معللاً للبغتة : ( فقد ( ودل على القوة بتذكير الفعل فقال : ( جاء أشراطها ) أي علاماتها المنذرات بها من مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها وغير ذلك ، وما بعد مقدمات الشيء إلا حضوره .
ولما كان المجيء من أهوالها تذكرها قبل حلولها للعمل بما يقتضيه التذكر ، وكانت إذا جاءت شاغلة عن كل شيء ، سبب عن مجيئها قوله تعالى : ( فأنّى ) أي فكيف ومن أين ) لهم إذا جاءتهم ) أي الساعة وأشراطها المعينة لها مثل طلوع الشمس من مغربها ) ذكراهم ( لأنهم في أشغل الشغل ولو فرغوا لما تذكروا فعملوا ما أفاد لفوات وقت الأعمال وشرطها ، وهو العمل على الإيمان بالغيب ، وهكذا ساعة الإنسان التي تخصه وهي موته وأشراطها الجاثة على الذكرى وهو المرض والشيب ونحو ذلك ، ومن أشراطها المعينة لها التي لا ينفع معها العمل الوصول إلى حد الغرغرة .
ولما علم بذلك أن الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها ، سبب عنه أمر أعظم الخلق وأشرفهم وأرقاهم وأجملهم ( صلى الله عليه وسلم ) تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال تعالى : ( فاعلم أنه ) أي الشأن الأعظم الذي ) لا إله إلا الله ) أي انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما تكون عالماً إذا كان نافعاً وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه وإلا فهو جهل صرف ، وهذا العلم يفيد أنه لا بد من قيام الساعة لأن الإله وعد بذلك وهو متصف بالكمال ولا شريك له يمنعه من إنجاز وعده .
قال القشيري : والبعد يعلم أولاً ربه بدليل وبحجة فعلمه بنفسه ضروري وهذا هو أصل الأصول ، وعليه بني كل علم استدلالي ، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وكثرة الحجج وتناقص علمه بنفسه بغلبات ذكره لله بقلبه ، فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضرورياً ويقل إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال وكأنه غافل عن نفسه أو ناس لنفسه ، ويقال : الذي رأى البحر غلب عليه ما يأخذه في الرؤية للبحر عن ذكر نفسه فإذا ركب البحر قوي هذا الحال ، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو(7/164)
صفحة رقم 165
مستغرق فيه ومستهلك ، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله سبحانه وتعالى والشفع الذي هو الخلق أنشأه تعالى أزواجاً ، ومنها حرف لساني وحرفان حلقيان : الهاء والألف ، غير أن الألف عبر عنها بمظهرها وهو الهمزة ظاهراً مرتين وخفياً في أداة التعريف في الابتداء مرة ، وذكرت بلفظها أربع مرات ، فتلك سبع هي أتم العدد لذلك وبني الخلق عليه ، فالسماوات سبع والأراضي كذلك سبع إشارة إلى أن الإله الحق الذي هو غيب محض إنما علم بالتنزيل بأفعاله ، فهي وصلة إلى معرفته وهي منقسمة إلى علوي وسفلي كما أن الألف التي هي كالغيب لأنها لا يمكن النطق بها ابتداء نزلت في مظهر الهمزة التي تكررت في هذه الكلمة مرتين في مقابلة الكونين العلوي والسفلي وبينهما ما لا نعلمه مما خفي عنا كما خفيت همزة الوصل .
وعبر في الأمر بهذه الكلمة بالعلم إعلاماً بأن عمل القلب بها هو العمدة العظمى لكن لما كانت حروفها حلقياً ولسانياً كان في ذلك إشارة إلى أنه لا يكفي في أمرها إلا إذعان الباطن ومطابقة الظاهر الذي هو اللسان ، فهو ترجمان القلب ، ومتى لم يطابق اللسان القلب حيث لا مانع كان صاحبه من أهل آية الصافات وأحرفها اللفظية أربعة عشر حرفاً على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض والمقصود منها مسمى الجلالة الذي هو الإله الحق سبحانه وتعالى وجلاله الدالة عليه خمسة أحرف على عدة دعائم الإسلام الخمس : ووتريته دلالة على التوحيد ، ولم يجعل فيها شيئاً شفهياً لتمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله وأقرب موصل إليه مع الإخلاص ، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ولا يعلم جليسه بذلك أصلاً ، لأن غيرك لا يعلم ما في وراء شفتيك إلا بإعلامك ، وكما دل الكلام على التوحدي بهذه الكلمة صريحاً دل على كلمة الرسالة التي لا ينفع التوحيد إلا بها تلويحاً بتسيمة السورة ( سورة محمد ) ، فهي القتال لأنه أمر ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقاتل الناس حتى يصرحا بما صرحت به السورة من كلمة التوحيد ، وهي سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له بالرسالة ، وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق ، وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطاً كانت اثني عشرة حرفاً على عدد أجزاء السنة يكفر كل حرف منها شهراً ، وإن نظرنا إليها نطقاً كانت أربعة عشر حرفاً لملأ الخافقين نوراً وعظمة ومهابة وجلالة واحتشاماً ، وإن نظرنا إليها بالنظرين معاً كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش خالق الكونين موقف ، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى ، فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل إيمانه ، وقدمت هذه السورة في هذا سابقة لأن لها السبق(7/165)
صفحة رقم 166
وذكرت الأخرى في الفتح تالية ، وسميت سورة هذه بالقتال وسورة الكلمة المحمدية بالفتح إشارة إلى أشارة إلى أنه ما قاتل أحد عليهما مع الإخلاص إلا فتح عليه ولا يقدر أحد على مخالفته مع مناصبته إلا نفاقاً على وجه الذل والاضطراب .
ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجباً للإجابة كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الترمذي وأبي يعلى ( ما من مؤمن يدعو الله بدعوة إلا استجيب له ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم ) الحديث ، قال معلماً أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ليحصل التعاون على ما خلق العباد له ، ) واستغفر ) أي اطلب الغفران من الله بعد العلم بأنه لا كفوء له بالدعاء له وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة ) لذنبك ( ، وهو كل مقام عال ارتفعت عنه إلى أعلى منه ، وأوجده أنت من نفسك من أساء إليك لتكثر أبتاعك ، فإن الاستقامة مهيئة للإمامة .
ولما كان تكميل النفس مرقياً إلى تكميل الغير ليكون له مثل أجره ، قال تعالى مبيناً لهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة معيداً للجار معبراً بالإيمان والوصف إيذاناً بأن أعلى الأمة محتاج إلى ذلك ، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، وهذا مشرفاً لهذه الأمة حيث أمر الشفيع المجاب الدعوة بالاستغفار لهم وهو بالدعاء والحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة ، حاذفاً المضاف إشارة إلى الاحتياج إلى المغفرة في كل حال لما للإنسان من النقصان بالخطأ والنسيان : ( وللمؤمنين والمؤمنات ) أي الراسخين في الإيمان لأنهم أحق الناس بذلك منك لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره ، ولا يخلو أحد منهم من تقصير في المعارف الإلهية والعمل بموجبها أو هفوة .
ولما كان معرفة من ينذب ومن لا يذنب متوقفة على إحاطة العلم ، قال عاطفاً على ما تقديره : فالله يعلم حركاتكم وسكناتكم سراً وجهراً ويعلم أنكم لا بد أن تعملوا بغسل الذنوب ، بالروجع لى طاعة علام الغيوب ) والله ( المحيط بجميع صفات الكمال ) يعلم متقلبكم ) أي تقلبكم ومكانه وزمانه ) والله ( المحيط بجميع صفات وقراره للراحة وكل ما يقع فيه من الثواء في وقته في الدنيا والآخرة من حين كونكم نطفاً إلى ما لا آخر له .
محمد : ( 20 - 22 ) ويقول الذين آمنوا. .. . .
) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ(7/166)
صفحة رقم 167
رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ) 73
( ) 71
ولما كان دليل على إحاطة العلم ، علم ما أبطنه الإنسان ولا سيما إن كان مخالفاً لما أظهره ، قال دالاً على إحاطة علمه بإظهار أسرار المنافقين عاطفاً على ) ومنهم من يستمع إليك ( : ( ويقول ( على سبيل التجيد المستمر ) الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك بألسنتهم وفيهم الصادق والمنافق دالين على صدقهم في إيمانهم بالتحريض على طلب الخير بتجد الوحي الذي هو الروح الحقيقي : ( ولا نزلت ( على سبيل التدريج ، وبناه للمفعول دالة على إظهار أنهم صاروا في صدقهم في الإيمان اعتقادهم أن التنزيل لا يكون إلا من الله بحيث لا يحتاجون إلى التصريح به ) سورة ) أي سورة كانت لنسر بسماعها نتعبد بتلاوتها ونعمل بما فيها كائناً ما كان ، ويستمر الوحي فينا متجدداً مع تجدد الزمان ليكون ذلك اأنشط لنا وأدخل في تحريك عزائمنا ) فإذا أنزلت سورة ) أي قطعة من القرآن تكامل نزولها كلها تدريجاً أو جملة ، وزادت على مطلوبهم بالحس بأنها ) محكمة ) أي مبينة لا يلبس شيء منها بنوع إجمال ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان ) وذكر فيها القتال ( بأيّ ذكر كان ، والواقع أنه لا يكون إلا ذكراً مبيناً أنه لا يزداد إلا وجوباً وتأكداً حتى تضع الحرب أوزارها ، قال البغوي : وكل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين .
وهو مروي عن قتادة ) رأيت ) أي بالعين والقلب ) الذين في قلبوهم مرض ) أي ضعف في الدين أو نفاق من الذين أقروا بالإيمان وطلبوا تنزيل القرآن وكانوا قد أقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن أمرتهم ليخرجن ) ينظرون إليك ( كراهة لما نزل عليك بعد أن حرضوا على طلبه ) نظر المغشي عليه ( ولما كان للغشي أسبباب ، بين أن هذا أشدها فقال تعالى : ( من الموت ( الذي هو نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه بل هو شاخص لا يطرف كراهة للقتال من الجبن والخور .
ولما كان هذا أمراً منابذاً للإنسانية لأنه مباعد للدين والمروءة ، سبب عنه أعلى التهيديد فقال متوعداً لهم بصورة الدعاء بأن يليهم المكروه : ( فأولى ) أي أشد ميل وويل وانتكاس وعثار موضع لهم في الهلكة كائن ) لهم ) أي خاص بهم ، وفسرته بذلك لما تقدم في آخر الأنفال من أن مادة ( ولى ) تدور على الميل ، فإذا كانت على صيغة أفعل التفضيل - وهو قول الأكثر - جاءت الشدة ، قال الأصمعي : إنه فعل ماضٍ أي قاربهم ما يهلكهم وأولاجهم الله الهلاك ، وقال الرضي في باب المعرفة والنكرة : إنه علم للوعيد(7/167)
صفحة رقم 168
وفيه وزن الفعل فلذا منع من الصرف ، وليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فلاً ولا اسم فعل لأن أبا زيد حكى لحاق تاء التأنيث له فقالوا : أولاة الآن - كأرملة وهو من وله الشر أي قرنه حال ، وقبوله للتاء لا يضر الوزن ، لأن ذلك في علم آخر .
ولما علم بما ذكر من التسبب أن هذا الدعاء عليهم لما تقدم من سوء أدبهم في مقالهم ، وقبح ما ظهر من فعالهم ، حصل التوشوف إلى ما ينبغي لهم ، فقال تعالى على طريق النشر المشوش : ( طاعة ) أي منهم ) وقول معروف ) أي بالتسليم والإذعان وحسن الانقياد خير لهم مما أظهروا من المحبة في الطاعة وما كشف حالهم عنه من الكراهة ، ونكر الاسمين ليكونا صالحين للتعظيم وما دونه ، ثم سبب عنهما قوله مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام : ( فإذا عزم الأمر ) أي فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أول السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به معزوماً عليه ) فلو صدقوا الله ) أي الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل ) لكان ( صدقهم له ) خيراً لهم ) أي من تعللهم وتسللهم عنه لواذاً على تقدير التنزيل في تسليم أن في جماحهم عن الأمر وتقاعدهم عنه نوع خير ، ويجوز أن يكون ( خير ) اسماً لا للتفضيل ليفهم أن كذبهم شر لهم .
ولما كان هذا تبكيتاً لهم منأجل فتورهم عن أمر الله ، سبب عن ذكل الفتور بيان ما يحصل منه من عظيم الفساد ويتأثر به من خراب البلاد وشتات العباد في معرض سؤال في أسلوب الخطاب بد التبكيت والتهديد في أسلوب الغيبة تنبيهاً على تناهي الغضب وبلوغه الغاية فقال تعالى : ( فهل عسيتم ) أي فتسبب عن تسرعكم إلى السؤال في أن يأمركم الملك بما يرضيه ، فإذا أجابكم فرحمكم بما يعلم أنه أصلح الأشياء لكم وهو الجهاد كرهتموه ووجهتم منه وقعدتم عنه ان يقال لكم لما يرى منكم من المخايل الدالة لعى ضعف الإيمان : هل يمكن عندكم نوع إمكان وتتوقعون شيئاً من توقع أن يكون حالكم جديراً وخليقاً لتغطية علم العواقب عنكم فتخافون من أنفسكم .
ولما كان المقام لذم الإعراض عن الأمر ، فصل بين ( عسى ) وخبرها بشرطية معبر فيها بالتولي بصيغة التفعل إشارة مع نهاية الذم إلى أن المعرض عن أمر الله معرض عما تدعوه الفطرة الأولى القويمة والعقل السديد إلى حسنه ، فهو لا يعرض عنه إلا بمجاهدة منه لنفسه فقال تعالى : ( إن توليتم ) أي بأنفسكم عن الجهاد الذي أمركم به ربكم الذي عرفكم من فوائده ما لا مزيد عليه مما لا يتركه معه عاقل ولا يتخيل تركه إلا على سبيل الفرض - بما أشارت إليه أداة الشرط - أو حصلت توليتكم بتحصيل محصل أوجبها لكم وزينها في أعينكم حتى فعلتموها ، وهذا المعنى الثاني هو المراد ببنائه للمجهول في(7/168)
صفحة رقم 169
رواية رويس عن يعقوب ) أن تفسدوا ) أي توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجديده منكم ) في الأرض ( بقتال يكرهه الله ويسخطه ويغضب أشد غضب على فاعله وتكونوا في غاية الجرأة عليه ، فإن الذي رحكمك بإنزال ما أنزل حكم بأن من جبن عما يرضيه رغبة في الآخرة اجترأ على ما يسخطه حباً في الدنيا ، وقد كنتم في الجاهلية على ذلك في الغارة من بعضكم على بعض ونحو ذلك ) وتقطعوا ( تقطعياً عظيماً شديداً كثيراً منتشراً كبيراً ) أرحامكم ( فتكونوا بذلك أعزة على المؤمنين كما كنتم أذلة على الكافرين ، وأقل ما في إعراضكم خذلانكم للمؤمنين المجاهدين بما قد يكون سبباً لظهور الكافرين عليهم فتكونوا بذلك قد جمعتم بين قطيعة أرحامهم وفقدكم لما كان يصل إليكم من منافعهم ، فإن كففتم بعدهم عن قتلهم كنتم مع ما فاتكم من خيرهم أجبن الناس وأرضاهم بالار ، وإن تعاطيتم الأخذ بثأرهم كنتم كمن أخذ في فعل ما أمر به بعد فواته وأن له ذلك ، وقد علم من هذا أن من أمر بالمعروف وجاهد أهل المنكر أمن الإفساد في الأرض وقطعية الرحمن ، ومن تركه وقع فيهما ، ويمكن أن يكون ( توليتم ) من ولاية الأمر ، فتكون الآية مشيرة إلى ولاية الفجرة ومنذرة بذلك أن اصنع الأمر بالمعروف ، وقد وقع ذلك وشوهد ما ابتنى عليه من الفساد والقطيعة ، وعزائم الأنكاد وسوء الصنيعة .
محمد : ( 23 - 26 ) أولئك الذين لعنهم. .. . .
) أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( ( )
ولما بين لهم ما يكون ممن تثاقل عن أمر الله ، لأن الملك لا يطرق احتمالاً في شيء إلا وهو واقع فرقاً بين كالمه وكلام غيره ، فكيف بملك الملوك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، بين حالهم الذي أنتج لهم ذلك ، فقال ملتفتاً عنهم إيذاناً بالغضب مخاطباً لمن جبل على الشفقة على خلق الله والرحمة لهم إعلاماً له بأن هؤلاء قد تحتم شقاؤهم فليسوا بأهل للشفاعة فيهم ولا للأسى عليهم : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) الذين لعنهم الله ) أي طردهم أشد الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم ؛ ثم سبب عن لعبهم قوله تعالى : ( فأصمهم ( عن الانتفاع بما يسمعون ) وأعمى أبصارهم ( عن الارتفاق بما يبصرون ، فليس سماعهم سماع ادكار ، ولا إبصارهم إبصار اعتبار ، فلا سماع لهم ولا إبصار .(7/169)
صفحة رقم 170
ولما أخبر بذلك فكان ربما سأل من لا يعي الكلام حق وعيه عن السبب الموجب للعن المسبب للصم والعمى ، أجابه بقوله منكراً موبخاً مظهراً لتاء التفعل إشارة إلى أن المأمور به صرف جميع الهمة ليهتدوا إلى كل خير ) القرآن ( بأن يجهدوا أنفسهم في أن الأرحام والإخلاص لله في لزوم كل طاعة والبراءة من كل معصية مثل الأمر بالمعرف من الجهاد بالسيف وما دونه ، وربما دل إظهار التاء على أن ذلك من أظهر ما في القرآن من المعاني ، فلا يحتاج في العثور عليه إلى كبير تدبر - والله أعلم .
ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً ، فهو لكونه داخلاً على النفي نفي له فصار إثباتاً ، فكان كأنه قيل : هل يجدوون التدبر تجديداً مستمراً لترق قلوبهم به وتنير بصائرهم له ، فيكفوا عن الإفساد والتقطيع ، عادله بقوله مشبهاً للقلوب بالصناديق دالاً على ذلك التشبيه بذكر ما هو مختص بالصناديق من الأقفال : ( أم على قلوب ( من قلوب الغافلين لذلك ، ونكرها لتبعيضها وتحقيرها بتعظيم قسوتها ) أقفالها ) أي الحقيقة بها الجديرة بأن تضاف إليها ، فهي لذلك لا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ولا تزداد إلا غباوة وعناداً ، لأنها لا تقدر على التدبر ، قال القشيري : فلا تدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، فلا يحصل لهم فهم الخطاب ، والباب إذا كان مقفلاً فكما لا يدخل فيه شيء فلا يخرج ما فيه ، فلا كفرهم يخرج ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل - انتهى .
والإضافة تشعر بأن بعض المتولين على قلوبهم أقفال ، لكن ليست متمكنة فيها ، فهو سبحانه يفتحها بالتوبة عليهم إذا أراد ، وأما الأولون فلا صلاحية لهم ، وفي هذه الآية أعظم حاث على قبول أوامر الله لا سيما الجهاد في سبيله وأشد زاجر عن الإعراض عنه لأن حاصلها أنه لعن من أعرض عنه لكونه لا يتدبر القرآن مع وضوحه ويسره ليعلم فوائد الجهاد الداعية إليه المحببة فيه ، فكان كأن قلبه مقفل ، والآية من الاحتباك : ذكر التدبر أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والأقفال ثانياً دليلاً على ضدها أولاً ، وسره أنه ذكر نتيجة الخير الكافلة بالسعادة أولاً وسبب الشر الجامع للشقاوة ثانياً .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأقفال قلوبهم ، بين منشأ ذلك ، فقال مؤكداً تنبهاً لمن لا يهتم بهعلى أنه مما ينبغي الاهتمام بالنظر فيه ليخلص الإنسان نفسه منه ، وتكذيباً لمن يقال : إن ذلك حسن : ( إن الذين ارتدوا ) أي عالجوا نفوسهم في منازعة الفطرة الأولى في الرجوع عن الإسلام ، وهو المراد بقوله : ( على أدبارهم ) أي من أهل(7/170)
صفحة رقم 171
الكتاب وغيرهم ، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها ، فوقعوا في الضلال فكفروا .
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة ، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل ، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت ، أثبت الجار فقال : ( من بعد ما تبين ( غاية البيان الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور ) لهم ( بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين ) الهدى ) أي الذي أتاهم به رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير ، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى : ( الشيطان ) أي المتحرق باللعنة البعيد من الرحمة ) سول ) أي حسن ) لهم ( بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل ، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل ، بعد أن زين لهم سوء العمل ، بتمكين الله له منهم ، وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى ) وأملى لهم ) أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام ، وأما على قراءة البصريين بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي - أي الممهل - لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم ، وتسهيل الأماني والحلم ، عن المعاجلة بالنقم ، حتى اغتروا ، وهي أيضاً موافقة لقوله تعالى
77 ( ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ( ) 7
[ القلم : 45 ] ، وأما في قراءة أبي عمرو بفتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول ، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم .
ولما بين تسليطه الشيطان عليهم ، بين سببه فقال : ( ذلك ) أي الأمر البعيد من الخير وما دل عليه صريح العقل ) بأنهم ) أي بسبب أن هؤلاء المتولين ) قالوا للذين كرهوا ما ) أي جميع ما ) نزل الله ) أي الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع تنزيلاً فيه إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها مع السهولة في النطق والعذوبة في السمع والملاءمة للطبع كما يشهد به كل ذوق من الأغبياء والأذكياء على تباينهم في مراتب الغباوة والذكاء ، وإعجاز آمخر لهم في رصانة المعنى وحمته ، وثالث في مطابقته للحال الذي اقتضى نزوله مطابقة يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها ، ورابع بنظمه مع ما نزل قبله من الآيات ، لا على ترتيب النزول ، بل على ما اقتضته الحكمة التي تتضاءل دونها الأفكار ، وتولى خاسئة من جلالتها على الأدبار ، بصائر أولي(7/171)
صفحة رقم 172
الأبصار ، وهؤلاء المقول لهم هذا الكلام هم - والله أعلم - المصارحون بالكفر ، قالوا لهم بعد هذه الأدلة من الإعجازات ، وما تقدمها من الآيات البينات الواضحات : ( سنطيعكم ( بوعد صادق لا خلق فيه ) في بعض الأمر ( وهو القتال في سبيل الله الذي تقدم أنهم عند نزول سورة يذكر بها يصيرون كالذي يغشى عليه من الموت ، فأنتم في أمان من أن نقاتلكم أبداً ، فإنا إنما أسلمنا للأمان على دمائنا وأموالنا ، والذي نحبه مما ينزل هو التأمين لمن أقر بكلمة الإسلام والقناعة منه بالظاهر والوعد العام بالتبسط في البلاد والتوسعة فيالأرزاق ونحو ذلك ، فكانوا بذلك كفرة فإن الدين لا يتجزأ ، فمن أضع من أًوله شيئاً فقد أضاعه كله ، والتقييد بالبعض يفهم أنهم لا يطيعونهم في البعض الآخر ، وهو إظهار الإسلام والتصور بصورة المسالمة ، وذلك كله بأن الله تعالى جبلهم جبلة هيأهمفيها لمثل هذا ، فلما قالوه مضيعين لما من عليهم من غريزة العقل استحقوا في مجاري عاداتنا لاختيارهم طاعة العدو - مع تعييب علم العواقب عنهم - أن يخذلوا ويسلط عليهم ليكون أخذهم في الظاهر ممن أطاعوه في الباطن ، ولو أنهم استمسكوا بدينهم وكانوا مع أهله يداً على من سواهم لم يقدر عليهم عدو ، ولا طرقتهم طارقة يكرهونها سوء .
ولما كان من له أدنى عقل لا يخون إلا إذا ظن أن خيانته تخفي ليأمن عاقبتها ، صور قباحة ما ارتكبوه فقال : ( والله ) أي قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة ) يعلم ( على مر الأوقات ) إسرارهم ) أي كلها هذا الذي أفشاه عليهم وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم ، ولعلهم لم يعلموه هم فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها ألسنتهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات .
محمد : ( 27 - 30 ) فكيف إذا توفتهم. .. . .
) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( ( )
ولما بين تعالى إحاطة علمه بهم ، أتبعه إحاطة قدرته فقال تعالى مسبباً عن خيانتهم وهم في القبضة بما لا يخفى مما يريدون به صيانة أنفسهم عن القتل معبراً بالاستفهام تنبيهاً على أن حالهم ممايجازون به على هذا الاستحقاق له من البشاعة والقباحة والفظاعة ما يحق السؤال عنه لأجله فقال : ( فكيف ) أي حالهم ) إذا توفتهم الملائكة ) أي قبضت رسلنا وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة ، فجازتها إلى دار الجزاء(7/172)
صفحة رقم 173
مقطوعة عن جميع أسبابهم وأنسابهم فلم ينفعهم تقاعدهم عن الجهاد في تأخير آجالهم ، وصور حالهم وقت توفيهم فقال : ( يضربون ) أي يتابعون في حال التوفية ضربهم ) وجوههم ( التي هي أشرف جوارحهم التي جنبوا عن الحرب صيانة لها عن ضرب الكفار .
ولما كان حالهم في جبنه مقتضياً لضرب الأقفاء ، صوره بأشنع صوره فقال : ( وإدبارهم ( التي ضربها أدل ما يكون على هوان المضروب وسفالته ثم تتصل بعد ذلك آلآمهم وعذابه وهوانهم إلى ما لا آخر له .
ولما كان كفران النعيم يوجب مع إحلال النعم إبطال ما تقدم من الخدم قال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الإهانة من فعل رسلنا بهم ) بأنهم اتبعوا ) أي عالجوا فطرهم الأولى في أن تبعوا عناداً منهم ) ما أسخط الله ) أي الملك الأعظم وهو العمل بمعاصيه من موالاة أعدائه ومناواة أوليائه وغير ذلك .
ولما كان فعل ما يسخط قد يكون مع الغفلة عن أنه يسخط ، بين أنهم ليسوا كذلك فقال تعالى : ( وكرهوا ) أي بالإشراك ) رضوانه ( بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان ، فهم لما دونه بالقعود عن سائر الطاعات أكره ، لأن ذلك ظاهر غاية الظهور في أنه مسخط ففاعله مع ذلك غير معذور في ترك النظر فيه ) فأحبط ) أي فلذلك تسبب عنه أنه أفسد ) أعمالهم ( الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق من قرى الضيف والأخذ بيد الضعيف والصدقة والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق .
ولما صور سبحانه ما أثرته خيانتهم بأقبح صوره ، فبان به أنه ما حملهم على ما فعلوه إلا جهلهم وسفاهتهم ، فأنتج إهانتهم بالتبكيت فقال عاطفاً على ما تقديره : أعلموا حين قالوا ما يسخطنا أنا نعلم سرهم ونجواهم ، وإن قدرتنا محيطة بهم ليكونوا قد وطنوا أنفسهم على أنا نظهر للناس ما يكتمونه نأخذهم أخذاً وبيلاً فيكونوا أجهل الجهلة : ( أم ( حسبوا لضعف عقولهم - بما أفهمه التعبير بالحسبان - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبر بما دل على الآفة التي أدتهم إلى ذلك فقال تعالى : ( حسب الذين في قلوبهم ( التي إذا فسدت فسد جميع أجسادهم ) مرض ) أي آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات بما دل عليه التأكيد في قوله سبحانه وتعالى : ( أن لن يخرج الله ) أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين رضوان الله عليهم على سبيل التجديد والاستمرار ) أضغانهم ) أي ميلهم وما يبطنونه في دواخل أكشحهم من اعوجاجهم الدال على أحقادهم ، وهي أنهم كاتمون عداوة في قلوبهم مصرون عليهم يترقبون الدوائر لانتهاز فرصتها ، ليس الأمر كما توهموا بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم .(7/173)
صفحة رقم 174
ولما علم من ذلك إحاطة علمه سبحانه وتعالى وشمول قدرته علم ما له سبحانه من باهر العظمة وقاهر العزة ، فنقل الكلام إلى أسلوبها تنبيهاً على ذلك عاطفاً على ما تقديره : خابت ظنونهم وفالت آراؤهم فلنخرجن ما يبالغون في تسره حتى لا ندع منه شيئاً يريدون إخفاءه إلا كشفناه وأبديناه للناس وأوضحناه ، فإنا نعلمهم ونعلم ذلك منهم من قبل أن نخلقهم ، فلو نشاء لفضحناهم حتى يعرفهم الناس أجمعون ، فلا يخفى منهم أحد على أحد منهم فقال تعالى : ( ولو ( ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو ) نشاء ) أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده .
ولما كانوا لشدة جهلهم لا يتصورون أن سائرهم كلها معلومة مقدور على أن يعلمها بشر مثلهم ، أكد قوله : ( لأريناكهم ) أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم ) فلعرفتهم ) أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك ) بسيماهم ) أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه ، ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن .
ولما انقضى ما علق بالمشيئة مما كان ممكناً له في الماضي وغيره ، عطف عليه ما يجزه له مما كشف منأمرهم في المستقبل فقال مؤكداً لاستبعاد من يستبعد ذلك منهم أو ممن شاركهم في مرض القلب من غيرهم فقال في جواب قسم محذوف دل عليه باللام : ( ولتعرفنهم ) أي بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم ) في لحن القول ) أي الصادر منهم ، ولحنه فحواه أي معناه ومذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما ( يؤول إليه ) أمره مما يخفى على غيرك ، وقال ابن برجان : هو ما تنحوا إليه بلسانك أي تميل إليه ليفطن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك ، وعلىالقول بالتحقيق فلحن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك ، وعلى القول بالتحقيق فلحن القول ما يبدوا من غرض الكلام وخفيات الخطاب وسياق اللفظ وهيئة السحنة حال القول وإن لم يرد المتكلم أن يظهره ولكنه على الأغلب يغلبه حالاً ، فلا يقدر على كل كتمه وإن كان في تكليمه معتمداً على ذلك ، وحقيقته حال يلوح عن السر وإظهار كلام الباطن يكاد يناقض كلام اللسان بحال خفية ومعان يقف عليها باطن التخاطب وقال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا واللحن يعرفه ذوو الألباب
وقال آخر :
عيناك قد دلتا عيناي منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها
وقال أبو حيان : كانوا اصطلحوا على الفاظ يخاطبون بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مما ظاهره(7/174)
صفحة رقم 175
حسن ويعنون به القبيح ، وقال الأصبهاني : وقيل للمخطىء : لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب : وقال البغوي : للحن وجهان : صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب لحن يلحن لحناً فهو لحن - إذا فطن للشيء ، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن ، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته ، قال : فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا عرفه ، وقال الثعلبي : وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في غزوة وفيها سبعة من المنافقين يشكرهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا على جبهة كل واحد منهم مكتوب ( هذا منافق ) ومثل ابن عباس رضي الله عنهم بقوله : ( ما لنا إن أطعنا من الثواب ) قال : ولا يقولون : ما لنا إن عصينا من العقاب .
ولما أخبر سبحانه أنه يعلم ظواهرهم وبواطنهم ، وأنه يجليهم لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في صور ما يخفونه من أقوالهم ، وأكد ذلك لعلمه بشكهم فيه ، واجههم بالتبكيت زيادة في إهانتهم عاماً لغيرهم إعلاماً بأنه محيط بالكل فقال عاطفاً على ما تقديره : فالله يعلم أقولكم : ( والله ) أي مما له من صفات الكمال ) يعلم أعمالكم ( كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها ، علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك .
محمد : ( 31 - 33 ) ولنبلونكم حتى نعلم. .. . .
) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( ( )
ولما أخبر سبحانه أنه يعرفهم لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أتبعه الإخبار بأنه يعرفهم لكافة المؤمنين أيضاً ، فقال مؤكداً لأجل ظنهم أن عندهم من الملكة الشديدة والعقل الرصين ما يخفون به أمورهم : ( ولنبلونكم ) أي نعاملكم معاملة المبتلى بأن تخالطكم بما لنا من صفات العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس النواهي الكريهة إليها والمصاب ، خلطة مميلة محيلة ، وهكذا التقدير في الفعلين الآتيين في قراءة الجماعة بالنون جرياً على الأسلوب الأول ، وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالياء الضمير لله تعالى الذي هو محيط بصفات العظمة الراجعة إلى القهر وغيرها من صفات الإكرام الآئلة إلى الإنعام ، فهو في غاية الموافقة لقراءة النون ) حتى نعلم ( بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا تعلمه علماً غيبياً فنستخرج من سرائركم ما كوناه فيكم وجبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد(7/175)
صفحة رقم 176
منكم بل ولا تعلمونه أنتم حق علمه ) المجاهدين منكم ( في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك .
ولما كان عماد الجهاد الصبر على المكاره قال تأكيداً لأمره : ( والصابرين ) أي على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد ، قال القشيري : فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال ، فيظهر المخلص ويتضح المماذق وينكشف المنافق .
ولما نصب معياراً للعلم بالذوات ، أتبعه مسباراً للمعرفة للأخيار ، فقال عاطفاً على ( نعلم ) في رواية الجماعة وعلى ( نبلو ) في الرواية عن يعقوب بإسكان الواو : ( ونبلوا أخباركم ) أي نخالطها بأن نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحاً مليحاً ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان ، فإن العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أن ذلك إحسان من الله إليه فيستحيي منه ويرجع إليه ، وإذا سمى حسنه باسم القبيح واشتهر به علم أن ذلك لطف من الله به كيلا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه ، والعامل للشيطان يزداد في القبائح .
لأن شهرته عند الناس محط نظره ، ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخبر ولم يؤكد بنا ، وفي قراءة يعقوب إشارة إلى أن إحالة حال المخبر بعد ظهور خبره أسهل من إحالته قبل ظهوره ، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا وفضحتنا .
ولما جرت العادة بأن الإنسان لا يعذب ولا يهدد إلى من ضره كما تقدم من الإخبار بنكالهم وقبيح أعمالهم مهيئاً للسؤال عن ذلك فاستأنف قوله مؤكداً لظنهم أنهم هم الغالبون لحزب الله : ( إن الذين كفروا ) أي غطوا من دلت عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول المؤيد بواضح المعجزات ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصدوا ) أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم ) عن سبيل الله ) أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم .
ولمنا كان أكثر السياق للمساترين بكفرهم ، أدغم في قوله : ( وشاقوا الرسول ) أي الكامل في الرسلية المعروفة غاية المعرفة .
ولما كان سبحانه قد عفا عن إهمال الدليل العقلي على الوحدانية قبل الإرسال ، قال مثبتاً الجار إعلاماً بأناه لايغفر لمضيعه بعد الإرسال ولو في أدنى وقت : ( من بعد ما تبين ) أي غاية التبين بالمعجز ) لهم الهدى ( بحث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج بما أظهره الرسول من الخوارق إلى مبين ، ومنه ما أخبرت به الكتب القديمة الإليهة .
ولما كان المناصب للرسول إنما ناصب من أرسله ، دل على ذلك بقوله معرياً له من الفاء دلالة على عدم التسبيب بمعنى أن عدم هذا الضر موجود عملوا أو لم يعملوا وجدوا أو لم يوجدوا ) لن يضروا الله ) أي ملك الملوك ، ولم يقل : الرسول ) شيئاً ) أي كثيراً ولا قليلاً من ضرر بما تجمعوا عليه من الكفر والصد .(7/176)
صفحة رقم 177
ولما كان التقدير : إنما ضروا أنفسهم ناجزاً بأنهم أتعبوها مما لم يغن عنهم شيئاً .
عطف عليه : ( وسيحبط ) أي يفسد فيبطل بوعد لا خلق فيه ) أعمالهم ( من المحاسن لبنائها من المنافق على غير أساس ثابت ، فهو إنما يرائي بها ، ومن المجاهر على غير أساس أصلاً ، فلا ينفعهم شيء منها ، ومن المكائد التي يريدون بها توهين الإسلام ونجعل تدميرهم بها في تدبيرهم وإن تناهوا في إحكامها ، فلا تثمر لهم إلا عكس مرادهم سواء .
ولما حدى ما تقدم كله من ترغيب المخلص وترهيب المتردد والمبطل إلى الإخلاص ودعا إلى ذلك مع بيان أنه لا غرض أصلاً ، وإنما هو رحمة ولطف وإحسان ومنّ ، أنتج قوله منادياً من احتاج إلى النداء من نوع بعد لاحتياجه إلى ذلك وعدم مبدرته قبله : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بألسنتهم ) أطيبعوا الله ) أي الملك الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعته بشدة الاجتهاد فيها أنها خالصة ، وعظم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإفراده فقال تعالى : ( وأطيعوا الرسول ( لأن طاعته من طاعة الذي أرسله ، فإذا فعلتم ذلك حققتم أنفسكم وأعمالكم كما مضى أول السورة ، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر ليكمل العمل صورة وروحاً .
ولما كانت الاطاعة قد تحمل على إقامة الصورة الظاهرة ، قال منبهاً على الإخلاص لتكمل حساً ومعنى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) أي بمعصيتهما ، فإن الأعمال الصالحة بلا معنى ، فهي مما يكون هباء منثوراً مثل ما فعل أولئك المظهرون للإيمان المبطنون للمشاققة بالنفاق والرياء والعجب والملء والأذى ونحو ذلك من المعاصي ، ولكن السياق بسياقه ولحاقه يدل على أن الكفر هو المراد الأعظم بذلك ، والآية من الاحتباك : ذكر الطاعة أولاً دليلاً على المعصية ثانياً ، والإبطال ثانياً دليلاً على الصحة أولاً ، وسره أنه أمر بمبدأ السعادة ونهى عن نهاية الفساد ثانياً ، لأنه أعظم في النهي عن الفساد لما فيه من تقبيح صورته وهتك سريرته .
محمد : ( 34 - 36 ) إن الذين كفروا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( ( )
ولما دل ما أخبر به أولاً عن المشاققين على أنهم مغلوبون في الدنيا خاسرون في الآخرة ، وكانت الخسارة في الآخرة مشروطة بشرط ، علل ما أمر به المؤمنون هنا من الطاعة ونهوا عنه من إبطال الأعمال بالمعصية ، زيادة في حثهم على ما أمر به بعلتين كل(7/177)
صفحة رقم 178
منهما مستقل بامتثال أمره واجتناب نهيه : غحدهما عدم المغفرة ، والثانية بطلان الأعمال والأموال بكون الدنيا لا حقيقة لها ، وقدم الأولى لأن الثانية - وهي أن الدنيا لعب - كالعلة الحاصلة على ما أوجبها ، ومن حسن التعليم بيان الحكم ثم تعليله بأقرب ما يحمل عليه أو يصد عنه ، فكأنه قيل : لا تبطلوها بالصد عن سبيل الله الحامل عليه الإقبال على الدنيا التي هي عين الباطل ، فإنكم إن فعلتم ذلك فاتتكم المغفرة ، وذلك من معنى قوله تعالى مؤكداً لإنكارهم مضمونه : ( إن الذين كفروا ) أي أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دله عليه عقله من آيات الله المرئية ثم المسموعة ) وصد وا عن سبيل الله ) أي طريق الملك الأعلى الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراده بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم .
ولما كان هذا أمراً قبيحاً منجهات عديد لما فيه من مخالفة الملك الأعظم المرهوب بطشه المحذورة سطوته ، ومن ترك الواسع إلى الضيق والمستقيم إلى المعوج والموصل إلى الفوز إلى الموصل إلى الخيبة ، فكان التمادي فيه في غاية البعد ، نبه على ذلك بأداة التراخي فقال : ( ثم ماتوا ) أي بعد المدلهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم ) وهم ) أي والحال أنهم ) كفار ( ولما كان السبب الأعظم في الإحباط الموت على الكفر ، نبه عليه بالفاء الدالة على ربط الجزاء بالشرط وتسببه عنه فقال مؤكداً له لإنكارهم ذلك : ( فلن يغفر الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال التي تمنع من تسوية المسيء بالمحسن ) لهم ( فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم ، بل يفضح سرائرهم ويوهن كيدهم ويردهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة ، فمل يبق لهم ما يغفر لهم بسببه ، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أن إحباط العمل في المرتد مشروط بالموت على الكفر .
ولما قدم سبحانه ذم الكفرة وأنه عليهم وأنه يبطل أعمالهم في الدنيا في الحرب وغيرها ، وختم بأن عداوته لهم متحتمة لا انكفاك لها ، وكان ذلك موجباً للاجتراء عليهم ، سبب عنه قوله مرغباً لهم في لزوم الجهاد محذراً من تركه : ( فلا تهنوا ) أي تضعفوا ضعفاً يؤدي بكم إلى الهوان والذل ) وتدعوا ) أي أعداءكم ) إلى السلم ) أي المسالمة وهي الصلح ) وأنتم ) أي والحال أنكم ) الأعلون ( على كل من ناواكم لأن الله عليهم ، ثم عطف على الحال قوله : ( والله ) أي الملك الأعظم الذي لا يعجزة شيء ولا كفوء له ) معكم ) أي بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكرمي إذا كان مع غيره ، ومن علم أن سيده معه وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً ) ولن يتركم أعمالكم ) أي فيسلبكموها فيجعلكم وتراً منها بمعنى أنه يبطلها كما يفعل مع أعدائكم(7/178)
صفحة رقم 179
في إحباط أعمالهم فيصيرون مفردين عنها لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم ، فلا يجوز لإمام المسلمين أن يجيب إلى مسالمة الكفار وبه قوة على مدافعتهم ، ولايحل له ترك الجهاد إلا لمعنى يظهر فيه النظر للمسلمين ، ومتى لم يجاهد في سبيل الله انصرف بأسه إلى المسلمين .
ولما أتم العلة الأولى أقبل على الثانية الصادة عن الطاعة القائدة إلى المعصية الملائمة للشهوة المبطلة للأعمال الموجبة للتهاون المؤدي إلى عدم المغفرة ، فقال مرغباً في طاعته الموجبة للفوز الدائم ببيان قصر أيام المحنة وتجرع مرارات المشقة : ( إنما الحياة ( وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله : ( الدنيا ( ولما كان مطلق العلو موجباً لأعظم اللذاذة فيكيف إذا كان موجبه الدين الضامن لدوام اللذة موصولاً دنيويها بأخرويها ، وكان اللعب ما ينشأ من زيادة البسط وينقضي بسرعة مع دلالته على الخفةكالرقص ، قدمه إشارة إلى أن العاقل من يسعى في زيادة بسط يحمل على الرزانة ويدوم ، وأتبعه اللهو لأنه ما يستجلب به السرور كالغنا إشارة إلى أنه إن كان المراد بالدنيا زيادة بسطها فهو ينقضي بسرعة ، مع ما فيه من الرعونة ، وإن كان المراد أصل البسط والسرور فعندكم منه بالعلو الحاصل لكم بالجهاد ما هو في غاية العظمة والجد والثبات فلا سفه أعظم من العدول عنه إلى ما إن سر حمل على الطيش وانقضى بسرعة ، فقال : ( لعب ) أي أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ويسرع اضمحلاله ، تتبعوها تكفروا وتبطروا وتجترئوا على الله ، وإن تكفرا به وتجترئوا عليه تبطل أجوركم فلا يكون لكمأجر ولا مال لأنه يبطل أعمالكم وأموالكم بكونها تصير صوراً لا معاني لها .
ولما صور سبحانه الدنيا بألذ صورها عند الجاهل وأمضها عند العاقل ، وحاصله أنها زيادة سرور لمن كان مسروراً ، واستجلاب له لمن كان مضروراً ، لكنه سريع الانصرام بخلاف ثمرة الاجتماع على الدين من سرور العلو بالإسلام ، فإنه باق على الدوام ، علم أن التقدير بناء على ما تبع وصف الدنيا ، والآخرة جد وعمل وحضور فإن تقبلوا عليها تؤمنوا وتتقوا فلا تخدعنكم الدنيا على دناءتها عن نيل الآخرة بالجهاد الأكبر والأصغر على شرفها وشرفه ، قال بانياً على ما أرشد السياق إلى تقديره : ( وإن تؤمنوا وتتقوا ) أي تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وقاية من جهاد أعدائه ومقاساة لفح إيقاد الحروب وحر الأمر بالمعروف وإنفاق الأموال في ذلك ، فتكونوا جادين فتتركوا اللهو واللعب القائدين إلى الكفر ) يؤتكم ) أي الله الذي فعلتم ذلك من أجله في(7/179)
صفحة رقم 180
الدار الآخرة ) أجوركم ) أي ثواب كل أعمالكم لبنائها على الأساس ولأنه غني لا ينقصه إلا عطاء ، والآية من الاحتباك : ذكر الحياة الدنيا واللهو واللعب أولاً دال على ذكر الآخرة والجد ثانياً ، وذكر الإيمان والتقوى ثانياً دال على حذف ضدهما الكفران والجرأة أولاً ، وسره ان تصوير الشيء بحال الصبي والسفيه أشد في الزجر عنه عند ذوي الهمم العالية ، وذكر الأجر المرتب على الخوف الذي هو فعل الحزمة أعون على تركه .
ولما كان الملعوب به الملهو منه يسأل اللاعب اللاهي من ماله ، ولا يقنع عند سؤاله ، فيكون سبباً لضياع أعماله وأمواله ، بين أن المعبود بخلاف ذلك في الأمرين ، وأنه يعطي ولا يأخذ لنفسه شيئاً وإنما أخذه أمره بمواصلة بعضكم لبض فقال تعالى : ( ولا يسئلكم ) أي الله في الدنيا ) أموالكم ) أي لنفسه ولا كلها ، وهذا مفهم لأنهم إن لم يتقوا بما ذكر سلط عليه من يأخذ أموالهم بما يخرج أضغانم ، قال ابن برجان : ومتى سئلوا أموالهم بخلوا ، فإن أكرهوا على ذلك أشحنوا ضغائن وحقائد ، ولم يكن من الإمام لهم نصيحة ولا منهم للإمام ولا لبعضهم لبعض ، وكان الخلاف ، وفي ذلك الحالقة ، وهو إنذار منه سبحانه بما يكون بعد ، وما أنذر شيئاً إلا كان منه ما شاء الله .
محمد : ( 37 - 38 ) إن يسألكموها فيحفكم. .. . .
) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( ( )
ولما كان الإنسان ، لما جبل عليه من النقصان ، قد يهلك جميع أمواله لهواً ولعباً بالمقامرة ونحوها ، ولا ينهاه ذلك بل لا يزيده إلا إقبالاً رجاء أن يظفر ، ولو سئل جميع ماله في الطاعة لبخل ، قال تعالى ذاكراً لهم ذلك تنبيهاً عليه وإيماء إلى حلمه تعالى عنهم وتحببه إليه معللاً ما قبله : ( أن يسئلكموها ) أي الأموال كلها ، ولما كانت الأموال قد تطلق على معظمها ، حقق المعنى بقوله : ( فيحفكم ) أي يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك ) تبخلوا ( فلا تعطوا شيئاً ) ويخرج ) أي الله أو المصدر المفهوم من ( تبخلوا ) بذلك السؤال ) أضغانكم ) أي ميلكم عنه حتى يكون آخر ذلك عداوة وحقداً ، وقد دل إضافة الأضغان إلى ضميرهم أن كل إنسان ينطوي بما له من النقصان ، على ما جبل عليه من الإضغان ، إلا من عصم الرحيم الرحمن ، قال الرازي : وهذا دليل على أن العبد إذا منع في مواسم الخيرات سوى الزكاة لم يخرج من البخل ، فحد البخل منع ما يرتضيه الشرع والمروءة فلا بد من مراعاة المروءة ورفع قبح الأحدوثة ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، وقدم المادة مهما ظهر له أن فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك ثم يشق عليه البذل فهو بخيل محب للمال ، والمال لا ينبغي أن(7/180)
صفحة رقم 181
يحب لذاته بل لفائدته ، وحفظ المروءة أعظم وأفضل وأقوى من التنعم بالأكل الكثير مثلاً .
ولما أخبر ببخلهم لو سئلوا جميع أموالهم أو أكثرها ، دل عليه بمن يبخل منهم عما سأله منهم وهو جزء يسير جداً من أموالهم ، فقال منبهاً لهم على حسن تدبيره لهم وعفوه عنهم عند من جعل ( ها ) للتنبيه ، ومن جعل الهاء بدلاً من همزة استفهام جعلها للتوبيخ والتقريع ، لأن من حق من دعاه مولاه أن يبادر للإجابة مسروراً فضلاً أن يبخل ، وفي هاء التنبيه ولا سيما عند من يرى تكررها تأكيد لأجل استبعادهم أن أحداً يبخل عما يأمر الله به سبحانه : ( هأنتم ( وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله : ( هؤلاء تدعون ) أي إلى ربكم اذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر ) لتنفقوا ( شيئاً يسيراً من الزكاة وهي ربع العشر ونحوه ، ومن نفقة الغزو وقد يحصل من الغنيمة أضعافها وقد يحصل من المتجر أو أكثر ، وقد عم ذلك وغيره قوله : ( في سبيل الله ) أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره ، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب .
ولما أخبر بدعائهم ، فصلهم فقال تعالى : ( فمنكم ) أي أيها المدعون ) من يبخل ( وهو منكم لا شك فيه ، وحذف القسم الآخر وهو ( ومنكم من يجود ) لأن المرا الاستدلال على ما قبله من البخل .
ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله : ( ومن ) أي والحال أنه من ) يبخل ( بذلك ) فإنما يبخل ) أي بماله بخلاً صادراً ) عن نفسه ( التي هي منبع الدنايا ، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس ، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له ، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاص يتجاوز بماله عن نفع نفسه ، ولذا حذف ( ومن يجد فإنما يجد على نفسه ) لفهمه عن السياق واستغناء الدليل عنه ، هذا والأحسن أن يكون ( يبخل ) متضمناً ( يمسك ) ثم حذف ( يمسك ) ودل عليه بحال محذوفة دل عليها التعدية بعن .
ولما كان سؤال المال قد يوهم شيئاً ، قال مزيلاً له مقرراً لأن بخل الإنسان إنما هو عن نفسخه عطفاً على ما تقديره : لأن ضرر بخله إنما يعود عليه وهو سبحانه لم يسألكم ذلك لحاجته إليه ولا إلى شيء منكم ، بل لحاجتكم إلى الثواب ، وهو سبحانه قد بنى أمور هذه الدار كما اقتضته الحكمة على الأسباب : ( والله ) أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ) الغني ) أي وحده ) وأنتم ( أيها المكلفون خاصة ) الفقراء ( لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم .
فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع(7/181)
صفحة رقم 182
في الذل والهوان ، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من الأجواد الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه ، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق .
ولما كان التقدير : فإن تقبلوا بنولكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهباً لأن الترهيب أردع : ( وإن تتولوا ) أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم ، ومن الجهاد في سبيله ، والقيام بطاعته ، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره ) يستبدل ) أي يوجد ) قوماً ( فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته .
ولما كان ذلك مفهماً أنهم غيرهم ، لكنه لا يمنع أن يكونوا - مع كونهم غير أعيانهم - من قومهم أو أن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم ، نبه على أنهم يكونون من غير قومهم وعلى غير صفاتهم ، بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلاً فقال تعالى : ( غيركم ) أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي .
ولما كان الناس متقاربين في الجبلات ، وكان المال محبوباً ، كان من المستبعد جداً أن يكو نهذا البذل على غير ما هم عليه ، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب ( غير ) وتثبيتاً له : ( ثم ) أي بعد استبعاد من يستبعد وعلوا الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان : ( لا يكونوا أمثالكم ( في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه ، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام .
بل هو أهون في مجاري العادات ، فقد ثبت أنه سبحانه لو شاء لانتصر من الكفار ، إما بإهلاكهم أو إما بناس غيركم بضرب رقابهم وأسرهم ، وغير ذلك من أمرهم ، وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم أنه أبطل أعمالهم ، فرجع بذلك أول السورة غلى آخرها ، وعانق موصله ما ترى من مفصلها ، وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك الأول أنه سبحانه لا بد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا نصرهم نصراً عزيزاً بما ضمنه قوله تعالى ) إن تنصروا الله ينصركم وثبت أقدامكم ( وإن تتولوا أتى بقوم غيركم يقبلون عليه فيصدقهم وعده ، فصار خذلانهم أمراً متحتماً ، وهو معنى أول سورة محمد - والله الموفق لما يريد من الصواب .
.. .(7/182)
صفحة رقم 183
سورة الفتح
مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما ، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الذين على الدين كله ، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق ابتداؤها ) ليظهر على الدين كله ( ) محمد رسول الله ( إلى قوله ) ليغيظ بهم الكفار ) أي بالفتح الأعظم وما دونه من الفتوحات ) وعد الله الذين آمنوا وعملوةا الصالحات منهم مغفرة ( كما كان في أولهاع للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأجرا عظيما ( كذلك بسائر الفتوحات وما حوت من اللغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء ) بسم الله ( الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلما ) الرحمن ( الذي عم المكلفين بنعمة الوعد والوعيد ) الرحيم ( الذي اختص أهل حزبه لأقامة دينه الحق فأظهرهم على سائر العبيد
الفتح : ( 1 - 4 ) إنا فتحنا لك. .. . .
) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ( )
لما كانت تلك سورة الجهاد وكانت هذه سورة محمد بشارة للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز والنصر والظفر على كل من كفر ، وهذا كما سيأتي من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون ، فأخبرت القتال عن الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالتقال ، وإفساد جميع الأحوال ، وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالهداية وإصلاح البال ، وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام ، وهدد من أعرض باستبدال غيره به ، وإن ذلك البدل لا يتولى عن العدو(7/183)
صفحة رقم 184
ولا ينكل عنه ، فكان ذلك محتماً لسفول الكفر وعلو الإيمان ، وذلك بعينه هو الفتح المبين ، فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا بد منه وأنه مما ينبغي أن يؤكد لابتهاد النفوس الفاضلة به ، وتكذيب من في قلبه مرض وهم أغلب الناس في ذلك الوقت .
) إنا ( إي بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال ) فتحنا ) أي أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان الأٍباب المنتجة له من غير شك ، ولذلك عبر عنه بالماضي .
ولما كانت منفعة ذلك له ( صلى الله عليه وسلم ) كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلىء الأرض من أمنه ، فلا يعمل منهم أحد حسنة إلا كان له مثل أجرها ويكونون على قصر زمنهم ثلثي أهل الجنة ، فيكون ذلك شرفاً له - إلى غير ذلك الأسرار ، التي يعيى دون أيسرها الكفار ، قال : ( لك ) أي بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه ، يصحبان في الرجوع منه إلى المدينة المشرفة ، قال الأزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فرأوا ما لا أعدل منه كثير ، وكذا كان من الفتح تقوية أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالتصديق فيما أنزل عليه من سورة من غلبهم على أهل فارس في رواية من قال : إنه كان في زمن الحديبية ، ثم زاده تأكيداً بقوله : ( فتحاً ( وزاد في إعظامه بقوله : ( مبيناً ) أي لا لبس فيه على أحد ، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك ، وكان عند أهل الكفر أنك في أيديهم ، وأن أمرك لا يعدو فمك ، فتبعك ناسٍ ضعفاء فعذبوهم وكانوا معهم في أسوأ الأحوال ، وتقرر ذلك في إذهانهم مدداً طوالاً ثلاث عشرة سنة ، ثم انقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى النجاشي رحمه الله تعالى أولاً ، وإلى المدينة الشريفة ثانياً ، وهم مطمئنون بأنك أنت - وأنت رأسهم - لا ينتظم لهم بدونك أمر ، ولا يحصل لكسرهم ما لم يتكن معهم جبر ، بأنك في قبضتهم لا خلاص لك أبداً منهم ولا انفكاك من بلدتهم ، فاستخرجك الله من عندهم بعد أن حماك على خلاف القياس وأنت بينهم من أن يقتلوك ، مع اجتهادهم في ذلك واستفراغهم قواهم في أذاك ، ثم بذلوا جهدهم في منعك من الهجرة فما قدروا ، ثم في ردك فما أطاقوا ولا فازوا ولا ظفروا .
بل غلبوا وقهروا ، ثم أيدك بأنصار أبرار أخيار فكنتم على قلتكم كالليوث الكواسر والبحار الزواخر ، ما ملتم على جهة إلا غمرتموها ، وفزتم بالنصف من أربابها قتلتموها أو أسرتموها ولم تزالوا تزدادون وتقوون ، وهم ينقصون ويضعفون ، حتى أتيتموهم في بلادهم التي هم قاطعون بأنهم ملوكها ، يتعذر على غيرهم غلبهم عليها بل(7/184)
صفحة رقم 185
سلوكها ، فما دافعوكم عن دخول عليهم إلا بالراح ، وسألوكم في وضع الحرب للدعة والإصلاح ، فقد ظهرت أعلام الفتح أتم ظهور ، وعلم أرباب القلوب أنه لا بد أن تكون في امتطائكم الذرى وسموكم إلى رتب المعالي وأيّ أمور ، وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه قال : شهدنا الحديبية مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ن فلما انصرفنا منها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقفاً على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع عليه الناس قرأ ) إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( فقال عمر رضي الله عنه : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ، والذي نفسي بيده ) .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات - وقد يغمض بعها - منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى ) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ( الآية ، وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله رإن تنصروا الله ينصركم ( استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حالة العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى ) إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( - الآيات ، فعرف تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بعظيم صنعه له ، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ( - الآيات ، والتحمت إلى التعريف بحال مننكث من مبايعته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وحكم المخلفين من الأعراب ، والحض على الجهاد ، وبيان حال ذوي الأعذار ، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته ) لقد رضي الله عن المؤمنين ( وأثابهم الفتح وأخذ المغانم وبشارتهم بفتح مكة ) لتدخلن المسجد الحرام ( إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمته عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة ، ووجه آخر وهو أنه لما قال الله تعالى في آخر سورة القتال ) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ( كان هذا إجمالاً في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم ، فتضمنت سورة محمد تفسير هذا الإجمال وبسطه ، وهذا يستدعي من بسط الكلام ما لم تعتمده في هذا التعليق ، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول ، ووجه آخر مما يغمض وهو أن قوله تعالى ) وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب ، وقد أشار أيضاً إلى هذا قوله تعالى
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( ) 7
[ المائدة : 54 ] وأشار إلى ذلك عليه الصلاة(7/185)
صفحة رقم 186
والسلام : ( ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ) - وعقد السابة بالإبهام ، أشار عليه الصلاة والسلام إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين ، وإنما أشار عليه الصلاة والسلام بقوله ( اليوم ) إلى التقديم والتأخير ، وفرغ هذا الأمر إلى أيام أبي جعفر المنصور ، فغلبت الفرس والأكراد وأهل الصين وصين الصين - وهو ما يلي يأجوج ومأجوج - وكان فتحاً وعزاً وظهوراً لكلمة الإسلام ، وغلب هؤلاء في الخطط والتدبير الإماري وسادوا غيرهم ، ولهذا جعل ( صلى الله عليه وسلم ) مجيئهم فتحاً فقال : ( فتح اليوم ) ولو أراد غير هذا لم يعبر بفتح ، ألا ترى قول عمر لحذيفة رضي الله عنهما في حديث الفتن حين قال له ( إن بينك وبينها باباً مغلقاً ) فقال عمر : أيفتح ذلك الباب أم يكسر ؟ فقال : بل يكسر .
ففرق بين الفتح والكسر ، وإنما أشار إلى قتل عمر رضي الله عنه ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام ( فتح ) وقال : ( من ردم يأجوج ومأجوج ) وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم ، لأن الفرس ومن أتى معهم هم أهل الجهات التي تلي الردم ، فعلى هذا يكون قوله تعالى : ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ( إشارة إلى غلبة منذكرنا وانتشارهم في الولاياة والخطط الدينية والمناصب العلمية .
ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصاً وخطأ ، بين أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام ، فقال تعالى : ( إنا فتحنا لك فتحاً مبنياً ( الآيات ، ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في تلخيض التلخيض علماء المالكية مشيراً إلى تفاوت درجاتهم ثم قال : وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان : العجم أنساباً وبلداناً ، والعرب عقائد وإيماناً ، الذين ينجز فيهم وعد الصادق المصدوق ، ولمكهم الله مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها ، وأقلبت على الدنيا واستوثقت منها ، قال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا رسول الله من هؤالء الذين قال الله ) وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( فأشار عليه الصلاة والسلام إلى سلمان وقال : ( لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء ) - انتهى .
ولما أخبر سبحانه بالفتح عقب سورة ) الذين كفروا ( بشارة بظهور أهل هذا الدين وإدبار الكافرين - كما سيأتي في إيلاء سورة النصر بسورة الكافرين ، لذلك علل الفتح(7/186)
صفحة رقم 187
بالمغفرة وما بعدها رمزاً إلى وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - بروحي هو وأبي وأمي - وإيماء إلى أن المراد من أخراجه إلى دار الفناء إنما هو إظهار الدين القيم وغزهاق الباطل لتعلوا درجته وتعظم رفعته ، فعند حصول الفتح ثم المراد كما كانت سورة النصر الوالية للكافرين رامزية إلى ذلك كما هو مشهور ومذكور ومسطور ، فالفتح الذي هو أحد العلامات الثلاث المذكورة كما يف سورة النصر على جميع المناوين ، الذي هو السبب الأعظم في ظهور دينه على الدين كله الذي هو العلامة العظمى على اقتراب أجله - نفسي فداؤه وإنسان عيني من كل سوء وقاؤه - فقال تعالى : ( ليغفر لك الله ( مشيراً بالانتقال من أسلوب العظمة بالنون إلى أسلوب الغيبة المشير إلى غاية الكبرياء بالإسناد إلى الاسم الأعظم إلى أن هذه المغفرة بحسب إحاطة هذا الاسم الجامع لجميع الأسماء الحسنى : ( ما تقدم من ذنبك ) أي الذي تقدم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو مما ينتقل به من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه ، فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً ، وكذا قوله : ( وما تأخر ( قال الرازي : المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) انتهى .
ويجوز أن يكون المراد : لتشاهد المغفرة باللنقلة إلينا بعد علم اليقين بعين اليقين وحق اليقين ، فالمعنى أن الله يتوفاه ( صلى الله عليه وسلم ) عقب الفتح ودخول جميع العرب الذين يفتتحون جميع البلاد ويهيد الله بهم سائر العباد في دينه ، ويأس الشيطان من أن يعبد في جزيرتهم إلا بالمحقرات لوجود المقصود من امتلاء الأكوان بحسناته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعموم ما دل عليه اسمه المذكور في هاتين السورتين من حمده تعالى بكماله في ذاته وصفاته ببلوغ أتباعه إلى حد لا يحصرون فيه بعد ، ولا يقف لهم مخلوق على حد .
ولما كان تمام النعمة يتحقق بشيئين : إظهار الدين والتقلة إلى مرافقة النبيين ، قال تعالى مخبراً بالشيئين : ( ويتم نعمته عليك ( بنقلك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح ، الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل ، ويدحضون شبه الشيطان ، ويدمغون كل كفران ، وينشرون رايات الإيمان في جميع البلدان ، بعد إذلال أهل العدوان ، ومحو كل ضغيان .
ولما كانت هدايتهم من هدايته ، أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجانبه الشريف سروراً له فقال : ( ويهديك ) أي بهداية جميع قومك ) صراطاً مستقيماً ) أي واضحاً جليلاً جلياً موصلاً إلى المراد من كتاب لا عوج فيه بوجه ، هداية تقتضي لزومه والثبات عليه ) وينصرك الله ( بنصرهم على ملوك الأمم وجلائهم(7/187)
صفحة رقم 188
لسائر الغمم ، نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم ) نصراً عزيزاً ) أي يغلب المنصور به كل من ناواه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذل بعده لأن الأمة التي تنصف به لا يظهر عليها أحد ، والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) المؤمنين برؤياه أنه يطوف بالكعبة الشريفة ، وعز على العمرة عام الحديبية ، وخرج ( صلى الله عليه وسلم ) وخرج معه خلاصة أصحابه ألف وخمسمائة ، فكانوا مؤقنين أنهم يعتمرون في وجههم ذلك ، وقر ذلك في صدورهم وأشربته قلوبهم ، فصار نزعه منها أشق شيء يكون ، قصدهم المشركون بعد أن بركت ناقته وصالحهم ( صلى الله عليه وسلم ) على أن يرجع عنهم في ذلك العام ويعتمر في مثل ذلك الوقت من القابل ، وكان ذلك - بل أدنى منه - مزلزلاً للاعتقاد مطرقاً للشيطان الوسوسة كثير بسببه ، قال تعالى دالاً على النصر بتثبيت المؤمنين في هذا المحل الضنك إظهاراً لتمام قدرته ولطيف حكمته : ( هو ) أي وحده ) الذي أنزل ( في يوم الحديبية ) السكينة ) أي الثبات على الدين ) في قلوب المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزغ القلوب من صد الكفار ورجوع الصحابة رضي الله تعالى عنهم دون مقصودهم ، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن ماج الناس وزلزلوا حتى عمر رضي الله عنه - مع أنه الفاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد - فما الظن بغيره في فلق نفسه وتزلزل قلبه ، وكان للصديق رضي الله عنه من القدم الثانبت والأصل الراسخ ما علم به رضي الله عنه أنه لا يسابق ، ثم ثبتهم الله أجمعين ، قال الرازي : والسكينة الثقة بوعد الله ، والصبر على حكم الله ، بل السكينة ههنا معين بجمع فوزاً وقوة وروجاً ، يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين ، وأثر هذه السكينة الوقار والخشوع وظهور الحزم في الأمور - انتهى .
وكل من رسخ في الإيمان ، له في هذه الآية نصيب جناه دان .
ولما أخبر بما لا يقدر عليه غيره ، علله بقوله : ( ليزدادوا ) أي بتصديق الرسول حين قال لهم : إنهم لا بد أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت العتيق ، وحلهم الله به من الشبهة بتذكرهم أنه لم يقل لهم : إنهم يدخلون العام ) إيماناً ( بهذا التصديق بلغيب من أن صلحهم للكفار ورجوعهم من غير بلوغ قصدهم هو عين الفتح لترتب الصلح عليه وترتب فشو الإسلام على الصلح كما كشف عنه الوجود بعد ذلك ليقيسوا عليه غيره من الأوامر ) مع إيمانهم ( الثابت من قبل هذه الواقعة ، قال القشيري رحمه الله : بطلوع أقمار اليقين على نجوم علم اليقين ، ثم بطلوع شمس حق اليقين على بدر عين اليقين .(7/188)
صفحة رقم 189
ولما كان ربما ظن شقي من أخذ الأمور بالتدريج شيئاً في القدرة قال : ( ولله ) أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده ) جند السماوات والأرض ) أي جميعها ، ومنها السكينة ، يدبرهم بلطيف صنعه وعجيب تدبيره ، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل ، ودمر على أعدائهم بجنود أو بغير سبب ، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم ، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم ، ويظهر الصادق في نصره من الكاذبن ، فإن الدار دار البلاء ، وبناء المسببات على الأسباب على وجه الأغلب فيه الحكمة ، لا القهر وظهور الكلمة ، فاسمه الباطن هو الظاهر في هذه الدار ، فلذلك ترى المسببات مستورات بأسبابها ، فلا يعلم الحقائق إلا البصراء ألا ترى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت عليه هذه السورة فتلاها عليه قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : أي رسول الله وفتح هو ؟ قال بعضهم : لقد صدونا عن البيت وصدوا هدينا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتح ، أما رضيتم أن تطرقوهم في بلادهم فيدفعوكم عنها بالراح ويسألوكم التضير ويرغبون إلكم في الأمن وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتوح ، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ) ، فقال المسلمون : صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوحز والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه لأنت أعلم بالله وأمره منا .
وأنزل الله تأكيدا لأمر الرؤيا لمن أشكل عليهم حالها ) لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام ( الآية ، فهذه الأشياء كلها كما ترى راجعة إلى الخفاء بالتعجب في أستار الأسباب ، فلا يبصرها إلا أرباب التدقيق في النظر في حكمة الله سبحانه .
ولما كان مبنى ما مضى كله على القدرة بأمور خفية يظهر منها من الضعف غير ما كشف عنه الزمان من القوة ، وكان تمام القدرة متوقفاً على شمول العلم قال تعالى : ( وكان الله ) أي الملك الأعظم أزلاً وأبداً ) عليماً ( بالذوات والمعاني ) حكيماً ( في إتقان ما يصنعن فرده لهم عن هذه العمرة بعد أن بدر أمر الصلح ليأمن الناس فيداخل بعضهم بعضاً لما علم من أنه لا يسمع القرآن أحد له عقل مستقيم ويرى ما عليه أهله من شدة الاستمساك به والبغض لما كانوا فيه من متابعة الآباء إلا بدار إلى المتابعة ودخل(7/189)
صفحة رقم 190
في الدين برغبة ، وأدخل سبحانه خزاعة في صلح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبني بكر وهم أعداؤهم في صلح قريش ليبغوا عليهم فتعينهم قريش الصلح بعد أن كثرت جنود الله وعز ناصر الدين ، فيفتح الله بهم مكة المشرفة ، فتنشر أعلام الدين ، وتخفق ألوية النصر المبين ، ويدخل الناس في الدين أفواجاً ، فظيهر دين الإسلام على جميع الأديان .
الفتح : ( 5 - 8 ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات. .. . .
) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ( ( )
ولما دل على التفح بالنصر وما معه ، وعلل الدين بالسكينة ، علل علة الدليل وهي ) ليزدادوا إيماناً ( وعلل ما دل عليه ملك الجنود من تدبيرهم وتدبير الأكوان بهم بقوله تعالى زيادة في السكينة : ( ليدخل ) أي بما أوقع في السكينة ) المؤمنين والمؤمنات ( الذين جبلهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين ، ولو سلط على الكفار جنوده من أو لاأمر فأهلكوهم أو دمر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة ، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية ) جنات ) أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك ) تجري ( ودل وقرب وبعض بقوله : ( من تحتها الأنهار ( فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك ، لأن الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها .
ولما كان الماء لا يطيب إلا بالقرار تعالى : ( خالدين فيها ) أي لا إلى آخر .
ولما كان السامع لهذا ربما ظن أن فعله ذلك باستحقاق ، قال إشارة إلى أنه لا سبب إلا رحمته : ( ويكفر ( اي يستر ستراً بليغاً شاملاً ) عنهم سيئاتهم ( التي ليس من الحكمة دخول الجنة دار القدس قبل تكفيرها ، بسبب ما كانوا متلبسين به منها من الكفر وغيره ، فكان ذلك التكفير سبباً لدخولهم الجنة ) وكان ذلك ) أي الأمر العظيم من الإدخال والتكفير المهيىء له ، وقدم الظرف تعظيماً لها فقال تعالى : ( عند الله ) أي الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام ) فوزاً عظيماً ( يملأ جميع الجهات .
ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدو وكان العدو المكاتم أشد من العدو المجاهر المراغم قال تعالى : ( ويعذب المنافقين ) أي يزيل كل ما لهم من(7/190)
صفحة رقم 191
العذوبة ) والمنافقات ( بما غاظهم من ازدياد الإيمان ) والمشركين والمشركات ( بصدهم الذي كان سبباً للمقام الدحض الذي كان سبباً لإنزال السكينة الذي كان سبباً لقوة أهل الإسلام بما تأثر عنه من كثرة الداخلين فيه ، الذي كان سبباً لتدمير أهل الكفران ، ثم بعد ذلك عذاب النيران .
ولما أخبر بعذابهم ، أتبعه وصفهم بما سبب لهم ذلك فقال تعالى : ( الظانين بالله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) ظن السوء ( من أنه لا يفي بوعده في أنه ينصره رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه المؤمنين أو أنه لا يبعثهم .
أو أنه لا يعذبهم لمخالفة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومشاققة أتباعه .
ولما أخبر سباحنه وتعالى بعذابهم فسره بقوله : ( عليهم ) أي في الدنيا والآخرة بما يخزيهم الله به من كثرة جنوده وغيظهم منهم وقهرهم بهم ) دائرة السوء ( التي دبروها وقدروها للمسلمين لا خلاص لهم منها ، فهم مخذولون في كل موطن خذلاناً ظاهراً يدركه كل أحد ، وباطناً يدركه من أراد الله تعالى من أرباب البصائر كما اتفق في هذه العمرة ، والسوء - بالتفح والضم : ما يسوء كالكره إلا أنه غلب في إن يضاف إلى ما يراد ذمه ، ولمضموم جار مجرى الشر الذي هو ضد الخير - قاله في الكشاف .
ولما كان من دار عليه السوء قد لا يكون مغضوباً عيه ، قال : ( وغضب الله ) أي الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه ) عليهم ( ، وهو عبارة عن أنه يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به .
ولما كان الغضب قد لا يوجب الإهانة والإبعاد قال : ( ولعنهم ) أي طردهم طرداً سفلوا به أسفل سافلين ، فبعدوا به عن كل خير .
ولما قرر ما لهم في الدارين ، وكان قد يظن أنه يخص الدنيا فلا يوجب عذاب الآخرة ، أتبعه بما يخصها فقال : ( وأعد ) أي هيأ الآن ) لهم جهنم ( تلقاهم بالعبوسة والغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب بالحر والبرد والإحراق ، وغير ذلك من أنواع المشاق .
ولما كان التقدير : فساءت معداً ، عطف عليه قوله : ( وساءت مصيراً ( .
ولما كان هذا معلماً بأن الكفار - مع ما يشاهد منهم من الكثرة الظاهرة والقوة المتضافرة المتوافرة - لا اعتبار لهم لأن البلاء محيط بهم في الدارين ، وكان ذلك أمراً يوجب تشعب الفكر في المؤثر فيهم ذلك ، عطف على ما تقديره إعلاماً بأن التبدبير على هذاالوجه لحكم ومصالح يكل عنها الوصف ، ودفعاً لما قد يتوهمه من لم يرسخ إيمانه مما يجب التنزيه عنه : فللّه القوة جميعاً يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير سبب ترونه : ( ولله ) أي الملك الأعظم ) جنود السماوات والأرض ( فهو يسلط ما يشاء منها على من يشاء .(7/191)
صفحة رقم 192
ولما كان ما ذكر من عذاب الأعداء وثواب الأولياء متوقفاً على تمام العلم ونهاية القدرة التي يكون بها الانتقام والسطوة قال تعالى : ( وكان الله ( الملك الذي لا أمرلأحد مع أزلاً وأبداً ) عزيزاً ( يغلب ولا يغلب ) حكيماً ( يضع الشيء في أحكم مواضعه ، فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه سبحانه وتعالى .
ولما تبين أنه ليس لغيره مدخل في إيجاد النصر ، وكانت السورة من أولها حضرة مخاطبة وإقبال فلم يدع أمر إلى نداء بياء ولا غيرها .
وكان كأنه قيل : فما فائدة الرسالة إلى الناس ؟ أجيب بقوله تقريراً لما ختم به من صفتي العزة والحكمة .
) إنا ( بما لنا من العزة والحكمة ) أرسلناك ) أي بما لنا من العظمة التي هي معنى العزة والحكمة إلى الخلق كافة ) شاهداً ( على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان ، من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك ، مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة .
ولما كانت البشارة محبوبة إلى النفوس رغبهم فيما عنده من الخيرات وحببهم فيه بصوغ اسم الفاعل منها مبالغة فيه فقال تعالى : ( ومبشراً ) أي لمن أطاع بأنواع البشائر .
ولما كانت لنذارة كريهة جداً ، لا يقدم على إبلاغها إلا من كمل عرفانه بما فيها من المنافع الموجبة لتجشم مرارة الإقدام على الصدع بها ، أتى بصيغة المبالغة فقال تعالى : ( ونذيراً ( .
الفتح : ( 9 - 10 ) لتؤمنوا بالله ورسوله. .. . .
) لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ( ( )
ولما ذكر حال الرسالة ، ذكر علتها فقال : ( لتؤمنوا ) أي الذين حكمنا بإيمانهم ممن أرسلناك إليهم - هذاعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب ، وعلى قراءة الباقين بالخطاب المعنى .
أيها الرسول ومن قضينا بهداه من أمته ، مجددين لذلك في كل لحظة مستمرين عليه ، وكذا الأفعال بعده ، وذلك أعظم لطفاً لما في الأنس بالخطاب من رجاء الاقتراب ) بالله ) أي الذي لا يسوغ لأحد من خلقه - والكل خلقه - التوجه إلى غيره لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام ) ورسوله ( الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وملكاً إلى جميع خلقه .
ولما كان الإيمان أمراً باطناً ، فلا يقبل عند الله إلا بدليل ، وكان الإيمان بالرسول إيماناً بمن أرسله ، والإيمان بالمرسل إيماناً بالرسول ، وحد الضمير فقال : ( ويعزروه ((7/192)
صفحة رقم 193
أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناواه ويمنعوه عن كل من يكيده ، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف ، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها ، تعظيماً له وتفخيماً - هذا حقيقة المادة ، وما الفه فهو إما من باب الإزالة كالعزور بمعنى الديوث ، وإما من باب الأول كاللوم والضرب دون الحد ، فإنه يوجب للملوم ولمضروب وتجنب ما نقم عليه فيعظم ، فهو من إطلاق الملزوم على اللازم ، وهو من وادي ما قيل :
عداي لهم فضل عليّ ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاقتنيت المعاليا
ولما كان المعنى يحتمل الإزالة كما ذكر ، خلص المراد بقوله : ( ويوقروه ) أي يجتهدوا في حسن اتباعه في تبجيله وإجلاله بأن يحملوا عنه جميع الأثقال ، ليلزم السكينة باجتماع همه وكبر عزمه لزوال ما كان يشعب فكره من كل ما يهمه ) ويسبحوه ) أي ينزهوه عن كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك ، ويعتقدوا فيه الكمال المطلق ، والأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى ، لأن من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر ، فيكون إما عائداً على المذكور وإما أن يكون جعل الاسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين ، في الأمر فلما اتحد أمرها وحد الضمير إشارة إلى ذلك .
ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك : ( بكرة وأصيلاً ) أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك .
ولما ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما أرسله له ، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل ، أوضح المراد بتوحيد الضمير بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان الذي هو علة الرسال ، وما ذكره معه في جواب من يسأل : ما سبب توحيد الضمير والمذكور اثنان ؟ مؤكداً لأجل ما غلب على الطباع البشرية من التقيد بالوهم والنكوص عما غاب ولا مرشد إليه سوى العقل : ( إن الذين ( .
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره ، عبر به ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال : ( يبايعونك ) أي في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي(7/193)
صفحة رقم 194
عمادها الثبات والصبر ، وسميت ( مبايعة ) لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة وهذا معنى الإسلام ، فكل من أسلم فقد باع نفسه سبحانه منه
77 ( ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ( ) 7
[ التوبة : 111 ] ، الآية .
) إنما يبايعون الله ) أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له
77 ( ) وما ينطق عن الهوى ( ) 7
[ النجم : 3 ] .
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيبن زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول ، فقال مبيناً للأول : ( يد الله ) أي المتردين بالكبرياء .
ولما كان منزهاً .
عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص ، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال : ( فوق أيديهم ) أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة والقوة والقهر والعزة ، والتنزه عن كل شائبة نقص ، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك ، ثم أعاد ذكره بالضمير إيذاناً بالغيب المحض ، هذا هو المراد من تعظيم البيعة وإجلال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع العلم القطعي بتنزيه الله سبحانه عن كل شائبة نقص من حلول أو اتحاد كما هو واضح في مجاري عادات العرب ظاهر جداً في دأبهم في محاوراتهم ، لا يشك فيه منهم عاقل عالم أو جاهل أصلاً ، فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد على من تبعهم على ذلك من الرعاع الطغام الذي شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وجميع الأئمة الأعلام ، وسائر أهل الإسلام : ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين ، ونهايك به في ضلال مبين .
ولما كان كلام الله تعالى - وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لا بد أن يقع منه شيء وإن قل ، وكان من سر التعبير بالمضارع ( يبايعونك ) الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام فإنه اختبأ في الحديبية وقت البيعة في وقت من الأوقات ، فلم يبايع ، سبب عن ذلك وفصل ترغيباً وترهيباً ، فقال معبراً بالماضي إيذاناً بأنه لا ينكث أحد من أهل هذه البيعة : ( فمن نكث ) أي نقض في وقت م نالأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض ) فإنما ينكث ( وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً ) على نفسه ( لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً ، ولا يضر ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فإن الله ناصره لا محالة ، وكذا كل منكوث به غذا أراد الله نصرته فإن يده سبحانه فوق كل يد .
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه ، (7/194)
صفحة رقم 195
أتبعه على عادته الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى : ( ومن أوفى ) أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة ) بما عهد ( وقدم الظرف اهتماماً به فقال : ( عليه الله ) أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فغنما وفاؤه لنفسه ) فسيؤتيه ) أي بوعد لا خلف فيه ) أجراً عظيماً ( لا يسع عقولكم شرح وصفه ، ومن قرأ بالنون أظهر ما ستر في الجلالة من التعظيم ، والآية من الاحتباك : ذكر أولاً أن النكث عليه دليلاً على أن الوفاء له ثانياً ، وإيتاء الأجر ثانياً دليلاً على إحلال العقاب أولاً وسره أنه بين أن ما يرديه الناكث من الأذى لغيره إنما هو واقع به ، لأن ذلك أعظم في الترهيب عن النكث لما جبل الإنسان عليه من النفرة عن ضر نفسه وبعده عنه ، وذكر الأجر للموفي لأنه أعظم في الترغيب ، وسبب بيعة الرضوان هذه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما فهم من بروك ناقته في الحديبية الإشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنه لم يأذن في دخولهم البلد الحرام في هذه السفرة ، فمشى مع إرادته سبحانه وتعالى لأنه ليس فيها مخالفة لما أمر به سبحانه إلى أن وقع الصلح الذي كان الفتح هو بعينه ، وكان في غضون ذلك أن أرسل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المشرفة ليخبر قريشاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يجئ لقتال وأنه لا يريد إلا الاعتمار ، فأرجف مرجفون بأنه قد قتل ، فعزم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على مناجزتهم فبايع الصحابة رضي الله عنهم على أن لا يفروا عنه ، فبايع كل من كان معه إلا جد بن قيس ، فإنه اختبأ تحت إبط بعيره فلم يبايع ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر )
الفتح : ( 11 - 15 ) سيقول لك المخلفون. .. . .
) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ( )(7/195)
صفحة رقم 196
ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان ، وأضافهم إلى حضرة الرحمن ، تشوف السامعإلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب ، وأبضأ عن حضرة تلك العمرة ، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى : ( سيقول ) أي بوعد لا خلف فيه ، وأكد أمر نفاقهم تنبيهاً على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشدة رحمته ورفقه وشفقته فقال : ( لك ) أي لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد لله ، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين ، وغاب عنهم - لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة لأنك أعظم الخلق وأفطنهم ، مع يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب ، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين الفاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام ، لأنهم أشار لئام ، فقال تعالى ) المخلفون ) أي الذين - خلفهم الله عنك ولم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة ، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان ، لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به ، وذلك إنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك ، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام ، فمل يرد الله حضورهم لأن إسلامهم لم يكن خالصاً فلو حضروا لفسد بهم الحال ، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد ، أعقب ذلك فساداً آخر وهو أن يقال : إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة ، فتخلفوا لماعلم الله في تخلفهم من الحكم .
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضراً معه ( صلى الله عليه وسلم ) بالقلب أخرجهم بقوله : ( من الأعراب ) أي أهل البادية كذباً وبهتاناً جرأة على الله ورسوله ) شغلتنا ) أي عن إجابتك في هذه العمرة ) أموالنا وأهلونا ) أي لأنا لو تركناها ضاعت ، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال ، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم : ( فاستغفر ) أي اطلب المغفرة ) لنا ( من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا .
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له ، رده تعالى بقوله منبهاً على أن من صدق مع الله لم يشغله عن شاغل ، ومن شغله عنه شيء كان شوماً عليه : ( يقولون ( وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه .
ولما صح بعد ذلك إيمان ، لم يعبر بالأفواه دأبه ، في المنافقين ، بل قال : ( بألسنتهم ) أي في الشغل والاسغفار ، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله : ( ما ليس في قلوبهم ( لأنهم لم يكن شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار .(7/196)
صفحة رقم 197
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظناً منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل : قد علم كذبهم ، فماذا يقال لهم ؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله : ( قل ) أي لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ماهو بحيث تخشى عاقبته : ( فمن يملك لكم ( أيها المخادعون ) من الله ) أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له ) شيئاً ( يمنعكم منه ) إن أراد بكم ) أي خاصة ) ضراً ) أي نوعاً من أنواع الضرر عظيماً أو حقيراً ، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم ) أو أراد بكم نفعاً ( بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنهان ويحفظكم في أنفسكم ، وقد علم من تصنفيه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة ، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام .
ولما كان التقدير قطعاً : لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئاً من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه ، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيراً مما تعملون ، فيخفى عليه كذبكم ، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى : ( بل كان الله ) أي المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرة علماً ) بما تعلمون ) أي الجهلة ) خبيراً ) أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها .
ولما ضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عيه بأمر عام ، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول ، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال : ( بل ) أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال ) ظننتم ( وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ، ليس لكم نفوذ إلى البواطن ، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال : ( أن لن ينقلب ( ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث والمسير ، قال مشيراً إلى أن من أرسل رسولاً إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزاً عما يريد : ( الرسول ( وعظم التابعين فقال : ( والمؤمنون ( معبراً بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ وأفهم تأكيد ذلك عندهم بقوله تعالى : ( إلى أهليهم أبداً ) أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم : ما هم في قريش إلا أكلة رأس. ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب ، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في(7/197)
صفحة رقم 198
الحقيقة : ( وزين ذلك ) أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا ) في قلوبكم ( حتى أحببتموه .
ولما علم أن ذلك سوء ، صرح به على وجه يعم غيره فقال : ( وظننتم ) أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه ) ظن السوء ) أي الذي لم يدع شيئاً مما كيره غاية الكراهة إلا أحاط به .
ولما انكشف جميع أمره كشف أُره فقال : ( وكنتم ( أ يبالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة ) قوماً ) أي مع قوتكم على ما تحاولونه ) بوراً ) أي في غاية الهلاك والكساد والفساد ، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد ، فلا انفكاك لهم عنه ، وهذا كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير ، وثبتوا فلم يرتدوا .
ولما كان التقدير : ذلك لأنكم لم تؤمنوا ، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص ، أبحناه جنة وحريراً ، عطف عليه قوله معمماً : ( ومن لم يؤمن ( منكم ومن غيركم ) بالله ) أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه ) ورسوله ) أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه ، معبراً عنه بالاسم الأعظم ، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال : ( فإنا ) أي على ما لنا من العظمة ) أعتدنا ( له أو لهم هكذا كان الأصل ، ولكنه قال معلقاً للحكم بالوصف إيذاناً بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر ، وإن السعير لمن كان كفره راسخاً فقال تعالى : ( للكافرين ) أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفاراً ، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه ) سعيراً ) أي ناراً شديدة الإيقاد والتهلب ، فهي عظيمة الحر توجب الجنون وإيقاد الباطن بالجوع بحيث لا يشبع صاحبه والانتشار بكل شر ، فإن التنكير هنا للتهويل والتعظيم ، وهذه الآية مع ما أرشد السياق إلى عطفها عليه ممن يؤمن دالة - وإن كانت في سياق الشرط - على أن أكثرهم يخلص إيمانه بعد ذلك .
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين والمخلصين وختم بعذاب الكافرين ، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك ، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً ، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده ، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف وغيره لعدم عموم ملكه قال تعالى عاطفاً على آية الجنود : ( ولله ) أي الملك الأعظم وحده ) ملك السموات والأرض ) أي من الجنود وغيرها ، يدبر ذلك كله كيف يشاء لا راد لحكمه ولا معقب .(7/198)
صفحة رقم 199
ولما لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها ، لم ذكر ما بين الخافقين ، وذكر نتيجة لتفرد بالملك بما يقتضيه الحال من الترغيب والترهيب : ( يغفر لمن يشاء ) أي لا اعتراض لأحد عليه بوجه ما ) ويعذب من يشاء ) أي لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافيه شيء ، وليس هو كالملوك الذين لايتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة ، وعلم من هذا التقسيم المبهم أيضاً أن منهم منيرتد فيعذبه ، ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك ، لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تام ، فتصرفه فيه عدل كيفما كان .
ولما كان من يفعل الشيء في وقت قد لا يستمر على وصف القدرة عليه قال تعالى : ( وكان الله ) أي المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً ، لم يتجدد له شيء لم يكن .
ولما ابتدأ الآية بالمغفرة ترغيباً في التوبة ، ختم بذلك لأن المقام له ، وزاد الرحمة تشريفاً لنبي المرحمة بالترغيب والدلالة على أن رحمته غلبت غضبه فقال : ( غفوراً ) أي لذنوب المسيئين ) رحيماً ) أي مكرماً بعد الستر بما منه - أي من الذم - أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم ، وكان قد وعد سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبراً لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له في ذلك من الحكم البالغة الدقيقة ، وختم بأنه نافذ الأمر ، وكان ذلك مستلزماً لإحاطة العلم ، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافاً ، جواباً لمن كاأنه قال : هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا ؟ : ( سيقول ) أي بوعد لا خلف فيه .
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحيث لا مطمع لأحد فى أن يظفر منه بشيء من خلاف الأمر الله ، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال : ( المخلفون ) أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه ( صلى الله عليه وسلم ) لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك ، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم ) إذا انطلقتم ( بتمكين الله لكم ) إلى مغانم ( .
ولما أفهم اللفظ الأخذ ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها ، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال : ( لتأخذوها ) أي من خيبر ) ذرونا ) أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية ) نتبعكم ( ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية ، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم ، علل تعالى قولهم بقوله : ( يريدون ) أي بذهابكم معكم ) أن يبدلوا كلام الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم ، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية ، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم(7/199)
صفحة رقم 200
في النية والهجرة ، ليتوصولا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه ، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك ، ولا يبعد أن يكونوا صنفين : منهم من يريد ذلك ، ومنهم من لم يرده ولكن فعل من يريده .
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم ، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام : ( قل ) أي يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك ، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم ، قولاً مؤكداً : ( لن تتبعونا ( وإن اجتهدتم في ذلك ، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي ، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة ، وهو أزجر وأدل على الاستهانة .
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا يخالف أصلاً في مراده ، بينه تعالى بقوله : ( كذلكم ) أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة ) قال الله ) أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا ) من قبل ( هذا الوقت ، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله ، فإنه قضى أن لا يحضر ( خيبر ) المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية ، وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا ، فطلبوا أن يخرجوا معه ( صلى الله عليه وسلم ) فمنعوا فلم يحضرها غيرهم أحد ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست ، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع ، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحهاالله عليه ، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات ، وأتى إليه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معهم من مهاجر الحبشة ، فأشركهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك .
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال ، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية ، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم : ( فسيقولون ( : ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله ) بل ( إنما ذلكم لأنكم ) تحسدوننا ( فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء .
ولما كان التقدير : وليس الأمر كما زعموا ، رتب عليه قوله : ( بل كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) لا يفقهون ) أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر ) إلا قليلاً ( في أمر دنياهم ، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها ، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً .
الفتح : ( 16 - 17 ) قل للمخلفين من. .. . .
) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن(7/200)
صفحة رقم 201
تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) 73
( ) 71
ولما كان ذلك يوقع في نفس السامع السؤال عن هذا الطرد : هل يستمر ؟ أجيب بأنهم سيمتحنون بأمر شاق يحدثه الله للتمييز بين الخلص وغيرهم ، فقال مكرراً لوصفهم بالتخلف إعلاماً بأنهم في الحقيقة ما تخلفوا ، بل منعوا طرداً لهم وإبعاداً معذباً لهم بما خلفهم عن اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه العمرة من الخوف من قتال قريش لشدة بأسهم كما أثاب المحبين له ( صلى الله عليه وسلم ) بضد ما عزموا عليه من القتال إلى النصر أو الموت من كف أيديهم عنهم بما جعله الله سبباً للفتح الأعظم والتفرغ لفتح خيبر وأخذ غنائمها الكثيرة من غير كبير كلفة ) قل ( يا أعظم الخلف ) للمخلفين ( وزاد في ذمهم بنسبتهم إلى الجلافة فقال : ( من الأعراب ) أي أهل غلظ الأكباد ، ويجوز أن يكون هذا القيد للاحتراز عن المخلفين من أهل المدينة فيكون إشارة إلى أن الأعراب ينقسمون عند هذا الدعاء إلى مطيع وعاص - كما أشار إليه تقسيمه سبحانه لهم - وأن المخلفين من أهل المدينة لمثل ما اعتل به الأعراب لا مطمع في صلاحهم : ( ستدعون ( بوعد لا خلف فيه بإخبار محيط العلم والقدرة دعوة محيطة ونفيراً عاماً لما أفهمه الإسناد إلى جميعهم من داع صحت إمامته فوجبت طاعته ، ودل على بعدهم من أرضهم بقوله تعالى : ( إلى قوم ( .
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه ، أوضح المعنى بقوله : ( أولي بأس ) أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء ) شديد ( .
ولما كان المعنى كأنه قيل : لماذا ؟ قال تعالى : ( تقاتلونهم ) أي بأمر إمامكم ) أو يسلمون ) أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا : المقاتلة منكم أو الإسلام منهم ، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير ، وإن أسلموا لم يكن قتال ، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله ، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة ، ونحو ذلك ، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الدرة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه ، وأما قول من قال : إنهم ثقيف ، فضعيف ، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة ، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته ، لم يكن بينهم شيء ، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أسلموا بعد ذلك ، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم ، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام ، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً ، فإن(7/201)
صفحة رقم 202
كلاًّ منهم تقبل منه الجزية ، وتأويله بأنه إسلام لغوي لا داع له مع إمكان الحقيقة ، وقد كان ما أشار إليه التقسيم فإنهم لما دعوا إليهم انقسموا إلى مجيب وهم الأكثر ، وقد آتاهم الله الأجر الحسن في الدنيا بالغنيمة والذكر الجميل وهو المرجو في الآخرة ، ومرتد وهم قليل وقد أذاقهم الله العذاب الأليم في الدنيا بالقتل على أقبح حال ، وهو يذيقهم في الآخرة أعظم النكال ، وأما قتال غي العرب فأطاع فيه الكل ولم يحصل فيه ما أشير إليه من التقسيم ، فتحقق بهذا أنهم أهل الردة - والله الموفق ، ولذلك سبب عن دعوة الحق قوله مردداً القول في حالهم مبهماً له إشارة إلى أنهم عند الدعاء ينقسمون إلى مقبل ومتول : ( فإن تطيعوا ) أي توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك ، وهو أبو بكر رضي الله عنه ) يؤتكم الله ) أي الذي له الإحاطة والقدرة على الإعطاء والمنع ، لا راد لأمره ) أجراً حسناً ( دنيا وأخرى ، جعل الله طاعة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر بالخصوص كطاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي طاعته طاعة الله ، جزاء له على خصوصه في مزيد تسليمه لما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلح وثباته بما أجاب به عمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من غير أن يكون حاضراً له كما هو معلوم من السيرة .
ولما كانت مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن يقوم مقامه لا تكون إلا من منازعة في الفطرة الأولى ومعالجة لها ، عبر بالتفعل فقال : ( وإن تتولوا ( عن قبول دعوته عصياناً ) كما توليتم ) أي عالجتم أنفسكم وكلفتموها التولي بالتخلف عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من قبل ) أي بعض الأزمان التي تقدمت على هذا الدعاء ، وذلك في الحديبية ) يعذبكم ) أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ) عذاباً أليماً ( لأجل تكرر ذلك منكم .
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق ، وكان أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء ، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة ، استأنف قوله تعالى مسكناً لما اشتثاره الوعيد من روعهم : ( ليس على الأعمى ) أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو مع غيره من أئمة الدعاء ) حرج ) أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه ، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار منروعة المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال : ( ولا على الأعرج ( وإن كان نقصه أدنى من نقص العمى ) حرج ( وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم .
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد ، عم بقوله : ( ولا على المريض ) أي بأيّ مرض ) حرج ( فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين(7/202)
صفحة رقم 203
لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية ، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلوا عن نفع في الجهاد ، وذكر هكذا دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه .
ولما بشر المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين ، وكانت إجابة المعذورين جائزة ، بل أرفع من قعودهم ، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج ، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره : فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له : ( ومن يطع الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً ، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً ) ورسوله ( من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته ) يدخله ) أي الله الملك الأعظم جزاء له ) جنات تجري ( ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله : ( من تحتها الأنهار ) أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً ) ومن يتول ) أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم ، عن طاعة من الطاعات التي أمرا بها من أي طاعة كانت ) يعذبه ) أي على توليه في الدارين أو إحداهما ) عذاباً أليماً ( وقراءة أهل المدينة والشام ) ندخله ونعذبه ( بالنون أظهر في أرداة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة .
الفتح : ( 18 - 21 ) لقد رضي الله. .. . .
) لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ( ( )
ولما وعد المطيع وأوعد العاصي ، وكانت النفوس إلى الوعد أشد التفاتاً ، دل عليه بثواب عظيم منه أمر محسوس يعظم جذبه للنفوس القاصرة عن النفوذ في العالم الغيب ، فقال مؤكداً لأن أعظم المراد به المذبذبون ، مفتتحاً بقد لأن السياق موجب للتوقع لما جرى من السنة الإلهية أنها إذا شوقت إلى شيء دلت عليه بمشهود يقرب الغائب الموعود : ( لقد رضي الله ) أي الذي له الجلال والجمال ) عن المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ، أي فعل معهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدر له من الثواب ، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما وعد لهم في الآخرة ، فالآيات تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة .
ولما ذكر الرضى ، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال : ( إذ ) أي حين ، وصور(7/203)
صفحة رقم 204
حالهم إعلاماً أنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال : ( يبايعونك ( في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت ، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجىء لقتال وإنما جئت للعمرة ، فبلغك أنهم قتلوه فندبت إلى البيعة لمناجزتهم فبايعك كل من كان معك على أن لا يفروا لتناجز بهم القوم ؛ وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله : ( تحت الشجرة ( واللام للعهد الذهني ، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نازلاً به في الحديبية ، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان ، وروى البغوى من طريق الثعلبي عن جابر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ) .
ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم ، سبب عنه قوله : ( فعلم ) أي لما له من الإحاطة ) ما في قلوبهم ) أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة ، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين ، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في مثل هذا المحدث عنهم قوله : ( فأنزل السكينة ) أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله ، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله : ( عليهم ( فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة لبيضاء في جنب الثور الأسود ، لا أثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض والمواطن الضنك إلا ريثما رأوا صدق عزيمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومضى أمره في ذلك بما يفعل ويقول .
ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى إلا عليه ، أتبعه آثاره فقال : ( وأثابهم ) أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء ، مقبلاً عليهم ، يملأ مواضع احتياجهم ، هو أهل لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول ) فتحاً ( بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال ) قريباً ( بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه ، فسيكون الفتح الأعظم فتح المكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد .(7/204)
صفحة رقم 205
ولما ذكر الفتح ذكر بعض ثمرته فقال : ( ومغانم ( فنبه بصيغة منتهى الجموع إلى إلى عظيمة ، ثم صرح بذلك في قوله : ( كثيرة ( ولما كان الشيء ربما أطلق على ما هو بالقوة دون الفعل ، أزال ذلك بقوله تعالى ) يأخذونها ( وهي خيبر .
ولما كان ذلك مستبعداً لكثرة الكفار وقلة المؤمنين ، بين سببه فقال عاطفاً على ما تقديره : بعزة الله وحكمته : ( وكان الله ) أي الذي لا كفوء له ) عزيزاً ) أي يغلب ولا يغلب ) حكيماً ( يتقن ما يريد فلا ينقض .
ولما قرب ذلك وتأكد وتحرر وتقرر ، أقبل سبحانه وتعالى عليهم بالخطاب تأكيداً لمسامعهم فقال مزيلاً لكل احتمال بتردد في خواطر المخلفين : ( وعدكم الله ) أي الملك الأعظم ) مغانم ( وحقق معناها بقوله : ( كثيرة تأخذونها ) أي فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر ، ثم سبب عن هذا الوعد قوله : ( فعجل لكم ) أي منها ) هذه ) أي القضية التي أوقعها بينكم وبين قريش من وضع الحرب عشر سنين ، ومن أنكم تأتون في العام المقبل في مثل هذا الشهر معتمرين فإنها سبب ذلك كله ، عزاه أبو حيان لابن عباس رضي الله عنهما وهو في غاية الظهور ، ويمكن أن يكون المعنى : التي فتحها عليكم من خيبر من سببها وأموالها المنقولات وغيرها ) وكف أيدي الناس ) أي من أهل خيبر وحلفائهم أسد وغطفان أن يعينوا أهل خيبر أو يغيروا على عيالاتكم بعد ما وهموا بذلك بعد ما كف أيدي قريش ومن دخل في عهدهم بالصلح ) عنكم ( على ما أنتم فيه من القلة والضعف .
ولما كان التقدير : رحمة لكم على طاعتكم لله ورسوله وجزاء لتقوى أيديكم ، وتروا أسباب الفتح القريبة بما يدخل من الناس في دينكم عند المخاطبة بسبب الإيمان ، عطف عليه قوله : ( ولتكون ) أي هذه الأسباب من الفتح والإسلام ) آية ) أي علامة هي في غاية الوضوح ) للمؤمنين ) أي منكم على دخول المسجد الحرام آمنين في العمرة ثم في الفتح ومنكم ومن غيركم من الراسخين في الإيمان إلى يوم القيامة على جميع ما يخبر الله به على ما وقع التدريب عليه في هذا التدبير الذي دبره لكم من أنه لطيف يوصل إلى الأشياء العظيمة بأضداد أٍبابها فيما يرى الناس فلا يرتاع مؤمن لكثرة المخالفين وقوة المنابذين أبداً ، فإن سبب كون الله مع العبد هو الاتباع بالإحسان الذي عماده الرسوخ في الإيمان الذي علق الحكم به ، فحيث ما وجد عليه وجد المعلق وهو النصر بأسباب جلية أو خفية ) ويهديكم ( في نحو هذا الأمر الذي دهمكم فأزعجكم بالثبات عند سماع الموعد والوعيد والثقة بمضمونه لأنه قادر حكيم ، فهو لا يخلف الميعاد بأن يهديكم ) صراطاً مستقيماً ) أي طريقاً واسعاً واضحاً موصلاً إلى الكرامة من(7/205)
صفحة رقم 206
غير شك ، وهذا من أعلام النبوة فإنه لم يزغ أحد من المخاطبين بهذه الآية وهم أهل الحديبية وكأنه والله أعلم لذلك لم يقل : ويهديهم - بالغيب على ما اقتضاه السياق لئلا يغم غيرهم ممن يظهر صدقه في الإيمان ثم يزيغ ، ولذا أكثر تفاصيل هذه السورة من أعلام النبوة ، فإنه وقع الإخبار به قبل وقوعه .
ولما سرهم سبحانه بما بشرهم به من كون القضية فتحاً ومن غنائم خيبر ، أتبع ذلك البشارة دالاً على أنها لا مطمع لهم في حوزه ولا علاجه لولا معونته فقال : ( وأخرى ) أي ووعدكم مغنم كثيرة غير هذه وهي - والله أعلم - مغانم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها .
ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقرون فيها إلا من لا يمكنه في العادة أن يهزمهم ليحوي الغنائم ، فكان ما في علمه تعالى لتحققه كالذي وقع وانقضى ، قال تعالى : ( لم تقدروا ) أي بما علمتم من قراركم ) عليها ( ولما توقع السامع بعد علمه بعجزهم عنها الإخبار عن السبب الموصل إلى أخذها بما تقرر عند من صدق الوعد ) بها ( فكانت بمنزلة ما أدير عليه سورة مانع من أن يغلب منها شيء عن حوزتكم أو يقدر غيركم أن يأخذ منها شيئاً ، ولذلك وللتعميم ختم الآية بقوله : ( وكان الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً ) على كل شيء ( منها ومن غيرها ) قديراً ( بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم .
الفتح : ( 22 - 25 ) ولو قاتلكم الذين. .. . .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( ( )
ولما قدم سبحانه أنه كف أيدي الناس عنكم أجمعين ، ذكر حكمهم لو وقع قتال ، فقال مقرراً لقدرته عاطفاً على نحو : فلو أراد لمكنكم من الاعتمار ، مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد ذلك من الأعراب وغيرهم : ( ولو قاتلكم ) أي في هذا الوجه ) الذين كفروا ) أي أوقعوا هذا الوصف من الناس عموماً الراسخ فيه ومن دونه ، وهم أهل مكة ومنلهم إلى كراع الغميم ، ولم يكن أسلم بعد ) لولوا ) أي بغاية جهدهم ) الأدبار ( منهزمين .(7/206)
صفحة رقم 207
ولما كان عدم نصرهم بعد التولية مستبعداً أيضاً لما لهم من كثرة الإمداد وقوة الحمية ، قال معبراً بأداة البعد : ( ثم ) أي بعد طول الزمان وكثرة الأعوان ) لا يجدون ( في وقت من الأوقات ) ولياً ) أي يفعل معهم فعل القريب من الحياطة والشفقة والحراسة من عظيم ما يحصل من رعب تلك التولية ) ولا نصيراً ( .
ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعاً ، وأن جندنا لهم الغالبون ، قال تعالى : ( سنة الله ) أي سن المحيط بهذا الخلق في هذا الزمان وما بعده كما كان محيطاً بالخلق في قديم الدهر ، ولذلك قال : ( التي قد خلت ) أي سنة مؤكدة لا تتغير ، وأكد الجار لأجل أن القتال ما وقع الزمان الماضي إلا بعد نزول التوراة فقال : ( من قبل ( وأما قبل ذلك فإنما كان يحصل الهلاك بأمر من عند الله بغير أيدي المؤمنين ) ولن تجد ( أيها السامع ) لسنة الله ( الذي لا يخلف قولاً لأنه محيط بجميع صفات الكمال ) تبيدلاً ) أي تغيراً من مغير ما ، يغيرها بما يكون بدلها .
ولما تقرر أن الكفار مغلوبون وإن قاتلوا ، وكان ذلك من خوارق العادات مع كثرتهم دائماً وقلة المؤمنين حتى يأتي أمر الله موقعاً للعلم القطعي بأنه ما دبره إلا الواحد القهار القادر المختار ، عطف عليه عجباً آخر وهو عدم تغير أهل مكة في هذه العمرة للقتال بعد تعاهدهم وتعاقدهم عليه مع ما لهم من قوة العزائم وشدة الشكائم ، فقال عاطفاً على ما تقديره : هو الذي سن هذه السنة العامة : ( وهو الذي كف ) أي وحده من غير معين له على ذلك ) أيديهم ) أي الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم ، فإن الكل شرع واحد ) عنكم وأيديكم ( أيها المؤمنون ) عنهم ( .
ولما كان الكفار لو بسطوا أيديهم مع ما حتمه الله وسنه من تولية الكفار دخلوا مكة قال : ( ببطن مكة ) أي كائناً كل منكم ومنهم في داخل مكة هم حالاً وأنت مآلاً ، وعن القفال أنه قال : يجوز أن يراد به الحديبية لأنها من الحرم - انتهى .
وعبر بالميم دون الباء كما في آل عمران إشارة إلى أنه فعل هنا ما اقتضاه مدلول هذا الاسم من الجمع والنقض والتنقية ، فسبب لهم أسباب الاجتماعية والتنقية من الذنوب - بما أشارت إليه آية العمرة حالاً وآيات الفتح مآلاً ، ووفى بما يدل عليه اسمها من الأهل على خلاف القياس .
ولما كان هذا ليس مستغرقاً لجميع الزمان الآتي ، بل لا بد أن يبسط أيدي المؤمؤمنين بها يوم الفتح ، أدخل الجار فقال تعالى : ( من بعد أن أظفركم ) أي أوجد فوزكم بكل ما طلبتم منهم وجعل لكم الطول والعز ) عليهم ( وذلك فيما رواه أصحاب .(7/207)
صفحة رقم 208
السير قالوا : ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له فقال له التغلب : ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثت قريش أربعين رجلاً منهم أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصيبوا لهم من أًحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتى بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكره بالحجارة والنبل ، ثم ذكروا إرساله ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان رضي الله عنه إلىمكة ثم إرسال قريش لسهيل بن عمرو في الصلح ، وروى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : لما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في أصلها فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة ، فجعلوا يقعون في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأبغضتهم ، فتحولت إلى شجرة أخرى ، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا آل المهاجرين : قتل ابن زنيم ، فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم ، فجعلته ضغثاً في يدي ، ثم قلت والذي كرم وجه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يرفع أحد منك رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجاء عمي عامر رضي الله عنه برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على فرس مجفف في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه ، فعفا عنهم فأنزل الله تعالى ) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ( الآية - انتهى .
وروى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل التنعيم متسلحين ، يريدون غرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم ، وفي رواية النسائي : قالوا : نأخذ محمداً - ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، فأخذهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سلماً فاستحياهم فأنزل الله عز وجل ) وهو الذي كف أيديهم عنكم ( الآية .
ولما كان هذا ونحوه من عنف أهل مكة وغلظتهم وصلابتهم وشدتهم ورفق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولينه لهم مما أحزن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال تعالى سلبهم : ( وكان الله ) أي المحيط بالجلال والإكرام ) بما يعلمون ) أي الكفار - على قراءة أبي عمرو بالغيب ، وأنتم - على قراءة الباقين بالخطاب في ذلك الوقت وفيما بعده كما كان قبله ) بصيراً ) أي محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره فهو يجريه في(7/208)
صفحة رقم 209
هذه الدار التي ربط فيها المسببات بأسبابها على أوثق الأسباب في نصركم وغلبكم لهم وقسركم ، وستعلمون ما دبره من دخولكم مكة المشرفة آمنين لا تخافون في عمرة القضاء صلحاً ثم في الفتح بجحفل جرار قد نيطت أظفار المنايا بأسنة رماحه ، وعادت كؤوس الحمام طوعاً لبيض صفاحه ، فيؤمن أكثر أهل مكة وغيرهم ممن هو الآن جاهد عليكم ، ويصيرون أحب الناس فيكم يقدزن أنفسهم في جهاد الكفار دونكم ، فيفتح الله بكم البلاد ، ويظهركم - وهو أعظم المحامين عنكم - على سائر العباد .
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار ، عينهم مبيناً لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال : ( هم ) أي أهل مكة ومن لا فهم ) الذين كفروا ) أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم ) وصدوكم ( زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه ) عن المسجد الحرام ) أي مكة ، ونفس المسجد الحرام ، والكعبة ، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة ) والهدي ) أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء ، ومنه أربعون ، وفي رواية : سبعون بدنة ، كان أهداها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معكوفاً ) أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله ) أن يبلغ محله ) أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره ، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه ، وهو في العمرة المروة ، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم ، فالموضع الذي نحر فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه المرة عند الإحصار ليس محله المطلق .
ولما كان التقدير : فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم ، ثم عطف عليه أمراً أخص منه فقال : ( ولولا رجال ) أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة ) مؤمنون ) أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية ) ونساء مؤمنات ) أي كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة ، على أن ذلك شامل لمن جبله اللهعلى الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً ) لم تعلموهم ) أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب ، ثم أبدل من ( الرجال والنساء ) قوله : ( أن تطؤهم ) أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آخر وطأة وطئها الله بوج ) يكون ذلك(7/209)
صفحة رقم 210
الأذى منكم لهم على ظن أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس وتضغطوهم وتأخذوهم أخذاً شديداً بقهر وغلبة تصيرون به لا تردون يد لامس ولا تقدرون على مدافعة ) فتصيبكم ) أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم ) منهم ) أي من جهتهم وبسببهم ) معرة ) أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه ، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص ، وبعدم الإمعانن في البحث ، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له ، ثم علق بالوطء المسبب عنه إًابة المعرة إتماماً للمعنى قوله : ( بغير علم ) أي بأنهم من المؤمنين .
ولما دل السياق على أن جواب ( لولا ) محذوف تقديره : لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم ، ولكنه علم ذلك ، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم ، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل ، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه ) ليدخل الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) في رحمته ) أي إكرامه وإنعامه ) من يشاء ( من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام ، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منه على أرفق وجه ، ولما كان ذلك ، أنتج قوله تعالى : ( لو تزيلوا ) أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً يحث لا يختلط صنف بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم ) لعذبنا ) أي بأيديكم بتسليطنا أبو بمجرد أيدنا من غير واسطة ) الذين كفروا ) أي أوقعوا ستر الإيمان .
ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض ، صرح بما دل عليه السياق فقال : ( منهم ) أي الفريقين وهم الصادون ) عذاباً أليماً ) أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار ، ففيه اتعذار وتدريب على تأدب بعضهم مع بعض ، وفي الإشارة إلى بين سر من أسرار منع الله تعالى لهم من التسليط عليهم حث للعبد على أن لا يتهم الله في قضائه فربما عسر عليه أمراً يظهر له أن السعادة كانت فيه وفي باطنه سم قاتل ، فيكون منع الله له منه رحمة في الباطن وإن كان ننقمة في الظاهر ، فألزم التسليم مع الاجتهاد في الخير والحرص عليه والندم على فواته وإياك والاعتراض ، وفي الآية أيضاً أن الله تعالى قد يدفع عن الكافر لأجل المؤمن .
الفتح : ( 26 - 27 ) إذ جعل الذين. .. . .
) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ(7/210)
صفحة رقم 211
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) 73
( ) 71
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب ، بين وقته ، وفيه بيان لعلته ، فقال : ( إذ ) أي حين ) جعل الذين كفروا ) أي ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم ) في قلوبهم ) أي قلوب أنفسهم ) الحمية ) أي المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار ، ولما كان مثل هذه الحمية قد تكون موجبة للرحمة بأن تكون لله ، قال مبيناً معظماً لجرمها ، ) حمية الجاهلية ( التي مدارها مطلق المنع أي سواء كان بحق أو بباطل ، فتمنع من الإذعان للحق ، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع ، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء ، ومن الإقرار بالبسملة ، فأنتجت لهم هذه الحمية أن تكبروا عن كلمة التقوى وطاشوا وخفوا إلى الشرك الذي هو أبطل الباطل .
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلاً ، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة ، فقال مسبباً عن هذه الحمية : ( فأنزل الله ) أي الذي لا يغلبة شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ) سكينته ) أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح والموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه ، إنزالاً كائناً ) على رسوله ( ( صلى الله عليه وسلم ) الذي عظمته من عظمته ، ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه ) وعلى المؤمنين ( رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول سورة محمد وحماهم عن همزات الشياطين ، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع ) وألزمهم ) أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف ، لا إلزام إهانة وتعنيف ) كلمة التقوى ( وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ، يقتضي التحقق بمدلولها من أنه لا فاعل إلا الله الثبات على كل ما أخبر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من التوحيد والبسملة والرسالة مع تغيير الكتابة بكل منهما لأجل الكفار في ذلك المقام الدحض الذي لا يكاد يثبت فيه قدم ، وأضافها إلى التقوى التي هي اتخذا ساتر يقي حر النار فجعلها وصفاً لازماً لهم غير منفك عنهم(7/211)
صفحة رقم 212
لأنها سببها الحامل عليها ، ويجمع الحامل على التقوى اعتقاد الواحدانية وهي لا إلا الله فإنها كلمة - كما قال الرازي - أولها نفي الشرك وآخرها تعلق بالإلهية ، وهذا من أعلام النبوة ، فإن أهل الحديبية الذين ألزموا هذه الكلمة ماتوا كلهم على الإسلام ) وكانوا ) أي جبلة وطبعاً .
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً ، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى : ( أحق بها ) أي كلمة التقوى من الكفار والأعرب وغيرهم من جميع الخلق ، ولمثل هذا التعميم أطلق الأمر بحذف المفضل عليه ، ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى : ( وأهلها ) أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها .
ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفاً على ما تقديره : لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها : ( وكان الله ) أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة ) بكل شيء ( من ذلك وغيره ) عليماً ) أي محيط العلم الدقيق والجلي ، والآية من الاحتباك : ذكر حمية الجاهلية أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، وكلمة التقوى ثانياً دليلاً على ضدها أولاً ، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولاً ترهيباً منه ومجمع الخير ثانياً ترغيباً فيه .
ولما قرر سبحانه وتعالى علمه بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة من لا يعلم من المؤمنين - وغير ذلك إلى ختم بإحاطة علمه المستلزم لشمول قدرته .
أنتج ذلك قوله لمن توقع الإخبار عن الرؤيا التي أقلقهم أمرها وكاد بعضهم أن يزلزله ذكرها على سبيل التأكيد : ( لقد ( .
ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران : أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين : والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، عبر بالصدق والحق فقال تعالى : ( صدق الله ) أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال ) رسوله ( ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون ، فكيف إذا كان المخبر رسوله ) الرؤيا ( التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون ، متلبساً خبره ورؤيا رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالحق ( لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه ، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه ، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً ، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً .
ولما أقسم لأجل التأكيد لمن كان يتزلزل ، أجابه بقوله مؤكداً بما يفهم القسم أيضاً(7/212)
صفحة رقم 213
إشارة إلى عظم الزلزال .
) لتدخلن ) أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره ) المسجد ) أي الذي يطاف فيه باكلعبة ولا يكون دخوله إلى بدخول الحرم ) الحرام ) أي الذي أجاره الله من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم .
ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به ، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول منهم بعد ذلك : ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك ، ولغيرهم أن يقول : نحن ندخل : ( إن شاء الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ، حال كونكم ) آمنين ( لا تخشون إلا الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين ) محلقين رءوسكم ( ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحق كثير ، وكذا ) ومقصرين ( غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر .
ولما كان الدخول حال الأمن لا يستزلم الأمن بعده قال تعالى : ( لا تخافون ) أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر ، ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم ، فكان التقدير ، هذا أمر حق يوثق غاية الوثوق لأنه إخبار عالم الغيب والشهادة ، صدق سبحانه فيه ، وما ركم عنه هذه الكرة على هذا الوجه إلا لأمور دبرها وشؤون أحكمها وقدرتها ، قال عاطفاً على ) صدق ( مسبباً عنه أو معللاً : ( فعلم ) أي بسبب ، أو لأنه علم من أسباب الفتح وموانعه وبنائه على الحكمة ) ما لم تعلموا ) أي أيها الأولياء ) فجعل ) أي بسب إحاطة علمه ) من دون ) أي أدنى رتبة من ) ذلك ) أي الدخول العظيم في هذا العام ) فتحاً قريباً ( يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح ، واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض ، الموجب لإسلام بشر كثير تتقوون بهم ، فتكون تلك الكثرة والقوة سبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال ، فتقل القتلى رفقاً بأهل حرم الله تعالى إكراماً لهذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) عن إغارة وإصابة من عنده من المسلمين المستضعفين من غير علم .
الفتح : ( 28 - 29 ) هو الذي أرسل. .. . .
) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( ( )
ولما أخبر بهذه الأمور الجليلة الدقيقة المبنية على إحاطة العلم ، عللها سبحانه وبين الصدق فيها بقوله تعالى : ( هو ) أي وحده ) الذي أرسل رسوله ) أي الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه - ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالهدى ( الكامل الذي يقتضي أن يستقيم به أكثر الناس ، ولو أنه أخبر بشيء يكون فيه أدنى مقال لم يكن الإرسال بالهدى ) ودين الحق ((7/213)
صفحة رقم 214
أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع ) ليظهره ) أي دينه ) على الدين كله ( دين أهل مكة والعرب عباد الأصنام ، الذي يقتضي إظهاره عليه دخوله إليه آمناً ، وإظهاره على من سواهم من أهل الأديان الباطلة بأيدي صحابته الأبرار والتابعين لهم بإحسان إظهاراً يتكامل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام مع الرفق بالخلق والرحمة لهم ، فلا يقتل إلا من لا صلاح له أصلاً ، وعلى قدر الجبروت يحصل القهر ، فلأجل ذلك هو يدبر أمره بمثل هذه الأمور التي توجب نصره وتعلي قدره مع الرفق بقومه وجميل الصنع لأتباعه ، فلا بد أن تروا من فتوح أكثر البلاد وقهر الملوك الشداد ما تعرفون به قدرة الله سبحانه وتعالى .
ولما كان في سياق إحاطة العلم ، وكان التقدير : شهد ربه سبحانه بتصديقه في كل ما قاله بإظهار المعجزات على يده ، بنى عليه قوله تعالى ) وكفى بالله ) أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ) شهيداً ) أي ذا رؤية وخبرة بطية كل شيء ودخلته لما له الغنى في أمره ، ولا شهيد في الحقيقة إلا هو سبحانه لأنه لا إحاطة وخبرة ورقبة إلا له سبحانه ، وهو يشهد بكل ما أخبر به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الصورة خصوصاً وفي غيرها عموماً .
الفتح : ( 28 - 29 ) هو الذي أرسل. .. . .
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( ( )
ولما ختم سبحانه بإحاطة العلم بالخفايا والظواهر في الأخبار بالرسالة ، عينها في قوله جوابا لمن يقول : من الرسول المنوه باسمه : ( محمد رسول الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ، فهو الرسول الذي لا رسول يساويه لأنه رسول إلى جميع الخلق ممن أدرك زمانه بالفعل فيالدنيا ومن تقدمه بالقونة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه ، وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا بع إن أدركوه ، وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم ، لا يكتب الرحمة التي وسعت كل شيء إلا لمن وقع العلم بالمحيط بأنه يؤمن به. فما عمل عامل عملا صالحا إلا كان له مثل أجره ، تقدم ذلك العامل أو تاخر ، كان من أهل السماء أو من أهل الأرض ، وهذا أمر لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى ، وأشار بذلك إلى هذا الاسم بخصوصه في سورة محمد إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) هو الختام ، بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج ، وهي محيطة بما أشارت إليه(7/214)
صفحة رقم 215
صورته ، وكررت في الاسم بعده التأكيد ، وهو ثلاث - كما أشار إليه اسمه : أحمد إلى أنه مع كونه خاتما فهو فاتح بما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " كنت أولهم خلقا وآخرهم بعثا " واختصت به سورة الصف ليعادل ذلك بتصريح المبشر به عليه الصلاة والسلام بالبعدية في قولهع ) برسول يأتي من بعدي اسمع أحمد ) [ الصف : 6 ] وأشارت الميم أوله أيضا إلى بعثه عن د الأربعين ، وما بقى من حروفه وهي حمد يفيد له كمال الحمد بالفعل في السنة الثانية والخمسين من عمره وهي الثانية عشرة من نبوته ببيعة الأنصار رضي الله عنهم ، وقد أشارت هذه السورة إلى كلمة الإخلاص تلويحا مما ذكرت من كلمة الرسالة تصريحا وبطنت سطوة الإلهية وظهرت الرحمة المحمدية - كما أشارت القتال إلى الرسالة تلويحا وصرحت بسطوة الإلهية بكلمة الإخلاص والناشئة عن القتال تصريحا ، وقد تقدم في القتال نبذة من أسرار الكلمتين ، ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى : ( والذين معه ) أي بمعية الصحبة من أصحابه وحسن التيعية من التابعين لهم بإحسان. ولما كان شرف القوم شرفا لرئيسهم ، مدحهم بما يشمله فقال تعالى : ( أشداء على الكفار ( فهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته ، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم ) رحماء بينهم ( كالوالد مع الولد ، لأن الله تعالى أمرهم باللين للمؤمنين ، ولا مؤمن في زمانهم إلا من كان من أهل دينهم ، فهو يحبهم ويحبونه بشهادة آية المائدة .
ولما كان هذا بخلاف ما وصفت به الأمم الماضية من أنهم ما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم ، فكان عجبا ، بين الحامل عليه بقوله : ( تراهم ) أي أيها الناظر لهم ) ركعا سجدا ) أي دائمي الخضوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملائكة على صفاتهم الحيوانية ، فكانت الصلاة آمرة لهم بالخير مصفية عن كل نقص وضير .
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء ، بين إخلاصهم بقوله : ( يبتغون ) أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليبا لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ) فضلا ) أي زيادة من الخير ) من الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيدا غيره ، ولا محسن سواه ، ولما ذكر عبادتهم وطلبهم الزيادة منها ومن غيرها من فضل الله الذي لا يوصل إلى عبادته إلا بمعونته ، أتبعه المطلوب الأولى فقال : ( ورضوانأ ) أي رضاء منه عظيما .(7/215)
صفحة رقم 216
ولما ذكر كثرة عبادتهم وأتبعها إخلاصهم فيها اهتماما به لأنه لا يقبل عملا بدونه ، دل على كثرتها بقوله : ( سيماهم ) أي علامتهم التي لا تفارقهم ) في وجوههم ( ثم بين العلامة بقوله : ( من أثر السجود ( فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث إنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه ذكر الله ، وإذا قرأ أورثت قراءته حزنا وخشوعا وإخباتا وخضوعا ، وإن كان رث الحال ردئ الهيئة ، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر السجود في جبهته ، فإذا ذلك من سيما الخوارج ، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثفن ، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : رأى رجلا بين عينيه مثل ثفنة العنز ، فقال : لو لم يكن هذا لكان خيا يعني كان على جبهته أثر السجود ، وإنما كرهها خوفا من الرياء بها ، وقد روى صاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود .
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاء الله من جميع حظوظه وشهواته ، أشار إلى علوه فقال : ( ذلك ) أي هذا الوصف العالي جدا البديع المثال البعيد المنال ) مثلهم في التوراة ( فإنه قال فيها : أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير ، وظهر لنا من جبل فاران ، معه ربوات الأطهار على يمنه ، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك. فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره ( صلى الله عليه وسلم ) ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته ، وأنهم في الطهارة كالملائكة ، وأيه ذلك جعلهم من أهل اليمين ، ووصفهم بالتحبيب إلى ىالشعوب ، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من شهادة الوجود - هذا مع ما وجدته في التوراة بعد تبديلهم لما بدلوا منها وإخفائهم كما قال الله تعالى لكثير ، وروى أصحاب فتوح البلاد في فتح بيت المقدس من كعل الأحبار أن سبب إسلامه أن أباه كان أخبره أنه ذخر عنه ورقتين جعلهما في كوة وطين عليهما ، وأمره أن يعمل بهما بعد موته ، قال : فلما مات فتحت عنهما فإذا فيهما : محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح ، وإن أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل(7/216)
صفحة رقم 217
شيء وعلى كل حال ، ويذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناواه ، يغسلون فروجهم بالماء ، ويؤثرون على أواسطهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، يأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها ، تراحمهم بينهم تراحم بين الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، هم السابقون المقربون والشافعون والمشفع لهم وأصله في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفي الدارمي عن كعب هذا ، ولأصحاب الفتوح عن سمرة عن كعب قال : قلت لعمر رضي الله عنه وهو بالشام عند انصرافه : يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيلف وكانوةا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء ، أتباعه رهبان بالليل أسد بالنهار ، متزاحمون متباذولن فقثال عمر : ثطكلتك أمك أحق ما تقول ؟ قلت : أي وةالذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول إنه لحق ، فقال عمر : فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورحمته التي وسعت كل شيء - هذا على أ ، المراد بالمثل الوصف ، ويمكن أن يكون على حقيقته ، ويكون الذي في التوراة ما ترجمته " هم على أعدائهم كفرن الحديد وفيما بينهم فيء النفع والتواصل كالماء والصعيد ، ولربهم كخامة الزرع مع الريح والصديق النصيح ، وفي الإقبال على الآخرة كالمسافر الشاحب والباكي الناحب " فعبر عنه في كتابنا بما ذكر .
ولماذكر مثلهم في الكتاب الأول ، أتبعه الكتاب الثاني الذي هو ناسخ ليعلم أنه قد أخذ على كل ناسخ لشريعنه أن يصفهم لأمته ليتبعوهم إذا دعوهم فقال : ( ومثلهم في الإنجيل ) أي الذي نسخ الله به بعض أحكام التوراة ) كزرع ) أي مثل زرع ) أخرج شطأه ) أي فراخه وورقه وما خرج حول أصوله ، فكان ذلك كله مثله .
ولما ذكر هذا الإخراج سبب عنه قوله ) فأزره ) أي فأحاط به الشطأ ، فقواه وطهره من غير نبتة نبتت عنه فتضعفه وساواه وحاذاه وعاونه ، ويظهر أن قراءة الهمزة بالمد على المفاعلة أبلغ من قراءة ابن عامر بالقصر ، لأن الفعل إذا كان بين اثنين يتجاذبانه كان الاجتهاد فيه أكثر ، ثم سبب عن المؤازرة قوله ) فاستغلظ ) أي وجد فيه القيام العدل وجودا عظيما كأ ، ه كان بغاية الاجتهاد والمعالجة ) على سوقه ) أي قصبه ، جمع ساق ، وهو ما قام عليه الشيء ، حال كونه هذا المذكور من الزرع والشطأ ) يعجب الزراع ( ويجوز كونه استئنافا للتعجب منه والمبالغة في مدحه وإظهار السرور في أمره ،(7/217)
صفحة رقم 218
وإذا أعجبهم وهم في غاية العناية بأمره والتفقد لحاله والملابسه له ومعرفة معانية كان لغيرهم أشد إعجابا ، ومثل لأنهم يكونون قليلين ثم يكثرون مع البهجة في عين الناظر لما لهم من الرونق الذي منشؤه نور الإيمان وثبات الطمأنينة والإيقان وشدة الموافقة من بعضهم لبعض ، ونفي المخالف لهم وإبعاده ، وقد تقدم في هذا الكتاب في آخر المائدة أمثال ضربت في الإنجيل بالزرع أقربها إلى هذا مثل حبة الخردل فراجعه .
ولما أنهى سبحانه مثلهم ، ذكر الثمرة في جعلهم كذلك فقال : ( يغيظ ( معلقا له بما يؤخذ من معنى الكلام وه جعلهم كذلك لأجل أن يغيظ ) بهم ) أي غيظا شديدا بالغ القوة والإحكام ) الكفار ( وذلك أنهم لما كانوا أولأمر قليلا ، كان الكفار طامعين في أن لا يتم لهم أمر ، فكلما ازدادوا كثرة مع تمادي الزمان زاد غيظ الكفار منهم ، فكيف إذا رأوا مع الزيادة والقوة منهم حسنا ونضارة ورونقا وبهجة ن فهو في الغيظ مما لو كانوا في أول الأمر كثيرا لأنه كان يكون دفعه ويقصر زمنه ، فمن أبغض صحابيا خيف عليه الكفر لأنهم أول مراد بالآية ، وغيرهم بالقصد الثاني وبالتبع ، ومن أبغضهم كلهم كان كافرا ، وإذا حملناه على غيرهم كان دليلا على أن كل من خالف الإجماع كفر ، قاله القشيري .
ولما ثم مثلهم وعلة جعلهم كذلكط ، بشرهم فقال فيموضع وعدهم لتعليق الوعد بالوصف على عادة القرآن ترغيبا في التمسك به وترهيبا من مجانبته : ( وعد الله ) أي الملك الأعظم ) الذين آمنوا ( ولما كان الكلام في الدين معه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت المعية ظاهرة في الاتحاد في الدين لم تكن شاملة للمنافقين ، فلم يكن الاهتمام بالتقييدة بمنهم هنا كالاهتمام به في سورة النور ، فأخره وقدم العمل لأن العناية به هنا أكصر ، لأنه من سيماهم المذكورة فقال : ( وعملوا ) أي تصديقا لدعواهم الكون معه في الدين ) الصالحات ( ولما كان قوله " معه " يعم كما مضى من بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وكان الخلل فيمن بعدهم كثيرا ، قيد بقوله : ( منهم ) أي من الذين معه ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كانوا من أصل الزرع أو فراخه وةهم التابعون لهم بإحسان .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصرا عن بلوغ ما يحق له من العبادة ، أشار إلى ذلك بقوله : ( مغفرة ) أي لما يقع منهم من الهفوات أو الذنوب والسيئات ) وأجرا عظيما ( بعد ذلك الستر ، وقد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلو نصرهم ، وذلك أنه لما كانت هذه العمرة قد حصل لهم فيها كسر لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم من الدخول إلى مكة المشرفة والطواف بالبيت العتيق ، ولم يكن ذلك بسبب(7/218)
صفحة رقم 219
خلل أتى من قبلهم كما كان في غزوة أحد على ما مضى من بيانه في آل عمران التي هي سورة التوحيد الذي كلمته كلمة التقوى عند الآية الثانية لهذه ، بشرهم سبحانه بما في هذه السورة من البشائر الظاهرة تصريحا وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف المعجم تلويحا إلى أن أمرهم لا بد من تمامه ، واشتداد سلكه وانبرامه ، واتساق شأنه وانتظامه ، وخفوق ألويته وأعلامه ، وافتتحها بميم " محمد " وهي مضمومة ، وختمها بميم " عظيما " المنصوبة إشارة بما للميم من الختام بمخرجها إلى أن تمام الأمر قد دنا جدا إبانمة ، وحضر زمانه ، وبما في أولها من الضم إلى رفعه دائمة في حمد كثير ، وبما في آخرها من النصب إلى تمام الفتح وانتشاره ، وقربه واشتهاره ، على وجه عظيم ، وشرف في علو جسيم وأومأ تدويرها إلى أ ، ه أمر لا انتهاء له ، بل كلما ختم أبتدأ ، وقد ظهر من هذا وما في صريح الآية من القوة المعزة للمؤمنين المذلة للكافرين رد مقطعها على مطلعها بالفتح للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والتسكين العظيم لأصحلبه رضي الله عنهم ، والرحمة والمغفرة والفوز العظيم لجميع أتباعه وأنصاره وأشياعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وجعلنا بمنه وكرمه منهم ، وهذا آخر القسم الأول من القرآن ، وهو المطول ، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وحاصلهما الفتح له بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرا كما ختم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له ( صلى الله عليه وسلم ) بالحال على من قصده بالضر باطنا - والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه .(7/219)
صفحة رقم 220
سورة الحجرات
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالأدب معه في نفسه وفي أمته ، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلا على الباطن فيسمى إيمانا ، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له ) الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) [ العنكبوت : 2 ] فحاصل مقصودها مراقبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الأدب مغعه لأتها أول المفصل الذي هو ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله ، وابتدئ ثاني المفصل بحرف منن الحروف المقطعة كما ابتدئئ ثاني ما عداه بالحروف المقطعة ، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما دلت عليه آيته ) بسم الله ( الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يرض عنه عملا ) الرحمن ( الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب ) الرحيم ( الذي خص أولي الألباب الإقبال على ما يوجب لهم جميل الثواب .
الحجرات : ( 1 - 3 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ( )
ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ابتدائها باسمه الشريق وسمى السورة به ، وملأ سورة محمد بتعظيمه ، وختمها باسمه ، ومدح أتباعه لأجله ، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد من حزبه والفوز بقربه ، ومدار ذلك معالي الأخلاق ، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظة الآخر ، وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين(7/220)
صفحة رقم 221
في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق ، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام ، فصل النداء بسببها خمس مرات ، كل مرة لقسم منها ، واففتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس الذي لا يبنى إلا عليه ، فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً على أن سبب نزولها من أفعالهم أهل الكمال ، فهو هفوة تقال ، وما كان ينبغي أن يقال ، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى .
) يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) لا تقدموا ( وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم كل مذهب ، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً ، بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل ، ويجوز أن يكون من قدم - بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم ، ومنه مقدمة الجيش ، وهم متقدموه ، وأشار إلى تهجين ما نهوا عنه وتصوير شناعته ، وإلى أنهم في القبضة ترهيباً لهم فقال : ( بين يدي الله ) أي الملك الذي لا يطاق انتقامه .
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم ، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض أصلاً ، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه ، لأن العبيد لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلاً ، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال : ( ورسوله ) أي الذي عظمته ظاهرة جداً ، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره ، فهو تميهدي لما يأتي من تعظيمه ، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى ، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه ، وإجلالاً له ، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة .
فالمعنى : لا تكونوا متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى ، فعلىالغير الاقتداء والاتباع ، لا الابتداء والابتداع ، سواء كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غائباً أو حاضراً بموت أو غيره ، فإن آثاره كعينه ، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح ،
77 ( ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( ) 7
[ العنكبوت : 69 ] .
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف ، صرح بذلك بقوله تعالى : ( واتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية ، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه .(7/221)
صفحة رقم 222
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه ، وأقرب إليه من نفسه ، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر ، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء ، ذكره مرهباً بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به والمواظبة على الاستمرار على استحضاره ، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره : ( إن الله ) أي الذي له الغحاطة بصفات الكمال .
ولما كان ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال : ( سميع ) أي لأقوالكم أن تقولوها ) عليم ) أي بأعمالكم قبل أن تعملوها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير ، لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابه نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال
77 ( ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ( ) 7
[ الفتح : 29 ] ( إلى آخره ) ، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل ، وهذه خصيصة انفردا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى
77 ( ) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ( ) 7
[ آل عمران : 110 ] إلى آخره ، وشهدت لهم بعظيم المنزلة ليده ، ناسب هذا طلبهم بتوفية العشب الإيمانية قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية ، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل
77 ( ) يا موسى ادع لنا ربك ( ) 7
[ الأعراف : 134 ] إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( الآية و ) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول - والله غفور رحيم ( فطلبوا بآدب تناسب عليّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل لهم : لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل ، فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث ف يالخطاب ، أو سوء قصد في الجواب ، وطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم ) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ( ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى ) إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ( ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان ، أو تقول ذي بهتان ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ( الآية ، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع ، وأن الخير كله في التقوى ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة محمد .(7/222)
صفحة رقم 223
ولما ثبت إعظام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن لا يفتات عليه بأن يتأهب ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات ، فلا يكلم إلا جواباً أو سؤالاً في أمر ضروري لا يمكن تأخيره ، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعاً الأولى به غيره مما هو دونه ، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة ، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام ، قال ذاكراً لثاني الأقسام ، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه ( صلى الله عليه وسلم ) بالقصد الأول ، مستنجاً مما مضى من وصفه بالرسالة الدالة على النبوة ، آمراً بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته بتبجيله وتفخيمه ، وإعزازه وتعظيمه ، مكرراً لندائهم بما ألزموا أنسهم به من طاعته بتصديقه واستعداء لتجديد الاستنصار وتطرية الندب إلى الإنصات وإشارة إلى أن المنادى له أمر يستحق أن يفرد بالنداء ويستقل بالتوصية : ( يا أيها الذين آمنوا ( مكرراً للتعبير بالأدنى من أسنان القلوب للتنبيه على أن فاعل مثل هذه المنهيات والمتحاج فيها إلى التنبيه بالنهي قد فعل من هذا حاله ) لا ترفعوا أصواتكم ) أي في شيء من الأشياء ) فوق صوت النبي ) أي الذي يتلقى عن الله ، وتلقيه عنه متوقع في كل وقت ، وهذا يدل على أن أذى العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عند شديد جداً ، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك .
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة ، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال : ( ولا تجهروا بالقول ) أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته ، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ، ويوقر الكبراء .
ولما شمل هذا كل جهر مخصوص ، وهو ما يكون مسقطاً للمزية ، قال : ( كجهر بعضكم لبعض ) أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين غيره .
ولما نهى عن ذلك ، بين ضرره فقال مبيناً أن من الأعمال ما يحبط ولا يدرى أنه محبط ، ليكون العامل كالماشي في طريق خطر لايزال يتوقى خطره ويديم حذره : ( أن ) أي النهي لأجل خشية أن ) تحبط ) أي تفسد فتسقط ) أعمالكم ) أي التي هي الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها ) وأنتم لا تشعرون ) أي بأنها حبطت ، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استف به واظب عليه ، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر .
ولما تقدم سبحانه في الإخلاء بشيء من حرمته ( صلى الله عليه وسلم ) ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف ، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال ، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم ، فقال مؤكداً لأن في المنافقين وغيرهم من يكذب بذلك ، وتنبيهاً .(7/223)
صفحة رقم 224
على أنه لمحبة الله له ورضاه به أهل لأن يؤكد أمره ويواظب على فعله : ( إن الذين يغضون ) أي يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته ، قال الطبري : وأصل الغض الكف في لين ) أصواتهم ( تخشعاً وتخضعاً ورعاية للأدب وتوقيراً .
ولما كان المبلغ ربما أنساه اللغط ورفع الأصوات ما كان يريد أن يبلغه ( إنه بينت لي ليلة القدرة فخرجت لأخبركم بها فتلاحى رجلان فأنسيتها وعسى أن يكون خيراً لكم ) قال : ( عند رسول الله ) أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام ، لأنه مبلغ من الملك الأعظم وعبر بعند التي للظاهر إشارة إلى أن أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب .
ولما ابتدأ ذكرهم مؤكداً تنبيهاً على عظيم ما ندبوا إليه ، زاده إعظاماً بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال : ( أولئك ) أي العالو الرتب لما لهم من علو الهمم بالخضوع لمن أرسله مولاهم الذي لا إحسان عندهم إلا منه ) الذين امتحن الله ) أي فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر بالمخالطة البليغة بالشدائد على وجه يؤدي إلى المنحة باللين والخلوص من كل درن ، والانشراح والاتساع ) قلوبهم ( فأخلصها ) للتقوى ) أي الخوف المؤدي إلى استعداد صاحبه قإبامة ما يقيه من كل مكروه ، والامتحان : اختبار بليغ يؤدي إلى خبر ، فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة للتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة كما كان معلوماً له سبحانه في عالم الغيب ، وهو خروجهم عن العادات البشرية ومفارتهم لما توجبه الطبيعة ، وهو حقيقة التوحيد ، فإن التقوى لا تظهر إلا عند المحن والشدائد بالتكليف وغيرها ، ولا تثبت إلا بملازمة الطاعة في المنشط والمكره والخروج عن مثل ذلك .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد في الإحسان محلاًّ للنقصان ، استأنف الإخبار عن جزائهم بقوله : معرباً له من فاء السبب ، إشارة إلى أن ذلك بمحض إحسانه : ( لهم مغفرة ) أي لهفواتهم وزلاتهم ) وأجر عظيم ) أي جزاء لا يمكن وصفه على محاسن ما فعلوه .
الحجرات : ( 4 - 7 ) إن الذين ينادونك. .. . .
) إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ(7/224)
صفحة رقم 225
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) 73
( ) 71
ولما نهى سبحانه عن الإخلاء بالأدب ، وأمر بالمحافظة على التعظيم ، وذكر وصف المطيع ، أتبع ذلك على سبيل النتيجة وصف من أخل به ، فقال مؤكداً لأجل أن حالهم كان حال من يدع عقلاً تاماً : ( إن الذين ينادونك ) أي يجددون نداءك من غير توبة والحال أن نداءهم إياك كائن ) من وراء ( إثبات هذا الجار يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان داخلها ، ولو سقط لم يفد ذلك ، بل كان يفيد أن نسبة الأماكن التي وراءها الحجرات كلها بالنسبة وإليهم على حد سواء ، وذلك بأن يكون الكل خارجها ، والوراء : الجهة التي تواريك وتواريها من خلف أو قدام .
ولما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من العظمة في نفسه وفي تبلغ رسالات الله في هيئتها بمكان من العظمة بحيث لا يخفى على أحد .
فليس لأحد أن يفتات فيها عليه ولا أن يعجله عن شيء ، وكان نداؤه لذلك من وراء حجرته واحدة كندائه من وراء كل حجرة جمع فقال : ( الحجرات ( ولم يضفها إليه إجلالاً له ، وليسمل كوني في غيرها أيضاً ، والمعنى : مبتدئين النداء من جهة تكون الحجرات فيها بينك وبينهم فتكون موازية لك منهم ولهم منك ، وهي جمع حجرة ، وهي ما حوط من قطع الأرض بحائط يمنع ممن يكون خارجه من أذى من يكون داخله بقول أو فعل ، فإنه يكون فيما يختص به من الاجتماع بنسائه أو إصلاح شيء من حاله ، لا يتهيأ له بحضور الناس فيما يتقاضاه المروءة ، وأسند الفعل إلى الجمع وإن كان المنادي بعضهم للرضى به أو السكوت عن النهي .
ولما كان الساكت قد لا يكون راضياً قال : ( أكثرهم ) أي المنادي والراضي دون الساكت لعذر ) لا يعلقون ( لأنهم لم يصبروا ، بل فعلوا معه ( صلى الله عليه وسلم ) كما يفعل بعضهم مع من يماثله ، والعقل يمنع من مثل ذلك لمن اتصف بالرئاسة فكيف إذا كانت رئاسة النبوة والرسالة عن الملك الجبار الواحد القهار .
ولما ذمهم بسوء عملهم ، أرشدهم إلى ما يمدحون به من حسنه فقال : ( ولو أنهم ) أي المنادي والراضي ) صبروا ) أي حبسوا أنفسهم ومنعوها عن مناداتهم ، والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها وهو حبس فيه شدة ، وصبر عن كذا - محذوف الفعل لكثرة دوره ، أي نفسه ) حتى تخرج ( من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق. ولما كان الخروج قد يكون لي غيرهم من المصالح ، فلا يسوغ في الأدب أن يقطع ذاك عليهم قال : ( إليهم ) أي ليس(7/225)
صفحة رقم 226
لهم أن يكلموك حتى تفرغ لهم فتقصدهم فإنك لا تفعل شيئاً في غير حينه بمقتضى أمر الرسالة ) لكان ) أي الصبر .
ولما كان العرب أهل معال فهم بحيث لا يرضون إلا الأحسن فقال : ( خيراً لهم ) أي من استعجالهم في إيقاظك وقت الهاجرة وما لو قرعوا الباب بالأظافير كما كان يفعل غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا على تقدير أن يكون ما ظنوا من أن فيه خيراً فكانوا يعقلون ، ففي التعبير بذلك مع الإنصاف بل الإغضاء والإحسان هز لهم إلى المعالي وإرشاد إلى ما يتفاخرون به من المحاسب ، قال الرازي : قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى والخير في الأولى والعقبى - انتهى .
وأخيرية صبر في الدين معروفة ، وأما في الدنيا فإنهم لو تأدبوا لربهم زادهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الفضل فأعتق جميع سبيهم وزادهم ، والآية في الاحتباك : حذف التعليل بعدم الصبر أولاً لما دل عليه ثانياً ، والعقل ثانياً لما دل عليه من ذكره أولاً .
ولما ذكر التقدير تأديباً لنا وتدريباً على الصفح عن الجاهل وعذره وتعليمه : ولكنهم لم يصبروا وأساؤوا الأدب فكان ذلك شراً لهم والله عليم بما فعلوا حليم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة لإساءتهم الأدب على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، عطف عليه استعطافاً لهم مع إفهامه الترهيب : ( والله ) أي المحيط بصفات الكمال ) غفور ) أي ستور لذنب من تاب من جهله ) رحيم ( يعامله معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه .
ولما تابوا ، أعتبهم الله في غلظتهم على خير خلقه أن جعلهم أغلظ الناس على شر الناس : الدجال ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنهم أشد الناس عليه ) .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من النهي عن أذى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في نفسه ، وكان من ذلك أذاه في أمته ، فإنه عزيز عليه ما عنتوا وكان من آذاه فيهم فاسقاً ، وكان أعظم الأذى فيهم ما أورث كرباً حرباً ، وكان ربما اتخذ أهل الأغراض هذه الآدب ذريعة إلى أذى بعض المسلمين فقذفوهم بالإخلال بشيء منها فوقعوا هم فيها فيما قذفوا به غيرهم من الأخلال بحقه والتقيد بولائه ورقه ، وكان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأخلاق الطاهرة والمالي الظاهرة ما يؤمن معه أن يوقع شيئاً في غير محله ، أن يأمر بأمر من غير حله - هذا مع ما له من العصمة ، قال منبهاص على ما في القسم الثالث من مكارم الأخلاق من ترك العجز بالاعتماد على أخبار الفسقة ، تخاطباً لكل من أقر بالإيمان على طريق الاستنتاج مما مضى ، نادباً إلى الاسترشاد بالعقل الذي نفاه عن أهل الآية السالفة ، (7/226)
صفحة رقم 227
والعفو عن المذنب والرحمة لعباد الله ، منادياً بأداة البعد إشارة إلى أن من احتاج إلى التصريح بمثل هذا التنبيه غير مكتف بما أفاده من قواعد الشرع وضع نفسه في محل بعيد ، وتنبيهاً على أن ما في حيزها كلام له خطب عظيم ووقع جسيم : ( يا أيها الذين آمنوا ( وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب ، وعبر بأداة الشك إيذاناً بقلة الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع ، فقال : ( إن جاءكم ) أي في وقت من الأوقات ) فاسق ) أي خارج من ربقة الديانة أيّ فاسق كان ) بنبأ ) أي خبر يعظم خطبه فيؤثر شراً ، أيّ خير كان مما يكون كذلك ؟ ) فتبينوا ) أي عالجوا البيان وهو فصل الخطأ من الصواب ، استعمالاً لغريزة العقل المنفي عن المنادين واتصافاً بالغفران والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم ، وهذه القراءة غاية لقراءة حمزة والكسائي بالمثلثة ثم المثناة الفوقية ، والسياق مرشد إلى أن خبر الفاسق كالنمام والساعي بالفساد كما أنه لا يقبل لفذلك لا يرد حتى يمتحن ، وإلى أن خبر العدل لا وقفة فيه ، وإلا لاستوى مع الفاسق ، فالتثبت معلل بالفسق ، فإذا انتفى ولم توجد علة أخرى توجب التثبت وجب القبول ، والمعلق على شيء بكلمة ( إن ) عدم عند عدمه ، والتبين بأحد شيئين : بمراجعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن كان حاضراً ، وبمراجعة آثاره من كتاب الله وسنته إلى أن تبين الأمر منهما إن كان غائباً ، فإنه لا تكون أبداً كائنة إلا وفي الكتاب والسنة المخرج منها .
ولما أمر بالتبين ، ذكر علته فقال : ( أن ) أي لأجل كراهة أن ) تصيبوا ) أي بأذى ) قوماً ) أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم ) بجهالة ) أي مع الجهل بحال استحاقهم ذلك .
ولما كان الإنسان إذا وضع شيئاً في غير موضعه جديراً بالندم ، سبب عن ذلك قوله : ( فتصبحوا ( اي فتصيروا ، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته ) على ما فعلتم ) أي من إصابتهم ) نادمين ) أي عرقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله في نفوسكم من أمور ترجف القلوب وتخور الطباع ، وتلك سنته في كل باطل ، فإنه لكونه مزلزلاً في نفسه لا ينشأ عنه إلا الزلزال والندم على ما وقع من تمني أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام بما تدور مادته عليه مما يرشد إليه مدن ودمن ، وهو ينشأ من تضييع أثقال الأسباب التي أمر الإنسان بالسعي فيها كما أشار إليه حدث ( احرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل ، ولا تقل لو أني فعلت كذا ، فإن ) لو ( تفتح عمل الشيطان ) والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس ، والذي نزل ذلك بسببه هو الوليد بن عقبة ، ولم يزل كذلك حتى أن عثمان رضي الله عنه(7/227)
صفحة رقم 228
ولاه الكوفة فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال : هل أزيجكم فعزله عثمان رضي الله عنه .
ولما كان إقدامهم على كثير من الأمور من غير مشاورة لمن أرسله الله رحمة لعباده ليعلمهم ما يأتون وما يذرون عمل من لا يعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قريب منه ، وكان الإعراض عنه حياً وعن بذلك الجهد في استخراج الأمور من شريعته بعد موته أمراً مفسداً للبين إن لميعتبر ويتنبه له غاية التنبه ، أخبرهم به منزلاً لهم منزلة من لا يعلم أنه موجود معه مشيراً بكلمة التنبيه إلى أن من أخل بمراعاة ذلك في عداد الغافلين فقال : ( واعلموا ) أي أيها الأمة ، وقدم الخبر إيذاناً بأن بعضهم باعتراضه أو بإقدامه على ما لا علم له به يعمل علم من لا يعلم مقدار ما خصه الله به من إنعامه عليه به ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهو يفيد توبيخ من فعل ذلك : ( أن فيكم ) أي على وجه الاختصاص لكم ويا له من شرف ) رسول الله ) أي الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام على حال هي أنكم تريدونه أن يتبع أذاكم ، وذلك أمر شنيع جداً ، فإنه لا يليق أن يتحرك إلا بأمر من أرسله ، فيجب عليكم الرجوع عن تلك الحالة ، فإنك تجهلون أكثر مما تعلمون ، ولإرادتهم إن لا يطيعهم في جميع الأمور عبر بالمضارع فقال : ( لو يطيعكم ( وهو لايحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم ) في كثير من الأمر ) أي الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث عل مقتضى ما يعن لكم وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له ، فينقلب حينئذ الحال ، ويصير المبتوع تابعاً والمطاع طائعاً ) لعنتم ) أي لاءمتم وهلكتم ، ومن أراد دائماً أن يكون أمر الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران ، فأولئك هم الغاوون ، وسباق ( لو ) معلم قطعاً أن التقدير : ولكنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يطيعكم لكراهة لما يشق عليكم لما هو متخلق به من طاعة الله والوقوف عند حدوده والتقيد في جميع الحركات والسكنات بأمره ، مع ما له من البصرة في التمييز بين الملبسات والخبرة التامة بالأمور المشتبهات ، التي هي سبب هلاك الأغلب لكونها لا يعلمها كثير من الناس ، والتقييد بالكثير معلم بأنهم يصيبون وجه الرشاد في كثير من الأمور .
ولما كان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق : ولو خالفتموه في الأمور التي لا يطيعكم فيها لعنتم ، استدرك عنه قوله : ( ولكن الله ) أي الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد ) حبب إليكم الإيمان ( فلزمتهم طاعته وعشقتم متابعته .
ولما كان الإنسان قد يحب شيئاً وهو يعلم فيه عيباً ، فيكون جديراً بأن يتزلزل فيه ، نفى ذلك بقوله : ( وزينه في قلوبكم ) أي فلا شيء عندكم أحسن منه ولا يعادله ولا يقاربه بوجه ) وكره إليكم الكفر ( وهو تغطية ما أدت إليه الفطرة الأولى والعقول المجردة عن الهوى من الحق(7/228)
صفحة رقم 229
بالجحود ) والفسوق ( وهو المروق من رقبة الدين ، ولو من غير تغطية بل بغير تأمل ) والعصيان ( وهو الامتناع من الانقياد عامة فلم تخالفوه ، ورأيتم خلافه هلاكاً ، فصرتم والمنة لله أطوع شيء للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعلم من هذا أن الله تعالى هو الفاعل وحده لجميع الأفعال من الطاعات والمنعاصي والعادات والعبادات ، لأنه خالق لكم ، ومدحو لفعل الله بهم لأنهم الفاعلون في اظاهرة فهو واقع موقع : أطعتم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم تخالفوه ، وإنماوضع فعل الله وهولا يمدحون عليه موضع فعلهم الذي يمدحون عليه للحث على الشكر والإنسلاخ من العجب .
ولماأرشد السياق إلى متابعتهم على هذا الوجه ، أنتج قوله مادحاً لهم ثانياً الكلام عن خطابهم إلى خطابه ( صلى الله عليه وسلم ) ليدل على عظم هذه الأوصاف وبينه بأداة البعد على علو مقام المتصف : ( أولئك ) أي الذين أعلى الله القادر على كل شيء مقاديرهم ) هم ) أي خاصة ) الراشدون ) أي الكاملون في الرشد وهو الهدى على أحسن سمت وتقدير ، وفي تفسير الأصبهاني : الرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه - انتهى .
والذي أنتج الرشاد متابعة الحق ، فإن الله تكفل لمن تعمد الخير وجاهد نفسه على البر بإصابة الصواب وإحكام المساعي المنافي للندم ، ) والذين جاهدا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ( وقد دل السياق على أنهم كانوا في خبر الوليد صنفين : صنف صدقه وأراد غزوة بني المصطلق وأشار به ، وصنف توقف ، وأن الصنفين سلموا آخر الأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهدوا ، فالآية من الاحتباك وهي شبيهة به : دلت الشرطية في ) لو يطيعكم ( على الاستدراكية ، والاستدراكية في ) ولكن الله ( على تقدير الشرطية دلالة ظاهرة .
الحجرات : ( 8 - 11 ) فضلا من الله. .. . .
) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ( )
ولما ذكر التحبيب والتزيين والتكريه وما أنتجه من الرشاد ، ذكر علته إعلاماً بأنه تعالى لا يحب عليه شيء حثاً على الشكر فقال : ( فضلاً ) أي زيادة وتطولاً وامتناناً عظيماً جسيماً ودرجة عالية من الله الملك الأعظم الذي بيده كل شيء ) ونعمة ) أي وعيشاً حسناً ناعماً وخفضاً ودعة وكرامه .(7/229)
صفحة رقم 230
ولما كان التقدير : فالله منعم بفضل ، بيده كل ضر ونفع ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي المحيط بصفات الكمال ) عليم ) أي محيط العلم ، فهو يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل ) حكيم ( بالغ الحكمة ، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها ، فلذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته .
ولما كانت النميمة ونقل الأخبار الباطلة الذميمة ربما جرت فتناً وأوصلت إلى القتال ، وكان العليم الحكيم لا ينصب سبباً إلا ذكر مسببه وأشار إلى دوائه ، وكان لا ينهى عن الشيء إلا من كان متهيئاً له لما في جبلته من الداعي إليه ، فكان قد يواقعه ولو في وقت ، قال تعالى معلماً لنا طريق الحكمة في دفع ما جرت إليه الأخبار الباطلة من القتال ، معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن ما في حيزها لا ينبغي أن يقع بينهم ، ولا أن يذكروه إلا على سبيل الفرض : ( وإن طائفتين ) أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما دهمها من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به ، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها ) من المؤمنين ) أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق عليه به الاسم فقط .
ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر ، عبر بضمير الجمع دون التثنية تصويراً لذلك بأقبح صورة فقال : ( اقتتلوا ) أي فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة ) فأصلحوا ) أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح .
ولما كانت العبرة في الصلح إذا وقع بين الطائفتين ما يسكن به الشر وإن تخلف شذان من الجانبين لا يعبأ بهم ، عبر بالتثنية دون الجمع فقال : ( بينهما ) أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي ، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتجاوزوا فيه أمر الله .
ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لم يلم به أحد ، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال : ( فإن بغت ) أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير ) إحداهما ) أي الطائفتين ) على الأخرى ( فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق .
ولما كان الإضمار هنا ربما أوهم لبساً فتمسك به متعنت في أمر فساد ، أزال بالإظهار كل لبس فقال : ( فقاتلوا ) أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة ) التي ( .
ولما كان القتال لا يجوز إلا بالاستمرار على البغي ، عبر بالمضارع إفهاما لأنه متى زال البغي ولو بالتوبة من غير شوكة حرم القتال فقال : ( تبغي ) أي توقع الإرادة وتصر عليها ، وأديموا القتال لها ) حتى تفيء ) أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة الذي كأنه حر الشمس حين نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البر والخير الذي هو كالظل الذي ينسخ الشمس ، وهو معنى قوله تعالى : ( إلى أمر الله ) أي التزام ما أمر به الملك(7/230)
صفحة رقم 231
الذي لا يهمل الظالم ، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما كانت عليه من العدل قبل البغي .
ولما كانت مقاتلة الباغي جديرة بترجيعه ، أشار إلى ذلك بقوله : ( فإن فاءت ) أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل ) فأصلحوا ) أي أوقعوا الإصلاح ) بينهما ( .
ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين ، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض ، قال : ( بالعدل ( ولا يحملكم القتال على الحقد على المقاتلين فتحيفوا .
ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى : ( وأقسطوا ) أي وأزيلوا القسط - بالفتح وهو الجور - بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه ، في ذلك وفي جميع أموركم ، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به ، وردّاً على من لعله يقول : إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف : ( إن الله ) أي الذي بيده النصر والخذلان ) يحب المقسطين ) أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب .
ولما أمر بما قد يفضي إلى القتال ، وكان الباغي ربما كان أقرب إلى الصلح من جهة النسب من المبغيّ عليه فروعي ، وكان القتال أمراً شاقاً ربما حمل على الإحجام عن الإصلاح ، علل ذلك سبحانه بما قدم فيه قرابة الدين على قرابة النسب ، وكشف كشفاً تاماً عن أنه لا يسوغ له تركه لما يؤدي إليه من تفريق الشمل المؤدي إلى وهن الإسلام وأهله المؤدي إلى ظهور الباطل المؤدي إلى الفساد الأعظم الذي لا تدارك له فقال تعالى : ( إنما المؤمنون ) أي كلهم وإن تباعدت أنسابهم وأغراضهم وبلادهم ) إخوة ( لانتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان ، لا بعد بينهم ، ولا يفضل أحد منهم على أحد بجهة غير جهة الإيمان .
ولما كانت الأخوة داعية ولا بد إلى الإصلاح ، سبب عنها قوله : ( فأصلحوا ( ولما كانت الطائفة قد تطلق على ما هو أصل لأن يطاف حوله كما يطلق على ما فيه أهليه التحليق والطواف ، وكان أقل ما يكون ذلك في الأثنين ، وأن مخاصمتهما يجر إلى مخاصمة طائفتين بأن يغضب لكل ناس من قبيلته وأصحابه ، قال واضعاً الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقرير الأمر وتأكيده ، وإعلاماً بأن المراد بالطائفة القوة لا الفعل بحيث يكون ذلك شاملاً للاثنين فما فوقهما : ( بين أخويكم ) أي المختلفين بقتال أو غيره كما تصلحون بين أخويكم من النسب ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ، بل الأمر كما نقل عن أبي عثمان الحيري أن أخوة الدين أثبت من أخوة النسب ، (7/231)
صفحة رقم 232
وقرأ يعقوب ) إخوتكم ( بالجمع ، وقراءة الجماعة أبلغ لدلالتها على الاثنين فما فوقهما بالمطابقة ) واتقوا الله ) أي الملك الأعظم الذين هم عباده في الإصلاح بينهما بالقتال وغيره ، لا تفعلوا ما صورته إصلاح وباطنه إفساد ، وأشار إلى سهولة الأمور عنده ونفوذ أمره وأن النفوس إنما تشوفها إلى الإكرام لا إلى كونه منمعين ، فبنى للمفعول قوله تعالى : ( لعلكم ترحمون ) أي لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم ومن ينظركم من أن يكرمكم الذي لا قادر في الحقيقة على الإكرام غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوتكم بإكرامهم عن إفساد ذات البين التي هي الحالقة ، وقد دلت الآية أن الفسق بغير الكفر لا يخرج عن الإيمان ، وعلى أن الإصلاح من أعظم الطاعات ، وعلى وجوب نصر المظلوم لأن القتال لا يباح بدون الوجوب ، قال القشيري : وذلك يدل على عظم وزر الواشي والنمام والمضرب في إفساد ذات البين ، وقال : من شرط الأخوة أن لا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك والتماس النصرة منك ، ولا تقصر في تفقد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مسألتك .
ولما نهى عن الإسراع بالإيقاع بمجرد سماع ما يوجب النزاع ، وختم بما ترجى به الرحمة ، وكان ربما كان الخبر الذي أمر سبحانه بتبينه صريحاً ، نهى عن موجبات الشر التي يخبر بها فتكون سبباً للضغائن التي يتسبب عنها الشر الذي هو سبب للنقمة رحمة لعباد الله وتوقعاً للرحمة منه ، فقال على سبيل النتيجة من ذلك ذاكراً ما في القسم الرابع من الآداب والمنافع من وجوب ترك أذى المؤمنين في حضورهم والإزراء بحالهم المذهب لسرورهم الجالب لشرورهم : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أوقعوا الإقرار بالتصديق ) لا يسخر ) أي يهزأ ويستذل .
ولما كانت السخرية تكون بحضرة ناس ، قال معبراً بما يفهم أن من شارك أو رضي أو سكت وهو قادر فهو ساخر مشارك للقائل : ( قوم ) أي ناس فيهم قوة المحاولة ، وفي التعبير بذلك هز إلى قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص شكراً لما أعطاه الله من القوة : ( من قوم ( فإن ذلك يوجب الشر لأن أضعف الناس إذا حرك للانتقاص قوي بما يثور عنده من حظ النفس .
ولما كان الذي يقتضيه الرأي الأصيل أنه لا يستذل الإنسان إلا من أمن أن يصير في وقت من الأوقات أقوى منه في الدنيا وفي الآخرة ، علل بقوله : ( عسى ) أي لأنه جدير وخليق لهم ) أن يكونوا ) أي المستهزأ بهم ) خيراً منهم ( فينقلب الأمر عليهم ويكون لهم سوء العاقبة ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب خشيت أن أحول كلباً ؛ وقال القشيري : ما استضعف أحدا أحداً إلا(7/232)
صفحة رقم 233
سلط عليه ، ولا ينبغي أن تعتبر بظاهر أحوال الناس ، فإن في الزوايا خبايا ، والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة ، كذا في الخبر ( كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) .
ولما كان إطلاق القوم لمن كان فيه أهلية المقاومة وهم الرجال ، قال معبراً ما هو من النسوة بفتح النون أن ترك العمل : ( ولا نساء من نساء ( ثم علل النهي بقوله : ( عسى ) أي ينبغي أن يخفن من ) أن يكن ( المسخور بهن ) خيراً منهن ) أي الساخرات .
ولما كانت السخرية تتضمن العيب ، ولا يصرح فيها ، وكان اللمز العيب نفسه ، رقي الأمر إليه فقال : ( ولا تلمزوا ) أي تعيبوا على وجه الخفية ) أنفسكم ( بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها ، فكيف إذا كان على وجه الظهور ، فإنكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة ، أو يعمل الإنسان ما يعاب به ، فيكون قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبة فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه ) ولا تنابزوا ) أي ينبز بعضكم بعضاً ، أي يدعو على وجه التغير والتسفل ) بالألقاب ( بأن يدعو المرء صاحبه بلقب يسوءه سواء كان هو المخترع له أولاً ، وأما ألقاب المدح فنعم هي كالصديق والفاروق .
ولما كان الإيمان قيداً لأوابد العصيان ، وكان النبز والسخرية قطعاً لذلك القيد ، علل بما يؤذن فأنه فسق ، معبراً بالكلمة الجامعة لجميع المذامّ تنفيراً من ذلك فقال : ( بئس الاسم الفسوق ) أي الخروج من ربقة الدين ) بعد الإيمان ( ترك الجارّ إيذاناً بأن من وقع في ذلك أوشك أن يلازمه فيستغرق زمانه فيه فإن النفس عشاقة للنقائص ، ولا سيما ما فيه استعلاء ، فمن فعل ذلك فقد رضي لنفسه أو يوسم بالفسق بعد أن كان موصوفاً بالإيمان .
ولما كان التقدير : فمن تاب فأولئك هم الراشدون ، وكان المقام بالتحذير أليق ، عطف عليه قوله : ( ومن لم يتب ) أي يرجع عما نهى الله عنه ، فخفف عن نفسه ما كان شدد عليها ) فأولئك ) أي البعداء من الله ) هم ) أي خاصة ) الظالمون ) أي العريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها .(7/233)
صفحة رقم 234
الحجرات : ( 12 - 14 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما كان الإنسان ربما دعا صاحبه بلقب له شيء غير قاصد به عيبه ، أو فعل فعلاً يتنزل على الهزء غير قاصد به الهزء ، نهى تعالى عن المبادرة إلى الظن من غير تثبت لأن ذلك من وضع الأشياء في غير مواضعها ، الذي هو معنى الظلم فقال خاتماً بالقسم الخامس منبهاً على ما فيه من المعالي والنفائس : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أول مراتبه ) اجتنبوا ) أي كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم ) كثيراً من الظن ) أي في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، والبحث عن ذلك الذي أوجب الظن ليس بمنهيّ عنه كما فتش النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة الإفك وتثبت حتى جاءه الخبر اليقين من الله ، وأفهم هذا أن كثيراً منه مجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع ، وكما في ظن الخير بالله تعالى ، بل قد يجب كما قال تعالى : ( ) ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ( ) [ النور : 12 ] وقد أفاد التنكير شيائع النهي في كل ظن ، فكان بمعنى ( بعض ) مع الكفالة بأن كثيراً منه منهيّ عن الإقدام عليه إلا بعد تبين أمره ، ولو عرف لأفهم أنه لا يجتنب إلا إذا اتصف بالكثرة ، قال القشيري : والنفس لا تصدق ، والقلب لا يكذب ، والتمييز بين النفس والقلب مشكل ، ومن بقيت عليه من حظوظة بقية وإن قلت فليس له أن يدعى بيان القلب ، بل هو بنفسه ما دام عليه شيء من بقيته ، ويجب عليه أن يتهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره ، ثم علل ذلك مثيراً إلى أن العاقل من يكف نفسه عن أدنى احتمال من الضرر احتمالاً مؤكداً لأن أفعال الناي عند الظنون أفعال من هو جازم بأنه بريء من الإثم : ( إنبعض الظن إثم ) أي ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين ، وحيث يخالفه قاطع ، قال الزمخشري رحمه الله تعالى : الهمزة في الإثم عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه .(7/234)
صفحة رقم 235
ولما نهى عن اتباع الظن ، أتبعه ما يتفرع عنه فقال : ( ولا تجسسوا ) أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين .
ولما كانت الغيبة أعم من التجسس ، قال : ( ولا يغتب ) أي يتعمد أن يذكر ) بعضكم بعضاً ( في غيبته بما يكره ، قال القشيري : وليس تحصل الغيبة من الخلق إلا بالغيبة عن الحق ، وقال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس .
ولما كان تمزيق عرض الناس كتمزيق أديمهم ولا يكون ذلك ساتر عظمة الذي به قوامه كما أن عرضه ساتر عليه ، وكونه لا يرد عن نفسه بسبب غيبته كموته وأعمال الفم والجوف في ذلك كله ، وكان هذا لوتأمله العاقل كان منه على غاية النفرة ، ولكنه لخفائه لا يخطر بباله ، جلاه له في قوله تقريراً وتعبيراً بالحب عما هو في غاية الكراهة لما للمغتاب من الشهوة في الغيبة ليكون التصوير بذلك رادّاً له عنها ومكرهاً فيها : ( أيحب ( وعم بقوله : ( أحدكم ( وعبر بأن الفعل تصويراً للفعل فقال : ( أن يأكل ( وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال : ( لحم أخيه ( وأنهى الأمر بقوله : ( ميتاً ( .
ولما كان الجوا قطعاً : لا يحب أحد ذلك ، أشار إليه بما سبب من قوله : ( فكرهتموه ) أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً ، لأن داعي العقل بصير عالم ، وداعي الطبع أعمى جاهل ، وقد رتب سبحانه هذه الحكم أبدع ترتيب ، فأمر سبحانه بالتثبت .
وكان ربما أحدث ضغينة ، نهى عن العمل بموجبه من السخرية واللمز والنبز والتمادي مع ما ينشره ذلك من الظنون ، فإن أبت النفس إلا تمادياً مع الظن فلا يصل إلى التجسس والبحث عن المعايب ، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها ، وسعى في سترها ، وفعل ذلك كله لخوف الله ، لا شيء غيره ، فإن وقع في شيء من ذلك بادر المتاب رجاء الثواب .
ولما كان التقدير : فاتركوه بسبب كراهتهم لما صورته ، عطف عليه ما دل على العلة العظمى وهي خوف الله تعالى فقال : ( واتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين .
ولما كان التقدير : فإن الله يتوب عليكم إن تركتموه ، علله بما دل على أن ذلك صفة له متكررة التعلق فقال : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) تواب ) أي مكرر للتوبة ، وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب ، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت ) رحيم ( يزيده على ذلك أن يكرمه غاية الإكرام .(7/235)
صفحة رقم 236
ولما ذكر سبحانه الأخوة الدينية تذكيراً بالعاطف الموجب للإكرام ، المانع من الانتقام ، ونهى عن أمور يجر إليها الإعجاب بالنفس من جهة التعظيم بالآباء والعراقة في النسب العالي ، أسقط ذلك مبيناً أن لا نسب إلا ما يثمره الإيمان الي بدأ به من التقوى ، وعبر بما يدل على الذبذبة والاضطراب إشارة إلى سفول رتبة من افتخر بالنسب ، وإلى أن من لم يتعظ بما مضى فيعلو عن رتبة الذين آمنوا فقد سفل سفولاً عظيماً : ( يا أيها الناس ) أي كافة المؤمن وغيره ) إنا ( على عظمتنا وقدرتنا ) خلقناكم ) أي أوجدناكم عن العدم على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي يفوت الحصر ، وأخرجنا كل واحد منكم ) من ذكر ( هو المقصود بالعزم والقوة ) وأنثى ( هي موضع العضف والراحة ، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر ، ولا فخر في نسب .
ولما كان تفضيلهم إلى فرق لكل منهما تعرف به أمراً باهراً ، عبر فيه بنون العظمة فقال : ( وجعلناكم ) أي بعظمتنا ) شعوباً ( تتشعب من أصل واحد ، جمع شعب بالفتح وهو الطيبقة الأولى من الطبقات الست من طبقات النسب التي عليها العرب ) وقبائل ( تحت الشعوب ، وعمائر تحت القبائل ، وبطوناً تحت العمائر ، وأفخاذاً تحت البطون ، وفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل ، خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصيّ بطن ، وعبد مناف فخذ ، وهاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، قال البغوي : وليس بعد العشيرة حي يوصف به - انتهى .
واقتصر على الأولين لأنهما أقصى ما يسهل على الآدمي معرفته فما دونه أولى ، ثم ذكر علة التشعب ليوقف عندها فقال : ( لتعارفوا ) أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له ، لا لتواصفوا وتفاخروا .
ولما كانت فائدة التفاخر بالتواصف عندهم الإكرام لمن كان أفخر ، فكانت الآية السالفة التي ترتبت عليها هذه آخرة بالتقوى كان التقدير : فتتقوا الله في أقاربكم وذوي أرحامكم ، فقال مبطلاً للتفاخر بالأنساب معللاً لما أرشد إلى تقديره السياق مؤكداً لأجل ما عندهم من أن الكرم إنما هو بالنسب : ( إن أكرمكم ( أيها المتفاخرون ) عند الله ) أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه ) أتقاكم ( فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسباً ولذلك أكده ، وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) أي علموا بأن كانت لهم ملكة الفقه فعلموا بما عملوا(7/236)
صفحة رقم 237
كما قال الحسن رحمه الله : إنما الفقيه العامل بعلمه .
وقد تقدم أن هذا هو المراد بقوله تعال :
77 ( ) هل يتسوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( ) 7
[ الزمر : 9 ] لما دل عليه سياقها وسباقها ، والأتقى لا يفتخر على غيره لأنه لا يعتقد أنه أتقى ، قال الرازي في اللوامع : أكرم الكرم التقوى ، وهو مجمع الفاضسل الإنسانية ، وألأم اللؤوم الفجور ، وذلك أن الكرم اسم للأفعال المحمودة ، وهذه الأفعال إنما تكون محمودة إذا كانت عن علم ، وقصد بها الله ، وهذا هو التقوى ، فليس التقوى إلا العلم وتحري الأفعال المحمودة - انتهى .
وذلك لأن التقوى تثبت الكمالات وتنفي النقائص فيصير صاحبها بشرياً ملكياً .
ولما كان هذا مركوزاً في طبائعهم مغروزاً في جبلاتهم متوارثاً عندهم أن الفخر إنما هو بالأنساب ، وأن الكريم إنما هو من طاب أصله ، وكان قلع ذلك من نفوسهم فيما أجبى به سبحانه العادة في دار الأسباب يتوقف على تأكيد ، أكد سبحانه معللاً قوله ) خيبر ( محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً ، روى البغوي بسند من طريق عبد الله بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف يوم الفتح على راحلته ليستلم الأركان بمحجنه ، فملا خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ، ثم قام فخطبهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال : ( الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها ، إنما الناس رجلان : برّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله - ثم تلا ) يا أيها الناس ( الآية ، ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) وأخرجه أبو داود والترمذي وحسنة والبيهقي - قال المنذري ، بإسناد حسن ، واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال قال : ( إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، مؤمن تقي وفاجر شقي ، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها ) .
ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وإعظامه ، ونهى عن أذاه فينفسه أو في أمته ، ونهى عن التفاخر الذي ه وسبب التقاطع والتداحر ، وختم بصفتة الخبر ، دل عليها بقوله مشيراً إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال : ( قالت الأعراب ) أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء الذين تقدم تأديبهم في سورة محمد ، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم ، (7/237)
صفحة رقم 238
قال ابن برجان : هم قوم شهدوا شهادة الحق وهم لا يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست تنازعهم إلى التكذيب : ( آمنا ) أي بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص ، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر .
ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه ، قال : ( قل ) أي تذكيباً لهم مع مراعات الأدب في عدم التصريح بالتكذيب : ( لم تؤمنوا ) أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان ، فله ولرسوله - الذي كان ذلك على يديه - المن والفضل .
ولما كان التقدير ما كان الأصل في أن يكون الرد به وهو : فلا تقولوا : آمنا ، فإنه كذب ، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان ، عطف عليه قوله : ( ولكن قولوا ( لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين ، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام في الجملة : ( أسلمنا ) أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين ، يقول : أسلم الرجل - إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى - إذا دخل في الشتاء ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه ، فكان يكون تناقضاً ، والآية من الاحتباك : نفي الإيمان الشرعي أولاً يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانياً ، والأمر بالقول بالإسلام ثانياً يدل على النهي عن القول بالإيمان أولاً .
ولما كانت ( لم ) غير مستغرقة ، عطف عليها ما يستغرق ما مضى من الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفاً بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم ، فقال معلماً بأن ما يجتهدون في إخفائه منكشف لديه ( ألا يعلم من خلق ) .
) ولما يدخل ) أي إلى هذا الوقت ) الإيمان ) أي المعرفة التامة ) في قلوبكم ( فلا يعد إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب ، فعصيتم الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأحبطتم أعمالكم ، والتعبير ب ( لما ) يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب ، لا نفي مطلق الدخول بدليل ) إنما المؤمنون ( دون ) إنما الذين آمنوا ( .
ولما كان التقدير : فإن تؤمنوا يعلم الله ذلك من قلوبكم غنياً عن قولكم ، عطف عليه قوله ترغيباً لهم في التوبة : ( وإن تطيعوا الله ) أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته ) ورسوله ( الذي طاعته من طاعته على ما أنم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم ) لا يلتكم ) أي ينقصكم ويبخسكم من لاته يليته ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ البصريان : يألتكم من الألت وهو النقص أيضاً ، وهي لغة أسد وغطفان ، وهما(7/238)
صفحة رقم 239
المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها ، قال أبو حيان : قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة - انتهى .
فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها ، وعدل عن لغة الحجاز ) من أعمالكم شيئاً ( فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال ، قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين ، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقداً علماً ويقيناً لهم المؤمنون .
وفي الآية احتباك من وجه آخر : ذكر عدم الإيمان أولاً دليلاً على إثباته ثانياً ، وذكر توفير الأعمال ثانياً دليلاً على بخسها أو إحباطها أولاً ، وسره أنه نفى أساس الخير أولاً ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا عليه من الأعما ثانياً .
ولما كان الإنسان مبنياً على النقصان ، فلو وكل إلى عمله هلك ، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص ، قال مستعطفاً لهم إلى التوبة ، مؤكداً تنبيهاً على أنه مما حيق تأكيده لأن الخلائق لا يفعلون مثله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) غفور ) أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ، ولغيره إذا أراد ، فلا عتاب ولا عقاب ) رحيم ) أي يزيد على الستر عظيم الإكرام .
الحجرات : ( 15 - 18 ) إنما المؤمنون الذين. .. . .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما نفى عنهم الإيمان ، وكان ربما غلط شخص في نفسه فظن أنه مؤمن ، وليس كذلك ، أخبر بالمؤمن على سبيل الحصر ذاكراً أمارته الظاهرة الباطنة ، وهي أمهات الفضائل : العلم والعفة والشجاعة ، فقال جواباً لمن قال : فمن الذي آمن ؟ عادلاً عن جوابه إلى وصف الراسخ ترغيباً في الاتصاف بوصفه وإيذاناً بأن المخبر عن نفسه بآية إيمانه لا يريد إلا أنه راسخ : ( إنما المؤمنون ) أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب ، قال القشيري : والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس ، والنفوس لا تموت ولكنها تعيش ) الذين آمنوا ) أي صدقوا معترفين ) بالله ( معتقدين جميع ما له من صفات الكمال ) ورسوله ( شاهدين برسالته ، وهذا هو المعرفة التي هي العلم ، وغياتها الحكمة ، وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قيل الكمال لا المطلق ، وإلا لقال ( إنما الذين آمنوا ) .(7/239)
صفحة رقم 240
ولما كان هذا عظيماً والثبات عليه أعظم ، وهو عين الحكمة ، أشار إلى عظيم مزية الثبات بقوله : ( ثم ) أي بعد امتطاء هذه الرتبة العظيمة ) لم يرتابوا ) أي ينازعوا الفطرة الأولى في تعمد التسبب إلى الشك ولم يوقعوا الشك في وقت من الأوقات الكائنة بعد الإيمان ، فلا يزال على تطاوله الأمنة وحصول الفتن وصفهم بعد الريب غضاً جديداً ، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى العفو عن حديث النفس الذي لا يستطيع الإنسان دفع أصله ويكرهه غاية الكراهة ويجتهد في دفعه ، فإذا أنفس المذموم المشي معه والمطاولة منه حتى يستحكم .
ولما ذكر الأمارة الباطنة على وجه جامع لجميع العبادات المالية والبدنية قال : ( وجاهدوا ) أي أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان ) بأموالهم ( وذلك هو العفة ) وأنفسهم ( أعم من النية وغيرها ، وذلك هو الشجاعة ، وقدم الأموال لقلتها في ذلك الزمان عند العرب ) في سبيل الله ) أي طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون : شغلتنا أموالنا وأهلونا ، قال القشيري : جعل الله الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها ، وذكر بلفظ ( إنما ) وهي للتحقيق ، تقتضي الطرد والعكس ، فمن أفرد الإيمان لا يوجب الأمان لصاحبه فخلافه أولى به .
ولما عرف بهم بذكر أمارتهم على سبيل الحصر ، أنتج ذلك حصراً آخر قطعاً لأطماع المدعين على وجه أثنى عليهم فيه بما تعظم المدحة به عندهم ترغيباً في مثل حالهم فقال : ( أولئك ) أي العالو الرتبة الذين حصل لهم استواء الأخلاق والعدل في الدين بجميع أمهات الأخلاق ) هم ) أي خاصة ) الصادقون ( قالاً وحالاً وفعالاً ، وأما غيرهم فكاذب .
ولما كانوا كأنهم يقولون : نحن كذلك ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنكار عليهم والتوبيخ لهم دلالة على ما أشار إليه ختام الآية إحاطة علمه الذي تميز به الصادق من غيره من جميع الخلق فقال : ( قل ) أي لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم مبكتاً : ( أتعلمون ) أي أتخبرون إخباراً عظيماً بلغياً ، كأنهم لما آمنوا كان ذلك إعلاماً منهم ، فملا قالوا آمنا كان ذلك تكريراً ، فكان في صورة التعليم ، فبكتهم بذلك ) الله ) أي الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً ) بدينكم ( فلذلك تقولون : آمنا ، ففي ذلك نوع بشرى لهم لأنه أوجد لهم ديناً وأضافه إليهم - قاله ابن برجان .
ولما أنكر عليهم وبكتهم وصل به ما يشهد له فقال : ( والله ) أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء ) يعلم ما في السموات ( كلها على(7/240)
صفحة رقم 241
عظمها وكثرة ما فيها ومن فيها .
ولما كان في سياق الرد عليهم والتبكيت لهم كان موضع التأكيد فقال : ( وما في الأرض ( كذلك .
ولما كان المقام للتعميم ، أظهر ولم يضمر لئلا يوهم الاختصاص بما ذكر من الخلق فقال : ( والله ) أي الي له الإحاطة الكاملة ) بكل شيء ) أي مما ذكر ومما لم يذكر ) عليم ( .
ولما كان قولهم هذا صورته صورة المنة ، قال مترجماً له مبكتاً لهم عليه معبراً بالمضارع تصويراً لحاله في شناعته ، ) يمنون عليك ) أي يذكرون ذكر من اصطنع عندك صنيعة وأسدى إليك نعمة ، إنما فعلها لحاجتك إليها لا لقصد الثواب عليها ، لأن المن هو القطع - قال في الكشاف : لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة ، ثم يقال : من عليه ضيعة - إذا اعتده عليه منة وإنعاماً .
ولما كان الإسلام ظاهراً في الدين الذي هو الانقياد بالظاهر مع إذعان الابطن لم يعبر به ، وقال : ( إن أسلموا ) أي أوقعوا الانقياد للأحكام في الظاهر .
ولما كان المن هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء ، قال : ( قل ) أي في جواب قولهم هذا : ( لا تمنوا ( من عبراً بما من المن إشارة إلى أن الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله ، فلا ينبغي عده صنيعة على أحد ، فإن ذلك يفسده ) عليّ إسلامكم ( لو فرض أنكم كنتم مسلمين أي متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن ، أي لا تذكروه على وجه الامتنان أصلاً ، فالفعل وهو ) تمنوا ( مضمن ( تذكروا ) نفسه لا معناه كما تقدم في ) ولتكبروا الله على ما هداكم ( ) بل الله ) أي الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه ) يمن عليكم ) أي يذكر أنه أسدى إليكم نعمه ظاهرة وباطنة منها ما هو ) أن ) أي بأن ) هداكم للإيمان ) أي بينة لكم أو وفقكم للاهتداء وهو تصديق الباطن مع الانقياد بالظاهر ، والتعبير عن هذا بالمن أحق مواضعه ، فإنه سبحانه غير محتاج إلى عمل فإنه لا نفع يلحقه ولا ضر ، وإنما طلب الأعمال لنفع العاملين أنفسهم ، ومن عليهم بأن أرسل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فبين لهم فكذبوه بأجمعهم ، فلم يزل يقويه حتى أظهر فيه آية مجده وأظهر دينه على الدين كله ، ودخل فيه الناس طوعاً وكرهاً على وجوه من المجد يعرفها من استحضر السيرة ولا سيما من عرف أمر بني أسد وغطفان الذين نزلت فيهم هذه الآيات ، وكيف كان حالهم في غزوة خيبر وغيره .
ولما كان المراد بهذا تجهيلهم وتعليمهم حقائق الأمور ، لا الشهادة لهم بالهداية ، قال منبهاً على ذلك : ( إن كنتم ) أي كوناً أنتم عريقون فيه ) صادقين ( في ادعائكم(7/241)
صفحة رقم 242
ذلك ، فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة ، فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : من لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها دون نفسه كان شركاً ، وإن رآها لنفسه كان مكراً ، فكيف يبمن العبد بما هو شرك أو مكر ، والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة ، هذا لعمري فضيحة ، والمنة تكدر الصنيعة ، إذا كانت من المخلوقين ، وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله .
ولما نفى عنهم ما هو باطن ، وختم جدالهم سبحانه بهذه الشرطية ، فكان ربما توهم قاصر النظر جامد الفكر عدم العلم بما هو عليه ، أزال ذلك على وجه عام ، وأكده لذلك فقال : ( إن الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) يعلم ) أي بطريق ثبوت الصفة وتجريد التعلق واستمراره كلما تجدد محدث أو كان بحيث يتجدد ) غيب السماوات ) أي كلها ) والأرض ( كذلك .
ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون ) بصير ) أي عالم أتم العلم ظاهراً وباطناً ) بما تعملون ( من ظاهر إسلامكم وباطن إيمانكم في الماضي والحاضر والآتي سواء كان ظاهراً أو باطناً سواء كان قد حدث فصار إيمانكم في الماضي والحاضر والآتي سواء جبلاتكم وهو خفي عنكم - هذا على قراءة الخطاب التفات إليهم لاستنقاذ من توهم منهم هذا التوهم ، وهي أبلغ ، وعلى قراءة ابن كثير بالغيب يكون على الأسلوب الأول مما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإبلاغه لهم ، فهو سبحانه عالم بمن انطوى ضميره على الإيمان ، ومن هو متكيف بالكفران - ومن يموت على ما هو عليه ، ومن يتحول حاله بإبعاد عنه أو جذب إليه ، قال القشيري رحمه الله تعالى : ومن وقف ههنا تكدر عليه العيش إذ ليس يدري ما غيبه فيه ، وفي المعنى قال :
أبكي وهل تدرين ما يبكيني أبكي حذراً أن تفارقينيوتقطعي حبلي وتهجريني
انتهى .
وفي ذلك أعظم زجر وترهيب لمن قدم بين يدي الله ورسوله ولو أن تقدمه في سره .
فإنه لا تهديد أبلغ من إحاطة العلم ، فكأنه قيل : لا تقدموا بين يديه فإن الله محيط العلم فهو يعلم سركم وجهركم ، فقد رجع هذا الآخر إلى الأول ، والتف به التفاف الأصل بالموصل .
.. . .(7/242)
صفحة رقم 243
( سورة ق )
ومقصودها تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه الإعلام بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة العنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد ، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة ، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة مجد القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفضيل إلى حد لا تطيقه القوى ، ومن إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آأيات الإيجاد والإعدام ، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته من إثبات المجد بهذا الكتاب ، والمجد هو الشرف والكرم زالرفعة والعلو ، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك ، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به ، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك ، أولا بمخرجها فإنه من أصل اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى ، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل و العلو ، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية ، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق ، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية ، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث ، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو ، وهو لا يكون إلا مع الصدق ، ولإحاطتها سمي بها الجبل المحيط بالأرض ، هذا بمخرجها ، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقة ، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا ، وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل ،(7/243)
صفحة رقم 244
لما انفردت به عما شاركها من النبلات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع ، فإنها جامعة للفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوض النافع للافتراش والليف النافع للحبال ، ودون ذلك وأعلاه من الخلال ، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصهعا ، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها ، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الإفناء وتناضد الثمر ، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل ) بسم الله ( الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من إحاطة الحمد ، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد ) الرحمن ( الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بشرائعه ، فهو أصدق العباد ، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاذ ) الرحين ( الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد .
ق : ( 1 - 6 ) ق والقرآن المجيد
) ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ( )
لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه : ( ق ( إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة القيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات ، بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث : الحلق واللسان والشفاه .
وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف : اعلم أن القرآن منزل مثاني ، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ، ومتشابه الآيات ، والسورة المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد ، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسير عدد الآي قصيرة مقدارها ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعط والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون .(7/244)
صفحة رقم 245
لهم خلفاً مما يعلوهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد ، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم ، وكذلك كان ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمة إليهم لأنهم صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة ، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين .
ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع ، العاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، ولذلك كانت سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف ، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان ( نون ) الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتها ولهذا السورة المفتتحة بالحرف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع ، واقترن بها من التفضيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإتمامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها ، فهو صحيح في إحاطتها ومنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه لكما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما تقتضيه ، ومهما فسرت به من أنها من أسماء الله تعالى أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء ، وصور الموجودات أو من أنها أقسام أقسم بها ، أو فواتح عرفت بها السور ، أو أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك ، وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا تختص بمحل مخصوص تلزمه علامة إعراب مخصوصة فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً أو نصباً أو رفعاً ، فتداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص ولا إعراب خاص لما لما يكن لها انتظام ، لأنها مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم ما يتم معنى - كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يخص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متىا وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام .(7/245)
صفحة رقم 246
ولما أشار سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف ، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال : ( والقرآن ) أي الكتاب الجامع الفارق ) المجيد ( الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام ، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي ، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة ، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم ، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء الفاتحة ما جريب إحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ماعلم بعلم ما شهد ، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي ، وما شهد من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه ، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك ، فإنه سبحانه ذكرهم فيها ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت سورة الفتح قد انطوت على جملة من الألطاف التي خص الله بها عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ( الآية ، وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه ولا يعاملوه في الجهر بالقول كمعاملة بعضهم بعضاً ، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة ، وأمرهم بالتواضع في قوله ) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ( وأخبرهم تعالى أن استجابتهم وامتثالهم هذه الأوامر ليست بحولهم ، ولكن بفضله وإنعامه ، فقال : ( ولكن الله حبب إليك الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ( الآيتين ، ثم أعقب ذلك بقوله ) يمنون عليك أن أسلموا ( الآية ، ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده ، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه ، بل جعله في طرف من حال منأمر ونهى في سورة الفتح مع المساواة في الخلق وتماثل الأدوات فقال تعالى : ( والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ( الآيات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى وضوح الأدلة ) أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم ( الآيات ، ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم ) كذبت قبلهم قوم نوح ( ليتذكر بمجموع هذا من قدم ذكره بحاله وأمره ونهيه في سورة الفتح ، ويتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه من الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه ، ثم التحمت الآي إلى قوله خاتمة السورة ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم ( الآيات - انتهى .(7/246)
صفحة رقم 247
ولما كان هذا ظاهراً على ما هدى إليه السياق ، بنى عليه قوله دلالة أخرى على شمول علمه : ( بل ) أي أن تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجده ولا لإنكار صدقك الذي هو من مجده بل لأنهم ) عجبوا ) أي الكفار ، وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيئاً خارجاً عن سنن الاستقامة انصرف إليهم ، والعجب من تغير النفس لأمر خارج عن العادة .
ولما كان المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو منّ عليه بالإسلام أو غيره ، أو لتخويف من أنكر البعث ، اقتصر على النذارة فقال : ( أن جاءهم منذر ( أنذرهم حق الإنذار من عذاب الله عند البعث الذي هو محط الحكمة ، وعجب منهم هذا العجب بقوله : ( منهم ( لأن العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان النذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه ، وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير - وهو أحدهم - خص بالرسالة دونهم ، ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم ، فكذلك أنكروا رسالته وفضل كتابه بألسنتهم نفاسة وحسداً لأنهم كانوا معترفين بخصائصه التي رفعه الله تعالى عليهم بها قبل الرسالة فحطهم عجبهم ذلك إلى الحضيض من دركات السفه وخفة الأحلام ، لأنهم عجبوا أن كان الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً ، وعبجوا من أن يعادوا من تراب ، وتثبت له الحياة ، ولم يعجبوا أن يبتدؤوا من تراب ولم يكن له أصل في الحياة ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فقال ) أي بسبب إنذاره بالبعث وعقبه ) الكافرون ( فأظهر في موضع الإنذار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره ، ولكنهم ستروا تعدياً بمرأى عقولهم الدالة لعى جميع أمره دلالة ظاهرة ، وعبر بما دل على النذارة لأنها المقصود الأعظم من هذه السورة ، وجميع سياق الحجرات ظاهر فيها : ( هذا ( أن يكون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا ، وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت ) شيء عجيب ) أي بليغ في الخروج عن عادة أشكاله ، وقد كذبوا في ذلك ، أما من جهة النذير فإن أكثر الرسل من الطوائف الذين أرسلوا إليهم ، وقليل منهم من كان غريباً ممن أرسل إليه ، وأما من جهة البعث فإن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض من بعد موتها وابتداء الإحياء لجميع موات الحيوان وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك مما هو ظاهر جداً .
ولما كان المتعجب منه مجملاً ، أوضحه بقوله حكاية عنهم مبالغين في الإنكار ، بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري : ( إذا متنا ( ففارقت أرواحنا أشباحنا ) وكنا تراباً ( لا فرق بينه وبين تراب الأرض .
ولما كان العامل في الظرف ما تقديره : نرجع ؟ دل عليه(7/247)
صفحة رقم 248
بقوله والإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم : ( ذلك ) أي الأمر الذي هو في تمييز ترابنا من بقية التراب في غاية البعد ، وهو مضمون الخبر برجوعنا ) رجع ) أي رد إلى ما كنا عليه ) بعيد ( جداً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب .
ولما كان السياق لإحاطة العلم بما نعلم وما لا نعلم ، توقع السامع الجواب عن هذا الجهل ، فقال مزيلاً لسببه ، مفتتحاً بحرف التوقع : ( قد ) أي بل نحن على ذلك في غاية القدرة لأنا قد ) علمنا ( بما لنا من العظمة ) ما تنقص الأرض منهم ) أي من أجزائهم المتخللة من أبدانهم بعد الموت وقبله ، فإنه لو زاد الإنسان بكل طعام يأكله ولم ينقص صار كالجبل بل نحن دائماً في إيجاد وإعدام تلك الأجزاء ، وذلك فرع العلم بها كل جزء في وقته الذي كان نقصه فه قل ذلك الجزء أو جل ، ولم يكن شيء من ذلك إلا بأعيينا بما لنا من القيومية والخبرة النافذة في البواطن فضلاً عن الظواهر والحفظ ، الذي لا يصوب إلى جنابه عي ولا غفلة ولا غير ، ولكنه عبر بمن لأن الأرض لا تأكل عجب الذنب ، فإنه كالبزر لأجسام بني آدم .
ولما كانت العادة جارةي عند جميع الناس بأن ما كتب حفظ ، أجرى الأمر على ما جرت به عوائدهم فقال مشيراً بنون العظمة إلى غناه عن الكتاب : ( وعندنا ) أي على ما لنا من الجلال الغني عن كل شيء ) كتاب ) أي جامع لكل شيء ) حفيظ ) أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء دق أو جل ، فكيف يستبعدون على عظمتنا أن لا نقدر على تمييز ترابهم من تراب الأرض ولم يختلط في علمنا شيء من جزء منه بشيء من جزء آخر فضلاً عن أن يختلط شيء منه بشيء آخر من تراب الأرض أو غيرها .
ولما كان التقدير : وهم لا ينكرون ذلك من عظمتنا لأنهم معترفون بأنا خلقنا السماوات والأرض وخلقناهم من تراب وإنا نحن ننزل الماء فينبت النبات ، أضرب عنه بقوله : ( بل الذين كذبوا بالحق ) أي الأمر الثابت الذي لا أثبت منه ) لما ) أي حين ) جاءهم ( لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس وغلبهم من الهوى ، حسداً منهم من غير تأمل لما قالوه ولا تدبر ، ولا نظر فيه ولا تفكر ، فلذلك قالوا ما لا يعقل من أن من قدر على إيجاد شيء من العدم وإبدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه وإفنائه .
ولما تسبب عن انتسابهم في هذا القول الواهي وارتهانهم في عهدته اضطرابهم في الرأي : هل يرجعون فينسبوا إلى الجهل والطيش والسفة والرعونة أم يدومون عليه فيؤدي ذلك مع كفرهم بالذي خلقهم إلى أعظم من ذلك من القتال والقتل ، والنسبة إلى الطيش والجهل ، قال معبراً عن هذا المعنى : ( فهم ) أي لأجل مبادرتهم إلى هذا القول(7/248)
صفحة رقم 249
السفساف ) في أمر مريج ) أي مضطرب جداً مختلط ، من المرج وهو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة ، فهم تارة يقولون : سحر ، وتارة كهانة ، وتارة شعر ، وتارة كذب ، وتارة غير ذلك ، والاضطراب موجب للاختلاف ، وذلك أدل دليل على الإبطال كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق ، وذلك أدل دليل على الحقية ، قال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم - وكذا قال قتادة ، وزاد : والتبس عليهم دينهم .
ولما أخبرهم أنهم قالا عن غير تأمل أنكر عليهم ذلك موبخاً لهم دالاًّ على صحة ما أنكروه وفساد إنكارهم بقوله ، مسبباً عن عجلتهم إلى الباطل ، ) أفلم ينظروا ) أي بعين البصر والبصيرة ) إلى السماء ) أي المحيط بهم وبالأرض التي هم عليها .
ولما كان هذا اللفظ يطلق على كل ما علا من سقف وسحاب وغيره وإن كان ظاهراً في السقف المكوكب حققه بقوله : ( فوقهم ( فإن غيرهم إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل .
ولما كان أمرها عجباً ، فهو أهل لأن يسأل عن كيفيته دل عليه بأداة الاستفهام فقال : ( كيف بنيناها ) أي أوجدناها على ما لنا من المجد والعزة مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد ) وزينها ) أي بما فيها من الكواكب الصغار والكبار السيارة والثابتة ) وما ) أي الحال أنه ما ) لها ( وأكد النفي بقوله : ( من فروج ) أي فتوق وطاقات وشقوق ، بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء ، فإن كانت هذه الزينة من تحتها فالذي أوقع ذلك على هذا الإحكام الذي يشاهدونه بما فيه من المنافع والستر الذي لا يختل على مر الجديدين ، فهو من القدرة بحيث لا يعجزه شيء ، وإن كانت الزينة من فوقها فكذلك ، وإن كان بعضها من فوق وبعضها من تحت فالأمر عظيم ، وهذا يدل على أن المساء كرة مجوفة الوسط مقببة كالبيضة ، فإن نفي الفورج فيها على هذا الوجه المؤكد يدل على ذلك دلالة ظاهرة ، وأفرد السماء ولم يجمع لأن بناءها على ما ذكر وإن كانت واحدة يدل على كمال القدرة ، فإن البناء المجوف لا يمكن بانيه إكمال بنائه من غير أن يكون له فروج ، وإن اختل ذلك كان موضع الوصل ظاهراً للرائين ما فيه من فتور وشقوق وقصور وما يشبه ذاك ، ولم يمكنه مع ذلك الخروج منه ، إن كان داخله فلم يقدر على حفظ خارجه ، وإن كان خارجه لم يتمكن من حفظ داخله ، وهذا الكون محفوظ من ظاهره وباطنه ، فعلم أن صانعه منزه عن الاتصاف بما تحيط به العقول بكونه داخل العلم أو ظهير أو معين ، وجمع الفرج للدلالة على إرادة الجنس بالسماء بعد ما أفاده إفراد لفظها ، فيدل الجمع مع إرادة الجنس على التوزيع ، مع الإفهام إل أن الباني لو احتاج في هذا الخلق الواسع الأطراف المتباعد الأكناف إلى فرج واحد لاحتاج إلى فروج كثيرة .
فإن(7/249)
صفحة رقم 250
هذا الجرم الكبير لا يكفي فيه فرج واحد لمن يحتاج إلى الحركة ، فنزل كلام العليم الخبير على مثل هذه المعاني ، ولا يظن أنه غيرت فيه صنعة من الصنع لأجل الفاصلة فقط ، فإن ذلك لا يكونه إلا من محتاج ، والله متعال عن ذلك ، ويجوز - وهو أحسن - أن يراد بالفروج قابلية الإنبات لتكون - مثل الأرض - يتخللها المياه فيمتد فيها عروق الأشجار والنبات وتظهر منها ، وأن يراد بها الخلل كقوله تعالى ) ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فراجع البصر هل ترى من فطور ( ) [ الملك : 3 ] أ خلل واختلاف وفساد ، وهو لا ينفي الأبواب والمصاعد - والله أعلم .
ق : ( 7 - 11 ) والأرض مددناها وألقينا. .. . .
) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( ( )
سبحانه على تمام قدرته وكما ل علمه وغير ذلك من صفات الكمال بآية السماء ، أتبع ذلك الدلالة على أنه لا يقال فيه داخل العالم ولا خارجه لأنه متصل به ولا منفصل عنه ، نبه على ذلك بالدلالة على آية الأرض ، وأخرها لأن السماء أدل على المجد الذي هذا سياقه ، لأنها أعجب صنعة وأعلى علوّاً وأجل مقداراً وأعظم أثراً ، وأن الأرض لكثرة الملابسة لها والاجتناء من ثمارها يغفل الإنسان عن دلالتها ، بما له في ذلك من الصنائع والمنافع ، فقال : ( والأرض ) أي المحيط بهم ) مددناها ) أي جعلناها لما لنا من العظمة مبسوطة لا مسنمة .
ولما كان الممدود يتكفأ ، قال : ( وألقينا ( بعظمتنا ) فيها رواسي ) أي جبالاً ثوابت كان سبباً لثباتها ، وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق ، والمراسي تعالجونها أنتم من تحت .
ولما كان سكانها لا غنى لهم عن الرزق ، قال ممتناً عليهم : ( وأنبتنا ( بما لنا من العظمة ) فيها ( وعظم قدرتها بالتبعيض فقال : ( من كل زوج ) أي صنف من النبات تزاوجه أشكاله بأرزاقكم كلها ) بهيج ) أي هو في غاية الرونق والإعجاب ، فكان - مع كونه رزقاً - متنزهاً .
ولما ذكر هذه الصنائع الباهرة ، عللها بقوله : ( تبصرة ) أي جعلنا هذه الأشياء كلها ، أي لأجل أن تنظروها بأبصاركم ، ثم تتفكروا ببصائركم ، فتعبرا منها إلى صانعها ، فتعلموا ما له من العظمة ) وذكرى ) أي ولتتذكروا بها تذكراً عظيماً ، بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أن صانعها لا يعجزه شيء ، وأنه محيط بجمي عصفات الكمال ، ولو ألم بجنابه شائبة من شوائب النقص لما فاض عنه هذا الصنع الغريب البديع .(7/250)
صفحة رقم 251
ولما كان من لا ينتفع بالشيء كأنه عادم لذلك الشيء ، قصر الأمر على المنتفع فقال : ( لكل عبد ( يتذكر بما له من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه .
ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يزال كلما أعلاه عقله أسفله طبعه ، فكان ربما ظن أنه لا يقبل إذا رجع ، رغبة في الرجوع بقوله : ( منيب ) أي رجاع عما حطه عنه طبعه إلى ما يعليه إليه عقله ، فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود هذه الصفات إلى علم الذات .
ولما كان إنزال الماء أبهر الآيات وأدلها على أنه أجلّ من أن يقال : إنه داخل العالم أو خارجه ، أو متصل به أو منفصل عنه ، مع أن به تكوّن النبات وحصول الأقوات وبه حياة كل شيء ، أفرده تنبيهاً على ذلك فقال : ( ونزلنا ) أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب ، بما له من النقل والنبوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة ) من السماء ) أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ) ماء مباركاً ) أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً بجميع منافعكم .
ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياءن وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً ، وغير ذلك عجباً ، قال : ( فأنبتنا ( معبراً بنون العظمة ) به جنات ( من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ - أي تستر - الداخل فيها .
ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم ، خصه بقوله : ( وحب الحصيد ) أي النجم الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير ونحوهما ، وأومأ بالتقييد إلى أن هذه الحبوب أشرف من حب اللآلىء الذي ينبته الله نم المطر لأنها لقيام النبتة ؟ وتلك للزينة ، ولما كان النخل من أعجبه ما يتكون منه مع ما له من المنافع التي لا يساويه فيها شجر ، والطباق للرزع بالطول والقصر والاتساق بالاقتيات للآدميين والبهائم ، قال : ( والنخل باسقات ) أي عاليات طويلاً على جميع الأشجار المثمرة ذوات أثمار طيبة ) لها ( مع يبس ساقها ) طلع نضيد ) أي مصفوف متراكم بعضه فوق بعض ، وهو حشو طلعه ، والطلع ذلك الخارج من أعلى النخلة كأنه فعلان مطبقان ، والحمل النضيد بينهما ، والطرف محدد ، أو الطلع ما يبدو من ثمر النخل أول ظهورها ، وذلك القشر يسمى الكفرى لتعطيته إياه على أحكم مما يكون وأوثق ، والطلع يشبه ما للناقة المبسق من اللبا المتكون في ضرعها قبل النتاج ، ثم يصير بعد اتحاده في البياض وهو كلع إلى الافتراق حال الينوع إلى أحمر وأصفر وأخضر وغير ذلك من الألوان الغريبة ، والأوصاف العجيبة ، وهي محيطة المنافع بالتفكه على عدة أنواع والاقتيات وغير ذلك ، وطلعها مخالف لعادة أكثر الأشجار فإن ثمارها مفردة ، كل حبة منفردة عن أختها .(7/251)
صفحة رقم 252
ولما ذكر سبحانه بعض ما له في الماء من العظمة ، ذكر له علة هي غاية في المنة على الخلق فقال : ( رزقاً للعباد ) أي أنبتنا به ذلك لأجل أنه بعض ما جعلناه رزقهم .
ولما كان ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث والجميع صفات الكمال ، أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال : ( وأحيينا به ) أي الماء بعظمتنا ) بلدة ( وسمها بالتاء إشارة غلىأناه في غاية الضعف والحاجة إلى الثبات والخلو عنه ، وذكر قوله : ( ميتاً ( للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها .
ولما كان هذا خاصة من البعثن قال على سبيل النيجة : ( كذلك ) أي مثل هذا الإخراج العظيم ) الخروج ( الذي هو لعظمته كأنه مختص بهذا المعنى ، وهو بعث الموتى من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا ، لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم في الرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأخضره وأزرقه إلى غير ذلك ، وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا ، قال أبو حيان : ذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزيين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات ، قابل المد بالبناء لأن المد وضع والبناء رفع ، وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاز كل واحد منها - أي على سطح ما هو فيه ، والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها ، ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثماء فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت .
ق : ( 12 - 16 ) كذبت قبلهم قوم. .. . .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ( )
ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه ، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته ، فصار من باب لزوم الغلط ، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين ، كان كأنه قيل : إن إنكار هؤلاء أعجب ، فهل وقع هذا لأحد قط ، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت ، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً لإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة : ( كذبت ( وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها ، أسقط الجارّ فقال : ( قبلهم ( .(7/252)
صفحة رقم 253
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال : ( قوم نوح ( وأشار إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم ، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم ، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريباً من عشرة قرون ولما اكن آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان : ماء السماءن وطلع إليهم ماء الأرض فأغرهم ، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال : ( وأصحاب الرس ) أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان .
ولما كانت آية قوم صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث ، وكان إهلاكهم مناسباً لإهلاك من قبلهم ، أما لأصحاب الرس فكان بارجفة التي هي على مبدأ الخسف ، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء ، أتبعهم بهم ، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال : ( وثمود ( ولما اتفق قوم هود عليه السلام والقبط بالإهلاك بالريح التي أثرت بها صيحة ثمود ، أولئك مع الحجارة والرمل وهؤلاء بالماء الذي فرقه الله بالريح عند ضرب العصي ، وكان لكل منهما من ضخامة الملك وعز السلطان ما هو مشهور قدم أشدهما أبداناً وأوسعهما ملكاً لأن إهلاكهم كان أدل دليل على القدرة وأقرب شبهاً بهلاك ثمود فقال : ( وعاد ( وعطف عليه أقرب الطائفتين شبهاً بالهلاك بقوم نوح وأصحاب الرس فقال : ( وفرعون ( نص عليه لأنه ليس في مادة هذا الغرق كافره غيره ، والنص عليه يفهم غيره ، وما تقدم في غير هذه السورة غير مرة من وصفه بأنه ملك قاهر وأنه استخفهم فأطاعوه فيعلم كفرهم طاعة له ، وأنه ليوافق ما قبله وما بعده .
ولما كان السياق للعزة والشقاق ، فلم يدع داع إلى إثبات ذي الأوتاد .
ولما كان هلاك المؤتفكات جامعاً في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء ، أتبعهم بهم معبراً عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن ، وعبر بالأخوة دون القوم أصهاره الذين جبرا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة ، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له والأنفسهم وغيرهم .
ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح ، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال : ( وأصحاب الأيكة ( لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار ، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار بالنازلة من ظلمة السحاب ، وعبر عنهم بالواحدة والمراد(7/253)
صفحة رقم 254
الغيضة إشارة إلى أنها من شدة التفافها كالشجرة الواحد .
ولما كان ) تبع ( مع كونه من قومه ملكاً قاهراً ، وخالفوه مع ذلك ، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم ، ختم بهم فقال : ( وقوم تبع ( مع كونه مالكاً ، وهو يدعوهم إلى الله ، فلا يظنه أن التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً ، بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف ، لا يخرج شيء عن مرادنا .
ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معرياً منه : ( كل ) أي من هذه الفرق ) كذب الرسل ) أي كلهم بتكذيب رسولهم ، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله ) فحقَّ ( فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب ) وعيد ) أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه ، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عاماً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث ، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم ، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا .
ولما ذكر سبحانه التسلية بتذكيب هذه الأحزاب بعد ذكر تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم ، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم ، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريراً لحقوق الوعيد ، فقال مسبباً عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود : ( أفعيينا بالخلق ) أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء ، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه ) الأول ) أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم ، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً ، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة ، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانياً ، يقال : عيي بالأمر - إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه ، ولم يطق إحاكمه .
ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار : لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه ، وفي طيه الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي(7/254)
صفحة رقم 255
يخل باعتقادهم إياه فقال : ( بل هم في لبس ) أي خلط شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى بل السكوت عنه أجمل ، قال علي رضي الله عنه : يا جار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف بالحق تعرف أهله .
ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى ) من ( أجل ) خلق جديد ) أي الإعادة .
ولما ذكر خلق الخافقين ، أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيها فقال : ( ولقد ) أي والحال أنا قد ) خلقنا ( بما لنا من العظمة ) الانسان ( وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان ، والذكر والنسيان ، والجهل والعرفان ، والطاعة والعصيان ، وغير ذلك من عجيب الشأن ، ووكلنا به من جنودنا من يحفظه فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله ) ونعلم ) أي والحال أننا نعلم بما لنا من الإحاطة ) ما توسوس ) أي تكلم على وجه الخفاء ، ) به ( الآن وفيما بعد ذلك مما لم ينقدح بعد من خزائن الغيب إلى سر النفس كما علمنا ما تكلم ) نفسه ( وهي الخواطر التي تعترض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها ، فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به ( صلى الله عليه وسلم ) وامتيازه ، وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرئاسة على الإنكار باللسان حتى صار ذلك لهم خلقاً وتمادوا يه حتى غطى على عقولهم ، فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب .
ولما كان العالم بالشيء كلما كان قريباً منه كان علمه به أثبت وأمكن ، قال ممثلاً لعلمه ومصوراً له بما نعلم أنه موجبه : ( ونحن ( بما لنا من العظمة ) أقرب إليه ( قرب علم وشهود من غير مسافة ) من حبل الوريد ( لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً ، ولا يحجب علم الله شيء ، والمراد به الجنس ، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب ، وهذا مثل في فرط القرب ، وإضافته مثل مسجد الجامع ، وقد مضى في تفسري سورة المائدة عند قوله ) ) والله يعصمك من الناس ( ) [ المائدة : 67 ] ما ينفع هنا ، قال القشيري : وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم .
ق : ( 17 - 19 ) إذ يتلقى المتلقيان. .. . .
) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ( )
ولما كان سبحانه قد وكل بنا حفظة تحفظ أعمالنا وتضبط أقوالنا وأحوالنا ، فكان المعروف لنا أن سبب الاستحفاظ خوف الغفلة والنسيان ، قدم سبحانه الإخبار بكمال علمه فأمن ذلك المحذور ، علق بأقرب أو نعلم قوله تأكيداً لما علم من إحاطة علمه من(7/255)
صفحة رقم 256
عدم حاجته ، وتخويفاً بما هو أقرب إلى مألوفتنا ) إذ ) أي حين ) يتلقى ) أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود ) المتلقيان ( وما أدراك ما هما ؟ ملكان عظيمان حال كونهما ) عن اليمين ( لكل إنسان قعيد منهما ) وعن الشمال ( كذلك ) قعيد ) أي رصد وحبس مقاعد لذلك الإنسان بأبلغ المقاعدة ونحن أقرب منهما وأعلم علماً ، وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم .
ولما كانت الأفعال اللسانية والقلبية والبدنية ناشئة عن كلام النفس ، فكان الكلام جامعاً ، قال مبيناً لإحاطة علمه بإحاطة من أقامه لحفظ هذا الخلق الجامع في جواب من كأنه قال : ما يفعل المتلقيان : ( ما يلفظ ) أي يرمي ويخرج المكلف من فيه ، وعم في النفي بقوله : ( من قول ) أي مما تقدم النهي عنه في الحجرات من الغيبة وما قبلها وغير ذلك قل أو جل ) إلا لديه ) أي الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة هي من أغرب المستغرب ) رقيب ( من حفظتنا شديد المراعاة له في كل من أحواله ) عتيد ) أي حاضر مراقب غير غافل بوجه ، روى البغوي بسنده من طريق الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) .
ولما كان مثل إرسال الخافقين ثم الموت ثم النفخ بإرسال الملك في الدنيا إلى الناس لعرضهم فيصير الإنسان منهم ساعياً في التزين للملك بما يعجبه في مقصود ذلك العرض في الأجل الذي ضربه لهم ، فإذا جاء ذلك الوقت الذي هو كالموت أخذته الرسل فباءوا به كما يفعل حال الموت بالميت ومن أحضروه منهم حبسوه على باب الملك لتكامل المعروضين ، فإذا كمل جمعهم وأمر بقيامهم للعرض زعق لهم المنادي بالبوق الذي يسمى النفير وهو كالصور ، فلهذا قال تعالى مبيناً لإحاطة قدرته بجميع خلقه عاطفاً على ما تقديره : فاضطرب ذلك الإنسان الموكل به في الوقت المأمور بالتردد فيه بما يرضي الله بالقول والفعل على حسبت إرادته سبحانه سواء كان موافقاً للأمر أو مخالفاً إلى أن أوان الرحيل معبراً بالماضي تنبيهاً على أن الموت مع أنه لا بد منه قريب جداً : ( وجاءت ) أي أتت وحضرت ) سكرة الموت ) أي حالته عند النزع(7/256)
صفحة رقم 257
وشدته وغمرته ، يصير الميت بها كالسكران ، لا يعي وتخرج بها أحواله وأفعاله وأقواله عن قانون الاعتدال ، ومجيئاً متلبساً ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه من بطلان الحواس وكشف الغطاء عن أحوال البرزخ من فتنة السؤال وضيق المجال أو سعة الحال ، وقيل للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان القال : ( ذلك ) أي هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجد ) ما ) أي الأمر الذي ) كنت ( جبلة وطبعاً .
ولما كانت نفرته منه وهربه من وقوعه بحفظ الصحة ودواء الأداء في الغاية ، كان كأنه لا ينفر غلا منه ، فأشار إلى ذلك بتقديم الجارّ فقال : ( منه تحيد ) أي تميل وتنفر وتروع وتهرب .
ق : ( 20 - 26 ) ونفخ في الصور. .. . .
) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( ( )
ولما كان التقدير : فأخذ ذلك الإنسان بالقهر من بين الأهل والإخوان ، والعشائر والجيران ، وضم إلى عسكر الموتى وهم بالبرزخ نزول ، ولانتظار بقيتهم حلول ، ولم يزالوا كذلك حتى تكامل القادمون عليهم الواصلون إليهم ، عطف عليه قوله مبيناً لإحاطة من عامل الملكوت والعز والجبروت : ( ونفخ ) أي بأدنى إشارة وأيسر أمر ) في الصور ( وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العام والبعث العام عند وهو عليه الصلاة والسلام والقتم الصور من حين بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر ، فيا لها من عظمة ما أغفلنا عنها ، وأناسنا لها ، وآمننا منها ، والمراد بهذه نفخة البعث .
ولما كان ذلك الأثر عن النفس هو سرا الوجود ، وأشار إلى عظمته بقوله : ( ذلك ) أي الوقت الكبير العظيم الأهوال والزلازل والأوجال ) يوم الوعيد ) أي الذي يقع فيه ما وقع الإيعاد به .(7/257)
صفحة رقم 258
ولما كان التقدير : فكان من تلك النفخة صيحة هائلة ورجة شاملة ، فقال الناس عامة من قبورهم ، وحصل ما في صدورهم ، عطف عليه قوله بياناً لإحاطة العرض : ( وجاءت كل نفس ) أي مكلفة كائناً ) معها سائق ( يسوقها إلى ماهي كارهة للغاية لعلمه بما قدمت من النقائص ) وشهيد ( يشهد عليها بما عملت ، والظاهر من هذا أن السائق لا تعلق له بالشهادة أصلاً ، لئلا تقول تلك النفس : إنه خصم ، والخصم لا تقبل شهادته ، ويقال حينئذ للمفرط في الأعمال في أسلوب التأكيد جرياً على ما كان يستحقه إنكاره في الدنيا ، وتنبيهاً على أنه لعظمه مما يحق تأكيده : ( لقد كنت ) أي كوناً كأنه جبلة لك ) في غفلة ) أي عظيمة محيطة بك ناشئة لك ) من هذا ) أي من تصور هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب ، والجزاء بالثوب أو العقاب لأنه على شدة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ) فكشفنا ( بعظمتنا بالموت ثم بالعبث ) عنك غطاءك ( الذي كان يحجبك عن رؤيته من الغفلة بالآمال في الجاه والأموال وسائر الحظوظ والشهوات ، تحقيقاً لما له سبحانه من الإحاطة بالتقدير والتعجيز ، وعن الواسطي : من كشف عنه غطاء الغفلة أبصر الأشياء كلها في أسر القدرة وانكشف له حقائق الأشياء بأسرها ، وهذا عبارة عن العلم بأحوال القيامة .
ولما تسبب عن هذا الكشف الانكشاف التام ، عبر عنه بقوله : ( فبصرك اليوم ) أي بعد البعث ) حديد ) أي في غاية الحدة والنفوذ ، فلذا تقر بما كنت تنكر .
ولما أخبر أخبر تعالى بما تقوله له الملائكة أو من أراد من جنوده ، وكان قد أخبر أن معبوداتهم من الأصنام والشياطين وغيرها تكون عليهم يوم القيامة ضداً ، أخبر بما يقول القرين من السائق والشهيد والشيطان الذي تقدم حديثه في الزخرف ، فقال عاطفاً على القول المقدر قبل ( لقد ) معبراً بصيغة المضي تأكيداً لمضمونه وتحقيقاً : ( وقال قرينه ) أي الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد .
نقله الكرماني عن ابن الطائع والعاصي في غاية العجب ، لأن الطائع ينابذ هواه فيكون ملكياً مجرداً من حظوظه ونوازع نفوسه وما بنيت عليه من النقائص والشهوات ، والعاصي طوع يدي الشيطان ، يصرفه في أغراضه كيف يشاء ، فيطيعه بغاية الشهوة مع علمه بعداوته ، وأن طاعته لا تكون إلا بمخالفة أمر الله الولي الودود ، وكان العاصي أكثر كثرة يكون الطائع فيها بالنسبة إليه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، وكان ذلك منابذاً للعقل ، أشار إلى هذه المنابذة بأداة من لا يعقل وإلى جميع ما في أمره من العجب بلدي فقال : ( ما لدي ) أي الأمر الذي عندي من الأمر المستغرب جداً لكون المطيع عصاني ، وهو(7/258)
صفحة رقم 259
مطبوع على النقائص والحظوظ التي يرى أنها حياته ولذته وراحته ، والعاصي أعاطني وهو يعلم بعقله أني شر محض ، وترك الخير المحض وهو عالم بأن في ذلك هلاكه ) عتيد ) أي حاضر مهيأ لما يراد منه .
ولما كانت العادة جارية بأن من أحضر إليه شيء تبادر إلى أمهر بقوله أو فعل ، وصل بذلك ما هو نتيجته ، وبدأ بالعاصي لأن المقام له ، فقال ما يدل على أنه لا وزن له ، فلا وقفة في عذابه بحسباه ولا غيره ، مؤكداً خطاباً للمؤكد بالإلقاء أ وخطاباً للسائق والشهيد ، أو السائق وحده مثنياً لضميره تثنية للأمر كأنه قال : ألق ألق - تأكيداً له وتهويلاً : ( ألقيا ) أي اطرحا دفعاً من غير شفقة ، وقيل : بل هو تثنية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة ، فجرى كلام الواحد على صاحبه ، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلاً : يا صاحبيّ يا خليليّ ، والسر فيه إذا كان المخاطب واحداً إفهامه أنه يراد منه الفعل بجد عظيم تكون قوته فيه معادلة لقوة اثنين ) في جهنم ) أي النار التي تلقى الملقى فيها بما كان يعامل به عباد الله من الكبر والعبوسة والتكره والتعصب ، ولما كان المقصود تعليل إلقائه بوصف يعم غيره ليكون لطفاً لمن أراد الله عصمته ممن سمع هذا المقال وحجة على من أراد الله إهانته : ( كل كفار عنيد ) أي مبالغ في تسر الحق والمعاداة لأهله من غير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان ) مناع ) أي كثير المنع ) للخير ( من ) مريب ) أي داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أمر الدين ، وموقع غيره فيه ، ثم أبدل من ( كل ) قوله بياناً لمبالغته في الكفر الذي أوجب له كل شر ) الذي جعل ( كفراً مضاعفاً وعناداً ومنعاً للخير الذي يجب عليه في قلبه ولسانه وبدنه ، وتجاوزاً للحدود دخولاً في الشك وإدخالاً لغيره فيه ) مع الله ) أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ، فليس أمره خفياً عن كل ذي عقل ) إلهاً ( ولما كان ربما تعنت متعنت متعنت فنزل الآية على من يدعو الله بغير هذا الاسم الأعظم ، صرح بالمراد بقوله : ( آخر ( وزاد الكلام أنه مأخوذ من التأخر الناظر إلى الرداءة والسقوط عن عين الاعتبار بالكلية .
ولما كان هذا قد جحد الحق الواجب لله لذاته مع قطع النظر عن كل شيء ثم ما يجب له من جهة ربوبيته وإنعامه على كل موجود ، ثم من جهة إدامة إحسانه مع المعصية بالحلم ، وعاند في ذلك وفي إثباته للغير ما لا يصح له بوجه من الوجوه ، سبب عن وصفه قوله : ( فألقياه في العذاب ) أي الذي يزيل كل عذوبة ) الشديد ( .(7/259)
صفحة رقم 260
ق : ( 27 - 33 ) قال قرينه ربنا. .. . .
) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ( ( )
ولما كان القرين قد قال ما تقدم مريداً به - جهلاً منه - الخلاص من العذاب بإظهار أنه ليس بأوصاف هذه النفس ، بل من كبار المؤمنين ، فأجيب مقاله بإلقاء تلك النفس معللاً للأمر بإلقائها بما شمل هذا القرين ، فتوشوف السامع إلى ما يكون من حاله ، وكانت العادة جارية أن من تكلم في شخص بما فيه مثله ولا سيما إن كان هو السبب فيه أو كان قد تكلم ذلك الشخص فيه ، فكان قياس ذلك يقتضي ولا بد أن تقول تلك النفس القول فيها ، وهذا عند الأمر بإلقائها : ربنا هو أطغاني : أجاب تعالى عند هذا التشوف بقوله : ( قال قرينه ( منادياً بإسقاط الأداة دأب أهل أهل القرب إيهماً أنه منهم : ( ربنا ( أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم ) ما أطغيته ) أي أوقعته فيما كان يه من الطغيان ، فإنه لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك ) ولكن كان ( بجبلته وطبعه ) في ضلال بعيد ( محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه ، فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله ، وإن حركته إليه أن فإنه لا يحتاج إلى أدنى تحريك فيثور له ثورة من هو مجبول مركوز في طباعه .
ولما كان كأنه قيل : بم يجاب عن هذا ؟ وهل يقبل منه ؟ قيل : لا ) قال ) أي الملك المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل : ( لا تختصموا ) أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد ) لديَّ ) أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير ، وأعجب بما يدرك حق الإدراك ، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة ، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد ) وقد ) أي والحال أنه قد ) قدمت ) أي تقدمت ، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلاً ومنهياً ) إليكم ) أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه ، وجعلت ذلك رفقاً بكم ملتبساً ) بالوعيد ) أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستوراً ، فكان الإيمان به نافعاً .
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة ، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب ( ما ) التي للحاضر دون ( لا ) التي للمستقبل فقال : ( ما يبدل ) أي يغير من مغير ما كان(7/260)
صفحة رقم 261
من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل له بدل فيكون فيه خلف ) القول لدي ) أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء ، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلاً لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد ، وأنه مشروط بشرائط ) وما أنا ( وأكد النفي فقال : ( بظلام ) أي بذي ظلم ) للعبيد ( لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم ، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت : إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد يؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا .
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره ، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول ، وينقطع دون وصفها القول ، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول ، فقال ما معناه : يكون هذا كله ) يوم ( ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها ، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر ، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله : ( نقول ) أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها ) لجهنم ( دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به ، وتقريع الكفار ، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة : ( هل امتلأت ( فصدق قولنا
77 ( ) لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ) 7
[ هود : 119 ] وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف ، فتقول : لا ، ) وتقول ( طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلىء لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً : ( هل من مزيد ) أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة ، سواء كان كثيراً أو قليلاً ، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث ( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه ) أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وعزتك ، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير ، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد ، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معاً فكان التوسط ، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته بالحر بواسطة الشمس ، فامتزج الموجدان ، فكان له توسط ، وكل ذلك له دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العيزيز العليم - ذكر ذلك ابن برجان .(7/261)
صفحة رقم 262
ولما ذكر النار وقدمها لأن المقام للإنذار ، أتبعها دار الأبرار ، فقال ساراً لهم بإسقاط مؤنة السير وطيّ شقة البعد : ( وأزلفت ( أ يقربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ) الجنة للمتقين ) أي العريقين في هذا الوصف ، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا ، وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم على غير هذا الوصف ، فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر .
ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله : ( غير بعيد ) أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد .
ولما كان التقريب قد لا يدري الناظر ما سببه ، قال ساراً لهم : ( هذا ) أي الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ) ما ) أي الأمر الذي ) توعدون ) أي وقع الوعد لكم به في الدنيا ، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية ، وعبر عن الإزلاف بالماضي تحقيقاً لأمره وتصيراً لجضوره الآن ليكون المضارع من الوعد في أحكم مواضعه ، وأبهم الأمر لأنه أكثر تشويقاً ، والتعيين بعد الإبهام ألذ ، فلذلك قال بياناً للمتقين ، معيداً للجار لما وقع بينه وبين المبدل منه من الجملة الاعتراضية جواباً لمن كأنه قال : لمن هذا الوعد ؟ فقال تعالى : ( لكل أواب ) أي رجاع إلى الاستقامة بتقوى القلب إن حصل في ظاهره عوج ، فنبه بذلك على أنه من فضله لم يشترط في صحة وصفه بالتقوى دوام الاستقامة ) حفيظ ) أي مبالغ في حفظ الحدود وسار العهود بدوام الاستقامة والرجوع بعد الزلة ، ثم أبدل من ( كل ) تتميماً لبيان المتقين قوله : ( من خشي ( ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول ، ونبه على كثرة خشيته بقوله : ( الرحمن ( لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى ، وقال القشيري : التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع ، قال : ولذلك لم يقل ) الجبار ( أو ) القهار ( قال : ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، فكأنها قريبة من الهيبة ) بالغيب ) أي مصاحباً له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به غلى حد المكاشفة ، بل استغنى بالبراهين القاطعة التي منها أنه مربوب ، فلا بد له من رب ، وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته .
ولما كان النافع من الطاعة الدائم إلى الموت ، قال : ( وجاء ) أي بعد الموت ) بقلب منيب ) أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم ، ولم يقل : بنفس ، لطفاً بالعصاة لأنهم وإن قصرت نفوسهم لم يكن لها صدق القدم فلهم الأسف بقلوبهم ، وصدق الندم .(7/262)
صفحة رقم 263
ق : ( 34 - 37 ) ادخلوها بسلام ذلك. .. . .
) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ( )
ولما كان الإخبار بكونها لهم وإن كان أمراً ساراً لا يتضي دخولها في ذلك الوقت ، زاد سرورهم بالإذن بقوله معبراً بضمير الجميع بضمير الجميع بياناً لأن المراد من ( من ) جميع المتقين : ( ادخلوها ) أي يقال لهم : ادخلوا الجنة .
ولما كان المراد استقبالهم بالإذاذ بالبشارة قال : ( بسلام ) أي بصاحبين للسلامة من كل يمكن أن يخاف ، فأنتج ذلك قوله إنهاء للسرور إلى غاية لا توصف : ( ذلك ) أي اليوم العظيم جداً ) يوم ( ابتداء أو تقرير ) الخلود ) أي الإقامة التي لا آخر لها ولا نفاذ لشيء من لذاتها أصلاً ، ولذلك وصل به قوله جواباً لمن كأنه قال : على أي وجه خلودهم ؟ : ( لهم ( بظواهرهم وبواطنهم ) ما يشؤون ) أي يتجدد مشيئتهم أو تمكن مشيئتهم له ) فيها ) أي الجنة ) ولدينا ) أي عندنا من الأمور التي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً ) مزيد ) أي مما لا يدخل تحت أوهامهم يشاؤه ، فإن سياق الامتنان يدل على أن تنوينه للتعظيم ، والتعبير بلدى يؤكد ذلك تأكيداً يناسبها بأن يكونوا كل لحظة في زيادة على أمانيهم عكس ما كانوا في الدنيا ، وبذلك تزداد علومهم ، فمقدورات الله لا تنحصر ، لأن معلوماته لا تنتهي. ولما ذكر سبحانه أول السورة تكذيبهم بالقدرة على اعترافهم بما يكذبهم في ذلك التكذيب ، ثم سلى وهدد بتكذيب الأمم السابقة ، وذكر قدرته عليهم ، وأتبعه الدلالة على كمال قدرته إلى أن ختم بالإشارة إلى أن قدرته لا نهاية لها ، ولا تحصر بحدّ ولا تحصى بعدّ ، رداً على أهل العناد وبدعة الاتحاد في قولهم ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) عطف على ما قدرته بعد ) فحق وعيد ( من إهلاك تلك الأمم مما هو أعم منه بشموله جميع الزمان الماضي وأدل على شمول القدرة ، فقال : ( وكم أهلكنا ) أي بما لنا من العظمة .
ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم ، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال : ( قبلهم ( وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله : ( من قرن ) أي جيل هم في غاية القوة ، وزاد في بيان القوة فقال : ( بطشاً ) أي قوة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة ، وحذف الجار هنا يدل على أن كل من كان قبل قريش كانوا أقوى منهم ، وإثباته في ص يدل على أن المذكورين بالإهلاك هناك مع الاتصاف بالنداء المذكور بعض المهلكين لا كلهم .
ولما أخبر سبحانه بأشديتهم سبب عنه قوله :(7/263)
صفحة رقم 264
) فنقبوا ) أي أوقعوا النقب ) في البلاد ( بأن فتحو فيها الأبواب الحسية والمعنوية وخرقوا في أرجائها ما لم يقدر غيرهم عليه وبالغوا في السير في النقاب ، وهي طرق الجبال والطرق الضيقة فضلاً عن الواسعة وما في السهول ، بعقولهم الواسعة وآرائهم النافذة وطبائعهم القوية ، وبحثوا مع ذلك عن الأخبار ، وأخبروا غيرهم بما لم يصل إليهم ، وكان كل منهم نقباً في ذلك أي علامت فيه فصارت له به مناقب أو مفاخر .
ولما كان التقدير : ولم يسلموا مع كثربة تنقيبهم وشدته من إهلاكنا بغوائل الزمان ونوازل الحدثان ، توجه سؤال كل سامع على ما في ذلك من العجائب والشدة والهول والمخاوف سؤال تنبيه للذاهل الغافل ، وتقريع وتبيكت للمعاند الجاهل ، بقوله : ( هل من محيص ) أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق ، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا .
ولما ذكرنا هنا من المواعظ ما أرقص الجماد ، فكيف بمن يدعي أنه من رؤوس النقاد ، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكار الجاحد وعناد المعاند : ( إن في ذلك ) أي الأمر البديع من العظات التي صرفناها هنا على ما ترون من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة في الإهلاك وغيره ) لذكرى ) أي تذكيراً عظيماً جداً .
ولما كان المتذكر بمصارع المهلكين تارة بأن يكون حاضراً فيرى مصارعهم حال الإيقاع بهم أو يرى آثارهم بعد ذلك ، وتارة يخبر عنها ، قال بدائاً بالرائي لأنه أجدر بالتذكير : ( لمن كان ) أي كوناً عظيماً ) له قلب ( هو في غاية العظمة والنورانية إن رأى شيئاً من ذلك فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتز به ، ومن لم يكن كذلك فلا قلب له لأن قلبه لما كان غير نافع كان عدماً .
ولما كان قد بدأ بالناظر لأنه أولى بالاعتبار وأقرب إلى الادكار ، ثنى بمن نقلت إليه الأخبار فقال : ( أو ألقى ) أي إلقاء عظيماً بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ) السمع ) أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه ) وهو ) أي والحال أنه في حال إلقائه ) شهيد ) أي حاضر بكليته ، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر ، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه ، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء ، ورأى مجد القرآن فعلم أنه كلام الله فسمعه منه فصدق الرسول ، وقبل كل ما يخبر به ، ومن سمع شيئاً ولم يحضر له ذهنه فهو غائب ، فالأول العالم بالقوة وهو المجبول على الاستعداد الكامل فهو بحيث لا يحتاج إلى غير التدبر لما عنده من الكمال المهيأ بفهم ما يذكر به القرآن ، والثاني القاصر بما عنده من كثافة الطبع فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن يقبل بكليته ، ويزيل الموانع كلها ، (7/264)
صفحة رقم 265
فلذلك حسن جداً موقع ( أو ) المقسمة وعلم منه عظيم شرف القرآن في أنه مبشر للكامل والناقص ، ليس منه مانع غير الإعراض .
ق : ( 38 - 43 ) ولقد خلقنا السماوات. .. . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( ( )
ولما دل على تمام علمه وشمول قدرته بخلق الإنسان إثره ما ذكره من جميع الأكوان ، ثم بإعدامه لأصناف الإنسان في كل زمان ، ذكر بخلق ما أكبر منه في المقدار والإنسان بعضه على وجه آخر ، فقال عاطفاً على ) ولقد خلقنا الانسان ( وأكد تنبيهاً لمنكري البعث وتبكيتاً ، وافتتحه بحرف التوقع لأن من ذكر بخلق شيء توقع الإخبار عما هو أكبر منه : ( ولقد خلقنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرتها ولا يطاق حصرها ) السموات والأرض ( على ما هما عليه من الكب روكثرة المنافع ) وما بينهما ( من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها ) في ستة أيام ( الأرض في يومين ، منافعها في يومين ، والسماوات في يومين ، ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ، ولكمنه سن لنا التأني بذلك ) وما مسنا ( لأجل ما لنا من العظمة ) من لغوب ) أي إيعاء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً ، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه ، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا ي الباقي ، وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف ، من اللغب وهو الإعياء ، والريش اللغاب وهو الفاسد .
ولما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة ، وكشف فيهما الأمر أتم كشف ، كان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي ، سبب عن ذلك قوله : ( فاصبر على ما ) أي جميع الذي ) يقولون ) أي الكفرة وغيرهم .
ولما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس ، أمر سبحانه بما يفيد أن ذلك بإرادته وأنه موجب لتنزيهه ، وكماله ، لأنه قهر قائله على قوله ، ولو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالاً لكان ذلك في غاية البعد عنه ، لأنه موجب للهلاك ، فقال : ( وسبح ) أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً ) بحمد ربك ) أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما ) قبل طلوع الشمس ( بصلاة الصبح ، وما يليق به من(7/265)
صفحة رقم 266
التسبيح غيرها ) وقبل الغروب ( بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل لذلك الوقت والظهر تبع لها .
ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما ي الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ثم نشرهم ، أتبه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال : ( ومن الليل ) أي في بعض أقواته ) فسبحه ( بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة .
ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها ، أتبعها النوافل المقيدة بها فقال : ( وأدبار السجود ) أي الذي هو أكل بابه وهو صلاة الفرض بما يصلى بعدها من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً ، قال الرازي : واعمل أن ثواب الكلمات بقدرة صدورها عن جنان المعرفة والحكمة وأن تكون عين قلبه تدور دوران لسانه ويلاحظ حقائقها ومعانيها ، فالتسبيح تنزيه من كل ما يتصور في الوهم أو يرتسم في الخيال أو ينطبع في الحواس أو يدور في الهواجس ، والحمد يكشف عن المنة وصنع الصنائع وأنه المتفرد بالنعم .
انتهى .
ومعناه أن هذا الحمد هو الحقيقة ، فإذا انطبقت في الجنان قامت باللسان ، وتصورت بالأركان ، وحمل على الصلاة لأنها أفضل العبادات ، وهي جامعة بما فيها من الأقوال والأفعال لوجهي الذكر : التنزيره والتحميد ، وهاتان الصلاتان المصدر بهما أفضل الصلوات فهما أعظم ما وقع التسبيح بالحمد ، والمعنى .
والله أعلم .
أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين ، وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة الهم ، ولهذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
ولما سلاه سبحانه عما يسمع منهم من التكذيب وغيره من الأذى بالإقبال على عليّ حضرته والانتظار لنصرته ، أتبعه تعزية الإشارة فيها أظهر بما صوره يوم مصيبتهم وقربه حتى أنه يسمع في وقت نزول هذه الآية ما يه لهم من المثلات وقوارع المصيبات ، تحذيراً لهم وبشرى لأوليائه بتمام تأييده عليهم ونصره لهم في الدنيا والآخرة فقال : ( واستمع ) أي اسمع بتعمدك للسمع بغاية جهدك بإصغاء سمعك وإقبال قلبك بعد تسبيحك بالحممد ما يقال لهم ) يوم يناد المناد ( لهم في الدنيا يوم بدر أول الأيام التي أظهر الله فيها لأوليائه مجده بالانتقام من أعدائه ، وفي الآخرة يوم القيامة في صورة النفخة الثانية وما بعده .
ولما كان المراد إظهار العظمة بتصوير تمام القدرة ، وكان ذلك يتحقق(7/266)
صفحة رقم 267
بإسماع البعيد من محل المنادي كما يسمع القريب سواء ، وكان القرب ملزوماً للسماع ، قال مصوراً لذلك : ( من مكان ( هو صخرة بيت المقدس ) قريب ) أي يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب ، يكونون في البقاع سواء لا تفاوت بينهم أصلاً .
ولما عظم هذا المقام بما كساه من ثوب الإجمال أبدل منه إيضاحاً وزيادة في التعظيم قوله : ( يوم يسمعون ) أي الذين ينادون ) الصيحة ) أي صيحة أصمتهم المستنفر لهم إلى بدر في الدنيا ، فكانت صيحة قاضية بصممهم عن جميع تصرفاتهم ، وصيحة النفخة الثانية في الصورة في الآخرة فهما نفختا حشر إلى القضاء بين المحق والمبطل ) بالحق ) أي لأمر الثابت الذي كانوا يسمونه سحراً ، ويعدونه خيالاً ، فيعلمون حينئذ أن الواقع قد يطابقه ، فكان حقاً فإنه قد طابقه الواقع ، فكان الإخبار به صدقاً .
ولما عظمه سبحانه باجمال بعد إجمال ، إشارة إلى أن ما فيه من شديد الأهوال ، يطول شرحه بالمقال ، زاده تعظيماً بما أنتجه الكلام فقال : ( يوم الخروج ) أي الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من بيوتهم في الدنيا إلى مصارعهم ببدر ، ومن قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى مقامعهم في النار .
ولما ينيت دعائم القدرة ودقت بشائر النصرة وختم بما يصدق على البعث الذي هو الإحياء الأعظم دالاً بما هو مشاهد من أفعاله ، وأكده لإنكارهم البعث ، فقال : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) نحيي ونميت ( تجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرة وعادة مستمرة كما تشاهدونه ، فقد كان منا بالإحياء الأول البدء ) وإلينا ( خاصاً بالإماتة ثم الإحياء ) المصير ) أي الصيرورة ومكانها وزمانها بأن نحيي جميع من أمتناه يوم البعث ونحشرهم إلى محل الفصل ، فنحكم بينهم وليس المعاد بأصعب من المبدأ ، فمن أقر به وأنكر البعث كان معانداً أو مجنوناً قطعاً .
ق : ( 44 - 45 ) يوم تشقق الأرض. .. . .
) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ( )
ولما تحقق بذلك أمر البعث غاية التحقق ، صور خروجهم يه فقال معلقاً بما ختم به الابتداء مما قبله زيادة في تفخيمه وتعظيمه وتبجيله : ( يوم تشقق الأرض ( وعبر بفعل المطاوعة لاقتضاء الحال له ، وحذف تاء المطاوعة إشارة إلى سهولة الفعل وسرعته ) عنهم ) أي مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء ، حال كونهم ) سراعاً ( إلى إجابة مناديها ، وأشا إلى عظمه بقوله :(7/267)
صفحة رقم 268
) ذلك ) أي الإخراج العظيم جداً ) حشر ) أي جمع بكره ، وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه باتقديم الجار فقال : ( علينا ) أي خاصة ) يسير ( فكيف يتوقف عاقل فيه فضلاً عن أن ينكره ، وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه .
انتهى .
ولما أقام سبحانه الأدلة على تمام قدرته وشمول علمه وختم بسهولته عليه واختصاصه به ، وصل تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتهديدهم على تكذيبهم بالعلم الذي هو أعظم التهديد فقال : ( نحن ) أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم ) أعلم ) أي من كل من يتوهم فيه العلم ) بما يقولون ) أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالعبث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا .
ولما كان التقدير : فنحن قادرة ، على ردهم عنه بما لنا من العلم المحيط وأنت لهم منذير تنذرهم وبال ذلك ، عطف عليه قوله : ( وما أنت عليهم ( ولما أفاد حرف الاستعلاء القهر والغلبة صرح به مؤكداً في النفي فقال : ( بجبار ) أي متكبر قهار عات تردهم قهراً عما تكره منهم من الأقوال والأفعال ، إنما أنت منذر ، ولما نفى عنه الجبروت ، أثبت لهم ما أفهمه واو العطف من النذارة كما قدرته قبله ، فقال مسبباً عنه معبراً بالتذكير الذي يكون عن نسيان لأن كل ما في القرآن من وعظ إذا تأمله الإنسان وجده شاهداً في نفسه أو فيما يعرفه من الآفاق ) فذكر ) أي بطريق البشارة والنذارة ) بالقرآن ) أي الجامع بمجده لكل خير المحيط كل صلاح ) من يخاف وعيد ) أي يمكن خوفه ، وهو كل عاقل ، ولكنه ساقه هكذا إعلاماً بأن الذي يخاف بالفعل فيكشف الحال عن إسلامه هو المقصود بالذات ، وغيره إنما يقصد لإقامة الحجة عليه لا لدده ولا يؤسف عليه ولا يتأثر بتكذيبه بل يعتقد أنه عدم لا تضر عداوته ولا تنفع ولايته ، وما آذى إلا نفسه وكل من والاه في الدنيا والآخرة ، وهذا هو المجد للقرآن ولمن أنزله ولمن أتى به عنه بتمام قدرة من هو صفته وشمول علمه ، فقد انعطف هذا الآخر على ذلك الأول أشد انعطاف ، والتفت فروعه بأصله أتم التفاف ، فاعترفت به أولو براعة وأهل الإنصاف والاتصاف بالتقدم في كل صناعة بالسبق الذي لا يمكن لحاقه أيّ اعتراف .
والله الهادي للصواب .
. .(7/268)
صفحة رقم 269
( سورة الذاريات )
مقصودها الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحا وبشرت به تلويحا ولا سيما آخرها من مصاب الدنيا وعذاب الآخرة ، واسمها الذاريات ظاهر في ذلك بملاحظة جواب القسم فإنه مع القسم لشدة الارتباط كالآية الواحدة وإن كان خمسا ، والتعبير عن الرياح بالذاريات أتم إشارة إلى ذلك ، فإن تكذيبهم بالوعيد لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه وإن كانت موجودة معهم كما أن ما يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة أسبابه وإن كانت موجودة ، وهي الرياح وإن كانوا لا يرونها ، واريح من شأنها الذرء وهو التفريق ، فإذا أراد الله جمعت فكان ماأراد ، فإنها تفرق الأبخرة ، فإذا أراد الله سبحانه جمعها فحملها ما أوجد فيها فأوقرها به فأجراها إجراء سهلا ، فقسم منها ما أراد تارة برقا وأخرى رعدا ، يصل صليل الحديد على الحديد ، أو الحجر على مثله مع لطافة السحاب ، كل ما يشاهد فيه من الأسباب ، وآونة مطرا شديد الانصباب ومرة بردا ومرة ثلجا يرجى ويهاب نن وحينا صواعق ونيرانا لها أي التهاب ، ووقتا جواهر ومرجانا بديعة الإعجاب ، فتكون مرة سرورا ورضوانا ، وأخرى غموما وأحزانا ، وغبنا وخسرانا ، على أنهم أخيل الناس في يعض ذلك ، يعرفون السحاب الذي يخيل المطر والذي لا يخليه والذي مطرهع دان ، والذي لم يئن له أن يمطر. إلى غير ذلك من أشياء ذكرها أهل الأدب وحملها أهل اللغة عنهم ، وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله ، ولذلك. والله أعلم. سن أن يقال عنمد سماع الرعد : سبحان الله سبوح قدوس ، بيانا لأن المصرف الحق هو الله تعالى ) رب الملائكة ) أي الذي أقيموا لهذا ) الروح ( الذي يحمله هذا الجسم من مطر أو نار أو غيرهما والله الموفق ) بسم الله ( المحيط بصفات الكمال فهو لا(7/269)
صفحة رقم 270
يخلف الميعاد ) الرحمن ( الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد ) الرحيم ( الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد .
الذاريات : ( 1 - 8 ) والذاريات ذروا
) وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ( )
لما ختم سبحانه ق بالتذكير بالوعيد ، افتتح هذه بالقسم البالغ على صدقه ، فقال مناسباً بين القسم والمقسم عليه : ( والذاريات ) أي الرياح التي من شأنها الإطارة والرمي والتفريق والإذهاب ، وأكد ذلك بقوله : ( ذرواً ) أي بما تصرفها فيه الملائكة ، قال الأصبهاني : الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش ، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج عن عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال ، ثم من رؤوس الجبال تقع في البر ، فأما الشمال فإنها تمر تحت عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين ، ثم تأخذ حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس ، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل ، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس ، وتأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش ، فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه .
ولما كانت غاية الذرو التهيئة للحمل ، قال مسبباً ومعقباً : ( فالحاملات ) أي من السحب التي فرقت الريح أصلها وهو الأبخرة ، وأطارته في الجو في جهة العلو ثم جمعته ، فانعقد سحاباً فبسطه مع الالتئام فحمله الله ما أوجد فيه من مراده من الماء والصواعق وغيرها ) وقراً ) أي حملاً ثقيلاً ، وقد كان قبل ذلك لا يرى شيء منه ولا من محموله ، فتحققوا قدرة الله على كل ما يريد وإن لم تروا أسبابه ، ولا يغرنكم بالله الغرور .
ولما كان الحمل إنما هو الوضع في الأماكن التي يراد ضرها أو نفعها ، وكان سير الغمام بعد الحمل في ساحة الجو وباحة الأفق من غير ممسك يرى أدل على القدرة ، ولا سيما غذا كان مع الجري الذي يضرب به لسرعته المثل ، وكذا جري السفن في باحة البحر بعد ثقلها بالوسق قال : ( فالجاريات يسراً ) أي جرياً ذا سهولة .
ولما كان في غاية الدلالة على تمام القدرة بغريق محمولها في الأراضي المجتاحة ولا سيما إن تباعدت أماكن صبه ومواطن سكبه ، وكان ذلك التفريق هو غاية الجري المترتب على الحمل المترتب على الذرو ، قال مسبباً معقباً مشيراً بالتفعيل ، إلى غرابة فصلها لقطراتها وبداعة تفريقها لرحمتها من عذابها ، وغير ذلك من أحوال الجاريات(7/270)
صفحة رقم 271
وتصريف الساريات : ( فالمقسمات ) أي من السحب بما تصرفها فيه الملائكة عليهم السلام ، وكذا السفن بما يصرفها الله به من الرياح اللينة أو العاصبة من سلامة وعطب وسرعة وإبطاء ، وكذا غيرهما من كل أمر تصرفه الملائكة بين العباد وتقسمه .
ولما كان المحمول مختلفاً كما تقدم ، قال جامعاً لذلك : ( أمراً ) أي من الرحمة أو العذاب ، قال الرازي في اللوامع : وهذه أقسام يقسم الله بها ولا يقسم بها الخلق لأن قسم الخلق استشهاد على صحة قولهم بمن يعلم السر كالعلانية وهو الله تعالى ، وقسم الخالق إرادة تأكيد الخبر في نفوسهم فيقسم ببعض بدائع خلقه على وده يوجب الاعتبار ويدل على توحيده ، فالرياح بهبوبها وسكونها لتأليف السحاب وتذرية الطعام واختلاف الهواء وعصوفها مرة ولينها أخرى والسحاب بنحو وقوفها مثقلات بالماء من غير عماد وصرفها في وقت الغنى عنها بما لو دامت لأهلكت ، ولو انقطعت بتسخير البحر لجريانها وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق ، ولو ركد لأهلك ، والملائكة تقسم الأمور بأمر ربها ، كل ذلك دليل على وجود الصانع الحكيم ، والفاطر العليم ، القادر الماجد الكريم .
ولما كانوا يكذبون بالوعيد ، أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال : ( إنما ) أي الذي ) توعدون ) أي من الوعد للطائع والوعيد للعاصي ، وإن لم تروا أسبابه ، ولما كان ما توعدا به لتحقق وقوعه وقربه كأنه موجود يخاطبهم عن نفسه ، عبر عن المصدر باسم الفاعل فقال : ( لصادق ) أي مطابق الإخبار به للواقع ، وسترون مطابقته له إذا وقع ، وتعلمون أن ذلك الواقع حق ثابت لا خيال لمطابقته للخبر ، قال ابن برجان : واعلم أن الله عز وجل ما أقسم بقسم إلا مطابقاً معناه لمعان في المقسم من أجله بسراج منير يهدي به الله تعالى من يشاء ، وإنما يعمي عن رؤية ذلك ظواهر إشخاص للمحسوسات ، ويصم عن إسماع ندائها ضوضاء المشاهدات ، ولولا ذلك لنودوا بها من مكان قريب ، وقال البيضاوي : كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث .
ولما كان أجل وعيدهم وما يتعلق بالجزاء يوم القيامة وكانوا ينكرونه ، قال : ( وإن الدين ) أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث ، والشرع الذي أرسلت به هذا النبي الكريم ) لواقع ( لا بد منه وإن أنكرتم ذلك ، فيظهر دنيه على الدين كله كما وعد بذلكن ثم نقيم الناس كلهم للحساب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما ذكر سبحانه المواعيد الأخروية في(7/271)
صفحة رقم 272
سورة ق وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله ) وجاءت سكرة الموت بالحق ( إلى آخر السورة ، أتبع سبحانه ذلك بالقسم على وقوعه وصدقه فقال : ( والذاريات ذرواً ( إلى قوله : ( إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع ( والدين الجزاء ، أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم ) فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ( ) إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ( .
ولما أقسم الله على صدق وعده ووقوع الجزاء ، عقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال ( يسألون أيان يوم الدين ) ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله : ( وفي الأرض آيات للموقنين ( فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب ، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم ، وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله : ( ومن كل شيء خلقنا ( بقوله : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) أي إن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدا عليه وألقاء بعضهم إلى بعض فقال تعالى : ( تواصوا به أم هم قوم طاغون ) أي عجباً لهم يف جريهم على التكذيب والفساد في مضمار واحد ، ثم قال تعالى : ( بل هم قوم طاغون ) أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها ، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق ) ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ( ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء مما ورد على طريقة تخييره عليه السلام في أمرهم من قوله تعالى : ( فتول عنهم فما أنت بملوم ( ثم أشار تعالى بقوله : ( وذكر فإن الكذرى تنفع المؤمنين ( إلى أن إحراز أجره عليه السلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى ، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة ) إنما يتسجيب الذين يسمعون ( ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تكذيبه سينالهم قسط ونصيب مما نال غيرهم من ارتكب مرتكبهم ، وسلك مسلكهم ، فقال تعالى ) وإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم ( إلى آخر السورة - انتهى .
ولما أخبر سبحانه عن ثبات خبره ، أتبعه الإخبار عن وهي كلامهم ، فقال مقسماً عليه لمبالغتهم ي تأكيد مضامينه مع التناق بفعله الجميل وصنعه الجليل ، إشارة إلى أنهم لم يتخلقوا من أخلاقه الحسنى بقول ولا فعل : ( والسماء ذات الحبك ) أي الآيات المحتبكة بطرائق النجوم المحكمة ، الحسنة الصنعة ، الجيدة الرصف والزينة ، حتى كأنها منسوجة ، الجميلة الصنعة الجليلة الآثار ، الجامعة بين القطع والاختلاط والاتفاق والاختلاف ، وأصل الحبك الإحكام في امتداد واطراد - قاله الرازي في اللوامع .
) إنكم ( يا معشر قريش ) لفي قول ( محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دنيكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق ) مختلف ( كاختلاف(7/272)
صفحة رقم 273
طرائق السماء التي لا تكاد تنتظم ، ولا يعرف أولها من آخرها ، واختلاف هذه الأشياء المقسم بها من أول السورة واختلاف غاياتها لكنه مع ذلك متدافع ، وإن كنتم تجتهدون في تزيينه وتقريبه للأفهام وتحسينه فإنه لا يكاد إذا عرضه الناقد على الفكر النافذ ينضبط بضابط ولا يرتبط برابط ، بل تارة تقولون : هذا شعر فيلزمكم وصفه بما تصفون به الشعر من الاتساق بالوزن المجرد والروي المتحد ، والعذوبة والرشاقة ، وتارة تقولون : هذا سحر فيلزمكم مع الإفرار بالعجز عنه أنه لا حقائق له والواقع أنه لا يتأمله ذو فهم إلا رأى حقائقه أثبت من الجبال ، وتارة تقولون : أضغاث أحلام ، فيلزمكم أنه لا ينضبط بضابط ، ولا يكون له مفهوم يحصل ، ولا يعجز أحد عن تلفيق مثله ، فقد أبطلتم قولكم : إنه شعر وإنه سحر .
وارة تقولون : إنه كهانة فيلزمكم أن تعتقدوا منه ما تعتقدون في أقوال الكهان من الغخبار باملغيبات وإظهار الخبء وفصل الحكم ، فقد نقضتم جميع أقوالكم الماضية وناديتم على أنفسكم بالمباهتة ، تقولون في الآتي به : إنه شاعر وساحر ومجنون وكاهن وكاذب ، وكل قول منها ينقض الآخر ، وأنتم تدعون أنكم أصدق الناس وأبعدهم عن عار الكذب ، وأنكم أعقل الناس وأنصفهم ، فقد تباعد أولاً ما بين أقوالكم ، ثم ما بينها وبين أفعالكم ، فكان اختلاف طرائق النجوم دالاًّ على مانع مختار تام العلم كامل القدرة ، وكذا اختلاف قولكم على هذا الوجه مع ما لكم من العقول دالّ على قاهر لكم على ذلك ، فهما آيتان في الآفاق وفي أنفسكم .
الذاريات : ( 9 - 18 ) يؤفك عنه من. .. . .
) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ( )
ولما كان هذا الاختلاف مما لا يكاد يصدق لأنه لا يقع فيه عاقل ، بين سببه بأنهم مغلوبون عليه بقهر يد القدرة فقال : ( يؤفك ) أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة ، ويقلب من وجهه لقفاه ) عنه ) أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازاً لما يلزمه من عاره ، فهو لأجل ذلك يقوله ) من أفك ) أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكماً ثابتاً جامعاً ، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوباً وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه ، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره .(7/273)
صفحة رقم 274
ولما كان الكذب الإخبار بما لا حقيقة له وتعمد الافتراء ، وكان الخرص الكذب والافتراء والاختلاف وكل قول بالظن ، قال معلماً بما لهم على قولهم هذاك قتلوا أو قتلتم - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي استحقوه بقولهم : ( قتل الخراصون ) أي حصل بأيسر أمر قتل الكذابين ولا محالة من كل قاتل ، والمتقولين بالظن المنقطعين للكلام من أصل لا يصلح للخرص وهو القطع ، وهم الذين يقولون عن غير سند من كتاب أو سنة أو أثارة من علم ، وهو دعاء أو خبر لأنه مجاب : ( الذين هم ( خاصة ) في غمرة ) أي أعماق من العمى والضلال ، غارقون في سكرهم وجهلهم الذي غمرهم ، ولذلك هم مضطربون اضطراب من هو يمشي في معظم البحر فهو لا يكاد ينتظم له أمر من قول ولا فعل ولا حال ) ساهون ) أي عريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غيره ما يهمه ، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه .
ولما حكم بسهوهم ، دل عليه بقوله : ( يسئلون ) أي حيناً بعد حيناً بعد حين على سبيل الاستمرار استهزاء بقولهم : ( أيان ) أي متى وأي حين ) يوم الدين ) أي وقوع الجزاء الذي يخربنا به ، ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يبث عبيده أو أجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم ، وينظر قطعاً في أحوالهم ، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف يظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيدة الين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما ما لا ضرورة لهم في التزود للمعاد إلى سواه فيتركهم سدى يوجدهم عبثاً .
ولما تقرر أمر القيامة بالتعبير بساهون قال : ( يوم ) أي نقول يوم ) هم على النار يفتنون ) أي يرمون فيحرقون ويعذبون ويصبحون. . .
من الاختلاف مقولاً لهم على سبيل القرع والتوبيخ : ( ذوقوا فتنتكم (. . .
العقوبة من الفتنة المحيطة. . .
واستعجالكم ما توعدون استهزاء وتكذيباً ) هذا الذي كنتم به تستعجلون ) أي تطلبون عجلته. . .
) إن المتقين ) أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً ) في جنات ) أي بساتين عظيمة نحن داخلها. . .
) وعيون (. . .
) آخذين. . .
ما ) أي كل شيء ) آتاهم. . .
ربهم ) أي المحسن إليهم. . .
بتمام عليمه وشامل قدرته وهو لا يدع لهم لذة إلا أنحفهم بها فيقبلونها بغاية الرغبة لأنها في غاية النفاسة .
ولما كان هذا أمراً عظيماً يذهب الوهم في سببه كل مذهب ، علله بقوله مؤكداً لنسبة الكفار لهم إلى الإساءة : ( إنهم كانوا ) أي كوناً هو كالجبلة .
ولما كان الإنسان إما يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه. . .
على الطاعة ، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها ، وتكون سبباً في تبديل السيئات(7/274)
صفحة رقم 275
حسنات فضلاً منه من سبحانه ، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه ، نزع الجارّ فقال : ( قبل ذلك ) أي في دار العمل ، وقيل : أخذوا ما فرض عليهم بغاية القبول لأنهم كانوا قبل فرض الفرائض يعملون على المحبة وهو معنى ) محسنين ) أي في معاملة الخالق والخلائق ، يعبدون الله كأنهم يرونه ، ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله : ( كانوا ) أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعون عليه ، ولغاية التأكيد وقع الإسناد إليهم مرتين ) قليلاً من الليل ( الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات ، وأكد المعنى بإثبات ( ما ) فقال : ( ما يهجعون ) أي يفعلون الهجوع وهو النهوم الخفيف القليل ، فما ظنك بما فوقه لأن الجملة تثبت هجوعهم وهو النوم للراحة ، وكسر التعب وما ينفيه ، وذكر الليل لتحقق المعنى فإن الهجوع النوم ليلاً ، فالمعنى أ ، هم يحيون أكثر الليل وينامون أقله .
ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً ، قال دالاًّ على ذلك وعلى أن تهجدهم يتصل بآخر الليل مؤكداً بالإسناد مرتين أيضاً : ( وبالأسحار ( قال ابن زيد : السحر : السدس الأخير من الليل ) هم ) أي دائماً بظواهرهم وبواطنهم ) يستغفرون ) أي يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين يسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق ( لا أحصي ثناء عليك ) وإبراز الضمير دال على أن غيرهم لو فعل هذا ليلة لأعجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه ، وعلى أن استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظن أنهم أحق بالتذلل من المصرين على المعاصي ، فإن استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ما له سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة التي لا تحصى فعلموا أنه أهل لأن يطاع ويخشى فاجتهدوا وتركوا الهجوع ، وأجروا الدموع ، ثم قابلوا ذلك بنعمه فإذا الأعمال في غاية التقصير فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه لا يمكن أن يقدر حق قدره .
الذاريات : ( 19 - 25 ) وفي أموالهم حق. .. . .
) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ( )
ولما ذكر معاملتهم للخالق ، أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال :(7/275)
صفحة رقم 276
) وفي أموالهم ) أي كل أصنافها ) حق ) أي نصيب ثابت .
ولما كان السياق هنا للإحسان ، فكان إحسانهم لفظ محبتهم إلى عباد الله لا يوقفهم عن الواجب بخلاف ما في ( سأل ) من سياق المصلين مطلقاً ترك وصفه بالمعلومية فقال : ( للسائل ) أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف ) والمحروم ( وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يسأل الناس ولا فطن له ليتصدق عليه ، وهذه صفة أهل الصفة رضي الله عنهم ، فالمحسنون يعرفون صاحب هذا الوصف لما لهم من نافذ البصيرة ولله بهم من العناية .
ولما دل إقسامه بالسماء وما قبلها من الذاريات على ما له في العلويات من الآيات إلى أن ختم بالأموال التي تنبتها الأرض ، فكان التقدير : ففي السماوات آيات للمؤمنين دالات على عظمته واستحقاقه للعبادة بغاية الخضوع رغباً ورهباً ، عطف عليه قوله : ( وفي الأرض ( مما فيه أيضاً من الاختلاف بالمعادن الكثيرة المتباينة مع اتحاد أصلها والنبات والحيوان والجماد والبر والبحر وغير ذلك من الأسرار الدالة على الفاعل المختار ) آيات ) أي دلالات عظيمات هي مع وضوحها بعد التأمل خفيات ) للموقنين ( الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة ، فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها مع ما يلابسهم منها من الأسباب فيشغلهم ولا يرون أكثر أسباب ما فيها من الآيات فأداهم ذلك إلى الإيقان بما نبهت عليه الرسل مما تستقل به العقول من البعث وغيره ، قال القشيري : من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء ، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤيته أحداً لغيبته عن الحقيقة ومطالعة الخلق بعين التفرقة .
وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ، ومن الآيات فيها أنه يلقى عليها كل قذاراة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وكذلك العارف يتشرب ما يلقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق عليّ وشيمة زكية .
ولما أشار إلى آيات الآفاق ، أتبعها آيات الأنفس فقال : ( وفي أنفسكم ) أي من الآيات التي شاركتم بها الجماد ، ثم فارقتموه بالنمو ثم بالحس ثم فارقتم الحيوان الخسيس بالعقل الموصل إلى بدائع العلوم ودقائق الفهوم .
ولما كانت أظهر الآيات ، سبب عن التبيه عليها الإنكار عليهم في ترك الاعتبار بها فقال : ( أفلا تبصرون ) أي بأبصاركم وبصائركم فتتأملوا ما في ذلك من الآيات وتتفكروا هل ترون أسباب أكثرها ، فإن كل هذه آيات دالة على قدرة الصانع على كل ما يريد واختياره ، وأنه ما خلق هذا لخلق سدى ، فلا بد أن يجمعهم إليه للعرض عليه ، فالموقنون لا يزالون ينظرون في أمثال هذا بعيون باصرة وأفهام نافذة ، فكلما رأوا آية اعتبروا بها ، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم ، وإيقاناً مع إيقانهم ، وأول نظرهم فما أودعوا من الآيات الحاجة ، فمن تأملها(7/276)
صفحة رقم 277
علم أنه عبد ، ومتى علم ذلك علم أن له رباً غير محتاج ، ومن أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات ، فارتقى إلى أعلى الدرجات .
ولما بان بما قدمته في ) المقسمات أمراً ( ما في جهة العلو من الأسباب الموجبة للنعمة والعذاب ، قال : ( وفي السماء ) أي جهة العلو ) رزقكم ( بما يأتي من المطر والرياح والحر والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه لمنافع العباد ) وما توعدون ( وجميع ما أتتكم به الرسل من الوعد والوعيد والصعقة والزلزال وغير ذلك من الأهوال وموجبات النكال ، وكذا الرحمة والخير والنعمة وكل ما يتعلق به الآمال ، فكما أنكم تصدقون بذلك وأنتم لا ترونه فكذلك صدقوا بالجنة والنار وإن لم تروها ، فإنه لا فرق بين ماء ينزله الله فيكون منه رياض وجنات وشك وأدواء ومرارات ، وسموم وعقارب وحيات ، وخشاش وسباع وحشرات ، وبين ماء يعيد به الأموات ، ثم يحشرهم إلى جنان ونيران ، فكما أنه لا مرية في إظهار هذا الغيب فكذلك لا لبس في إظهار ذلك الغيب ، ومن المعنى أيضاً أنك لا تشتغل برزق فإنه في السماء ، ولا سبيل لك إلى العروج إليها ، واشتغل بما كلفته من الخدمة لمن عنده الرزق ففي السماء الرزق وإليها يرفع العمل ، فإن أردت أن ينزل إليك رزقك فأصعد إليها الصالح من عملك ، ولهذا قالوا : الصلاة فرع باب الرزق ) واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك ( .
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات ، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات ، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً ، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد ، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال : ( فورب ) أي مبدع ومدبر ) السماء والأرض ( بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه ) إنه ) أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق ) لحق ) أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق ) مثل ما أنكم ) أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها ) تنطقون ( نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً ، ليس هو بخيال ولا سحر ، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق ، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها ، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا ، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جمكيع من في السموات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك .(7/277)
صفحة رقم 278
ولما بين بما مضى من القسم وما أتبعه من أنه أودع في السموات والأرض وما بينهما أسباباً صالحة للإتيان بما وعدناه من الخير ، وما توعدنا من الشر وإن كنا لم نرها وهو قادر مختار ، فصار ذلك كالمشاهد ، ولا وجه للتكذيب بوعد ولا وعيد ، دل عليه وصوره بما شوهد من أحوال الأمم وبدأ - لأن السياق للمحسنين - برأس المحسنين من أهل هذه الأنباء الذي أخبرته الملائكة عليهم السلام بما سببه معه وإن كان على غير العادة .
فتعجب زوجته من ذلك مع كونها أعلى نساء ذلك الزمان ، وأتبع قصته قصة لوط ابن أخيه عليهما السلام لاتصال ما بين قصتيهما في الزمان ، ولمناسبة عذابهم لما أقسم به في أول السورة ، فإنه سبحانه أمر الذاريات فاقتلعتهم بقراهم وحملتها كما تحمل السحاب ثم كبتهم فرجمتهم ، والأرض فخسفت بهم ، والملائكة الموكل ة بمثل ذلك ، ففعلوا جميع ما أمروا به ورأوهم في قريتهم وقصدوهم بالمكر لأنهم خفي عليهم أمرهم ، وأتوا الخليل عليه السلام وهو أعلى ذلك الزمان وهم في ذلك ولم يعلم أول الأمر بشيء من حالهم ولا ظنهم إلا آدميين ، فقال مفخماً لأمر القصة بتخصيص الخطاب لأعلى الخلق وأنفذهم فهما إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه سواه على طريق الاستفهام على عادة العرب في الإعلام بالأمور الماضية وإن كان المخبر عالماً بأن المخاطب لا علم له بذلك لأن المقصود ليس إلا التنبيه على أن ذلك الأمر مما ينبغي الاهتمام به والبحث فيه ليعرف ما فيه ، من الأمور الجليلة ؛ قال أبو حيان : تقرير لتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره : هل سمعت ذلك أم لا ؟ فكأنك تقتضي بأن يقول : لا ، ويستطعمك الحديث - انتهى .
) هل أتاك ( يا أكمل الخلق ) حديث ضيف ( عبر عنهم بلفظ الواحد إشارة إلى اتحاد كلمتهم ) المكرمين ) أي الذين هم أهل الكرامة ، وأكرمهم إبراهيم عليه السلام بقوله وفعله ، ففي حديثه ذلك آية بينة على ما بين في هذه السورة من قدرة الله تعالى وصدق وعده ووعيده ، مع ما فيه من التسلية لك ولمن تبعك ، والبشارة بإكرام المصدق وإهانة المكذب ، قال القشيري : وقيل : كان عددهم اثني عشر ملكاً ، وقيل : جبريل عليه السلام ، وكان معه تسعة ، وقيل : كانوا ثلاثة : ( إذ ) أي حديثهم حين ) دخلوا عليه ) أي دخو استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف ) فقالوا سلاماً ) أي نحدث ، ثم استأنف الأخبار عن جوابه بقوله : ( قال ) أي بلسانه : ( وسلاماً ) أي ثابت دائم ، فهو أحسن من تحيتهم .
ولما كان ما ذكر من دخولهم وسلامهم غير مستغرب عند المخاطبين بهذا ، وكانت القصة قد ابتدئت بما دل على غرابة ما يقص منها ، تشوف السامع إلى ما كان(7/278)
صفحة رقم 279
بعد هذا فأجيب بقوله : ( قوم ) أي ذوو قوة على ما يحاولونه ويقومون فيه ) منكرون ) أي حالهم لإلباسه أهل لأن ينكره المنكر ، وقدم هذا على موضعه الذي كان أليق به فيما يظهر بادي الرأي ، وإيضاحاً لأن السياق لخفاء الأسباب على الأدمي وبعدها وإن كانت في غاية الظهور والقرب ولو أنه غاية العلو فإن إنكاره لهم كان متأخراً عن إحضار الأكل لكونهم لم يأكلوا ، وهذا القول كان في نفسه ولم يواجههم به .
الذاريات : ( 26 - 37 ) فراغ إلى أهله. .. . .
) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( ( )
ولما اشار إلى أنه حين إنكاره لهم لم يعرف من أي نوع هم ولا خصوص ما هم فيه ، رتب على رده لسلامهم أنه أسرع غاية الإسراع في إحضار ما ينبغي للضيف على ظن أنهم آدميون فقال : ( فراغ ) أي ذهب في خفية وخفة ومواضع سترة عن أعينهم كما هو من آداب الضيافة خوفاً من أن يمنعوه أو يكدر عليهم الانتظار : ( إلى أهله ) أي الذين عندهم بقرة ) فجاء بعجل ) أي فتى من أولاد البقر ) سمين ( قد شواه وأنضجه ) فقربه إليهم ( ولما أخبر بما ينبغي الإخبار به من أمر الضيافة إلا الأكل ، كان من المعلوم أن التقدير : فكان كأنه قيل : فماذا قال لهم حين لم يأكلوا ؟ قيل : ( قال ) أي متأدباً غاية التأدب ملوحاً بالإنكار : ( ألا تأكلون ) أي منه .
ولما كان كأنه قيل : فمل يأكلوا ، سبب عنه قوله : ( فأوجس ) أي أضمر إضمار الحال في جميع سره ) منهم خيفة ( لأجل إنكاره عدم أكلهم فإنه لما رأى إعراضهم عن الطعام ذهب وهمه في سبب إتيانهم إليه كل مذهب ) قالوا ( مؤنسين له : ( لا تخف ( وأعلموه بأنهم رسل الله ) وبشروه بغلام ( على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السن بعد عقمها ، وهو إسحاق عليه السلام .
ولما كان السياق لخفاء الأٍباب كان في الذروة وصفه بقوله : ( عليم ) أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه .
ولما كانا بعيدين عن قبول الولد ، تسبب عن ذلك قوله ، دالاًّ على أن الولد إسحاق مع الدلالة على أن خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات : ( فأقبت ( أي(7/279)
صفحة رقم 280
من سماع هذا الكلام ) امرأته ( ولما كانت قد امتلأت عجباً ، عبر بالظرف فقال : ( في صرة ) أي صيحة وكرب من الصرير قد أحاط بها ، فذهب وهمهما في ذلك كل مذهب ) فصكت ( أ يضربت بسبب تعجبها بأطراف أناملها فعل المتعجب ) وجهها ( لتلاشي أسباب الولد في علمها بسبب العادة مع معرفتها بأن العبرة في الأسباب وإن كانت سليمة بالمسبب لا بها ، قال البغوي : وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض ) وقالت ( تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أم من غيرها : ( عجوز ( ومع العجز ) عقيم ( فهي في حال شبابها لم تكن تقبل الحبل ، قال القشيري رحمه الله تعالى : قيل : إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة .
ولما كان في هذا أشد تشوف إلى الجواب ، استأنف تعالى الجوا بقوله : ( قالوا كذلك ) أي مثل ما قلناه من هذه البشرى العظيمة ) قال ربك ) أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان محط تعجبها أن ذلك كان بأيام شبابها أولى ، عللوا إخبارهم تأكيداً له مؤكدين لأن قولها وفعلها فعل المنكر وإن كانت ما أرادت به إلا الاستثبات : ( إنه هو ) أي وحده ) العليم ( الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها فرتب عظمة هذا المولود على كل من عقمك وعجزك ؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : ( الحكيم ) أي المحيط العلم فهو كذلك لا يعجزه شيء لما تقدم من البرهان في سورة طه أن إحاطة العلم مستلزم شمول القدرة .
ولما كان الخليل عليه السلام أعلم أهل زمانه بالأمور الإلهية ، علم أن اجتماع الملائكة على تلك الهيئة التي يراهم فيها ليس لهذه البشارة فقط ، فلذلك استأنف تعالى الجواب لمن كان كأنه قال : ما كان من حاله وحالهم بعد هذا ؟ بقوله : ( قال ) أي قال مسبباً عما رأى من حالهم : ( فما خطبكم ) أي خبركم العظيم ) أيها المرسلون ) أي لأمر عظيم ) قالوا ( قاطعين بالتأكيد بأن مضمون خبرهم حتم لا بد منه ، ولا مدخل للشفاعة فيه : ( إنا أرسلنا ) أي بإرسال من تعلم ) إلى قوم مجرمين ) أي هم في غاية القوة على ما يحاولونه وقد صرفوا ما أنعم الله به عليهم من القوة في قطع ما يحق وصله ووصل ما يحق قطعه ) لنرسل عليهم ) أي من السماء التي فييها ما وعد العباد به وتوعدوا ) حجارة من طين ) أي مهيأ للاحتراق والإحراق ) مسومة ) أي معلمة بعلامة العذاب المخصوص .
ولما كان قد رأوا اهتمامه بالعلم بخبرهم خشية من أن يكونوا أرسلوا لعذاب أحد يعز عليه أمره ، أمنوا خوفه بوصف الإحسان فقالوا : ( عند ربك ) أي المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ) للسرفين ) أي المتجاوزين للحدود غير قانعين(7/280)
صفحة رقم 281
ولما كان من المعلوم أن القوم يكونون تارة في مدر وتارة في شعر ، وعلم من الآيات السالفة أن العذاب مختص بذوي الإسراف ، سبب عن ذلك مفصلاً لخبرهم قوله تعلى معلماً أنهم في مدر : ( فأخرجنا ( بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليهم السلام محاولات معروفة لم تدع الحال هنا إلى ذكرها ، والملائكة سبب عذابهم ، وأهل القرية المحالون في أمرهم لا يعرفون ذلك ، وهذه العبارة إن كانت إخباراً لنا كانت خبراً عما وقع لنعتبر به ، وإن كانت لإبراهيم عليه السلام كان معناها أن الحكم الأعظم وقع بإخراجهم بشارة له بنجاتهم ) من كان فيها ) أي قراها .
ولما كان القل بعماد البدن الذي به صلاحه أو فساده ، فكان عمله أفضل الأعمال أنه به يكون استسلام الأعضاء أو جماحها ، بدأ به فقال : ( من المؤمنين ) أي المصدقين بقلوبهم لأنا لا نسويهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوة المخالفين وكثرتهم ، وسبب عن التعبس والسرت والتعرض للظواهر والبواطن قوله : ( فما وجدنا ( أسند الأمر إليه تشريفاص لرسله إعلاماً بأن فعلهم فعله ) فيها غير بيت ( واحد وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، وقيل : كان عدة الناجين منهم ثلاثة عشر ، ولما كان الإسلام قد تطلق على الظاهر فقط وإن كان المراد من غير اعتراض أصلاً وهم إبراهيم وآله عليهم السلام فإنهم أول من وجد منه الإسلام الأتم ، وتسموا به كما مضى في البقرة وسموا به أتباعهم ، فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد ، قال البغوي : وصفهم الله التلازم وإن اختلف المفهومان ، وقال الأصبهاني : وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر .
ولما وكان إبقاء آثار المهلكين ادل على قدرة من أهلكهم قال : ( وتركنا ) أي بما لنا من العظمة ) فيها ) أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب الذي كان مبدؤه أنسب شيء بفعل الذاريات من السحاب فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجو كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت وأتبعت الحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبه شيئاً من مياه الأرض كما أن خباثتهم لم تشبه خباثة أحد ممن تقدمهم من أهل الأرض ) آية ) أي علامة عظيمة على قدرتنا على ما نريد ) للذين يخافون ( كما تقدم آخر ق أنهم المقصودون في الحقيقة بالإنذار لأنهم المنتفعون به دون من قسا قله ولم يعتبر ) العذاب الأليم ) أي أن يحل بهم كما(7/281)
صفحة رقم 282
بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذراري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة ، وغرمهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه ، وما ادخر لهم في الآخرة أعظم .
الذاريات : ( 38 - 46 ) وفي موسى إذ. .. . .
) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ( ( )
ولما قدم سبحانه أحق القصص الدالة على قسمه وما أقسم عليه بما فيها من خفاء الأسباب مع وجودها ، ثم ما فيها من إنزال ما به الوعيد من السماء بالنار والماء الذي أشير إليه بالمقسمات ، مع الفرقة بين المسلم والمجرم ، أتبعها قصة من أيده بحاملات فيها مطر وبرد ونار مضطرمة ، كما مضى بيانه في الأعراف ، ثم بعد ذلك بريح فرقت البحر ونشفت أرضه ودخله فرعون والقبط ، وهو واذح الأمر في أنه سبب لهلاكهم وهم لا يشعرون به ، فقال عاطفاً على المقدر في قصة إبراهيم عليه السلام أو الظاهر في ) وفي الأرض ( أو على ( في ) التي في قوله ) وتركنا فيها آية للذين يخافون ( وهذا أقرب من غيره وأولى : ( وفي موسى ) أي في قصته وأمره آية على ذلك عظيمة ) إذ أرسلناه ( بعظمتنا ) إلى فرعون ( الذي كان قد أساء إلى إبراهيم عليه السلام بعد عظيم إحسانهم إله وإلى جميع قومه بما أحس إليهم يوسف عليه السلام ) بسلطان مبين ) أي معجزات ظاهرة في نفسه منادية من شدة ظهورها بأنها معجزة ، فكان فيها دلالة واضحة على صدق وعيده ومع ذلك فلم ينفعهم علمها ولذلك سبب عنه وعقب به قوله : ( فتولى ) أي كلف نفسه الإعراض بعد ما دعاه علمها إلى الإقبال إليها ، وأشار إلى توليه بقوله : ( بركنه ) أي بسب ما يركن إليه من القوة في نفسه وبأعوانه وجنوده أو بجميع جنوده - كناية عن المبالغة في الإعراض ، ) وقال ( معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر : ( ساحر ( ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله : ( أو مجنون ) أي لاجترائه عليّ مع ما لي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه ويتهدد عليه .
ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء ، قال تعالى محذراً للأعداء : ( فأخذناه ) أي أخذ غضب وقهر بعظمتنا بما استدرجناه به وأوهناه به من العذاب الذي منه سحاب حامل ماء(7/282)
صفحة رقم 283
وبرداً وناراً وصواعق ) وجنوده ) أي كلهم ) فنبذناهم ) أي طرحناهم طرح مستهين بهم مستخف لهم كما تطرح الحصيات ) في اليم ) أي البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطانا الريح فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه ، فأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا ) وهو ) أي والحال أن فرعون ) مليم ) أي آتٍ بما هو بالغ في استحقاقه الملامة ، ويجوز أن يكون حالاً من ) أليم ( بمعنى أنه فعل بهم فعل اللائم من ألامه - إذا بالغ في عذله ، وصار ذا لائمة أي لهم ، فعل المصلحين في إنجاء الأولياء وإغراق الأعداء بالالتئام والانطباق عليهم ، قال في القاموس : اللوم العدل ، لام لوماً وألامه ولومه للمبالغة ، وألام : أتى ما يلام عليه أو صار ذا لائمة ، ولأمه بالهمز كمنعه ، نسبه إلى اللوم ، والسهم : أصلحه كألامه ولأمه فالتأم ، ولا يضر يونس عليه السلام أن يعبر في حقه بنحو هذه العبارة ، فإن أسباب اللوم تختلف كما أن أسباب المعاصي تختلف في قوله
77 ( ) وعصوا رسله ( ) 7
[ هود : 59 ]
77 ( ) وعصى آدم ربه ( ) 7
[ طه : 121 ] وبحسب ذلك يكون اختلاف نفس اللوام ونفس المعاصي .
ولما أتم قصة من جمع له السحاب والماء والنار والريح ، أتبها قصة من أتاهم بريح ذارية لم يوجد قط مثلها ، وكان أصلها موجوداً بين ظهرانيهم وهم لا يشعرون ، بل قاربت الوصول إليهم وهم يظنونها مما ينفعهم : ( وفي عاد ) أي آية عظيمة ) إذ ) أي حين ) أرسلنا ( بعظمتنا ) عليهم ( إرسال علو وأخذ ) الريح ( فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تذروا الرمل وترمي بالحجارة على كيفية لا تطاق ) العقيم ) أي التي لا ثمرة لها فلا تلقح شجراً ولا تنشىء سحاباً ولا تحمل مطراً ولا رحمة فيها ولا بركة فلذلك أهلكهم هلاك الاستئصال ، ثم بين عقمها وإعقامها بقوله : ( ما تذر ) أي تترك على حال ردية ، وأعرق في النفي فقال : ( من شيء ( ولما كان إهلاكها إنما هو بالفاعل المختار ، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : ( أتت عليه ) أي إتيان إرادة مرسلها ، استعلاها على ظاهره وباطنه ، وأما من أريدت رحمته كهود عليه السلام ومن معه رضي الله عنهم فكان لهم روحاً وراحة لا عليهم ) إلا جعلته كالرميم ) أي الشيء البالي الذي ذهلته الأيام والليالي ، فصيره البلى إلى حالة الرماد ، وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض ودثر - قاله ابن جريج ، وخرج بالتعبير ب ( تذر ) هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ، فإنهم تركتهم على حالة حسنة لم يمسهم منها سوء كما أشير إلى مثل ذلك بأداة الاستعلاء .(7/283)
صفحة رقم 284
ولما تم ما اقتضاه سياق السورة من قصة أهل الريح الذارية ، أتبعها قصة من أهلكوا بما يحمله السحاب من الريح وما تحمله الريح من صوت الصحية الراجفة الماحقة فقال : ( وفي ثمود ) أي قوم صالح عليه السلام آية عظيمة كذلك ) إذ ) أي حين ) قيل لهم ( ممن لا يخلف المعياد : ( تمتعوا ) أي بلبن الناقة وغيره مما مكناكم فين من الزرع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور الذي أمرناكم به ولا تطغوا ) حتى حين ) أي وقت ضربناه لآجالكم ) فعتوا ) أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتو ، وهو التكبر والإباء ) عن أمر ربهم ) أي مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا الناقة وأرادوا قتل نبيه عليه السلام ) فأخذتهم ( بسبب عتوهم أخذ قهر وعذاب ) الصاعقة ) أي الصيحة العظيمة التي حملتها الريح ، فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ، ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق ، وقوله : ( وهم ينظرون ( دال على أنها كانت في غمام ، وكان فيها نار ، ويجوز - مع كونه من النظر - أن يكون أيضاً من الانتظار ، فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام ، وجعل لهم في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه اليوم الرابع ) فما ) أي فتسبب عن ذلك أنه ما ) استطاعوا ) أي تمكنوا ، وأكد النفي فقال : ( من قيام ) أي بعد مجيئها بأن عاجلتهم بإهلاكها عن القيام .
ولما كان الإنسان قد لا يتمكن من القيام لعارض في رجليه وينتصف من عدوه بما يرتبه من عقله ويدبره برأيه قال : ( وما كانوا ) أي كوناً ما ) منتصرين ) أي لم يكن فيهم أهلية للانتصار بوجه ، لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة لأن تهيؤهم لذل سقط بكل اعتبار .
ولما أتم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإهلاك وهو الصاعقة ، أتبعهم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإحياء ، وهو الماء الذي جل ما يشتمل عليه الحلامات التي أثرتها الذاريات ، وقد كانوا موجودين في الأرض والسماء - وأسبابه مهيأة - وهم لا يسحون بشيء من ذلك ، وأما عبادنا المؤمنون فهيأنا لهم أسباب النجاة من السفينة وغيرها ، وأعلمناهم بها ، فكان كل ما أردنا وقاله عنا أولياؤنا فقال مغيراً للأسلوب تنبياً على العظمة بنفسه الإهلاك لكونه بما من شأن الإحياء والإبقاء والتصرف في الأسباب : ( وقوم ) أي وأهلكنا قوم ) نوح ( على ما كان فيهم من الكثرة وقوة المحاولة والقيام بما يريدونه ، ويجوز أن يكون معطوفاً على ( فيها ) أي وتركناهم آية ، ويحسن هذا الإعراب أنهم هلكوا جميعاً وكانوا جميع أهل الأرض ، وعم عذابهم جميع الأرض ، كانوا لهم الآية ، ويؤيد هذا الإعراب قراءة أي عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفاً على ضمير ( فيها ) .(7/284)
صفحة رقم 285
ولما كان إهلاكهم على عظمه وانتشاره في بعض الزمان ، أجخل الجارّ فقال : ( من قبل ) أي قبل هذه الأمم كلها ، ثم علل إهلاكهم بقوله : ( إنهم كانوا ( خلقاً وطبعاً ، لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم ) قوماً ) أي أقوياء ) فاسقين ) أي عريقين في الخروج عن حظيرة الدين .
الذاريات : ( 47 - 51 ) والسماء بنيناها بأيد. .. . .
) وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما كان إهلاكهم بالماء الذي نزل من السماء ، وطلع من الأرض بغير حساب ، كان ربما ظن ظان أن كان الخلل كان فيهما ، ثم أصلح بعد ذلك كما يقعل لبعض من يصنع من الملوك صنعاً يبالغ في إتقانه فيختل ، قال عاطفاً على ما نصب ( يوم ) مبيناً أن فعل ذلك ما كان بالاختيار ، دالاًّ على وحدانيته لتمام القدرة الدالة على ما تقدم من أمر البعث : ( والسماء بنيناها ( بما لنا من العظمة ) بأيد ) أي بقوة وشدة عظيمة لا يقدر قدرها .
ولما كانت المساء أليق لعظمتها وطهارتها بصفات الإلهية ، قال ، وأكد لما يلزم إنكارهم البعث من الطعن في القدرة : ( وإنا ( على عظمتنا مع ذلك ) لموسعون ) أي أغنياء وقادرةن ذوو سعة لا تتناهى ، أي قدرة ، من الوسع وهو اللطافة ، وكذلك أوسعنا مقدار جرمها وما فيها منالرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا يصح فيها الشركة أصلاً ، ومطيقون لما لا يحصى من أمثال لك ، ومما هو أعظم منه مما لا يتناهى ، ومحيطون بكل شيء قدرة وعلماً ، وجديرون وحقيقون بأن يكون ذكل من أوصافنا فنوصف به لما يشاهد لنا من القوة على كل ما نريد ، فلسنا كمن يعرفون من الملوك لأنهم إذا فعلوا لا يقدرون على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة ، وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى وما تريدون في جنبه ، ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد : ( والأرض فرشناها ( كذلك بما لنا من العظمة إلى غير ممهدة جديرة بأن يستقر عليها الأشياء وهي آية على تمهيدنا لأرض الجنة وشقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها ) فنعم ) أي فتسبب عن ذلك أن يقال في وصفنا : نعم ) الماهدون ) أي نحن لكمال قدرتنا ، فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا وتقديرنا واختيرانا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إنباته ، ولا يكو نشيء منه إلا بتقديرنا ، وذلك تذكير بالجنة والنار ، فما فوقها من خير فهو آية على الجنة ، وما فيها من جبال ووهاد وعر وخروبة فهو آية على النار .(7/285)
صفحة رقم 286
ولما كان الأشياء المتضادة من الشيء الواحد أدل على اقدرة من هذا الوجه ، قال : ( من كل شيء ) أي من الحيوان وغيره ) خلقنا ( بعظمتنا .
ولما كان الفلاسفة يقولون : لا ينشأ عن الواحد إلا واحد ، قال رداً عليهم : ( زوجين ) أي مثله شيئين كل منهما يراوح الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ، ولا يتم نفع أحدهما إلا بآخر من الحيوان والنبات وغيرها ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر ، والحسن والقبح ، والحياة والموت ، والضياء والظلام ، والليل والنهار ، والصحة والسقم ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشمس والقمر ، والحر والبرد ، والسماوات والأرض ، وان الحر والبرد من نفس جهنم آية بينة عليها ، وبناءهما على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوقة إليها .
ولما كان ذلك في غاية الدلالة على أن كلاًّ من الزوجين يحتاج إلى الآخر وأنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى واحد لا مثل له وأنه لا يحتاج بعد ذلك التنبيه إلى تأمل كبير قال : ( لعلكم تذكرون ( فأدغم تاء التفعل الدالة على العلاج والاجتهاد والعمل فصار : فتكونوا عند من ينظر ذلك حق النظر على الرجاء من أن يتذكروا قليلاً من التذكر فيهديكم إلى سواء السبيل .
ولما كان كل شيء مما سواه لا بد له من ضد يضاده أو قرين يسد مسده ، وأما سبحانه فلا مثل له لأنه لو كان له مثل لنازعه ، فلم يقدر على كل ما يريد
77 ( ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( ) 7
[ الأنبياء : 22 ] وثبت أنه أهلك القرون الأولى بمخالفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فثبت أن وراء المكلفين عذاباً يحق لهم الفرار منه ، وثبت أن كل شيء غيره محتاج إلى زوجه ثبت حاجة الكل إليه ، وأنه لا كفاية عند شيء في كل ما يرام منه ، وجب أن لا يفزع إلا إلى الواحد الغني فسبب عن ذلك قوله : ( ففروا ) أي أقبلوا وألجؤوا .
ولما درب عباده في هذه السورة بصفة الربوبية كثيراً ، فتأهلوا إلى النفوذ في الغيب ، وكانت العبادة لا تكون خالصة إلا إن علقت بالذات لا لشيء آخر ، ذكر اسم الذات فقال : ( إلى الله ) أي غلى الذي لا مسمى له من مكافىء ، وله الكمال كله ، فهو في غاية العلو ، فلا يقر ويسكن أحد إلى محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ، ولا يقر سبحانه .
إلا من تجرد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية ، وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دل عليهما بالزوجين ، فتنقل السياق بالتحذير والاستعطاف والاستدعاء ، فهو من باب ( لا ملجأ منك إلا إليك أعوذ بك منك ) واستمر إلى آخر السورة في ذكره إشارة إلى علي أمره ، ثم علل بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار : ( إني(7/286)
صفحة رقم 287
لكم منه ) أي لا من غيره ) نذير ( أ يمن أن يفر أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصده .
لما أقام الدليل العقلي الظاهر جداً بما يعلمه أحد في نفسه على ما قاله في هذا الكلام الوحيد قال : ( مبين ( ففرار العامة من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً ، ومن الكسل إلى التشمير حذراً وحزماً ، ومن الشيق إلى السعة ثقة ورجاء ، وفرار الخاصة من الخير إلى الشهود ، ومن الرسوم إلى الأصول ، ومن الحظوظ إلى التجريد ، وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق إشهاداً في شهود جلاله واستغراقاً في وحدانيته ، قال القشيري : ومن صح فراره إلى الله صح فراره مع الله - انتهى .
وهو بكمال المتابعة ليس غيره ، ومن فهم منه اتحاداً بصفة أو ذات فقد ما حد طريق القوم فعليه لعنه الله .
الذاريات : ( 52 - 55 ) كذلك ما أتى. .. . .
) كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما ثبت أنه لا ملجأ إلا إلى الله الواحد المنزه عن الزوج ، وذلك هو الله الذي له الكمال كله ، وكان ربما وقع في وهم أن في الوجود من غير الزوجين المعروفين من نفزع إليه كما نفزع إلى وزير الملك وبوابه ونحو ذلك مما يوصل إليه ، قال محذراً من سطواته : ( ولا تجعلوا ) أي بأهوائكم ) مع الله ( وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ما له من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظن ، وقيل ( معه ) إن المراد انلهي عن الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها ) إلهاً ( .
ولما كان المراد كمال البيان ، منع مجاز التجيد منع تعنت من يطعن بتكثير الأسماء كما أشار إليه بقوله ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( الآية بقوله : ( آخر ( ثم علل النهي مع التأكيد لطعنهم في نذارته فقال : ( إني لكم منه ) أي لا من غيره فإن غيره لا يقدر على شيء ) يذير ) أي محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لا خلاص منها إن فعلتم ذلك ) مبين ) أي لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر من صريح العقل .
ولما ذكر قولهم المختلف الذي منه تكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونسبته إلى السحر والجنون وغير ذكل من الفنون ، ومنه الإشراك مع اعترافهم بأنه لا خالق إلا الله ولا كاشف ضر غيره إلى غير ذلك من انواع الاضطراب ، وأخبر بهلاكتهم على ذلك وحذرهم منه ودل عليه إلى أن ختم بإنذار من اتخذ إلهاً غيره قال مسلياً : ( كذلك ) أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة ، البيعد من الصواب ، بما له من الاضطراب ، (7/287)
صفحة رقم 288
وقع لمن قبلهم ، ودل على هذا المقدر بقوله مستأنفاً : ( ما أتى الذين ( ولما كان الرسل إنما كان إرسالهم في بعض الأزمان الماضية ولم يستغرقوا جميعها بالفعل ، أثبت الجارّ في قوله : ( من قبلهم ( وعمم النفي بقوله : ( من رسول ) أي من عند الله ) إلا قالوا ( ولو بعضهم برضا الباقين : ( ساحر أو مجنون ( لأن الرسول يأتهيم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم ، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء كانت ( أو ) للتفصيل بأن بعضهم قال واحداً وبعضهم قال آخر ، أو كانت للشك لأن الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس ، والمجنون بالضد من ذلك ، ثم عجب منهم بقوله : ( أتواصوا به ) أي أوصى بهذا بعض الأولين والآخرين بعضاً .
ولما ساق هذا في أسلوب الاستفهام إلى قول ينبغي السؤال عن سببه لما له من الخفاء ، أجاب عنه بأنهم لم يتواصوا به لأن الأولين ما اجتمعوا مع الآخرين : ( بل هم ( اجتمعوا في وصف أداهم إلى ذلك .
وهو أنهم ) قوم ) أي ذوو شماخة وكبر ) طاغون ) أي عالون في الكفر مسرفون في الظلم والمعاصي مجاوزون للمقدار ، وأشار بالضمير إلى أن الطغيان أمر ذاتي لهم ، فهو يمدح منه سبحانه بأنه هو الذي قهرهم بسوقهم إلى هلاكهم بقدرته التامة وعلمه الشامل .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) ، يكاد يتلف نفسه الشريفة - بأبي هو وأمي - غماً عليهم وأسفاً لتخلصهم عن الإسلام وخوفاً أن لا يكون وفى بما عليه من التنبيه والإعلام ، سبب تعالى عن حالهم قوله : ( فتولَّ عنهم ) أي كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم بالمجادلة والصدع بالتغليظ بعد ما تقدم منك من الإبلاغ ) فما أنت ( بسبب الإعراض بعد الإنذار ) بملوم ) أي بمستحق الملامة سبب إعراض من أعرض منهم عنك ، فإني إنما حكمت بذلك لأني إنما قسمت الناس إلى مؤمن تنفعه الذكرى ، وطاغ لا ينفعه شيء ، ولذلك قال : ( وذكر ) أي بالرفق واللين ، ولما أصروا على التكذيب والإعراض حتى أيس منهم ، أكد ما سببه عن التذكير بقوله : ( فإن الذكرى ) أي التذكر بالنذارة البليغة ) تنفع المؤمنين ) أي الذين قدر الله أن يكونوا عريقين في وصف الإيمان ولا بد من إكثار التذكير ليلغلب ما عندهم من نوازع الحظوظ وصوارف الشهوات ، مع ما هم مجبولون عليه من النسيان .
الذاريات : ( 56 - 60 ) وما خلقت الجن. .. . .
) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ( )(7/288)
صفحة رقم 289
ولما كان هذا ربما أوهم أن سواهم غير مقدور عليهم ، قال مؤكداً بالحصر دالاًّ على أنه هو الذي قسم الناس إلى طاغين ومؤمنين بالعطف على ما تقديره : فما حكم عليهم بذلك الضلال والهدى غيري ، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لاستخلاص المؤمنين وإقامة الحجة على الضالين : ( وما خلقت الجن والإنس ( الذين أكثرهم كافرون ) إلا ليعبدون ) أي لينجروا تحت أقضيتي على وجه ينفعون به أنفسهم أو يضرونها لا لشيء يلحقني أنا منه شيء من نفع أو ضرر ، فإني بنيتهم على العجز وأودعتهم نوازع الهوى ، وركبت فيهم غرائز فهيأتهم لاتباع الهدى ، فمن أطاع عقله كان عابداً لي فارّاً إليّ مع جريه تحت الإرادة ، عبادة شرعية أمرية يستفيد بها الثواب ، ومن أطاع الهوى كان عابداً لي مع مخالفته أمري عبادة إرادية قسرية يستحق بها العقاب ، وكل تابع لهواه إذا حقق النظر علم أن الخير في غير ما هو مرتكبه ، فما ألزمه ما هو فيه مع علمه بأن غيره خير منه إلا قهر إرادتي ، فهذه عبادة لغوية ، وذاك عبادة شرعية ، وقد مر في آخر هود ما ينفع هنا ، وهذا كله معنى قول ابن عباس : إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً وكرهاً ولما حصر سبحانه خلقهم في إرادة العبادة ، صرح بهذا المفهوم بقوله : ( ما أريد منهم ) أي في وقت من الأوقات ، وعم في النفي بقوله : ( من رزق ) أي شيء من الأشياء على وه ينفعني من جلب أو دفع ، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر ، كما يفعل غيري من الموالي بعبيدهم من الاستكثار بغلاتهم والاستعانة بقواتهم لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ ) وما أريد ( أصلاً ) أن يطمعون ) أي أن يرزقوني رزقاً خاصاً هو الإطعام ، فرما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام .
ثم لا يصدهم ذلك ، وهذه الآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل ، والتعبير بالإرادة دالّ على ما قلت إنه مقصود بالعبادة .
وهو الجري تحت الإرادة ، تارة بموافقة الشرع وتارة بمخالفته .
ولما كان الاهتمام بأمر الرزق - وقد ضمنه سبحانه - شاغلاً عن كثير من العبادة ، وكان الغنسان يظن أن الذي حثل له ما حواه من الرزق سعيه ، قال حاصراً ذلك مؤكداً إزالة لتلك الظنون معللاً لافتاً الكلام إلى سياق الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره ، نصاً على المراد وبالغاً من الإرشاد أقصى المراد : ( إن الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن شوائب النقص ) هو ) أي لا غيره ) الرزاق ) أي على سبيل التكرار لكل حي وفي كل وقت .
ثم وصفه بما يبن هوان ذلك فقال : ( ذو القوة ) أي التي لا تزول بوجه ) المتين ) أي الشديد الدائم الشدة .(7/289)
صفحة رقم 290
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم ، ودل على ذلك حتى يجمع قصد أحوالهم على إرادته .
وختم بقوته التي لا حد لها ، سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : ( فإن للذين ظلموا ) أي الذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها .
ولما كان القسم على ما يوعدون بما يحمل المطر ، عبر عن نصيبهم الذي قدره عليهم من ذلك بقوله : ( ذنوباً ) أي خطاً من العذاب طويل الشر ، كأنه من طوله صاحب ذنب وهو على ذنوبهم ) مثل ذنوب أصحابهم ) أي الذين تقدم ظلمهم بتكذيب الرسل وهو في مشابهته له كالدلو الذي يساجل به دلو آخر ، وذلك دليل واضح على أن ما يوعدون صادق ، وأن الدين واقع ) فلا يستعجلون ) أي يطلبوا أن آتيهم به قبل أوانه اللاحق به ، فإن ذلك لا يفعله إلا ناقص ، وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به ، ولا بد أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل ، لأنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم ، وحينئذ تكون فيا له من تهديد ما أفظعه ، ووعيد ما أعظمه وأوجعه ، أمراً لا يدفعه دافع ، ولا يمنع من وقوعه مانع ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فويل ) أي شر حال وعذاب يوجب الندب والتفجع ) للذين كفروا ) أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها ) من يومهم ( إضافة إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين ) الذي يوعدون ( في الدنيا والآخرة ، وقد انطبق آخرها على أولها بصدق الوعيد ، وثبت بالدليل القطعي لك القسم الأكيد - والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .
.. .(7/290)
صفحة رقم 291
سورة الطور
مقصودها تحقيق وقوع العذاب الذي هو مضمون الوعيد المقسم على وقوعه في الذاريات الذي هو مضمون الإنذار المدلول على صدقه في ق ، فإن وقوعه أثبت وأمكن من الجبال التي أخبر الصادق بسيرها ، وجعل دك بعضها آية يمكن عامره وغيره إخرابه ، والسقف الذي يمكن رافعه وضعه ، والبحر الذي يمكن من سجره أن يرسله ، وقد بان أن اسمها أدل ما يكون على ذلك بملاحظة القسم وجوابه حتى بمفردات الألفاظ في خطابه ) بسم الله ( الملك الأعظم ذي الملك والملكوت ) الرحمن ( الذي عم بالرحموت من حققه ) الرحيم ( الذي خص برحمته وتوفيقه أهل القنوت .
الطور : ( 1 - 10 ) والطور
) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ( ( )
لما ختمت الذاريات بتحقيق الوعيد ، افتتحت هذه بإثبات العذاب الذي هو روح الوعيد ، فقال تعالى : ( والطور ( وذلك أنهم لما كانوا يقولون عما أتاهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : إنه سحر خيال لا حقيقة له ، أقسم بالجبل - الذي هو عندهم وعند غيرهم من ذوي العقول - أثبت الأرض وأشدها وأصلبها ، وعبر عنه بالطور الذي هو مشترك بين مطلق الجبل وبين المضاف إلى سينا الذي كان فيه نبوة موسى عليه السلام وإنزال كثير من كتابه وغير ذلك - آيات تعلمها بنو إسرائيل الذين يستنصحونهم ويسألونهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويرضون بقولهم فيه فمن آياته أنه كانت فيه الرحمة بمناجاة موسىعليه السلام وما كتب له فيه على ألواح الجوهر وما أنزل عليه من الناموس الذي جعله هدى ورحمة وموعظة وذكراً وتفصيلاً لكل شيء وكان فيه مع الرحمة العذاب بما أتاهم من الصاعقة التي(7/291)
صفحة رقم 292
أماتتهم ثم أحياهم الله وربما كانوا يشهدون من السحاب الذي تخلله فيكون كقتار الأتون ، وفيه بروق كأعظم ما يشاهد من النار ، وأبواق تزعق بصوت هائل ، ولما شوهد من اندكاك لجبل عند التجلي وصعق موسى عليه السلام إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف الظلمات ، وأيضاً فالطور كل جبل ينبت ، وإنبات الجبل عجيب ، فإن نباته لا يكون إلا بسبب ، وسبب النبات الماء ، والماء منبث في الأرض لتركبها عليه وهو مواز لما انكشف منه من ماء البحار ، وكلما علت الأرض بعدت عن الماء ، والجبال أبعدها منه ، فسبب إنباته خفي جداً لا يعلمه إلا الله ومن فهمه إياه .
ولما كانت الأرض لوح السماء التي منها الوعيد ، وكانت الجبال أشدها ، فذكر أعظمها آية ، وكان الكتاب لوح الكتاب ، وكانت الكتب الإلهية أثبت الكتب ، وكان طور سينا قد نزل كتاب إلهي قال : ( وكتاب ( وحقق أمره بقوله : ( مسطور ) أي متفق الكتابة بسطور مصفوفة من حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة ككتاب موسى عليه السلام الذي أنزله عليه وكلمه بكثير منه في الطور وتنكيره للتعظيم لأنه إن كان المراد به الكتب الإلهية فهو أثبت الأشياء ، وإن كان المراد صحيفة قريش فقد كانوا ظنوها أثبت العهود ، وذكر أمتن ما يكتب فيه وأشده وأتقنه فقال : ( في رق ) أي في جلد مهيأ بالقشر للكتابة ) منشور ) أي مهيأ للقرأءة والاتعاظ بما فيه ، ويمكن أن يكون أراد به جميع الكتب المنزلة عاماً بعد خاص ، قال الرازي : قال الصادق : إن الله تجلى لعبده بكتابه كما تجلى بالطور لما كان محلاً للتجلي خلقاً ، والكتاب لما كان محلاً للتجلي أمراً ، أجراهما في قرن - انتهى .
ويجوز أن يكون أراد به سبحانه صحيفة الظلم التي كتبوها بما تعاقدوا عليه من أنهم لا يعاشرون بني هاشم ولا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يشاورونهم ولا يناكحونهم ولا يؤازرونهم ولا يعاملونهم حتى يسلموا إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلقوها في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم إلى شعب أبي طالب خلف أبي قبيس وتبعهم بنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه ، فتحيزوا معهم من بين بني عبد مناف ، فكان ذلك سبب شرفهم على مدى الدهر ، فأرسل الله على الصحيفة - بعد أن مضى على ذلك سنتان حين جهدهم العيش ومضّهم الزمان وزلزلتهم القوارع زلزالاً شديداً وهم ثابتون ليظهر الله بذلك شرف منشاء من عباده - الأرضة ، فأبقت ما فيها من أسماء الله تعالى ومحت ما كان من ظلمهم وقطيعتهم ، فكان ذلك سبباً لأن قام في نقضها معشر منهم ، فنقضها الله بهم ، وكانوا إذا ذاك كفرة كلهم ليظهر الله قدرته سبحانه على كل من النقض والإبرام بما شاء ومن شاء ) والبيت المعمور ( الذي هو قيام للناس كما كانت قبة الزمان قياماً لبني إسرائيل ، هذا إن كان تعالى أراد به الكعبة التي علقوا فيها الصحيفة بعد(7/292)
صفحة رقم 293
أن كانوا لما عمروها اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في اموضعه ، وزاد بهم الاختلاف حتى تهيؤوا للقتال وتحالفوا عليه ، فكان منهم لعقة الدم ، ومنهم المطيبون كما هو مشهور في السير ، ثم وفقوا لأن رضوا أن يحكم بينهم أو داخل من باب عينوه ، فكان أول داخل منه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا بأجمعهم : هذا محمد هذا الأمين ، رضينا بحكمه ، فحكم صلى الله علي وسلم بأن يوضع الحجر الشريف في ثوب ويأخذ رئيس كل قبيلة بطرف من أطرافه ويرفعوه كلهم ، فلما وازى موضعه أخذه هو ( صلى الله عليه وسلم ) بيده الشريفة فوضعه في موضعه ، فكان الفخر له مضاعفاً بحكمه وإصلاحه بينهم ، واختصاصه بوضعه وهو معمور بالزوار والخدمة وكثرة الحاشية .
ولما كان البيت لا بد في مسمكاه من السقف قال : ( والسقف المرفوع ( يريد سقف الكعبة إشارة إلى أنه محكم البناء مغلق الباب متقن السقف إتقاناً هو أعظم من إتقان سقف قبة الزمان التي شاهد فيها بنو إسرائيل من العظمة الإلهية والجلال ما إن سألتموهم عنه أخبروكم به ، ومع ذلك سلط على الصحيفة - التي في جوفه ، ولعلها كانت في سقفه بحيث لا يصل إليها أحد - ما أفسدها تحقيقاً لثبوت ما أراد من أمره تحذيراً مما توعد به ، ويمكن أن يراد به مع ذلك السماء التي فيها ما توعدون ، ومن المعلوم أن لكل ذي عقل أن أقل السقوف لا يرتفع توعدون ، ومن المعلوم أن لكل ذي عقل أن أقل السقوف لا يرتفع بغير عمد إلا بأسباب لا ترى ، فكيف بالسماء التي لها من السعة والعظمة والثخن وما فيها من الكواكب ما لها مما لا يسع العقول شرحه ، وهم لا ينظرون أسبابه كما قال تعالى
77 ( ) بغير عمد ترونها ( ) 7
[ الرعد : 2 ] ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنه العرش وهو سقف الجنة .
ولما كان الماء أقوى من كل ما تقدم ، ختم به فقال : ( والبحر المسجور ) أي الذي فيه من الماء أكثر من ملئه وهو ساجره أي مانعه - كما يمنع الكلب بساجوره عن الانسباح ، ولو أراد خلاه فاندفق فجرى فأهلك ما مر عليه من جبل وكتاب وبيت كما شوهد لما شجره سبحانه لبني إسرائيل فانفلق ، ونشفت أرضه ثم لما أراد سببه أن فرعون فعذهبم به فأهلكهم حتى لم يبق منهم أحد .
ولما أقسم بما يدل على نبوة موسى عليه السلام وثلث بما أشار إلى نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وثنى بما هو مشترك بينهما ، وكان الأول مع ذلك دالاً على استقرار الأرض ، والثالث على صلاحيتها للسكنى ، والثاني على الحافظ في ذلك ، وربع بما كمل املنافع ، وحذر من السقوط كما خوفب الأول من الخسف ، وخمس بما دل على ما أريد بالأول من الاستقرار لأنه لو كان ميل لانطلق البحر إلى جهته ، أجاب القسم بقوله :(7/293)
صفحة رقم 294
) إن عذاب ( ولما كان سبحانه عظيم الإكرام له ( صلى الله عليه وسلم ) ، أضاف العذاب إلى صفة الإحسان والتربية الخاصة به ، وأضاف الصفة إلى ضميره إيذاناً بأنه يريه في أمته ما يسره ، وإن مماثلة ( ذنوبهم كذنوب أصحابهم ) الماضين إنما هي في مجرد الإذلال ، لا في أنه يستأصلهم كما استأصل أولئك فقال : ( ربك ( أ يالذي تولى تربيتك أي عذاب أراده نزول ما هو ثقيل من مكان عال كما أنه لو أراد لقلب الأرض التي ثبتها وأوقع السقف الذي رفع ، وأطلق البحر الذي سجر ، كما علم من إطلاقه البحر فلقه على آل فرعون حتى إغرقهم به ) ما له من دافع ( لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال قدرته وجلال حكمته وضبط أعمال العباد للمجازاة سواء قلنا : إن الكتاب هو الذي يكتبه الحفظة أ الذي يضبط الدين ، فملا أوقع الجزواء بهم في الصحيفة ، ونقض معاقدتهم ، وفض جمعهم ، أخرج معاشرك من ذلك الضيق فكذلك يؤيدك حتى توقع بهم وتنق جمعهم وتكسر شوكتهم ونقتل سرواتهم ويظهر دينك على دينهم ، ويصير من بقي منهم من حزبك وأنصار دينك ، قال البغوي : قال جبير بن مطعم رضي الله عنه : قدمت المدينة لأكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أسارى بدر ، فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ ) والطور - إلى قوله : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ( فكأنما صدع قلبي حين سمعته ، ولم أكن أسلمت يومئذ ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما توعد تعالى كفار قريش ومن كان على طريقتهم من سائر من كذب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم سيصيبهم ما أصاب غيرهم من مكذبي الأمم ، المنبه على ذكرهم في السورة قبل ، ثم أشار سبحانه إلى عظيم ما ينالهم من الخزي وأليم العذاب بقوله :
77 ( ) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ( ) 7
[ الذاريات : 60 ] أقسم سبحانه على صحة ذلك ووقوعه - والعياذ به سبحانه من سخطه وأليم عذابه - فقال تعالى : ( والطور - إلى قوله : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ( ثم أومأ سبحانه إلى مستحقيه ومستوجبيه فقال ) فويل يومئذ للمكذبين ( ثم ذكر ما يعنفون به ويوبخون على ما سلف منهم من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى السحر فقال تعالى
77 ( ) ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( ) 7
[ سبأ : 42 ] ) أفسحر هذا أم أنتم لا(7/294)
صفحة رقم 295
تبصرون ( ثم أعقب بذكر حال المؤمنين المستجيبين ، ثم ذكر إثر إعلامه بحال الفريقين - نعمته على نبيه عليه الصلاة والسلام وعصمته ووقاتيه مما يقول المفترون فقال تعالى ) فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ( ثم جرت الآي على توبيخهم في مقالتهم ووهن انتقالاتهم ، فمرة يقولون : كاهن ، ومرة يقولون : مجنون ، ومرة يقولون : شاعر يترقب موته .
فوبحهم على ذلك كله وبين كذبهم وأرغمهم وأسقط ما بأيديهم بقوله ) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ( وهذا هو المسقط لما تقولاه أولاً وآخراً ، وهذا الذي لم يجدوا عنه جواباً ، ورضوا بالسيف والجلاء ، لم يتعرضوا لتعاطي معارضته ، وهذاهو الوارد في قوله تعالى في صدر سورة البقرة ) ) وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( ) [ البقرة : 23 ] الآيات ، فما نطقوا في جوابه ببنت شفة ) ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( ) [ الإسراء : 88 ] فتبارك من جعله آية باهرة وحجة قاهرة - انتهى .
ولما أثبت وقوع العذاب ، تشوفقت نفس الموقن إلى وقته ، قال مستأنفاً لبيان أنه وقاع على تلك الصفة : ( يوم تمور ) أي تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتتكفأ تكفأ السفينة وتدور دوران الرحى ، ويموج بعضها في بعض ، وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض ، ولا تزول عن مكان ؛ قال البغوي : والمور يجمع هذه المعاني فهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردد والدوران والضطراب ، قال الرازي : وقيل : تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل .
) السماء ( التي هي سقف بيتكم الأرض ) موراً ) أي اضطراباً شديداً ) وتسير الجبال ) أي تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب ، وحقق معناه بقوله : ( سيراً ( فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً .
الطور : ( 11 - 16 ) فويل يومئذ للمكذبين
) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما حقق العذاب وبين يومه ، بين أهله بقوله مسبباً عن ذلك : ( فويل ( هي كلمة يقولونها لمن وقع في الهلاك ، ومعناه حلول شر فاضح يكون فيه ندبة وتفجع ) يومئذ ) أي يوم إذ يكون ما تقدم ذكره ) للمكذبين ) أي العريقين في التكذيب وهم من مات على نسبة الصادقين إلى الكذب .
ولما كان التذكيب قد يكون في محله ، بين أن المراد تكذيب ما محله الصدق فقال : ( الذين هم ) أي من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم ) في خوض ) أي أعمالهم(7/295)
صفحة رقم 296
وأقوالهم أعمال الخائض في ماء ، فهو لا يدري أين يضع رجله .
ولما كان ذلك قد يكون من دهشة بهم أو غم ، نفى ذلك بقوله : ( يلعبون ( فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل : الخوض واللعب ، فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه ، فلا يؤسس على بين أو حجة .
ولما صور تكذيبهم بأشنع صورة ، بين ويلهم ببيان ظرف وما يفعل فيه فقال : ( يوم يدّعون ) أي يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل ما يقيمه الله لذلك ، ذاهبين ومنتهين ) إلى نار جهنم ( وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة والغليظ والزفير ، وأكد المعنى وحققه بقوله : ( دعاً ( قال البغوي : وذلك أن خزنه جهنم يعلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم فم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم ، مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً : ( هذه النار ) أي الجسم المحرق المفسد لما أتى عليه ، الشاغل عن اللعب ) التي كنتم ( بجبلاتكم الفاسدة .
ولما كان تكذيبهم بها في أقصى درجات التكذيب ، وكان سبباً لكل تكذيب ، كان كأنه مقصور عليه فقال مقدماً للظرف إشارة إلى ذلك ، ) بها تكذبون ) أي في الدنيا على التجديد والاستمرار .
ولما كانوا يقولون عناداً : إن القرآن بما فيه من الوعيد سحر ، سبب عن ذلك الوعيد قوله مبكتاً موبخاً متهكماً : ( أفسحر هذا ) أي الذي أنتم فيه من العذب مع هذا الإحراق الذي تصلون منه ) أم أنتم ( في منامه ونحوه ) لا تبصرون ( بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا
77 ( ) قلوبنا في أمنة ( ) 7
[ فصلت : 5 ] ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمذرين
77 ( ) من بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ( ) 7
[ فصلت : 5 ] أي أنتم عمي عن المخبر عنه مع إحراقه لهم كما كنتم عمياً عن الخبر أي هل تستطيعون أن تقولوا إنكم لا تبصرون المخبر عنه كما كنتم تقولون في الخبر كذباً وفجوراً ، ثم يقال لهم بعد هذا التبكيت الذي يقطع بأن جوابهم يكون بأن يقولوا : لا وعزة ربنا ما هو بسحر ولا خيال ، بل هو حقيقة ، ونحن في غاية الإبصار على سبيل الإخزاء ، والامتهان والإذلال : ( اصلوها ) أي باشروا حرها وقاسوه وواصلوه كما كنتم تواصلون أذى عبادي بما يحرق قلوبهم ) فاصبروا ) أي فيتسبب عن تكذيبكم في الدنيا ومباشرتكم لها الآن أن يقال لكم : اصبروا على هذا الذي لا طاقة لكم به ) أو لا تصبروا ( فإنه لا محيص لكم عنها ) سواء عليكم ) أي الصبر والجزع .
ولما كان المعهود أن الصبر له مزية على الجزع ، بين أن ذلك حيث لا تكون المصيبة إلا على وجه الجزاء الواجب وقوعه فقال معللاً : ( إنما تجزون ) أي يقع جزاؤكم الآن وفيما يأتي على الدوام ) ما كنتم ) أي دائماً بما هو لكم كالجبلة ) تعملون ( مع الأولياء غير مبالين بهم ، فكان هذا ثمرة فعلكم بهم .(7/296)
صفحة رقم 297
الطور : ( 17 - 21 ) إن المتقين في. .. . .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( ( )
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب المشار إليه بكلمات القسم ، أتبعه ما لأضدادهم من الصواب المنبه عليه أيضاً بتلك الكلمات ليتم الخبر ترغيباً وترهيباً ، فقال جواباً لمن كأنه قال : فما لمن عاداهم فيك ؟ مؤكداً لما للكفار من التكذيب : ( إن المتقين ) أي الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة ) في جنات ) أي بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة .
ولما كانت البساتين ربما يشقى داخلها أو صاحبهان نفى هذا بقوله : ( ونعيم ) أي نعيم في العاجل ، يعني بما هم فيه من الأنس ، والآجل بالفعل ، وزاد في تحقيق التنعم بقوله : ( فاكهين ) أي معجبين متلذذين ) بما آتاهم ربهم ( الذي تولى تربيتهم بعملهم باطلاعات إلى أن أوصلهم إلى ذهاب النعيم ، فهو لأن عظمته من عظمته لا يبلغ كنه وصفه .
ولما كان المتنعم قد تكون نعمته بعد عذاب ، فبين أنهم ليسوا كذلك فقال : ( ووقاهم ) أي قبل ذلك ) ربهم ) أي المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات ) عذاب الجحيم ) أي النار الشديدة التوقد .
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في هناء عظيم ، قال مترجماً لذلك على تقدير القول : ( كلوا ) أي أكلاً هنيئاً ) هنيئاً ) أي لا نقص فيه ، وهو صفة في موضع المصدر أي هنأتم بمعنى أن كل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخمة والسقم ونحوها ) بما كنتم ) أي كوناً راسخاً ) تعملون ) أي مجددين له على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم .
ولما كان النعيم لا يتم إلا بأن يكون الإنسان مخدوماً ، نبه عليه بقوله : ( متكئين ) أي مستندين استناد راحة ، لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة ) على سرر مصفوفة ) أي منصوبة واحداً إلى جنب واحد ، مستوية كأنها السطور على أحسن نظام وأبدعه ، قال الأصبهاني : والصفة : مد الشيء على الولاء .
ولما كان السرور لا يتم إلا بالتنعم بالنساء قال : ( وزوجناهم ) أي تزويجاً يليق بما لنا من العظمة .
ولما كانت تلك الدار غنية عن الأسباب ، فكانوا غنيين عن العقد ، قا لمشيراً بالباء إلى صرف الفعل عن ظاهره فإنه إذا كان بمعنى النكاح تعدى بنفسه ، وتضمين الفعل ( قرناهم ) أي جعلناهم أزواجاً مقرونين ) بحور ) أي نساء هن في شدة بياض العين(7/297)
صفحة رقم 298
وشدة سوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية لا توصف ) عين ) أي واسعات الأعين في رونق وحسن .
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم ، أتبعهم من هو أدنى منهم حالاً لتكون النعمة تامة فقال : ( والذين آمنوا ( يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة .
ولما كان من هؤلاء من لا يتبه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه ، عطف على فعلهم تمييزاً لهم واحترازاً عمن لم يثبت قوله : ( واتّبعتهم ) أي بما لنا من الفضل الناشىء عما لنا من العظمة ) ذرياتهم ( الصغار والكبار وإن كثروا ، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمانهم آبائهم ) بإيمان ) أي بسب إيمان حاصل منهم ، ولو كان في أدنى درجات الإيمان ، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا ، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات ، ويجوز أن يراد وهو أقرب : بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كباراً ، وحكماً إن كانوا صغاراً ، ثم أخبر عن الموصول بقوله : ( ألحقنا بهم ) أي فضلنا لأجل عمل آبائهم ) ذرياتهم ( وإن لم يكن للذرية بالسبب وهو المعنى : ( ولأجل عين ألف عين تكرم ) ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر ، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة ، وذلك لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المرء مع من أحب ) في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم .
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئاً من درجاتهم ، قال : ( وما ألتناهم ) أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم ) من عملهم ( وأكد النفي بقوله : ( من شيء ( بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم ، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب ، قال جامعاً للفريقين ، أو يقال - ولعله أقرب - أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلاً ، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله : ( كل امرىء ) أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم ) بما كسب ) أي من ولد وغيره ) رهين ) أي مسابق ومخاطر ومطلب وآخر شيئاً بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصياً ، فمن كان صالحاً كان آخذاً بسبب صلاح ولده لأنه كسبه ، ولا يؤخذ به ذلاً وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان(7/298)
صفحة رقم 299
حقيقة أو حكماً وكل حسن مرتفع ، فلذلك يلتحق بأبيه ، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره ، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه ، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها ، قال الرازي في اللوامع : اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها ، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم ، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها ، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين ، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين ، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة ، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعمل الحق ، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد ، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته ، لو أحب أحدكم حجراً لحشر معه ، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله ، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة ، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم آبائهم جارياً عليهم وحكم القيامة نافذاً فيهم ، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلاً وباطلاً ينقص أوله آخره وآخره أوله ، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي ، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت ، فهي على استحالة بين الموت والحياة ، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان ) ) كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ( ) [ النساء : 56 ] انتهى .
وهو كما ترى في غاية النفاسة ، ويؤيده ( يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها من النفي ، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون ( كل امرىء ) قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه ) بما كسب ) أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره ( رهين ) أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح .
الطور : ( 22 - 27 ) وأمددناهم بفاكهة ولحم. .. . .
) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( ( )(7/299)
صفحة رقم 300
ولما جمعهم في إلحاق الذرية بهم لأنهم من أعظم النعيم ، وأمنهم مما قد يخشى من نقصهم بنقصه غيرهم ، وعلل ذلك ليكون أرسخ في النفس ، أتبعه بما يشاكله فقال : ( وأمددناهم ) أي آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة زيادة على ما تقدم ) بفاكهة ( .
ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما يعرفونه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشيء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال : ( ولحم مما يشتهون ( ليس فيه شيء منه مما لا يعجبهم غاية الإعجاب .
ولما كان هذا النعيم العظيم المقيم يدعو إلى المعاشرة ، بالقرينة العاطرة ، بين أن ذلك حالهم اللازمة الظاهرة ، من الخصال اللائقة الطاهرة ، فقال : ( يتنازعون ) أي يشربون متجاذبين مجاذبة الملاعبة لفرظ المحبة والسرور وتحلية المصاحبة ) فيها كأساً ) أي خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن ان لا ترى في كأسها .
ولما كان في خمر الدنيا غوائل نفاها عنها فقال : ( لا لغو ) أي سقط مما يضر ولا ينفع ) فيها ) أي في تنازعها ولا بسبها لأنها لا تذهب بعقولهم ولا يتكلمون إلا بالحسن الجميل ) ولا تأثيم ) أي ولا شيء فيها مما يلحق شرَّابها إثما ولا يسوغ نسبه .
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ولا يعظم إلا بخدم وسقاة قال : ( ويطوف عليهم ) أي بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف ) غلمان ( ولما كان أحب ما إلى الإنسان ما يختص به قال : ( لهم ( ولم يضفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحد في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً ، وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدماً لم يعرفهم قبل ذلك ) كأنهم ( في بياضهم وشدة صفائهم ) لؤلؤ مكنون ) أي مصون في الصدق لم تغيره العوارض ، هذا حال الخادم فما ظنك بالمخدوم .
ولما كان ألذ ما إلى الحبيب وأعظم ما يكون من أربه ذكر محبوبه والثناء عليه بما منّ به ، قال تعالى شارحاً لذلك عاطفاً على ما تقديره : فأقبلوا على تعاطي ما ذكر من النعم : ( وأقبل بعضهم ( لما ازدهارهم من السرور ، وراقهم من اللذة والحبور ) على بعض يتساءون ) أي يسأل بعضهم بعضاً عن السبب الموصل له إلى هذا النعيم الذي لا يقدر مخلوق على وصفه حق وصفه ، ثم استأنف شرح ذلك بقوله : ( قالوا ) أي قال كل منهم مؤكداً استلذاذاً بما أداهم إلى ما هم فيه لأنه لا يكاد يصدق ، مسندين النعمة بفعل الكون إلى الله الذي بما أداهم إلى ما هم فيه لأنه لا يكاد بقوله : ( قالوا ) أي قال تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام ، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات ، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات(7/300)
صفحة رقم 301
الجار : ( إنا كنا قبل ) أي في دار العمل ) في أهلنا ( على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة ، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب ) مشفقين ) أي عريقين في الخوف من الله لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره ، وأنه لو واخذنا بأصغر ذنوبنا أهلكنا ، قال الرازي : والإشفاق : دوام الحذر مقروناً بالترحم ، وهو أن يشفق على النفس قبل أن تجمح إلى العناد ، وله أقسام : إشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع ، وإشفاق على الخليقة لمعرفة مقاديرها ، وإشفاق على الوقت أن شوبه تفرق وعلى القلب أن يمازجه عارض وعلى النفس أن يداخلها - انتهى .
ولما حكى عنهم سبحانه أنهم أثبتوا لأنفسهم عملاً تدريباً لمن أريدت سعادته ، فكان بحيث يظن أنهم رأوه هو السبب لما وصلوا إليه ، قالوا نافين لهذا الظن ، مبينين أن ما هم فيه إنما هو ابتداء تفضل من الله تعالى لأن إشفاقهم منه سبحانه لكيلا يعتمد الإنسان على شيء من عمله فلا يزال معظماً لربه خائفاً منه : ( فمنّ الله ( الذي له جميع الكمال بسب إشفاقنا منه ) علينا ( بما يناسب كماله فأمّننا ) ووقانا ) أي وجنبنا بما سترنا به ) عذاب السموم ) أي الحر النافذ في المسام نفوذ السم .
الطور : ( 28 - 34 ) إنا كنا من. .. . .
) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( ( )
ولما ذكروا إشفاقهم ، بينوه مؤكدين أيضاً لمثل ذلك بقولهم : ( إنا كنا ) أي بما طبعنا عليه وهيئنا له .
ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة ، وكانت تقع في بعض الزمان ، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر ، والتخلي عن الرذائيل لا بد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل : ( من قبل ) أي في الدنيا ) ندعوه ) أي نسأله ونعبده بالفعل ، وأما خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكنة ، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأن إنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره ، فهو مما يعجب منه غاية العجب فقالوا : ( إنه هو ) أي وحده ) البر ( الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة ، لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع ، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما بره بالنعمة وربما بره بالبؤس ، فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له في العقبى ، فعلى المؤمن أن(7/301)
صفحة رقم 302
لا يتهم ربه في شيء من قضائه ) الرحيم ( المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ، ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته .
ولما كان هذا مع تشويقه إلى الجنة والأعمال الموصله إليها وعظاً يرقق القلوب ويجلي الكروب ، سبب عنه قوله : ( فذكر ) أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك ، وسماه تذكيراً لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق ، وعلل التذكير بقوله : ( فما أنت ) أي وأنت أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة ) بنعمت ربك ) أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلو الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق وشرف النسب ، وأكد النفي بقوله : ( بكاهن ) أي تقول كلاماً - مع كونه سجعاً متكلفاً - أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه .
ولما كان اللكاهن والمجنون اتصال بالجن ، أتبع ذلك قوله : ( ولا مجنون ) أي تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات ، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاًح وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك ، فمن اتبعك منهم غسل عاره ، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره .
ولما كانت نسبته ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم افساد مما لا ينبغي أن يتخيله أحد فضلاً أن يقوله له ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يكاد يصدق أن أحداً يرميه به ، فكان في طيه سؤال تقريع وتوبيخ ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره : أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول : ( أم يقولون ( ما هو أعجب في مجرد قوله فضلاً عن تكريره ، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة ، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي عن الخليل أنه قال : ما في سورة الطور من ذكر ( أم ) كله استفهام وليس بعطف .
) شاعر ( يقول كلاماً موزوناً بالقصد ، يلزمه التكلف لذلك فيغلب إلزام الوزن قائله حتى يجعل اللفظ هو الأًل ويجعل المعنى تابعاً له ، فيأتي كثير من كلامه ناقص المعاني هلهل النسج مغلوباً فيه على أمره معترفاً إذا وقف عليه بتقصيره متعذراً مما زانه بهزعم من أوزانه ، وساق سبحانه هذا وكذا ما بعده من الأقسام على طريق الاستفهام مع أن نسبتها إليهم محققة ، تنبيهاً على أن مثل هذا لا يقوله عاقل ، وإن قاله أحد لم يكد الناقل عنه يصدق : ( نتربص ) أي ننتظر ) به ريب المنون ) أي حوادث الدهر من الموت وغيره القاطعة ، من المن وهو القطع .
ولما كان كأنه قيل لهم : إنهم ليقولون ذلك ، قال معلماً جوابهم : ( قل تربصوا ((7/302)
صفحة رقم 303
ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة لا يحتاج معها إلى رد مجادلة ، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله : ( فإني معكم ( وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرح بمصيبتهم كما يرجون الفرح بمصيبته وإن كانت كثرتهم وقوتهم عندهم مانعة من مثل هذا التربص ) من المتربصين ) أي العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك ، وأشار بالمعية إلى أنه مساو لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوتهم ووحدته وضعفه أن الأمر خلاف ذلك ، قال القشيري : جاء في التفسير أن جميعهم - أي الذي تربصوا به - ماتوا ، قال : ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقل من تكون هذه صفته إلا سبقته المنية ، ولا يدرك ما تمناه من الأمنية .
ولما كان قولهم هذا مما لا يقال أصلاً وإن قيل على بعده كان قوله كأنه على جهة سبق اللسان أو نحو ذلك ، نبه عليه بمعادلة ما تقديره : أقالوا ذلك ذهولاً : ( أم تأمرهم ) أي نزين لهم تزييناً يصير مآلهم إليه من الانبعاث كالأمر ) أحلامهم ) أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم : أولوا الأحلام .
والنهي ) بهذا ) أي وهم يعتقدون صحته وأنه العدل السواء لأنه متقيدون بالأحلام والنهي على ما فيه من الفساد بالتناقض بعد اختلال كل قول منه على حدته كما تقدم بيانه ، وهو توبيخ عظيم بالإشارة إلى أنه ليست لهم عقول أصلاً لقولهم هذا ، فإن الكاهن شرطه أن يكون في غاية المعرفة عندهم حتى أنهم يجعلونه حكماً وربما عبدوه ، والمجنون لا يصلح لصالحة لأنه لا يعقل ، والشاعر بعيد الأمر بوزن الكلام وكثرته من سجع الكاهن وغيه وكلام المجنون : ( أم هم ( بظواهرهم وبواطنهم ) قوم ) أي ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك ) طاغون ) أي مجازون للحدود ، وذلك عادة لهم بما أفهمه الوصف ، فهم لذلك لا يبالون بالعناد الظاهر في مخالفته لما تأمر به الأحلام والنهى ، ولا يقوله إلا الطغاة السفهاء مع ظهور الحق لهم ، فهم يقولون الكلام المتناقض غير مبالين بأحد ولا مستحيين من أن ينسبوا إلى العدوان والمبالغة في العصيان ، والآية من الاحتباك : ذكر الأحلام أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، والطغيان ثانياً على ضده ( العدل السواء ) أولاً ، وسره أن ما ذكر أشد تنفيراً من السوء وأعظم تقبيحاً له وتحذيراً منه ) أم يقولون ( ما هو أفحش عاراً من التناقض : ( تقوله ) أي تكلف قوله من عند نفسه كذباً وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون ، وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعرافة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزونه عن مثله بل عن مثل شيء منه .
ولما كان الكلام حقيقة في النفس ، وكانوا يعلمون بطلان جميع ما يقولونه من ذلك ، كان التقدير : لم يقولوا شيئاً من ذلك حقيقة واعتقاداً ) بل لا يؤمنون ) أي لا يقرون بالحق مع علمه مببطلان قولهم وتناقضه عناداً منهم لا تكذيباً في الباطن .(7/303)
صفحة رقم 304
ولما كان هذا القول أظهر بطلاناً من كل ما قالوه لأن تكذيبهم لهم على تقدير كذبه - على زعمهم - غير موقوف على شيء خارج عن القوة ، طالبهم بالمعارضة لأناهم إذا عارضوه بمله انفصل النزاع ، ولذلك سبب عما مضى قوله تكذيباً لهم في قولهم هذا الذي أظهروه بألسنتهم يوقفون به غيرهم عن الخير : ( فليأتوا ) أي على تقدير أرادوه ) بحديث ) أي كلام مفرق مجدد إتيانه مع الأوقات لا تكلفهم أن يأتوا به جملة ) مثله ) أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه والحكم .
ولما كان المقصود هنا مطلق التعجيز للمكذبين لا بقيد الاجتماع كما في سبحان لأن نزول هذه أوائل ما نزل ، تحداهم بالإتيان بالمثل في التنجيم والتطبيق على الوقائع سوراً أو آيات أو دون ذلك ، تحدث وتجدد شيئاً في أثر شيء - بما أشار إليه التعبير بالحدوث ، ولذلك أعراه عن تظاهرهم بالاجتماع ودعاء المستطاع ، ولكونهم كاذبين في جزمهم بنسبته إلى التقول وغيره ، أشار إلى ذلك بقوله مقرعاً لهم إلهاباً إلى الخوض في المعارضة : ( إن كانوا ) أي كوناً هم راسخون فيه ) صادقين ) أي في أنه تقوله من عند نفسه شيئاً فشيئاً ، كوناً هم عريقون فيه كما يزعمون سواء ادعوا أنه شاعر أو كاهن أو مجنون أو غير ذلك ، لأن العادة تحيل أن يأتي بواحد من قوم وهو مساوْ لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله ، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ، ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب ، وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ، ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك ، فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي ، وهو المراد من تكذيبهم ، وقد علم من هذا ومما تقدم من نحوه مفرقاً في السور التي فيها مثله أن المتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى - والله الهادي ، وهذه الأقسام الماضية من تكذيبهم تتأتى أن تكون على تقدير الإعتقاد للإله على ما هو عليه من صفات الكمال فأتباعها قسماً على تقدير التعطيل ، وإذا لم يكن إله لم يكن رسول فيأتي التذكيب ، ثم أتبع ذلك قسماً آخر هو على تقدير إثبات الإله لكن مع الضعف بالشركة ، ولكون الشركة تارة تكون من المتكلم وتارة من غيره ، قدم منها ما للمتكلم على زعمه ، وقدم تقدير شركته بالخلق ثم بضبط الخزائن ثم بالكتابة ثم بسماع الأسرار ثم بضعف السعة بالرضا بالصنف الأردأ .
الطور : ( 35 - 38 ) أم خلقوا من. .. . .
) أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ( )(7/304)
صفحة رقم 305
ولما مضت فضيحتهم بالتحدي ، وكانت عندهم فضيحة التناقض دون فضيحة المعارضة ، فكانوا يقدمونها عليها ، فلم يحدث أحد منهم يوماً من الأيام بشيء مما يعارضه به علماً منهم بأنهم يصيرون بذلك إلى خزي لا يمكن أن يغسل عاره كما صار مسيلمة ، لأنهم كانوا أعقل العرب وكان التقدير كما هدى إليه السياق : فإنك مستوٍ معهم بالنسبة إلى إيجاد الله لكم ، هو سبحانه خالقهم كما أنه خالقك ، ولا خصوصية لك منه على زعمهم : أهو خالقهم كما هو خالقك فيلزمهم أن يأتوا بمثل ما تأتي به ، وكان ذلك زعمهم : أهو خالقهم كما هو خالقك فيلزمهم أن يأتوا بمثل ما تأتي به ، وكان ذلك على تقدير إقرارهم بالله وادعائهم لكذبه ( صلى الله عليه وسلم ) ، عادله سبحانه تبكيتاً لهم وإظهاراً لفضائح هي أشنع مما فروا منه من المعارضة بقوله على تقدير أن يكونوا منكرين للإله أو مدعين لأن يكونوا آلهة : ( أم خلقوا ) أي وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة ) من غير شيء ( فيكونوا مخالفين لصريح العقل إذ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم كتعلقه بالمخلوق ليسلم لهم أنك تأتي بما لا يقدرون على معارضته لأنك أقوى منهم بكونك مستنداً إلى خالق وهم ليسوا مستندين إلى شيء أو ليكونوا لذلك أقوى منك وأعلى ، فيكون لهم التكبر عليك ) أم هم الخالقون ) أي الذين لهم هذا الوصف فيكونون قد خلقوا أنفسهم ليكونوا بذلك شركاء فيكون الخالق والمخلوق واحداً ، وهو مثل القسم الذي قبله في عدم الاستناد إلى شيء أو يكون ثبوت هذا الوصف لهم موجباً لأن يكونوا على ثقة مما يقولون وللتكبر عليك ، فإن ادعوا ذلك حكم أدنى الخلق بجنونهم ؛ ) أم خلقوا ) أي على وجه الشركة ) السموات والأرض ( فهم لذلك عالمون بما فيها على وجه الإحاطة واليقين حتى عملوا أنك تقولته ليصير لهم رده التهكم عليه .
ولما كان التقدير : لم يكن شيء من ذلك ليكون لهم شبهة في الكلام فيك ، عطف عليه قوله : ( بل لا يوقنون ) أي ليس لهم نوع يقين ليسكنوا إلى شيء واحد لكونه الحق أو ليعلموا أن هذه الملازم الفاضحة تلزمهم فيكفوا عن أمثالهم ) أم عندهم ) أي خاصة دون غيرهم ) خزائن ( ولما كان ذكر الحرمة لا يقتضيه مقصود السورة الذي هو العذاب ، لم تذكر كما في ص وسبحان فقيل : ( ربك ( المحسن إليك بإرسالك بهذا الحديث فيعلموا أن هذا الذي أثبت به ليس من قوله لأنه لا تصرف له في الخزائن إلا بهم ، فيصح قولهم : إنك تقولته وحينئذ يلزمهم فضائح لا آخر لها ، منها أن يأتوا بحديث مثله بل أحسن منه من تلك الخزائن ) أم هم ( لا غيرهم ) المسيطرون ) أي الرقباء الحافظون والجبارون والمسلطون الرؤساء الحكماء الكتبة ، ليكونوا ضابطين للأشياء كلها كما هو شأن كتّاب السر عند الملوك فيعلموا أنك تقولت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك ) أم لهم سلّم ( يصعدون به إلى السماء ) يستمعون ) أي يتعمدون(7/305)
صفحة رقم 306
السمع لكل ما يكون فيها ومنها ) فيه ) أي في ذلك السلم وبسببه كما يكون بعض من يحضر مجالس الملوك في الدنيا ويعلم ما يقع فيها ليكونوا ضابطين لما يأتي من الملك فيعلموا أن ما قالوه فيك حق ولما كان من يكون هكذا متمكناً من الإتيان منها بالعجائب ، سبب عنه قوله : ( فليأت مستمعهم ( إن ادعوا ذلك ) بسلطان مبين ) أي حجة قاهرة بينة في نفسها ، موضحة لأنها من السماء على صحة ما يرمونك به .
الطور : ( 39 - 43 ) أم له البنات. .. . .
) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ( )
ولما كان ما مضى على تقدير وجود الإله مع الشركة ، وكان ادعاؤهم الولد عظيماً جداً لدلالته على حاجته وضعفه ، وكان جعله بنات أعظم لأنه دال مع ضعفه على سفهه ، دل على استعظامه بالالتفات إلى خطابهم بعذابهم فقال : ( أم له البنات ) أي كما ادعيتم ) ولكم ) أي خاصة ) البنون ( لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم ، وهذه الأقسام كلها على تقدير التكذيب ، وهي هنا بذكر ما على تقدير التصديق ، وإنما وقع الرد فيها لعارض عرض .
ولما كان المكذب بشيء قد يكون معترفاً بأنه من عند إله ، وأن إلهه متصف بجميع صفات الكمال فلا شريك له ، وإنما تكذيبه لقادح لا يقدر عليه ، وكرب رمى بجميع أنكاده إليه ، أعرض عنهم التفاتاً إلى الأسلوب الأول فقال مخاطباً له ( صلى الله عليه وسلم ) تنويهاً بذكره ورفعاً لعظيم قدره وتسلية لما يعلم من نفسه الشريفة البراءة منه : ( أم تسألهم ) أي أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواضع التهم ) أجراً ( على إبلاغ ما أتيتهم به ) فهم من مغرم ( ولو قل ، والمغرم : التزام ما لا يجب ) مثقلون ) أي حمل عليهم حامل بذلك ثقلاً فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليسترحوا مما جره لهم من الثقل. ولما كان من يدعي الانفراد بشيء يحسد من يدعي مشاركته فيه قال : ( أم عندهم ) أي خاصة بهم ) الغيب ) أي علمه ) فهم يكتبون ) أي يجددون للناس كتابة جميع ما غابة عنهم مما ينفعهم ويضرهم حتى يحسدونك فيما شاركتهم به منه ، فيردوه لذلك ، وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد ترافعك عنه وبعدك منه ) أم يريدون ( بهذا القول الذي يرمونك به ) كيداً ) أي مكراً أو ضرراً عظيماً يطفئون به نور(7/306)
صفحة رقم 307
الله بزعمهم مع علمهم بأنك صادق فيه ، فهم بسبب إرادتهم ذلك هكذا كان الأصل ، ولكنه قال تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : ( فالذين كفروا ) أي ستروا الأجلة تارة عناداً وتارة بالإعراض عن تأملها ) هم ) أي خاصة ) المكيدون ) أي يختص وبال الكيد بلزومه لهم وقطعه لدابرهم لأن من كان الإله عليه كان خاسراً ، وأقرب مآلهم من الكيد الظاهر في بدر عن انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من ( أم ) وهي خمسة عشرة مرة لأن بدراً كانت في الثانية من الهجرة ، وهي الخامسة عشرة من النبوة ، فقد سبب الله فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى هلاكهم بأمور خارقة للعادة ، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية ، والرد عن الضلالة والغواية .
ولما كان التقدير : أكذلك الأمر عادله بقوله : ( أم لهم إله ( يمنعهم من التصديق بكتابنا ، أو يستندون إليه للأمان من عذابنا ) غير الله ( الذي أحاط بجميع صفات الكمال ، فلا يمكن بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقدير أن يكون معه إله ، ولذلك وصل به قوله : ( سبحان الله ) أي الملك الأعظم الذي تعالى أن يداني جنابه شائبة نقص ) عما يشركون ( من الأصنام وغيرها ، وأخر سبحانه هذا القسم وهو من الشركة لكن بالغير لأنه آت على تقدير التصديق للرسول صلى ولأنه دينهم الذي أوقفهم عن الهدى ، فأوقعهم في الردى ، ليحتم بنفسه والتنزيه عن الإقسام فيحصل به غاية القصد والمرام .
والحاصل أنه قسم به سبحانه حالهم ف يردهم القرآن إلى التكذيب وغيره ، ولما كان التكذيب - وهو النسبة إلى الكذب وهو عدم المطابقة للواقع - إما في الإرسال ، وإما في المعاني ، وما وقع به الإرسال إما لنقص في الرسول وإما النقص في المرسل ، والذي في رسول إما أن يكون لأمر خارج عنه أو لأمر داخل فيه ، ولما كان الخارج قد يكون معه نقص دخل بذاته ، ولما كان ذلك قد يكون فيه ما يمجح به ولو من وجه ، وهو الكهانة بدأ بها ، وأتبعه الداخل لذلك بادئاً بما قد يمدح به وهو الشعر .
ولما كان القول بجميع الكهانة والشعر والجنون في شخص واحد على غاية من ظهور التناقص لا يخفى ، أتبعها الرمي بالتهكم على عقولهم .
ولما كان الكذب في الرمي بالتقول قد يخفى ، أتبعه دليله بالعجز عن المعارضة .
ولما قسم ما رموا به الرسول ، أتبعهم ما ألزمهم به في المرسل ، ولما كان ذلك إما أن يكون بالتعطيل أو لا ، وكان التعطيل أشد ، بدأ به وهو الخلق من غير شيء ، ولما كان النقص مع الإقرار بالوجود إما أن يكون بالشركة أولاً ، وكان بالشركة إما أن يكون المكذب هو المشارك أولاً ، وكانت الشركة المكذب أقعد في التكذيب بدأبها ، ولما كانت شركة المكذب إما ان تكون في الخلق أو لا ، وكان الأول إما أن يكون بخلق النفس أو الغير ، وكانت الشركة بخلق النفس ألصق ، (7/307)
صفحة رقم 308
بدأ بها قوله : ( أم هم الخالقون ( ولما كانت الشركة بغر الخلق إما أن يكون بضبط الحواس أو لا ، وكان الثاني إما أن يكون بضبط الكتاب فيها وإليه الإشارة بالمسيطر ، أو بضبط ما يؤمر به فيها وإليه الإشارة بالسلم أوا بسفه صاحب الخزائن لرضاه بالنبات ، وكان كل قسم أشد مما بعده رتبه هكذا .
ولما انتهى ما يرجع إلى التكذيب ، أتبعه الرد لا للتكذيب بل لأمره آخر ، ولما كان ذلك الأمر إما من الآتي أو من المأتي إليه أو من غيرهما ، كان ما من الآتي ألصق بدأ به وهو المغرم ، ولما كان ما من المأتي إليه إما لحسد أو غيره ، وكان امر الحسد أشد ، بدأ به وهو المشاركة في الأبناء بما يكون به الفخر والرئاسة وهو علم الغيب - الناظر بوجه للكهانة المبدوء بها في قسم مع كونه قسيماً لما فرض فيه المكذب مشاركاً لخلوه عما قارن تلك الأقسام من التكذيب ، هذا تمام القول في إبطال ما لزمهم فيما تقولوه في أمر القرآن ، وقد تضمن ما ترى من تأصيله وتقسيمه وتفصيله من بيان مقدورات الله وعجائب مصنوعاته ما ألزمهم حتماً التوحيد الملزم بتصديق الرسالة والإذعان للحق مع ما له من الإعجاز في ترتيبه ونظمه وتهذيبه وتسهيله وتقريبه مجلوا أسلوبه العظيم بألفاظ هي الدر النظيم ، ومعان علت عن لاحق بغريزة أو تعليم ، يكاد لها أثبت القلوب يهيم فيطير ، وأبلغ البلغاء في افنان روحها يتدله ويحير ، فكان ذلك كما قال جبير بن مطعم رضي الله عنه كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه رضي الله عنهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ في المغرب بالطور ، وقال البخاري في التفسير : فلما بلغ هذه الآية ) أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( ) أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ( - إلى قوله : ( فليأت مستمعهم بسلطان مبين ( كاد قلبي يطير .
وسبق في أول السورة ما ذكره البغوي من هذا الحديث .
الطور : ( 44 - 49 ) وإن يروا كسفا. .. . .
) وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( ( )(7/308)
صفحة رقم 309
ولما كان التقدير تسكيناً لقلب من يريد إجابتهم إلى الآيات المقترحات طمعاً في إيمانهم : فلقد تلونا عليهم في هذه السورة وغيرها من الآيات ، وخلونا من المعجزات البينات ، وأتينا من تناقضهم في هذه التقسيمات ، بما يهد الجبال الشامخات ، وبينا من فضائحهم بحين سوقها وحلاوة ذوقها ، وصحة معانيها وإحكام مبانيها ، ما يزلزل الراسيات ، ويحل العزمات ، ويفرج الأزمات ، ويصد ذوي المروات عن أمثال هذه النقائص الفاضحات ، لما لها من الأدلة الواضحات ، ولكنهم لما ألزمناهم به من العكس لا يؤمنون ، وكدناهم بما أعمينا من بصائرهم فهم لا يعلمون أنهم الميكيدون ، عطف عليه قوله : ( وإن يروا ) أي معاينة ) كسفاً ( قطعة ، وقيل : قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر ) من السماء ( نهاراً جهاراً ) ساقطاً يقولوا ( لدداً وتجلداً في البغي إصراراً ، وتعلقهم بما أمكنهم من الشبه تخييلاً على العقول وإيقافاً لذوي الآراء والفهوم دأب الأصيل في نصر الباطل ومكابرة الحق لما لهم من العراقة يعمى القلوب بما لنا من القدرة على صرفهم عن وجوه الأمر : هذا ) سحاب ( فإن قيل لهم : هو مخالف للسحاب بصلابته ، قالوا : ( مركوم ) أي تراكم بعضه على بعض فتصلب ، ولذلك سبب عن هذا الحال الدال على أنهم وصلوا في عمى الصائر إلى أنه لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون ، قوله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تبعه : ( فذرهم ) أي اتراكهم على شر أحوالهم ) حتى يلاقوا ( سعياً بسوء أعمالهم ) يومهم ( كما أنه هو يسعى إليهم لا ستحقاقهم لما فيه ) الذي فيه ( لا في غيره لأن ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر ) يصعقون ( بالموت من شدة الأهوال وعظيم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور ، ولكنا لانقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم إلى الحساب الذي يكذبون به ، والظاهر أن هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعيت بالنصرة فيها فما أغنى أحد منهم عن أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث : ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا .
) يوم لا يغني ) أي بوجه من الوجوه ) عنهم كيدهم ( الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة ) شيئاً ) أي من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار بتثبيط الناس عن اتباع القرآنبما يصفونه به من البهتان ) ولا هم ينصرون ) أي لا يتجدد لهم نصر من أحد ما في ساعة ما .
ولما أفهم هذا الكلام السابق أن التقدير : فإن لكل ظالم في ذلك اليوم عذاباً لا يحيط به الوصف ، فإن الإصعاق من أشد ما يكون من العذاب ، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من الإنكار أي ينصر عليهم المؤمنون وهم من الكثرة والقوة بحيث لا مطمع(7/309)
صفحة رقم 310
فيهم لأحد لا سيما لمن هم مثل في الضعف والقلة ) وإن ( وكان الأصل لهم ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( للذين ظلموا ) أي أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولون في القرن ، ويفعلونه من العصيان ويعتقدون من الشرك والبهتان ) عذاباً دون ذلك ) أي غير عذاب ذلك اليوم الصعب المرير ، أو أدنى رتبة منه ، إن كان المراد بالعصفق ما يكون بعد البعث فبعذاب البزرخ في القبور ، وإن كان المراد به الموت فيما يلقونه في الدنيا من عذابي بواسطتكم مثل تحيزكم إلى الأنصار في دار الهجرة ومعدن النصرة وصيرورتكم في القوة بحيث تناصبونهم الحرب ، وتعاطونهم الطعن والضرب ، فتكونوا بعد أن كنتم طوع أيديهم قذى في أعينهم وشجاً في حلوقهم ودحضاً لأقدامهم ونقضاً لإبرامهم ، ومثل القحط الذي حصل لهم والسرايا التي لقيتموها فيها مثل سرية حمزة أسد الله وأسد رسوله ، وعبيدة بن الحارث وعبيد الله بن جحش التي كانت مقدمة لغزوة بدر .
ولما كان بعضهم يبصر هذا مثل عتبة بن ربيعة والوليد بن مغيرة والنضر بن الحارث ويقولون : والله ما هو شاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا مجنون ، وليكونن لقوله الذي يقول نبأ ، قال : ( ولكن أكثرهم ( بسصبب ما يرون من كثرتهم وحسن حالهم في الدنيا وقوتهم ) لا يعلمون ) أي يتجدد لهم علم بتقويتكم عليهم لأنهم لا علم لهم أصلاً حتى يروا ذلك معاينة .
ولما كان العلم المحيط من الملك القاهر أعظم مسل للولي وأكبر مخيف للعدو ، قال عاطفاً على ) فذرهم ( أو على ما تقديره : فكن أنت العلماء بذلك ليكون فيه لك أعظم تسلية : ( واصبر ) أي أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت فيه من أداء الرسالة وما لها من الكلف من أذى الناس وغيره ولكونه في مقام الأعراض عن الكفار وكون إعراضه عنهم أصعب عليه من مقاساة إنذاره وإن نشأ عنها تكذيبهم واستهزاؤهم ، اشتدت العناية هنا بالصبر فقدم ، وأيضاً فإن الإعراض عنهم مقتض لعدهم فانين ، وذلك هو مقام الجمع ، والجمع لا يصلح إلا بالفرق ، فلذلك قدم الأمر بالصبر ، وذكر الحكم إشارة إلى أنه متمكن في مقام الفرق كما أنه عريق في مقام الجمع بخلاف المدثر ، فإن سياقها للإنذار الناشىء عنه غاية الإذى فاشتدت العناية هناك بتقديم ذكر الإلهة نظراً لإى الفناء عن الفانين وإن كان مباشراً لدعائهم ، وعبر بما يذكر بحسن التربية زيادة في التعزية فاقتضى هذا السياق أن رغبه سبحانه بقوله : ( لحكم ربك ) أي المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك لولو لم يرده لم يكن شيء منه ، فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم ، وسبب عن ذلك قوله لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات(7/310)
صفحة رقم 311
الامتحان من نوع نسيان : ( فإنك بأعيننا ( جمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها ، وهي ظاهرة في الجمع وإشارة إلى أنه محفوف بالجنود الذين رؤيتهم من رؤيته سبحانه فهو مكلوء مرعى به وبجنوده وفاعل في حفظه فعل من له أعين محيطة بمحفظه من كل جهة من جهاته .
ولما كانت الطاعة أعظم ناصر وأكبر معز ، وكانت الصلاة أعظمها قال : ( وسبح ) أي أوقع التنزيه عن شائبة كل نقص بالقلب واللسان والأركان ، متلبساً ) بحمد ربك ) أي المحسن إليك ، فأثبت له كل كمال مع تنزيهه له عن كل نقص ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة ) حين تقوم ) أي من الليل في جميع الأوقات التي هي مظنة القيام على الأمور الدنيوية والأشغال النفسانية ، وهي أوقات النهار الذي هو للانتشار بصلاة الصبح والظهر والعصر ، وتحتمل العبارة التسبيح عند كل قيام بكفارة المجلس وهو ( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك ) فإنها تكفر ما كان في المجلس - كما رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح غريب والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن الليل ( الذي هو محل السكون والراحة ) فسبحه ( كذلك بالنية والقول كلما انتبهت وبالفعل بصلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل ، والتعظيمه صرح بذلك وقدمه على الفعل ، والضمير يعود على المضاف إليه ، وأشار إلى التهجد بعد دخوله فيما قبله بقوله : ( وإدبار النجوم ) أي وسبحه في وقت إدبارهم أي إذا أدبرت ، وذلك من آخر الليل في نصفه الثاني : وكلما قارب الفجر كان أعلى وبالإجابة أولى ، وإلى قرب الفجر تشير قراءة الفتح جمع دابر أي في أعقابها عند خفائها أو أفولها ، وذلك بصلاة الفجر سنة وفرضاً أحق وأولى لأنه وقت إدبارها حقيقة ، فصارت عبادة الصبح محثوثاً عليها مرتين تشريفاً لها وتعظيماً لقدرها فإن ذلك ينجي من العذاب الواقع ، وينصر على العدو الدارع ، من المجاهر المدافع ، والمنافق المخادع ، وقد رجع آخرها على أولها ، ومقطعها على موصلها ، بحلول العذاب على الظالم ، وبعده عن الطائع السالم - والله الموفق .
.. . .(7/311)
صفحة رقم 312
سورة النَجم
مقصودها ذم الهوى لأنتاجه الضلال والعمى بالإخلاد إلى الدنيا التي هي دار الكدور والبلاء ، والتصرم والفناء ، ومدح العلم لإثماره الهدى في الإقبال على الأخرى لأنها دار البقاء في السعادة أو الشقاء ، والحث على اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نذارتهع التي بينتها سورة ق وصدقتها الذاريات وأوقعتها وعينتها الطور كما تتبع في بشارته لأن علمه هنو العلم لأنه لا ينطق عن الهوى لا في صريح الكناية ولا في بيانه له لأن الكل عن الله الذي له صفات الكمال فلا بد من بعث الخلق إليه وحشرهم لديه لتظهر حكمته غاية الظهور فيرفع أهل التزكي والظهور ، ويضع أهل الفجور ، ويفضح كل متحل بالزور ، متجل للشرور ، وعلى ذلك دل اسمها النجم عن تأمل القسم والجواب وما نظم به من نجوم الكتاب ) بسم الله ( الذي أحاط بصفات الكمال فلا يكون رسوله إلا من ذي الكمال ) الرحمن ( الذي عم الموجودالت بصفة الجمال ) الرحيم ( الذي خص أهل وده بالإنقاذ من الضلال والهداية إلى ما يرضي من الخلال وصالح الأعمال .
النجم : ( 1 - 7 ) والنجم إذا هوى
) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( ( )
ولما ختمت الطور بأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالتسبيح والتحميد ، وكان أمره تكويناً لا تكليفاً ، فكان فاعلاً لا محالة ، وذاك بعد تقسيمهم القول في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه كاهن وساحر ومجنو ، وكان لذلك تعلق بالشياطين ، وكانت الشياطين مباينة للقرآن بختلها وبمنعها بالرجوم من النجوم كما بين آخر الشعراء ، افتتحت هذه بالحث على الاهتدا بهدية والاستدلال بدله واتباع أثره ، ولما كان م نذلك تسبيحه بالحمد في إدبار النجوم أقسم أول هذه بالنجم على وجه أعم مما في آخر تلك فعبر بعبارة تفهم عروجه وصعوده لأنه لا يغيب في في الأفق الغربي واحد من السيارة إلا وطلع من الأفق الشرقي في نظير له منها لما يكون عند ذلك من تلك العبارة العالية ، والأذكار الزاكية ، مع ما فيه من عجيب(7/312)
صفحة رقم 313
الصنع الدال على وحدانية مبدعه من زينة السماء التي فيها ما توعدون والحراسة من المردة حفظاً لنجوم الكتاب والاهتداء به الدين والدنيا ، وغير ذلك من الحكم التي يعرفها الحكماءء ، فقال تعالى : ( والنجم ) أي هذا الجنس من نجوم السماء أو القرآن لنزوله منجماً مفرقاً وهم يسمون التفريق تنجيماً - أو النبات ، قال البغوي : الشياطين عند الاستراق كما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد السمائي ، فكانت عنده العبادة والاستغفار والدعاء للملك الجبار بالأسحار ، أو صعد فكان به اهتداء المصلي والقارئ والساري ، فإنه يقال : هوى هوياً - بالتفح إذا سقط ، وبالضم - إذا علا وصعد ، أو نزل به الملك للإصعاد وللإبعاد والاطلاع على عجائب المقدور ، أو إذا سقط منبسطاً على الأرض أو ارتفع عنها إن كان المراد النبات ، لما فيه من غيريب الصنعة وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق .
ولما أقسم بهذا القسم الجليل ، أجابه بقوله معبراً بالماضي نفياً لما كانوا رموه به وليسهل ما قبل النبوة فيكون ما بعدها بطريقة الأولى : ( ما ضل ) أي عدل عن سواء المحجة الموصلة إلى غاية المقصود أي أنه ما عمل الضالين يوماً من الأيام فمتى تقول القرآن عنده ولا علم فيه عمل المجانين ولا غيرهم ما رموه به وأما
77 ( ) وجدك ضالاً ( ) 7
[ الضحى : 7 ] فالمراد غير عالم ، وعبر بالصحبة مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيها ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طيب أعرافه وطهارة شمائله وأخلاقه فقال : ( صاحبكم ) أي في إنذاره لكم في القيامة فلا وجه لكم في اتهامه .
ولما كان الهدى قد يصحبه ميل لا يقرب الموصول إلى القصد وإن حصل به نوع خلل في القرب أو نحوه فقد يكون القصد مع غير صالح قال : ( وما غوى ( وما مال أدنى ميل ولا كان مقصوده مما يسوء فإنه محروس من أسبابه التي هي غواية الشياطين وغيرها ، وقد دفع سبحانه عن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما بقية الأانبياء فدفعوا أنفسهم
77 ( ) ليس بي ضلالة ( ) 7
[ الأعراف : 61 ]
77 ( ) ليس بي سفاهة ( ) 7
[ الأعراف : 67 ] ، ونحو ذلك - قاله القشيري .
ولما كان قد يكون مع الهدى مصادفة قال : ( وما ينطق ) أي يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في الحال ولا في الاستقبال ، نطقاً ناشئاً ) عن الهوى ) أي من أمره(7/313)
صفحة رقم 314
كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم والشعراء وغيرهم ، وما تقول هذا القرآن من عند نفسه .
ولما أكد سبحانه في نفسه ذلك عند التأكيد تنزيهاً له عما نسب إليه ، فكان ذلك مظنة السؤال عن أصل ما تقوله ، أجاب بالحصر والآية أًرح وأدفع لإنكارهم البالغ فقا : ( إن ) أي ما ) هو ) أي الذي يتكلم به من القرآن وبيانه ، وكل أقواله وأفعاله وأحواله بيانه ) إلا وحي ) أي من الله تعالى ، وأكده بقوله : ( يوحى ) أي يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت ، ويجوز أن يجتهد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا استقر اجتهاده على شيء أوحي مع أن من يرد ما يجتهد فيه إلى ما أوحي إليه بريء من الهوي .
وقال أبو جعفر ابن الزبير في برهانه : لما قطع سبحانه تعليقهم بقوله : ساحر وشاعر ومجنون - إلى ما هو به مما علموا أنه لا يقوم على ساق ، ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى ما أمكنه وإن لم يغن عنه ، أعقب الله سبحانه بقسمة على تنزيه نبيه وصفيه من خلقه عما تقوله توهمه الضعفاء فقال تعالى : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ( ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه ، وفي إبداء ذلك يحركهم عزّ وجلّ ويذكرهم ويوبخهم على سوء نكاياتهم بلطف واستدعاء كريم منعم فقال تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى ( والتحمت الآي على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام ، لا يشراكه في شيء من ذلك غيره فقال : ( وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى ( .
ولما بين ذلك فقال : ( فبأي آلاء ربك تتمارى ) أي في أيّ نعمة تشكون أم بأي آية تكذبون ؟ ثم قال : ( هذا نذير من النذر الأولى ( وإذا ان عليه الصلاة والسلام. . .
فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره - انتهى .
ولما كان الوحي ظاهراً فيما بواسطة الملك ، تشوف السامع إلى بيان ذلك فقال مبيناً له بأوصافه لأن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره : ( علمه ) أي صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ) شديد القوى ( أفلا تعجبون من هذه البحار الزاخرة التي فأقكم بها وهو أمي فإن معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كل ما أمره الله به ) ذو مرة ) أي جزم في قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما امر به والطاقة لحمله في غير آية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس ماض في مراوته على طريقة واحدة على غاية من الشدة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به ، فهو على غاية الخلوص فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة ، لا بيان في شيء بزواله ومن جملة ما أعطى من القوة والقدرة على التشكل ، وإلى ذلك كله أشار بما(7/314)
صفحة رقم 315
سبب عن هذا من قوله : ( فاستوى ( فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها ) وهو ) أي والحال أن جبرائيل عليه السلام ، وجوزوا أن يكون الضمير المنفصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي استوى جبرائيل عليهما السلام معه ) بالأفق الأعلى ) أي الناحية التي هي النهاية في العلو والفضل من السماوات مناسبة لحالة هذا الاستواء ، وذلك حين رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق .
النجم : ( 8 - 10 ) ثم دنا فتدلى
) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى ( ( )
ولما كان الدنو من الحضرة الإليهة - التي هي مهيئة لتلقي الوحي - من العلو والعظمة بحيث لا يوصف ، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي بعد ذلك الاستواء العظيم ) دنا ) أي جبرائيل عليه السلام من الجناب الأقدس دنو زيادة في كرامة لا دنو مسافة ، وكل قرب يكون منه سحبانه فهو مع أنه منزه عن المسافة الموجود وبصره وجهين : قرب إلى كل موجود من نفسه ، وقرب لاية حتى يكون سمع الموجود وبصره بمعنى أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يرضاه - اشار إليه ابن برجان ، فأخذ الوحي الذي أذن له في أخذه في ذلك الوقت ) فتدلّى ( عقب ذلك من الله رسولاً إلى صاحبكم أي أنزل إليه نزولاً هو فيه كالمتدلي إليه بحبل فوصل إليه ولم ينفصل عن محله من الأفق الأعلى لما له من القوة والاستحكام ، قال البيضاوي : فإن التدلي هو استرتسال متعلق كتدلي الثمرة ) فكان ( في القرب من صاحبكم في رأي من يراه منكم ) قاب ) أي على مسافة قدر ) قوسين ( من قسيكم ، قال الرازي في اللوامع : أي بحيث الوتر في القوس مرتين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : القوس الذراع بلغة أزدشنوءة ، وقال ابن برجان : قاب القوسين : ما بين السيين ، وقيل : ما بين القبضة والوتر ) أو أدنى ( بمعنى أن الناظر منكم لو رآه لتردد وقال ذلك لشدة مايرى له من القرب منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، روى مسلم في الإيمان من صحيحه عن الشيباني قال : ( سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى ) فكان قاب قوسين ( فقال : أخبرني أبن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى جبرائيل عليه السلام له ستمائة جناح ) ) فأوحى ) أي ألقى سراً من كلام الله بسبب هذا القرب ، وعقبه بقوله : ( إلى عبده ) أي عبد الله ، وإضماره من غير تقدم ذكره صريحاً لما هو معلوم مما تقدم في آخر الشورى أن كلام الله يكون وحياً بواسطة رسول يوحي(7/315)
صفحة رقم 316
بإذنه سبحانه ، والمقام يناسب الإضمار لأن الكلام هو الوحي الخفي ، وعبر بالبعد إشارة إلى أنه لم يكن أحد ليستحق هذا الأمر العظيم غيره لأنه لم يتعبد قط لأحد غير الله ، وكل من عاداه حصل منهم تعبد لغيره في الجملة ، فكان أحق الخلق بهذا الوصف مع أنه كان يتعبد لله في غار حراء وغيره ، وهذه النزلة - والله أعلم - كانت على هذا التقدير في أول الوحي لما كان بحراء وفرق منه ( صلى الله عليه وسلم ) فرجع ترجف بوادره ، وقال : زملوني زملوني .
وأشار إلى عظمة ما أنزل بقوله : ( ما أوحى ) أي إنه يجل عن الوصف فأجمل له ما فصل له بعد ذلك ، هذا الذي ذكر من تفسير لضمائر مظاهر العبارة وإن كان الإضمار في جميع الأفعال لا يخلو عن التباس وإشكال ، ويمكن لأجل احتمال الضمائر لما يناسبها من الظواهر أن يكون ضمير ) دنا ( وما بعده لله تعالى ، وحينئذ يصير في ) عبده ( واضحاً كما تقدم في هذا الوجه جعله له سبحانه لأنه لا يجوز لغيره ، روى البخاري في التوحيد في باب ) وكلم الله موسى تكليماً ( عن أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكعبة ( أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم ) : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهمن فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، وكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه ، ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك ، قال : معي محمد ، قالوا : وبعث إليه ، قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به وأهلاً - ثم ذكر عروجه إلى السماوات السبع ، وأنه لما وصل إلى السماء السابعة علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى منه فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحي الله إليه خمسين صلاة - فذكر مشورة موسى عليهما السلام في سؤال التخفيف حتى صارت خمساً كل واحدة بعشرة ، ودنا الجبار رب العزة في هذا الوجه وهو رب العزة ( وهو في غاية الحسن إذا جمعته مع ما يأتي في هذا الوجه المنقول عن جعفر الصادق رضي الله عنه فيكون المعنى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما استوى بالأفق الأعلى فوصل إلى حد لا يمكن المخلوق الصعود عنه تنزل له الخالق سبحانه ، ولذلك عبر عنه ب ) ثم ( يعني أنه(7/316)
صفحة رقم 317
سبحانه تنزل له تنزلاً لا يمكن الاطلاع على كنه رتبته في العلو والعظمة ، ثم نزل ثم تنزل .
ولما كانت العبارة ربما أوهمت شياً لا يليق به نفاه ( صلى الله عليه وسلم ) بما في الرواية من تخصيص التعبير باسم الجبار فعلم أنه قربه تقريباً يليق به ، وسمى ذلك دنواً فكان الدنو والتدلي تمثيلاً لما وصل منه سبحانه إلى عبده محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بغاية السهولة واليسر واللطافة مع اتصاله بالحرات القدسية ، والتعبير بالتدلي لإفهام العلو مثل ما كني بالنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا عن أجابة الدعاء بفتح أبواب السماء كما رويناه في جزء العيشي من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه تمثيلاً بما نعرفه من حا لالملوك في أن أحدهم يكون نزوله عن سريره أدنى في إتيان خواصه إليه ، وفتح بابه أدنى لمن يليهم ، ولكما نزل درجة كان الإذن أعم إلى أن يصل إلى الإذن العام لجميع الناس ، هذا علم المخاطبين بأن ذلك على سبيل التمثيل بمن يحتاج إلى هذه الدرجات ، وأما من هو غني عن كل شيء فله سبحانه المثل الأعلى ولا يشبه شيئاً ، ولا يشبهه شيء ، وفي ) قرآن الفجر ( من سورة سبحان لهذا مزيد بيان ، وقال القاضي عياض في الشفاء ما حاصله أن تلك الضمائر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : قال جعفر بن محمد - يعني الصادق بن الباقر : أدناه ربه حتى كان منه كقاب قوسين ، وقال أيضاً : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام عن دنوه ودنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ما أودع قلبه من المعرفة أيضاً : والدنو من الله تعالى لا حد له ، ومن العباد بالحدود - انتهى .
وحينئذ يكون ضمير ( استوى ) له صل الله عليه وسلم ، ويكون المعنى : فتسبب عن تعليم جبريل له استواوه - أي اعتدال علمه - إلى غاية لم يصلها غيره من الخلق علماً وكسباً بالملك والملكوت والحال أنه بالأفق الأعلى ليلة الإسراء ، وتدليه كناية عن وصوله بسبب عظيم حامل السبب للمتدلي ، وعبر به وهو ظاهر في النزول من علو مع عدم الانفصال منه لئلا يوهم اختصاص جهة العلو به سبحانه دون بقية الجهات ، ومنه ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) وكذا قيل في الإشارة ب ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) ومن المحاسن جداً أن تكون ألف ) تدلى ( المقلبة عن ياء في هذا الوجه بدلاً من لام فيكون من التدلل وهو الانبسباط(7/317)
صفحة رقم 318
وثوقاً بالمحبة ، يقال : تدلل عليه ، أي انبسط ووثق بمحبته فأفرط عليه ، وانبساطه ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الحالة إفراط كثرة سؤاله ، وشفاعته في أمته ، وبذكل ظهر إلى عالم الشهادة أنه أرحم الخلق كما كان معلوماً إلى عالم الغيب ، فتسبب عنه زيادة تقريبه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، وإبراز هذا الكلام في هذه الضمائر المتحملة لهذه الوجوه من غير ظاهر يعين المراد يناسب لتلك الحالة ، فإنها كانت حالة غيب وخفاء وستر ، وكان العلم فيها واسعاً ، وسوق الضمائر هكذا يكثر احتمال الكلام للوجوه ، فيتسع العلم مع أنه ليس فيها وجه يؤدي إلى لبس في الدين ولا ركاكة في معنى ولا نظم ولا مجال للعلم - والله أعلم .
النجم : ( 11 - 18 ) ما كذب الفؤاد. .. . .
) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( ( )
ولما أثبت هذا الكلام ما أثبت من القرب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ممن أوحى إليه على كلا التقديرين ، قرره على وجه أفاد الرؤية فقال : ( ما كذب الفؤاد ) أي القلب ألذي هو في غاية الذكاء والاتقاد ) ما رأى ( البصر أي حين رؤية البصر كان القلب ، لا أنها رؤية بصر فقط تمكن فيها - للخلو - عن حضور القلب - النسبة إلى الغلط ، وقال القشيري ما معناه : ما كذب فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما رآه بصره ، بل رآه على الوصف الذي علمه قبل أن رآه فكان علمه حق اليقين ، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل رأيت ربك ؟ قال : ( نور إليّ أراه ( ، وفي صحيح مسلم أيضاً عن مسروق أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما أنكرت الرؤية : ألم يقل الله تعالى ) ولقد رآه بالأفق المين ( و ) لقد رآه نزلة أخرى ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إنما هو جبرئيل عليه السلام ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ( قال البغوي : وذهب جماعة إلى أنه رآه فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده ، ثم روي من صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( رآه بفؤاده مرتين ( وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس رضي الله عنه ، وقال ابن برجان ما معناه : إن(7/318)
صفحة رقم 319
النوم والصعق من آيات الله على لقاء الله وهي مقدمات لذلك ، ولكل حقيقة حق يتقدمها كأشراط الساعة ، والإسراء وإن لم يكن موتاً ولا صعقاً ولا نوماً على أظهر الوجوه فقد خرج عن مشاهدات الدنيا إلى مشاهدات الأفق الأعلى فلا تنكر الرؤية هنالك ، فالإسراء حالة غير حالة الدنيا ، بل هي من أحوال الآخرة وعالم الغيب - والله الهادي .
ولما تقرر ذلك غاية التقرر ، وكان موضع الإنكار عليهم ، قال مسبباً عن ذلك : ( أفتمارونه ) أي تستخرجون منه بجدالكم له فيما أخبركم به شكاً فيه ولا شك فيه ، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة عن حمزة والكسائي ويعقوب إشارة غلى اجتهادهم في تشكيكه ، من مري الشيء : استخرجه ، ومري الناقة : مسح شرعها ، فأمرى : در لبنها ، والمرية بالكسر والضمر : الشك والجدل ) على ما يرى ( على صفة مطابقة القلب والبصر ، وذلك مما لم تجر العادة بدخول الشك فيه وال قبوله للجدال ، وزاد الأمر وضوحاً بتصوير الحال الماضية بالتعبير بالمضارع إشارة إلى أنه كما لم يهم لم يلبس الأمر عليه ، بل كأنه الآن ينظر .
ولما كان الشيء أقوى ما يكون إذا حسر البصر ، فإذا وافقه كون القلب في غاية الحضور كان أمكن ، فإذا تكرر انقطعت الأطماع عن التعلق بالمجادلة منه ، قال مؤكداً لأجل إنكارهم : ( ولقد رآه ) أي الله تعالى أو جبرئيل عليه السلام على صورته الحقيقية ، روى مسلم في الإيمان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ) ولقد رآه نزلة أخرى ( ، قال : ( رآه بفؤاده مرتين ) وجعل ابن مرجان الإسراء مرتين : الأولى بالفؤاد مقدمة وهذه بالعين .
ولما كان ذلك لا يتأتي إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر ، عبر بقوله : ( نزلة ( وانتصب على الظرفية لأن الفعلة بمعنى المرة الأعلى ، وعين الوقت بتعين المكان فقال : ( عند سدرة المنتهى ) أي الشجرة التي هي كالسدر وينتهي إليها علم الخلائق وينتهي إليها ما يعرج من تحت وما ينزل من فوق ، فيتلقى هنالك ، وذلك - والله أعلم - ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل بعد الترقي في معراج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينهما من المسافات ، فانتهى إلى منتهى يسمع فيه صريف الأقلام ، وعظمها بقوله : ( عندها ) أي السدرة ) جنة المأوى ( الذي لا مأوى في الحقيقة غيره لأنه لا يوازي في عظمه ، (7/319)
صفحة رقم 320
وزاد في تعظيمها بقوله : ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) أي يغطيها ويركبها وسمره ؟ من فراش الذهب والرفرف الأخضر والملائكة والنبق وغير ذلك فإن الغشو النبق ) ما يغشى ( لا تحتملون وصفه وهو بحيث يكاد أن لا يحصى ، وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث : ( وغشيها ، ألا وإني لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها ) أو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأكد الرؤية وقررها مستأنفاً بقوله : ( ما زاغ ) أي ما مال أدنى ميل ) البصر ) أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه ، فما قصر عن النظر فيما أذن له فيه ولا زاد ) وما طغى ) أي تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم ، وفيه من العجائب ما يحير الناظر ، بل كانت له العفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل ، فأثبت ما رآه على حقيقته ، وكما قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه : وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية ، وهذه غامضة من غوامض الأدب ، اختص بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله ، زاد في تأكيده على وجه يعم غيره فقال : ( لقد رأى ) أي أبصر بسبب ما أهلناه له من الرسالة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر ) من آيات ربه ) أي المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده ، ومن ادعى ذلك فهو كافر ) الكبرى ( من ذلك ما رآه في السموات من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام إشارة بكل شيء إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة ، وقال الإمام أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف : والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير ، فإنه من علم النبوة ، وأهل التعبير يقولون : من رأى نبياً بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شده أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث ، وحديث الإسراء كان بمكة ، ومكة حرم الله وأمنه ، وقطانها جيران الله لأن فيها بيته ، فأول ما رأى ( صلى الله عليه وسلم ) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام آدم عليه الصلاة والسلام الذي كان في أمن الله وجواره ، فأخرجه إبليس عدوه منها ، وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته ، فكر به ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا قصة آدم عليه الصلاة والسلام مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم ، فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها ، كما قال الله تعالى ، ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام(7/320)
صفحة رقم 321
وهما الممتحنان باليهود ، أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله إليه ، وأما يحيى عليه السلام فقتلوه ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان ، وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه لقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى عليه السلام منهم ، ثم سموه في الشاة ولم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلنوا بابني الخالة يحيى وعيسى لأن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران أمهما جنة ، وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام ، وذلك أن يوسف ظفر بإخواته من بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال
77 ( ) لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ( ) 7
[ يوسف : 92 ] الآية ، وكذلك نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوهم فيهم عمه عقيل فمنهم من أطلق ، ومنهم من قبل أفديته ، ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم : ( أقول ما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم ) ثم لقاؤه إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم ، فكان ذلك مؤذناً بالحالة الرابعة وهو علو شأنه عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورأى ما رأى من خوف هرقل : لقد أُمِرَ ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر ، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك بني عمان ومنهم من هادئه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس ، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه ، فهذا مقام علي ، وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس عليه السلام ، ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون عليه السلام المحبب في قومه يؤذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بعضهم فيهن ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن بحالة تشبه حالة موسى عليه السلام حين أمر بغزو الشام ، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها ، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد هلاك عدوهم ، ولذلك غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً ، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ، ثم لقاؤه في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام لحكمتين : إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسنداً ظهره إليه ، والبيت المعمور جبال مكة ، وإليه تحج(7/321)
صفحة رقم 322
الملائكة كما أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة وإذن في الناس بالحج إليها ، والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجه إلى البيت الحرام ، وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ، ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة - انتهى .
وهذا المقام هو الإسراء وما تفرع منه الموصل إلى أعلى ما يكون من تجريد التوحيد ، فجعل سبحانه عنوانه المفروض فيه الحاجز بين الإسلام والشرك وهو الصلاة الجامعة لمعاني الدين الشاملة لجميع البركات بأن جعلت خمسين مستغرقة لجميع الفراغ ثم ردت إلى خمس دون القوى بكثير ثم رتب عليها جزاء الخمسين ورفع كل واحدة من صلاة الجماعة إلى سبع وعشرين صلاة وفضل صلاتي الطرفين : الصبح الثنائية والعصر الرباعية بشهادة فريقي الملائكة وكتبتهما في صحيفتي كل من الجمعين ، فقال حمزة الكرماني في جوامع التفسير : فأسري به في شهر ربيع الأول قبل الهجرة من بيت أم هانىء رضي الله عنها ، ثم ساق حديث الإسراء مساقاً عجيباً جداً طويلاً .
النجم : ( 19 - 22 ) أفرأيتم اللات والعزى
) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ( ( )
ولما أخبر سبحانه من استقامة طريق نبيه عليه الصلاة والسلام مما ثبتت رسالته بما أوحي إليه وما أراه من آياته التي ظهر بها استحقاقه سبحانه الإلهية متفرداً بها ، سبب عنه الإنكار عليهم في عبادة معبوداتهم على وجه دال على أنها لا تصلح لصالحة فقال : ( أفرأيتم ) أي أخبروني بسبب ما تلوت عليكم من هذه الآيات الباهرات .
هل رأيتم رؤية خبرة بالباطن والظاهر ) اللاّت ( وهو صنم ثقيف ) والعزى ( وهي شجرة لغطفان وهما أعظم أصنامهم فإنهم كانوا يحلفون بهما ) ومناة ( وهو صخرة لهذيل وخزاعة ، ودل على أنها عندهم بعدهما في الربوبية بقوله مشيراً بالتعدد بالتعبير عنه بما عبر به إلى أن شيئاً منها لا يصلح لصالحة حتى ولا أن يذكر : ( الثالثة الأخرى ) أي إنه ما كفاهم في خرق سياج منها العقل في مجرد تعديد الإله بجعله الاثنين حتى أضافوا ثالثاً أقروا بأنه متأخر الرتبة فكان الإله عندهم قد يكون سافلاً ويكون ملازماً للإنزال وللسفول بكونه أنثى ، قال الرازي في اللوامع : وأنثوا أسماءها تشبيهاً لها بالملائكة على زعمهم بأنها بنات الله - انتهى ، ولا شك عند من له أدنى معرفة بالفصاحة أن هذا الاستفهام الإنكاري والتعبير بما شأنهم بالولادة التي هي أحب الأشياء إلى الإنسان بل الحيوان لا يوافقه أن يقال بعده ما يقتضي مدحاً بوجه في الوجوه ، فتبين بطلان ما نقل نقلاً واهياً من أنه قيل حين قرئت هذه السورة في هذا المحل : تلك الغوانيق العلا - إلى آخره لعلم كل(7/322)
صفحة رقم 323
عربي أن ذلك غاية في الهذيان في هذا السياق ، فلا وصلة بهذا السياق المعجز بوجه .
ولما كان التقدير بما أفهمه السياق ، كيف ادعيتم أنها آلهة أهي كذلك مع أن عادتكم احتقار الإناث من أن تكون لكم أولاداً ، فكيف رضيتم أن تكون لكم آلهة ، وتكونوا لها عباداً مع أنها لم تنزل لكم وحياً ولا أرسلت لكم رسولاً ولا فعلت مع أحد منكم شيئاً مما كرمنا به عبدنا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أرتكم قط آية ولا هي متأهلة لشيء من ذلك ، بل لا تملك ضراً ولا نفعاً وادعيتم أنها بناته واستوطنها جنيات هي بناته وادعيتم مع ادعاء مطلق الوليدة لمن لا يلم به حاجة ولا شبه له أن له أردأ الصنفين ، فكان ذلك نقصاً مضموماً إلى نقص - وعلا سبحانه تعالى عن صاحبه أو ولد ، فاستحققتم بذلك الإنكار الشديد ، وعلم بهذا التقدير الذي هدى إليه السياق بطلان حديث الغرانيق ولا سيما مع تعقيبه بقوله : ( ألكم ) أي خاصة ) الذكر ) أي النوع الأعلى ) وله ) أي وحده ) الأنثى ) أي النوع الأسفل .
ولما كان الاستفهام إنكارياً رد الإنكار بقوله فذلكة لفعلهم : ( تلك ) أي هذه القسمة البعيدة عن الصواب ) إذاً ) أي إذ جعلتم البنات له والبنين لكم ) قسمة ضيزى ) أي جائرة ناقصة ظالمة فيما يحسن للحق للغاية عرجاء غير معتدلة حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : دل ذكر اسمها في أسلوب الإنكار على حذف إنكار كونها آلهة وإنكار تخصيصة بالإناث على حذف ما يدل على أنهم جعلوها بناته .
النجم : ( 23 - 28 ) إن هي إلا. .. . .
) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ( ( )
ولما أفهم هذا الإنكار بطلان قولهم هذا ، حصر القول الحق فيها فقال مستأنفاً : ( إن ) أي ما ) هي ) أي هذه الأصنام ) إلا أسماء ) أي لا حقائق لها ، فما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك إلا الأسماء ، وأكد ذلك بقوله مبيناً : ( سميتموها ) أي ابتدعتم تسميتها أنتم ، واجتث قولهم من أصله فقال : ( أنتم وآباؤكم ) أي لا غير بمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط كلمة تعتدونها ، وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين(7/323)
صفحة رقم 324
على ألسنتها فأي طريقة قويمة شرعت لكم وأي كلام مليح أو بليغ وصل إليكم وأي آية كبرى أرتكموها - انتهى .
ولما عمل بهذا أن الله تعالى لم يأمرهم بشيء من ذلك ، صرح به نافياً أن يدل على ما وسموه به دليل فقال : ( ما ( ولما قدم في الأعراف ترك النافي للتدريج لما تقدم بما اقتضاه ، فنى هنا الإفعال النافي لأصل الفعل سواء كان بالتدريج أو غيره لأن المفصل لباب القرآن فهو للمقاصد ، وذلك كاف في ذم الهوى الذي هو مقصود السورة فقال : ( أنزل الله ( الذي له جميع صفات الكمال ) بها ) أي بالاستحقاق للأسماء ولا لما وسمتموها به من الإلهية ، وأعرق في النفي بقوله : ( من سلطان ) أي حجة تصلح مسلطاً على ما يدعي فيها .
ولما كان هذا النفي المستغرق موجباً للخصم إيساع الحيلة في ذكر دليل على أي وجه كان ، وكان هؤلاء قد أبلسوا عند سماع هذا الكلام ولم يجدوا ما يقولون ولا يجدوا ، فكان من حقهم أن يرجعوا فلم يرجعوا ، أعرض عنهم إيذاناً بشديد الغبن قائلاً : ( إن ) أي ما ) يتبعون ) أي في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة ، وأنها تشفع لهم أو تقربهم من الله ) إلا الظن ) أي غاية أمرهم لمن يسحن الظن بهم ، فالظن ترجيح أحد الحائزين على رغم الظان .
ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال : ( وما تهوى الأنفس ) أي تشتهي ، وهي - لما لها من النقص - لا تشتهي أبداً إلا بما يهوي بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها ، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما تشوق إليها العقل ، قال القشيري : فالظن الجميل بالله فليس من هذا الباب ، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل ، إنما الظن المعلول في الله وصفاته وأحكامه .
) ولقد ) أي العجب أنهم يفعلون ذلك والحال أنه قد ) جاءهم من ربهم ) أي المحسن إليهم ) الهدى ) أي الكامل في بابه إلى الدين الحق الناطق بالكتاب الناطق بالصواب على لسان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، والرأي يقتضي أن من رأى الهدى تبعه ولو أتاه به عدوه ، فكيف إذا أتاه به من هو أفضل منه من عند من إحسانه لم ينقطع عنه قط .
ولما كان التقدير : أعليهم أن يتركوا أهويتهم ويهتدوا بهدى ربهم الذي لا ملك لهم معه ) أم ( لهم ما تمنوا - هكذا كان الأصل ، ولكنه ذكر الأصل الموجب لاتباع الهوى فقال : ( للإنسان ) أي جاه ومال وطول عمر ورفاهية عيش ومن كفره وعناده ، وقوله
77 ( ) لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ( ) 7
[ فصلت : 50 ](7/324)
صفحة رقم 325
ولما كان الاستفهام إنكارياً ، كان المعنى : ليس له ما تمنى ، وكان ذلك دليلاً قطعياً على أنه مربوب مقهور ممن له الأمر كله ، فسبب عنه قوله : ( فللّه ) أي الملك الأعظم وحده .
ولما كانت الأخرى دار اللذات وبلوغ جميع الأماني وحرمانها ، وكانوا يدعزون فيها على تقدير كونها جميع ما يتمنون من شفاعة آلهتهم وإجابتها إلى إسعادهم ونحو ذلك ، قدم قوله : ( الآخرة ( فهو لا يعطي الأماني فيها إلا لمن تبع هاده وخالف هواه ) والأولى ( فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ، فمن ترك هواه فيها نال أمانيه في الآخرة ، فلهذا قدمها لا للفاصلة فإنه لو قيل ( الأخرى ) لصلحت للفاصلة .
ولما كان التقدير : فكم من شخص ترونه في الأرض مع أنه في غاية المكنة فيما يظهر لكم لا يصل إلى ربع ما يتمناه ، عطف عليه قوله ، مظهراً لضخامة ملكه وأنه لا يبالي بأحد ، دالاً على الكثرة : ( وكم من ملك ) أي مقرب ، ودل على زيادة قربه بشرف مسكنه فقال : ( في السموات ) أي وهم في الكرامة والزلفى ) لا تغني ) أي لا تجزي وتسد وتكفي ، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة ، عبر بما يحتمل ذلك فقال : ( شفاعتهم ) أي عن أحد من الناس ) شيئاً ( فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله : ( إلا ( ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقاً فقال : ( من بعد أن يأذن ) أي يمكن ويريد ) الله ) أي الذي لا أمر لأحد أصلاً معه ، وعبر بأن والفعل دلالة على أنه لا عموم بعد الإذن بجميع الأوقات ، وإنما ذلك يجدد بعد تجدد الإذن على حينه وقبل الأمر الباب ؟ لعموم العظمة بقوله : ( لمن يشاء ) أي بتجدد تعلق مشيئته به لأن يكون مشفوعاً أو شافعاً .
ولما كان الملك قد يأذن في الشفاعة وهو كاره ، قال معلماً أنه ليس كأولئك : ( ويرضى ( فحينئذ تغني شفاعتهم إذا كانوا من المأذون لهم - كل هذا قطعاً لأطماعهم وعن قولهم بمجرد الهوى أي آلهتهم تشفع لهم .
ولما أخبر باتباعهم للهوى ونفى أن يكون لهم من ذلك ما يتمنونه دل على اتباعهم للهوى بقوله موضع ) أنهم ( : ( إن الذين ( وأكد تنبيهاً على أنه قول بالغ في العجب الغاية فلا يكاد يصدق أن عاقلاً بالآخرة يقوله بما جرى لهم على قولهم ذلك وأمثاله بقوله : ( لا يؤمنون ) أي لا يصدقون ولا هم يقرون ) بالآخرة ( ولذلك أكد قوله : ( ليسمون الملائكة ) أي كل واحد وهم رسل الله ) تسمية الأنثى ( بأن قالوا : هي بنات الله ، كما يقال في جنس الأنثى : بنات ) وما ) أي والحال أنهم ما ) لهم به ) أي بما سموهم به ، وأعرق في النفي بقوله : ( من علم ( ولما نفى علمهم شوف السامع إلى الحامل لهم على ذلك فقال : ( إن ) أي ما ) يتبعون ) أي بغاية ما يكون في ذلك وغيره ) إلا الظن ( .(7/325)
صفحة رقم 326
ولما كانوا كالقاطعين بأن ذلك ينفعهم ، أكد قوله : ( وإن الظن ) أي مطلقاً في هذا وغيره ، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ) لا يغني ( إغناءً مبتدئاً ) من الحق ) أي الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله ، والظن إنما يعبر به في العمليات لا العلميات ولا سيما الأصولية ) شيئاً ( من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين ، فإن المقصود بتحقق الأمر على ما هو عليه في الواقع ، وأما الفروع فإن المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه ، وهو رده إلى الأصول المستنبط منها لعجز الإنسان على القطع في جميع الفروع ، تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوته ليكشف له من الأحقاف .
النجم : ( 29 - 32 ) فأعرض عن من. .. . .
) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( ( )
ولما كانوا بعد مجيء الهدى قد أصبروا على الهوى ، وكانت هذه السورة في أوائل ما نزل ، والمؤمنون قليل ، سبب عن ذلك : ( فأعرضوا عن من تلوى ) أي كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة من ولى ) عن ذكرنا ) أي ذكره إيانا ، فأعرض عن الذكر الذي أنزلناه فلم ينله ولم يتدبر معانيه فلا يلتفت إلى شيء علمه فإنه مطموس على قلبه ولو كان ذهنه أرق من الشعر فإنه لا يؤول إلا إلى شر ) ) ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ( ) [ فاطر : 8 ] فإنه ما عليك إلا البلاغ .
ولما كان المعرض في وقت قد يقبل في آخر ، دل على دوامه على وجه بليغ بقوله : ( ولم يرد ) أي في وقت من الأوقات ) إلا الحياة الدنيا ) أي الحاضرة ليقصده بالمحسوسات كالبهائم في العمى عن دناءتها وحقارتها ، ثم ترجم جملتي الإعراض والإرادة بقوله : ( ذلك ) أي الأمر المتناهي في الجهل والقباحة ) مبلغهم ) أي نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم ، وتهكم بهم بقوله : ( من العلم ( أنه لا علم لهم لأن عيون بصائرهم عمي ، ومرائبها كثيفة مظلمة لا تكشف عن نظر الآخرة التي هي أصل العلوم كلها ، ثم علل هذه الجملة بقوله مؤكداً قطعاً لطمع من يظن أن وعظه وكلامه يرد أحداً من غيره وإن أبلغ في أمره ودعائه في سره وجهره ، وإعلاماً بأن(7/326)
صفحة رقم 327
ذلك إنما هو من الله ، فمن وعظ له سبحانه راجياً منه في إيمانه أوشك أن ينفع به كما فعل في وعظ مصعب بن عمير رضي الله عنه فصغى له أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في ساعة واحدة كما هو مشهور ) إن ربك ) أي المحسن إليك بالإرسال وغيره ) هو ) أي وحده ) أعلم بمن ضل عن سبيله ( ضلالاً مستمراً ، فلا تعلق أملك بأن يصل علمه إلى ما وراء الدنيا ، وعبر بالرب إِارة إلى أن ضلال هذا من الإحسان إليه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لودخل في دنيه لأفسد أكثر مما يصلح كما قال تعالى :
77 ( ) ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ( ) 7
[ التوبة : 47 ] وذلك لأنه جبل جبلة غير قابلة للخير ) أعلم بما اهتدى ) أي ظاهراً وباطناً .
ولما كان هذا ربما أوهم أن من ضل على هذه الحالة ليس في قبضه ، قال نافعاً لهذا الإبهام مبيناً أن له الأسماء الحسنى ومقتضياتها في العالم موضع ( والحال أنه له ) أو عطفاً على ما تقديره : فللّه من في السموات ومن في الأرض : ( ولله ) أي الملك الأعظم وحده ) ما في السموات ( من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السموات والأراضي ، فإن كل سماء في التي تليها ، والأرض في السماء ) وما في الأرض ( وكذلك الأراضي والكل في العرش وهو ذو العرش العظيم .
ولما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالإعراض عنهم وسلاه وأعلمه أن الكل في ملكه ، فلو شاء لهداهم ورفع النزاع ، ولكنه له في ذلك حكم تحار فيها الأفكار ، علل الإعراض كما تقدم في الجاثية في قوله :
77 ( ) قل للذين آمنوا يغفروا ( ) 7
[ الجاثية : 14 ] بقوله : ( ليجزي ) أي يعاقب هو سبحانه كافياً لك ما أهمك من ذلك ، ويجوز أن يكون التقدير : وكما أنه سبحانه مالك ذلك فهو ملكه ليحكم بجزاء كل على حسب ما يستحق ، فإن الحكم نيتجة الملك ) الذين أساؤوا ( بالضلال ) بما عملوا ) أي بسببه وبحسبه إما بواسطتك وبسيوفك وسيوف أتباعك إذا أذنت لكم في القتال ، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة ) ويجزي ) أي يثبت ويكرم ) الذين أحسنوا ) أي على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ) بالحسنى ) أي الثبوت الذي هو في غاية الحسن ما بعدها غاية ، فإن الحسنى تأنيث الأحسن .
ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان ، وصفهم فقال : ( الذين يجتنبون ) أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا ) كبائر الإثم ) أي ما عظم الشارع إثمه بعد الحريمه بالوعيد والحد ، وعطف على ) كبائر الإثم ( قوله : ( والفواحش ( والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه .(7/327)
صفحة رقم 328
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون كان مغفوراً له ، صرح به فقال : ( ألا ) أي لكن ) اللمم ( معفو ، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن ، فهو استثناء منقطع ، ولعله وضع فيه ) إلا ( موضع ) لكن ( إشارة إلى الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى
77 ( ) وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ( ) 7
[ النور : 15 ] واللمم هو صغار الذنوب ، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صحابه فلتة بغير اختيار منه ، لا ما يتخذ عادة أاو يكثر حتى يصير كالعادة ، قال الرازي في اللوامع : وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل ، قال ذو النون : ذكر الفاحشة من العارف كفلعها من غيره - انتهى .
يقال : وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه ، وقال البغوي : قال السدي : قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، قال : فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، ثم قال البغوي : فأصل الملم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه - انتهىا - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً .
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت ، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا ، علل ذلك بقوله : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك ) واسع المغفرة ( فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه ، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يدره أو اختلاله .
ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم ، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن ، قال نافياً لذلك : ( هو أعلم بكم ) أي بذواتكم وأحوالكم منك بأنفسكم ) إذ ) أي حين ) أنشاكم ( ابتداء ) من الأرض ( التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاءإبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح ) وإذ ) أي حين ) أنتم أجنة ) أي مستورون .
ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن ، حقق معناه بقوله : ( في بطون أمهاتكم ( بعد أن مزج بلك التراب البارد اليابس الماء والهواءن فنشأت الحرارة والرطوبة ، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية ، ولكن لا علم لكم أصلاً ، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم(7/328)
صفحة رقم 329
مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً .
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان ، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى ، سبب عن ذلك قوله : ( فلا تزكوا ) أي تمدحدوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة ) أنفسكم ) أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قال القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه ، وربما حصل له الأذى بسببه ( وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ) الحديث ، ولذلك علل بقوله : ( هو أعلم ) أي منكم ومن جميع الخلق ) بمن اتقى ) أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى ، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صار له التقوى وصفاً ثابتاً .
النجم : ( 33 - 38 ) أفرأيت الذي تولى
) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ( )
ولما أره سبحانه بالإعراض عمن تولى عن التشرف بذكر الملك الأعظم واللجاء إليه ، ونهى عن التزكية للجهل بالعواقب ، وكان قد ارتد ناس عن الإسلام ، كان سبب ارتدادهم إخباره ( صلى الله عليه وسلم ) عن بعض ما رأى من الآيات الكبرى ليلة الإسراء ، وكان لما نزلت عليه ( صلى الله عليه وسلم ) سجدة النجم وسجد فيها ( صلى الله عليه وسلم ) سجد معه - كما في البخاري - المسلمون والمشركون والجن والإنس ، ولم يكن في ظن أحد من الخلق انقلابهم على أدبارهم بعد حتى ولا في ظن المرتدين ، سبب عن ذلك قوله : ( أفرأيت ) أي أخبروني ) الذي تلّى ) أي عن ذكرنا عبد أن كان حريصاً عليه ، يظن هو وأهله أنه عريق في أهله بإيمانه وأعماله في أيام إيمانه ) وأعطى قليلاً وأكدى ) أي قطع ذلك العطاء على مكده وقلته وأبطله وأفسده فصار كالحافر الذي وصل في حفره إلى كدية ، يقال لحافر البئر : أجبل - إذا وصل إلى جبل ، وأكدى - إذا وصل إلى كدية أي صفاة عظيمة شديدة لا تعمل فيها المعاول ، فصار لا يقدر معها على شيء من علمه ، ولا يستطيع النفوذ فيها(7/329)
صفحة رقم 330
بشيء من حيله ، وقد كان قبل ذلك ما صادق التراب الليل يظن أنه لا يمنعه مانع مما يريد ، فهذا دليل خبري شهودي على أنه لا علم لأحد من الخلق بما حباه الله في نسه فضلاً عن غيره ، فلا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه ولا غيره ، قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة أسلم ثم ارتد لتعيير بعض المشركين له ، وقوله له ( ارجع وأنا أتحمل عنك العذاب ) وهي تصلح لكل من ارتد ظاهراً أو نافق أو انهمك في المعاصي بعد إيمانه معرضاً عن الأعمال الصالحة .
ولما كان هذا - وقد وقع في خطر عظيم من إفساد العمل في الماضي وتركه في المستقبل فصار على خطأ عظيم في أحدهما - يتعلق بأصل الدين : الكفر والإيمان ، وكان مثل هذا لا يفعله عاقل بنفسه إلا عن بصيرة ، قال تعالى موبخاً له مقرعاً : ( أعنده ) أي خاصة ) علم الغيب ) أي كله بحيث لا يشاركه في مشارك يمكن أن يخفى عليه شيء منه ) فهو ) أي فيتسبب عن ذلك أنه ) يرى ) أي الرؤية الكاملة فيعلم جميع ما ينفعه فيرتكبه وجميع ما يضره فيجتنبه ويعلم أن هذا القليل الذي أعطاه قد قبل وأمن به من العطب فاكتفى به .
ولما كان الغبي قد يظن أن عمل غيره ينفعه ، عبر عنه جامعاً للوعظ والتهويل بقوله : ( أم لم ينبأ ) أي يخبر إخباراً عظيماً متتابعاً ) بما في صحف موسى ) أي التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه وكذا ما يتبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها .
ولما قدم كتاب موسى عليه السلام لكونه أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس يمكن مراجعته ، قال : ( وإبراهيم ( ومدحه بقوله دالاً بتشديد الفعل على غاية الوفاء : ( الذي وفى ) أي أتم ما أمر به وما امتحن به وما قلق شيئاً من قلق ، وكان أول من هاجر قومه وصبر على حر ذبح الولد وكذا على حر النار ولم يستعن بمخلوق ، وخص هذين النبيين لأن المدعين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة عيسى عليه السلام ، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ، ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوة محققة ولا شريعة محفوظة ، ثم فسر الذي في الصحف أو استأنف بقوله : ( ألا تزر ) أي تأثم وتحمل ) وازرة ) أي نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة ) وزر أخرى ) أي حملها الثقيل من الإثم ، يعني فمن يحمل عنه أثم أحد الشقين الذي لزمه فلا بد أن يكون آثماً وهما قبل التولي وما بعده .
النجم : ( 39 - 48 ) وأن ليس للإنسان. .. . .
) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ(7/330)
صفحة رقم 331
الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) 73
( ) 71
ولما نفى أن يضره إثم غيره نفى أن ينفعه سعي غيره فقال : ( وأن ليس للإنسان ( كائناً من كان ) إلا ما سعى ( فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى ، ودعاء المؤمنين للمؤمن سعيه بمواددته لهم ولو بموافقته لهم في الدين وكذا الحج عنه والصدقة ونحوهما ، وأما الولد فواضح في ذلك ، وأما ما كان لسبب العلم ونحوهما فكذلك ، وتضحية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في عزامته أصل كبير في ذلك ، فإن من تبعه فقد وادده ، وهذا أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها .
ولما ثبت أنه ليس له ولا عليه إلا ما عمل ، وكان في الدنيا قد يفعل الشيء من الخير والشر ولا يراه من فعله لأجله ولا غيره نفى أن يكون الآخرة كذلك بقوله : ( وأن سعيه ) أي من خير وشر ) سوف ) أي من غير شك بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى .
ولما كان الاطلاع نفسه مرضياً أو مخزياً لا بالنسبة لأحد بعينه ، بناه للمجهول بقوله : ( يرى ( ولما كان المخوف منه المجاواة مطلقاً لا من مجاز معين قال : ( ثم يجزاه ( ولما كان في هذه الدار ربما وقعت المسامحة ببعض الأشياء والغفلة عن بعضها ، قال : ( الجزاء الأوفى ) أي الإثم الأكمل ، إن كان خيراً فمع المضاعفة ، وإن كان غيره فعلى السواء لمن أراد الله ذلك له ويعفو عن كثير ، لكنه تذكرة له .
ولما كانت رؤية الأعمال لا تقطع برؤية المتوكلين بها من الملائكة أو غيرها ممن أقامه الله لذلك ، وكان الرائي كلما كان أكثر كان الأمر أهول ، وكان رؤية الملك الأعظم أخوف ، قال عاطفاً على ) لا تزر ( مبيناً بحروف الغاية أن الرائين للأعمال كثير لكثرة جنوده سبحانه : ( وأن إلى ربك ) أي المحسن إليك لا غيره ) المنتهى ) أي الانتهاء برجوع الخلائق حساً بالبعث ومعنى بالعمل والعلم ، وإسناد الأمور وإرسال الآمال ، ومكان رجوعهم وزمانه كما كان منه المبتدأ ، أكد ذلك خلقاً لذلك كله وحساباً عليه ، روي البغوي من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال ( لا فكرة في الرب ) قال : ومثل هذا ما روي عن أبي هريرة رضي(7/331)
صفحة رقم 332
الله عنه مرفوعاً : ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنه لا يحيط به الفكرة ) ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( ا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره ) ، هذا هو المراد وهو واضح ، فمن أول الآية باتحاد أو غير ذلك من الأغلحاد فعليه لعنة الله وعلى الذاب عنه والساكت عنه .
ولما ذكر تعالى الأمور الاختيارية وقدمها لأنها محط للبلاء وسلب علمها عن أصحابها ، وحذر من عاقبتها بإحاطته بكل شيء ، وكان معنى ذلك أنه القادر على غيره والعالم لا غيره ، عطف عليه قوله ذاكراً للأمور الاضطرارية التي هي في غاية التنافي إكمالاً للدليل على أنه يعلم ما في النفوس دون أصحابها وغيرهم وأنه إليه المنتهى إعادة وإبداء ، يوقف ما يشاء على ما يريد من الأسباب التي تفعل بإذنه من الضحك أو الكباء وغيرهما من الأمور المنافية التي لولا الإلف لها لقضى الإنسان أن المتلبس بأحدهما لا يتلبس بضده أصلاً من غيرها ) وأنه ( ولما كانت التأثيرات الإدراكية تحال على أسبابها ، أكد الكلام فيها فقال : ( هو ) أي لا غيره ) أضحك وأبكى ) أي ولا يعلم أحد قبل وقت الضحك أو البكاء أنه يضحك أو يبكي ولا أنه يأتيه ما يعجبه أو يحزنه ، ولو قيل له حالة الضحك أنه بعد ساعة يبكي لأنكر ذلك ، وربما أدركه ما أبكاه وهو في الضحك وبالعكس .
ولما كانت الإماتة والإحياء أعظم تنافياً بما مضى ، فكانت القدرة على إيجادها في السخص الواحد أعظم ما يكون ، وكان ربما نسب إلى من قتل داوى من مرض أو أطلق من وجب قتله ، أكد فقال : ( وأنه هو ) أي لا غيره .
ولما كان الإلباس في الموت أكبرن وكان الموت انسب للبكاء ، والإحياء أنسب للضحك ، وكان طريق النشر المشوش أفصح ، قدمه فقال : ( أمات وأحيا ( وإن رأيتم أسباباً ظاهرية فإنه لا عبرة بها أصلاً في نفس الأمر بل هو الذي خلقها .
ولما كان ذكر الإحياء ، وكان تصنيف الولد إلى نوعيه ظاهراً في اختصاصه ، بل وهو في غاية التعذر على من سواه ، أعراه عن مثل التأكيد في الذي قبله فقال : ( وأنه خلق الزوجين ( ثم فسرها بقوله : ( الذكر والأنثى ( فإنه لو كان ذلك في غيره لمنع(7/332)
صفحة رقم 333
البنات لأنها مكروهة لكل أحد ، ثم ذكر ما يظهر ولا بد أنه من صنعه فتسبب أن مادة الاثنين واحدة وهو الماء الذي هو أشد الأشياء امتزاجاً فقال : ( من نطفة ( وصور كونها منها بقوله : ( إذا تمنى ) أي تراق وتدفق بالفعل لا قبل ذلك ليمكن فيه طعن بأنه كان بدءاً أو غيره بل أنتم تعلمون أنه لا يخلق الولد إلا بعد الإمناء بالفعل ، وخرج أصله ما يمكن خلقاً من خلق الله أن يعرف بمجرد رؤيته أهو صالح للأنثى فقط أو للذكر فقط أو لهما أو للأشكال بالخنوثة .
ولما ساق هذه الأشياء دليلاً على إحاطة علمه فلزمها أن دلت على تمام قدرته ، وختمها بالنشأة الأولى فلزم من ذلك الإقرار حتماً بأنه قادر على البعث ، عبر بما يتقضي أنه لما تقدم به وعده على جميع ألسنة رسله صار واجباً عليه بمعنى أنه لا بد من كونه لأنه لا يبدل القول لديه ، لا غير ذلك ، فعبر بحرف الاستعلاء تأكيداً له رداً لإنكارهم إياه فقال : ( وأن عليه ) أي خاصاً به علماً وقدرة ) النشأة ) أي الحياة وهو ممدود لابن كثير وأبي عمرو ومقصور لغيرهما مصدر نشأ - إذا حنى وربى وسن ) الأخرى ) أي التي الاختيارية والاضطرارية له بكل الأمرين لسبب وكان مقسوماً بين الإناث والذكور بحكمة كالمعترض إنما أوجب ذكر النشأة الأولى ، تعقب ذكرهما به وكان ذكر الغنى مع أنه يدل على الفقر أليق بالامتنان ، والنسبة إلى الرب ، وكان الغنى الحقيقي إنما يكون في تلك الدار ، أخر ذكره فقال : ( وأنه ( ولما كان ربما نسب إلى السعي وغيره ، أكد بالفعل في الحقيقة إنما هو غنى النفس ، وهو رضاها بما قسم لها وسكونها وطمأنينتها ، وإنما الله به فهو غني ، وهو في الجنانة مغني وإن كان في الدنيا ) وأقنى ) أي أمكن من المال وأرضى بجميع الأحوال قال البغوي : أعطى أصول المال وما يدخر بعد الكفاية ، قال : وقال الأخفش أقنى أفقر - انته .
ونقل الأصبهاني مثله عن أبي زيد ، فتكون الهمزة للإزالة ويقال ، أفناه بكذا أرضاه ، وأقناه الصد : أمكنه منه .
النجم : ( 49 - 52 ) وأنه هو رب. .. . .
) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( ( )
ولما كانت الشعرى لأنها تقطع السماء عرضاً أدل النجوم بعد تمام القدرة على الفعل بالاختيار مع أنا مما دخل تحت ذلك الجنس المقسم به أول السورة ، وهي(7/333)
صفحة رقم 334
لمرورها في سيرها عرضاً على جميع المنازل التي كانت العرب تستمطر بها وتنسب بالإتيان بالحد الموجب للغنى إليها كانت قد عبها من دون الله أبو كبشة الخزاعي لكونها عنده أجل الكواكب ، قال تعالى دالاً بالتأكيد على سفاهة من عبدها : ( وأنه هو ) أي لا غيره ) رب الشعرى ) أي الكاملة في معناها وهي العبور ، وأهل علم النجوم يقولون ، إن الأحكام النجومية المنسوبة إليها أصح ما ينسب إلى العالم العلوي ، وهي نجم يضيء خلف الجوزاء ، ويسمى كلب الجبال ، وسميت الجوزاء بالجبار تشبيهاً لها بملك على كرسيه وعلى رأسه تاج ، وقال الرازي في اللوامع : هي أحد كوكبي ذراعي الأسد ، وقال ابن القاص في كتاب دلائل القبلة : وترى عند صلاة الصبح نيرة زائداً نورها على نور سائر الكواكب حولها ، وقد طمس الصبح نور سائر الكواكب ، وأما الشعرى الأخرى فهي الغميصاء - بالغين المعجمة والصاد المهملة - فهي أقل نوراً منها ، ولذلك سميت الغميصاء ، وقال القزازم في جامعه : وقيل : بكت على أختها فغمصت عينها ، أي غارت وذهبت .
ولما دل سبحانه على كمال علمه وشمول قدرته بأمور الخافقين : العلوي والسفلي ، فكان ذلك داعياً إلى الإقبال على ما يرضيه ، وناهياً عن الإلمام بما يسخطه ، شرع في التهديد لمن وقف عن ذلك بما وقع في مصارع الأولين من عجائب قدرته فقال : ( وأنه أهلك عاداً ( ولم يأت بضمير الفصل لأنه لم يدع في أحد غيره إهلاكهم ، وهول أمرهم بقوله : ( الأولى ) أي القدماء في الزمان جداً دلالة على أنه المنصرف في جميع الأزمنة ، وقدمهم لأن الشر أتاهم من حيث ظنوه خيراً وجزموا بأنه من الأنواء النافعة التي كانت عادتهم استمطارها ، وقيل : إن عاداً قبيلتان : والأولى قوم هود عليه السلام والأخرى إرم ذات العماد - قاله جماعة منهم القشيري ، قال البغوي : وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى ، وقال ابن جرير : وعاداً الأولى هم الذين عنى الله بقوله
77 ( ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ( ) 7
[ الفجر : 6 - 7 ] وإنما قيل لهم عاداً الأولى لأن بني لقيم بن هزال هزيل بن عنبل بن عاد كانوا أيأم أرسل الله على هؤلاء عذابه سكاناً بمكة مع إخوانهم من العمالقة ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن وح عليه السلام فلم يصبهم من العذاب ما أصاب قومه وهم عاد الأخرى ، ثم هلكوا بعد بغي بعضنهم على بعض فتانوا ، وقال غير ابن جرير : إن إرم هم عاد الأخرى ، وعطف عليهم قوله : ( وثموداً ) أي أهلكهم ثم سبب عن الإهلاك قوله : ( فما أبقى ) أي من الفريقين أحداً ، ومن قال : إن عاداً قبيلتان جعل عدم الإبقاء خاصاً بثمود ، وقراءة عاصم وحمزة ويعقوب بمنع الصرف نص في أنه قوم صالح عليه السلام ، وقراءة الباقين بالصرف أنسب للأهلاك والإعدام .(7/334)
صفحة رقم 335
ولما قدم من كان إهلاكهم بنفس الريح التي هي مبدأ الأمطار الآتية لهم في السحاب ، وأتبعهم من إهلاكهم بها بحملها للصيحة إرجافها بهم ، أتبعهم من كان إهلاكهم بالماء الذي هو غاية السحاب فقال : ( وقوم نوح ) أي أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب ، ولما كان إهلاكهم في بعض لزمان الماضي قال : ( من قبل ) أي قبل الفريقين فصار في الكلام تهويلان يهزان القلب ويفعلان في النفس وصف هؤلاء بالقبيلتين وأولئك بالأولى ، ولوا تقدميهم ما كان هذا ، وعلل هلاكه بما يؤذن أنه لا فرق عنده بين قوي وضعيف وقليل وكثير مؤكداً لان ما اشتهر من طغيان عاد يوجب أنهم أطعى الناس : ( إنهم كانوا ) أي بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبال التي لا انفكاك عنها ) هم ) أي خاصة ) أظلم ( من الطائفتين المذكورتين ) وأطغى ) أي وأشد تجاوزاً في الظلم وعلواً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتواً لتمادي دعوة نوح عليه السلام ولأنهم أطول أعماراً وأشد أبداناً ، وكانوا مع ذلك ملء الأرض ، ويجوز أن يكون الضمير للفرق الثلاثة .
النجم : ( 53 - 62 ) والمؤتفكة أهوى
) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُوْلَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ( ( )
ولما ذكر الهلاك بالريح الاصفة الناشئة عنها ثم بالماء الناشئ عن السحاب الناشئ عن الريح ، ذكر الإهلاك بالريح والنار والماء إعلاماً بأنه الفاعل وحده بما أراد من العذاب من العناصر التي سبب الحياة مجتمعة ومنفردة ، فقال مقدماً عن العامل إعلاماً بالتخصيص بما ذكر من العذاب إفادة فإنه تعالى قادر على كل شيء فلم يعذب فرقة بما عذب به الأخرى : ( والمؤتفكة ) أي المدن المقلبة عن وجوهها إلى أقفائها بقدرة جعلتها من شدتها وعظمتها كأنها انقلبت نفسها من غير قالب وذلك أنه سبحانه فتقها من الأرض ففتقها ثم دفعها في الهواء إلى عنان السماء ثم قلبها وأتبعها حجارة النار الكبريتية وغمرها بالماء الذي لا يشبه شيء من مياه الدنيا ، ولذلك قال : ( أهوى ) أي رفع وحط وأنزلن فكان الإنزال إهواءً حقيقياً ، والرفع مجازياً لأنه سببه وهي مدن قوم لوط عليه السلام ، وأشار إلى الحجارة والماء بقوله مسبباً عن الإهواء ومعاقباً له : ( فغشاها ) أي أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء ، وهولها بقوله : ( ما غشى ) أي أمراً عظيماً من الحجارة وغيرها لا يسع العقول وصفه ، وقد اشتمل ما ذكره سبحانه من الصحف على بيان ما ينفع من الأعمال وما يضر وبيان التوحيد باحاطة الله سبحانه بالنهايات التي لا نهاية بعدها علماً وقدرة لاختصاصه ببيان المصنوعات(7/335)
صفحة رقم 336
وببيان البعث للتخويف بالآجل وإهلاك المرتدين للتخويف بالعاجل لمن كان قلبه جافياً عن النفوذ إلى الآجل .
ولما أهلك كل واحدة من هذه الفرقة فلم يبق من فجارها أحد ، وأنجى من أطاعه منهم فمل يهلك منهم أحد ، وكان إهلاكه لكل منها بشيء غير ما هلك به الفريق الآخر ، فدل كل من ذلك على تمام علمه وكمال قدرته ، وكان كمل ما تقدم في هذه السورة من النعم والنقم لكونه كان أتم أوجه الحكم نعمة على كل مؤمن لما فيها من الترغيب في ثوابه والترهيب من عقابه ، خاطب سبحانه رأس المؤمنين لأن خطابه له أشد في تذكير غيره فقال مسبباً عما مضى : ( فبأيّ آلاء ربك ) أي عطية المحسن إليك التي هي وجه الإنعام والإكرام وهي إشارة المعرفة به سباحنه بمنزلة ظل الشخص من الشخص كما أنه لايتصور ظل إلا لشخص فكذلك فعل الفاعل ولا أثر للمؤثر ) تتمارى ) أي تشك بإجالة الخواطر في فكرك في إراذة هداية قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك وقدحكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته ، وكان بعض خطرك في تلك الإجالة يشكك بعضاً ، ولما تم الكلام على هذا المنهاج البديع والنط الرفيع في حسان البيان للمواعظ والشرع والقصص القديمة والإنذار العظيم التام على وجه معجز من وجوه شتى ، أنتج قوله مرغباً مرهباً خاتماً السورة بما بدأ هنا به من ذكره ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا ( النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) نذير ) أي محذر بليغ التحذير ، ولما كانت الرسل الماضون عليهم الصلاة والسلام قد تقررت رسالتهم في النفوس وسكنت إليها القلوب ، بحيث أنه لا يسع إنكارها ، فكان قد أخبر عن إنكار من كذبهم لأجل تكذيبهم ، وإنجائهم وإنجاء من صدقهم لأجل نصرتهم ، وكان لا فرق بينه ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم في ذلك إلا أن الرحمة به أبلغ وأغلب ، مرعباً في اتباعه مرهباً من نزاعه ، قال : ( من النذر الأولى ( يجب له ما وجب لهم وأنتم كالمنذرين الأولي ، فاحذروا ما حل بالمكذبين منهم وارجوا ما كان للمصدقين .
ولما كان كل آت قريباً ، وكانت الساعة - وهي ما أنذر به من القيامة ومما دونها - لا بد من إتيانها لما وقع من الوعد الصادق به المتحف بالدلائل التي لا تقبل شكاً بوجه من الوجوه ، فكان باعتبار ذلك لا شيء أقرب منها ، قال دالاً على ذلك بصيغة الماضي الذي قد تحقق وقوعه وباشتقاق الواقع الفاعل مما منه الفعل : ( أزفت الآزفة ) أي دنت الساعة الدانية في نفسها التي وصفت لكم بالفعل بالقرب غير مرة لأنها محط الحكمة وإظهار العظمة ، وما خلق الخلق إلا لأجلها ، المشتملة على الضيق وسوء العيش من القيامة ، وكل ما وعدتموه في الدنيا مما يكون به ظهور هذا الدين وقمع(7/336)
صفحة رقم 337
المفسدين زولما ضاق الخناق من ذكرها على هذا الوجه ، تشوف السامع إلى دفعها ، فاستأنف قوله : ( ليس لها ( واستدرك بقوله : ( من دون الله ) أي من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) كاشفة ) أي كاشف يوجدها ويقيمها ويجلي علمها ، أو يدفع كربها وهمها وإن بالغ في الكشف وبذلك الجهد فيه ، فالهاء للمبالغة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالجاثية والكاذبة والباقية فيكون الهاء للتأنيث .
ولما أفهم هذا أن الله يكشفها أي يكشف كربها ممن يريد من عباده ويثقله على من يشاء ، ويكشف علمها بإقامتها ، ولا حيلة لغيره في شيء من ذلك بوجه ، سبب عنه وعما تقدمه من الإنذار قوله منكراً موبخاً ، ) أفمن هذا الحديث ) أي القول العظيم الذي يأتيكم على سبيل الاتجدد بحسب الوقائع والحاجات ) تعجبون ( إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب .
ولما كان المعجب قد يمسك نفسه عن الضحك ، بين أنهم ليسوا كذلك فقال : ( وتضحكون ) أي استهزواء تجددون ذلك في كل وقت مبتدأ ضحككم منه وهو بعيد من ذلك ، ولما كان إنما يورث الحزن بكونه نزل بالحزن قال : ( ولا تبكون ) أي كما هو حق من يسمعه .
ولما كان البكاء قد يكون على التقصير في العمل ، بين أن الأمر أخطر من ذلك فقال : ( وأنتم ) أي والحال أنكم في حال بكائكم ) سامدون ) أي دائبون في العمل جاهدون في العمل ، فإن الأمر جد ، فالدأب في العمل والجد فيه حينئذ عل للبكاء ، فكأنه قيل : ولا تدأبون في العمل فتبكون ، وإنما قلت ذلك لأن ( سمد ) معناه دأب في العمل ورفع رأسه تكبراً وعلاً ، وسمد الإبل : جد في السير ، وسار سيراً شديداً ، واسمادّ : ورم ، وسمد : قام متحيراً وحزن وسر وغفل ولهاً وقام وحصل ونام واهتم وتكبر وتحير وبطر وأشر ، وسمد الأرض : سهلها ، وأيضاً جعل فيها السماد ، أي السرقين ، والشعر : استأصله ، وهو لك سمداً أي سرمداً ، والسميد : الحواري ، ذكر ذلك مبسوطاً القزاز في جامعه وصاحب القاموس .
فالمادة كما ترى تدور على انتشارها على الدأب في العمل فتارة بذكر مبدئه الباعث عليه ، وتارة الناشئ عنه ، وتارة ما بينهما ، وهو الجد في العمل ، فينطلق الاسم على كل من ذلك تارة حقيقة ومرة بمجاز الأول ، وأخرى بمجاز الكون ، فالقصد باعث ، وكذا الاهتمام والقيام ورفع الرأس ناشئان عنهما ، وذلك أوله ، والسدم بمعنى احرص والهم واللهج بالشي ، والسديم : الضباب الرقيق ، هو مبدأ الكشف ، والمسدم : البعير المهمل وما دبر ظهره ، كأنه من الإزالة ، وركية سدم : متدفقة - للمعالجة في فتحها ، ولأن تدفقها دأب في العمل ، وكذا(7/337)
صفحة رقم 338
سدم الباب أي ردمه ، والدسم : الودك ، لأنه منشط على العمل ومنشأ منه ، والوضر والدنس ، ودسم المطر الأرض : بلها قليلاً ، لأنه مبدأ الكثير ، والقارورة : سدها ، والباب : أغلقه ، لأنه يعالج في فتحه ، والدسمة : غبرة إلى السواد - كأنه مبدأ السواد والدسيم لما لم يكن أبواه من نوع واحد - كأنه مبدا لكل نوع منهما ولأنه يلزم الخلط في العادة العلاج ، ومنه الدسمة للرديء من الرجال - كأنه لم يكمل فيه النوع ، ولأن نقص الشيء عن عادته يلزمه العلاج والفعل بالاختيار ، والديسم : الرفيق بالعمل المشفق ، وأنا على دسم من الأمر أي طرف منه ، والمسد - محركة : المحور من الحديد ، لأنه آلة الفتل ، وحبل من الليف أو ليف المقل لأنه محل الدأب ، والمساد : نحى السمن ، ودمسه : دفنه ، يصلح ان يكون مبدأ ومقصداً ، ومنه دمس بينهم : أصلح لأنه دفن أحقادهم وعالج في ذلك ، والدمس : إخفاء الشيء والظلام ، لأنه منشئ التعب ، ودمس الموضع : درس - للتعب في معرفته ، ودمس الإهاب : غطاه فيمشط شعره ، والدمس : الشخص ، وبالتحريك : ما غطى ، والدودمس بالضم : حية مجر نفشة الغلاصيم تنفخ فتحرق ما أصابت بنفخها ، ومن آثاره النشئة عن الورم ، وكذ القيام متحيراً والغفلة والسرور والحزن واللهو والنوم والكبر والتبختر والعلو والعتا ، والسميد أي الحواري ، والسمد بمعنىن السرمد : والسمد : الهم مع ندم أو الغيظ مع حزن ، والديماس : الكن ، وما بين ذلك سصمد الأرض والشعر والسير الشديد والجد فيه ، وهو نفس الدأب ، وكذا السديم للكثير الذكر ، وماء مسدم وعاشق مسدم : شديد العشق ، والدسيم : ظلمة السواد ، والدسيم ، الكثير الذكر ، ودسم البعير : طلاه بالحناء - والمسد : إداب السير - وبالتحريك : المضفور المحكزم الفتل ، ورجل ممسود : مجدول الخلق - شبه به - وهي بها ، ودمس بينهم : أصلح ، وهو من الدفن أيضاً لأنه دفن أحقادهم فنبين أن جعل السمود في الآية بمعنى الدأب في العمل هو الأولى ، وأن كون الجملة حالاً من جعلها معطوفة على ) تضحكون ( - انتهى والله أعلم .
ولما حث على السمود ، فسره مسبباً عن الاستفهام ومدخوله قوله : ( فاسجدوا ) أي اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود الذي في الصلاة ) لله ) أي الملك الأعظم ) واعبدوا ) أي بكل أنواع العبادة فإنه ) ما ضل صاحبكم ( عن الأمر بذلك ) وما غوى ( قال الرازي في اللوامع : قال الإمام محمد بن علي الترمذي : تعبدنا ربنا مخلصين أن نكون له كالعبيد وأن يكون لعبيده كما هو لهم - انتهى ، ولو كان السمود بمعنى اللهو كان الأنسب تقدميه على ) تبكون ( - والله أعلم ، وقد ظهر أن آخرها نتيجة أولها ، ومفصلها ثمرة موصلها - والله الهادي .
.. .(7/338)
صفحة رقم 339
سورة القمر
مقصودها بيان آخر النجم في أمر الساعة من تحققها وشدة قربها وتصنيفرآن والضحك والبكاء والعمل - إلى طالب علم مهتد به ، وإلى متبع نفسه هواها وشهواتها ضال بإهمالها فهو خائب ، وذلك لأنه سبحانه وعد بذلك بإخبار نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وتحقق صدقه بما أيده به من آياته التي ثبت بها اقتداره على ما يريد من الإيجاد الإعدام ، فثبت تفرده بالملك وأيد اقترابها بالتاثير في آية الليل بما يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك. .. فإن ذلك. .. بأنه ما بقي يدل على الاقتدار على نقض السماوات المستلزم لإهلاك. . فإن ذلك. .. بأنه ما بقي إلا تأثير آية النهار وعندما يكون طي الانتشار وعموم البوار المؤذن بالإحضار لدى الواحد القهار ، وأدل ما فيها على هذا الغرض كله أول آياتها ، فلذلك سميت بما تضمنته من الاقتراب المنجم به النجم بالإشارة لا بالعبارة ، ولم تسم بالانشقاق لأنه إذا أطلق انصرف إلى الأتم ، فالسماء أحق به ) بسم الله ( الذي أحاط علمه فتمت قدرته ) الرحمن ( الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد ) الرحيم ( الذي خص بإتمام النعمة من اصطفاه فأسعدتهم رحمته .
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق. .. . .
) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( ( )
لما ختمت النجم بالتهديد باقتراب القيامة التي ينكرونها بعد أن فتحها بالأقسام البلس ( ؟ ) ف يالنجم الذي هو أعم من القمر وغيره بتسييره طلوعاً وأفولاً وصعوداً وهبوطاً ، اففتح هذه بذلك مع الدلالة عليه عقلاً وسمعاً في التأثير في أعظم آيات الله وغير ذلك ليقطع العباد عن الفساد ، ويستعدوا لها قبل مجيئها أحسن استعداد ، فقال دالا على عظيم اقتداره عليها بتأنيث فعلها : ( اقتربت الساعة ( اشتدت قرباً الساعة : اللحظة التي لا ساعة في الحقيقة غيرها التي تقوم فيها القيامة لأنه قل ما بقي بيننا وبينها بالنسبة إلى ما مضى من زمن آدم عليه السلام لبعث خاتم الأنبياء الذي لم يبق بعد أمته أمة تنتظر ، فيكون في الزمان مهلة لذلك .(7/339)
صفحة رقم 340
ولما كان الإخبار باقترابها يحتاج عند المعاند غلى آية دالة عليه ، وكانت الآيات السماوية أعظم ، فاتأثير فيها أدل على تمام الاقتدار ، وكان المر أدل على الأنواء التي بها منافع الخلق في معاشهم ، وكانت العرب أعرف الناس بها ، دلهم على التأثير فيه على اقترابها مع الإرهاب من شدائد العذاب بإعدام الأسباب فقال : ( وانشق ( بغاية السرعة والسهولة ) القمر ( آية للرسول المنذر لكم بها ، كفان انشقاقه - مع الدلالة على ذلك بإعجاز القرآن وغيره - دالاً على كونها وقربها أيضاً بالتأثير العظيم الخارق لعادة ما قبله من التأثير في أحد النيرين اللذين هما أعظم الأسباب المقامة للمعايش الدال على القدرة على التأثير في الآخرة الدال ذلك على القدرة على تمام التصرف فيهما من جمعهما وخسفهما واعتدامهما ولسببهما ( ؟ ) الذي هو من أسباب خراب الأرض ، يقول الإنسان عنده : أين المفر ؟ المؤذن بطيّ العالم المعلم بأن له رباً فاعلاً بالاختيار مدبراً بالحكم الدال على بعث عباده ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، فيثيب من تابع رسله ويعاقب من خالفهم ، وانشقاق القمر على حقيقيته في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر شهير جداً ، وإجماع أهل التفسير عليه كما قاله القشيري ، وقال : رواه ابن مسعود رضي الله عنده ولا مخالف له فيه - انتهى .
وذلك أن قريشاً سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يريهم آية ( فأراهم انشاق القمر بحيث طلعت فرقة عن يمين حراء وأخرى عن يساره ) - رواه الشيخان عن ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الأمة تلقت كتابيهما بالقبول فهو يكاد يلحق بالمتواتر وقد أيده القرآن فمل يبق فيه شك ، قال القشيري : سبب نزولها أن مشركي العرب من قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن كنت صادقاً فشق - انتهى ، ومن قال : المراد به ( سيشق ) يحتاج في صرف الماضي عن حقيقته إلى المستقبل إلى صارف وأنى له ذلك ولا سميا وقد تأيدت الحقيقة بالنسبة الصحيحة الشهيرة .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى ، وأن عليه النشأة الأخرى ، وإذا ذاك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت ، أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه للازدجار فقال تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ( ثم إن سورة ص تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها ، وبعد التنبيه في السورة قبلها والتحريك(7/340)
صفحة رقم 341
بآيات لا يتوقف علنها إلا من أضله الله وخذله ، وأثبتت السورة بعد على تمهدي ما تضمنته سورة ص فلم يخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم لقوله في الزمر
77 ( ) والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( ) 7
[ الزمر : 3 ] وقوله :
77 ( ) لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء ( ) 7
[ الزمر : 4 ] وقوله :
77 ( ) قل الله أبعد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ( ) 7
[ الزمر : 14 ] وقوله مثلاً لحالهم :
77 ( ) ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ( ) 7
[ الزمر : 29 ] الآية إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ ، وقوله في سورة غافر :
77 ( ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( ) 7
) غافر : 4 ] وقوله :
77 ( ) ذلكم بأنه إذ دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله ( ) 7
[ غافر : 12 ] وقوله :
77 ( ) أفلم يسيروا في الأرض ( ) 7
[ غافر : 21 - 82 ] الآية ، وقوله :
77 ( ) ببالغيه ( ) 7
[ غافر : 56 ] وقوله :
77 ( ) ألم تر إلى الذين يجادلون في أيات الله أنى يصرفون ( ) 7
[ غافر : 69 ] ) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعملون ( إلى قوله :
77 ( ) فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( ) 7
[ غافر : 77 ] وقوله :
77 ( ) أو لم يسيروا في الأرض ( ) 7
[ غافر : 82 ] إلى ما تخلل هذه الآيات ، وقوله في فصلت
77 ( ) فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة ( ) 7
[ فصلت : 5 ]
77 ( ) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( ) 7
[ فصلت : 26 ]
77 ( ) إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ( ) 7
[ فصلت : 40 - 44 ] إلى قوله :
77 ( ) أولئك ينادون من مكان بعيد ( ) 7
[ فصليت : 40 - 44 ] وقوله :
77 ( ) سنريهم آيتانا في الآفاق وفي أنفسهم ( ) 7
[ فصلت : 53 ] إلى آخر السورة ، وقوله في الشورى :
77 ( ) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ( ) 7
[ الشورى : 6 ]
77 ( ) كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ( ) 7
[ الشورى : 13 ] الآية
77 ( ) أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدني ما لم يأذن به الله ( ) 7
[ الشورى : 21 ] الآية
77 ( ) فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ ( ) 7
[ الشورى : 48 ] وقوله في الزخرف :
77 ( ) أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ( ) 7
[ الزخرف : 5 ] الآية ،
77 ( ) وجعلوا له من عباده جزءاً ( ) 7
[ الزخرف : 15 ] إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع ، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها مثل قوله تعالى في الدخان ) بل هم في شك يلعبون ( إلى قوله :
77 ( ) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ( ) 7
[ الدخان : 9 - 16 ] وقوله : ( إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ( إلى قوله هذا
77 ( ) ما كنتم به تمترون ( ) 7
[ الدخان : 40 - 50 ] وقوله في الجاثية : ( فبأيّ حديث بعده يؤمنون ( إلى قوله :
77 ( ) والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب(7/341)
صفحة رقم 342
من رجز أليم ( ) 7
[ الأعراف : 185 - 162 ] وقوله :
77 ( ) أفرءيت من اتخذ إلهه هواه ( ) 7
[ الجاثية : 23 ] إلى آخر السورة ، وقوله في الأحقاف :
77 ( ) والذين كفروا عما أنذروا معرضون ( ) 7
[ الاحقاف : 3 ] ومعظم هذه الآية لم يخرج عن هذا إلى ختامها ، وكذلك سورة القتال ولم يتضمن إلا الأمر مقتلهم وأسرهم وتجعيل حربهم
77 ( ) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ( ) 7
[ محمد : 4 ] وأما سورة الفتح فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به ، ولم تخرج عن الغرض المتقدم ، وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتقدير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضاً من إتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم ، وموقع هذا لا يخفى على أحد ، وأما سورة الذاريات والطور والنجم فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء ، وبذلك افتتحت كل سورة منها فتأمل مطالعها ففي ذلك كفاية في الغرض - والله تعالى هو أعمل بالصواب ، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبلغت الآي في هذه السورة من ذلك أقصى غاية ، وتمحض باطلهم وانقطع دابرهم ، ولم يحيروا جواباً فيما عرض عليهم سبحانه في سورة القمر من أحوال الأمم مع أنبيائهم ، وكان القصد من ذلك - والله أعلم - مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذنا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم ، فهذه اسورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر ، ولهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله تعالى : ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدر حكمة بالغة فما تغن النذر ( وختمها سبحانه بقوله : ( أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر ( وهذا يبين ما قدمنا وكان قد قيل لهم : أي فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنوا أنكم ستفوزون بعظيم جزائكم ، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفخم عبارة وألطف إشارة ، فبدأ بقصة قوم نوح بقوله : ( كذبت قوم نوح ( إلى قوله : ( ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ( ثم اتسمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسبنا ذكروا في السورة الوارد فيها إخبارهم من ذكر أمة بعد أمة إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرق في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم ، ثم ختمت كل قصة بقوله : ( فكيف كان عذاب ونذر ( وتخلل هذه القصص بقوله تعالى : ( ولقد سيرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( وهي إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الأمور على زواجره وتنبيهاته ومواعظه ويدعي بعد ذلك واستعلاقه فقيل له إنه ميسر قريب المرام ، وهذا فيما يحصل عند التنبيه(7/342)
صفحة رقم 343
والتذكير لما عنده بكون الاستجابة بإذن الله تعالى ووراء ذلك من المشاكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجميعه والعمل بمحكمه ، ثم يفتح الله تعالى فهم ذلك على من شرفه به وأعلى درجته ، فيتبين بحسب ما يشرح الله تعالى صدره ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( ومن تيسر المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أيّ حفظ مها أطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم ، ثم إذا ضم بعضه إلى بعض اجتمع منه ما لم يكن ليحصل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصراطاً مستقيماً ونوراً مبيناً ، ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب : ( أكفاركم خير من أولائكم ( ومن هذا النمط قول شعيب عليه السلام :
77 ( ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعدي ( ) 7
[ هود : 89 ] ثم قال تعالى : ( أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر ( إي إنكم تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمكتم يوم بدر بقتل صناديدكم فما حجتكم بعد هذا ، إنما مساق القصص في هذه السورة واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا ، فأعقب تذكيبهم أخذهم وهلاكهم ، ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام في مشركي العرب في قوله : ( أكفاركم خير من أولائكم ( وليس شيء من السور المذكورة فيها قصص على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود ، وبظاهرهما ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركي العرب على الصفة الواردة هنا ، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره وانقضاء هذا الغرض ، وذلك أنهم ذكروا أولاً بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم ، وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة من إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد ، فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم ، بل يفهم الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يبين منهم فظاعة التهيديد وشدة الوعيد ، فلا يصحبه تعيين المخاطبة وصرف الكلام بالكلية إليه ، بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ ، ثم لو كان لا يحتقر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الموعظة فلم تقبل ، فهنا محل الغضب وشدة الوعيد ، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنين والظلة والصافات ، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف وأمل في الزجر بعد التعريف ، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى :
77 ( ) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( ) 7
[ الأعراف : 174 ] وقوله بعد موعظة(7/343)
صفحة رقم 344
بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه عل الفوز وهو الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقال بعد ذلك
77 ( ) فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( ) 7
[ الأعراف : 176 ] وتذكيره إياه لمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة وقال تعالى بعد قصص سورة هود :
77 ( ) وكذلك أخذ ربك ( ) 7
[ هود : 102 ] الآية ، وقال تعالى : ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء - إلى قوله :
77 ( ) وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ) 7
[ هود : 109 ] وتكررت الآي إلى آخر السورة يجاري ما ذكر ولم تبق هذه وآي الأعراف في تلطف الاستدعاء ، وقال تعالى في قصص آخر سورة المؤمنين :
77 ( ) فذرهم في غمرتهم إلى حين - إلى قوله : لا يشعرون ( ) 7
[ المؤمنون : 54 ] ثم قال :
77 ( ) ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ( ) 7
[ المؤمنون : 64 ] استمرت الآي على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضاً إلى قوله :
77 ( ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ( ) 7
[ المؤمنون : 115 ] وقوله تعالى بعد : ( إنه لا يفلح الكافرون ( ) المؤمنون : 17 ] ولم يبين هذه الآي ، وبين الواقعة عقب قصص سورة هود ، وقال في آخر قصص الظلمة :
77 ( ) وإنه لتنزيل رب العالمين ( ) 7
[ الشعراء : 192 ] إلى قوله خاتمة السورة :
77 ( ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( ) 7
[ الشعراء : 227 ] فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم ، وكل هذا تعنيف وإن لم يتقدم له مثله في السورة المذكورة ، ثم هو صريح في مشركي العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض ، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى : ( إن في ذلك ( وفيه تهديد ووعيد ، وقال تعالى في آخر والصافات :
77 ( ) فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبونه ( ) 7
[ الصافات : 149 ] وهذا أعظم التوبيخ وأشد التقريع ، ثم نزه نبيه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم ، بقوله :
77 ( ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( ) 7
[ الصافات : 180 ] فلما أخذوا بكل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم قال تعالى في سورة القمر : ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ( ) حكمة بالغة فما تغني النذر ( ، ثم قال تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فتول عنهم ( ولم يقع أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلى بعد حصول القصص في السورة المذكورة وأخذهم بكل طريق ، وأول أمره بذلك ( صلى الله عليه وسلم ) في سورة السجدة ) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ( ثم في سورة والذريات ) فتول عنهم فما أنت بملوم ( بأشد وعيد وأعظم تهديد بعقب كل قصة بقوله : ( ولقد تركناها آية فهل من مذكر ( وقوله : ( فكيف كان عذابي ونذر ( ثم صرف إليهم بما تقدم قوله : ( أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر ( فبلغ ذلك أعظم(7/344)
صفحة رقم 345
مبلغ في البيان وإعذار ، ثم قال تعالى : ( وكل شيء فعلوه في الزبر ( ففرق سبحانه بسابق حكمته فيهم ) إنا كل شيء خلقناه بقدر ( وانقضى ذكر القصص فلم يتعرض لها مستوفاة على المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب - فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية وأي آية باهرة إلى يوم الدين ، وقطع عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بياناً كافياً ونوراً هادياً وواعظاً شافياً - جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة - انتهى .
القمر : ( 2 - 7 ) وإن يروا آية. .. . .
) وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( ( )
ولما كان التقدير : فأعرض الكفار عن آية انشقاقه وقالوا : سحر ، مع علمهم بأنه دال قطعاً على صدق من انشق لتصديقه ، عطف عليه الإعلام بحالهم في المستقبل فطماً لمن يطلبه من المؤمنين إجابة مقترحة من مقترحاتهم رجاء إيمانهم فقال : ( وإن يروا ) أي فميا يأتي ) آية ) أي أية آية كانت ) يعرضوا ) أي عن الانتفاع بها كما أن أعرضوا عن هذه لما رأوها ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : أملهوا حتى يجيء السفار ، فإن قالوا : إنهم رأوا كما رأيتم فليست بسحر ، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر أهل الأرض كلهم ، فجاء السفار وشهدوا برؤيته منشقاً ، ومع ذلك فلم يؤمنوا ) ويقولوا ) أي على سبيل التجديد منهم والاستمرار : هذا ) سحر ) أي هذا الذي يأتينا به هذا الرجل من وادي الخيال الذي لا حقيقة له وهو ) مستمر ) أي لأنه فارق السحر بأنه لا ينكشف في الحال لأنه محكم ثابت دائم بشموله وإحاطته بجميع الأنواع ، ولذلك يتأثر عنه غاية الخوارق المتباينة الأنواع الكثيرة .
ولما فطم عن التشوف إلى إجابتهم في المقترحات على ما قدرته ، تسبب منهم عن الانشقاق بقوله : ( وكذبوا ) أي بكون الانشقاق دالاً على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وجزموا بالتكذيب عناداً أو خبثاً منهم .
ولما كان التكذيب في نفسه قد يكون حقاً ، قال مبيناً أنه باطل ، فبين عن حالهم بقوله : ( واتبعوا ) أي بمعالجة فطرهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق ) أهواءهم ) أي حتى نابذوا ما دلتهم عليه بعد الفطرة الأولى عقولهم ، قال القشيري : إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمنه يحصل التكذيب ، لأن الله سبحانه وتعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد ، واتباع الرضى مقرون(7/345)
صفحة رقم 346
بالتصديق لأن الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق - والله الهادي .
ولما كان ذلك مفظعاً لقلوب المحقين ، سلاهم بالوصول إلى محط تظهر فيه الحقائق وتضمحل فيه الشقاشق ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فسيستقر أمر كل من أمر المحق والمبطل في قراره ، ويطلع على دقائقه وأسراره : ( وكل أمر ( من أموركم وغيرها ) مستقر ) أي ثابت وموجود ، انتهاؤه إلى غاية تظهر فيها حقيقته من غير حيلة تصاحبه إلى رد ذلك القرار ولا خفاء على أحد ، فلا بد أن ينتهي الحق من كل شيء من الآجال والهدايات والضلالات والسعادات والشقاوات وغيرها إلى نهايته فيثبت ثبوتاً لا زوال له ، وينتهي الباطل مما دعاه الخلق فيه إلى غايته فيتلاشى تلاشياً لا ثبات له بوجه من الوجوه ، فإذا استقرت الأمور ظهر ما لهم عليه وعلموا الخاسر من الفائز ، وفي مثل هذا قال ابن عمرو التيمي أخو القعقاع في وقعة السي ( ؟ ) من بلاد العراق :
والموت خيلنا لما التقينا بقارن والأمور لها انتهاء .
وقرأ أبو جعفر بالجر صفة لأمر ، فيكون معطوفاً على الساعة أي واقترب كل أمر الباطل وفواته .
ولما حذر وبشر قال معلماً أنه محيط العلم بأمرهم من قبل الإجابه إلى شق القمر وأنه ما شقه لطمع في إيمانهم بلا للأعلام بخذلانهم مؤكداً لمن يتعلق رجاؤه بأن تواتر الآيات ربما أوجب لهم التصديق المتضمن لأن ما جاءهم ليس فيه كفاية : ( ولقد جاءهم ( من قبيل الانشقاق ) من الأنباء ) أي الأمور العظيمة المرئية ، المسموعة التي تستحق لعظمتها أن يخبر بها إخباراً عظيماً سيما ما جاء في القرآن من تفصيل أصول الدين وفروعه وأخبار الأولين والآخرين والأولى والأخرى ) ما فيه ( خاصة ) مزدجر ) أي موضع للزجر من شأنه أن يكون لهم به انزجار عظيم عما فيه من الباطل ، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله ، قال القشيري : لأن الله أسبل على أبصارهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد .
ولما كان ما فيه ذلك قد لا يكون محكماً ، بينه بقوله : ( حكمة ( عظيمة ) بالغة ) أي لها معظم البلوغ إلى منتهى غايات الحكمة لصحتها وطهارتها ووضوحها ، ففيها مع الزجر ترجية ومواعظ وأحكام ودقائق تجل عن الوصف .
ولما تسبب عنها انزجارهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فما ( نفياً صريحاً أو باستفهام إنكاري موبخ ) تغن النذر ( الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها - إنما المعني بذلك هو الله تعالى ، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، ولعل الإشارة بإسقاط يا ( تغني ) بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت نمرة الإنذار وهو القبول .(7/346)
صفحة رقم 347
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) التعلق بطلب نجاتهم ، فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فتول عنهم ) أي كلف نفسك الإعراض عن ذلك فما عليك إلا البلاغ ، وأما الهداية فإلى الله وحده. ولما بين اقتراب الساعة بالإجابة إلى بعض مقترحاتهم القائمة مقامها كلها بدلالته على القدرة عليها ، وأتبع ذلك الفطم عن طلب الإجابة إلى شيء فيها لأنها لا تغني شيئاً ، تطلعت النفوس الكاملة إلى وصف الساعة فأجاب عن ذلك على سبيل الاستئناف بذكر ظرفها وذكر. . .
ما يقع فيه من الأهوال ، فقال معلقاً بما تقديره : الساعة كائنة على وجه الاقتراب الشديد : ( يوم يدع ( ويجوز - والله أعلم - أن يكون الناصب له ) تول ( لأنهم لما أعرضوا حين دعاهم كان جزاءهم أن يعرض عنهم يوم حاجتهم إليه لأن الجزاء من جنس العمل ، فكأنه قيل بعد أن عد القيامة أمراً محققاً لا يأتي النزاع فيه : تول عنهم في ذلك اليوم العبوس الذي أنت فيه الشافع المقبول. . .
واتركهم لأهواله ودواهيه ، فقد بان الخاسر فتوليهم إنما يضرهم ، لأن توليهم عنك لا يضرك شيئاً أصلاً ، وتوليك عنهم يضرهم ضرراً ما بعدهم ضرر - والله أعلم ، وحذف واو ( يدعو ) للرسم بإجماع المصاحف من غير موجب لأن المقام لبيان اقترابها ، فكأنه إشارة إلى كونها بأدنى دعاء ، وأيضاً ففي حذفه تشبيه للخبر بالأمر إشارة إلى أن هذا الدعاء لا بد على أن يكون على أعظم وجه أتقنه وأهوله وأمكنه كما يكون كل مأمور من الأمر المطاع ، والوقف على هذا وامثاله بغير واو لجميع القراء موافقة للرسم لأن القاعدة أن ما كان فيها رواية أتبعت وإن خالفت الرسم أو الأصل ، وما لم يرد فيه عن أحد منهم رواية اتبع فيه الرسم وإن خولف الأصل ، لأن التخفيف معهود في كلام العرب كالوال والمتعال من أسمائه الحسنى ، لكن قال علامة القراءات شمس الدين الجزري في كتابه المسمى بالنشر في هذه الأحرف الأربعة : هذا و ) يدع الإنسان ( في سبحان و ) يمح الله الباطل ( في شورى و ) سندع الزبانية ( في العق : نص الحافظ أبو عمرو الداني عن يعقوب على الوقف عليها بالواو على الأصل ، ثم قال : قلت : وهو من انفراده ، وقد قرأت به من طريقه ) الداع ) أي النفخ في الصور ) إلى شيء نكر ( عظيم الوصف في النكارة بما تكرهه النفوس فتوجل منه القلوب لأنه لا شيء منه إلا وهو خارج عما تقدمه من العادة .
ولما بين دعاءه بما هال أمره ، بين حال المدعوين زيادة في الهول فقال : ( خشعاً أبصارهم ) أي ينظرون نظرة الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو بشر حال ، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين من النظر فإن الذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلاً مع هيئة يعرف منها ذلك كما قال تعالى : ( خاشعين من الذل(7/347)
صفحة رقم 348
ينظرون من طرف خفي ( وإفراده في قراءة أبي عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي على أن الخشوع بلغ في النهاية من الشدة ونسبته إلى كل بصر على حد سواء ، وجمع على لغة ( أكلوني البراغيث ) تفي قراءة الباقين بضم الخاء وتشديد الشين مفتوحة أو مستنداً المدعوين ، والإبصار يدل بعض الإشارة إلى أن كل ذلك موزع على الأبصار .
ولما بين من حاله هكذا ما يدل على نكارة ذلك اليوم ، بين كيفية خروجهم بياناً لما يلزم من تصوره زيادة الذعر فقال : ( يخرجون ) أي على سبيل التجدد الأشرف فالأشرف ) من الأجداث ) أي القبور المهيأ لسماع النفخ في الصور ) كأنهم ( في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض من كبيرهم وصغيرهم وضعيفهم وقويهم ) جراد منتشر ) أي منبث متفرق حيران مطاوع لمن نشره بعدما كان فيه من سكون مختلط ببعضه ببعض ، لا جهة له في الحقيقة يقصدها لو خلى ونفسه .
القمر : ( 8 - 12 ) مهطعين إلى الداع. .. . .
) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( ( )
ولما كان الانتشار قد يكون وجه المهل والوقار ، قال مبيناً أن الأمر على خلاف ذلك زيادة في هول ذلك اليوم وتقريراً لما تقدم من وصفه : ( مهطعين إلى الدع ) أي مسرعين خائفين مقبلين بأبصارهم عليه لا يقعلون عنه ، مادين أعناقهم نحوه مصوبي رؤوسهم لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذلك وخضوع وصمت واستكانة .
ولما بين حال الكل حصر حال المبطلين فقال : ( يقول ) أي على سبيل التكرار : ( الكافرين ) أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة : ( هذا ) أي الوقت الذي نحن فيه بما نرى من الأهوال ) يوم عسر ) أي في غاية العسر الصعوبة والشدة ، وذلك بحسب حالهم فيه .
ولما تقدم أمره سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالتولي عنهم تهديداً لهم ، وصرح بما أراد من أمر الساعة لما دعا إلى ذلك من تقدم ذكرهم ، ولأنها أشد هول يهددون به ، وبياناً أن الخلق ما خلق إلا لأجلها لأنها محط الحكمة ، وختم بعسرها على الكافرين ، تمم ذلك التهديد بعذاب الدنيا ردعاً لأهل الغلظة الموكلين بالمحسوسات ، فذكر عسر يوم كان على الكافرين فيها ، فقال مهدداً لقريش بجعل القصة مثلاً لهم في إهلاكهم وفي أمر الساعة من حيث إنه كما أهلك أهل الأرض في آن واحد بما أرسله من الماء فهو قادر على أن يهلكهم في آن واحد بالصيحة ، وكما صرف هذا التصريف الي ما سمع بمثله في(7/348)
صفحة رقم 349
الإهلاك فهو قادر على أن يصرفه في الإحياء عند البعث على وجه ما عهد مثله تنبت فيه الأجساد وتحيا فيه العباد ، جواباً لمن كأنه قال : هذا ما يوعدونه بعد الموت ، فهل لهم عذاب قبله دال على كمال القدرة : ( كذبت ( أو أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل ، وأنث فعلهم تحقيراً لهم وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته .
ولما كان ما كان من تصميمهم عليه وعزمهم على عدم الانفكاك عنه لكونه جبلة مستغرقاً لجميع ما بعدهم من الزمان ، وكانوا قد سنوا سنة التكذيب فكان عليهم مع وزرهم وزر من أتى بعدهم ، وكان ما قبلهم من الزمان يسيراً في جنب ما بعده عدماً ، فلذلك ذكر الظرف من غير حرف جر لأنه مع أنه الحق أعظم في التسلية فقال : ( قبلهم ) أي في جميع ما سلف من الزمان ومضى بعضه بالفعل وبعضه بالقوة لقوة العزم : ( قوم نوح ( مع ما كان بهم من القوة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار .
ولما ذكر تكذيبهم إشارة إلى أنه جبلة لهم جحدوا بها النبوة رأساً فلاحظ لهم في التصديق للحق فلا يفترق حالهم بالنسبة إلى أحد من الناس كان من كان ، فلذلك سبب عن هذا المطلق قوله : ( فكذبوا عبدنا ) أي على ما له من العظمة نسبة إلينا لكونه لم يتعبد لغيرنا قط مع تشريفنا إياه بالرسالة ، فكان تكذيبهم فراً مما دخل في تكذيبهم المطلق الشامل لكل ما يمكن تكذيبه وهو ميد ( ؟ ) ) وقالوا ( مع التكذيب أيضاً زيادة على تغطية ما ظهر منه من الهداية : ( مجنون ) أي فهذا الذي يظهر له من الخوارق من أمر الجن .
ولما كان إعلاء الصوت على النبي كائناً من كان عظيم القباحة جداً زائد الفظاظة فكيف إذا كان مرسلاً فكيف إذا كان من أولي العزم فكيف إذا كان على سبيل الإنكار عليه ، فكيف إذا كان على صورة ما يفعل ممن لا خطر له بوجه ، قال بانياً للمجهول إشارة إلى تبشيعه من غير نظر إلى قائل وإيذاناً بأن ذلك لم يكن من أكابرهم فقط بل من كبيرهم وصغيرهم : ( وازدجر ) أي أعملوا أنفسهم في انتهاره وتوعده وتهديده وانتشر ذلك في جميعهم بغاية ما يكون من الغلظة كفاله عن الرسالة ومنعاً له عنها ، والمعنى أنهم قالوا : إنه استظهر عليهم بالجنون .
ولما طال ذلك منهم ومضت عليه أجيالهم جيلاً عبد جيل حتى مضى له من إنذارهم أكثر مما مضى من الزمان لأمة هذا النبي الحاتم إلى يومنا هذا ، وأخبره الله أنه لن يؤمن منهم إلا من قدر آمن معه ، تسبب عن ذلك الدعاء بالراحة منهم ، فلذلك قال صارفاً وجه الخطاب إلى صفة الإحسان والربوبية والامتنان إيذاناً بأنه أجاب دعاءه ولبى(7/349)
صفحة رقم 350
نداءه : ( فدعا ربه ) أي الذي رباه بالإحسان إليه برسالته معلماً له لما أيس من أجابتهم : ( إني مغلوب ) أي من قومي كلهم بالقوة والمنعة لا بالحجة ، وأكده لأنه من يأبى عن الملك الأعظم يكون مظنة النصرة ، وإبلاغاً في الشكاية إظهاراً لذل العبودية ، لأن الله سبحانه عالم بسر العبد وجهره ، فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل ، وكذا الإبلاغ فيه ) فانتصر ) أي أوقع نصري عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه .
ولما استجاب له سبحانه ، سبب عن دعائه قوله ، عائداً إلى مظهر العظمة إعلاماً بمزيد الغضب الموجب دائماً للاستيعاب بالغضب : ( ففتحنا ) أي تسبب عن دعائه أنا فتحنا فتحاً يليق بعظمتنا ) أبواب السماء ( كلها في جميع الأقطار ، وعبر بجمع القلة عن الكثرة لأن عادة العرب أن تستعيره لها وهو أرشق وأشهر من بيبان ، وسياق العظمة يأبى كونه لغيرها .
ولما كان المراد تهويل أمر الماء بذكر حاله التي كان عليها حتى كأن المحدث بذلك شاهد جعلت كأنه آية فتحت بها السماء فقال : ( بماء منهمر ) أي منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب عظماً وكثرة ، ولذلك لم يقل : بمطر ، لأنه خارج عن تلك العادة ، واستمر ذلك أربعين يوماً ) وفجرنا ) أي صدعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأرسلنا ) الأرض عيوناً ) أي جميع عيون الأرض ، ولكنه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثم البيان ، وإفادة لأن وجه الأرض صار كله عيوناً .
ولما كان الماء اسم جنس يقع على الأنواع المختلفة كما يقع على النوع الواحد ، وكان قد ذكر ماء السماء والأرض ، سبب عن ذلك قوله : ( فالتقى الماء ) أي المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا ، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال : ( على أمر ( ولما تقررت هذه العظمة لهذه الواقعة ، فكان ربما ظن أنه صار جزافاً ، وزاد على الحد المأمور به ، أشار إلى أنه بالنسبة إلى عظمته في غاية الحقارة فقال : ( قد قدر ) أي مع كونه مقدوراً عليه في كل وقت بغاية السهولة قد وقع تقديره في الأزل ، فلم يستطع أن يزيد على ذلك قطرة فما فوقها ولا أن يهلك غير من أمرناه بإهلاكه ، وأشار بالتخفيف إلى غاية السهولة في ذلك سبحانه .
القمر : ( 13 - 18 ) وحملناه على ذات. .. . .
) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( ( )
ولما ذكر ما علم منه بقرينة ما ذكر من خرقه للعادة ، وأن إجابته لدعوته عليه الصلاة والسلام ، ذكر تمام الانتصار بنجاته فقال : ( وحملناه ) أي بما لنا من العظمة(7/350)
صفحة رقم 351
على متن ذلك الماء بعد أن صار جميع وجه الأرض مجرى واحداً ، وحذف الموصوف تهويلاً بالحث على تعرفة بتأمل الكلام فقال : ( على ذات ) أي سفينة ذات ) ألواح ) أي أخشاب نجرت حتى صارت عريضة ) ودسر ( جمع دسار وهو ما يشد به السفينة وتوصل بها ألواحها ويلج بعضها ببعض بمسمار من حديد أو خشب أو من خيوط الليف على وجه الضخامة والقوة الدفع والمتانة ، ولعله عبر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد من فتق الرتق ورتق الفتق بحيث يصير ذلك المصنوع ، فكان إلى ما هيأه ليراد منه وإن كان ذلك المراد عظيماً وذلك المصنوع .
ولما كان ذلك خارقاً للعادة فكان يمكن أن يكون في السفينة خارق آخر بإسكانها على ظهر الماء من غير حركة ، بين أن الأمر ليس كذلك فقال مظهراً خارقاً آخر في جريها : ( تجري ) أي السفينة ) بأعيننا ) أي محفوظة أن تجخل بحر الظلمات ، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات ، بحفظنا على ما لنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء كثرة ولا يغيب عنه أصلاً ، وجوزوا أن يكون جمع تكسير لعين الماء ، ثم علل ذلك بقوله : ( جزاء ) أي لعبدنا نوح عليه السلام ، ولكنه عبر هنا بما يفهم العلة ليحذر السامع وقوع مثل ذلك العذاب له إن وقع منه مثل فعل قومه فقال : ( لمن ( وعبر عن طول زمان كفرهم بقوله : ( كان كفر ) أي وقع الكفر به وهو أجل النعم ، فقال على أهل ذلك الزمان وذلك جزاء من كفر النعم ، ويجوز أن يكون المراد به قومه بين أنه وقع الكفر منهم وقوعاً كأنهم مجبولون عليه حتى كأنه وقع عليهم لتوافق قراءة مجاهد بالبناء .
للفاعل .
ولما تم الخبر عن نجاته بحمله فيها ، نبه عن آثارها بقوله : ( ولقد تركناها ) أي هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة ، وقيل : تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقايا ما هذه الأمة ) آية ) أي علامة عظيمة على ما لنا من العلم المحيط والقدرة التامة ) فهل من مدكر ) أي مجتهد في التذكير بسبب هذا الأمر لما يحق على الخلق من شكر الخالق بما هدت إليه رسله كما قالوه .
ولما قدم تعالى قوله : ( فما تغن النذر ( وأتبعه ذكر إهلاكه المكذبين ، وكان ما ذكره من شأنهم أمرهم في الجلالة والعظمة بحيث يحق للسامع أن يسأل عنه ويتعرف أحواله ليهتدي بها على ذلك بقوله مسبباً عن التذكير باستفهام الإنكار والتوبيخ : ( فكيف كان ) أي وجد وتحقق ) عذابي ) أي لمن كذب وكفر وكذب رسلي ) ونذر ) أي الإنذارات الصادرة عني والمنذرون المبلغون عني فإنه أنجى نوحاً عليه السلام ومن آمن(7/351)
صفحة رقم 352
معه من أولاده وغيرهم ومتعهم بعد إهلاك عدوهم وجعل الناس الآن كلهم من نسله ، قال القشيري : في هذا قوة لرجاء أهل الدين إذا لقوا في دين الله محنة فجحد غيرهم ما آتاه الله أن يهلك الله عن قريب عدوهم ويمكنهم من ديارهم وبلادهم ويورثهم ما كان إليهم ، وكذلك سنة الله في جميع أهل الضلال - انتهى .
وكان المعنى في تكرير ذلك عليهم بعد التذكي بما أتيناهم به من قصص هذه الأمم ميسراً لفهم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم كيف كان أخذي لهم وعاقبة تخويفي إياهم لعلهم يتعظون فينفعهم إنذار المنذرين .
ولما كان هذا التفصيل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمة ، نبه على ذلك بقوله : ( ولقد يسرنا ) أي على ما لنا من العظمة ) القرآن ) أي على ما له من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه صفة لنا ) للذكر ) أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه ، قال ابن برجان : أنزلناه باللسان العربي وأنزلناه للأفهام تنزيلاً وخاطبناهم بعوائدهم وأعلمنا من قبل أعمالهم وأقبسناهم المعرفة واليقين من قبل ذواتهم وضربنا لهم الأمثال وأطلنا لهم في هذه الأعمال ليتذكروا الميثاق المأخذ عليهم ، وقال القشيري : يسر قراءته على ألسنة قوم ، وعلمه على قلوب قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحفظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن وكلهم أهل وخاصته - انتهى .
والآية ناظرة بالعطف لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها ، وبلاغات لا يهتدون أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها ، وبلاغات لا يتهدون إلى وجه معناها أصلاً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان : أحدهما أنه فوق القرآن العظيم الجامع ترجمة لأفعاله سبحانه في هذا الوجود الشاهد والغائب الذي أخبرنا عنه وشرحنا لما أنزل علينا من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعرف لنا بها ، وكان سبحانه قد جعل خلق الآدمي جامعاً ، فما من شيء من أفعاله إلا وفي نفسه منه أثر ظاهر ناظر للتفكر في القرآن والتعرف للأسرار منه بالتذكير الذي يكون. . .
لما كان الإنسان يعرفه ثن نسيه حتى صار لا يستقل باستحضاره فإذا ذكر به ذكره ، فقال منبهاً على عظيم فعل العلم والقرآن الذي هو طريقه بالتكرار والتعبير بما هو من الذكر على أنه المحفوظ للإنسان بما هيأ له من تيسير أمره ) فهل من مدكر ( قال ابخاري في آخر صحيحه : قال مطر الوراق : هل من طالب علم فيعان عليه ، وقد تكررت هذه الموعظة في هذه السورة أربع مرات ، وذكر الجملة الأخيرة منها منفكة عن تيسير القرآن مرتين : مرة في أول القصص وهي(7/352)
صفحة رقم 353
قصة نوح عليه السلام ، ومرة كما يأتي في آخرها ، وذلك عقب قصة فرعون وهو قوله : ( فكيف كان عذابي ونذر ( مثل ذلك ، وكررت ) فبأي ألاء ربكما تكذبان ( في الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، فنظرت في سر ذلك فظهر لي - والله الهادي - أن الذي تقدم في سورة المفصل على هذه السورة أربع سور هذه السورة خاتمتها فأشير إى التذكر بكل سورة منها حثاً على تدبرها بىية ختمت كلماتها بكلمة عادت حروفها في السور الخمس وأدغم حرف منها في آخر بعد قلب كل منهما ، فكانت هذه الكلمة التي مدلولها الذكر مشيرة إلى الحواس الخمس الظاهرة التي هي مبادئ العلم ، وكان ما في أول هذه المواعظ وآخرها لخلوه عن ذكر القرآن موازياً للحرفين اللذين طرفهما للوهن بالتعبير والقلب لكن كان الحرفان بالإدغام كحرف واحد ، كانت الجملتان الموازيتان لهما كآية واحدة من تلك الأربع ، وكان هذا الأول والآخر مشاراً به إلى هذه السورة التي جمكعت التذكير بالسورة الأربع ، وأعريت عن ذكر تيسير القرآن لافتتاح السور السور بمحو وما يقرب من المحو وهو آية الليل والتيسير فيها والساعة التي هي أغيب الغيب ، وكل من فيها سوى الله محو لسلب الأمر كله عنهم وخصت بها الأولى والآخرة لجامع بينهما من غرق العصا في الماء ونجاة المطيعين بعضهم بالسفينة وبعضهم بنفس البحر الذي هو مسرح السفن ، وكانت الموعظة المذكور فيها القرآن في ختام قصة نوح عليه السالم مع عمومها لجميع القرآن إشارة إلى خصوص التذكير بسورة ق لما بينهما من جامع الإحاطة بإحاطة جبل ق بالأرض كلها وطوفان قوم نوح عليه السلام بعموم جميع الأرض والتي في سورة عاد إشارة إلى سورة الذاريات لأن كلاهم كان بالريح ، والتي في قصة ثمود إشارة إلى التذكير بالطور بجامع ما بينهما من الرج وارجف والذل والصعق ، أما في قصة ثمود فظاهر ، وأما في الطور فلما كان من دكه وصعق بني إسرائيل فيه ، وقد ذكر الصعق في آخر الطور ، وما في قصة لوط إشارة إلى النجم لأن مدائنهم ارتفعت إلى عنان السماء ثم أهويت وأتبعت الحجارة ، فلما كان الأمر هكذا ، وكانت النعم محيطة بالإنسان من جهاته الست ، فضربت الحواس الخمس في الجهات الست ، فكانت ثلاثين ، كأنه قيل : هل مذكر بهذا القرآن ، ولا سيما ما تقدم على هذه السورة منه في المفصل ما لله عليه من النعم في نفسه وفي الآفاق المشار إلى القسم الأول منها بمذكر وإلى الثاني بتكرير ذكر الآلاء فكل آية تكرير انتهىل إلى العدد المخصوص وإلى المجموع بالمجموع ليعلم أن نعم الله محيطة به على وجه لا يقدر على صنعه إلا الله الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال التي أعظمها - من حيث كونه أساساً يبنى عليه - الوحدانية المنزهة عن الشركة فيخشى من معصيته أن يسلبه نعمه أو واحدة منها فلا يجد من يقوم(7/353)
صفحة رقم 354
بها ولا بشيء منها غيره أو يعذبه بشيء مثل عذاب هذه الأمم أو بغير ذلك مما له من إحاطة القدرة والعلم فلا يجد من يرد عنه شيئاً منه سبحانه ، وأما الواحد الزائد فهو إشارة إلى أن المدار في ذلك الإدراك هو العقل والحواس كما أن المقصود بذلك كله واحد وهو الله تعالى ، وكل هذه الأشياء أسباب لمعرفته وأيضاً فالواحد إشارة إلى أن زيادة الآلاء من فضل الله تعالى لا تنقطع كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا يزال ، فكلما أغنت زيادتها ابتدأ دور ثم ابتدأ دور آخر دائماً أبداً ، وللتكرير نكتة أخرى بديعة جداً ، وهي تأكيد التقرير دلالة على اشتداد الغضب المقتضي لأنهى العقوبة كما أن من اشتد غضبه من إنكار شخص لشيء من قتله إذا بينه غاية البيان بأمور متنوعة وهو يتمرد ويلد بحضرتهم ، قال له : هل ظهر لك هذا ؟ فيقول ذاك المنكر : نعم ظهر لي ، فلا يريد ذلك إلا غضباً لما تقدم له من عظيم غضبه ولدده فيذكر له معنى آخر ثم يقول : هل ظهر لك هذا ؟ فيقول : نعم والله لا يعرج على اعترافه ذلك ويذكر له نوعاً آخر ، ويقول مثل ذلك وكفاية كل نوع منها لما أريد منه من البيان ، وقال في الكشاف : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين أدكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث عليه والبعث على ذلك كله وأن يقرع لهم العصى مرات ويقعقع لهم السن تارات ، لئلا يغلبهم السهود ويستولي عليهم حكم الغفلة ، وهكذا حكم التكريرات لتكون العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في أوان - انتهى ، ولمثل ما مضى أو قريب منه كرر التهويل بالعذاب ست مرات : أربع منها ) فكيف كان عذابي ونذر ( وانثان منها ) فذوقوا عذابي ونذر ( فهما بمنزلة واحدة من الأربع ليرجع الست إلى الخمس الدال عليها ) مدكر ( إشارة إلى أن الحواس الخمس كما ضربت في الجهات الست لأجل النعم التي هي جلب المصالح ضربت فيها للتذكير بدفع النقم الذي هو درأ المفاسد والتحذير منها ، ومن فوائد تكرر الست الراجعة إلى الخمس كما ضربت في الجهات الست لأجل النعم التي هي جلب المصالح ضربت فيها للتذكير بدفع النقم الي هو درأ المفاسد ولتحذير منها ، ومن فوائد تكرر الست الراجعة إلى الخمس مرتين : مرة لجلب النعم وأخرى لدفع النقم أن الحواس مكررة ظاهراً وباطناً ، فمن ذل لسانه بالقرآن ظاهراً صحت حواسه الظاهرة ونورت له الباطنة ، ومن أبى عذب بسبب الباطنة فتفسد الظاهرة ، واختير للمواعظتين عدد الست مع إرادة جماعة إلى خمسة لأن الست عدد تام وذلك لأن عدد كسورها إذا جمعت سادتها ولم تزد عنها ولم تنقص وهي النصف والثلث والسدس ، وهذا العدد مساو لدعائم الإسلام الخمس وحظيرته الجهاد التي هي(7/354)
صفحة رقم 355
عماد تقوى المتقين أهل مقعد الصدق الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إلى نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل من قبله المشار به إلى الصيام
77 ( ) كتب عليكم الصيام كما كتب على الذني من قبلكم ( ) 7
[ البقرة : 183 ] والحج
77 ( ) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ( ) 7
[ البقرة : 125 ] والجهاد
77 ( ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ( ) 7
[ البقرة : 214 - 216 ] إلى قوله : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ( وذلك إشارة إلى أن هذا الدين تام لا زيادة فيه ولا نقص لأن النبي الذي أرسل ختام الأنبياء ، وتمام الرسل الأصفياء .
ولما كان قوم عاد قد تكبروا بشدتهم وقوتهم ، وكانت حال قريش قريبة من ذلك لقولهم إنهم أمنع العرب وأقواهم وأجمعهم للكمالات وأعلاهم ، كرر ذلك في قصتهم مرتين زيادة في تذكير قريش وتحذيرهم ولا سيما وقد كان بدء عذابهم من بلدهم مكة المشرفة كما هو مشروح في قصتهم ، وكرر الأمر بالذوق في ذلك أتاهم أكبر منه فكانوا كأمس الدابر ، فلكل مرة من العذاب من الأمر بالذوق ، وخصوا بالأمر بالذوق لما في فاحشتهم الخبيثة ما يسلتذونه ، وقد عم عذاب هذه الأمم جميع الجهات بما لقوم نوح ولوط عليهما السلام من جهة الغرق بالماء الماطر وحجارة السجيل ومن البحث من الماء النابع والخسف ، وما في عموم عذابهم من استغراق بقية الجهات - والله الهادي .
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ، كان ذلك موجباً للسامع أن يظن أنه لا يقصر أحد بعدهم وإن لم يرسل برسول فكيف إذا أرسل ، فتشوف إلى علم ما كان بعده هل كان كما ظن أم رجع الناس إلى طباعهم ؟ وكانت قصة عاد أعظم قصة جرت بعد قوم نوح عليه السلام فيما يعرفه العرب فيصلح أن يكون واعظاً لهمن وكان عذابهم بالريح التي أهلكتهم ونسفت جبالهم التي كانت في محالهم من الرمال المتراكمة ، فنقلها إلى أمكنة أخرى أقرب دليل إلى أنه تعالى يسير الجبال يوم الدين ، هذا إلى ما في صفها الخارج عن العوائد من تصوير النفخ في الصورة تارة للقيامة وتارة للأحياء ، فأجيب بقوله : ( كذبت عاد ) أي أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولي هود عليه السلام في دعوته لهم إليّ وإنذاره لهم عذابي .
ولما كان عادة الملوك أو بعضهم أنه إذا أهلك قوماً كثيرين من جنده نجا ناس مثلهم بمثل ذنوبهم أن يرفع بهم ، ويستألفهم لئلا يهلك جنده ، نجا ناس مثلهم بمثل ذنوبهم ان يرفع بهم ، ويستألفهم لئلا يهلك جنده ، فيختل ملكه ، عقب الإخبار بتكذبيهم الإعلام بتعديهم لأنه لا يبالي بشيء لأن كل شيء في قبضته ، ولما كان تكذيبهم إلا بإرادته كا أن عذابه بمشيئته ، قال مسبباً عن ذلك : ( فكيف ) أي فعلى(7/355)
صفحة رقم 356
الأحوال لأجل تكذيبهم ) كان عذابي لهم ونذر ) أي وإنذاري إياهم بلسان رسولي ، وكرر في آخر قصتهم هذا الاستخبار ، فكان في قصتهم مرتين كما تقدم من سره - والله أعلم .
القمر : ( 19 - 26 ) إنا أرسلنا عليهم. .. . .
) إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ( ( )
ولما ذكر تكذيبهم وأعقبه تعذيبهم ، علم السامع أنه شديد العظمة فاستمطر أن يعرفه فاستأنف قوله ، مؤكداً تنبيهاً على أن قريشاً أفعالهم في التكذيب كأفعالهم كأنهم يكذبون بعذابهم : ( إنا أرسلنا ( بعظمتنا ، وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة فقال : ( عليهم ريحاً ( ولما كانت الريح ربما كانت عياناً ، وصفها بما دل على حالها فقال : ووصف سيرهم إلى الداعي بالإسراع ، ناسب أن يعبر عن عذابهم بأقل ما يمكن ، فعبر باليوم الذي يراد به الجنس الشامل للقليل والكثير وقد يعبر به عن مقدار من الزمان يتم فيه أمر ظاهر سواء لحظة أو أياماً أو شهوراً أو كثيراً من ذلك أو أقل كيوم البعث ويوم بدر ويوم الموت بقوله تعالى : - ) ) إلى ربك يومئذ المساق ( ( - [ القيامة : 35 ] : ( في يوم ( وأكد شؤمها بذم زمانها فقال : ( نحس ) أي شديد القباحة ، قيل : كان يوم الأربعاء آخر الشهر وهو شوال لثمان بقيت إلى غروب الأربعاء ، وحقق لأن المراد باليوم الجنس لا الواحد بالوصف فقال : ( مستمر ) أي قوي في نحوسته نافذ ماض فيما أمر به من ذلك شديد أسبابه ، موجود مرارته وجوداً مطلوباً من مرسله في كل وقت ، مستحكم المرارةقويها دائمها إلى وقت إنفاذ المراد .
ولما علم وصفها في ذاتها ، أتبعه وصفها بما يفعل فيه فقال : ( تنزع ) أي تأخذ من الأرض بعضهم من وجهها وبعضهم من حفر حفروها ليتمنعوا بها من العذاب ، وأظهر موضع الإضمار ليكون نصاً في الذكور ، والإناث فعبر بما هو من النوس تفضيلاً لهم فقال : ( الناس ( الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى ، فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور ، فتقطع رؤوسهم من جثثهم وتغير ألوانهم تعتيماً لهم إلى السواد ، ولذا قال : ( كأنهم ) أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم كأنهم ) أعجاز ) أي أصول ) نخل ( قطعت رؤوسها .
ولما كان الحكم هنا على ظاهر حالهم ، (7/356)
صفحة رقم 357
وكان الظاهر دون الباطن ، حمل على اللفظ قوله : ( منقعر ) أي منقصف أي منصرع من أسفل قعره وأصل مغرسه ، والتشبيه يشير إلى أنهم طوال قد قطعت رؤوسهم ، وفي الحافة وقع التشبيه في الباطن الذي فيه الأعضاء الرئيسة ، والمعاني اللطيفة ، فأنث الوصف حملاً على معنى النخل لا للطفها - والله أعلم .
ولما طابق ما أخبر به من عذابهم ما هو له به أولاً ، أكد ذلك لما تقدم من سره فقال مسبباً عنه مشيراً إلى أنه لشدة هوله مما يجب السؤال عنه : ( فكيف كان ( أيها السائل ، ولفت القول إلى الإقرار تنبيهاً للعبيد على المحافظة على مقام التوحيد : ( عذابي ( لمن كذب رسلي ) ونذر ) أي وإنذاري أو رسلي في إنذارهم هل صدق .
ولما أتم سبحانه تحذيره من مثل حالهم بأمر ناظر أتم نظر إلى تدبير ما في سورة الذاريات ، أتبع ذلك التنبيه على أنه ينبغي للسامع أن يتوقع الحث على ذلك ، فقال مؤكداً لما لأكثر السامعين من التكذيب بالقال أو بالحال معلماً أنه سهل طريق الفرار من مثل هذه الفتن الكبار إليه ، وسوى من الاعتماد عليه ، عائداً إلى مظهر العظمة إيذاناً بأن تيسير القرآن لما ذكر من إعجازه لا يكون إلا لعظمة تفوت قوى البشر ، وتعجز عنها القدرة ) ولقد يسرنا ( على ما لنا من العظمة في الذات والصفات ) القرآن ( الجامع الفارق كله وما أشارت إليه هذه القصة من مفصله ) للذكر ( للحفظ والشرف بالإيجاز وعذوبة اللفظ وقرب الفهم وجلالة المعاني وجزالة السبك وتنويع الفنون وتكثير الشعب وإحكام الربط ) فهل من مدَّكر ) أي تسبب عن هذا الأمر العظيم الذي فعلناه أنه موضع السؤال عن أحوال السامعين : هل فيهم من يقبل على حفظه ثم تدبره وفهمه ويتعظ بما حل بالأمم السالفة ، ويتذكر جميع ما صرف من الأقوال وينزلها على نفسه وما لها من الأحوال ، ويجعل ذلك لوجهنا فيلقيه بتشريفه به أمر دنياه وأخراه .
ولما كان هذا موضع الإقبال على تدبر مواعظ القرآن ، وكان ثمود أعظم وعظ كان بعد عاد لما في صيحتهم الخارجة عن العهود من تصوير الساعة بنفختيها المميتة ثم المحيية ، وقال مؤنثاً فعلهم إشارة إلى سفول هممهم وسفول فعلهم معلماً أن من كذب هلك - على طريق الجواب لمن لعله يقول استبعاداً لتكذيب بعد ما جرى في القصتين الماضيتين من التعذيب : ( كذبت ثمود ) أي قوم صالح ) بالنذر ( الإنذارات والمنذرين كلهم لأنهم شرع واحد ، ثم علل ذلك وعقبه بقوله معلماً بالضمير أن المباشر بهذا الكفر رجالهم لئلا يظن أنهم نساء فقط : ( فقالوا ( منكرين لما جاءهم من الله غاية الإنكار : ( أبشراً ( إنكاراً لرسالة هذا النوع ليكون إنكار النبوة إنكاراً لنبوة نبيهم على أبلغ(7/357)
صفحة رقم 358
الوجوه ، وأعظم الإنكار بقولهم مقدمين عدم الانفراد عنهم لخصوصيته : ( منا ) أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا ، وزادوا ذلك تأكيداً فقالوا : ( واحداً ) أي ليس معه من يؤيده ، ثم فسر الناصب لقوله : ( بشراً ( بقوله : ( نتبعه ) أي نجاهد نفسنا في خلع مألوفنا وخلاف آبائنا والإقرار على أنفسنا بسخافة العقل والعراقة في الجهل ونحن أشد الناس كثرة وقوة وفهماً ودراية ، ثم استنتجوا عن هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين الاستشعار بأن كلامهم أهل لأن يكذب : ( إنا إذاً ) أي إن اتبعناه ) لفي ضلال ) أي ذهاب عن الصواب محيط بنا ) وسعر ) أي تكون عاقبتنا في ذلك الضلال الكون في أوائل أمر لا ندري عاقبته ، فإنه لم يجرب ولم يختبر ولم يمعن أحد قبلنا سلفاً لنا فيجرنا ذلك إلى جنون وجوع ونار كما يكون من يأتوه في القفار في أنواع من الحر بتوقد حر الجبال وحر الضلال وحر الهموم والأوجال - وذلك من النار التي توعدنا بها ، وهو معنى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما له بالعذاب ، وجعل سفيان بن عيينه له جمع سعير ، والمعنى إنا نكون إذا اتبعناك كما تقول جامعين بين الضلال والعذاب بسائر أنواعه .
ولما كان فيما قالوه أعظم تكذيب مدلول على صحته في زعمهم بما أمؤوا إليه من كونه آدمياً مثلهم ، وهو مع ذلك واحد من أحادهم فليس هو بأمثلهم وهو منفرد فلم يتأيد فكره بفكر غيره حتى يكون موضع الوثوق به ، دلوا عليه بأمر آخر ساقوه أيضاً مساق الإنكار ، وأموؤا بالإلقاء إلى أنه في إسراعه كأنه سقط من علو فقالوا : ( أألقي ) أي أنزل بغتة في سرعة لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ولم يأتمروا فيه قبل إتيانه به شيء منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع .
ولما كان الإلقاء يكون للأجسام غالباً ، فكان لدفع هذا الوهم تقديم النائب عن الفاعل أولى بخلاف ما تقدم في ص فقالوا : ( الذكر ) أي الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم ، وعبرا بعلى إشارة إلى أن مثل هذا الذي تقوله لا يقال إلا عن قضاء غالب وأمر قاهر فقال : ( عليه ( ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم : ( من بيننا ) أي وبننا من هو أولى بذلك سناً وشرفاً ونبلاً .
ولما كان هذا الاستفهام لكونه إنكارياً بمعنى النفي ، أضربوا عنه بقولهم على وجه النتيجة عطفاً على ما أفهمه الاستفهام من نحو : ليس الأمر كما زعم : ( بل هو ( لما أبدنياه من الشبه ) كذاب ) أي بليغ في الكذب ) أشر ) أي مرح غلبت عليه البطالة متفرغ للقطع مهيأ له خشن الأمر سيئ الخلق والأثر فهو يريد الترفع .(7/358)
صفحة رقم 359
ولما كان هذا غاية الذم لمن يستحق منهم غاية المدح ، أجاب تعالى عنه موعظة لعباده لئلا يتقولوا ما يعلمون بطلانه أو يقولوا ما لا يعلمون صحته بقوله : ( سيعلمون ( بوعد لا خلف فيه .
ولما كان المراد التقريب لأنه أقعد عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة ، وقراءة ابن عامر وحمزة ورويس عن يعقوب بالخطاب التفات يعلم بغاية الغضب ) من الكذاب الأشر ) أي الكذب والأشر وهو احتقار الناس والاستكبار على ما أبدوه من الحق مختص به ومقصود عليه لا يتعداه إلى مرميه وذلك بأنهم جعلوا الكذب ديدنه ولم يتعدهم حتى يدعى شيء منه لصالح عليه الصلاة والسلام ، فكان الكلام معيناً لهم في الكذب قاصراً عليهم بسياقه على هذا الوجه المبهم المنصف الذي فيه من روعة القلب وهز النفس ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، وكلما كان الإنسان أسلم طبعاً وأكثر علماً كان له أعظم ذوقاً .
القمر : ( 27 - 31 ) إنا مرسلو الناقة. .. . .
) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( ( )
ولما علم من هذا أنه سانه فصل الأمر بينهم ، تشوف السامع إلى علم ذلك فقال تعالى مستأنفاً دالاً بأنهم طالبوه بآية دالة على صدقه : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) مرسلو الناقة ) أي موجدوها ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الحجارة دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام : مخصصين له من بين قومه ، وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام : نريد أن نعرف المحق منا بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق ، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم ، فقالوا : ادع أنت ، فقال : فما تريدون ؟ قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تبعر عشراء ، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان ، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعد ما كذبوا في أن آلهتهم تجيبهم ، وصدق هو ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها ) فتنة لهم ) أي امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها ويجيبهم عنها ، وسبب سبحانه عن ذلك أمره بانتظارهم فيما يصنعون بعد إخراجهم لما توصلهم إليه عواقب الفتنة فقال : ( فارتقبهم ) أي كلف نفسك انتاظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم وهو عالم عليم فإنهم واصلون بأعمالهم إلى الداهية التي تسمى بأم العرقوب ليكونوا كمن جعل في رقبته ، ودل بصيغة الافتعال على أنه يكون له منه أذى بالغ قبل انفصال النزاع فقال : ( واصطبر ) أي الج نفسك واجتهد في الصبر عليهم ) ونبئهم ((7/359)
صفحة رقم 360
أي أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم ، وهو أن الماء الذي يشربونه وهو ماء بئرهم ) أن المائ قسمة بينهم ) أي بين ثمود وبين الناقة ، غلب عليها ضمير من يعقل ، يعني إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء ، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذاه أحد بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء ، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم ، وتوسع الكل بدل الماء لبناً .
ولما أخبر بتوزيع الماء ، أعلم أنه على وجه غريب بقوله استئنافاً : ( كل شرب ) أي من ذلك وحظ منه ومورد البرو وقت يشرب فيه ) محتضر ) أي أهل لما فيه من الأمر العجيب أن يحضره الحاضرون حضوراً عظيماً ، وتتكلف أنفسهم لذلك لأنه صار في كثرته وحسنه كماء الحاضرة للبادية وتأهل لأن تعارضه حاضروه من حسنه ويرجعوا إليه وأن يجتمع عليه الكثير ويعودوا أنفسهم عليه .
ولما كان التقدير : فكان الأمر كما ذكرنا ، واستمر الأمد الذي ضربنا فافتتنوا كما أخبرنا ) فنادوا ( بسبب الفتنة ) صاحبهم ( قار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناسقة وكذبنا فيها بوعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وهو أشقى الأولين ) فتعاطى ) أي أوقع بسبب ندائهم التعاطي الذي لا تعاطي مثله ، فتناول ما لا يحق له يتناوله بسبب الناقة وهو سيفه بيده قائماً في الأمر الناشئ عن هذا الأخذ على كل حال ، ورفع رأسه بغاية الهمة ومد يديه مداً عظيماً ورفعها وقام على أصابع رجليه حين عاطوه ذلك أي سألوه فيه فطاوعهم وتناول الناقة بذلك السيف غير مكترث ولا مبال ) فعقر ) أي فتسبب عن هذا الجد العظيم أن صدق فيما أثبت لهم الكذب في الوعد بالإحسان إليها والأشر ، وهو إيقاع العقر الذي ما كان في ذلك الزمان عقر مثله وهو عقر الناقة التي هي آية الله وإهلاكها .
ولما وقع كذبهم على هذا الوجوه العظيم المبني على غاية الأشر ، حقق الله تعالى صدقه في توعدهم على تقدير وقوع ذلك ، فأوقع عذابهم سبحانه على وجه هو من عظمه أهل لأن يتساءل عنه ، فنبه سبحانه على عظمة بإيراده في أسلوب الاستفهام مسبباً عن فعل الأشقى فقال : ( فكيف كان ( وحافظ على مقام التوحيد كما مضى فقال : ( عذابي ) أي كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه ) ونذر ) أي إنذاري .
ولما علم تفرغ ذهن السائل الواعي ، استأنف قوله مؤكداً إشارة إلى أن عذابهم مما يستلذ وينجح به ، وإرغاماً لمن يستبعد النصيحة الواحد بفعل مثل ذلك ، وإعلاماً بأن القدرة على عذاب من كذب من غيرهم كهي على عذابهم فلا معنى للتكذيب : ( إنا ( بما لنا من العظمة ) أرسلنا ( إرسالاً عظيماً ، ودل على كونه عذاباً بقوله : ( عليهم صيحة ( وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابهم بقوله تعالى : ( واحدة ( صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن بصحيته هذه التي هي واحدة(7/360)
صفحة رقم 361
طاقة ، وتلاشى عندها صياحهم حين نادوا صاحبهم لعقر الناقة .
ولما تسبب عنها هلاكهم قال : ( فكانوا ( كوناً عظيماً ) كهشيم المحتظر ) أي محطمين كالشجر اليابس الذي جعله الراعي ومن في معناه ممن يجعل شيئاً يأوي إليه ويحتفظ به ويحفظ به ماشيته في وقت ما لا يقاله ( ؟ ) وهو حظيره أي شيء مستدير مانع في ذلك الوقت لمن يدخل إليه فهو يتهشم ويتحطم كثير منه وهو يعمله فتدوسه الغنم ثم تتحطم أولاً فأولاً ، وكل ما سقط منه شيء فداسته الغنم كان هشيماً ، وكأنه الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته .
القمر : ( 32 - 39 ) ولقد يسرنا القرآن. .. . .
) وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ( ( )
ولما كان التقدير : لفقد أبلغنا في الموعظة لكل من يسمع هذه القصة ، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل من يعرض عن هذا القرآن ويعلل إعراضه عنه بصعوبته : ( ولقد يسرنا ) أي على ما لنا من القدرة والعظمة ) القرآن ) أي الكتاب الجامع لكل خير ، الفارق بين كل ملبس ) للذكر ) أي الحفظ والتذكير والتذكر وحصول انباهة به والشرف إلى الدارين .
ولما كان هذا غاية في وجوب الإقبال عليه لجميع المتولين ، قال : ( فهل من مدكر ) أي ناظر فيه بسبب قلونا هذا بعين الإنصاف والتجرد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فنعينه عليه .
ولما كان النذير : كأنه قال المنذرين لم يتعظوا به فزاد في وعظهم ، وكانت قصة لوط عليه السلام مع قومه أعظم ما كان بعد ثمود مما تعرفه العرب بالأخبار ورؤية الآثار ، ومع ما في قصتهم من تصوير الساعة من تبديل الأرض ير الأرض ، استأنف قوله : ( كذبت قوم لوط ) أي وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه وإن كانوا في تكذيبهم هذا في ضعف وقوع النساء عن التجرد مما دل عليه تأنيث الفعل بالتاء وكذا ما قبلها من القصص ) بالنذر ) أي الإنذار والإنذارات والمنذرين ، ودل على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الإخبار عن عذابهم فقال : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) أرسلنا ( ودل على أنه إرسال إهانة بقوله : ( عليهم ( ودل على هوانهم وبلوغ أمره كل ما يراد به بقوله : ( حاصباً ) أي ريحاً ترمي بحجارة هي دون ملء فكانت مهلكة لهم محرقة خاسفة مفرقة ) إلا آل لوط ( وهم من آمن به وكان بحيث إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله والمشي على منواله في أقواله وأحواله وأفعاله .(7/361)
صفحة رقم 362
ولما كان استثناؤهم مفهماً إنجاءهم مع التجويز لإرسال شيء عليهم غير مقيد بما ذكر ، قال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال : ما حالهم : ( تجيناهم ) أي تنجيه عظيمة بالتدريج ، وذكر أول الشروع لإنجاءهم فقال : ( بسحر ) أي بآخر ليلة من الليالي وهي التي عذب فيها قومه ، فكأنه تنكيره لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها ، ولو قصدت سحر الليلة التي صبحت منها كان معرفة لا ينصرف ، والسحر : السدس الأخير من الليل : الوقت الذي يكون فيه الإنسان لا سيما النساء والأطفار في غاية الغفلة بالاستغراق في النوم ، ويفتح الله فيها أبواب السماء باذن الدعاء ليحصل منه الإجابة لأن الملوك إذا فتحو أبوابهم كان ذلك إذناً للناس في الدخول لقضاء الحوائج ، فالنزول وفتح الأبواب كناية عن ذلك - والله سبحانه وتعالى متعال عن حاجة إلى نزول أو فتح باب أو غير ذلك .
ولما كان المراد من الموعظين الطاعة التي هي سبب النجاة ، فلذا قال ذاكراً للإنعام معبراً عنه بغاية المقصود منه معرفاً أن انتقامه عدل ومعافاته فضل ، لأن أحداً لا يقدر أن يكافئ نعمه ولا نعمة منها ، معللاً للنجاة : ( نعمة من عندنا ) أي عظيمة غريبة جداً لشكرهم ، ولما كان كأنه قيل : هل هذا مختص بهم. . .
الإنجاء من بين الظالمين وهو مختص بهم ، أجاب بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلنا جزاء لهم ) نجزي ( بقدرتنا وعظمتنا ) من شكر ) أي أوقع الشكر بجميع أنواعه فآمن وأطاع ليس. . .
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائناً من كان من سوقه أو سلطان جائر شجاع أو جبان ، فاننا عليه بالإنجاء بعد هلاك عدوه ، قال القشيري : والشكر على نعم الدفع أتم من الشكر على نعم النفع ، ولا يعرف ذلك إلا كل موفق كيس فالآية من الاحتباك : ذكر الإنعام أولاً - لأنه السبب الحقيقي - دليلاً على حذفه ثانياً ، والشكر ثانياً - لأنه السبب الظاهر - دليلاً على حذفه أولاً .
ولما كان التقدير دفعاً لعناد. . .
استشارف السامع إلى ما كان من حاله ( صلى الله عليه وسلم ) معهم قبل العذاب : لقد بالغ في شكرنا بوعظهم ونصحهم ودعائهم إلنيا صرفاً لما أنعمنا به عليه من الرسالة في أتم مواضعه ، عطف عليه إيماء إليه قوله ، مؤكداً لأن تمادي المحذور من العذاب على الإقامة في موجبه يكاد أن لا يصدق : ( ولقد أنذرهم ) أي رسولنا لوط عليه السلام ) بطشتنا ) أي أخذتنا لهم المقرونة بشدة ما لنا من العظمة ، ووحد إشارة إلى أ ، ه لا يستهان بشيء من عذابه سبحانه بل الأخذة الواحدة كافية لما لنا من العظمة فهي غير محتاجة إلى التثنية ، ودل على أن إنذاره كان جديراً بالقبول لكونه واضح الحقيقة بما سبب عن ذلك من قوله : ( فتماروا ) أي تكلفوا الشك الواهي(7/362)
صفحة رقم 363
) بالنذر ) أي الإنذار مصدراً والإنذارات أو المنذرين حتى أداهم إلى التكذيب ، فكان سبباً للأخذ .
ولما كان ترك الاحتياط في إعمال الحيلة في وجه الخلاص من إنذار النذير عظيم العرافة في السفه دل على أنهم تجاوزوا ذلك إلى انتهاك حرمة النذير ، فقال مقسماً لأن مثل ذلك لا يكاد يقع فلا يصدق من حكاه : ( ولقد راودوه ) أي زادوا في التكذيب الموجب للتعذيب أن عالجوا معالجة طويلة تحتاج إلى فتل ودوران ) عن ضيفه ( ليسلمهم إليهم وهم ملائكة في هيئة شباب مرد ، وأفردوا وإن كان المراد الجنس استعظاماً لذلك لو كان الضيف واحداً ) فطمسنا ) أي فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا ) أعينهم ( فسويناها مع سار الوجوه فصارت بحيث لا يرى لها شق ، قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، وذلك بصفقة صفقها لهم جبريل عليه الصلاة والسلام ، وقال القشيري : مسح بجناحيه على وجوههم فعموا ولم يهتدوا للخروج ، وقال ابن جرير : والعرب تقول : طمست الريح الأعلام - إذا دفنتها بما يسفي عليها من التراب .
فانطلقوا هراباً مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك وهم يقولون : عند لوط أسحر الناس ، وما أدتهم عقولهم أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم مما حل بهم ، قال القشيري : وكذلك أجرى الله سبحانه سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم .
ولما كان. . .
أول عذابهم قال : ( فذوقوا ) أي فتسبب عن ذلك أن قال قائل عن الله بلسان القال أو الحال : أيها المكذبون ذوقوا بسبب تكذيبكم لرسلي في إنذارهم ) عذابي ونذر ) أي وعاقبة إنذاري على ألسنة رسلي .
ولما كان بقاؤهم بعد هذا على حال كفرهم عجباً إذ العادة قاضية بأن من أخذ ارعوى ولو كان أفجر الخلق ، وسأل العفو عنه صدقاً أو كذباً خداعاً ومكراً لخلص مما هو فيه. . .
بثباتهم على تكذيبهم حتى عذبوا على قرب العهد فقال مقسماً : ( ولقد صبحهم ) أي أتاهم في وقت الصباح ، وحقق المعنى بقوله : ( بكرة ) أي في أول النهار بلادهم ورفعها ثم قلبها ، وحصبها بحجارة من نار وخسفها غمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان ) مستقر ) أي ثابت عليهم غير مزايل بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار فقال لهم لسان الحال إن لم ينطلق لسان القال : ( فذوقوا ( بسبب أعمالكم ) عذابي ونذر ( .(7/363)
صفحة رقم 364
القمر : ( 40 - 44 ) ولقد يسرنا القرآن. .. . .
) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( ( )
ولما كرر هذا التكرير ، علم منه أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان ، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها ، علم أن التقدير : فلقد بلغت هذه المواعظ النهاية لمن كان له قلب ، فعطف عليه قوله مذكراً بالنعمة التي لا عدل لها : ( ولقد يسرنا ) أي تعالى جدنا وتناهى مجدنا ) القرآن ( الجامع الفارق ) للذكر ( ولو شئنا لأعليناه بما لنا من العظمة إلى الحد حتى تعجز القوي عن فهمه ، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته في نظمه ، أو مطلع لا يتشبث بأذيال أدنى علمه ، إلا الأفراد من حذاق العباد ، فكيف بما فوق ذلك .
ولما كانوا مع ذلك واقفين عن المبادرة إليه والإقبال عليه ، قال تطلفاً بهم وتعطفاً عليهم مسبباً عن ذلك : ( فهل ( وأكد فقال : ( من مدكر ( مفتك لنفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم وعدم اكتراث بالعواقب .
ولما كان الآخر ينبغي له أن يحذر ما وقع للأول ، وكان قوم فرعون قد جاء بعد قوم لوط عليه السلام ، فكان ربما ظن أنهم لم ينذروا لأن من علم أن العادة جرت أن من كذب الرسل هلك أنكر أن يحصل ممن تبع ذلك تكذيب ، قال مقسماً : ( ولقد جاء آل فرعون ) أي ملك القبط بمصر وأشرافه الذين إذا رؤوا كان كأنه رئي فيهم لشدة قربهم منه وتخلقهم بأخلاقهم ) النذر ) أي المنذرون بنذارة موسى وهارون عليهما السلام ، فإن نذارة بعض الأنبياء كنذارة الكل لأنه يأتي أحد منهم إلا وله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، والمعجزات كلها متساوية في خرق العادة ، وكان قد أنذرهم يوسف عليه السلام ، ولما كان كأنه قيل : فما فعلوا عند مجيء ذلك إليهم ، قال : ( كذبوا ) أي تكذيباً عظيماً متسهينين ) بآياتنا ( التي أتاهم بها موسى عليه السلام وغيرها لأجل تكذيبهم بها على ما لها من العظمة المعرفة قطعاً عن أنها من عندنا .
ولما كانت خوارق العادات كما مضى متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الآتي بها ، وكانوا قد صمموا على أنه مهما أتاهم بآياة كذبوا بها ، كانوا كأنهم قد أتتهم كل آية لفذلك قال : ( كلها ( وسبب عن ذلك القول : ( فأخذناهم ) أي بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوع من الإغراق ) أخذ عزيز ) أي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء(7/364)
صفحة رقم 365
) مقتدر ) أي لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه ، بالغ القدرة إلى حد للا يدرك الوصف كنهه لأن صيغة الافتعال مبناها على المعاجلة من عاجل فعلاً أجهل نفسه فيه ، فكان على أتم الوجوه ، وهذه الغاية هي المرادة ليس غيرها ، فهوتمثيل لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعبده ، وبهذه المبالغة فلم يلفت منهم أحد ، وقد ختمت القصص بمثل ما افتتحت به من عذاب المفسدين بالإغراق ليطابق الختم البدء ، وكانت نجاة المصلحين من الأولين بالسفينة ، وكانت نجاة المصلحين من الآخرين بأرض البحر كانت هي سفينتهم ، ليكون الختم أعظم من البدء كما هو شأن أهل الاقتدار .
ولما بلغت هذه المواعظ الانتهاء ، وعلت أقدامها على رتبة السها ، ولم يبين ذلك كفار قريش عن شرادهم ، ولا فتر من جحودهم وعنادهم ، كان لسان حالهم قائلاً : إنا لا نخاف شيئاً من هذا ، فكان الحال مقتضياً لأن يقال لهم إلزاماً بالحجة : ( أكفاركم ( الراسخون منكم في الكفر الثابتون عليه يا أيها المكذبون لهذا النبي الكريم الساترون لشموس دنيه ) خير ( في الدنيا بالقوة والكثرة أو الدين عند الله أو عند الناس ) من أولائكم ) أي الكفار أي الكفار العظماء الجبابرة الأشداء الذين وعظناكم بهم في هذه السورة ليكون ذلك سبباً لافتراق حالهم منهم فيأمنوا العذاب مع جامع التكذيب وإن لم يكن لهم براءة من الله ) أم لكم ( أجمعين دونهم كفاركم وغير كفاركم ) براءة ( من العذاب من الله ) في الزبر ) أي الكتب الآتية من عنده أأمنتم بها من العذاب مع أنهم خير منكم ، فالآية من الاحتباك : أثبت الخيرية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً ، والبراءة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما بلغوا إلى هذا الحد من التمادي في الكفر مع المواعظ البالغة والاستعطاف المكين ، استحقوا أعظم الغضب ، فأعرض عنهم الخطاب إيذاناً بذلك وإهانة لهم واحتقاراً وإقبالاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية فقال عاطفاً على ما تقديره : أيدعون جهلاً ومكابرة شيئاً من هذين الأمرين : ( أم يقولون ) أي هؤلاء الذي أنت بين أظهرهم تعاملهم باللين في القال والقيل والصفح الجميل امتثالاُ لأمرنا تعظيماً لقدرك فاستهانوا بك : ( نحن جميع ) أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له ) منتصر ) أي على كل من يناويه لأنهم على قلب رجل واحد ، فالإفراد للفظ ( جميع ) ولإفهام هذا المعنى ، أو أن كل واحد محكوم له بالانتصار .
القمر : ( 45 - 48 ) سيهزم الجمع ويولون. .. . .
) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( ( )(7/365)
صفحة رقم 366
ولما كان لسان الحال ناطقاً بأنهم يقولون : هذا كله فأي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً ونحوها ، وقال بعضهم : لئن بعثنا لأوتينا وولداً ، ولا شك أنهم كانوا في غاية الاستحالة لغلبة المؤمنين لهم على قلتهم وضعفهم ، استأنف الجواب بقوله : ( سيهزم ( بأيسر أمر من أي هازم كان بوعد لا خلف فيه ، وقراءة الجمهور بالبناء للمفعول مفهمة للعظمة بطريقة كلام القدرين ، فهي أبلغ من قراءة يعقوب بالنون والبناء للفاعل الدالة على العظمة صريحاً ) الجمع ( الذي تقدم أنه بولغ في جمعه فصدق الله وعده وهمزوا في يوم بدر وغيره في الدنيا عن قريب ، ولم يزالوا يضعفون حتى اضمحل أمرهم وزال بالكلية سرهم ، وهي من دلائل النبوة البينة ) ويولون الدبر ) أي يقع توليتهم كلهم بهذا الجنس بأن يكون والياً لها من منهم مع الهزيمة لأنه لم يتولهم في حال الهزيمة نوع مسكنة يطنعون بها في الخيار ، وكل من إفراد الدبر والمنتصر وجمع المولين أبلغ مما لو وضع غيره موضعه وأقطع للتعنت .
ولما ونقع هذا في الدنيا ، وكان في يوم بدر ، وكان ذلك من أعلام النبوة ، وكان ربما ظن ظان أن ذلك هو النهاية ، كان كأنه قيل : ليس ذلك الموعد الأعظم ، ) بل الساعة ( القيامة التي يكون فيها الجمع الأعظم والهول الأكبر ) موعدهم ) أي الأعظم للجزاء المتوعد به ) والساعة أدهى ( من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا ، أفعل تفضيل من الداهية وهي أمر هائل لا يهتدى لدوائه ) وأمر ( لأن عذابها للكفار غير مفارق ومزايل .
ولما أخبر عن الساعة بهذا الإخبار الهائل ، علله مقسماً لأهلها مجملاً بعض ما لهم عند قيامها بقوله مؤكداً لما أظهروا من التكذيب : ( إن المجرمين ) أي القاطعين لما أمر الله بأن يوصل ) في ضلال ) أي عمى عن القصد بتكذيبهم بالبعث محيط بهم مانع من الخلاص من دواهي الساعة وغيرها ، ومن الوصول إلى شيء من مقاصدهم التي هم عليها الآن معتمدون ) وسعر ) أي نيران تضطرم وتتقد غاية الاتقاد ) يوم ) أي في ذلك اليوم الموعود به ) يسبحون ) أي في الساعة دائماً بأيسر وجه إهانة لهم من أي صاحب كان ) في النار ) أي الكاملة في النارية ) على وجوههم ( لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى ، مقولاً لهم من أي قائل اتفق : ( ذوقوا ) أي لأنهم لا منعة لهم ولا حمية عندهم بوجه ) مس سقر ) أي ألم مباشر الطبقة النارية التي تلفح بحرها فتلوح الجسم وتذيبه فيسيل ذهنه. . .
وعصاراً كما يسيل الدبس وعصارة الرطب فتسمى النخلة بذلك مسقاراً .
القمر : ( 49 - 55 ) إنا كل شيء. .. . .
) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ(7/366)
صفحة رقم 367
مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ) 73
( ) 71
ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها ، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه ، علل ذلك منبهاً على أن الكل فعله ، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية ، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم ، فقال : ( أنا ) أي بما لنا من العظمة ) كل شيء ) أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرة وكبيرها .
ولما كان هذا التعميم في الخلق أمراً أفهمه النصب ، استأنف قوله تفسيراً للعامل المطوي وإخباراً بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم ) خلقناه بقدر ) أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة - فلا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو
77 ( ) ولو شاء الله ما أشركنا ( ) 7
[ الأنعام : 148 ] فقد أولكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا ، ولا يقال لشيء قدرناه : لم ؟ قال الرازي في اللوامع : الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته - انتهى. ولا يكون شيء من أرمه سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة ، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافاً لا بقدر وعدل ، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافاً مضاعفة ، وقرئ في الشواذ برفع ( كل ) وجعله ابن جني أقوى من النصب ، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته ، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي ، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال .
ولما بين أن كل شيء بفعله ، بين يسر ذلك وسهولته عليه فقال : ( وما أمرنا ) أي كل شيء أردناه وإن عظم أثره ، وعظم القدر وحقر المقدورات بالتأنيث فقال : ( إلا واحدة ) أي فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك إحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الأرادة الأزلية ، ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما يعقله وأخفه فقال ؛ ) كلمح بالبصر ( فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه ، فكذلك الأفعال كلها ، بل أيسر من ذلك .(7/367)
صفحة رقم 368
ولما أخبر بتمام قدرته ، وكان إهلاك من ذكر من الكفار وإنجاء من ذكر من الأبرار في هذه السورة نحواً مما ذكر من أمر الساعة في السهولة والسرعة ، دل على ذلك بإنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه فذكر بهم جملة وبما كان من أحوالهم بأيسر أمر لأن ذلك أوعظ للنفوس وأزجر للعقول ، فقال مقسماً تنبيهاً على عادتهم في الكفر مع هذا الوعظ فعل المكذب بهلاكهم لأجل تكذيبهم عاطفاً على ما تقديره : ولقد أنجينا رسلنا وأشياعهم من كل شيء خطر : ( ولقد أهلكنا ) أي بما لنا من العظمة ) أشياعكم ( الين أنتم وهن شرع واحد في التكذيب ، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم ، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فلذلك سبب عنه قوله : ( فهل من مدكر ) أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعاف. . .
، وأن قدرته سبحانه عليه كقدرته عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته سبحانه .
ولما تمت الدلالة على إحاطة القدرة بما شوهد من الأفعال الهائلة التي لا تسعها قدرة غيره سبحانه ، وكانوا يظنون أن أحواله غير مضبوطة لأنه لا يمكن ضبطها ولا يسعها علم عالم ولا سيما إذا ادعى أنه واحد ، شرع في إتمام الإخبار بعظمة القدر بالإخبار بأن أفعالهم كلها مكتوبة فضلاً عن كونها محفوظة فقال : ( وكل شيء فعلوه ) أي الأشياء في أيّ وقت كان ، كأن بالكتابة ) في الزبر ) أي كتب الحفظة فليحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية ، هذا ما أطبق عليه القراء مما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل ، لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد .
ولما خصهم ، عم بقوله واعظاً ومخوفاً ومحذراً بأن كل شيء محفوظ فمكتوب فمعروض على الإنسان يوم الجمع : ( وكل صغير وكبير ( من الجواهر والمعاني منهم ومن غيرهم ) مستطر ) أي مكتوب على وجه عظيم من اجتهاد الحفظة في كتابته وتحريره مع يسر ذلك وسهولته .
زولما أخبر عن أحوال الكفرة في الدنيا والآخرة واعظاً بها وإعلاماً بعظمته وعليّ صفاته وسعة مملكته وشامل علمه وقدرته ، ختم بأحوال القسم الآخر من أهل الساعة وهم أهل طاعته تتميماً لذلك وإشارة وبشارة للسالك في أحسن المسالك ، فقال مؤكداً رداً على المنكر : ( إن المتقين ) أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئاً إلا بدليل .
ولما كان من البساتين والمياه وما هو ظاهر بكل مراد على عكس ما عليه الضال البعيد عن القسد الواقع في الهلاك والنار قال : ( في جنات ) أي في بساتين ذات أشجار تسر داخلها ، قال القشيري : والجمع إذا قوبل(7/368)
صفحة رقم 369
بالجمع فالأحاد تقابل الأحاد .
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدوم إلا بالماء قال : ( ونهر ( وأفرده لأن التعبير ب ( في ) مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له ، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد ، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار ، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف ، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف ، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى : أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلاً بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام ، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط .
ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان ، بين أن حال تلك غير حال هذه ، فقال مبدلاً مما قبله : ( في مقعد ) أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود ) صدق ) أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع .
ولما كان هذا غير معهود ، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم ، فقال مقيداً لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات : ( عند مليك ) أي ملك تام الملك ) مقتدر ) أي شامل اقدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريباً ، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير ، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد ، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين ، ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة ، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية ، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها ، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه ، وعفوه ومغفرته ورضوانه ، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام ، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام ، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان ، وهم الذين آمنوا ، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض ، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن ، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم(7/369)
صفحة رقم 370
الأعظم فلم يذكر في واحدة منها وجاء فها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران ، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان
77 ( ) ولمن خاف مقام ربه جنتان ( ) 7
) الرحمن : 46 ] ولهذا ختمت هذه الصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائناً من كان ، لأن الملك من حيث ه وملك إما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي ، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً ، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء ، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من العظمة بخرق العوائد باختراق السموات ، والوصول إلى أنها الغاية من المناجاة ، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت ، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق ، فكان ذلك مقتضياً لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص ، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر ، وكأنها جعلت ثلاثاً لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد ، فلما انقضت الثلاثة كان متبركاً به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه ترهيباً لمن يعصي ولا سيما من يظاهر ، وترغيباً في الطاعة للملك الغافر ، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد .
.. .(7/370)
صفحة رقم 371
سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن .
مقصودها الدلالة على كا ختمت به سورة من عظيم الملك وتمام الاقتدار بعموم رحمته وسبقها لغضبه ، المدلول عليه بكمال علمه ، اللازم عنه شمول قدرته ، المدلول عليه بتفصيل عجائب مخلوقاته وبدائع مصنوعاته في اسلوب التذكيرلا بنعماته ، والامتنان بجزيل آلائه ، على وجه منتج للعلم بإحاطته بجميع أوصاف الكمال ، فمقصودها بالذات إثبات الاتصاف بعموم الرحمة ترغيبا في إنعامه وإحسانه ، وترهيبا من انتقامه بقطع مزيد امتنانه ، وعلى ذلك دل اسمها الرحمن لأنه العام الامتنان واسمها عروس القرآن واضح البيان في ذلك ، لأنها الحاوية لما فيه من حلى وحلل ، وجواهر وكلل ، والعروس بجميع النعم والجمال ، والبهجة من نوعها والكمال ) بسم الله ( الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته ) الرحمن ( الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته واشتهر من عظيم آياته وبيناته ) الرحيم ( الذي ظهر اختصتصه لأهل طاعته بما تحققوا به من الذل المفيد للعز بلزوم عباداته .
الرحمن : ( 1 - 10 ) الرحمن
) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ( ( )
ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة ، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة ، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها ، قصر هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين ، وذلك من آثار الملك ، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة ، وصدرها بالاسم الدال على عموم الرحمة براعة للاستهلال ، وموازنة لما حصل بالملك والاقتدار من غياية التبرك والظهور والهيبة(7/371)
صفحة رقم 372
والرعب باسم هو مع انه في غاية الغيب دال على أعظم الرجاء مفتتحاً لها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي هز ذوي الهمم العالية في القمر إلى الإقبال عليه بقوله ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( لأنه لما كان للعظمة الدالة عليها نون ) يسرنا ( التي هي عماد الملك نظران : نظر الكبرياء والجبروت يقتضي أن يتكلم بما يعجز خلقه من كل جهة في الفهم والحفظ والإتيان بمثله وكل معنى من معانيه ، ونظر الإكرام والرحمة ، وكانت رحمته سابقة لغضبه نظر بها لخلقه لا سيما هذه الأمة المرحومة فيسر لها الذكر تحقيقاً للرحمة المقطعة أوائل السور ، ومنع المتعنت من أن يقول : إنه لا معاني لها بأن الفهم الحروف المقطعة أوائل اسور ، ومنع المتعنت من أن يقول : إنه لا معاني لها بأن فهم بعض الأصفياء بعض أسرارها ، فقال جواباً لمن كانه قال : من هذا المليك المقتدر ، فقيل : ( الرحمن ) أي العام الرحمة ، قال ابن برجان : وهو ظاهر اسمه الله ، وباطن اسمه الرب ، جعل هذه الأسماء الثلاثة في ظهروها مقام الذات يخبر بها عنه وحجاباً بينه وبين خلقه ، يوصل بها الخطاب منهم إليهم ، ثم أسماؤه الظاهرة مبينة لهذه الأسماء الثلاثة - انتهى .
ومن مقتضى اسمه ) الرحمن ( انبثت جميع النعم ، ولذا ذكر في هذه السورة أمهات النعم في الدارين .
ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصار بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال : ( علم القرآن ) أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو المسموع الجامع لكل خير ، الفارق بين كل لبس ، وكان القياس يتقضي أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته ، وصفاته في العظم كذاته ، وذاته غيب محض ، لأن الخلق أحق من أن يحيطوا به علماً ، ( وأين الثريا من يد المتناول ) فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد
77 ( ) وعلمآدم الاسماء كلها ( ) 7
[ البقرة : 31 ] ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن أجل النعم نعمة ادين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة ، وهو أعلى مراتب ، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها ، وفائدتها الإيصال إلى مقعد الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب .
وقال الإمام جعفر بن الزبير : من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آية كلها معجزة باهرة وسورة في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة ، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها ، وتظاهر بلاغتها وإيجازها : ألا ترى إلى تسارع(7/372)
صفحة رقم 373
الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى ) وقيل يا أرض ابتلغي ماءك ويا سماء أقلعي ) [ هود : 44 ] وقوله
77 ( ) فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( ) 7
[ الحجر : 94 ] ، الآيات ، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم بأنى له بر لوجه وقوعه ، وسورة القمر من هذا النمط ، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها ، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار ، ولولا أني لم أقصد التعليق ما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه ، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيهن فملا انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات ، وظهرت حجة الله على الخلق ، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن ووفقه لفهمه واعتباره ، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى ) الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ( وخص من أسمائه الحسنى هذاالاسم إشعاراً برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به ) وإن عدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أني للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال ) الرحمن علم القرآن ( ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصً ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط ، فاتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيهاً للثقلين وإعذاراً إليهم وتقريراً للجنسين على ما أوع سبحانه في العالم من العجائب والبراهيم الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى : ( فبأيّ آلاء ربكما تكذبنا ( خطاباً للجنسين وإعذاراً للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : كيف علمه وهو صفة من صفاته ولمن علمه ، قال مستأنفاً أو معللاً : ( خلق الإنسان ) أي قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات وأصله منها ثم عن سائر الناميات ثم عن غيره دليل على خلقه لكل شيء موجود
77 ( ) إنا كل شيء خلقناه بقدر ( ) 7
[ القمر : 49 ] والإنسان وإن كان اسم جنس لكن أحقهم بالإرادة بهذا أولهم وهو آدم عليه السلام ، وإرادته - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - لا تمنع إرادة الجنس من حيث هو .
ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا بخلقه ، قال : ( علمه البيان ( وهو القوة الناطقة ، وهي الإدراك للأأمور الكلية والجزئية والحكم الحاضر والغائب بقياسه على(7/373)
صفحة رقم 374
الحاضر تارة بالتوسم وأخرى بالحساب ومرة بالعيافة والزجر وطوراً بالنظر في الآفاق وغير ذلك من الأمور مع التمييز بين الحسن والقبيح وغير ذلك ما أدعه سبحانه وتعالىله مع تعبيره عما أدركه بما هو غائب في ضميره وإفهامه للغير تارة بالقول وتارة بالفعل نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها ، فصار بذلك ذا قدرة على الكمال في نفسه والتكميل لغيره ، فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن ، وهذا وإن كان سبحانه جبلنا عليه وخلقناه به قد صار عندنا مألوفاً ومشهوراً معروفاً ، فهو عند غيرنا على غير ذلك مما أوضحه لنا سبحانه نعمة علينا بمحاجته لملائكته الكرام عن نبينا آدم عليه الصلاة والسلام وما أبدى لهم من علمه وبهرهم من رسم كل شيء بمعناه واسمه .
ولما بين سبحانه النعمة في تعليم القرآن الذي هو حياة الأرواح ، وبين الطريق فيها ، دل على البيان بذكر البينات التي يجمعها أمر ويفرقهام آخر ، ولها مدخل في حياة الأشباح ، وعددها على سبيل الامتنان بياناً لأنها من أكبر النعم فقال في جواب من قال : ما بيانه ؟ بادئاً بالكوكب الأعظم الذي هو أعظم نوراً وأكبر جرماً وأعم نفعاً لليكون خضوعه لقبول الآثار أدل على خضوع غيره بياناً لحكمته في تدبيره وقوته في تقديره : ( الشمس ( وهي آية النهار ) والقمر ( وهو آية الليل اللذان كان بهما البيان الإبراهيمي ، ولعله بدأ لهذه الأمة بغاية بيانه عليه الصلاة والسلام تشريفاً لها بالإشارة غلى علو أفهامها ) بحسبان ) أي جريهما ، يجري كل منهما - مع اشتراكهما في أنهما كوكبان سماويان - بحساب عظيم جداً لا تكاد توصف جلالته في دقته وكثرة سعته وعظم ما يتفعر عليه من المنافع الدينية ولدنيوية ، ومن عظم هذا الحساب الذي أفادته صيغة الفعلان أنه على نهج واحد لا يتعداه ، تعلم به الأعوام والشهور والأيام والساعات والدقائق والفصول في منازل معلومة ، ويعرف موضع كل منهما في الآفاق العلوية وما يحدث له وما يتأثر عنه في الكوائن السفلية بحيث أن به انتظام غالب الأمور السفلية إلى غير ذلك من الأمور التي خلقهما الله عليها ولها ، وبين الإنسان وبين كل منهما من المسافات ما لا يعلمه على التحرير إلا العليم الخبير ، وهذا على تطاول الأويام والدهور لا يختل ذرة دلالة على أن صانعه قيوم لا يغفل ، ثم بعد هذا الحساب المستجد والحساب الأعظم الذي قدر لتكوير الشمس وانكدار القمر دلالة على أنه فاعل بالاختيار مع ما أفاد ذلك من تعاقب الملوين تارة بالاعتدال وتارة بالزيادة وأخرى بالنقص ، وغير ذلك من الأمور في لطائف المقدور .
ولما كان سيرهما على هذا المنهاج مع ما لهما فيه من الدؤب فيه بالتغير والتنقل طاعة منهما لمدبرهما ومبدعهما ومسيرهما ، وكان خضوعهما - وهما النيران الأعظمان -(7/374)
صفحة رقم 375
دالاً على خضوع ما دونهما من الكواكب بطريق الأولى ، كان ذكرهما مغنياً عن ذكر ما عداهما بخصوصه ، فأتبعهما حضور ما هو للأرض كالكواكب للسماء في الزينة والنفع بأن من أكثر الأقوات لجميع الحيوان والملابس من القطن والكتان وغير ذلك من عجيب الشأن ، معبراً بما يصلح لبقية الكواكب فقال : ( والنجم ) أي وجميع الكواكب السماوية وكل نبت ارتفع من الأرض ولا ساق له من النبات الأرضية التي هي أصل قوام الإنسان وسائر الحيوان ) والشجر ( وكل ما له ساق ويتفكه به أو يقتات ) يسجدان ) أي يخضعان وينقادان لما يراد منهما ويذلان للانتفاع بهما انقياد الساجد من العقلاء لما أمر به بجريهما لما سخرا له وطاعتهما لما قدرا فيه غير إباء على تجدد الأوقات من نمو في النبات ووقوف واخضرار ويبس وإثمار وعطل ، لا يقدر النجم أن يعلو إلى رتبة الشجرة ولا الشجرة أن يسفل إلى وهدة النجم إلىغير ذلك مما صرفنا فيه من سجود الظلال ودوران الجبال والمثال مما يدل على وحدانية الصانع وفعله بالاختيار ، ونفي الطبائع ، ومن تسيير في الكواكب وتدبير في المنافع في الحر والبرد اللذين جعل سبحانه بهما الاعتدال في النبات من الفواكهة والأقوات ، وغير ذلك من وجود الانتفاعات .
ولما كان تغير ما تقدم من الشمس والقمر والنجم والشجر يدل دلالة واضحة على أنه سبحانه هو المؤثر فيه ، وكانت السماء والأرض ثابتتين على حالة واحدة ، فكان ربما أشكل أمرهما كما ضل فيهما خلق من أهل الوحدة أهل الجمود والاغترار والوقوف مع الشاهد وغيرهم ، وكان إذا ثبت أنه تعالى المؤثر فيهما ، فلذلك قال مسنداً التأثير فيهما إليه بعد أن أعرى ما قبلهما من مثله لما إغنى عنه من الدلالة بالتغير والسير والتنقل عطفاً بالأرض ففتقها منها وأعلاها عنها بما يشهد لذلك من العقل عند كل من له تأمل في أن كل جسم ثقيل ما رفعه عما تحته إلا رافع ، ولا رافع لهذه إلا الله فإنه لا يقدر على التأثير غيره ، ولعظمها قدمها على الفعل تنبيهاً على التفكر فيما فيها من جلالة الصنائع وأنواع البدائع ، ومعنى بأنه جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه .
ولما كانت السماء مع علوها الدال على عزة موجدها ومدبرها دالة على عدله باعتدال جميع أحوالها من الحر والبرد والمطر والثلج والندى والطل وغير ذلك في أن كل فصل منها معادل لضده وأنها لا ينزلها سبحانه إلا بقدر معلوم ، وإلا لفسدت الأرض كلها ، ودلنا على أنه شرع لنا مثل ذلك العدل لتقوم أحوالنا وتصلح أقوالنا وأفعالنا بما(7/375)
صفحة رقم 376
قامت به السماوات والأرض فقال : ( ووضع الميزان ) أي العدل الذي بدر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا .
ولما ذكر أولاً القرآن الذي هو ميزان المعلومات ، ودل على رحمانيته بأنواع من البيان ، الذي رقي به الإنسان فصار أهلاً للفهم ، وذكره نعمة الميزان للمحسوسات ، أقبل بالخطاب عليه لافتاً له عن أسلوب الغيبة تنشيطاً له إلى ارتقاء مراتب الكمال بحسن الامتثال معللاً فقال : ( أن ) أي لأن ) لا تطغوا ) أي لا تتجاوزا الحدود ) في الميزان ) أي الأشياء الموزونة من الموزونات المعروفة والعلم والعمل المقدر أحدهما بالآخر ، وفي مساواة الظاهر والباطن والقول والفعل ، فالميزان الثاني عام لميزان المعلومات وميزان المحسوسات .
ولما كان التقدير : فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي ، عطف عليه قوله : ( وأقيموا الوزن ) أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء ) بالقسط ( .
ولما كان المراد العدل العظيم ، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن الضد فقال : ( ولا تخسروا الميزان ) أي توقعوا في شيء من آلة العدل التي يقدر بها الأشياء من الذرع والوزن والعدل والكيل ونحو - نوعاً من أنواع الخسر - بما دل عليه تجريد الفعل فتخسروا ميزان أعمالكم وجزائكم يوم القيامة ، وقد علم بتكرير الميزان ما أريد من التأكيد في الأمر به لما له من الضخامة سواء كان بمعنى واحد أو بمعان مختلفة .
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء ، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدة العناية والاهتمام به فقال : ( والأرض ) أي ووضع الأرض : ثم فسر ناصبها ليكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدة ما فيه من الحكم فقال : ( وضعها ) أي دحاها وبسطها على الماء ) للأنام ) أي كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت بعد أن وضع لهم الميزان الذي لا تقوم الأرض إلا به .
الرحمن : ( 11 - 19 ) فيها فاكهة والنخل. .. . .
) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( ( )
ولما كان في سياق بيان الرحمة بمزيد الإنعام ، وكان إقامة البينة أعظم نعمة ، وكانت الفواكه ألذ ما يكون ، وكانت برقتها وشدة لطافتها منافية للأرض في يبسها(7/376)
صفحة رقم 377
وكثافتها ، فكان كونها فيها عجباً دالاً على عظيم قدرته ، وكان ذكرها يدل على ما تقدمها من النعم من جميع الأقوات ، بدأ بها ليصير ما يتقدمها كالمذكور مرتين ، فقال مستأنفاً وصفها بما هو أعم : ( فيها فاكهة ) أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان ، والطعوم والمنافع - وغير ذلك من بديع الشأن .
ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها ، نبه عليه بترعيف بنوع منها ، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت ، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال : ( والنخل ( ودل على تمام القدرة بقوله : ( ذات ) أي صاحبة ) الأكمام ) أي أوعية ثمرها ، وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر ، وكل نبت يخرج ما هو مكمم فهو ذو كمام ، ولكنه مشهور في النخل لشرفه وشهرته عندهم ، قال البغوي : وكل ماستر شيئاً فهو كم وكمة ، ومنه كم القميص ، وفيه تذكير بثمر الجنة الذي ينفتق عن نباهم ، وذكر أصل النخل دون ثمره للتنبيه عن كثرة منافعه من الليف والسعف والجريد والجذوع وغيرها من المنافع التي الثمر منها .
ولما ذكر ما يتقات من الفواكه وهو في غاية الطول ، أتبعه الأصل في الاقتيات للناس والبهائم وهو بمكان من القصر ، فقال ذاكراً ثمرته لأنها المقصودة بالذات : ( والحب ) أي من الحنطة وغيرها ، ونبه على تمام القدرة بعد تنبيه بتمايز هذه المذكورات مع أن أصل الكل الماء بقوله : ( ذو العصف ) أي الورق والبقل الذي إذا زال عنه ثقل الحب كان ما تعصفه الرياح التي تطيره ، وهو التبن الذي هو من قوت البهائم .
ولما كان الريحان يطلق على كل نبت طيب الرائحة خصوصاً ، وعلى كل نبت عموماً ، أتبعه به ليعم ويخص جميع ما ذكر من سائر النبات وغيره على وجه مذكر بنعمه بغذاء الأرواح بعد ما ذكر غذاء الأشباح فقال : ( والريحان ( ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو غنكار شيء من صفاته ، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بانكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم ، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه ، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي ، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال ، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله ، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله ) الأنام ( قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه(7/377)
صفحة رقم 378
النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها : ( فبأي آلاء ) أي نعم عطايا ) ربكما ) أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره ، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه ، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته ) تكذبان ( فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس ، وأن لهم من ذلك ما لهم ، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة ، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء ، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام ، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها ، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى ، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء ، وتكل عن نظرها الأبصار النوابذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه. . .
نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه ، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه ، ولكما ذكر بفرد منه قيل له : لم تنكره ؟ سواءأقر به حال التقرير أو استمر على العناد ، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد ، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها ، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح ، وإن كانت نمقة فالنعم دفعها أو تأخير الإيقاع بها ، ولما تقدم من أن كل تذكير بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضوربة في الجهات الستّ على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك ، فإن كل كلمة منها - إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف - خمسة أحرف أن اعتبرت هجاء الأولين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق ، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب ، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي(7/378)
صفحة رقم 379
أسقطت ألفها ، فإن في إثباتها وحذفها اختلافاً بين أئمة المصاحف ، وهي إشارة إلى الجهات التي يملك الإنسان التصرف فيها ، أما الحواس فلا اختيار له فيها ، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جداً ، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست ، وذلك في الحقيقة فائدة ، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب إلى ثمان ذكرت أولاً عقب النعم ، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج ، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه ، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الألواب الثمانية إن شكرت ، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سببتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات ، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة ، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية ، وثمانية أخرى عقب الجنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم ، وكان ترتيبها في غاية الحسن ، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح ، وبدأ بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد ، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام ، فكأنه قيل : أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان .
ولما كان قد تقدم في إشارة الخطاب الامتنان بخلق الإنسان ، ثم ذكر أصول النعم عليه على وجه بديع الشأن ، إلى أن ذكر غذاء روحه : الريحان ، أبتع ذلك تفصيلاً لما أجمل فقال : ( خلق الإنسان ) أي أصل هذا النوع الذي هو من جملة الأنام الذي خلقنا الريحان لهم والغالب عليه الأنس بنفسه وبما ألفه .
ولما كان أغلب عناصره التراب وإن كان من العناصر الأربعة ، عبر عن إشارة به إلى مطابقة اسمه - بما فيه مما يقتضي الأنس الذي حاصله الثبات على حالة واحدة - لمسماه الذي أغلبه التراب لنقله وثباته ما لم يحركه محرك ، وعبر عن ذلك بما هو في(7/379)
صفحة رقم 380
غاية البعد عن قابلية البيان فقال : ( من صلصال ) أي يابس له صوت إذا نقر عليه ) كالفخار ) أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار لانه أخذه من التراب ثم خلطه بالماء حتى صار طيناً ثم تركه حتى صار حماء مسنوناً مبيناً ، ثم صوره كما يصور الإبريق وغيره من الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر عليه صوت صوتاً يعلم منه هل فيه عيب أم لا ، كما أن الآدمي بكلامه يعرف حاله وغاية أمره ومآله ، فالمذكور هنا غاية تخليقه وهو أنسب بالرحمانية ، وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة إنشاؤه ، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم ، فمن التراب جسده ونفسه ، ومن الماء روحه وعقله ، ومن النار غوايته وحدته ، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه .
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة ، وأغلبها في جبلته النار ، قال تعالى : ( وخلق الجانّ ) أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم ، وهو اسم جمع للجن .
ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم ، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال : ( من مارج ) أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جداً والاختلاط ، قال البغوي : وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه ، وقال القشيري ، هو اللهب المختلف بسواد النار - انتهى .
ومرجت نارهم - أي اختلطت - ببرد الزمهرير .
ولما كان المارج عاماً في النار وغيرها ، بينه بقوله : ( من نار ( هي أغلب من عناصر ، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار ، وليس عندهم مروج ولا اضطراب ، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به ، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره لئلا يتعدى طوره .
ولما كان خلق هذين القبيلين على هذين الوجهين اللذين هما في غاية التنافي مستوراً أحدهما عن الآخر مع منع كل من التسلط على الآخر إلا نادراً ، إظهاراً لعظيم قدرته وباهر حكمته من أعظم النعم ، قال مسبباً عنه : ( فبأيَّ آلاء ربكما ) أي النعم الملوكية الناشئة عن مبدعكما ومربيكما وسيدكما ) تكذبان ) أي بنعمة البصر من جهة الوراء وغيرها من خلقكم على هذا النمط الغريب ، وإيداعكم ما أودعكم من القوى ، وجعلكم خلاصة مخلوقاته ، ومن منع أحد قبيليكم عن الآخر ، وتيسيره لكم الأرزاق والمنافع ، وحملكم على الحنيفية السمحة ، وقدرته على إعادتكم كما قدر على ابتدائكم .
ولما ذكر سبحانه هذين الجنسين اللذين أحدهما ظاهر والآخر مستتر ، إرشاداً إلى التأمل فيما فيهما من الدلالة على كمال قدرته ، فكانا محتاجين إلى ما هما فيه من(7/380)
صفحة رقم 381
المحل ، وكان صلاحه مما دبر سبحانه فيه من منازل الشروق الذي هو سبب الأنوار والظهور ، والغروب الذي هو منشأ الظلمة والخفاء ، أتبعه قوله منبهاً على النظر في بديع صنعه الدال على توحيده : ( رب ) أي هو خالق ومدير ) المشرقين ( ومدبرهما على كيفية لا يقدر على شيء منها غيره ) ورب المغربين ( كذلك ، وهذه المشارق والمغارب هي ما للشتاء من البروج ، السافلة الجنوبية التي هي سبب الأمطار والثلوج ، التي هي سبب الحياة والظهور ، حال كون الشمس منحدرة في آفاق السماء ، وما للصيف من البروج العالية في جهة الشمال التي هي سبب التهشم والأفول والشمس مصعدة في جو السماء ، وما بينهما من الربيع الذي هو للنمو ، والخريف الذي هو للذبول ، فهي آية الإيجاد والإعدام ، فأول المشارق الصيف وقت استواء الليل والنهار عند حلول الشمس بأول البروج الشمالية صاعدة وهو الكبش ، يعتدل الزمان حينئذ بقطعها الجنوبية واستقبالها الشمالية ، ثم آخر مشارقه إذا كانت الشمس في آخر الشمالية وأول الجنوبية عند حلولها برأس الميزان يعتدل الزمان ثانياً لاستقبالها البروج الجنوبية ، ثم بحلولها بآخر القوس ورأس الجدي يكون الانتهاء في قصر الأيام وطول الليالي لتوسطها البروج الجنوبية ، ثم بحلولها كذلك عند خروجها من برج التوأمين إلى السرطان من بروج الشمال ، وهي آخر درجات الشمس ، يكون طول الأيام وقصر الليالي ، فيختلف على هذين الفصلين الحر والبرد ، وكون الشمس في أول برج الحمل هو مبثابة طلوعها من المشرق في أول كل نهار ، وكونها في الاعتدار الثاني عند استقبالها البروج الجنوبية إذا حلت برأس الميزان هو بمثابة غروبها ، ثم بكونها في الانتهائين في طول الأيام حين حلولها برج السرطان هو بمنزلة استوائها في الصيف في كبد السماء كما أن حلولها برأس الجدي عند الانتهاء في الشتاء في قصر الأيام وطول الليالي هو بمثابة استوائها فيما يقابل استواءها في الشتاء في كبد السماء في النهار - ذكر ذلك ابن برجان وقال بعد ذلك : سخر سبحانه لعباده جهنم - بواسطة الشمس - وهي أعدى عدو لهم ، فأخرج لهما بواسطتها الزرع الزيتون والرمان والنخيل والأعناب والجنان المعروشات وغير المعروشات ومن كل الثمرات .
ولما كان في هذا من النعم ما لا يحصى ، قال مسبباً : ( فبأيَّ آلاء ربكما ( الذي دبر لكم هذا التدبير العظيم ) تكذبان ) أي بنعمة البصرة من جهة اليمين أو غيرها من تسخير الشمس والقمر دائبين دائرين لإدارة الزمان وتجديد الأيام ، وعدد الشهور والأعوام ، واعتدال الهواء واختلاف الأحوال على الوجه الملائم لمصالح الدنيا ومعايشها على منهاج محفوظ وقانون لا يزيغ .(7/381)
صفحة رقم 382
ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار ، فأغرقت البراري والقفار ، وعلت على الأمصار وجميع الأقطار ، فقال : ( مرج ) أي أرسل الرحمن ) البحرين ) أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين ، من طبعهما الاضطراب ، حال كونهما ) يلتقيان ) أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها ، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة ، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه ، بل يحرق بطنه ويعييه ، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه .
الرحمن : ( 20 - 26 ) بينهما برزخ لا. .. . .
) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( ( )
ولما كان التقاء المايعين ولا سيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى ، فتشوفت النفس إلى المانع من مثل ذلك في البحرين ، قال مستأنفاً : ( بينهما برزخ ) أي جاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط ، وقال ابن برجان : البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا ، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف ، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً ، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما ، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره ، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان .
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال : ( لا يبغيان ) أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام عليه الصلاة والسلام ، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة ، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن ، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب ، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى ، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة ، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك ، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء .(7/382)
صفحة رقم 383
ولما كان هذا أمراً باهراً دالاً دلالة ظاهرة على تمام قدرته لا سيما على الآخرة ، قال مسبباً عنه : ( فبأيَّ آلاء ربكما ) أي الموجد لكما والمربي ) تكذبان ) أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أيو غيره ، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار ، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعاً في جميع الأكوان .
ولما ذكر المنة بالبحر ذكر النعمة بما ينبت فيه كما فعل بالبر ، فقال معبراً بالمبني للمفعول لأن كلاً من وجوده فيه والتسليط على إخراجه منه خارق من غير نظر إلى مخرج معين ، والنعمة نفس الخروج ، ولذلك قرأ غير نافع والبصريين بالبناء للفاعل من الخروج : ( يخرج منهما ) أي بمخالطة العذب الملح من غير واسطة أو بواسطة السحاب ، فصار ذلك كالذكر والأنثى ، قال الرازي : فيكون العذب العذب كاللقح للملح ، وقال أبو حيان : قال الجمهور : إنما يخرج من الإجاج في المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة مولاه رضي الله عنه : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر - انتهى .
فتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر البحر كالجسد الغاذي ، والدليل على أنه من ماء المطر كما قال الأستاذ حمزة الكرماني : إن من المشهور أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان ، وقلت الأصداف والجواهر - انتهى .
ثم لا شك في أنهما وإن كانا بحرين فقد جمعها وصف واحد بكونهما ماء ، فيسوغ إسناد الخروج إليهما كما يسند خروج الإنسان إلى جميع البلد ، وإنما خرج من دار منها كما نسب الرسل إلى الجن والإنس بجمعهما في خطاب واحد فقال :
77 ( ) رسل منكم ( ) 7
[ الأنعام : 130 ] وكذا
77 ( ) وجعل القمر فيهن نوراً ( ) 7
[ نوح : 16 ] ومثله كثير ) اللؤلؤ ( وهو الدر الذي هو في غاية البياض والإشراق والصفاء ) والمرجان ) أي القضبان الحمر التي هي في غاية الحمرةن فسبحان من غاير بينهما في اللون والمنافع والكون - نقل هذا القول ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقال : وهذا هو المشهور الاستعمال - انتهى ، وقال جمع كثير : إن اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره .
ولما كان ذلك من جليل النعم ، سبب عنه قوله : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي المالك لكما الذي هو الملك الأعظم ) تكذبان ( مع هذه الصنائع العظمى ، أبنعمة البصر من جهة الفوق أو غير ذلك من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها وإخراج الحلي الغريبة وغيرها .(7/383)
صفحة رقم 384
ولما كان قد ذكر الخارج منه بماء السماء ، ذكر السائر عليه بالهواء ، وأشار بتقديم الجار إلى أن السائر في الفلك لا تصريف له ، وإن ظهر له تصريف فهو لضعفه كلا تصريف ، فقال : ( وله ) أي لا لغيره ، فلا تغتروا بالأسباب الظاهرة فتقوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها كما وقف أهل الاغترار بالشاهد ، الذين أجمد أهل الأرض أذهاناً وأحقرهم شأناً فقالوا بالاتحاد والوحدة ) الجوار ) أي السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة .
ولما كانت حياة كل شيء كونه على صفة كماله ، وكانت السفن تبنى من خشب مجمع وتوصل حتى تصير على هيئة تقبل المنافع الجمة ، وكانت تربى بذلك الجمع كما تربى النبات والحيوان ، وكانت ترتفع على البحر ويرفع شراعها وتحدث في البحر بعد أن كانت مستترة بجبال الأمواج قال تعالى : ( المنشآت ( من نشأ - إذا وربا ، والسحابة : ارتفعت ، وأصل الناشئ كل ما حدث بالليل وبدأ ، ومعنى قراءة حمزة وأبي بكر بكسر الشين أنها رافعة شراعها بسبب استمساكها عن الرسوب ومنشئة للسير ، ومعنى قراءة الباقين أنه أنشأها الصانع وأرسلها ورفع شراعها .
ولما كانت مع كونها عالية على الماء منغمسة فيه مع أنه ليس لها من نفسها إلا الرسوب والغوص قال : ( كالأعلام ) أي كالجبال الطوال .
ولما كان ما فيها من المنافع بالتكسب من البحر بالصيد وغيره والتوصل إلى البلاد الشاسعة للفوائد الهائلة ، وكانت أعمالهم في البحر الإخلاص الذي يلزم منها الإخلاص في البر ، لأنهما بالنسبة إلى إبداعه لهما وقدرته على التصرف فيهما بكل ما يريده على حد سواء ، سبب عن ذلك قوله : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعمة العظمى ) تكذبان ( أبنعمة البصر من تحتكم أو غيرها من الأسفار ، في محل الأخطار ، والإنجاء عند الاضطراب والريح في محل الخسار ، والإرشاد إلى ذلك بعد خلق مواد السفن وتعليم صنعتها وتسخيها والفلك لعدصي لوهما ( ؟ ) بمثابة جميع الكون ، فخدامها كالملائكة في إقامة الملكوت وتحسين تماسكه بإذن ربهم ، والمسافرون بها الذين أنشئت لأجلهم وزان المأمورين المكلفين المتهيئين الذين من أجلهم خلقت السماوات والأرض وما بينهما فعبر بهم من غربتهم إلى قرارهم ، ومن غيبتهم إلى حضورهم ومشاهدهم ، ومدبرها أمرها في أعلاها يأمرهم بأمره فيعدونه ويسمعون له ، ثم قد يصرف الاعتبار إلى أن تكون آية على قطع المؤمن أيام الدنيا فالدنيا هي البحر ، والسفينة جسمه ، وباطن العبد هو المحمول فيها ، العقل صاحب سياستها ، والقوى خدمتها ، وأمر الله وتدبيره محيط بها ، والإيمان أمنتها ، والتوفيق ريحها ، والذكر شراعها ، والرسول سائقها بما جاء به من عند ربه ، والعمل الطيب يصلح شأنها - ذكر ذلك ابن برجان(7/384)
صفحة رقم 385
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان والمعاني ، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً ، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي أسس عليها المركبات ، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر ، وكان راكبه في حكم العدم ، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق ، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب ) من ( للدلالة على التصريح تهويلاً بفتاء العاقل على فناء غير العاقل بطريق الأولى : ( كل من عليها ) أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً ) فان ) أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى إليه ، وليس لذل ككله من ذاته إلا العدم ، فهو فان بهذا الاعتبار ، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن ، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين ذلك يتعاوره الإيجاد والإفناء في حين من أحواله وأعراضه وقواه ، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته .
الرحمن : ( 27 - 34 ) ويبقى وجه ربك. .. . .
) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ( )
ولما كان الوجه أشرف ما في الوجود ، وكان بعر به عما أريد به صاحب الوجه مع أنه لا يتصور بقاء الوجه صاحبه ، فكان التعبير به عن حقيقة ذلك الشيء أعظم وأدل على الكمال ، وكان من المقرر عند أهل الشرع أنه سبحانه ليس كمثله شيء فلا يتوهم أحد منهم من التعبير به نقصاً قال : ( ويبقى ) أي بعد فناء الكل ، بقاء مستمراً إلى ما لا نهاية له ) وجه ربك ) أي المربي لك بالرسالة والترقية بهذا الوحي إلى ما لا يحد من المعارف ، وكل عمل أريد به وجهه سبحانه وتعالى خالصاً .
ولما ذكر مباينته للمخلوقات ، وصفه بالإحاطة الكاملة بالنزاهة والحمد ، وقال واصفاً الوجه لأن المراد به الذات الذي هو أشرفها معبراً به ولأنها أبلغ من ( صاحب ) وبما ينبه على التنزيه عما ربما توهمه من ذكر الوجه بليد جامد مع المحسوسات يقيس الغائب - الي لا يتعريه حاجة ولا يلم بجنابه الأقدس نقص - بالشاهد الذي كله نقص وحاجة ) ذو الجلال ) أي العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ) والإكرام ) أي الإحسان العام وهو صفة فعله .
ولما كان الموت نفسه فيه نعم لا تنكر ، وكان موت ناس نعمة على ناس ، مع ما(7/385)
صفحة رقم 386
ختم به الآية من وصفه بالإنعام قال : ( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المربي لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ) تكذبان ) أي أيها الثقلان الإنس والجان ، أبنعمة السمع من جهة الأمام أو غيرها من إيجاد الخلق ثم إعدامهم وتخليف بعضهم في أثر بعض وإيراث البعض ما في يد البعض - ونحو ذلك من أمور لا يدركها على جهتها إلا الله تعالى .
ولما كان أدل دليل على العدم الحاجة ، وعلى دوام الوجود الغنى ، قال دليلاً على ما قبله : ( يسئله ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ) من في السموات ) أي كلهم ) والأرض ) أي كلهم من ناطق أو صامت بلسان الحال أو القال أو بهما ، ولما كان كأنه قيل : فماذا يفعل عند السؤال ، وكان أقل الأوقات المحدودة المحسوسة ) اليوم ( عبر به عن أقل الزمان كما عبر به عن أخف الموزونات بالذرة فقال مجيباً لذلك : ( كل يوم ) أي وقت من الأوقات من يوم السبت وعلى اليهود علنة الله وغضبه حيث قالوا في السبت ما هو مناف لقوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ( ) 7
[ ق : 38 ]
77 ( ) ولا يؤده حفظهما هو العلي العظيم ( ) 7
[ البقرة : 255 ] ) هو في شأن ) أي من إحداث أعيان وتجديد معان أو إعدام ذلك ، قال القشيري : في فنون أقسام المخلوقات وما يجريه عليها من اختلفا الصفات - انتهى .
وهو شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها تتعلق قدرته على وفق إرادته على ما تعلق به العلم في الأزل أنه يكون أو يعدم في أوقاته ، فكل شيء قانت له خاضع لديه ساجد لعظمته شاهد لقدرته دالّ عليه ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ( وذلك التعير - مع أنه من أجل النعم - أدل دليل على صفات الكمال له وصفات النقص للمتغيرات وأنها عدم في نفسها ولأنها نعم قال : ( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المربي لكما بهذا التدبير العظيم لكل ما يصلحكما ) تكذبان ( أبنعمة السمع من جهة الخلف أو غيرها من تصريفه إياكم فيما خلقكم له هو أعلم به منكم من مايشكم وجميع تقلباتكم ، وقد تكررت في هذه الآية نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى لأنها تزيد على السبعة التي هي العدد التام الواحد هو مبدأ لدور جديد من العدد إشارة إلى أنه كلما انقضى منها دور ابتدأ دور آخر ، ووجه آخر وهو أن الأخيرة صرح فيها ب ) من في السموات والأرض ( والسبع التي قبلها يختص بأهل الأرض إشارة إلى أن أمهات النعم سبع كالسماوات والأرض والكواكب السيارة ونحو ذلك .
ولما انقضى عد النعم العظام على وجه هو في غاية الإمكان من البيان ، وكان تغير(7/386)
صفحة رقم 387
سائر الممكنات من النبات والجماد والملائكة والسماوات والأرض وما حوتا مما عدا الثقلين على نظام واحد لا تفاوت فيه ، وأما الثقلان فأحوالهما لأجل تنازع العقل والشهوات لا تكاد تنضبط ، بل تغير حال الواحد منهم في اللحظة الواحد إلى ألوان كثيرة متضادة لما فيهم من المكر وأحوال المغالبة والبغي والاستئثار باللهو بالأمر والنهي ، وكان أكرهم يموت بناره من غير أخذ ثأره ، واقتضت الحكمة ولا بد أنه لا بد لهم من يوم يجتمعون فيه يكون بينهما فيه الفصل على ميزان العدل ، خصهما بالذكر فقال آتياً في النهاية بالوعيد لأنه ليس للعصاة بعد الإنعام والبيان إلا التهديد الشديد للرجوع غلى طاعة الملك الديان ، والالتفات في قراءة الجماعة بالنون إلى التكلم أشد تهديداً من قراءة حمزة والكسائي بالتحتية على نسق ما مضى : ( سنفرغ ) أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت ) لكم ) أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم : ( أيّه الثقلان ( بالنصفة ، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه ، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى المقصودان بالذات من الخلائق ، وقال الرازي في اللوامع : وصفاً بذلك يعظم ذلك شأنهما ، كأن ما عداهما لا وزن له بالإضافة إليهما - انتهى .
وهذا كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ) وقال جعفر الصادق : سيما بذلك لأنهما مثقلان بالذنوب .
ولما كان هذا من أجلّ النعم التي يدور عليها العباد ، ويصلح بها البلاد ، وتقوم بها السماوات والأرض ، لأن مطلق التهديد يحصل به انزجار النفس عما لها من الانتشار فيما يضر ولا ينفع ، فكيف بالتهديد بيوم الفصل قال : ( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المحسن إليكما بهذا الصنع المحكم ) تكذبان ( أبنعمة السمع عن اليمين أو بغيرها من إثابة أمل طاعته وعقوبة أمل معصيته ، وسمى ابن برجان هذا الإخبار الذي لا نون جمع فيه خطاب القبض يخبر فيه عن موجوداته وما هو خالقه ، قال : وذلك إخبار منه عن محض الوحدانية ، وما قبله من ) سنفرغ ( ونحوه وما فيه نون الجمع إخبار عن وصف ملكوته وجنوده وهو خطاب البسط .
ولما كان التهديد بالفراغ ربما أوهم أنهم الآن معجوز عنهم أو عن بعض أمرهم ، بين بخطاب القبض المظهر لمحض الواحدانية أنهم في القبضة ، لا فعل لأحد منهم(7/387)
صفحة رقم 388
بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم ، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بيناً للمراد بالثقلين : ( يا معشر ) أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق ) الجن ( قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء ) والإنس ) أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع. ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية ، جمع دلالة على كثرتهم فقال : ( إن استطعتم ) أي إن وجدت لكم طاعة الكون في ) أن تنفذوا ) أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم ) من أقطار ) أي نواحي ) السموات والأرض ( التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم ، أو عصيان عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك ) فانفذوا ( وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق .
ولما كان نفوذهم في حد ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولا سيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف ، أشار إليه بقوله مستأنفاً : ( لا تنفذون ) أي من شيء من ذلك ) إلا بسلطان ( إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك ، قال البغوي : وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : يا معشر الجن الآية .
انتهى ، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة له أنه خاص بهم .
ولما كان هذا نظرهم فيما بينهم وبين بقية الحيوانات بما أعطاهم من القوى الحسية والمعنوية وما نصب لهم ، المصاعد العقلية والمعارض النقلية التي ينفذون بها إلى غاية الكائنات ويتخللون بما يؤديهم إليه علمها إلى أعلى المخلوقات ، ثم نظرهم فيما بين الحيوانات وبين النباتات ثم بينها وبين الجمادات دالاًّ دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء من يشاء ، فلو أراد قواهم على النفوذ منها ، ولو قواهم على ذلك لكان من أجل النعم ، وأنه سبحانه قادر على ما يريد منهم ، فلو شاء أهلكم ولكنه يؤخرهم إلى آدالهم حلماً منه وعفواً منه عنهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على كل ما يريد(7/388)
صفحة رقم 389
) تكذبان ( أبنعمة السمع من جهة اليسار أو غيرها من جعلكم سواء في أنكم لا تقدرون على مخالفة مراده سواء ابتدأ بخلقكم أو اليوم المشهود وقد أشهدكم قبل على أنفسكم وعهد إليكم أو بتكشيط السماوات وقد شاهدتم تكشيط السحاب بعد بسطه أو بالجزاء وقد رأيتم الجزاء العاجل وشاهدتم ما أصاب الأمم الماضية .
الرحمن : ( 35 - 45 ) يرسل عليكما شواظ. .. . .
) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ( )
ولما سلب عنهم القدرة على النفوذ المذكور تنبيهاً على سلب جميع القدرة عنهم وعلى أن ما يقدرون عليه إنما هو بتقديره لهم نعمة منه عليهم ، ولما كان منهم من بلغ الغاية في قسوة القلب وجمود الفكر فهو يحيل العجز عن بعض الأمور إلى أنه لم يجر بذلك عادة ، لا إلى أنه سبحانه المانع من ذلك ، فعمهم شيء من ذلك سطوته فقال ) يرسل عليكما ) أي أيها المعاندون ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : حين تخرجون من القبور بسوقكم إلى المحشر ) شواظ ) أي لهب عظيم منتشر مع التضايق محيط بكم من كل جانب له صوت شديد كهيئته ذي الخلق الضيق الشديد النفس .
ولما كان الشواظ يطلق على اللهب الذي لا دخان فيه وعلى دخان النار وحرها وعلى غير ذلك ، بينه بقوله : ( من نار ونحاس ) أي دخان هو في غاية الفظاعة فيه شرر متطاير وقطر مذاب ، قال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاساً بضم النون وكسرها ، وأجمع القراء على ضمها - انتهى .
وجرها أبو عمرو وابن كثير عطفاً على ) نار ( ورفعه الباقون عطفاً على ) شواظ ( .
ولما كان ذلك ممكناً عقلاً وعادة ، وكانوا عارفين بأنهم لو وقعوا في مثل ذلك لم يتخلصوا منه بوجه ، سبب عنه قوله : ( فلا تنصران ( قال ابن برجان : هذا مصداق قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يخرج عنق من نار فيقول بكل جبار عنيد فيلتقطهم من بين الجمع لقط الحمام حب السمسم ، ويغشي المجرمين دخان جهنم من بين المؤمنين ولا يضرهم ، وآية الشواظ وعنق النار هنالك صواعق ما هنا وبروقه والنار المعهودة ) .
ولما كان التهديد بهذا لطفاً بهم فهو نعمة عليهم والعفو عن المعالجة بإرسالة لذلك ، سبب عنه قوله : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي المربي لكما بدفع البلايا وجلب المنافع(7/389)
صفحة رقم 390
) تكذبان ( أبنعمة السمع من فوق أو غيرها ، ألم يكن لكم فيما شهدتموه في الدنيا من دلائل ذلك وآياته ما يوجب لكم الإيمان .
ولما كان هذا مما لم تجر عادة بعمومه وإن استطرد بجريانه منه في أشياء منه في أماكن متفرقة كأشخاص كثيرة ، بين لهم وقته بقوله : ( فإذا ) أي فيتسبب عن هذا الإرسال إنه إذا ) انشقت السماء ( من هوله وعظمته فكانت أبواباً لنزول الملائكة وغيرهم ، وغير ذلك من آيات الله ) فكانت ( لما يصيبها من الحر ) وردة ) أي حمراء مشرقة من شدة لهيبه ، وقال البغوي : كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى حمرة وصفرة .
) كالدهان ) أي ذائبة صافية كالشيء الذي يدهن به أو كالأديم الأحمر والمكان الزلق ، وآية ذلك في الدنيا الشفقان عند الطلوع وعند الغروب ، وجواب ) إذا ( محذوف تقديره : علمتم ذلك علماً شهودياً أو فما أعظم الهول حينئذ ونحو ذا أن يكون الجواب شيئاً دلت عليه الآيات الآتية نحو : فلا يسأل أحد إذ ذاك عن ذنبه ، وحذفه أفخم ليذهب الوهم فيه كل مذهب .
ولما كان حفظ السماء عن مثل ذلك بتأخير إرسال هذا وغيره من الأسباب وجعلها محل الروح والحياة والرزق من أعظم الفواضل قال مسبباً عنه : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي المربي لكما هذا التدبير المتقن ) تكذبان ( أبنعمة المسع من تحت أو غيرها وليس شيء بما أخبرتكم به من أحوال الآخرة إلا قد أقمت لكم في الدنيا ما تهتدون به إلى العلم بكونه ، ولما كان يوم القيامة ذا ألوان كثيرة وموافقة مهولة طويله شهيرة تكون في كل منها شؤون عظيمة وأمور كبيرة ، ذكر بعض ما سببه هذا الوقت من التعريق بالمعاصي والطائع بآيات جعلها الله سبباً في علمها فقال : ( فيومئذ ) أي فسبب عن يوم انشقت السماء لأنه ) لا يسئل ( سؤال تعرف واستعلام بل سؤال تقريع وتوبيخ وكلام ، وذلك أنه لا يقال له : هل فعلت كذا ؟ بل يقال له : لم فعلت كذا ، على أنه ذلك اليوم طويل ، وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه وتارة لا يسأل ، والأمر في غاية الشدة ، وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً ، فقد مضى في الفاتحة أن اليوم عبارة عن وقت يمتد إلى انقضاء أمر مقدر فيه ظاهر من ليل أو نها رأو غيرهما لقوله تعالى ) إلى ربك يومئذ المساق ) [ القيامة : 30 ] أي يوم إذا بلغت الروح التراقي وهو لا يختص بليل ولا نهار ، وبناه للمفعول تعظيماً للأأمر بالإشارة إلى أن شأن المترف بالذنب لا يكون خاصاً بعهد دون عهد بل يعرفه كل من أراد علمه ، وأضمر قبل الذكر لما هو مقدم في الرتبة ليفهم الاختصاص فوجد الضمير لأجل اللفظ فقال : ( عن ذنبه ) أي خاصة وقد سئل المحسن عن حسنته سؤال تشريف له وتنديم لمن دونه .
ولما كان الإنس أعظم مقصود بهذا ، ولهذا كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منهم ، وكان التعريف(7/390)
صفحة رقم 391
بالشاهد المألوف أعظم في التعريف ، وكان علم أحوال الشيء الظاهر أسهل ، قدمهم فقال : ( إنس ( ولما كان لا يزلم من علم أحوال الظاهر علم أحوال الخفي ، بين أن الكل عليه سبحانه هين فقال : ( ولا جان ( ولما كان هذا التمييز من أجل النعم لئلا يؤدي الالتباس إلى ترويع بعض المطيعين عاملاً أو نكاية بالسؤال عنه قال : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي الذي ربى كلاًّ منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه ) تكذبان ( أبنعمة الشم من الأمام أم من غيرها .
ولما كان الكلام عاماً عرف انه خاص بتعرف المجرم من غيره دون التعزير بالذنب أو غيره من الأحوال فقال معللاً لعدم السؤال : ( يعرف ) أي لكل أحد ) المجرمون ) أي العريقون في هذا الوصف ) بسيماهم ) أي العلامات التي صور الله ذنوبهم فيها فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة ، وظاهرة الدلالة عليهم كما يعرف أن الليل إذا جاء لا يخى على أحد أصلاً وكذلك النهار ونحوهما لغير الأعمى ، وتلك السيما - والله أعلم - زرقة العيون وسواد الوجوه والعمى والصمم والمشي على الوجوه ونحو ذلك ، وكما يعرف المحسنون بسيماهم من بياض الوجوه وإشراقها وتبسمها ، والغرة والتحجيل ونحو ذلك ، وسبب عن هذه المعرفة قوله مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أي آخذ كان ) فيؤخذ بالنواصي ) أي منهم وهي مقدمات الرؤوس ) والأقدام ( بعد أن يجمع بينهما كما أنهم كانوا هم يجمعون ما أمر الله به أن يفرق ، ويفرقون ما أمر الله به أن يجمع ، فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار .
ولما كان ذلك نعمة لا يقام بشكرها لكل من يسمعها لأن كل أحد ينتفي من الإجرام ويود للمجرمين عظيم الانتقام ، سبب عنه قوله : ( فبأيِّ آلاء ربكما ( أ النعم الكبار من الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم ) تكذبان ( أبنعمة الشم من الوراء أم بغيرها مما يجب أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل .
ولما كان أخذهم على هذا الوجه مؤذناً بأنه يصير إلى خزي عظيم ، صرح به في قوله ، بانياً على ما هدى إليه السياق من نحو : أخذاً مقولاً فيه عند وصولهم إلى محل النكال على الحال التي ذكرت من الأخذ بنواصيهم وأقدامهم ، ) هذه ) أي الحفرة العظيمة الكريهة المنظر ( القريبة منكم ) الملازمة للقرب لكم ) جهنم التي يكذب ) أي ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة
77 ( ) ولو ردوا - إلى الدنيا - بعد إدخالهم إياها - لعادوا لما نهوا عنه ( ) 7
[ الأنعام : 28 ] ) بها المجرمون ) أي العريقون في الإجرام ، وهو قطع ما من(7/391)
صفحة رقم 392
حقه أن يوصل وهو ما أمر الله به ، وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاظة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور ، قال ابن برجان : وقرأ عبد الله ( هذه جهنم التي كنتم بها تكذبان فتصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان ) ثم استأنف ما يفعل بهم فيها فقال : ( يطوفون بينها ) أي بين دركة النار التي تتجهمهم ) وبين حميم ) أي ماء حار هو من شدة حرارته ذو دخان .
ولما كان هذا السام يطلق على البارد ، بين أمره فقال : ( آن ) أي بالغ حره إلى غاية ليس وراءها غاية ، قال الرازي في اللوامع : وقيل : حاضر ، وبه سمي الحال بالآن لأنه الحاضر الموجود ، فإن الماضي لا تدارك له والمستقبل أمل وليس لنا إلا الآن ، ثم ( الآن ) ليس بثابت طرفة عين ، لأن الآن هوالجزء المشترك بين زمانين ، فهم دائماً يترددون بين عذابي النار المذيبة للظاهر والماء المقطع بحره للباطن لا يزال حاضراً لهم تردد الطائف الذي لا أول لتردده ولا آخر .
ولما كانت عذاب المجرم - القاطع لما من شأنه أن يكون متصلاً - من أكبر النعم وأسرها لكل أحد حتى لمن سواه من المجرمين ، سبب قوله : ( فبأي آلاء ربكما ) أي المحسن إليكما أيها الثقلان بإهلاك المجرم في الدارين وإنجاء المسلم مما أهلك به المجرم لطفاً بالمهددين ليرتدعوا ونزجروا عما يكون سبب إهلاكهم هم ومن والاهم من بيناته ، في السماوات والأرض ، وما أراكم من مطالع الدنيا من الشمس التي هي آية النهار والقمر الذي هو آية الزمهرير ، وغير ذلك من آياته المحكمة المرئية المسموعة ، وقد كررت هذه الآية عقب ذكر النار وأهالها سبع مرات تنبيهاً على استدفاع أبوابها السبعة كما مضى - والله المستعان .
الرحمن : ( 46 - 57 ) ولمن خاف مقام. .. . .
) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ( )
ولما كان قد عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم ، وقدمه لما اقتضاه مقام التكبر من الترهيب وجعله سبعاً إشارة إلى أبواب النار السبعة ، عطف عليه ما للخائف الذي أده خوفه إلى الطاعةوجعله صمانية على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال : ( ولمن ((7/392)
صفحة رقم 393
أي ولكل من ، ووحد الضمير مراعاة للفظ ) من ( إشارة إلى قلة الخائفين ) خاف ) أي من الثقلين .
ولما كان ذكر الخوف من الزمان المضروب للحساب والتدبير والمكان المعد لهما أبلغ من ذكر الخوف من الملك المحاسب المدبر ، والخوف مع ذكر وصف الإكرام أبلغ من ذكر الخوف عند ذكر أوصاف الجلال ، قال دالاًّ بذلك على أن المذكور رأس الخائفين : ( مقام ربه ) أي مكان قيامه الذي يقيمه وغيره فيه المحسن إليه للحكم وزمانه الذي ضربه له وقيامه عليه وعلى غيره بالتدبير ، فهو رقيب عليه وعليهم ، فكيف إذا ذكر مقام المنتقم الجبار المتكبر فترك لهذا ما يغضبه وفعل ما يرضيه ) جنَّتان ( عن يمين وشمال ، واحدة للعلم والعقل وأخرى للعلم ، ويمكن أن يراد بالتثنية المبالغة إفهاماً لأنهما جنان متكررة ومتكثرة مثل
77 ( ) ألقيا في جهنم كل كفَّارٍ عنيد ( ) 7
[ ق : 24 ] ونحو ذلك .
ولما كانت هذه نعمة جامعة ، سبب عنها قوله : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي نعم المربي لكما والمحسن إليكم بإحسانه الكبار التي لا يقدر غيره على شيء منها ) تكذبان ( أبنعمة الشم من اليسار المنبعثة من القلب أو غيرها من تربة جنان الدنيا بنفس جهنم من حر الشمس وحرورها ، فجعل من ذلك جميع الفواكه والزروع إلى غير ذلك من المرافق التي طبخها بها
77 ( ) وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( ) 7
[ يوسف : 105 ] وغير ذلك من نعمه التي لا تحصى .
ولما كانت البساتين لا يكمل مدحها إلا بكثرة الأنواع والألوان والفروع المشتبكة والأغصان ، قال واصفاً لهما : ( ذواتا ) أي صاحبتا برد عين الكلمة فإن أصلها ( ذوو ) ) أفنان ) أي جميع فن يتنوع فيه الثمار ، وفنن وهو الغصن المستقيم طولاً الذي تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع ، قال عطاء : في كل غصن فنون من الفاكهة ؛ ولهذا سبب عنه قوله : ( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المربي لكما والمحسن إليكما ) تكذبان ( أبنعمة الشم من جهة الفوق أو غيرها مما ذكره لكم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به .
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بالأنهار قال : ( فيهما عينان ) أي في كل واحدة عين ) تجريان ) أي في كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها ، وإن زاد علوها جرى على عيني دموعه الجاريتين من خشية الله وذلك على مثال جنان الدنيا ، والشمس صاعدة في البروج الشمالية من تكامل المياه وتفجرها عيوناً في أيام الربيع والصيف لقرب العهد بالأمطار ) فبأي آلاء ربكما ( أي(7/393)
صفحة رقم 394
المالك لكما والمحسن إليكما ) تكذبان ( أبنعمة الشم من جهة التحت أو غيرها مما ذكره وجعل له في الدنيا أمثالاً كثيراً .
ولما كان بالمياءه حياة النبات وزكاؤه ، قال ذاكراً أفضل النبات : ( فيهما ) أي هاتين الجنتين العاليتين ، ودل على جميع كل ما يعلم وزيادة بقوله : ( من كل فاكهة ) أي تعلمونها أو لا تعلمونها ) زوجان ) أي صنفان يكمل أحدهما بالآخر كما لا يدرك كنه أحد الزوجين بسبب العمل بما يرضى والآخر بالانتهاء عما يسخط ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعم الكبار التي رباها الموجد لكما المحسن إليكما ) تكذبان ( أبنعمة اللمس من الأمام أو غيرها من أنه أوجد لكما جنان الدنيا بواسطة حر النار التي هي أعدى عدوكما إشارة إلى أنه قادر على أنه يوجد برضوانه ومحبته من موضع غضبه وانتقامه إكراماً ، فقد جعل ما في الدنيا مثالاً لما ذكر في الآخرة ، فبأي شيء من ذلك تكذبان ، لا يكمل الإيمان حتى يصدق المؤمن أنه تعالى قادر على أن يجعل من جهنم جنة بأن يجعل من موضع سخطه رحمة ويشاء ذلك ويعتبر ذلك بما أرانا من نموذجه .
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره ، قال مخبراً عن الذين يخافون مقام ربهم من قبيلي الإنس والجن مراعياً معنى ) من ( بعد مراعاة لفظها تحقيقاً للواقع : ( متكئين ) أي لهم ما ذكر في حال الاتكاء وهو التمكين بهيئة المتربع أو غيره من الكون على جنب ، قال في القاموس : توكأ عليه : تحمل ، واعتمد كأوكأ ، والتكأة كهمزة : العصا ، وما يتوكأ عليه ، وضربه فأتكأه : ألقاه على هيئة المتكئ أو على جانبه الأيسر ، وقال ابن القطاع : وضربته حتى أتكأته أي سقط على جانبه ، وهو يدل على تمام التنعم بصحة الجسم وفراغ البال ) على فرش ( وعظمها بقوله مخاطباً للمكلفين بما تحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا ) بطائنها ) أي فما ظنك بظواهرها ووجوهها ) من إستبرق ( وهو ثخين الديباج يوجد فيه من حسنه بريق كأنه من شدة لمعانه يطلب إيجاده حتى كأنه نور مجرد .
ولما كان المتكىء قد يشق عليه القيام لتناول ما يريد قال : ( وجنا الجنتين ) أي مجنيهما اسم بمعنى المفعول - كأنه عبر به ليفهم سهولة نفس المصدر الذي هو الاجتناء ) دان ) أي قريب من كل من يريده من متكىء وغيره لا يخرج إلى صعود شجرة ، وموجود من كل حين يراد غير مقطوع ولا ممنوع .
ولما كان ربما وجد مثل من ذلك شاهد له من إغصان تنعطف بجملتها فتقرب وأخرى تكون قريبة من ساق الشجرة فيسهل تناولها قال : ( فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعم الكبار الملوكية التي أوجدها لكما هذا المربي لكما الذي يقدر على كل ما يريد(7/394)
صفحة رقم 395
) تكذبان ( أبنعمة اللمس من جهة الوراء أم غيرها من قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار .
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان ، قال دالاًّ على الكثرة بعد سياق الامتنان بالجمع الذي هو أولى من التثنية بالدلالة على أن في كل بستان جماعة من النسوان ، لما بهن من عظيم اللذة وفرط الأنس : ( فيهن ) أي الجنان التي علم مما مضى أن لكل فرد من الخائفين منها جنتين .
ولما كان سياق الامتنان معرفاً بأن جمع القلة أريد به الكثرة مع ما ذكر من محسناته في سورة ( ص ) قال معبراً به : ( قاصرات الطرف ) أي نساء مخدرات هن في وجوب الستر بحيث يظن من ذكرهن بغير الوصف من غير تصريح ، قد قصرن طرفهن وهممهن على أزواجهن ولهن من الجمال ما قصرن به أزواجهن عن الالتفات إلى غيرهن لفتور الطرف وسحره وشدة أخذه للقلوب جزاء لهم على قصر هممهم في الدنيا على ربهم .
ولما كان الاختصاص بالشيء لا سيما المرأة من أعظم الملذذات قال : ( لم يطمثهن ) أي يجامعهن ويتسلط عليهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه نوع من أنواع السلطة سواء من غنسيات أو جنيات أو غير ذلك ، يقال : طمثت المرأة كضرب وفرح : حاضت ، وطمثها الرجل : افتضها وأيضاً جامعها ، والبعير عقلته ، فكأنه قيل : هن أبكار لم يخالط موضع الطمث منهن ) إنس ( ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال : ( قبلهم ) أي المتكئين ) ولا جان ( وقد جمع هذا كل من يمكن منه جماع من ظاهر وباطن ، وفيه دليل على أن الجني يغشى الإنسي كما نقل عن الزجاج ) تكذبان ( أبنعمة اللمس من جهة اليمنى أم غيرها مما جعله الله لكم مثالاً لهذا من الأبكار الحسان ، أو غير ذلك من أنواع الإحسان .
الرحمن : ( 58 - 65 ) كأنهن الياقوت والمرجان
) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ( )
ولما دل ما تقدم من وصف المستمتع بهن بالعزة والنفاسة ، زاده على وجه أفاد أنه يكون بهن غاية ما يكون من سكون النفس وقوة القلب وشدة البدن واعتدال الدم وغير ذلك من خواص ما شبههن به فقال : ( كأنهن الياقوت ( الذي هو في صفاته بحيث يشف عن سلكه وهو جوهر معروف ، قال في القاموس : أجوده الأحمر الرماني نافع(7/395)
صفحة رقم 396
للوسواس والخفقان وضعف القلب شرباً ولجمود الدم تعليقاً : ( والمرجان ( في بياضه ، وصغار الدر أنصع بياضاً ، قال أبو عبد الله القزاز : والمرجان صغار اللؤلؤ ، وهذا الذي يخرج من نبات البحر أحمر معروف - انتهى .
وقد يستفاد من ذلك أن ألوانهن وهو مع ذلك صابت لا يعتريه تغير ليطابق الحديث الذي فيه ( يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة ) وقال أبو حيان : شبههن بهما فيما يحسن التشبيه به فالياقوت في أملاسه وشفوفه والمرجان في أملاسه وجمال منظره ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعم الغريبة البالغة في الحسن من المالك الملك المربي ببدائع التربية ) تكذبان ( أبنعمة اللمس من جهة اليسرى أم غيرها مما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهن من تشبيه شيء بشيئين لبلوغ الأمر في الحسن إلى حد لا يساويه فيه شيء واحد ليشبه به ، فهو كما قيل : بيضاء في دعج صفراء في نعج كأنها فضة قد شابها ذهب ، وقد جعل سبحانه الأشياء الشفافة مثلاً لذلك وأنت ترى بعض الأجسام يكاد يرى فيه الوجه بل في سواد العين أعظم غرة حيث يرى فيه الوجه فإن السواد منشأ الظلام .
ولما كان ألذ ما أفاده الإنسان منالنعم ما كان تسبب منه ، قال ساراً لهم بذلك مع ما فيه من لذة المدح لا سيما والمادح الملك الأعلى ، معظماً له بسياق الاستفهام المفيد للإثبات بعد النفي المفيد للاختصاص على وجه الإنكار الشديد على من يتوهم غير ذلك : ( هل جزاء الإحسان ) أي في العمل الكائن من الإنس أو الجن أو غيرهم ) إلا الإحسان ) أي في الثواب ، فهذا من المواضع التي أعيدت فيها المعرفة والمعنى مختلف ، روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( هل تدرون ما قال ربكم ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ) وذلك جزاء إحسان العبد في العمل في مقابلة إحسان ربه إليه بالتربية ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعم العظيمة الحسن من السيد الكريم العظيم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال ) تكذبان ( أبنعمة اللمس من جهة الفوق أم غيرها مما جعله الله سبحانه مثالاً في أن من أحسن قوبل بمثل إحسانه ، وهذه الآية ختام ثمان آيات حاثة على العمل الموصل إلى الثمانية الأبواب الكائنة لجنة المقربين - والله الهادي .
ولما كان قد علم مما ذكر أول هذا الكلام من الخوف مع ذكر وصف الإكرام ، (7/396)
صفحة رقم 397
وآخره من ذكر الإحسان أن هذا الفريق محسنون ، وكان من المعلوم أن العاملين طبقات ، وأن كل طبقة أجرها على مقدار أعمالها ، اقتضى الحال بيان ما أعد لمن دونهم : ( ومن دونهما ) أي من أدنى مكان ، رتبة مما تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين ) جنتان ) أي كلل واحد لمن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين وهم أصحاب اليمين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : دونهما في الدرج ، وجعل ابن برجان الأربع موزعة بين الكل ، وأن تخصيص هذه العدة إشارة إلى أنها تكون جامعة لما في فصول الدنيا الأربعة : الشتاء والربيع والصيف والخريف ، وفسر بذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( جنتان من ذهب أوتيتهما وما فيهما وجنتان من فضة أوتيتهما وما فيهما ) ثم جوز أن يكون المراد بالدون الأدنى إلى الإنسان ، وهو البرزخ ، فتكون هاتان لأهل البرزخ كما كان ) وإن للذين السابغة إلى الأعلى دون ذلك ( من عذاب القبر ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي المحسن بنعمة السابغة إلى الأعلى ومن دونه ) تكذبان ( أبنعمة اللمس من جهة التحت أم غيرها مما جعله الله في الدنيا مثالاً لهذا من أن بعض البساتين أفضل من بعض إلى غير ذلك من أنواع التفضيل .
ولما كان ما في هاتين من الماء دون ما في الباقيتين ، فكان ربما ظن أن ماءهما لا يقوم بأعلى كفايتهما قال : ( مدهامتان ) أي خضراوان خضرة تضرب من شدة الري إلى السواد ، من الدهمة ، قال الأصبهاني : الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وفي الأوليين الأشجار والفواكه ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي نعم المحسن إلى العالي منكما ومن دونه بسعة رحمته ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من جهة الأمم أم غيرها مما جعله مثالاص لذلك من جنان الدنيا الكثية الري وغيره .
الرحمن : ( 66 - 78 ) فيهما عينان نضاختان
) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ( ( )
ولما كان ذكر ما يدل على ريهما ، حققه بقوله : ( فيهما ) أي في كل جنة لكل شخص منهم ) عينان نضاختان ) أي تفوران بشدة توجب لهما رشاش الماء بحيث لا(7/397)
صفحة رقم 398
ينقطع ذلك ، ولم يذكر جريهما فكأنهما بحيث يرويان جنتهما ولا يبلغان الجري ، والنضخ دون الجري وفوق النضخ ، قال الأصبهاني : وأصل النضخ بالمعجمة - انتهى .
وكأنهما لمن تغرغر عيناه بالدمع فتمتلئان من غير جري ، وقال ابن برجان ما معناه أن حر ( ؟ ) عدم جريهما لكونهما على مثال جنة خريف ما ههنا وشتاء به لبعد عهدهما بنزول الماء وسكنا في أعمالق الأرض لينعكس بالنبع والفوران صاعداً مع أن الجنة لا مطر فيها ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي نعم المربي البليغ الحكمة في تربية ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من جهة ماوراء اللسان أم غيرها مما جعله مثالاً لذلك من الأعين التي تفور ولا تجري والأنابيب المصنوعة لفوران لأنها بحيث تروق ناظرها لصعودها بقوة نبعها وترشيشها من النعم الكبار .
ولما ذكر الري والسبب فيه ، ذكر ما ينشأ عنه فقال : ( فيهما فاكهة ( الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين الجنتين فقال : ( ونخل ورمان ( فإن كلاًّ منهما فاكهة وإدام ، فلذا خص تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه وأولاهما أعم نفعاً وأعجب خلقاً فلذا قدم ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي نعم المحسن إليكما إيها الثقلان بجليل التربية ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من اليمين أم من غيرها مما جعل مثالاً لهذا من جنان الدنيا وغير ذلك .
ولما كان ما ذكر لا تكمل لذته إلا بالأنيس ، وكان قد ورد أنه يكون في بعض ثمار الجنة وحمل أشجارها نساء وولدان كما أن أمثال ذلك في بطن مياه الدنيا
77 ( ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( ) 7
[ الأنبياء : 30 ] قال جامعاً على نحو ما مضى من الإشارة إلى أن الجنتين لكل واحد من أفراد هذا الصنف : ( فيهن ) أي الجنان الأربع أو الجنان التي خصت للنساء ، وجوز ابن برجان أن يكون الضمير للفاكهة والنخل والرمان فإنه يتكون منها نساء وولدان في داخل قشر الرمان ونحوه ) خيرات ) أي نساء بليغ ما فيهن من الخير ، أًله خير مثقلاً لأن ( خير ) الذي للتفضيل لا يجمع جمع سلامة ، ولعله خفف لاتصافهن بالخفة في وجودهن وجميع شأنهن ، ولكون هاتين الجنتين دون ما قبلهما ) حسان ) أي في غاية الجمال خلقاً وخلقاً ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي نعم الكامل الإحسان إليكما ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من جهة اليسار أمن من غيرها ممن جعله مثالاً لتكوين النساء والولدان والملابس والحلي من ثمار الأشجار والزروع التي من المياه التي بها العيش ، ففيها التوليد وغير ذلك مما تظهره الكفرة لأهل العبرة لأن كل ما في الجنة ينشأ عن الكلمة من الرزق كما ينشأ عنه سبحانه في هذه الدار على تسبيب. . .
والحكمة ، ثم بينهن بقوله : ( حور ) أي ذوات أعين شديدة سواد السواد وشديدة بياض(7/398)
صفحة رقم 399
البياض ، وقال ابن جرير : بيض جمع ) مقصورات ) أي على أزاجهن ومحبوسات ، صيانة عن التبذل ، فهو كناية عن عظمتهن ) في الخيام ( التي هي من الدر المجوف الشفاف جزاء لمن قصر نفسه عن. . .
الله فكف جوارحه عن الزلات ، وصان قلبه عن الغفلات ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي الجليل الإحسان إليكما ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من جهة الفوق أم بغيرها مما جعله مثالاً لهذا في الدنيا ، فإنه كما خلقنا من تراب ثم طورنا في أطوار الخلقة بحسب حكمة الأسباب كذلك خلق أولئك من أرض الجنة ورياضها وفواكهها عن كلمة السكان من غير أسباب .
ولما كانت أنفس الأخيار ذوي الهمم العالية الكبار في الالتفات إلى الأبكار قال : ( لم يطمثهن ) أي يتسلط عليهن نوع سلطة ) إنس ( وعم الزمان بحذف الجار فقال : ( قبلهم ) أي انتفى الطمث المذكور في جميع الزمان الكائن قبل طمث أصحاب هذه الجنان لهن ، فلو وجد في لحظة من لحظات القبل لما صدق النفي ) ولا جان ( فهن في غاية الاختصاص كل بما عنده ) فبأيِّ ) أي فتسبب عن هذا التعدد لمثل هذه النعم العظيمة أنا نقول تعجيباً ممن يكذب توبيخاً له وتنبيهاً على ما له تعالى من النعم التي تفوت الحصر : بأيِّ ) آلاء ربكما ) أي النعم الجليلة من المدبر لكما بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة العامة ) تكذبان ( أبنعمة الذوق من تحت أم بغيرها مما جعله مثالاً لهذا من الأبكار المخدرات ، وجميع ما ذكر من النعم العامة الظاهرة في كل حالة في الدنيا والآخرة ، وختم بالتقرير أربع وعشرون ثمان منها أول السورة من النعم الدنياوية ، وست عشرة جنان ، وجعلها على هذا العدد ، إشارة إلى تعظيمها بتكثيرها فإنه عدد تام لأنه جامع لأكثر الكسور ، ولذا قسم الدرهم وغيره أربعة وعشرون قيراطاً .
ولما تم التقرير بالنعم المحيطة بالجهات الست والحواس الخمس على الوجه الأكل من درء المفاسد وجلب المصالح كما تقدمت الإشارة إليه بمدكر ، بقوله :
77 ( ) فهل من مدكر ( ) 7
[ القمر : 17 ] في القمر ، بالحسن فيها إلى الحواس الخمس وبتكرارها ، وتكرار
77 ( ) كيف كان عذابي ونذر ( ) 7
[ القمر : 18 ] ستاً إلى الجهات الست من جهة الوراء والخلف ، أوترها بنعمة أخرى واحدة إشارة إلى أن السبب في هذا اعتقاد وحدانية الواحد تعالى اعتقاداً أدى الخضوع لأمر مرسل كلما جاء من عنده تعالى فلذلك كانت نعمة لا تنقطع أصلاً ، بل كلما تم دور منها ابتدأ دور آخر جديد ، وهكذا على وجه لا انقطاع له أبداً كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا انتهاء له أصلاً ، وهذه النعمة الدالة على الراحة الدائمة التي هي المقصودة بالذات على وجه لا يرى أغرب منه ولا أشرف ، فقال تعالى مبيناً حال المحسنين ومن دونهم مشركاً لهم في الراحة على ما لا عين رأت ولا أذن(7/399)
صفحة رقم 400
سمعت ولا خطر على قلب بشر : ( متكئين ) أي لهم ذلك في حال الاتكاء ديدناً لأنهم لا شغل لهم بوجه إلا التمتع ) على رفرف ) أي ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الجيباج لينة ووسائد عظيمة ورياض باهرة وبسط لها أطراف فاضلة ، ورفرف السحاب هدبه أي ذيله المتدلي .
ولما كان الأخصر أحسن الألوان وأبهجها قال : ( خضر وعبقري ) أي متاع كامل من البسط وغيرها هو في كماله وغرابته كأنه من عمل الجن لنسبته إلى بلدهم ، قال في القاموس : عبقر موضع كثير الجن ، وقرية بناؤها في غاية الحس ، والعبقري الكامل من كل شيء ، والسيد والذي ليس فوقه شيء ، وقال الرازي : هو الطنافس المخملة ، قال ابن جرير : الطنافس الثخان ، وقال القشيري : العبقري عند العرب كل ثوب موشى ، وقال الخيل : كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في عمر رضي الله عنه : ( فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه ) وقال قطرب : ليس هو من المنسوب بل هو بمزلة كرسي وبختي .
ولما كان المراد به الجنس ، دل على كثرته بالجمع مع التعبير بالمفرد إشارة إلى وحدة تكامله بالحسن فقال : ( حسان ) أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف ) فبأيِّ آلاء ربكما ) أي النعم العظيمة من المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه ولا تعد نعمه ولا تحصي ثناء عليه ) تكذبان ( وبهذه الآية تمت النعم الثمان المختصة بجنة أصحاب اليمين إشارة إلى العمل لأبوابها الثمانية .
والله الموفق .
ولما دل ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال ، ودل بالإشارة بالنعمة الأخيرة على أن نعمه لا نهاية لها لأنه مع أن له الكمال كله متعال عن شائبة نقص ، فكانت ترجمة ذلك قوله في ختام نعم الآخرة مناظرة لما تقدم من ختام نعم الدنيا معبراً هناك بالبقاء لما ذكر قبله ، من الفناء ، وهذا بما من البركة إشارة إلى أن نعمه لا انقضاء لها : ( تبارك ( قال ابن برجان : تفاعل من البركة ، ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب - انتهى ، ومعناه ثبت ثباتاً لا يسع العقول جمع وصفه لكونه على صيغه المفاعلة المفيدة لبذل الجهد إذا كانت ممن تمكن منازعته ، وذلك مع اليمن والبركة والإحسان .
ولما كان تعظيم الاسم أقعد وأبلغ في تعظيم المسمى قال : ( اسم ربك ) أي المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف ، ولذكل قال واصفاً للرب في قراءة الجمهور : ( ذي الجلال ) أي العظمة الباهرة فهو المنتقم من الأعداء ) والإكرام ( أي(7/400)
صفحة رقم 401
الإحسان الذي لا يمكن الإحاطة به فهو المتصف بالجمال الأقدس المقتضي لفيض الرحمة على جميع الأولياء ، وقراءة ابن عامر ) ذو ( صفة للاسم ، وكذا هو في مصاحف أهل الشام ، والوصفان الأخيران من شبه الاحتباك حذف من الأول متعلق الصفة وهو النقمة للأعداء ، ومن الثاني أثر الإكرام وهو الرحمة للأولياء ، فإثبات الصفة أولاً يدل على حذف ضدها ثانياً ، وإثبات الفعل ثانياً يدل على حذف ضده أولاً ، وقال الرازي في اللوامع : كأنه يريد بالاسم الذي افتتح به السورة وقد انعطف آخر السورة على أولها على وجه أعم ، فيشمل الإكرام بتعليم القرآن وغيره والانتقام بإدخال النيران وغيرها - الله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب .
.. .(7/401)
صفحة رقم 402
سورة الواقعة
مقصودها شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين من المصارحين والمنافقين من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال ، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة ، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة ، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به ) بسم الله ( الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ) الرحمن ( الذي عم بنعمة البيان وفاضل قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ) الرحيم ( الذي أقبل بأهل حزبه إلى أهل قربه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال .
الواقعة : ( 1 - 14 ) إذا وقعت الواقعة
) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ( ( )
لما صنف سبحانه الناس في تلك إلى ثلاث أصناف : مجرمين وسابقين ولاحقين ، وختم بعلة ذلك وهو أنه ذو الانتقام والإكرام ، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بما ذكر في الرحمن غاية الظهور فقال بانياً على ما أرشده السياق إلى أن تقديره : يكون ذلك كله كوناً يشترك في علمه الخاص والعام : ( أذا وقعت الواقعة ) أي التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها ، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق للحكم بينهم على الانفراد الظاهر الذي لا مدعى(7/402)
صفحة رقم 403
للمشاركة فيه بوجه من الوجوه ، ويجوز أن يكون ) إذا ( منصوباً بالمحذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب ، فيكون أهول أي إذا وقعت كانت أموراً يضيق عنها نطاق الحصر. و ولما كان هذا معناه الساعة التي أبرم القضاء بأنه لا بد من كونها ، عبر عنه بانياً على مبتدأ محذوف فقال : ( ليس لوقعتها ) أي تحقق وجودها ) كاذبة ) أي كذب فهي مصدر عبر عنه باسم الفاعل للمبالغة بأنه ليس في أحوالها شيء يمكن أن ينسب إليه كذب ولا يمشي فيها كذب أصلاً ولا يقر عليه ، بل كل ما أخبر بمجيئه جاء من غير أن يرده شيء ، وكل ما أخبر بنفيه انتفى فلا يأتي به شيء ، وقرر عظمتها وحقق بعث الأمور فيها بقوله مخبراً عن مبتدأ محذوف : ( خافضة ) أي هي لمن يشاء الله خفضه من عظماء أهل النار وغيرهم مما يشاؤه من الجبال وغيرها إلى أسفل سافلين ) رافعة ) أي لضعفاء أهل الجنة وغيرهم من منازلهم وغيرها مما يشاؤه إلى عليين ، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه .
ولما كان في هذا من الهول ما يقطع القلوب الواعية أكده بقوله وزاد ما يشاء منه أيضاً بقوله مبدلاً من الظرف الأول بعض ما يدخل في الرفع والخفض : ( إذا رجت الأرض ) أي كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر ) رجاً ) أي زلزلت زلزالاً شديداً بعنف فانخفضت ارتفعت ثم انفضت بأهلا انتفاضاً شديداً ، قال البغوي : والرج في اللغة التحريك .
ولما ذكر حركتها المزعجة ، أتبعها غايتها فقال : ( وبست الجبال ) أي فتتت على صلابتها وعظمها بأدنى إشارة وخلط حجرها بترابها حتى صار شيئاً واحداً ، وصارت كالعهن المنفوش ، وسيرت وكانت تمر مرّ السحاب ) بساً فكانت ) أي بسبب ذلك ) منبثاً ) أي منتشراً متفرقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل في كوة .
ولما ذكر غاية مبادئها المرجفة المرهبة ، ذكر مبادئ غاياتها فقال : ( وكنتم ) أي قسمتم بما كان في جبلاتكم وطباعكم في الدنيا ) أزواجاً ثلاثة ) أي أصنافاً لا تكمل حكمة صنف منها إلا بكونها قسمين : أعلى ودونه ، ليكون ذلك أدل على تمام القدرة وهم أصحاب الميمنة المنقسمين إلى سابقين وهم المقربون ، وإلى لاحقين وهم الأبرار أو أصحاب اليمين ، وكأنهم من أولي القلب الذي هو العدل السواء من أصحاب المشأمة إلى آخر أصحاب الميمنة فأصحاب السواء هم المقربون ، وبقية أصحاب الميمنة إلى أعلى ودونه ، وقد تبينت الأقسام الثلاثة آخر السورة ، قال البيضاوي : وكل صنف(7/403)
صفحة رقم 404
يكون أو يذكر مع نصف آخر زوج .
ولما قسمهم إلى ثلاثة أقسام وفرع تقسيمهم ، ذكر أحوالهم وابتدأ ذلك بالإعلام بأنه ليس الخبر كالخبر كما أنه ليس العين كالأثر فقال : ( فأصحاب الميمنة ) أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها ، ثم فخم أمرهم بالتعجيب من حالهم بقوله منبهاً على أنهم أهل لأن يسأل عنهم فيما يفهمه اليمين من الخير والبركة فكيف إذا عبر عنها بصيغة مبالغة فقال : ( ما ( وهو مبتدأ ثان ) أصحاب الميمنة ) أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها ، والجملة خبر عن الأولى ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه ، قال أبو حيان رحمه الله تعالى : وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين ، وأعلم في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره
77 ( ) إنا كل شيء خلقناه بقدر ( ) 7
[ القمر : 49 ]
77 ( ) وكل شيء فعلوه في الزبر ( ) 7
) القمر : 52 ] وأعلمهم سبحانه في الواقعة بانقسامهم الأخروي فافتتح ذكر الساعة ) إذا وقعت الواقعة ( إلى قوله ) وكنتم أزواجاً ثلاثة ( فتجردت هذه السورة للتعريف بأحوالهم الأخروية ، وصدرت بذلك كما جرد في هذه السورة قبل التعريف بحالهم في هذه الدار ، وما انجر في السور الثلاث جارياً على غير هذا الأسلوب فبحكم استدعاء الترغيب والترهيب لطفاً بالعباد ورحمة ومطالعها مبنية على ما ذكرته تصريحاً لا تلويحاً ، وعلى الاستيفاء لا بالإشارة والإيماء ، ولهذا قال تعالى في آخر القصص الأخراوية في هذه السورة : ( هذا نزلهم يوم الدين ( فأخبر أن هذا حالهم يوم الجزاء وقد قدم حالهم الدنياوي في السورتين قبل وتأكيد التعريف المتقدم فيما بعد ، وذلك قوله ) فأما إن كان من المقربين ( إلى خاتمتها - انتهى .
ولما ذكر الناجين بقسميهم ، أتبعهم أضدادهم فقال : ( وأصحاب المشأمة ) أي جهة الشؤم وموضعها وأعمالها ، ثم عظم ذنبهم فقال : ( ما أصحاب المشأمة ) أي لأنهم أهل لأن يسأل عما أصابهم من الشؤم والشر والسوء بعظيم قدرته التي ساقتهم إلى ما وصلوا إليه من الجزاء الذي لا يفعله بنفسه عاقل بل ولا بهيمة مع ما ركب فيهم من العقول الصحيحة والأفكار العظيمة وصان الأولين عن خذلان هؤلاء فأوصلهم إلى النعيم المقيم .
ولما ذكر القسمين ، وكان كل منهما قسمين ، ذكر أعلى أهل القسم الأول ترغيباً في أحسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً من سوء مآلهم فقال : ( والسابقون ) أي إلى أعمال الطاعة أصحاب الجنتين الأوليين في الرحمن وهم أصحاب القلب ) السابقون ) أي هم الذين يستحقون الوصف بالسبق لا غيرهم لأنه منزلة أعلى من(7/404)
صفحة رقم 405
منزلتهم فلذلك سبقوا إلى منزلتهم وهي جنتهم وهم قسمان كما يأتي عن الرازي ، وعن المهدوي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ) .
ولما بين علو شأنهم ونسب السبق إليهم ، ترجمه نازعاً للفعل منهم بقوله : ( أولئك ) أي العالو الرتبة جداً من الذين هم أصحاب الميمنة ) المقربون ) أي الذين اصطفاهم الله تعالى للسبق فأرادهم لقربه أو أنعم عليهم بقربه ولولا فعله في تقريبهم لم يكونوا سابقين ، قال الرازي في اللوامع : المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله ديناً ودنيا من حق الله وحق الناس ، وكلاهما عندهم حق الله ، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد ، وهم صنفان فصنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبتهم فالحق يستعملهم ، وصنف آخر قد أرخى من عنانه ، فالأمر عليه أسهل لأنه قد جاور بقلبه هذه الحطة ومحله أعلى فهو أمين الله في أرضه ، فيكون الأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز - انتهى .
ثم بين تقريبه لهم بقوله : ( في جنات النعيم ) أي الذي لا نعيم غيره لأنه لا كدر فيه بوجه ولا منغص ، والصنف الآخر منهم المتقربون والمتشاققون من أصحاب المشأمة ، أولئك المغضوب عليهم المبعودون ، ومن دونهم الضالون البعيدون وهم أصحاب الشمال .
ولما ذكر السابقين فصلهم فقال : ( ثلة ) أي جماعة كثيرة حسنة ، وقال البغوي : والثلة جماعة غير محصورة العدد ، ) من الأولين ( وهم الأنبياء الماضون عليهم الصلاة والسلام ، ومن آمن بهم من غير واسطة رضي الله عنهم ) وقليل من الآخرين ( وهم من آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام مائة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً ، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهم من آمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين وهم ستمائة ألف فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من التابعين والصبيان ومن النساء ، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم الصلاة والسلام .
المجددين من بني إسرائيل وغيرهم ، وقيل ( الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة ) ، رواه الطبراني وابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك ورواه إسحاق بن راهويه مسدد بن مسرهد وأبو داود الطيالسي وإبراهيم الحربي(7/405)
صفحة رقم 406
والطبراني من رواية علي بن زيد وهو ضعيف عن عقبة بن صهبان عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً ، والموقوف أولى بالصواب ، وتطبيقه على هذه الأمة سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً صحيح لا غبار عليه ، فتكون الصحابة رضي الله عنهم كلهم من هذه الثلة وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى ، ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال الذي بدأ عليها من الغربة ( بدأ الإسلام غريباً وسيكون غريباً فطوبى للغرباء ) ويجوز أن يقدر أيضاً : وثلة - أي جماعة كثيرة هلكى - من الأولين ، وهم المعاندون من الأمم الماضين ، وقليل من الآخرين - وهم المعاندون من هذه الأمة .
الواقعة : ( 15 - 23 ) على سرر موضونة
) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( ( )
ولما ذكر السابقين في الخير بصنفيهم مشيراً إلى السابقين في الشر بصنفيهم ، ذكر جزاء أهل الخير ليعلم منه جزاء أولئك ، فقال مبيناً أنهم ملوك لكن ملكهم لا ينافس فيه ولا يحاسد ، بل هو كله يقابل بالوداد والصفاء ) على سرر ( وهو ما يسر الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة التي هي آية الملك وهو العرش ) موضونه ) أي منسوجة نسجاً مضاعفاً منضودة داخلاً بعضها في بعض مقارب النسج معجباً كالدرع لكن نسجها بالذهب مفصلاً بالجوهر من الدر والياقوت .
ولما ذكر السرر وبين عظمتها ، ذكر غايتها فقال : ( متكئين ) أي متكئين هيئة المتربع أو غيرها من الجنب أو غيرها ) عليها ( ولما كان الجمع إذا كثر كان ظهور بعض أهله إلى بعض ، أعلم أن جموع أهل الجنة على غير ذلك فقال : ( متقابلين ( فلا بعد ولا مدابرة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ولا يكره بعضهم بعضاً .
ولما كان المتكىء قد يصعب عليه القيام لحاجته قال : ( يطوف عليهم ) أي لكفاية كل ما يحتاجون إليه ) ولدان ( على أحسن صورة وزي وهيئة ) مخلدون ( قد حكم ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة ، قال البغوي : تقول العرب لمن كبر ولمن شمط : إنه مخلد ، قال : قال الحسن : هم أولاد أهل الدنيا ، لم يكن لهم حسنات يثابون عليها ولا سيئات يعاقبون لعيها لأن الجنة لا ولادة فيها ، فهم خدم أهل الجنة .(7/406)
صفحة رقم 407
ولما كان مدحهم هذا في غاية الإبلاغ مع الإيجاز ، وكان فيه - إلى تبليغ ما لهم - تحريك إلى مثل أعمالهم ، وكان الأكل الذي هو من أعظم المآرب مشاراً إليه بالمدح العظيم الذي من جملته الاستراحة على الأسرة التي علم أن من عادة الملوك أنهم لا يتسنمونها إلا بعد قضاء الوطر منه فلم يبق بعده إلا ما تدعو الحاجة إليه من المشارب وما يتبعها قال تعالى : ( بأكواب ) أي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم لا يعوق الشارب منها عائق عن الشرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء إلى الحالة التي تناوله عنها ليشرب ، ويمكن أن تكون البدأة بالشراب لما نالوا من المتاعب من العطش كما لمن يشرب من الحوض فيكون حينئذ قبل الأكل والله أعلم ) وأباريق ) أي أواني لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ) وكأس ) أي إناء معد للشرب فيه والشراب نفسه .
ولما كان الشراب عاماً بينه بقوله : ( من معين ) أي خمر جارية صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها بل ينبع كما ينبع الماء .
ولما أثبت نفعها وما يشوق إليها ، نفى ما ينفر عنها فقال : ( لا يصدعون ) أي تصدعاً يوجب المجاوزة ) عنها ) أي بوجع في الرأس ولا تفرق لملالة ) ولا ينزفون ) أي يذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي يصرع شرابهم ، من نزفت البئر - إذا نزح ماؤها كله ، ونزف فلان : ذهب عقله أو سكر ، وبنى الفعلان لملجهول لأنه لم تدع حاجة إلى معرفة الفاعل ، وقال الرازي في اللوامع : قال الصادق : لا تذهل عقولهم عن موارد الحقائق عليهم ولا يغيبون عن مجالس المشاهدة بحال .
ولما بدأ بالألذ الهاضم للأكل ، تلاه بما يليه مما يدعو إليه الهضم تصريحاً به بعد التلويح فقال : ( وفاكهة مما يتخيرون ) أي هو فيها بحيث لو كان فيها جيد وغيره واختاروا وبالغوا في التنقية لكان مما يقع التخير عليه ، ولما ذكر ما جرت العادة بتناوله لمجرد اللذة ، أتبعه ما العادة أنه لإقامة البينة وإن كان هناك لمجرد اللذة أيضاً فقال : ( ولحم طير ( ولما كان في لحم الطير مما يرغب عنه ، احترز عنه بقوله : ( مما يشتهون ) أي غاية الشهوة بحيث يجدون لآخرة من اللذة ما لأوله .
ولما كان لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع ، قال عاطفاً على ) ولدان ( : ( وحور العين ) أي يطفن عليهم ، وجره حمزة والكسائي عطفاً على ) سرر ( فإن النساء في معنى التكاء لأنهن يسمين فراشاً .
ولما كان المثل في الأصل الشيء نفسه كما مضى في الشورى قال : ( كأمثال ) أي مثل أشخاص ) اللؤلؤ المكنون ) أي المصون في الصدف عما قد يدنسه .(7/407)
صفحة رقم 408
الواقعة : ( 24 - 34 ) جزاء بما كانوا. .. . .
) جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ( ( )
ولما أبلغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء ، دل على أن أعمالهم كانت كذلك لأن الجزاء من جنس العمل فقال تعالى : ( جزاء ) أي فعل لهم ذلك لأجل الجزاء ) بما كانوا ( جبلة وطبعاً ) يعملون ) أي يجددون عمله على جهة الاستمرار .
ولما أثبت لها الكمال وجعله لهم ، نفى عنها النقص فقال : ( لا يسمعون ) أي على حال من الأحوال ) فيها لغواً ) أي شيئاً مما لا ينفع فإن أنكاً. . .
بالسميع الحكيم ذلك ، واللغو : الساقط ) ولا تأثيماً ) أي ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الإثم ، بل حركاتهم وسكناتهم كلها رضى الله ، وما قطع قلوب السائرين إلى الله إلا هاتان الخصلتان بينا أحدهم يبني ما ينفعه مجتهداً في البناء إذ هو غلبه طبعه فهدم أكثر ما بنى ، وبينا هو يظن أنه قد قرب إذا هو تحقق بمثل ذلك أنه قد بعد ، نزحت داره وشط مزاره ، فاللّه المستعان .
ولما كان الاستثناء ، معيار العموم ، ساق بصورة الاستثناء قوله : ( إلا قيلاً ) أي هو في غاية اللطافة والقة بما دل عليه المبني على ما قبلها محاسن مع ما تدل عليه مادة قوله .
ولما تشوف السامع إليه بالعبير بما ذكر ، بينه بقوله : ( سلاماً ( ودل على دوامه بتكريره فقال : ( سلاماً ) أي لا يخطر في النفس ولا يظهر في الحس منهم قول إلا دالاًّ على السلام لأنه لا عطب فيها أصلاً ، وساقه مساق الاستثناء المتصل دلالة على أنه إن كان فيها لغو فهو ذلك حسب ، وهو ما يؤمنهم يونعمهم ويبشرهم مع أنه دال على حسن العشرة وجميل الصحبة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة .
ولما أتم سبحانه القسم الأول القلبي السوائي المولي من الثلاثة بقسميه ، وذكر في جزائه مما لأصحاب المدن ما لا يمكنهم الوصول إليه ، عطف عليه الثاني الذي هو دونه لذلك وهم والله أعلم الأبرار وهم أيضاً صفنان ، وذكر في جزائهم من جنس ما لأهل البوادي أنهى ما يتصورونه ويتمنونه فقال : ( وأصحاب اليمين ( ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم ، والإشارة إلى أنهم أهل لأن يسأل عن حالهم فإنهم في غاية الإعجاب فقال : ( وما أصحاب اليمين ( ولما عبر عنهم بما أفهم أنهم أولو القوة والجد في الأعمال ، والبركة في جمع الأحوال ، ذكر عشيهم بادئاً بالفاكهة لأن عيش الجنة كله تفكه ، ذاكراً منها ما ينبت في بلاد العرب من غير كلفة بغرس ولا خدمة ، وأشار إلى(7/408)
صفحة رقم 409
كثرة ما يذكره بأن جعله ظرفهم ، فقال من غير ذكر لسرير الملك الذي حبا به المقربين من الملك ، ولم يزد على ذلك المأكول وما معه بما يتصور للبهائم : ( في سدر ) أي شجر نبق متدلي الأغصان من شدة حمله ، من سدر الشعر - إذا سدله ) مخضود ) أي هو مع أنه لا شوك له ولا عجم بحيث تنثني أغصانه من شدة الحمل ، من خذد الشوك : قطعه ، والغصن : ثناه وهو رطب ، وفي ذكر هذا تنبيه على أن كل ما لا نفع فيه أو فيه نوع أذى له في الجنة وجود كريم لأن الجنة إنما خلقت للنعيم .
ولما ذكر ما يطلع في الجبال والأماكن المعطشة والرمال ، أتبعه ما لا يطلع إلا على المياه دلالة على أن أماكنهم في غاية السهولة والري فقال : ( وطلح ) أي شجر موز أو نخل ، وقال الحسن : شجر له ظل بارد طيب الرائحة وقال الفراء وأبو عبيدة : شجر عظام لها شوك ، وقيل : هو أم غيلان ، وله نور كثير ، ويحكى عن أبي تراب النخشبي أنه كان سائراً مع قوم من الصوفية على قدم التوكل ، فجاعوا أياماً فقال : أتريدون أن تأكلوا ، قالوا : نعم ، فضرب بيده على شجرة غيلان فإذا عليها عراجين موز ، فأكلوا إلا شاباً منهم ، فقال : لا آكل ولا أصحبك بعدها ، لأني كنت أسير بلا معلوم ، وقد صرت أنت الآن معلومي ، كلما جعت التفتت نفسي إليك .
) منضود ) أي منظوم بالحمل من أعلاه إلى أسفله متراكم يتراكب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب ، قال في القاموس : ن الطلح : شجر عظيم ، والطع : والموز ، والطلع من النخل : شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود ، والطرف محدد ، أو ما يبدو من ثمرته أول ظهورها .
ولما ذكر ما لا يكون إلا في البلاد الحارة قال : ( وظل ممدود ) أي مستوعب للزمان والمكان فهو دائم الاستمداد كما بين الإسفار وطلوع الشمس لا فناء له ولا نهاية .
ولما كان ما ذكر من الري لا يستلزم الجري قال : ( وماء مسكوب ) أي جار في منازلهم من غير أخدود ولا يحتاجون فيه إلى جلب من الأماكن البعيدة ، ولا الإدلاء في بئر كما لأهل البوادي .
ولما ذكر ما تقدم ، عم بقوله : ( وفاكهة كثيرة ) أي أجناسها وأنواعها وأشخاصها .
ولما كانت لا تكون عندنا إلا في أوقات يسيرة ، بين أن أمر الجنة على غير ذلك فقال : ( لا مقطوعة ( ولما كانت في الدنيا قد يعز التوصل إليها مع وجودها لشيء من الأشياء أقله صعود الشجرة أو التحجز بجدار أو غيره قال : ( ولا ممنوعة ( ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال : ( وفرش مرفوعة ) أي هي رفيعة القدر وعالية بالفعل لكثرة الحشو ولتراكم بعضها على بعض ولأنها على السرر ، وروى(7/409)
صفحة رقم 410
البغوي من طريق النسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ) .
الواقعة : ( 35 - 46 ) إنا أنشأناهن إنشاء
) إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأًّصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما كانت النساء يسمين فرشاً ، قال تعالى معيداً للضمير على غير ما يتبادر إليه الذهن من الظاهر على طريق الاستخدام مؤكداً لأجل إنكار من ينكر البعث : ( إنا ) أي بما لنا من القدرة والعظمة التي لا يتعاظمها شيء ) أنشأناهن ) أي الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت ولو عن الهرم والعجز بالبعث ، وزاد في التأكيد فقال : ( إنشاء ) أي من غير ولادة ، بل جمعناهن من التراب كما فعلنا في سائر المكلفين ليكونوا كأبيهم آدم عليه الصلاة والسلام في خلقه من تراب ، فتكون الإعادة كالبداءة ، ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه الصلاة والسلام ، ويجوز أن يكون المراد بهن الحور العين فيكون إنشاء مبتدعاً لم يسبق له وجود .
ولما كان للنفس أتم التفات إلى الاختصاص ، وكان الأصل في الأنثى المنشأة أن تكون بكراً ، نبه على أن المراد بكارة لا تزول إلا حال الوطىء ثم تعود ، فكلما عاد إليها وجدها بكراً ، فقال : ( فجعلناهن ) أي الفرش الثيبات وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء ) أبكاراً ) أي بكارة دائمة لأنه لا تغيير في الجنة ولا نقص .
ولما كان مما جرت به العادة أن البكر تتضرر من الزوج لما يلحقها من الوجع بإزالة البكارة ، دل على أنه لا نكد هناك أصلاً بوجع ولا غيره بقوله : ( عرباً ( جمع عروب ، وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها ، قال الرازي في اللوامع : الفطنة بمراد الزوج كفطنة العرب .
ولما كان الاتفاق في السن أدعى إلى المحبة ومزيد الألفة قال : ( أتراباً ) أي على سن واحدة وقد واحد ، بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن .
قال الرازي في اللوامع : أخذ من لعب الصبيان بالتراب - انتهى ، وروى البغوي من طريق عبد بن حميد عن الحسن : قال أتت عجوز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : ( يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ) ، فولت تبكي ، ( قال : أخبرها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : إنا أنشأناهن ، الآية ) رواه الترمذي عنه في الشمائل هكذا مرسلاً ، ورواه البيهقي في كتاب البعث عن عائشة رضي(7/410)
صفحة رقم 411
الله عنها والطبراني في الأوسط من وجه عنها ، ومن وجه آخر عن أنس رضي الله عنه ، قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر : وكل طرقه ضعيفة ، وروى البغوي أيضاً من طريق الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال : ( عجائزكن في الدنيا عمشاً رمصاً فجعلهن أبكاراً ) .
ولما كان هذا الوصف البديع مقتضياً لما يزدهي عنه النفس لأن يقال : لمن هؤلاء ؟ وإن كان قد علم قبل ذلك ، نبه عليه بقوله تعالى : ( لأصحاب اليمين ( ويجوز أن يتعلق ب ) أتراباً ( نصاً على أنهن في أسنان أزواجهن .
ولما أنهى وصف ما فيه أهل هذا الصنف على أنهى ما يكون لأهل البادية بعد أن وصف ما للسابقين بأعلى ما يمكن أن يكون لأهل الحاضرة ، وكان قد قدم المقايس في السابقين بين الأولياء والآخرين ، فعل هنا كذلك فقال : ( ثلة من الأولين ) أي من أصحاب اليمين ) وثلة ) أي منهم ) من الآخرين ( فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة ، والظاهر أن الآخرين أكثر ، فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة ، فإنهم عشرون ومائة صف ، هذه الأمة منهم ثمانون صفاً .
) ولما أتم وصف ما فيه الصنفان المحمودان ، وبه تمت أقسام أصحاب الميمنة الأربعة الذين هم أصحاب القلب واليمين ، اتبعه أضدادهم فقال : ( وأصحاب الشمال ) أي الجهة التي تتشاءم العرب بها وعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص ، والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما كان أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ، ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال : ( ما أصحاب الشمال ) أي إنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه .
ولما ذمهم وعابهم ، ذكر عذابهم ليعلم أن القسم الأشد منهم في الشؤم أشد عذاباً فقال : ( في سموم ) أي ظرفهم المحيط بهم لفح من لفح النار شديد يتخلل المسام ) وحميم ) أي ماء حار بالغ في الحرارة إلى حد يذيب اللحم .
ولما كان للتهكم في القلب من شديد الوقد ما يجل عن الوصف والحد قال : ( وظل ( ثم أتبعه ما صرح بأنه تهكم فقال : ( من يحموم ) أي دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد بما أفهمته الزيادة وشبه صيغة المبالغة : ولما كان المعهود من الظل البرد والإراحة ، نفى ذلك عنه فقال : ( لا بارد ( ليروح النفس ) ولا كريم ( ليؤنس به ويلجأ إليه ويرجى خيره ويعول في حال عليه بأن يفعل ما يفعله الواسع الخلق الصفوح من الإكرام ، بل هو مهين ، سماه ظلاًّ لترتاح النفس إليه ثم نفى عنه نفع الظل وبركته لينضم حرقان : اليأس بعد الرجاء إلى إخراق اليحموم فتصير الغصة غصتين .(7/411)
صفحة رقم 412
ولما أنتج هذا أنه على خلق اللئيم فهو موضع الحرارة والضيق والخسة والشدة ، علله بقوله : ( إنهم ( أكده وإن كان فيهم أهل الضر لاجتماعهم في الاسترواح إلى منابذة الدين باتباع الشهوات ، ولأن ما مضى لهم بالنسبة إلى هذا العذاب حال ناعم ، وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو تهيئهم له جبلة وطبعاً فقال : ( كانوا ) أي في الدنيا .
ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع ، نزع الجار فقال : ( قبل ذلك ) أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه ) مترفين ) أي في سعة من العيش منهمكين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين فيها لترامي طباعهم إليها فأعقبهم ما في جبلاتهم من الإخلاد إلى الترف عدم الاعتبار والاتعاظ في الدنيا والتكبر على الدعاة إلى الله ، وفي الآخرة شدة الألم لرقة أجسامهم المهيأة للترف بتعودها بالراحة بإخلادها إليها وتعويلها عليها ) وكانوا ) أي مع الترف ) يصرون ) أي يقيمون ويدومون على سبيل التجديد مما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك ) على الحنث ) أي الذنب ، ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أي الحلم الذي هو وقت المؤاخذة بالذنب ، ويطلق الحنث على الكذب والميل إلى الأبطيل واليمين الغموس ونقض العهد المؤكد .
ولما كان ذلك قد يكون من المعهود مما يغتفر بكونه صغيراً أو في وقت يسير قال : ( العظيم ( دالاًّ على أنهم يستهينون العظائم من القبائح والفواحش .
الواقعة : ( 47 - 55 ) وكانوا يقولون أئذا. .. . .
) وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضِّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( ( )
ولما وصفهم بالترف والإصرار على السرف ، وكان ذلك يلازم البطالة ، وكان يلزم عنها الغباوة والفساد الموجب للشقاوة ، ذكر إنكارهم لما لا أبين منه ، فقال عاطفاً على ما أفهمه التعبير عن الإثم بالحنث من نحو : فكانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم لا يبعثون وأن الرسل كاذبون : ( وكانوا يقولون ) أي إنكاراً مجددين لذلك دائماً جلافة أو عناداً : ( أئذاً ) أي أنبعث إذاً ، وحذف العامل لدلالة ) مبعوثون ( عليه ، ولا يعمل هو لأن الاستفهام وحرف التأكيد اللذين لهما الصدر معناه ) متنا ) أي فلم يبق في رد أرواحنا طب بوجه ) وكنا ) أي كوناً ثابتاً ) تراباً وعظاماً ( ولما كان استفهامهم هذا لإنكار أن يكون في شيء من إقامة أبدانهم أو رد أرواحهم طب ، أعاد الاستفهام تاكيداً لإنكارهم فقال : ( أءِنا لمبعوثون ) أي كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر ، وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون المؤكد بطريق الأولى .(7/412)
صفحة رقم 413
ولما كانت أفهامهم واقفة مع المحسوسات لجمودهم .
وكان البلى كلما كان أقوى كان ذلك البالي في زعمهم من البعث أبعد ، قالوا مخرجين في جملة فعلية عطفاً على الواو من ) معبوثون ( من غير تأكيد بضمير الفصل بالاستفهام : ( أو آباؤنا ) أي يبعث أي الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم ، فصاروا كلهم تراباً ولا سيما إن حملتهم السيول ففرقت ترابهم في كل أوب ، وذهبت به في كل صوب ، وسكن نافع وابن عامر الواو على أن العاطف ) أو ( ويجوز أن يكون العطف على محل ( إن ) واسمها .
ولما كانوا في غاية الجلافة ، رد إنكارهم بإثبات ما نفوه ، وزادهم الإخبار بإهانتهم ثم دل على صحة ذلك بالدليل العقلي لمن يفهمه ، فقال مخاطباً لأعلى الخلق وأوقفهم به لأن هذا المقام لا يذوقه حق ذوقه إلا هو كما أنه لا يقوم بتقريره لهم والرفق بهم إلا هو : ( قل ) أي لهم ولكل من كان مثلهم ، وأكد لإنكارهم : ( إن الأولين ( الذين جعلتم الاستبعاد فيهم أولياً ، ونص على الاستغراق بقوله : ( والآخرين ( ودل على سهولة بعثهم وأنه في غاية الثبات ، منبهاً على أن نقلهم بالموت والبلى تحصيل لا تفويت : ( لمجموعون ( بصيغة اسم المفعول ، في المكان الذي يكون فيه الحساب .
ولما كان جمعهم بالتدريج ، عبر بالغاية فقال : ( إلى ميقات ) أي زمان ومكان ) يوم معلوم ) أي معين عند الله ، ومن شأنه أن يعلم بما عنده من الأمارات ، والميقات : ما وقت به الشيء منزمان أو مكان أي حد .
ولما كان زمان البعث متراخياً عن نزول القرآن ، عبر بأداته وأكد لأجل إنكارهم فقال : ( ثم ) أي بعد البعث بعد الجمع المدرج ) إنكم ( وأيد ما فهمه من أصحاب الشمال هم القسم الأدنى من أصحاب المشأمة فقال : ( أيها الضالون ) أي الذين غلبت عليه الغباوة فيهم لا يفهمون ، ثم أتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال : ( المكذبون ) أي تكذيباً ناشئاً عن الضلال والتقيد بما لا يكذب به إلا عريق في التكذيب بالصدق ) لآكلون من شجر ( منبته النار .
ولما كان الشجر معدن الثمار الشهية كالسدر والطلح ، بينه بقوله : ( من زقوم ) أي شيء هو في غاية الكراهة والبشاعة في المنظر ونتن الرائحة والأذى ، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع وعبد الحق في واعيه : الزقم : شوب اللبن والإفراط فيه ، يقال : بات يزقم اللبن زقماً ، ومن هذا الزقوم الذي ذكرهالله تبارك وتعالى ، وقالا : قال أبو حنيفة : الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها زفرة لها كعابر في رؤوسها ولها ورد تجرشه النحل ، ونورها أبيض ورأس ورقها قبيح جداً ، وهي مرعى ، ومنابتها السهل ، وقال في القاموس : في الدفر بالدال(7/413)
صفحة رقم 414
المهملة ، الدفر - بالتحريك : وقوع الدود في الطعام والذل والنتن ، ويسكن ، وقال في المعجمة : الذفر - محركة : شدة ذكاء الريح كالذفرة أو يخص برائحة الإبط المنتن ، والنتن وماء الفحل ، والذفراء من الكتائب : السهكة من الحديد ، والكعبرة بضمتين عين وراء مهملتين : عقدة أنبوب الزرع ، وعن السهيلي أن أبا حنيفة ذكر في النبات أن شجرة باليمن يقال لها الزقوم لا ورق لها ، وفروعها أشبه شيء برؤوس الحيات ، وقال البيضاوي : شجرة صغير الورق دفرة مرة تكون بتهامة ، وفي القاموس : والزقمة : الطاعون وقال في النهاية : فعول من الزقم : اللقم الشديد والشرب المفرط ، وقال ابن القطاع : زقم زقماً : بلع ، ومن الاشتراط والشجرة المنتنة والبشعة المنظر أنه شيء كريه يضطر آكله إلى التملؤ منه بنهمة وهمة عظيمة ، ومن المعلوم أن الحامل له على هذا مع هذه الكراهة لا يكون إلا في أعلى طبقات الكراهة ، ولذلك حسن جداً موقع قوله مسبباً عن الأكل : ( فمالئون ) أي ملأً هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة ) منها ) أي الشجرة ، أنثه لأنه جمع شجر أو هو اسم جنس ، وهم يكرهون الإناث فتأنيثه - والله أعلم - زيادة في تنفيرهم منه ) البطون ) أي لشيء عجيب يضطركم إلى تناول هذا الكريه مما هو أشد منه كراهة بطبقات من جوع أو غيره ، وإن فسرت بما قالوا من أنه معروف لهم أنه الزبد بالتمر لم يضر ذلك بل يكون المعنى أنهم يتملؤون منها تملأ من يأكل من هذا في الدنيا مع أنه من المعلوم أنه لا شيء في النار المعدة للعذاب لمن أعدت لعذابه حسن .
ولما كان من يأكل كثيراً يعطش عطشاً فيشرب ما قدر عليه رجاء تبريد ما به من حرارة العطش ، سبب عنه قوله : ( فشاربون عليه ) أي على هذا المليء أو الأكل ) من الحميم ) أي الماء الذي هو في غاية الحرارة بحث ضوعف إحماؤه وإغلاؤه .
ولما كان شربهم لأدنى قطرة من ذلك في غاية العجب ، أتبعه ما هو أعجب منه وهو شدة تملئهم منه فقال مسبباً عما مضى : ( فشاربون ) أي منه ) شرب ( بالفتح في قراءة الجماعة وبالضم لنافع وعاصم وحمزة ، وقرئ شاذاً بالكسر والثلاثة مصادر ، قال في القاموس : وشرب كسمع شرباً ويثلث أ والشراب مصدر وبالضم والكسر اسمان ، وبالفتح القوم : يشربون ، وبالكسر : الماء والحظ منه ، والمورد ووقت الشرب ، والكل يصلح هنا ) الهيم ) أي الإبل العطاش لأن بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم ، وقال القزاز : جمع هيماء وهو أي - اليهام - بالضم : داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى - انتهى .
وقال : ذو الرمة :(7/414)
صفحة رقم 415
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها
ويقال : الهيم : الرمل ، ينصب فيه كل ما صب عليه ، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى الأكل ثم من العطش ما يضطرهم إلى الشرب على هذه الهيئة .
الواقعة : ( 56 - 61 ) هذا نزلهم يوم. .. . .
) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : هذا عذابهم كله ، قيل تهكماً بهم ونكاية لهم : ( هذا نزلهم ) أي ما يعد لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له ) يوم الدين ) أي الجزاء الذي هو حكمة القيامة ، وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعده على طريق من يعتني به فما ظنك بما يكون لمن هو أغنى منهم من المعاندين وهو في طريق التهكم مثل قول أبي الشعراء الضبي : وكنا إذا الجبار بالسيف ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا ولما ذكر الواقعة وما يكون فيها للأصناف الثلاثة ، وختم بها على وجه بين فيه حكمتها وكانوا ينكرونها ، دل عليه بقوله : ( نحن ) أي لا غيرنا ) خلقناكم ) أي بما لنا من العظمة ، ولعل هذا الخطاب للدهرية المعطلة من العرب .
ولما كانوا منكرين للبعث عدوا منكرين للابتداء وإن كانوا من المخلصة بالمقريب بالخلق لأنهما لما بينهما من الملازمة لا انفكاك لأحدهما عن الآخر فقال : ( فلولا ) أي فتسبب عن ذلك أن يقال تهديداً ووعيداً : هلا ولم لا ) تصدقون ) أي بالخلق الذي شاهدتموه ولا منازع لنا فيما فيه فتصدقوا بما لا يفرق بينه وبينه إلا بأن يكون أحق منه في مجاري عاداتكم ، وهو الإعادة فتعملوا عمل العبيد لساداتهم ليكون حالكم حال مصدق بأنه مربوب .
ولما حضضهم على التصديق بالاستدلال بإيجادهم ، وكان البعث إنما هو تحويلهم من صورة بالية إلى الصورة التي كانوا عليها من قبل ، سبب عن تكذيبهم به مع تصديقهم بالخلق عدم النظر في تبديل الصور في تفاصيله ، أو سبب عن قول من عساه يقول من أهل الطبائع : إنما خلقنا من نطفة حدثت بحرارة كامنة ، فقال : ( أفرأيتم ) أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة أنا خلقناكم فيهديكم ذلك أنا نقدر على الإعادة كما قدرنا على البداءة فرأيتم ) ما تمنون ) أي تريقون - من النطف التي هي مني في الأرحام بالجماع .
ولما كانت العبرة بالمسبب لا بالسبب ، نبه على ذلك بتجديد الإنكار تنبيهاً على(7/415)
صفحة رقم 416
أنهم وإن كانوا مترفين بتفرده بالإبداع ، فإن إنكارهم للبعث مستلزم لإنكارهم لذلك فقال : ( ءأنتم تخلقونه ) أي توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الاستواء والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صور المضغة ثم منها إلى صور العظام والأعصاب ) أم نحن ( خاصة .
ولما كان المقام لتقرير المنكرين ذكر الخبر المفهوم من السياق على وجه أفهم أن التقدير : أو أنتم الخالقون له أن نحن ؟ فقال : بل نحن ) الخالقون ) أي الثابت لنا ذلك ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً ) تخلقون ( دليلاً على حذف مثله له سبحانه ثانياً ، وذكر الاسم ثانياً دليلاً على حذف مثله لهم أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر ما هو الأوفق لأعمالهم مما يدل على وقت التجدد ولو وقتاً ما ، وما هو الأولى بصفاته سبحانه مما يدل على الثبات والدوام .
ولما كان الجواب : أنت الخالق وحدك ، وكان الطبيعي ربما قال : اقتضى ذلك الحرارة المخمرة للنطفة ، وكانت المفاوتة للآجال مع المساواة في اسمية الحياة من الدلائل العظيمة على تمام القدرة على الإفناء والإبداء بالاختيار مبطلة لقول أهل الطبائع دافعة لهم ، أكد ذلك الدليل بقوله : ( نحن ) أي بما لنا من العظمة لا غيرنا ) قدرنا ) أي تقديراً عظيماً ، لا يقدر سوانا على نقض شيء منه ) بينكم ) أي كلكم لم نترك أحداً منكم بغير حصة منه ) الموت ) أي أوجبناه على مقدار معلوم لكل أحد لا يتعداه ، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوة البدن وصحة المزاج ، فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة ، وأطلنا عمر هذا وقد يكون في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج لو تمالؤوا على تقصيره طرفة عين لعجزوا ، وأنتم معترفون بأنه سبحانه رتب أفعاله على مقتضى الكمال والقدرة والحكمة البالغة ، فلو كانت فائدة الموت مجرد القهر لكانت نقصاً لكونه يعم الغني والفقير والظالم والمظلوم ، ولكان جعل الإنسان مخلداً أولى وأحكم ، ففائدته غير مجرد القهر وهي الحمل على إحسان العمل للقاهر خوفاً من العرض عليه والمحاسبة بين يديه ثم النقلة إلى دار الجزاء والترقية إلى العلوم التي البدن حجابها من تمييز الخبيث والطيب والعلم بمقادير الثواب والعقاب ، وغير ذلك مما يبصره أولو الألباب .
ولما كان حاصل الموت أنه تغيير الصورة التي كانت إلى غيرها ، وكان من قدر على تحويل صورة إلى شيء قدر على تحويلها إلى شيء آخر مماثل لذلك الشيء قال : ( وما نحن ) أي على ما لنا من العظمة ، وأكد النفي فقال : ( بمسبوقين ) أي بالموت ولا عاجزين ولا مغلوبين ) على أن نبدل ( تبديلاً عظيماً ) أمثالكم ) أي صوركم وأشخاصكم لما تقدم في الشورى من أن المثل في الأصل هو الشيء نفسه ) وننشئكم ((7/416)
صفحة رقم 417
أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم ) في ما لا تعلمون ( فإن بعضهم تأكله السباع أو الحتيان أو الطيور فتنشأ أبدانُها منه ، بعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب ، فنشأ منه أبدانها ، وربما صار ترابه من معادن الأرض كالذهب والفضة والحديد والحجر ونحو ذلك ، وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى : ( قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً ( غلى آخرها ، أو يكون المعنى كما قال البغوي : نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور .
أي بتغيير أوصافكم وصوركم في صور أخرى بالمسخ ، ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة .
الواقعة : ( 62 - 69 ) ولقد علمتم النشأة. .. . .
) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : فلقد علمتم النشأة الثانية النطفية ، عطف عليه قوله مؤكداً تنبيهاً على أنهم لما كانوا يعملون بخلاف ما يعلمون كانوا كأنهم منكرون لهذا العلم : ( ولقد علمتم ) أي أيها العرب ) النشأة الأولى ( الترابية لأبيه آدم عليه الصلاة والسلام : أو اللحمية لأمكم حواء عليها السلام حيث لم يكن هناك طبيعة تقتضي ذلك ، وإلا لوجد مثل ذلك بعد ذلك ، والنطفية لكم ، وكل منها تحويل من شيء إلى غيره ، فالذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصورة ؟ ولهذا سبب عما تقدم قوله : ( فلولا ) أي فهلا ولم لا ) تذكرون ) أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم وإن كان فيه خفاء ما - مما أشار إليه الإدغام من أن الملوم عليه غيب ، وكذا بعض ما قيس به أن من قدر على هذه الوجوه من الإبداءات قدر على الإعادة ، بل هي أهون في مجاري عاداتكم .
ولما كان علمهم بأمر النبات الذي هو الآية العظمى لإعادة الأموات أعظم من علمهم بجميع ما مضى ، وكان أمره في الحرث وإلقاء البذر فيه أشبه شيء بالجماع وإلقاء النطفة ، ولذلك سميت المرأة حرثاً ، وصل بما مضى مسبباً عنه قوله منكراً عليهم : ( أفرأيتم ( اي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة ما نبهناكم عليه وفيما تقدم فتسبب عن تنبهكم لذلك أنكم رأيتم ) ما تحرثون ) أي تجددون حرثه على سبيل الاستمرار بتهيئة أرضه للبذر وإلقاء البذر فيه .
ولما كانوا لا يدعون القدرة على الإنبات بوجه ، وكان القدر عليه قادراً على كل شيء ، وهم يعتقدون في أمر البعث ما يؤدي إلى الطعن في قدرته ، كرر الإنكار عليهم(7/417)
صفحة رقم 418
فقال : ( ءأنتم تزرعونه ) أي تنبتونه بعد طرحكم البذر فيه وتحفظونه إلى أن يصير مالاً ) أم نحن ( خاصة ، وأكد لما مضى بذكر الخبر المعلوم من السياق فقال : ( الزارعون ) أي المنبتون له والحافظون ، فالآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أختها قريباً سواء .
ولما كان الجواب قطعاً : أنت الفاعل لذلك وحدك ؟ قال موضحاً لأنه ما زرعه غيره بأن الفاعل الكامل من يدفع عما صنعه ما يفسده ، ومن إذا أراد إفساده لم يقدر أحد على منعه ) لو نشاء ) أي لو عاملناكم بصفة العظمة ، وأكد لأن فعلهم فعل الآمن من ذلك مع أنهم في غاية الاستبعاد لأن يهلك زرعهم كما زرعوه أو لأن المطعوم أهم من المشروب وأعظم ، فإنه الأصل في إقامة البدن والمشروب تبع له فقال : ( لجعلناه ) أي بتلك العظمة ) حطاماً ) أي مكسراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهلك أو غير ذلك فلا ينتفع به ) فظلتم ) أي فأمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وفي كل وقت وتركتم كل ما يهمكم ) تفكهون ( قال في القاموس : فكههم بملح الكلام : أطرافهم بها وفكه - كفرح فكهاً فهو فكه وفاكه : طيب النفس أو يحدث صحبه فيضحكم ومنه تعجب كتفكه ، والتفاكه : التمازح ، وتفكه : تندم : والأفكوكة : الأعجوبة ، وقال ابن برجان : الفكه هو المتردد في القول سببت ذلك التلف أو تتعجبون أو تحدثون في ذلك ولم تعرجوا على شغل غيره كما تفعلون عند الأشياء السارة التي هي في غاية الإعجاب والملاحة والملاءمة ، ولهذاعبر عما المراد به الإقامة مع الدوام ب ) ظل ( الذي معناه أقام نهاراً إشارة إلى ترك الاشغال التي تهم ومحلها النهار ويمنع الإنسان من أكثر ما يهمه من الكلام لهذا النازل الأعظم ، وحذف إحدى لامي ظل وتاء التفعل من تفكه إشارة إلى ضعف المصابين عن الدفاع في بقائهم وفي كلامهم حال بقائهم الضعيف ، وكون المحذوف عين الفعل وهو الوسط ، إشارة إلى خلع القلب واختراق الجوف والقهر العظيم ، فلا قدرة لأحد منهم على ممانعة هذا النازل بوجه ولا على تبريد ما اعتراه منه من حرارة الصدر وخوف الفقر بغير الشكاية إلى آماله ممن يعلم أنه لا ضر في يده ولا نفع ، ورمبا كان ذلك إشارة إلى أنه عادته سبحانه قرب الفرج من شدائد الدنيا ليكون الإنسان متمكناً من الشكر لا عذر له في تركه ، ويكون المعنى أنكم مع كثرة اعتيادكم للفرج بعد الشدة عن قرب تيأسوا أول ما يصدمكم البلاء ، فتقبلون على كثرة الشكاية ، ولا ينفعكم كثرة التجارب لإدرار النعم أبداً .
ولما ذكر تفكههم ، وكان التفكه يطلق على ما ذكر من التعجب والتندم وعلى(7/418)
صفحة رقم 419
التنعم ، قال الكسائي : هو من الأضداد ، تقول العرب : تفكهت أي تنعمت ، وتفكهت ، أي حزنت ، بين المراد بقوله حكاية لتفكههم : ( إنا ( وأكد إعلاماً بشدة بأسهم فقال ) لمغرمون ) أي مولع بنا وملازمون بشر دائم وعذاب وهلاك لهلاك رزقنا ، أو مكرمون بغرامة ما أنفقنا ولم ينتفع به ، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالاستفهام لإنكار هذا الواقع والاستعظام له والتعجب منه ، وهي منبهة على أنهم لشدة اضطرابهم من ذلك الحادث مذبذبون تارة يجزمون باليأس والشر وتارة يشكون فيه وينسبون الأمر إلى سوء تصرفهم ، وعليه يدل إضرابهم : ( بل نحن ) أي خاصة ) محرمون ) أي حرمنا غيرنا زرعه ، قال في القاموس : الغرام : الولوع والشر الدائم والهلاك والعذاب ، والغرامة ما يلزم أداؤه ، وحرمه : منعه ، والمحروم ، الممنوع عن الخير ومن لا ينمى له مال والمحارف - أي بفتح الراء - وهو الممنوع من الخير الذي لا يكاد يكتسب ، وقال الأصبهاني في تفسيره : والمحروم ضد المرزوق ، أي والمرزوق المجرود بالجيم وهو المحظوظ .
ولما وقفهم على قدرته في الزرع مع وجود أسبابه ، وقدمهم بشدة إليه ، وكان ربما ألبس نوع لبس لأن لهم فيه سبباً في الجملة ، أتبعه التوقيف على قدرته على التصرف في سببه الذي هو الماء الذي لا سبب لهم في شيء من أمره أصلاً ، فقال مسبباً عما أفادهم هذا التنبيه مذكراً بنعمة الشرب الذي يحوج إليه الغذاء : ( أفرءيتم ) أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة ما نبهنا عليه مما مضى في المطعم وغيره ، أفرأيتم ) الماء ( ولما كان منه ما لا يشرب ، وكانت النعمة في المشروب أعظم ، قال واصفاً له بما إغنى عن وصفه بالعذوبة ، وبين موضع النعمة التي لا محيد عنها فقال : ( الذي تشربون ( ولما كان عنصره في جهة العلو ، قال منكراً عليهم مقرراً لهم : ( أءنتم أنزلتموه ( ولما كان الإنزال قد يطلق على مجرد إيجاد الشيء النفيس ، وكان السحاب من عادته المرور مع الريح لا يكاد يثبت ، عبر بقوله تحقيقاً لجهة العلو وتوقيفاً عل موضع النعمة في إثباته إلى أن يتم حصول النفع به : ( من المزن ) أي السحاب المملوء الممدوح الذي شأنه الإسراع في المضي ، وقال الأصبهاني ، وقيل : السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء ) أم نحن ) أي خاصة ، وأكد بذكر الخبر وهو لا يحتاج إلى ذكره في أصل المعنى فقال : ( المنزلون ) أي له ، رحمة لكم وإحساناً إليكم بتطييب عيشكم على ما لنا من مقام العظمة الذي شأنه الكبر والجبروت وعدم المبالاة بشيء ، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في الآيتين السابقتين سواء .(7/419)
صفحة رقم 420
الواقعة : ( 70 - 76 ) لو نشاء جعلناه. .. . .
) لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( ( )
ولما كان الجواب : أنت وحدك فعلت ذلك على غناك عن الخلق بما لك من الرحمة وكمال الذات والصفات ، قال مذكراً بنعمة أخرى : ( لو نشاء ) أي حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به .
ولما كانت صيرورة الماء ملحاً أكثر من صيرورة النبت حطاماً ، ولم يؤكد لذلك وللتنبيه على أن السامعين لما مضى التوقيف على تمام القدرة صاروا في حيز المعترفين فقال تعالى : ( جعلناه ) أي بما تقتضيه صفات العظمة ) أجاجاً ) أي ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به .
ولما كان هذا مما لا يساغ لإنكاره ، سبب عنه على سبيل الاستمرار باستعمال ) فلولا تشكرون ) أي فهل لا ولم لا تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الذي أوجده لكم ومكنكم منه وجعله ملائماً لطباعكم مشتهى لنفوسكم نافعاً لكم في كل ما ترونه .
ولما كانت النار سبباً لعنصر ما فيه الماء فيتحلب فيتقاطر كما كان الماء سبباً لتشقيق الأرض بالزرع ، ولم يكن لمخلوق قدرة على التصول بنوع سبب ، أتبعه بما كما أتبع الزرع بالماء لذلك ولبيان القدرة على ما لا سبب فيه لمخلوق في السفل كما كان إنزال الماء عرياً عن سنتهم في العلو ، فقال مسبباً عما مضى تنبيهاً على أنه أهلهم للتأمل في مصنوعاته والتبصر في عجائب آياته فقال : ( أفرءيتم ) أي أخبروني هل رأيتم بالأبصار والبصائر ما تقدم فرأيتم ) النار ( ولما كان المراد ناراً مخصوصة توقفهم على تمام قدرته وتكشف لهم ذلك كشفاً بيناً بإيجاد الأشياء من أضدادها فقال : ( التي تورون ) أي تستخرجون من الزند فتوقودون به سواء كان الزند يابساً أو أخضر بعد أن كانت خفية فيه لا يظن من لم يجرب ذلك أن فيه ناراً أصلاً ، فكان ذلك مثل التورية التي يظهر فيها شيء ويراد غيره ، ثم صار بعد ذلك الخفاء إلى ظهور عظيم وسلطة متزايدة على الآخر فتتقدح منها النار على أن النار في كل شجر ، وإنما خص المرخ والعفار لسهولة القدح منهما ، وقد قالوا : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار .
ولما كان هذا من عجائب الصنع ، كرر التقرير والإنكار تنبيهاً عليه فقال : ( ءأنتم أنشأتم ) أي اخترعتم وأوجدتم وأودعتم وأحييتم وربيتم وأوقعتم ) شجرتها ) أي المرخ(7/420)
صفحة رقم 421
والعفار التي تتخذون منها الزناد الذي يخرج منه ، وأسكنتموها النار مختلطة بالماء الذي هو ضدها وخبأتموها في تلك الشجرة لا يعدو واحد منها على الآخر مع المضادة فيغلبه حتى يمحقه ويعدمه ) أم نحن ) أي خاصة ، وأكد بقوله : ( المنشئون ) أي لها بما لنا من العظمة على تلك الهيئة ، فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون من الشجرة الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها في كيفيتها ، كان أقدر على إعادة الطرواة والغضاضة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس وبلي ، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أخوتها سواء .
ولما كان الجواب قطعاً : أنت وحدك ، قال دالاًّ على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر : ( نحن ) أي خاصة ) جعلناها ( بما اقتضته عظمتنا ، وقدم من منافعها ما هو أولى بسياق البعث الذي هو مقامه فقال : ( تذكرة ) أي شيئاً تتذكرونه وتتذكرون به تذكراً عظيماً جليلاً عن كل ما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك مما ننيره لأولي البصائر والفهوم من المعلوم ، قال ابن برجان : فوزان قدح الزناد من الشجر ، والزناد وزان الصيحة بهم ووزان إنشائه الأجسام وبإنشائها من غيبها أن النار الكبرى في غيب ما نشاهده ، وهذا من آثار كونها في الجو - انتهى .
وعلق بحا سبحانه كثيراً من أسباب المعاش التي لا غنى عنها ليكون مذكراً لهم بما أوقدوا به حاضراً دائماً فيكون أجدر باتعاظهم ) ومتاعاً ) أي إنشاءً وبقاءً وتعميراً ونفعاً وإيصالاً إلى غاية المراد من الاستضائة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس ، وهروب السباع وغير ذلك ، والمراد أنها سبب لجميع ذلك ) للمقوين ) أي الجياع الذي أقوت بطونهم - أي خلت - من الفقر والإغناء من من النازلين بالأرض القواء ، والقواء بالكسر والمد أي القفر الخالية المتباعدة الأطراف البعيدة من العمران ، وكل آدمي مهيأ للقواء فهو موصوف به وإن لم يكن حال الوصف كذلك ، وقال الرازي : أقوى من الأضداد : اغتنى وافتقر ، وقال أبو حيان : وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب ، والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شيء إلى شيء إحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه - انتهى .
ولما دل سبحانه في هذه الآيات على عجائب القدرة وغرائب الصنع ، فبدأ بالزرع وختم بالنار والشجر ، وأوجب ما نبه التذكر لأمرها والتبصر في شأنها أنها من أسباب ما قبلها ، وأنه سبب لها لكونه سبباً لها لإثبات ما هي له ، وكان مجموع ذلك(7/421)
صفحة رقم 422
إشارة إلى العناصر الأربعة ، قال ابن برجان : إلاّ أن الماء والأرض لخلق الأركان ، والاخلاق والصفات للهواء والنار ، وكان ذلك من جميع وجوهه أمراً باهراً ، أشار إلى زيادة عظمته بالأمر بالتنزيه مسبباً عما أفاد ذلك ، فقال معرضاً عمن قد يلم به الإنكار مقبلاً على أشرف خلقه إشارة إلى أنه لا يفهم هذا المقام حق فهمه سواه ولا يعمل به حق عمله غيره : ( فسبح ) أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتدياً بجميع ما في السماوات والأرض ، ومن أعجب ذلك أنه سخر لنا في هذه الدار جهنم ، قال ابن برجان : جعل منها بحرارة الشمس جنات وثمرات وفواكه وزروع ومعايش .
ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال : ( باسم ) أي متلبساً بذكر اسم ) ربك ) أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك ، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه ، وهذا معروف لا يجهل ، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه ، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة .
ولما كان المقام للتعظيم قال : ( العظيم ( الذي ملأ الأكوان كلها عظمة ، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهاً عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال ، قال القشيري : وهذه الآيات التي عددها سبحانه تمهيد لسلوك طريق الاستدلال وكما في الخبر ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ) هذه الفكرة التي نبه الله عليها .
ولما كان من العظمة الباهرة ما ظهر في هذه السورة من أفانين الإنعام في الدارين ، وبدأ بنعمة الآخرة لكونها النتيجة ، ثم دل عليها بإنعامه في الدنيا فكان تذكيراً بالنعم لتشكر ، ودلالة على النتيجة لتذكر ، وفي كل حالة تستحضر فلا تكفر ، فوصلت الدلالة إلى حد هو أوضح من المحسوس وأضوأ من المشموس ، وكان مع هذه الأمور الجليلة في مظهر أعجز الخلائق على أن يأتوا بمثله من كل وجه ، أما من جهة الجواب عن(7/422)
صفحة رقم 423
تشبههم وتعنتهم فلكونه يطابق ذلك مطابقة لا يمكن أن يكون شيء مثلها ، ويزيد على ذلك بما شاء الله من المعارف من غير أن يدع لبساً ، وأما من جهة المفردات فلكونها النهاية في جلالة الألاظ ورشاقة الحروف وجمع المعاني ، فيفيد ذلك أنه لا تقوم كلمة أخرى مقام كلمة منه أصلاً ، وأما من جهة التركيب فلكون كل كلمة منها أحق في مواضعها بحيث إنه لو قدم شيء منها أو أخر لاختل المعنى المراد في ذلك السياق بحسب ذلك المقام ، وأما من جهة الترتيب في الجمل والآيات والقصص في المبادئ والغايات فلكونه مثل تركيب الكلمات ، كل جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدر اليتيم في العقد المحكم النظيم ، لأنها إما أن تكون علة لما تلته أو دليلاً أو متممة بوجه من الوجوه الفائقة على وجه ممتع الجناب جليل الحجاب لتكون أحلى في فمه ، وأجلى بعد ذوقه في نظمه وسائر عمله ، فكان ثبوت جميع ما أخبر به على وجه لا مغتمر فيه ولا وقفة في اعتقاد حسنه ، فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن ( صلى الله عليه وسلم ) بالهدى وبالحق ، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له ، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها ، والموعظة الحسنة ، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور ، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب للإيمان ، فكان من سمعه ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول : هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ الكلام وتصريف وجوه المقال ، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله ، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه : أنت تعلم ان الحق معي لكنك تستضعفيني ولا تنصفني ، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف ، وإنما يفزع إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا ، فيقول : وهذا غلتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك ، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه ، فلم يبق إلا الإقسام ، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام ، ولهذا كثرت الآيات في أواخر القرآن ، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر ، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله : ( فلا أقسم ( بإثبات ( لا ) النافية ، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي ضد ما أثبته القسم ، فيجمع الكلام بين إُبات المعنى المخبر به ونفي ضده ، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكارهم له أن يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم - والله أعلم .(7/423)
صفحة رقم 424
ولما كان الكلام السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعيم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه ، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال : ( بمواقع النجوم ) أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب ، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله ، وبمساقط الكوكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم ، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد ، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً ، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام ، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي يضيق عنها العبارات ، ويقصر دون علينا مديد الإشارات ، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه ، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام ، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم ، فقال موضحاً له بالتأكيد رحمة للعبيد بالإشارة إلى أنهم جروا على غر ما يعلمون من عظمتنا فعدوا غير عالمين : ( وإنه ) أي هذا القسم على هذا المنج ) لقسم لو تعلمون ) أي لو تجدد لكم في وقت علم لعلمتم أنه ) عظيم ( وإقسامه لنا على ذلك ونحن أقل قدراً وأضعف أمراً إعلاماً بما له من الرحمة التي من عظمها أنه لا يتركنا سدى - كل ذلك ليصلح أنفسنا باتباع أمره والوقوف عند زجره ، قال ابن برجان : ومن إتقانه جل جلاله في خليقته وحكمه في بريته أن جعل لكل واقع من النجوم الفلكية طالعاً يسمى بالإضافة إلى الواقع الرقيب دون تأخر ، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى :
77 ( ) رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ) 7
[ الرحمن : 18 ] يجمع ذلك الشمس والقمر والنجوم وهي نجوم منازل القمر عددها ثمانية وعشرون منزلة سوى تحجبها الشمس فتمت والنجوم وهي نجوم منازل القمر عددها ثمانية وعشرون وربما استتر ليلتين ، فالقمر ينزل في هذه المنازل كل ليلة منزلة حتى يتمها لتمام الشهر ، وإما الشمس فإنها تقيم فيها أربعة عشر يوماً ويسمى حلولها في هذه المحال ثم طلوع المنزلة التي تليها لوقوع هذا رقيب لها نوء - انتهى ، وهو يعني أن من تأمل هذه الحكم علم ما في هذا القسم من العظم ، وأشبع القول فيها أبو الحكم ، وبين ما فيها من بدائع النعم ، ثم قال : ويفضل الله بفتح رحمته كما يشاء فينزل من السماء ماء مباركاً يكسر به من برد الزمهرير فيرطبه ويبرد من حر السعير فيعدله ، وقسم السنة على أربعة فصول أتم فيها أمره في الأرض بركاتها وتقدير أقواتها ، قال
77 ( ) وبارك فيها وقدر بها أقواتها في أربعة(7/424)
صفحة رقم 425
أيام ( ) [ فصلت : 10 في قراءتنا ( فيها ) بدل ( بها ) ( ا .
ه .
ثم قال : وجعل هذه الدنيا على هذا الاعتبار الجنة الصغرى ، ولو أتم القسم على هذا الوجه ثم على الاعتبار تخفيفه الفيح وإنارته الزمهرير والسعير هي جهنم الصغرى .
الواقعة : ( 77 - 85 ) إنه لقرآن كريم
) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( ( )
ولما أتم القسم على هذا الوجه الجليل ، أجابه بقوله مؤكداً لما لهم من ظاهر الإنكار : ( إنه ) أي القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم أفهامها ) لقرآن ) أي جامع سهل قريب مفقه مبين للغوامض ذو أنواع جليلة ) كريم ( ظهرت فيه أفانين إنعامه سبحانه فيما دق من أمور هذه الدنيا وجل من أمور الدارين بما ذكر في هذه السورة وما تقدمها من إصلاح المعاش والمعاد ، فهو بالغ الكرم منزه عن كل شائبة نقص ولؤم ودناءة ، من كرمه كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس وبلسان العرب الذين اتفق الفرق على أن لسانهم أفصح الألسن وعلى وجه أعجز العرب .
ولما ذكر المعنى ، ذكر محل النظم الدال عليه بلفظ دال على نفس النظم فقال : ( في كتب ) أي خط ومخطوط فيه جامع على وجه هو في غاية الثبات ) مكنون ) أي هو في ستر مصون لما له من النفاسة والعلو في السماء في اللوح المحفوظ ، وفي الأرض في الصدور المشرفة ، وفي السطور في المصاحف المكرمة المطهرة ، محفوظاً مع ذلك من التغيير والتبديل .
ولما كان ما هو كذلك قد يحصل له خلل يسوء خدامه قال : ( لا يسمه ) أي الكتاب الذي هو مكتوب الذي هو مكتوب فيه أعم من أن يكون في السماء أو في الأرض أو القرآن أو الكتوب منه فضلاً عن أن يتصرف فيه ) إلا المطهرون ) أي الطاهرون الذين بولغ في تطهيرهم وهم رؤوس الملائكة الكرام ، ولم يكن السفير به إلاّ هم ولم ييسر الله حفظه إلا لأطهر عباده ، ولم يعرف معناه إلا لأشرف حفاظه وأطهرهم قلوباً ، ومن عموم ما يتحمله اللفظ من المعنى بكونه كلام العالم لكل شيء فهو لا يحمل لفظاً إلا وهو مراد له أنه يحرم منه على من لم يكن له في غاية الطهارة بالبعد عن الحدثين الأكبر والأصغر ، فهو على هذا نفي بمعنى النهي وهو بألغ ، قال البغوي : وهو قول أكثر أهل العلم ، وروي بإسناد من طريق أبي مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو ابن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم رضي الله عنه ( أن لا(7/425)
صفحة رقم 426
يمس القرآن إلا طاهر ) والمراد به المصحف للجوار كما في النهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .
ومما يحتمله أيضاً التعبير باللمس أنه لا يقرأه بلسانه إلا طاهر ، فإن أريد الجنابة كان النهي للحرمة أو للأكمل .
ولما ذكر الذي منه صيانته ، أتبعه شرفه بشرف منزله وإنزاله على حال هو في غاية العظمة مسمياً له باسم المصدر للمبالغة ولأن هذا المصدر أغلب احواله ، ولذلك غلب عليه هذا الأسم : ( تنزيل ) أي وصوله إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للأفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم بواسطة الرسل من الملائكة .
ولما كان هذا في غاية الاتفاق واليسر ذكر من صفاته ما يناسبه فقال : ( من رب العالمين ( من الخالق العالم بتربيتهم .
ولما افصح من وصف هذا الكتاب العظيم ما يقتضي أن يكون بمجرده مثبتاً لما لا تدركه العقول من كماله وكافياً في الإذعان لاعتقاده فكيف إذا كان ما تحكم العقول وتقضي بفساد ما سواه ، فكيف إذا كان مما يتذكر الإنسان مثله في نفسه ، عجب منهم في جعله سبباً لإنكار البعث الذي إذا ذكر الإنسان أحوال نفسه كفاه ذلك في الجزم به فقال منكراً تعجباً : ( أفبهذا ( ولما كان الإنسان مغربما بما يجدد له من النعم ولو هان فكيف إذا أعلى النعم قال : ( الحديث ) أي الذي تقدمت أوصافه العالية وهو متجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت ) أنتم ) أي وأنتم العرب الفصحاء والمفوهون البلغاء ) مدهنون ) أي كذابون منافقون بسببه تظهرون غير ما تبطنون أنه كذاب وأنتم تعلمون صدقه بحسن معانيه ، وعجزكم عن مماثلته في نظومه ومبانيه ، وتقولون : لو شئنا لقلنا مثل هذا : وجميع أفعالكم تخالف هذا فإنكم تصبرون لوقع السيوف ومعانقة الحتوف ، ولا تأتون بشيء يعارضه يبادئ شيئاً منه أو ناقضه أو تلاينون أيها المؤمنون من يكذب به ويطعن في علاه أو يتوصل ولو على وجه خفيإلى نقض شيء من عراه ، تهاوناً به ولا يتصلبون في تصرفه تعظيماً لأمره حتى يكونوا أصلب من الحديد ، قال في القاموس : دهن : نافق ، والمداهنة : إظهار خلاف ما تبطن كالإدهان والغش ، وقال البغوي رحمه الله : هو الإدهان وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر ، وقال الرازي : والفرق بين المداراة والمداهنة يرجع إلى القصد ، فما قصد به غرض سوى الله فهو المداهنة ، وما قصد به أمر يتعلق بالدين فهو المداراة ، وقال ابن برجان : الإدهان والمداهنة : الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز - انتهى .
فهو على هذا(7/426)
صفحة رقم 427
إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة ، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وابن الفارض صاحب التائية أول من صوبت إليه هذه الآية ، فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة ، فهم أضر الناس على هذا الدين ، ومن يؤول لهم أو ينافح عنهم ويعتذر لهم أو يحسن الظن بهم مخالف لإجماع الأمة أنجس حالاً منهم فإن مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه .
ولما كان هذا الق ) آن متكفلاً بسعادة الدارين ، قال تعالى : ( وتجعلون رزقكم ) أي حظكم ونصبيكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله ) أنكم تكذبون ) أي توجدون حقيقة التكذيب في الماضي والحال ، وتجددون ذلك في كل وقت به وبما أرشد إليه من الأمور الجليلة وهي كل ما هو أهل للتصديق به وتصفونه بالأوصاف المتناقضة ، ومن ذلك ما أرشد إليه من أنه لا فاعل إلا الله تعالى فتقولون أنتم إذا أمطركم ما يرزقكم به : هذا بنوء كذا ، معتقدين تأثير ذلك النوء ، وإنما هو بالله تعالى ، فجعلتم جزاء الرزق وبذل الشكر على لارزق التكذيب ، وقال ابن برجان : وضياء يقين جليته ، وما أنزلته من السماء من بكرات قدرتها ومن رياح أرسلتها ، وسحب ألفتها ، تجعلون مكان الشكر على ذلك التكذيب .
ولما أنكر عليهم هذا الإنكار ، وعجب منهم هذا التعجيب في أن ينسبوا لغيره فعلاً أو يكذبوا له خبراً ، سبب عن ذلك تحقيقاً لأنه لا فاعل سواه قوله : ( فلولا ( وهي أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى هل لا ولم لا ) إذا بلغت ) أي الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار ، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة ) الحلقوم ( وهو مجرى الطعام في الحلق ، والحلق مساغ الطعام والشراب معروف ، فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان لأن الميم لمنقطع التمام ، ) وأنتم ) أي والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له ) حينئذٍ ) أي حين إذ بلغت الروح ذلك الموضع .
ولما كان بصرهم لكونه لا ينفذ في باطن كالعدم قال : ( تنظرون ) أي ولكم وصف التحديث إليه ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ، ولم يقل : تبصرون ، لئلا يظن أن لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح وغيرها نحوها ) ونحن ) أي والحال أنا نحن بما لنا من العظمة ) أقرب إليه ) أي المحتضر حقيقة بعلمنا وقدرتنا(7/427)
صفحة رقم 428
التامة وملائكتنا ) منكم ( على شدة قربكم منه ) ولكن لا تبصرون ) أي مع تحديقكم إليه لا يتأثر عن ذلك التحديث غايته ، وهو الإبصار لقربنا منه ، ولا ملائكتنا الموكلين بقبض روحه ، لتعلموا أن الفعل لنا لا لغيرنا ، فلا يتجدد لكم شيء من هذا الوصف لتدركوا به حقيقة ما هو فيه ، فثبت ما أخبرنا به من الاختصاص بباطن العلم والقدرة اللذين عبرنا عنهما بالقرب الذي هو أقوى أسبابها .
الواقعة : ( 86 - 96 ) فلولا إن كنتم. .. . .
) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما كان الكلام لإثبات هذه الأغراض المهمة قبل جواب ( لولا ) أعادها تأكيداً لها وتبيناً فقال : ( فلولا إن كنتم ( أيها المكذبون بالبعث وغيره ) غير مدينين ) أي مقهورين مملوكين مجربين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين بامتناعكم بأنفسكم عن أن يجازيكم أو يمنع غيركم لكم منه ، وأصل تركيب ( دان ) للذل والانقياد - قاله البيضاوي ) ترجعونها ) أي الروح إلى ما كانت عليه ) إن كنتم ) أي كوناً ثابتاً ) صدقين ) أي في أنكم غير مقهورين على الإحضار على الملك الجبار الذي أقامكم في هذه الدار للابتلاء والاختبار ، وأنه ليس لغيركم أمركم ، وفي تكذيبكم لما يخبر به من الأمور الدنيوية بذل شكركم ، وهذا دليل على أنه لا حياة لمن بلغت روحه الحلقوم أصلاً وهذا إلزام لهم بالبعث حاصله أنه سبحانه إن كان لا يعيدكم فليس هو الذي قدر الموت عليكم ، وإن كان لم يقدره فما لكم لا ترفعونه عنه لأنه من الفوادح التي لا يدرك علاجها ، وأنتم تعالجون مقدماته .
وإن قلتم : إنه مقدر لا يمكن علاجه ، لزمكم الإقرار بأن البعث مقدر لا يمكن علاجه ، فإن أنكرتم أحدهما فأنكروا الآخر ، وإن أقررتم بأحدهما فأقروا بالآخر ، وإلا فليس إلا العناد ، فإن قلتم : نحن لا نعلم أنه قدره فاعلموا أنه لو لم يكن بتقديره لأمكنت مقاومته وقتاً ما لا سيما والنفوس مجبولة على كراهته ، وفي الموتى الحكماء والملوك ، وتقريبه أنكم قد بالغتم في الجحود بآيات الله تعالى وأفعاله في كل شيء إن أرسل إليكم رسولاً قلتم : ساحر كذاب ، وإن صدقه مرسله بكتاب معجز قلتم : سحر وافتراء وأمر عجاب ، وإن رزقكم من الماء الذي به حياة كل شيء مطراً ينعشكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على حال مؤد إلى التعطيل والإهمال والعبث ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن عند بلوغه الحلقوم(7/428)
صفحة رقم 429
إن لم يكن ثم مدبر لهذا الكون بالإرسال والإنزال وإفاضة الأرواح وقبضها وبعث العباد لدينونتهم على ما فعلوا فيما أقامهم فيه ، تمثيل بأفعال الملوك على ما يعهد ، فكما أن ملوك الدنيا لا يرسل أحد منهم إلى أحد من رعيته فيأخذه قهراً إلا للدينونة فكيف يظن بملك الملوك غير ذلك ، فتكون ملوك الدنيا أحكم منه ، فإن كان ليس بتمام القدرة فافعلوا برسله كما تفعلون برسل الملوك ، فإنه ربما خلص المطلوب منهم بنوع من أنواع الخلاص بعد بلوغه إلى باب الملك فإرساله سبحانه هو مثل إرسال الملوك غير أنه لتمام ولا ليخفف عنه شيئاً مما هو فيه بغير ما أمر به سبحانه على ألسنة رسله من الدعاء ولاصدقة ولا ليعلم حاله بوجه من الوجوه بل الأمر كما قيل :
إذا غيب المرء استسر حديثه ولم يخبر الأفكار عنه بما يغني
ولما كان التقدير : لا يقدر أحد أصلاً على ردها بعد بلوغها إلى ذلك المحل لأنا نريد جمع الخلائق للدينونة بما فعلوا فيما أقمناهم فيه وأمرناهم به ولا يكون إلا ما تريد ، فكما انكم مقرون بأنه خلقكم من تراب وبأنه يعيدكم قهراً إلى التراب ) يلزمكم حتماً أن تقروا بأنه قادر على أن يعيدكم من التراب فإن أنكرتم هذا نعيد الخلائق إلى التراب لنجمعهم فيه ثم نبعثهم منه لنجازي كلاًّ بما يستحق ونقسمهم إلى أزواج ثلاثة ) فأما إن كان ) أي الميت منهم ) من المقربين ) أي السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقربهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين ، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزهه عنه ، وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل للحظوظ والشهوات عليه ، فإن قربهم إنما هو بالانخلاع من الإرادة أصلاً ورأساً ، وذلك أنه لا شهوات لهم فلا أغراض فلا فعل إلا أمروا به فلا إرادة ، إنما الإرادة للمولى سبحانه وهو معنى
77 ( ) وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( ) 7
[ النحل : 90 ] أي مطلق الإرادة في غير أمر من الله ، لأن المملوك الذي هو لغيره لا ينبغي ان يكون له شيء لا إرادة ولا غيرها - وفقنا الله تعالى لذلك ) فروح ( اي فله راحة ورحمة ما ينعشه من نسيم الريح ومعنى قراءة يعقوب بالضم طمأنينة في القلب وسكينة وحياة لا موت بعدها ) وريحان ) أي رزق عظيم ونبات حسن بهج وأزاهير طيبة الرائحة .
ولما ذكر هذه اللذاذة ، ذكر ما يجمعها وغيرها فقال : ( وجنات ) أي بستان جامع للفواكه والرياحين وما يكون عنها وتكون عنه .(7/429)
صفحة رقم 430
ولما كان جنان الدنيا قد يكون فيها نكد ، أضاف هذه الجنة إلى المراد بهذه الجنان إعلاماً بأنها لا تنفك عنه فقال : ( نعيم ) أي ليس فيها غيره بل هي مقصورة عليه ) وأما إن كان ) أي الميت منهم ) من أصحاب اليمين ) أي الذين هم الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة ) فسلام ) أي سلامة ونجاة وأمر وقول دال عليه .
ولما كان ما يواجه به الشريف من ذلك أعلى قال : ( لك ) أي يا أعلى الخلق أو أيها المخاطب .
ولما كان من أصاب السلام على وجه من الوجوه فائزاً ، فكيف إذا كان مصدراً للسلام ومنبعاً منه قال : ( من أصحاب اليمين ) أي انهم في غاية من السلامة وإظهار السلام ، لا يدرك وصفها ، وهو تمييز فيه معنى التعجيب ، فإن إضافته لم تفده تعريفاً ، وفي اللام و ) من ( مبالغة في ذلك ، فالمعنى : فأما هم فعجباً لك وأنت أعلى الناس في كل معنى ، وأعرفهم بكل أمر غريب منهم في سلامتهم وسلامتهم وتعافيهم وملكهم وشرفهم وعلو مقامهم ، وذلك كله إنما أعطوه لأجلك زيادة في شرفك لاتباعهم لدينك ، فهو مثل قول القائل حيث قال :
فيا لك من ليل كأن نجومه بكل مقار العمل شدت يذبل
وقول القائل أيضاً حيث قال : أي عجباً لك من ليل وعجباً من أنو شروان .
ولما ذكر الصنفين الناجيين ، أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأن من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ، ومن ختم بشقائه لا ينفعه ذلك الإغلاظ والإكثار فقال ) وأما إن كان ) أي ذلك الذي أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تنقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً ) من المكذبين ( .
ولما كان المكذب تارة يكون معانداً ، وتارة يكون جاهلاً مقتصراً ، قال : ( الضالين ) أي أصحاب الشمال الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها لتهاونهم في البعث ) فنزل ) أي لهم وهو ما يعد للقادم على ما لاح ) من حميم ) أي ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به القادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه ) وتصليه جحيم ) أي لهم بعد النزل يصلوا النار الشديدة التوقد صلياً عظيماً .
ولما تم ما أريد إثبات البعث على هذا الوجه المحكم البين ، وكانوا مع البيان يكذبون به ، لفت الخطاب عنهم إلى أكمل الخلق ، وأكد تسميعاً لهم فقال سائقاً له(7/430)
صفحة رقم 431
مساق النتيجة : ( إن هذا ) أي الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم ) إننا لمبعوثون ( ومن قيام الأدلة عليه .
ولما كان من الظهور في حد لا يساويه فيه غيره .
زاد في التأكيد على وجه التخصيص فقال : ( لهو حق اليقين ) أي لكونه لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر ، قال الأصبهاني : قال قتادة في هذه الآية : إن الله عز وجل ليس تاركاً أحداً من الناس حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن ، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك ، وأما المنافق فأيقن يوم القيامة حيث لا ينفعه - انتهى .
ولما تحقق له هذا اليقين ، سبب عنه أمره بالتنزيه له سبحانه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز بعد تقسيمه للأزواج الثلاثة على طريق الإيجاز كما أمره بذلك بعد الفراغ من تقسيمهم على طريق الإطناب إشارة إلى أن المفاوتة بينهم مع ما لهم من العقول من أعظم الأدلة على الفعل بالاختيار وعلى فساد القول بالطبيعة : ( فسبح ) أي أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل والصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه عنه نفسه المقدس ، ولقصره الفعل لإفادة العموم أثبت الجار بقوله : ( باسم ربك ) أي المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك عما وصفه به الكفرة من التكذيب بالواقعة ، وإذا كان هذا لا سمه فكيف بما له وهو ) العظيم ( الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان ، وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه لأن من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم ، وهذا الكلام الأعز الأكرم ، لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه ، أو تدنو من فناء بابه ، وقد انطبق آخر السورة على أولها في الإخبار بالبعث وتصنيف الخلائق فيه إلى الأصناف المذكورة في أولها أيّ انطباق ، وزاد هذا الآخر بأن اعتنق بدليله أي اعتناق ، واتفق مع أول التي بعدها أيذ اتفاق ، وطابقه أجلَّ طباق ، وختمت بصفتي الرحمة والعظمة ، وجلت عن الاسم الجامع كاللتين قبلها لما ذكره في أواخر القمر بصفتي الرحمة يذكر في واحدة من الثلاث أحد من أهل المعصية المصاحبة للأيمان ، ليخاطب بالاسم الجامع للإهانة والإحسان ، وإنما ذكر أهل الكفراين المستوجبين للهوان بالخلود في النيران ، وأهل الإيمان المتأهلين للإحسان بتأبيد الإمكان في أعلى الجنان - انتهى .
.. . .(7/431)
صفحة رقم 432
( سورة الحديد )
مقصودها بيالنت ا ، عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث إلى الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن طكل شائبة نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم ) أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ) [ الواقعة : 47 - 48 ] المقتضي لجهاد من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكلمات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سواء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعا أو كرها ، ويعلم أهل الكتاب الذين كانوا يقولون : ليس أحد أفضل منه ، فضيلة هذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على جمكيع من تقدمه من الرسل عليهم الصلاة والسلام بعموم رسالته وشمول خلافته ، وانتشار دعوته وكثرة أمته تحقيقا لأنه لا حد لفائض رحمته سبحانه لتكون هذه السورة التي هي آخر النصف الأول والتي بعدها التي هي أول النصف الثاني من حيث العدد غاية للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد كما كانت السورة التي غاية النصف الأول يفي المقدار وهي الإسراء ، وكذا السورة التي هي أول النصف الثاني وهي الكهف كاشفتين لمقصد الأولى فيما دعت إليه من الهداية وشدت إليه من الإنذار ، على ذلك دل اسمها الحديد يتأمل آياته وتدبر سر ما ذكر فيه وغاياته ، أسند صاحب الفردوزس عن جابر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت يوم الثلاثاء " ) بسم الله ( الذي أحاطت إلالهيته بجميع الموجودات ) الرحمن ( الذي وسعهم جوده فيي جميع الحركات والسكنات ) الرحيم ( الذي خص من بينهم بما له من الاختيار يفي كمال الاقتدار أهل ولا يته بما يرضيه من العبادات .(7/432)
صفحة رقم 433
الحديد : ( 1 - 4 ) سبح لله ما. .. . .
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ( )
ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث ، جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه وتبيينه بالدليل والبرهان والسيف والسنان فقال تعالى كالتعليل لآخر الواقعة : ( سبح ) أي أوقع التسبيح بدلالة الجبلة تعظيماً له سبحانه وإقراراً بربوبيته وإذعاناً لطاعته ، وقصره ، وهو متعد ليدل على العموم بقصره ، وعلى الإخلاص بتعديته باللام وجعله ماضياً هنا وفي الحشر والصف ومضارعاً في الجمعة والتغابن ليدل على أن مما أسند إليه التسبيح هو من شأنه وهجيراه وديدنه وتخصيص كل من الماضي والمضارع بما افتتح به لما يأتي في أول الجمعة ، والإتيان بالمصدر أول الإسراء أبلغ من حيث إنه يدل إطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال ) لله ) أي الملك المحيط بجميع صفات الكمال ) ما في السموات ) أي الأجرام العالية والذي فيها وهي الأرض ومن فيها وكل سماء ومن فيها ، وما بينهما لأنها كلها في العرش الذي هو أعلى الخلق .
ولما كان الكلام آخر الواقعة مع أهل الخصوص بل هو أخص أهل الخصوص ، لم يحتج إلى تأكيد فحذف ما جعلا للخافقين كشيء واحد لأن نظره لهما نظر علو نظراً واحداً لما أخبر به عنهما من التنزيه فقال : ( والأرض ) أي وما فيها وكذا نفس الأراضي كما تقدم ، فشمل ، ذلك جميع الموجودات لأنه إذا سبح ذلك كله فتسبيح العرش بطريق الأولى وتنزيه هذه الاشياء بما فيهعا من الأيات الدالة على أنه سبحانه لا يلم بجنابه شائبة نقص ، وأن كل شيء واقف على الباب يشاهد الطلب ، قال القشيري : التسبيح : التقديس ولتنزيه ، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال ، فيظفرون بجواهر التوحيد ، وينظمونها في عقد الإيمان ، ويرصعونها في أطواق الوصلة .
ولما قرر ذلك ، دل على أنه لا قدرة لشيء على الانفكاك عنه ، وأن له كل كمال ، فهو المستحق للتسبيح والحمد فقال : ( وهو ) أي وحده ) العزيز ( الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) الحكيم ( الذي أتقن كل شيء صنعه .
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير العاصمي في برهانه : لما تقدم قوله سبحانه وتعالى ) ) فلولا تصدقون ( ) [ الواقعة : 57 ] وفيه من التقريع والتوبيخ لمن قرع به ما لا(7/433)
صفحة رقم 434
خفاء به ، ثم اتبع بقوله تعالى
77 ( ) أفرءيتم ما تمنون ( ) 7
[ الواقعة : 58 ] الآيات إلى قوله
77 ( ) ومتاعاً للمقوين ( ) 7
[ الواقعة : 73 ] فعزروا ووبخوا على سوء جهلهم وقبح ضلالهم ، ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك
77 ( ) أبهذا الحديث أنتم مدهنون ( ) 7
[ الواقعة : 81 ] واستمر توبيخهم إلى قوله :
77 ( ) إن كنتم صادقين ( ) 7
[ الواقعة : 87 ] فلما أشارت هذه الآيات إلى قبائح مرتكباتهم ، أعقب تعالى ذلك تنزيهه عز وجل عن سوء ما انتحلوه وضلالهم فيما جهلوه فقال تعالى
77 ( ) فسبح باسم ربك ( ) 7
[ الواقعة : 69 ] أي نزهه عن عظيم ضلالهم وسوء ابجترائهم ، ثم أعقب ذلك بقوله ) سبح لله ما في السموات والأرض ) أي سبح باسم ربك ، فهي سنة العالم بأسرهم
77 ( ) وله أسلم من في السموات والأرض ( ) 7
[ آل عمران : 83 ] ) سبح لله ما في السموات والأرض ( ثم أتبع ذلك بقوله : ( له الملك وله الحمد ( فبين تعالى انفراده بصفة الجلال ونعوت الكمال ، وأنه المتفرد بالملك والحمد وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلى قوله : ( وهو عليم بذات الصدور ( فتضمنت هذه الآيات إرغام من أشير إلى حاله في الآية المتقدمة من سورة الواقعة وقطع ضلالهم والتعريف بما جهلوه من صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وتعالى ، وافتتحت آي السورتين واتصلت معانيها ثم صرف الخطاب إلى عباده المؤمنين فقال تعالى ) آمنوا بالله ورسوله ( واستمرت الآي على خطابهم إلى آخر السورة - انتهى .
ولما أخبر بذلك ، دل على وجه مصرح بما أفهمه الأول من تسبيح السماوات والأرض بقوله : ( له ) أي وحده ) ملك السموات والأرض ) أي وملك ما فيهما وما بينهما ظاهراً وباطناً ، فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك علية ورياح محسوسة وسحاب مرئية - وما تفصل إلى ذلك من خلق وأمر ، والملك الباطن الغائب عنا ، وأعظمه المضاف إلى الآخر وهو الملكوت ، قال القشيري : الملك مبالغة من الملك يعني بدلالة الضمة ، قال ، والملك بالكسر اي القدرة على الإبداع فلا مالك إلا الله ، وإذا قيل لغيره : مالك ، فعلى المجاز بالأحكام المتعلقة في الشريعة على ملك الناس أي بتصحيحه أو إفساده ونحوه ذلك ، فالآية من الاحتباك : ذكر ما بين السموات والأرض أولاً دليلاً على حذف ما بينهما ثانياً ، وذكر الخافقين ثانياً دليلاً على حذف مثل ذلك أولاً ليكون التسبيح والملك شاملاً للكل .
ولما كان ذلك مما لا نزاع فيه ، وكان ربما عاند معاند ، دل عليه بما لا مطمع فيه لغيره فقال مقدماً الإحياء لأنه كذلك في الخارج ولأن زمن الحياة أكثر لأن البعث حياة دائمة لا موت بعدها : ( يحيي ) أي له صفة الإحياء فيحيي ما يشاء من الخلق بأن يوجده على صفة الإحياء كيف شاء في أطور يتقلبها كيف شاء وكيف يشاء ومما يشاء(7/434)
صفحة رقم 435
) ويميت ( اي له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجد والاستمرار ، فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء .
ولما كان هذا شاملاً للقدرة على التجديد والإعادة ، عم الحكم بقوله : ( وهو على كل شيء ) أي من الإحياء والإماتة وغيرهما من كل ممكن ) قدير ) أي بالغ القدرة إلى حد لا يمكن الزيادة عليه .
ولما أخبر بتمام القدرة ، دل على ذلك بقوله : ( هو ) أي وحده ) الأول ) أي بالأزلية قبل كل شيء فلا أول له ، والقديم الذي منه وجود كل شيء وليس وجوده من شيء لأن كل ما نشاهده متأثر لأنه حقير ، وكل ما كان ما كان كذلك فلا بد له من موجد غير متأثر ) والآخر ( بالأبدية ، الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء ولو بالنظر إلى ما له من ذاته فلا آخر له لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأن كل ما سواه متغير ، بنوع من التغيير جاز إعدامه ، وما جاز إعدامه فلا بد له من معدوم .
يكون بعده ولا يمكن إعدامه .
ولما كان السبق يقتضي البطون ، والتأخر يوجب الظهور ، وكانا أمرين متضادين لا يكاد الإنسان يستقل بتعلقهما في شيء واحد ، نبه على اجتماعهما فيه ، فقال مشيراً بالواو إلى تمام الاتصاف وتحققه : ( والظاهر ) أي بالأحدية للعقل بأدلته الظاهرة في المصنوعات بما له من الأفعال ظهوراً لا يجهله عاقل ، وهو الغالب في رفعته وعلوه فليس فوقه شيء ) والباطن ( بالصمدية وعن انطباع الحواس وارتسام الخيال وتصور الفهم والفكر وبتمام العلم والحكمة بما له من العظمة في ذاته بكثرة التعالي والحجب بطوناً لا يكتنه شيء ، وقال القشيري : الأول بلا ابتداء ، الآخر بلا انتهاء .
الظاهر بلا الإحاطة التامة لأنها لما كانت متضادة كانت بحيث لو أعريت عن الواو لربما ظن أن وجودها لا على سبيل التمكن ، فلا تكون محيطة بل مقيدة بحيثية مثلاً فجاءت الواو دلالة على تمكن الوصف وإحاطته وإنه واقع بكل اعتبار ليس واحد من الأوصاف مكملاً لشيء آخر ولا شارحاً لمعناه ، فهو أول على الإطلاق وآخر كذلك ، وظاهر حتى في حال بطونه وباطن كذلك ، وهذا على الأصل فإن صفاته تعالى محيطة فلا إشكال ، إنما الإشكال عند الخلو من العطف فهو الأغلب في إيرادها كما آخر الحشر ، ولعل ذلك مراد الكشاف بقوله : إن الواو الأولى معناها الدلالة على الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، أي جمعاً هو في غاية المكنة ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأولين ومجموع الصفتين الأخيرتين ، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية .
انتهى .(7/435)
صفحة رقم 436
ولما كان من ظهر لشيء بطن عن غيره ، ومن بطن لشيء غاب عنه علمه ، وكان سبحانه في ظهوره على ذلك بمعنى أنه ليس فوقه شيء ، وفي بطونه بحيث ليس دونه شيء ، فقد جمعت الأوصاف إحاطة العلم والقدرة ، أعلم نتيجة ذلك فقال : ( وهو بكل شيء عليم ) أي لكون الأشياء عنده على حد سواء ، والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق ، وأما هو سبحانه فلا باطن من الخلق عنده بل هو في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم ، وهذا معنى ما قال البغوي رحمه الله تعالى : سأل عمر رضي الله عنه كعباً عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر ، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن - انتهى .
لأن العلم يستلزم القدرة على حسبه .
ولما كان الصانع للشيء عالماً به ، دل على علمه ومنا تقدم ومن تقدم من وصفه بقوله : ( هو ) أي وحده ) الذي خلق السموات ( وجمعها لعلم العرب بتعددها ) والأرض ) أي الجنس الشامل للكل ، أفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعددها ) في ستة أيام ( سناً للتأني وتقريراً للأيام التي أوترها سباعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل خلقه باسمه ) الجمعة ( على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع على أنه نهاية المخلوقات - انتهى .
ولما كان تمكن الملك من سرير الملك كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه ، وكان ذلك هو روح الملك ، دل عليه منبهاً على عظمته بأداة التراخي فقال : ( ثم استوى ) أي أوجد السواء وهو العدل إيجاد من هو شديد العناية ) على العرش ( المحيط بجميع الموجودات بالتدبير المحكم للعرش وما دونه ومن دونه لتصور للعباد الملك ، بمعنى أنه انفر بالدبير ، وقد لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس .
ولما كان المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير ، وكان التدبير لا يصح إلا بالعلم والقدرة ، كشفه بقوله دالاًّ على أن علمه بالخفايا كعلمه بالجلايا : ( يعلم ما يلج ) أي يدخل دخولاً يغيب به ) في الأرض ) أي من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك بعيداً من العرش ، فإن الأماكن كلها بالنسبة إليه على حد سواء في القرب والبعد ) وما يخرج منها ( كذلك ، وفي التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصار بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدد استمرار إلى حين خرابهما .
ولما قرر ذلك فيما قد يتوهم بعده لبعده عن العرش بسفوله تنبيهاً على التنزه عن التحيز فكان أولى بالتقديم ، أتبعه قسيمه وهو جهة العلو تعميماً للعمل بسائر الخلق فقال : ( وما ينزل من السماء ( ولم يجمع لأن المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس السافل للكل ، وذلك من الوحي والأمطار والحر والبرد وغيرهما من الأعيان(7/436)
صفحة رقم 437
والمنافع التي يوجدها سبحانه من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم ) وما يعرج ) أي يصعد ويرتقي ويغيب ) فيها ( كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها .
ولما كان من يتسع ملكه يغيب عنه علم بعضه لبعده عنه ، عرف أنه لا مسافة أصلاً بينه وبين شيء من الأشياء فقال : ( وهو معكم ) أي أيها لاثقلان المحتاجان إلى التهذيب بالعلم والقدرة المسببين عن القرب ) أين ما كنتم ( فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالياً عن اتصال بالعلم ومماسة ، أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة ، قال أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان : لفظ ( مع ) لا يقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر لقوله
77 ( ) اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( ) 7
[ التوبة : 119 ] وقوله : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ( ولفظ ( مع ) جاءت في القرآن عامة وخاصة ، فالعامة
77 ( ) ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ( ) 7
[ المجادلة : 7 ] فافتتح الكلام بالعلم واختتمه بالعلم ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه ، وأما المعية الخاصة فقوله تعالى :
77 ( ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هزم محسنون ( ) 7
[ النحل : 128 ] وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام :
77 ( ) إنني معكما أسمع وأرى ( ) 7
[ طه : 46 ] وقال :
77 ( ) إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ( ) 7
[ التوبة : 40 ] يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ، فهو دون أبي جهل وغيره من أعدائه ، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين ، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام ، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك ، وقوله تعالى :
77 ( ) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ( ) 7
[ الزخرف : 84 ] أي هو إله في الماء وإله في الأرض كما قال تعالى :
77 ( ) وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ( ) 7
[ الروم : 27 ] وكذلك في قوله تعالى : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ( كما فسره أئمة العلم كأحمد وغيره أنه المعبود في السماوات والأرض .
ولما كانت الأعمال منها ظاهر وباطن ، عبر في أمرها باسم الذات دلالة على شمولها بالعلم والقدر وتنبيهاً على عظمة الإحاطة بها وبكل صفة من صفاته فقال : ( والله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ، وقدم الجارّ لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقق الإخاطة كما مضى التنبيه عليه غير مرة وتمثيله بنحو : أعرف فلاناً ولا أعرف(7/437)
صفحة رقم 438
غيره ؛ فقال : ( بما تعملون ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ) بصير ) أي عالم بجلائله ودقائقه .
الحديد : ( 5 - 7 ) له ملك السماوات. .. . .
) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( ( )
صانع الشيء قد لا يكون ملكاً ، وكان الملك لا يكمل ملكه إلا بعلم جميع ما يكون في مملكته والقدرة عليه ، وكان إنكارهم للبعث إنكاراً لأن يكون ملكاً ، أكد ذلك بتكرير الإخبار به فقال : ( له ) أي وحده ) ملك السماوات ( وجمع لاقتضاء المقام له ) والأرض ( أفرد لخفاء تعددها عليهم مع إرادة الجنس ، ودل على دوام ملكه وإحاطته بقوله عاطفاً على ما تقديره : فمن الله المبدأ ، معبراً بالاسم الأعظم الجامع لئلا يظن الخصوص بأمور ما تقدم : ( وإلى الله ) أي الملك الذي لا كفؤ له وحده ) ترجع ( بكل اعتبار على غاية السهولة ) الأمور ) أي كلها حساً بالبعث ومعنى بالإبداء والإفناء ، ودل على ذها الإبداء والإفناء بأبدع الأمور وأروقها فقال : ( يولج ) أي يدخل ويغيب بالنقص والمحو ) الّيل في النهار ( فإذا قد قصر بعد طوله ، وقد انمحى بعد تشخصه وحلوله ، فملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام ) ويولج النهار ( الذي عم الكون ضياؤه وأناره لألأؤه ) في الّيل ( الذي قد كان غاب في علمه ، فإذا الظالم قد طبق الآفاق ، والطول ، الذي كان له قد صار نقصاً .
ولما كان في هذا إظهار أخفى الأشياء حتى يصير في غاية الجلاء ، أتبعه علم ما هو عند الناس أخفاء ما يكون فقال : ( وهو ) أي وحده ) عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي ما يصحبها فتخفيه فلا يخرج منها الهمزات على مدى الأيام على كثرة اختلافها وتغيرها وغن خفيت على أصحابها .
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه عن شائبة كل نقص ، وإحاطته بكل صفة كمال ، المقتضي لثبوت أن الملك له ، الموجب قطعاً لتفرده بعموم الإلهية ، المقتضي لإرسال من يريده إلى جميع من في ملكه ، وختم بالعلم بالضمائر التي أجلها الإيمان ، قال آمراً بالإذعان له ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آمنوا ) أي أيها الثقلان ) بالله ) أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ) ورسوله ( الذي عظمته من عظمته .
ولما كان الإيمان أساساً ، والغنفاق وجهاً ظاهراً ورأساً ، قال جامعاً بين الأساس الحامل الخفي والوجه الظاهر الكامل البهي : ( وأنفقوا ) أي في إظهار دينه : ورغبهم في ذلك بطلب اليسير مما أعطاهم الله(7/438)
صفحة رقم 439
وزهدهم منه بقوله : ( مما جعلكم ) أي بقدرته ) مستخلفين ) أي مطلوباً موجوداً خلافتكم ) فيه ( وهو له دونكم بما يرضي من استخلفكم في تمهيد سبيله فطيبوا بها نفساً لأنها ليست في الحقيقة لكم وإنما أنتم خزان ، وخافوا من عزلكم من الخلافة بانتزاعها من أيديكم بتولية غيركم أمرها ، إما في حياتكم ، وإما بعد مماتكم ، كما فعل بغيركم حين أوصل إليكم ما وصل من أموالهم : ( فليس لكم منها إلا ما أكلتم فأفنيتم أو لبستم فأبليتم أو تصدقتم فأبقيتم - وفي رواية : فأمضيتم ) وليهن الإنفاق منها عليكم كما يهون على الإنسان النفقة من مال غيره إذا كان أذن له فيه .
ولما أمر بالإنفاق ووصفه بما سهله ، سبب عنه ما يرغب فيه فقال مبالغاً في تأكيد الوعد لما في ارتكابه من العسر بالتعبير عنه بالجملة الاسمية وبناء الحكم على الضمير بالوصف بالكبير وغير ذلك : ( فالذين آمنوا ( وبين أن هذا خاص بهم لضيق الحال في زمانهم فقال : ( منكم وأنفقوا ) أي من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وه الإصلاح كما دل عليه التعبير بالإنفاق ) لهم أجر كبير ) أي لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام الستخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم .
الحديد : ( 8 - 10 ) وما لكم لا. .. . .
) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ( )
ولما رغب في الإنفاق والإيمان ، وكان الإيمان مقتضى بالإنفاق ، عجب ممن لا يبادر إلى الحاصل على كل خير ، فقال مفصلاً لما أجمل من الترغيب فيهما ، بادئاً بأبين كل خير ، منفساً عنهم بالتعبير بأداة الاستقبال بالبشارة بالعفو عن الماضي مرهباً موبخاً لمن لا يبادر إلى المضمون ما دخل عليه الاستفهام ، عاطفاً على ما تقديره : فما لكم لا تبادرون إلى ذلك : ( وما ) أي وأيّ شيء ) لكم ( من الأعذار أو غيرها في أنكم ، أو حال كونكم ) لا تؤمنون بالله ) أي تجددون الإيمان - أي تجديداً مستمراً - بالملك الأعلى أي الذي له الملك كله ولأمر كله بعد سماعكم لهذا الكلام : لأن ( لا ) لا تدخل على مضارع إلا وهو بمعنى الاستقبال ، ولو عبر بعبارة تدل على الحال لربما تعنت(7/439)
صفحة رقم 440
متعنت فقال : فأت ما طلب منا ، والذي بعد هذا من الحال التي هي في معنى دالة على هذا ، وهي قوله : ( والرسول ) أي والحال أن الذي له الرسالة العامة ) يدعوكم ( صباحاً ومساء على ما له من مقتضيات القبول منه من حسن السمت وجلالة القدر وإظهار الخوارق وغير ذلك ) لتؤمنوا ) أي لأجل أن تجددوا الإيمان ) بربكم ) أي الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمة هذه النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) وشرفكم به ) وقد ) أي والحال أنه قد ) أخذ ميثاقكم ) أي وقع أخذه فصار في غاية القباحة ترك ما وقع التوثق بسببه بنصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول ، وذلك كله منضم إلى أخذ الذرية من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام وإشهادهم على أنفسهم وإشهاد الملائكة عليهم ، وبنى الفعل للمفعول في قراءة أبي عمرو ليكون المعنى أيّ أخذ كان لأن الغدر عند الكرماء شديد نم غير نظر إلى معين لا سيما العرب فكيف إذا كان الآخذ الملك الأعظم القادر على كل شيء العالم بكل شيء ، ورسوله الذي تعظيمه من تعظيمه ، كا صرحت به قراءة الجماعة بالبناء للفاعل ولا يخفى الإعراب ، والحاصل أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان ، فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل .
ولما حثهم على تجديد الإيمان على سبيل الاستمرار بالعجب من ترك ذلك ، وكان كل واحد يدعي الراقة في الخير ، هيجهم وألهبهم بقوله : ( إن كنتم ) أي جبلة ووصفاً ثابتاً ) مؤمنين ) أي عريقين في وصف الإيمان ، وهو الكون على نور الفطرة الأولى .
ولما وصفه بالربوبية ، دل عليها بقوله : ( هو ) أي وحده لا غيره ) الذي ينزل ) أي على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة .
ولما كان الخطاب في هذه السورة للمخلص ، قال مضيفاً إلى ضميره غير مقرون بما يدل على الجلال والكبرياء ) على عبده ) أي الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه لأنه ما تعبد لغيره قط ) آيات ) أي علامات هي من ظهورها حقيقة بتأن يرجع إليها ويتقيد بها ) بينت ( جداً على ما له من النعوت التي هي في غاية الوضوح ) ليخرجكم ) أي الله أي عبده بما أنزل إليه مع أنه بشر مثلكم ، والجنس إلى جنسه أميل ومنه أقبل ، ولا سيما إن كان قريباً ولبيباً أريباً ) من الظلمات ( التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة والنسيان ، الحاملة على تراكم الجهل ، فمن آتاه سبحانه العلم والإيمان فقد أخرجه نم هذه الظلمات التي طرأت عليه ) إلى نور ( الذي كان وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة .
ولما كان التقدير : فإن الله به للطيف خبير ، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل زلزال(7/440)
صفحة رقم 441
من يطول به البلاء من المؤمنين وإنكار الكفار : ( وإن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) بكم ( قدم الجارّ لأن عظيم رحمته لهذه الأمة موجب لعد نعمته على غيرنا عدماً بالنسبة إلى نعمته علينا ) لرؤوف رحيم ) أي كنتم بالنظر إلى رحمته الخاصة التي هي لإتمام النعمة صنفين : منكم من كان له به وصلة بما يفعل في أيام جاهليته من الخيرات كالإنفاق في سبيل المعروف ، وعبر بالإنفاق لكونه خيراً لا رياء ونحوه فيها كالصديق رضي الله عنه فعاد عليه ، بعد عموم رحمته بالبيان ، بخصوص رحمة عظيمة أوصلته إلى أعظم درجات العرفان ، ومنكم من كان بالغاً في اتباع الهوى فابتدأه بعد عموم رحمة البيان بخصوص رحمة هداه بها إلى أعمال الجنان ، ويه دون ما قبلها في الميزان ، وفوقها من حيث إنها بدون سبب من المرحوم .
ولما أمرهم بالإيمان والإنفاق ، وكان الإيمان مع كونه الأساس الذي لا يصح عمل بدونه ليس فيه شيء من خسران أو نقصان ، فبدأ به لذلك ، ورغب بختم الآية بالإشارة بالرأفة إلى أن من توصل إليه بشيء من الإيمان أو غيره زاده من فضله ( من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً - إلى قوله : ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) عطف عليه الترغيب في التوصل إليه بالإنفاق منكراً على من تركه موبخاً لمن حاد عنه هو يعلم أنه فان ، مفهماً بزيادة ( أن ) المصدرية اللوم على تركه في جميع الأزمنة الثلاثة فقال : ( وما ) أي وأيّ شيء يحصل ) ألا تنفقوا ) أي توجدوا الإخراج للمال ) في سبيل الله ) أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة ، فإنه أم بخل به أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر ، وأظهر موضع الإضمار في جملة حالية باعثاً على الإنفاق بأبلغ بعث فقال : ( ولله ( تأكيداً للعظمة بالندب إلى ذلك باستحضار جميع صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث ) ميراث ) أي الإرث والموروث والموروث عنه وغير ذلك ) السماوات والأرض ( جميعاً لا شيء فيهما أو منهما إلا هو كذلك يزول عن المنتفع به ويبقى لله بقاء الإرث ، ومن تأمل أنه زائل هو وكل ما في يدد والموت من ورائه ، ويد طوارق الحوادث مطبقة به ، وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله .
ولما رغبهم في الإنفاق على الإطلاق ، رغبهم في المبادرة إليه ، مادحاً أهله خاصاً منهم أهل السياق فقال : ( لا يستوي ( .
ولما كان المراد أهل الإسلام بين بقوله :(7/441)
صفحة رقم 442
) منكم من أنفق ) أي أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه .
ولما كان المقصود الإنفاق في زمان الإيمان لا مطلق الزمان ، خص بالجارّ فقال : ( من قبل الفتح ) أي الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين على الدين كله لما نال المنفق إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وذلك مستلزم لكون المنفق أنفذ بصيرة ونفقته أعظم غنّى وأِد نفعاً ، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه فإنه أول من أنفق ولم يسبقه في ذلك أحد ، وفيه نزلت الآية - كما حكاه البغوي عن الكلبي .
ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمة ، وكان الإنفاق وإن كان مصدقاً للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال : ( وقاتل ) أي سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به ، وحذف المنفي للتسوية به وهو من لم ينفق مطلقاً أو بقيد القبيلة لدلالة ما بعده ، ولعله ألإرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين .
ولما كان نفي المساواة لا يعرف منها الفاضل منغيره ، وقد كان حذف قسيم من أنفق لوضوحه والتنفير منه ودلالة ما بعده عليه ، فنى اللبس بقوله : ( أولئك ) أي المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، المقربون من أهل الرتبة العية لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال ) أعظم درجة ( وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها ) من الذين أنفقوا ( ولما كان المراد التفضيل على أوجد الإنفاق والقتال في زمان بعد ذلك ، لا على من استغرق كل زمان بعده بالإنفاق والقتال أدخل الجار فقال : ( من بعد وقاتلوا ( ولما كان التفضيل مفهماً اشتراك الكل في الفضل ، صرح به ترغيباً في الإنفاق على كل حال فقال : ( وكلاًّ ) أي من القسمين ) وعد الله ) أي الذي له الجلال والكمال والإكرام ) الحسنى ) أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة ، وقرأ ابن عامر ) وكل ( وهو أوفق لما عطف عليه .
ولما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات ، وكان التفضيل مناط العلم ، قال مرغباً في إحسان النيات مرهباً من التقصير فيها : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الشاملة بجميع صفات الكمال ، وقدم الجار إعلاماً بمزيد اعتناء بالتمييز عند التفضيل فقال : ( بما تعملون ) أي تجددون عمله على مر الأوقات ) خبير ) أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه ، فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها .
الحديد : ( 11 - 12 ) من ذا الذي. .. . .
) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ( )(7/442)
صفحة رقم 443
ولما فضل السابقين بالإنفاق ، ووعد بالحسنى اللاحقين بحسن الاتباع ، وأشار إلى أنه ربما ألحقهم ببعضهم بصفاء الإخلاص فتوفرت الدواعي على البذل ، أثمر ذلك قوله مسيماً الصدقة التي صورتها صورة أخراج من غير عوض باسم القرش الذي هو إخراج بعوض ترغيباً فيها لما أعد عليها من الجزاء المحقق فكيف إذا كان مضاعفاً : ( من ( وأكد بالإشارة بقوله : ( ذا ( لأجل أم للنفوس من الشح ) الذي يقرض الله ) أي يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام بإعطاء المستحق لأجله عطاء من ماله هو على صورة القرض لرجائه الثواب ) قرضاً حسناً ) أي طيباً خالصاً فيه متحرياً به أفضل الوجوه كيبة به النس من غير من ولا كدر بتسويف ونحوه .
ولما كان ما يعطي الله المنفق من الجزاء مسبباً عن إنفاقه ، ربطه بالفاء فقال عطفاً على ) يقرض ( : ( فيضاعفه له ( مرغباً فيه بجعله مبالغاً بالتضعيف أولاً وجعله من باب المفاعلة ثانياً ، وكذا التفضيل في قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب ) فيضعفه ( وقرأه ابن عامر ويعقوب بالنصب جواباً للاستفهام تأكيداً للربظ والتسبيب .
ولما كانت المضاعفة منه سبحانه لا يعلم كنهها إلى هو قال : ( وله ) أي المقرض من بعد ما تعقلونه من المضاعفة زيادة على ذلك ) أجر ( لا يعلم قدره إلى الله ، وهو معنى وصفه بقوله : ( كريم ) أي حسن طيب زاك نام .
ولما بين ما لهذا المقرض ، بين بعض وصفه بالكرم ببيان وقته فقال : ( يوم ) أي لهم ذلك في الوقت الذي ) ترى ( فيه بالعين ، وأشار إلى أن المحبوب من المال لا يخرج عنه ولا سيما مع الإقتار إلا من وقر الدين في قلبه بتعبيره بالوصف فقال : ( المؤمنين والمؤمنات ) أي الذي صار الإيمان لهم صفة راسخة ) يسعى ( شعاراً لهم وأمارة على سعادتهم ) نورهم ( الذي يوجب إبصارهم لجميع ما ينفعهم فيأخذوه وما يضرهم فيتركوه ، وذلك بقدر أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها بنور العلم الذي هو ثمرة الإيمان كما أنهم قدموا المال الذي إنما يقتنيه الإنسان لمثل ذلك جزامء وفاقاً .
ولما كان من يراد تعظيمه يعطى ما يجب وما بعده شريفاً ( ؟ ) في الأماكن التي يحبها قال : ( بين أيديهم ) أي حيث ما توجهوا ، ولذلك حذف الجار ) وبأيمانهم ) أي وتلتصق بتلك الجهة لأن هاتين الجهتين أشرف جهاتهم ، وهم إما من السابقين ، وإما من أهل اليمين ، ويعطون صحائفهم من هاتين الجهتين ، والشقي بخلاف ذلك لا نور له ويعطى صحيفته بشماله ومن وراء ظهره ، فالأول نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقولة ، والثاني نور الإنفاق لأنه بالإيمان - نبه - عليه الرازي .
ولما ذكر نفوذهم فيما يحبون من الجهات وتيسيره لهم ، أتبعه ما يقال لهم من(7/443)
صفحة رقم 444
المحبوب في سلوكهم لذلك المحبوب فقال : ( بشراكم لايوم ) أي بشراتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان .
ولما تشوفوا لذلك أخبروا بالمبشر به بقوله مخبراً إشارة إلى أن المخبر به يحسد من البشرى لكونه معدن السرور ) جنات ) أي كائنة لكم تتصرفون فيها أعظم تصرف ، والخبر في الأصل دخول ، ولكنه عجل عنه لما ذكر من المبالغة ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به فقال ؛ ) تجري ( وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال : ( من تحتها الأنهار ( ولما كان ذلك لا تتم مع خوف الانقطاع قال : ( خالدين فيها ( خلوداً لا آخر له لأن الله أورثكم ذلك ما لا يورث عنكم كما كان الحكم الدنيا لأن الجنة لا موت فيها .
ولما كان هذا أمراً سارّاً في ذلك المقام الضنك محباً بأمر استأنف مدحه بقوله : ( ذلك ) أي هذا الأمر العظيم جداً ) هو ) أي وحده ) الفوز العظيم ) أي الذي ملأ بعظمته جميع الجهات من ذواتكم وأبدانكم ونفوسكم وأرواحكم .
الحديد : ( 13 - 15 ) يوم يقول المنافقون. .. . .
) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ( )
ولما عظم هذا الأجر الكريم ببيان ما لأهله في الوقت الكائن فيه ، عظمه بما لأضدادهم من النكال ، فقال مبدلاً من الظرف الأول : ( يوم يقول ) أي قولاً مجدداً يلجئ إليه نم الأمور العظيمة الشاقة ) المنافقون والمنافقات ) أي بالعراقة في إظهار الإيمان وإبطان الكفران ) للذين آمنوا ) أي ظاهراً وباطناً ، وأما من علا من هذا السن من المؤمنين ومن فوقهم فالظاهر أنهم لا يرونهم ليطمعوا في مناداتهم ( وأين الثريا من يد المتناول ) ) انظرونا ) أي انظرونا بأن تمكثوا في مكانكم لنلحق بكم ، وكأن الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما توصل المقدرة إليه خوف الفوت ، لأن المسؤولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف ، وقد حققت المعنى قراءة حمزة بقطع الهمزة وكسر الظاء أي أخرونا في المشي وتأنوا علينا وأمهلوا علينا ، لا تطلبوا منا السرعة فيه بل امكثوا في مكانكم لننظر في أمرنا كيف نلحق بكم ، والحاصل أنهم عدوا تأنيهم في المشي وتلبثهم ليلحقوا بهم إنظاراً لهم ) نقتبس ) أي نأخذ ونصيب ونستصبح ) من نوركم ) أي هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه بشيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء جزاء وفاقاً ، وسبب هذا القول(7/444)
صفحة رقم 445
أنهم يعطون مع المؤمنين نوراً خديعة لهم بما خادعوا في الدنيا لتعظم عليهم المشقة بفقده لأنه لا يلبث أن يبعث الله عليهم ريحاً وظلمة فتطفئ نورهم ويبقون في الظلمة ، وإلى ذلك ينظر قول المؤمنين ) أتمم لنا نورنا ) أي لا تطفئه كما أطفأت نور المنافقين .
ولما كان المنكئ لهم إنما هو الرد من أي قائل كان ، بنى للمفعول قوله : ( قيل ) أي لهم جواباً لسؤالهم قول رد وتوبيخ وتهكم وتنديم : ( ارجعوا وراءكم ) أي في جميع جهات الوراء التي هي أبعد الجهات عن الخير كما كنتم في الدنيا لا تزالون مرتدين على أعقابكم عما يستحق أن يقبل عليه ويسعى إليه ) فالتمسوا ( بسبب ذلك الرجوع ) نوراً ( ويصح أن يراد بالوراء الدنيا لأن هذا النور إنما هو منها بسبب ما عملوا فيها من الأعمال الزاكية والمعارف الصافية ، ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء : إن هذه الآية تدل على أن الأنوار لا بد أن يتجدد أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً فأمّا أن يتجدد ثَمَّ نور فلا .
ولما كان التقدير : فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة ، سبب عنه وعقب قوله : ( فضرب ( مبنياً للمفعول على نحو الاول ، ولإفادة أن الضرب كان في غاية السرعة والسهولة ، ويجوز أن تكون الفاء معقبة على ما قبله من غير تقدير ) بينهم ) أي في جميع المسافة التي بين الذين آمنوا وأضدادهم في وقت قولهم هذا .
ولما كان المقصود أن ضربه كان في غاية السرعة ، لم يوقع الفعل وأتى بالفاء ليفيد أنه كان كأنه عصاً ضرب به الأرض ضربه واحدة ، فقال : ( بسور ) أي جدار محيط محيل بين الجنة والنار لا يشذ عنه أحد منهم ولا يقدر أحد ممن سواهم أن يتجاوزه إليهم ) له باب ( موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن الله له من المؤمنين بما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم لشفاعة أو نحوها ) باطنه ) أي ذلك السورة الباب وهو الذي من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب ) فيه الرحمة ( وهي مالهم من الكرام بالجنة التي هي ساترة ببطن من فيها بأشجارها وبأسبابها كما كانت بواطنهم ملاء رحمة ) وظاهره ) أي السور أيو الباب الذي يظهر لأهل النار ، مبتدئ ) من قبله ) أي تجاه ذلك الظاهر وناحيته وجهته وعنده ) العذاب ( من النار ومقدماتها لاقتصار أهله على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن وعكس ما أرادوا من حفظ ظواهرهم في الدنيا مع فساد بواطنهم ، ودل على ما أفهمه التعبير بالمضارع في ( يقول ) من التكرير بقوله استئنافاً : ( ينادونهم ) أي المنافقون والمنافقت ، يواصلون النداء وهم في الظلمة للذين آمنوا يترفقون لهم في مدة هذا القول والضرب : ( ألم نكن ) أي بكليتنا ) معكم ) أي فيما كنتم فيه من الدين فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الدين الذين كنا(7/445)
صفحة رقم 446
معكم فيه ) قالوا ) أي الذين آمنوا ) بلى ( قد كنتم معنا ) ولكنكم فتنتم ) أي كنتم بما كان لكم من الذبذبة تختبرون ) أنفسكم ( فتخالطونها باختبار أحوال الدين مخالطة محيلة لها مميلة عما كانت عليه من أصل الفطرة من الاستقامة ، تريدون بذلك أن تظهر لكم فيه أمور محسوسة لتخلصوا فيه من الشكوك فتخلصوا ، فما آمنتم بالغيب فأهلكتموها وتبعتم أيضاً الأمور التي كنتم تفتنون بها من الشهوات ، فأوجبتهم لكم الإعراض عن المعالي الباطنات ) وتربصتم ) أي كلفتم أنفسكم أن أخرجتموها عن الفطرة الأولى فأملهتم وانتظرتم لتروا الأمر عياناً أو لم تفعلوا كما فعلنا من الإيمان بالغيب وترك التجربة ونسبة ما يحصل لنا مما فيه فتنة إلى أنفسنا بتقصيرنا ، وكنا كلما حصل لنا ما يزلزل نقول : هذا ما وعدنا الله ورصوله وصدق الله ورسوله ولا يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً وانتظرتم أيضاً الدوائر بأهل الإيمان لتظهروا النفاق ) وارتبتم ) أي شككتم بتكليف أنفسكم الشك بذلك التربص ) وغرتكم الأماني ) أي ما تتمنون أي تريدون وتقدرون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة لاتي لا سبب لها غير شهوة لانفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء ) حتى جاء أمر الله ) أي قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفوء له ولا خلف لقوله من الموت ومقدمات من الأمور الدهشة ، فكما كنتم في الدنيا مقصرين كنتم في هذا الموطن ) وغركم بالله ) أي الملك الذي له جميع العظمة ، فهو بحيث لا يخلف الميعاد وهو الولي الودود ) الغرور ) أي من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان وهو العدو الحسود ، فإنه ينوع لكم بغروره التسويف ويقول : إن الله غفور رحيم وعفو كريم ، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنه وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو هذا ، فلا يزال حتى يوقع الإنسان ، فإذا أوقع واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى ، فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده .
ولما أقروا لهم بالكون الجامع ، وذكروا ما حصل به والفرق المانع فظهر أن لا كون ، سببوا عنه قوله : ( فاليوم ) أي بسبب أفعالكم تلك ) لا يؤخذ ( بناء للمفعول أي نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعضو للنفس على أي حال من قلة أو كثرة أو حسن أو غيره لأن الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لإنقاذ أنفسكم .
ولما كانوا مكذبين أكد فقال : ( ولا من الذين كفروا ) أي أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر .
ولما كان كأنه قيل : فأين نكون ؟ قال : ( مأواكم ) أي منزلكم ومسكنكم ومجمعكم ) النار ( لا مقر لكم غيرها ، تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات ، وإضاعتكم حقوق ذوي الحاجات ، (7/446)
صفحة رقم 447
وأكد ذلك بقوله : ( هي ) أي لا غيرها ) موالكم ) أي قربكم ومصيركم وناصركم على نحو ( تحية بينهم ضرب وجيع ) فهي أولى لكم ، لا قرب لكم إلى غيرها ، ولا غيرها مولى ولا مصير إلى سواها ولا ناصر إلا هي .
ولما كان التقدير : فبئس المولى هي ، عطف عليه قوله : ( وبئس المصير - ) أي هذه النار التي صرتم إليها .
الحديد : ( 16 - 17 ) ألم يأن للذين. .. . .
) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ( )
هذا وعظاً شافياً لسقام القلوب ، وكاشفاً لغطاء الكروب ، انتج قوله حاثاً على الإقبال على كتابه الذي رحم به عباده بإنزاله على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه معلم بإعجازه انه كلام مستعطفاً لهم إلى جنابه زاجراً لهم عما سألهم بعضهم فيه سلمان رضي الله عنه من أن يحدثهم علن التوراة والإنجيل ، فكانوا كلما سألوه عن شيء أنزل سبحانه آية يزجرهم بها وينبههم على أن هذا القرآن فيه كل ما يطلب إلى أن أنزل هذه الآية زاجرة هذا الزجر العظيم لئلا يظن ظان أن القرآن غير كاف ، مخوفاً لهم بما وقع لأهل الكتاب من الإعراض عن كتابهم ، قال الكلبي نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : ( ألم يأن ) أي يحن ونتهي ويدرك إلى غاية ) للذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً ) أن تخشع ) أي أن يكون لهم رتبة عالية في الإيمان بأن تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن فتخبت فتعرض عن الفاني وتقبل على الباقي ) قلوبهم لذكر الله ) أي الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً ، فلا يطلب لذلك دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن ، فإن ذكر الله يجلو أصداء القلوب ويصقل مرائيها .
ولما كان الذكر وحده كافياً في الخشوع والإنابة والخضوع لأنه مجمع لكل رغبة ومنبع لكل رهبة ، وكان من الناس من لا نفوذ له فيما له سبحانه من الجلال والإكرام قال : ( وما نزل ) أي الله تعالى بالتدريج - على قراءة الجماعة بالتشديد ، وما وجد إنزاله من عند الله على حاتم رسله ( صلى الله عليه وسلم ) على قراءة نافع وحفص عن عاصم ورويس بخلف عنه عن يعقوب بالتخفيف ) من الحق ) أي من الوعد الوعيد والوعظ وغير ذلك على نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن إشارة إلى أن غير هذا الذكر دخله الدخيل ، وأما هذا فثابت ثباتاً لا يقدر أحد على إزالته .(7/447)
صفحة رقم 448
ولما كان للمسابقة والمنافسة أمر عظيم في تحريك الهمم لأهل الأنفة وأولي المعالي قال : ( ولا يكونوا كالذين ( ولما كان العلم بمجرده كافياً في إعلاء الهمة فكيف إذا كان من عند الله فكيف إذا كان بكتاب ، إشارة إلى ذلك بالبناء للمجهول فقال : ( أوتوا الكتاب ) أي لو كان الإتيان من عند غير الله لكان جديراً بالهداية فكيف وهو من عنده .
ولما كان إنزال الكتب لم يكن إلا على بني إسرائيل فلم يكن مستغرقاً للزمان الماضي أدخل الجارّ فقال : ( من قبل ) أي قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى .
ولما كانوا في كل قليل يعبرون قال عاطفاً على ) أوتوا الكتاب ( .
) فطال عليهم الأمد ) أي الزمان الذي ضربناه لشرفهم ومددناه لعلوهم من أول إيتائهم الكتاب الذي من شأنه ترقيق القلوب ، والأمد الأجل ، وكل منهما يطلق على المدة كلها وعلى آخرها ، وكذا الغاية بقول النحاة : ( من ) لابتداء الغاية و ( إلى ) لانتهائها ، والمراد جميع المدة ) فقسمت ) أي بسبب الطول ) قلوبهم ) أي صلبت واعوجت حتى كانت بحيث لا تنفعل للطاعات والخير فكانوا كل قليل في تعنت شديد على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام يسألونهم المقترحات ، وأما بعد ايتائهم فأبعدوا في القساوة ، فمالوا إلى دار الكدر بكلياتهم وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة وإن الشهة والصفوة لا تجتمعان .
ولما كان التقدير : فبعضهم ثبت على تزلزل ، عطف عليه قوله : ( وكثير منهم ( أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأساً فهم ) فاسقون ) أي عريقون في وصف الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي عداها لهم الكتاب ، وعن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلاّ أربع سنين ) رواه الطبراني في الكبير ، قال الهيثمي : وفيه موسى بن يعقوب الربعي وثقه ابن معين وغيره وضعفه ابن المديني وبقية رجاله رجال الصحيح .
انتهى .
ولما كان الموجب الأعظم للقسوة إنكار البعث ، وكان العرب يزيدون على أهل الكتاب من موجبات القسوة به ، وكان عمل العامل بما يدل على القسوة عمل من ينكره ، قال مهدداً به مقرراً لما ابتدأ به السورة من أمر الغحياء مشيراً إلى القدر على إحياء القلوب ممثلاً لإزالة القسمة عنها بصقل الذكر والتلاوة ترغيباً في إدامة ذلك : ( اعلموا ((7/448)
صفحة رقم 449
أي يا من آمن بلسانه ) أن الله ) أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء ) يحيي ) أي على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه ) الأرض ( اليابسة بالنبات .
ولما كان هذا الوصف ثابتاً دائماً بالفعل وبالقوة أخرى ، وكان الجار هنا مقتضياً للتعميم قال : ( بعد موتها ( من غير ذكر الجارّ وكما أنه يحييها فيخرج بها النبات بعد أن كان قد تفتت وصار تراباً فكذلك يحيي بجمع أجسامهم وإفاضة الأرواح كما فعل بالنبات وكما فعل بالإجسام أول مرة سواء ، لا فرق بوجه إلا بأن يقال : الابتداء أصعب في العادة ، فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته لإحياء القلوب ، فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بإحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض بالماء رابية بعد خشوعاه وموتها .
ولما انكشف الأمر بهذا غاية الانكشاف ، أنتج قوله : ( قد بينا ) أي على ما لنا من العظمة ، ولما كان العرب يفهمون من لسانهم ما لا يفهم غيرهم فكانوا يعرفون - من إعجاز القرآن بكثرة فوائده وجلالة مقاصده ودقة مسالكه وعظمة مداركه ، وجزالة تراكيبه ومتانة أساليبه وغيره ذلك من شؤونه وأنواعه وفنونه ، المنتج لتحقق أنه كلام الله - ما لا يعلمه غيرهم فكأنما كانوا مخصوصين بهذا البيان ، فقدم الجارّ فقال : ( لكم الآيات ) أي العلامات المنيرات .
ولما كان السياق للبعث ، وكان من دعائم أصول الدين ، وكان العقل كافياً في قياسه على النبات ، وكان الفعل الذي لا يعود إلى سعادة الآخرة ناقصاً ( ، وكان العقل الذي لا ينجي صاحبه مساوياً للعدم ، قال معبراً بأداة التراخي بخلاف ما سبق في آل عمران فإنه من مصالح النفس التي اختفت ، ودواع تدعو غلى فهمها ، وتبعث إلى إتقان علمها ) لعلكم تعقلون ) أي لتكونوا عند من يعلم ذلك ويسمعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدار بالاستمرار .
الحديد : ( 18 - 20 ) إن المصدقين والمصدقات. .. . .
) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ( )
ولما كانت الصدقة كالبذر الذي تقدم أن الله تعالى يحييه ويضاعفه أضعافاً كثيرة(7/449)
صفحة رقم 450
على حسب زكاء الأرض ، قال منتجاً مما مضى ما يعرف أن من أعظم ما دل على الخشوع المحثوث عليه والبعد عن حال الذين أوتوا الكتاب في القسوة الصدقة بالإنفاق الذي قردنه في أولها بالإيمان ، وحث عليه في كثير نم آياتها تنبيهاً على أنه ثمرته التي لا تخلف عنه ، معبراً عنه بما يرشد إلى أنه المصدق لدعواه ، وأكده لمن يشك في البعث نم إنكار بركة الصدقة عاجلاً أو آخلاً تقدياً بالمحسوسات : ( إن المصدقين ) أي العريقين في هذا الوصف من الرجال ) والمصدقات ) أي من النساء بأمواهلم على الضعفاء الذين إعطاؤهم يدل على الصدق في الإيمان لكون المعطى لا يجرى منه نفع دنيوي ، ولعله أدغم إشارة إلى إخفاء الإكثار من الصدقة حتى تصير ظاهرة ، وقراءة ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف تدل مع ذلك على التصديق بالإيمان ، فكل من القراءات يدل عليهما ، ومن التفصي بذكر النوعين تعرف شدة الاعتناء .
ولما كانت صيغة التفعل تدل على التكلف حثاً على حمل النفس على التطبع بذلك حتى يصير لها خلقاً في غاية الخفة عليها فقال عاطفاً على صلة الموصول في اسم الفاعل معبراً بالماضي بعد إفهام الوصف الثبات دلالة على الإيقاع بالفعل عطفاً على ما تقديره موقعاً ضميراً المذكر على الصنفين تغليباً الذين صدقوا إيمانهم بالتصدق : ( وأقرضوا الله ( الذي له الكمال كله بتصديقهم سواء كانوا من الذكور أو الإناث ، وإنفاقهم في كل ما ندب إلى الإنفاق فيه ، وأكد ووصف بقوله : ( قرضاً حسناً ) أي بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية في الصدقة والنفقة في سبيل الخير ، وحسنه أن يصرف بصره إلى النظر إلى فعله والامتياز به وطلب العوض عليه ، قال الرازي : ( يضاعف ) أي ذاك القرض ) لهم ( ويثابون بحسب تلك المضاعفة لأن الذي كان القرض له سبحانه حليم كريم ولا يرضى في الخير إلا بالفضل ، وثقل في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب دلالة على المبالغة في التكثير ، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة لإفهام أن تلك الكثرة مما لا بد من كونه ، وأنه عمل فيه عمل من يباري آخر ويغالبه ، وبنى للمفعول دلالة على باهر العظمة اللازم عنه كونه بغاية السهولة ) ولهم ) أي مع المضاعفة ) أجر كريم ) أي لا كدر فيه بانقطاع ولا قلة ولا زيادة بوجه من الوجوه أصلاً .
ولما بين سبحانه وتعالى أن الصدقة كالبذر الذي هو من أحسن الأرباح وأبهجها ، بين الحامل عليها ترغيباً فيها ، فقال عاطفاً بالواو ، إشارة إلى التمكن في جميع هذه الصفات : ( ولاذين آمنوا ( اي أوجوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم ) بالله ) أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام ) ورسله ( اي كلهم لما لهم من النسبة إليه ، (7/450)
صفحة رقم 451
فمن كذب بشيء على أحد منهم أوعمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به ) أولئك ) أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية ) هم ( اي خاصة لا غيرهم ) الصديقون ) أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه ، وقال القشيري : الصديق من استوى ظاهره وباطنه ، ويقال : هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ، ولا يحتاج للتأويلات ، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة لاشهادة قال تعالى : ( والشهداء ( معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين ، قال القشيري : هم لاذين يشهدون بقلوبهم بواطن الوصل ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة ، وزاد المر عظماً بقوله : ( عند ربهم ) أي الذي أحسن إليهم بالقربة بمثل تلك الرتبة العالية من الشهادة لله بكل ما أرسل به رسله ، والأنبياء الماضين على أممهم والحضور في جميع الملاذ بالشهادة في سبيل الله ، قال مجاهد : كل مؤمن صديق وشهيد - وتلا هذه الآية ) لهم ) أي جميع من مضى من الموصفين بالخير ) أجرهم ) أي الذي جعله ربهم لهم ) ونورهم ) أي الذي زادهموه من فضله برحمته ، أولئك أصحاب النعيم المقيم .
ولما ذكر أهل اسعادة جامعاً لأصنامهم ، أتبعهم أهل الشقاوة لذلك قال : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما دلت عليه أنوار عقولهم ومرائي فكرهم ) وكذبوا بآياتنا ( على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا سواء كانوا في ذلك مساترين أو مجاهرين أو عمل العالم بها عمل المكذب ) أولئك ) أي المبعدون من الخير خاصة ) أصحاب الجحيم ) أي النار التي هي غاية في توقدها ، خالدون فيها من بين العصاة ، وأما غيرهم فدخولهم لها إذا دخلوها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة ، وأولئك هم الكاذبون الذي لا تقبل لهم شهادة عند ربهم ، لهم عقابهم وعليهم ظلامهم ، والآية من الاحتباك : ذكر الصديقية وما معها أولاً دليلاً على أضدادها ثانياً ، والجحيم ثانياً دليلاً على النعيم أولاً ، وسره أن الأول أعظم في الكرامة ، والثاني أعظم في الإهانة .
ولما ذكر سبحانه حال الفريقين : الأشقياء والسعداء ، فتقرر بذلك أمر الآخرة ، فعلموا أنها الحيوان الذي لا انقضاء له من إكرام أو هوان ، وكان الموجب للهوان فيها إنما هو الإقبال على الدنيا لحضورها ونسيان الآخرة لغيابها ، قال منتجاً مما مضى مبيناً لحقيقة ما يرغب فيه المكلف المركب على الشهوة من العاجلة بما نزهه فيه مصدّراً له بما يوجب غاية اليقظة والحضور : ( اعملوا ) أي أيها العباد المبتلون ، وأكد المعنى بزيادة ) ما ( لما للناس من الغفلة عنه فقال قاصراً قصر قلب : ( إنما الحيوة الدنيا ) أي الحاضرة التي رغبت في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن ) لعب ((7/451)