صفحة رقم 174
في التبكيت والتوبيخ ) ظنه ) أي في قوله : ( ) لأحتنكن ذريته إلا قليلاً ( ) [ الإسراء : 62 ] ) ) ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك ( ) [ الحجر : 39 ] ) ) ولا تجد أكثرهم شاكرين ( ) [ الأعراف : 17 ] فكأنه لما قال ذلك على سبيل الظن تقاضاه ظنه الصدق فصدقه في إعمال الحيلة حتى كان ذلك الظن - هذا على قراءة الجماعة بالتخفيف ، وأما على قراءة الكوفيين بالتشديد فالمعنى أنه جعل ظنه الذي كان يمكن تكذيبه فيه قبل التحقق صادقاً ، بحيث لا يمكن أحداً تكذيبه فيه ، ولذلك سبب سبحانه عنه قوله : ( فاتبعوه ) أي بغاية الجهد بميل الطبع والاستلذاذ الموجب للنزوع والترامي بعضهم في الكفران وبعضهم في مطلق العصيان .
ولما كان المحدث عنهم جمعي الناس ، عرف به الاستثناء المعرف لقلة الناجين فقال : ( إلا فريقاً ) أي ناساً لهم القدرة على تفريق كلمة أهل الكفر وفض جمعهم وإن كانوا بالنسبة إليهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ) من المؤمنين ) أي العريقين في الإيمان ، فكانوا خالصين لله مخلصين في عبادته ، وأما غيرهم فمالوا معه ، وكان منهم المقل ومنهم المكثر بالهفوات والزلات الصغائر والكبارئر .
سبأ : ( 21 - 23 ) وما كان له. .. . .
) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ( )
ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه ، نفاه بقوله : ( وما ) أي والحال أنه ما ) كان ( أصلاً ) له عليهم ) أي الذين اتبعوه ولا غيرهم ، وأعرق فيما هو الحق من النفي بقوله : ( من سلطان ) أي تسلط قاهر لشيء من الأشياء بوجه لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً ، ذليلاً خائفاً مدحوراً ، قال القشيري : هو مسلط ، ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه ) إلا ) أي لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا وملكناه قيادهم بقهرنا ؛ وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال : ( لنعلم ) أي بما لنا من العظمة ) من يؤمن ) أي يوجد الإيمان لله ) بالآخرة ) أي ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تميزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب ) ممن هو منها ) أي من الآخرة ) في شك ( فهو لا يتجدد له بها إيمان أصلاً ، لأن الشك ظرف له محيط به ، وإنما استعار(6/174)
صفحة رقم 175
( إلا ) موضع ( لكن ) إشارة إلى أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي .
ولما كان هذا ربما أوقع في وهم نقصاً في العلم أو في القدرة ، قال مشيراً إلى أنه سبحانه يسره ( صلى الله عليه وسلم ) بتكثير هذا الفريق المخلص وجعل أكثره من أمته فقال : ( وربك ) أي المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنوتك وإخسائه عن أمتك ) على كل شيء ( من المكلفين وغيرهم ) حفيظ ) أي حافظ أتم حفظ محيط به مدبر له على وجه العلو بعمله الكامل وقدرته الشاملة ، فلا يفعل الشيطان ولا غيره شيئاً إلا بعلمه وإذنه .
ولما أثبت سبحانه لنفسه ولذاته الأقدس من الملك في السماوات والأرض وغيرهما ما رأيت ، واستدل عليه من الأدلة التي لا يمكن التوصيب إليها بطعن بما سمعت ، وكان المقصود الأعظم التوحيد فإنه أصل ينبني عليه كل خير قال : ( قل ) أي با أعلم الخلق بإقامة الإدلة لهؤلاء الذين شاركوا ما لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة : ( ادعوا الذين زعمتم ) أي أنهم آلهة كما تدعون الله لا سيما في وقت الشدائد ، وحذف مفعولي ( زعم ) وهما ضميرهم وتألههم تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه ، وليس المذكور في الآية مفعولاً ولا قائماً مقام المفعول لفساد المعنى ؛ وبين حقارتهم بقوله : ( من دون الله ) أي الذي حاز جميع العظمة لشيء مما أثبته سبحانه لنفسه فليفعلوا شيئاً مثله أو يبطلو شيئاً مما فعله سبحانه .
ولما كان جوابهم في ذلك السكوت عجزاً وحيرة ، تواى سبحانه الجواب عنهم ، إشارة إلى أن جواب كل من له تأمل لا وقفة فيه بقوله ، معبراً عنهم بعبارة من له علم بإقامتهم في ذلك المقام ، أو لأن بعض من ادعيت إلآهيته ممن له علم : ( لا يمكلون ) أي الآن ولا يتجدد لهم شيء من ذلك أصلاً .
ولما كان المراد المبالغة في الحقارة بما تعرف العرب قال : ( مثقال ذرة ( ولما أريد العموم عبر بقوله : ( في السموات ( وأكد فقال : ( ولا في الأرض ( لأن السماء ما علا ، والأرض ما سفل ، والسماوات في العرش ، والأرض في السماء ، فاستغرق ذلك النفي عنهما وعن كل ما فيهما من ذات ومعنى إلى العرش ، وهو ذو العرش العظيم .
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخالص عن شوب المشاركة ، نفى المشاركة أيضاً بقوله مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه : ( وما لهم فيهما ) أي السماوات والأرض ولا فيما فيهما ، وأعرق في النفي فقال : ( من شرك ) أي في خلق ولا مُلك ولا مِلك ، وقد انتفى ملكهم لشيء من أنفسهم أو ما أسكن فيها سبحانه من قوة أو منفعة ، فانتفى أن يقدروا على إعانة غيرهم ، وكان للتصريح مزيد روعة للنفوس وهزة للقلوب وقطع(6/175)
صفحة رقم 176
للأطماع ، حتى لا يكون هناك متشبت قويّ ولا واهٍ قال : ( وما له ) أي الله ) منهم ( وأكد النفي بإثبات الجار فقال : ( من ظهري ) أي معين على شيء مما يريده ، فكيف يصح مع هذا العجز الكلي أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ويعبدوا كما يعبد .
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة ، وكان المقصود منها أثرها لا عينها ، نفاه بقوله : ( ولا تنفع ) أي في أيّ وقت من الأوقات ) الشفاعة عنده ) أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء ) إلا لمن ( ولما كانت كثافة الحجاب أعظم في الهيبة ، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب ، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه : ( أذن له ) أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في أن يشفع فيه غيره ، وقراءة الباقين بالبناء للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر ، وهو أنه لا افتيات عليه بوجه من أحد ما ، بل لا أن ينص هو سبحانه على الإذن ، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً .
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل أين فلان ينخلع قلبه وربما أغمي عليه ، فلذلك كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم ، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى : ( حتّى ( وهو غاية لنحو أن يقال : فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى الجماعة بالبناء للمجهول ، وأزل هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب ، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء ) عن قلوبهم ) أي الشافعين والمشفوع لهم ، فإن ( فعّل ) يأتي للإزالة كقذّيت عينه - إذا أزلت عنها القذى ) قالوا ) أي قال بعضهم لبعض : ( ماذا قال ربكم ( ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم .
ولما كام ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه ، أو عارضه فيه شخص من أعيان جنده فينتقض ، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال : ( قالوا الحق ) أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه ) وهو العلي ) أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى ، فلا يقول غير الحق من نقص علم ) الكبير ) أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم ؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ) فإذا فزع عن(6/176)
صفحة رقم 177
قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا ( - للذي قال - ) الحق وهو العلي الكبير ( فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا يعضه فوق بعض - ووصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يليقها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ) وقال في التوحيد : وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما : ( وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أن الحق ونادوا ماذ ا قال ربكم قالوا الحق ) وروى لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي ، وفيه : فلا ينزل على سماء إلا صفقوا ، وفي آخره : ثم يقال : يكون العام كذا ويكون العام كذا ، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما بعث الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) دحروا ، فقالت العرب : هلك من في السماء ، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها ، حتى نهتهم ثقيف ، واستدلوا بثبات معلم النجوم ، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة .
سبأ : ( 24 - 29 ) قل من يرزقكم. .. . .
) قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ( )
ولما سلب عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان ، وأثبت جميع الملك له وحده ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقررهم بما يلزم منه ذلك فقال : ( قل من يرزقكم ( ولما كان كل شيء من الرزق متوقفاً على الكونين ، وكان في معرض الامتنان والتوبيخ جمع لئلا يدعي أن لشيء من العالم العلوي مدبراً غيره سبحانه فقال : ( من السماوات ( وقال : ( والأرض ( بالإفراد لأنهم لا يعلمون غيرها .(6/177)
صفحة رقم 178
ولما كان من المعلوم أنهم مقرّون بأن ذلك لله وحده كما تقدم التصريح به غير مرة ، وكان من المحقق أن إقرارهم بذلك ملزم لهم الإخلاص في العبادة عند كل من له أدنى مسكة من عقله ، أشار إلى ذلك بالإشارة بأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالإجابة إلى أنهم كالمنكرين لهذا ، لأن إقرارهم به لم ينفعهم فقال : ( قل الله ) أي الملك الأعلى وحده ، وأمره بعد إقامة هذا الدليل البين بأن يتبعه ما هو أشد عليهم من وقع النبل بطريق لا أنصف منه ، ولا يستطيع أحد أن يصوب إليه نوع طعن بأن يقول مؤكداً تنبيهاً على وجوب إنعام النظر في تمييز المحق من المبطل بالانخلاع من الهوى ، فإن الأمر في غاية الخطر : ( وإنا ) أي أهل التوحيد في العبادة لمن تفرد بالرزق ) أو إياكم ) أي أهل الإشراك به من لا يملك شيئاً من الأشياء و ( أو ) على بأنها لا بمعنى الواو ، أي إن أحد فريقينا على إحدى الحالتين مبهمة غير معنية فهو على خطر عظيم لكونه في شك من أمره غير مقطوع له بالهدى ، فانظروا بعقولكم في تعيينه هل هو الذي عرف الحق لأهله أو الذي بذل الحق لغير أهله ، قال ابن الجوزي : وهذا كما تقول للرجال تكذبه : والله إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعينه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل : والله لقد قدم فلان ، فيقول له من يعلم كذبه : قل إن شاء الله ، فكذبه بأحسن من تصريح التكذيب ، يعني ولا سيما بعد إقامة الدليل على المراد ثم مثل المهتدين بمن هو على متن جواد يوجهه حيث شاء من الجواد بقوله : ( لعلى هدى ) أي في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ناظرين لكل ما يمكن أن يعرض فيه مما قد يجر إلى ضلال فتنكبه ) أو في ضلال ) أي عن الحق في الإعتقاد المناسب فيه منغمسين فيه وهو محيط بالمبتلى به لا يتمكن معه من وجه صواب : ( مبين ) أي واضح في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال إلا من كان منغمساً فيه مظروفاً له ، فإنه لا يحس بنفسه وما بينه وبين أن يستبصر إلا أن يخرج منه وقتاً ما فيعلم أنه كان في حاله ذلك فاعلاً ما لا يفعله من له نوع من العقل ، ففي هذا حث على النظر الذي كانوا يأبونه بقوله : ( قلوبنا في أكنة ) [ فصلت : 5 ] ونحوه في الأدلة التي يتميز بها الحق من الباطل على أحسن وجه بأنصف دعاء وألطف نداء حيث شرك الداعي نفسه معهم فيما دعاهم إلى النظر فيه ، فالمعنى أنه يتعين على كل منا - إذا كان على إحدى الطريقين مبهمة - أن ينظر في أمر ليسلم فإن الأمر في غاية الوضوح مع أن الضال في نهاية الخطر ، ولقد كان الفضلاء من الصحابة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وناهيك بهما جلالاً ، ونباهة وذكاء وكمالاً ، قالوا : والله كنا نعجب غاية العجب ممن يدخل في الإسلام واليوم نحن نعجب غاية العجب ممن يتوقف عنه .(6/178)
صفحة رقم 179
ولما كانوا بين أمرين : إما أن يسكتوا فيعلم كل سامع أن الحجة لزمتهم ، وإما أن يقولوا بوقاحة ومكابرة : أنتم في الضلال ونحن على الهدى ، وكان الضال لا يزال يقطع ما ينبغي وصله بوصل ما يجب قطعه ، أمره أن يجيبهم على هذا التقدير بما هو أبلغ في الإنصاف من الأول بقوله : ( قل لا تسلؤن ) أي من سائل ما ) عما أجرمنا ) أي قطعنا فيه ما ينبغي أن يوصل مما أوجبه لنا الضلال ) ولا نسئل ) أي أصلاً في وقت من الأوقات من سائل ما ) عما تعلمون ) أي مما بنيتموه على العلم الذي أورثكموه الهدى أي فاتركونا والناس غيركم كما أنا نحن تاركوكم ، فمن وضح له شيء من الطريقين سالكه .
ولما كانوا إما أن يجيبوا إلى المتاركة فيحصلوا لها المصقود عن قريب ، وإما أن يقولوا : لا نترككم ، وكان هذا الاحتمال أرجح ، أمره أن يجيبهم على تقديره بقوله : ( قل يجمع بيننا ربنا ) أي في قضائه المرتب على قدره في الدنيا أو في الأخرة ، قال القشيري : والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد ويستروحون إلى هذا الآية ، وللاجتماع أمر كبير في الشريعة .
ولما كان إنصافهم منهم في غاية البعد عندهم ، وكان ذلك في نفسه في غاية العظمة ، أشار إليه بأداة البعد فقال : ( ثم يفتح ) أي يحكم ) بيينا ( حكماً يسهل به الطريق ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه ، وهو العدل أو الفضل من غير ظلم ولا ميل .
ولما كان التقدير : فهو الجامع القدير ، عطف عليه قوله : ( وهو الفتاح ) أي البليغ الفتح لما انغلق ، فلم يقدر أحد على فتحه ) العليم ) أي البالغ العمل بكل دقيق وجليل مما يمكن فيه الحكومات ، فهو القدير على فصل جميع الخصومات .
ولما كانوا قد أنكروا البعث على ذلك الوجه الذي تقدم ، ودل على قدرته عليه بما نصب من الأدلة التي شاهدوها من أفعاله بالبصر أو البصيرة إيجاداً وإعداماً ، وأقام الحجة على صحة الدعوة وبطلان ما هم عليه ، ثم تهددهم بالفصل يوم الجمع ، وختم بصفة العلم المحيط المستلزم للقدرة الشاملة ، وكانت القدرة لا تكون شاملة إلا عند الوحدانية ، أمره بما يوجب لهم القطع بوحدانيته وشمول قدرته بقوله : ( قل ) أي لهؤلاء المشركين .
ولما كانت آلهتهم تسهل رؤيتها ، وكان كل ما هو كذلك سافل المقدار عن هذه الرتبة ، وكانت آلهتهم بالخصوص أدنى الأشياء عن ذلك بكونها من أخس الجمادات ، نبه على ذلك وعلى أنها نكرة لا تعرف بقلب ولا تدل عليها فطرة زيادة في تبكيتهم(6/179)
صفحة رقم 180
بقوله : ( أروني الذين ( ولما لزم مما ثبت له سبحانه من صفات الكمال العلو الذي لا يداينه أحد بوجه قال : ( ألحقتم به ( ولما كان الإلتحاق يقتضي ولا بد قصور الملحق عن المحلق به ، أشار إلى فرط جهلهم بتسويتهم به بقوله : ( شركاء ( ثم نبه بعد إبطال قياسهم على أنهم في غاية الجلافة والجمود فهم كالأنعام بما قرعهم به من الرجز في قوله مؤكداً تكذيباً لهم في دعوى الشرك : ( كلا ) أي ارتدعوا وانزجروا فليس والله الأمر كما ذكرتم ولا قريب منه ) بل هو ) أي المعبود بالحق الذي لا يستحق أن يسمى هو غيره ) الله ) أي الذي اختص بالحمد في الأولى والآخرة ) العزيز ) أي الذي لا مثل له ، وكل شيء محتاج إليه ، وهو غالب على كل شيء غلبة لا يجد معها ذلك الشيء وجه مدافعة ولا انقلاب ، ولا وصول لشيء إليه إلا بإذنه ) الحكيم ) أي المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك وأنتم ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك وتعلمون عجز من أشركتموه به عن أن يساويكم مع ما تعلمون من عجزكم .
ولما ختم بوصف الحكمة فتم برهان القدرة التي كان أوجب اعتقادهم لعدم البعث ما يقتضي نقضاً فيها ، ولزم عن ذلك التوحيد وبطل الشرك ، لم يبق إلا إثبات الرسالة التي أوجب ترديدهم أخباره ( صلى الله عليه وسلم ) بين الكذب والجنون الطعن فيها ، فعلم أن التقدير : أرسل إليكم رسوله بعزته مؤيداً له بإعجاز هذا القرآن بحكمته دليلاً على صدقه وكماله في جبلته وتأهله لبدائع نعمته ومعالي رحمته ، وكان في ذلك دليل الصدق في الرسالة ؛ فنسق به قوله معلياً لشأنه بالخطاب في مظهر العظمة ، إشارة إلى أنه ينبغي أن يتدرع جلابيب الصبر على جميع المكارة الصادرة من أنواع الخلق في أداء الرسالة بقوله عاطفاً على ) ولقد آتينا داود فضلاً ( مؤكداً تكذيباً لمن يدعي الخصوص : ( وما أرسلناك ) أي بعظمتنا ) إلا كآفة ) أي إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا ، تكفهم عما لعلهم أن ينتشروا إليه من متابعة الأهوية ، وتمنعهم عن أن يخرج عنها منهم أحد ، فالتاء في ( كافة ) للمبالغة ، وعبارة ابن الجوزي : أي عامة لجميع الخلائق ) للناس ) أي كل من فيه قابلية لأن ينوس من الجن والإنس وغيرهم من جميع ما سوى الله وإن آذوك بكل أذى من النسبة إلى الافتراء أو الجنون أو غيرهما ، فحال الإرسال محصور في العموم للغرض الذي ذكر من التدرع لحمل المشاق ، لا في الناس ، فأنه لو أريد ذلك لقدموا فقيل : إلا الناس كافة ، وقد مضى فب أوائل الأنعام عن السبكي ما ينفع هنا ، والمعنى أن داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير والحديد ، وسليمان عليه السلام بما ذكر له ، ففضيلتك أنت بالإرسال إلى كل من يمكن نوسه ، فالحصا سبحت في كفك ، (6/180)
صفحة رقم 181
والجبال أمرت بالسير معك ذهباً وفضة ، والحمرة شكت إليك أخذ فراخها أو بيضها ، والضب شد لك ، والجمل شكا إليك وسجد لك ، والأشحار أطاعتك ، والأحجار سلمت عليك وائتمرت بأمرك إلى غير ذلك من كل من ينوس بالفعل أو القابلية - والله اعلم ، وأما الجن فحالهم مشهور ، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور ، وفي دلائل النبوة في باب التحدث بالنعمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية دليل على فضل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الأنبياء بعموم الرسالة للإنس والجن .
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار ، وكان في ذكرها رد قولهم في الكذب والجنون ، قال : ( بشيراً ونذيراً ) أي لمن أهل للبشارة أو النذارة .
ولما كان هذا الإرسال مقروناً بديليه من الإيتان بالمعجز من نفسه من جهة البلاغة في نظمه وبالمعاني المحكمة في البشارة والنذارة وغير ذلك ، قلب عليهم قولهم الذي لا دليل عليه ولا شبهة تصوب إليه في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله الذي هو أوضح من الشمس دليلاً ، وأقوم كل قيل قيلاً : ( ولكن ( ولما كان الناس الأولين كل من ديه قابلية النوس وهم جميع الخلائق وأكثرهم غير عاص ، أظهر مريداً الثقلين من الجن والإنس فقال : فأكثر الناس لا يعلمون أي ليس لهم قابلية العلم فيعلموا أنك رسول الله فضلاً من أن إرسالك عام ، بل هم كالأنعام ، فهم لذلك لا يتأملون فيقولون ( افترى أم به جنة ) ونحو هذا من غير تدبر لما في هذا الكتاب من الحكمة والصواب مع الإعجاز في حالي الإطناب والإيجاز ، والإضمار والإبراز ، فيحملهم جهلهم على المخالفة والإعراض .
ولما سلب عنهم العلم ، أتبعه دليله ، فقال معبراً بصيغة المضارعة الدال على ملازنة التكرير للإعلام بأنه على سبيل الاستهزاء لا الاسترشاد : ( ويقولون ) أي ما أرسلناك إلا على هذا الحال والحال أن المنذرين يقولون جهلاً منهم بعاقية ما يوعدونه غير مفكرين به في وجه الخلاص منه والتقصي عنه في كل حين استهزاء منهم : ( متى هذا الوعد ) أي بالبشارة والنذارة في يوم الجمع وغيره فسموه وعداً زيادة في الاستهزاء .
ولما كان قول الجماعة أجدر بالقبول ، وأبعد عن الرد من قول الواحد ، أشار إلى زيادة جهلهم بقوله : ( إن كنتم ) أي أيها النبي وأتباعه كوناً أنتم عريقون فيه ) صادقين ) أي متمكنين في الصدق .
سبأ : ( 30 - 33 ) قل لكم ميعاد. .. . .
) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ(6/181)
صفحة رقم 182
لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) 73
( ) 71
ولما تبين من سؤالهم أنه لم يكن للاسترشاد وإن هم بالغوا به في التكذيب والاستهزاء بعد الإبلاغ في إقامة الأدلة ، أمره بأن يجيبهم بما يصلح للمعاند من صادع التهديد بقوله : ( قل لكم ) أي أيها الجامدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات ، ولا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات ، مع ضعفهم عن الدفاع ، والمبالغة والامتناع ) ميعاد يوم ) أي لا تحتمل العقول وصف عظمه لما يأتي فيه من العقاب سواء كان يوم الموت أو البعث .
ولما كان تعلق النفوس بالمهلة عظيماً ، قال : ( لا تستأخرون ) أي لا يوجد تأخركم ولا يمكن أن يطلب لحثيث الطلب وتعذر الهرب ) عند ساعة ( لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم ، ولذلك قال : ( ولا تستقدمون ) أي لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك .
ولما دل سبحانه بملازمتهم للاستهزاء بهذا الإنذار على أنهم غير منفكين عن مذاهب الكفار ، ذكر تصريحهم بذلك وحالهم في بعض الأوقات المنطبقة عليها الآية السالفة في قوله : ( وقال الذين كفروا ( حيث عبر بالموصول وصلته في موضع الضمير ، قطعاً للأطماع عن دعائهم : ( لن نؤمن ) أي نصدق أبداً ، وصرحوا بالمنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) بالإشارة فقالوا : ( بهذا القرآن ) أي وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المضمنة لبقية الكتب ) ولا بالذي بين يديه ) أي قبله من الكتب : التوارة والإنجيل وغيرهما .
بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا ، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم ، فأغضبهم ذلك فقالوه : ( ولو ) أي والحال أنك ) ترى ) أي يوجد منك رؤية لحالهم ) إذ ( هم - هكذا كان الأصل ، ولكن أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال : ( الظالمون ) أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل ، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه ، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم ، والنقل بهذا القرآن المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه ، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق ) موقوفون ) أي بعد البعث بما يوقفهم من قدرته بأيدي جنوده أو بغيرها بأيسر أمر منه سبحانه قهراً لهم وكرهاً منهم : ( عند ربهم ((6/182)
صفحة رقم 183
أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم ) يرجع بعضهم ) أي على وجه الخصام عداوة .
كان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله ، قال القشيري : ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لاعتبروا ، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) إلى بعض القول ) أي بالملائكة والمباكتة والمخاصمة ، لرأيت امراً فظيعاً منكراً هائلاً شنيعاً مقلقاً وجميعاً يسرك منظره ، ويعجبك منهم أثره ومخبره ، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حي لا ينفعهم شيء من ذلك .
ولما كان هذا مجملاً ، فسره بقوله على سبيل الاستئناف : ( يقول الذين استضعفوا ) أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة على سبيل اللوم والتأنيب ) للذين استكبروا ) أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون : ( لولا أنتم ) أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم ) لكنا مؤمنين ) أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل .
ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة ، ذكر الجواب بقوله تعالى : ( قال الذين استكبروا ( على طريق الاستئناف ) للذين استضعفوا ( رداً عليهم وإنكاراً لقولهم أنهم هم الذين صدوهم : ( أنحن ( خاصة ) صددناكم ) أي منعناكم وصرفناكم ) عن الهدى ( ولما كانوا لا يؤاخذون بإهمال دليل العقل قبل إيتان الرسل ، أشاروا إلى ذلك بقولهم : ( بعد إذ جاءكم ) أي على ألسنة الرسل .
ولما كان المعنى : إنا لم نفعل ذلك ، حسن أن يقال : إنهم هم الذين ضلوا بأنفسهم لا بإضلالهم ، فقالوا : ( بل كنتم ) أي جبلة وخلقاً ) مجرمين ) أي عريقين في قطع ما ينبغي وصله بعد إيتان الهدى مختارين لذلك كما كنتم قبله أتباعاً لنا ما ردتم ولا ردنا ، ولما تضمن قولهم أمرين : ادعاء عراقتهم في الإجرام ، وإنكار كونهم سبباً فيه ، أشار إلى ردهم للثاني بالعاطف على غير معطوف عليه إعلاماً بأن التقدير : قال الذين استضعفوا : كذبتم فيما ادعيتم من عراقتنا في الإجرام : ( وقال الذين استضعفوا ( عطفاً على هذا المقدر ) للذين استكبروا ( ردّاً لإنكارهم صدهم : ( بل ( الصاد لنا ) مكرُ الليل والنهار ) أي الواقع فيهما من مكركم بنا ، أو استعير إسناد المكر إليهما لطول السلامة فيهما ، وذلك للاتساع في الظرف في إجرائه مجرى المفعول به ) إذ تأمروننا ( على الاستمرار ) أن نكفر بالله ) أي الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إيتان الرسل ) ونجعل له أنداداً ) أي أمثالاً نعبدهم من دونه ) وأسروا ) أي يرجعون والحال(6/183)
صفحة رقم 184
أن الفريقين أسروا ) والندامة لما ) أي حين ) رأوا العذاب ( لأنهم بينما هم في تلك المقاولة وهم يظنون أنها تغني عنهم شيئاً وإذا بهم قد بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون فأبهتهم فلم يقدروا لفوات المقاصد وخسران النفوس أن نسبوا بكلمة ، ولأجل أن العذاب عم الشريف منهم والوضيع .
قال تعالى : ( وجعلنا الأغلال ) أي الجوامع التي تغل اليد إلى العنق ) في أعناق الذين كفروا ( فأظهر موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم ذلك .
ولما كانت أعمالهم لقبحها ينبغي البراءة منها ، فكانت بملازمتهم لها كأنها قد قهرتهم على ملازمتها وتقلدها طوق الحمامة فهم يعاندون الحق من غير التفات إلى دليل قال منبهاً على ذلك جواباً لمن كأنه قال : لم خصت أعناقهم وأيديهم بهذا العذاب ؟ : ( هل يجزون ) أي بهذه الأغلال ) إلا ما كانوا ) أي كوناً هم عريقون فيه ) يعملون ) أي على سبيل التجديد والاستمرار مما يدعون أنهم بنوه على العلم ، وذلك الجزاء - والله أعلم - هو ما يوجب قهرهم وإذلالهم وإخزاءهم وإنكارهم وإيلامهم كما كانوا يفعلون مع المؤمنين ويتمنون لهم .
سبأ : ( 34 - 38 ) وما أرسلنا في. .. . .
) وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( ( )
ولما كان في تسلية أخروية ، أتبعه التسلية الدنيوية ، فقال عطفاً على ما تقديره : وما أرسلنا غيرك إلا إرسالاً خاصاً لأمته ، عطفاً على ) ما أرسلناك إلا كافة ( وساقه مؤكداً لأنه مضمونه - لكونه في غاية الغرابة - مما لا يكاد يصدق : ( وما أرسلنا ) أي بعظمتنا ولما كان المقصود التعميم ، لأنه لم يتقدم قول قريش ليخص التسلية بمن قبلهم ، أسقط القبلية بخلاف ما في سورة الزخرف فقال : ( في قرية ( وأكد النفي بقوله : ( من نذير ) أي ينذرهم وخامة ما أمامهم من عوقب أفعالهم ، ودل بإفراده عن البشارة أن غالب الأمم الماضية من أهل النذارة لنظهر مزية هذه الأمة ، ولعله عبر به إشارة إلى الناسخين للشرائع التي قبلهم دون المجددين من أنبياء بين إسرائيل فإن بعضهم لم يكذب ) إلا قال مترفوها ) أي العظماء الذين لا شغل لهم إلا التنعم بالفاني حتى أكسبهم البغي والطغيان : ( إنا بما أرسلتم به ) أي أيها المنذرون ) كافرون ) أي وإذا قال(6/184)
صفحة رقم 185
المنعمون ذلك تبعهم المستضعفون فإذا وقفوا عندنا تقالوا بما تقدم ثم لم ينفعهم ذلك ) وقالوا ( مفاخرين ودالين على أنهم فائزون كما قال لك هؤلاء كأنهم تواصلوا به : ولما كانت الأموال في الأغلب سبباً لكثرة الأولاد بالاستكثار من النساء الحرائر والإماء ، قدمها فقال : ( أموالاً وأولاداً ) أي في هذه الدنيا ، ولو لم يرض منا ما نحن عليه ما رزقنا ذلك ) وما نحن ) أي الآن ) بمعذبين ) أي بثابت عذابنا ، وإنما تعرض لنا أحوال خفيفة من مرض وشدائد هي أخف من أحوالكم ، وحالياً الآن دليل على حالنا فيما يستقبل من الزمان كائناً ما كان ، فإن الحال نموذج المآل ، والأول دليل الآخر ، فإن كان ثّم آخرة كما تقولون فنحن أسعد منكم فيها كما نحن أسعد منكم الآن ، ولم تنفعهم قصة سبأ في ذلك فإنهم لو تأملوا لكفتهم ، وأنارت أبصار بصائرهم ، وصححت أمراض قلوبهم وشفتهم ، فإنهم كانوا أحسن الناس حالاً ، فصاروا أقبحهم مآلاً .
ولما كانت لشبهتهم هذه شعبتان تتعلق إحداهما بالذات والأخرى بالثمرات ، بدأ بالأولى لأنها أهم ، فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن أن سعيه يفيد في الرزق شيئاً لولا السعي ما كان : ( قل ( يا أكرم الخلق على الله مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يوسع في الدنيا على من لا يرضى فعله : ( إن ربي ) أي المحسن إليّ بالإنعام بالسعادة الباقية ) يبسط الرزق ) أي يجدده في كل وقت أراده بالأموال والأولاد وغيرها ) لمن يشاء ويقدر ) أي يضيق على من يشاء منكم أن يكون جميع الموسع عليهم على ما هو حق عنده ومرضى له ، لاختلافهم في الأصول وتكفير بعضهم لبعض ، فإن الله معذب بعضهم لا محالة ، فبطلت شبهتهم ، وثبت أنه يفعل ما يشاء ابتلاء وامتحاناً ، فلا يدل البسط على الرضى ولا القبض على السخط - على ما عرف من سنته في هذه الدار ) ولكن أكثر الناس ) أي الذين لم يرتفعوا عن حد النوس والاضطراب ) لا يعلمون ) أي ليس لهم علم ليتدبروا به ما ذكرنا من الأمر فيعلموا أنه ليس كل موسع عليه في دنياه سعيداً في عقباه .
ولما هدم بالذات ، أتبعه ما بالثمرات ، فقال مؤكداً تكذيباً لدعواهم : ( وما أموالكم ) أي أيها الخلق الذين أنتم من جملتهم وإن كثرت ، وكرر النافي تصريحاً بإبطال كل على حياله فقال : ( ولا أولادكم ( كذلك ، وأثبت الجار تاكيداً للنفي فقال واصفاً الجمع المكسر بما هو حقه من التأنيث : ( بالتي ) أي بالأموال والأولاد التي ) تقربكم عندنا ) أي على ما لنا من العظمة بتصرفاتكم فيها بما يكسب المعالي ) زلفى ((6/185)
صفحة رقم 186
أي درجة عليه وقربة مكينة قال البغوي : قال الأحفش : هي اسم مصدر كأنه قال : تقريباً ، ثم استثنى من ضمير الجمع الذي هو قائم مقام أحد ، فكأنه قيل : لا تقرب أحداً ) إلا من ( أو يكون تصديقاً لإيمانه على ذلك الأساس ) صالحاً ) أي في ماله بإنفاقه في سبيل الله وفي ولده بتعليمه الخير .
ولما منّ على المصلحين من المؤمنين في أموالهم وأولادهم بأن جعلها سبباً لمزيد قربهم ، دل على ذلك بالفاء في قوله : ( فأولئك ) أي العالو الرتبة ) لهم جزاء الضعف ) أي بأن يأخذوا جزاءهم مضاعفاً في نفسه من عشرة أمثال إلى ما لا نهاية له ، ومضاعفاً بالنسبة إلى جزاء من تقدمهم من الأمم ، والضعف : الزيادة ) بما عملوا ( فإن أعمالهم ثابتة محفوظة بأساس الإيمان ) وهم في الغرفات ) أي العلالي المبنية فوق البيوت في الجنان ، زيادة على ذلك ) آمنون ) أي ثابت أمنهم دائماً ، لا خوف عليهم من شيء من الأشياء أصلاً ، وأما غيرهم وهم المرادون بما بعده فأموالهم وأولادهم والأولاد .
ولما كان سبحانه قد بت الحكم بشقاوتهم ، وأنقذ القضاء بخسارتهم ، أسقط فاء السبب إعراضاً من أعمالهم وقال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) في العذاب ) أي المزيل للعدوية ) محضرون ) أي يحضرهم فيه الموكلون بهم من جندنا على أهون وجه وأسهله وهم دارخرون ، قال القشيري : إن هؤلاء هم الذين لا يحترمون الأولياء ولا يراعون حق الله في السر ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله ثم في عذاب السقوط من عين الله .
سبأ : ( 39 - 42 ) قل إن ربي. .. . .
) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ( ( )(6/186)
صفحة رقم 187
ولما أبطل شبهتهم بشعبيتها بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة ، قرب ذلك بدليل واحد في شخص واحد فقال : ( قل ( يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يظنون أن الرزق بحسب حسن السعي وقبحه أو حسن حال الشخص عند الله وقبحها : ( إن ربي ) أي المحسن إليّ بهذا البيان المعجز ) يبسط الرزق ) أي متى شاء ) لمن يشاء من عباده ) أي على سبيل التجدد المستمر من أيّ طائفة كان ) ويقدر وله ) أي يضيق عليه نفسه في حالتين متعاقبتين ، وهو بصفة واحد على عمل واحد ، فلو أن الإكرام والإنعام يوجب الدوام لما تغيرت حاله من السعة إلى الضيق ، ولو أن في يده نفع نفسه لما اختلف حاله .
ولما بين هذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب للسلامة من النار .
دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله : ( وما أنفقتم من شيء ) أي أنتم وأخصامكم وغيرهم ) فهو يخلفه ) أي لا غيره بدليل أن المنفق قد يجتهد كل الاجتهاد في الإخلاف فلا ينفق ، فدل ذلك على أنه المختص بالإخلاف ، ولأن هذا هو المعنى لا أنه ضمن الإخلاف لكل من ينفق على أي وجه كان ، قال مجاهد كما نقله الرازي في اللوامع : ( إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول الآية ، فإن الرزق مقسوم ، وما عال من اقتصد ) كما رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ، والمعنى أنه قد دل الإخلاف على جميع الأشكال والأضداد على أن الأمر فيه على غير ما ظننتم من الإسعاف به في وقت موجب للإكرام على الدوام ، وأن ذلك إنما هو لضمانه الرزق لكل أحد بحسب ما قسمه له من سبق به عمله وقدرته حكمته ، وتارة يكون إخلافه حساً وبالفعل ، وتارة يكون معنى وبالقوة ، بالترضية بتلك الحالة التي أدت إلى العدم ، قال القشيري : وهو أتم من السرور بالموجود ، ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة ، ولا يكون ذلك إلا مع التجريد - انتهى .
والمنفق بالاقتصاد داخل إن شاء الله تعالى تحت قول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الشيخان : البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الله تعالى : ( أنفق أنفق عليك ) وما روى الشيخان وابن حبان في صحيحه أيضاً ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ) فهو خير الموسعين ) وهو خير الرازقين ) أي الذين تعدونهم هذا(6/187)
صفحة رقم 188
العداد ممن يقيمهم هو سبحانه لكم فتضيفون الرزق إليهم ، فإنهم وسائط لا يقدرون إلا على ما قدرهم ، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم ، ويرزق من يطيعه ومن يعصيه ، ولا يضيق ترزيقه بأحد ، ولا يشغله فيه أحد عن أحد ، بل يبعث في كل يوم لكل أحد رزقه في آن واحد كما ينشر عليهم نوره بالشمس في آن واحد من غير توقيف لذلك على شيء من الأشياء غير سبق به العلم في الأزل .
ولما أبطل شبهتهم فعلم بذلك أن الأمر كله له ، وأنهم في محل الخطر ، وكان قد بقي من شبههم أنهم يقولون : نحن نعبد الملائكة فهم يشفعون لنا ، وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينكرون أن الملائكة مقربون أبطل ما يتعلقون به منهم ، وبين أنه لا أمر لهم وأنهم بريئون منهم ، فقال عاطفاً على ) إذ الظالمون ( : ( ويوم نحشرهم ) أي نجمعهم جمعاً بكره بعد البعث ، وعم التابع والمتبرع بقوله : ( جميعاً ( .
ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال : ( ثم نقول للملائكة ) أي توبيخاً للمشركين وإقناطاً مما يرجون منهم من الشفاعة .
ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا كان المعبود راضياً بها وكانت خالصة ، قال مبكتاً للمشركين وموبخاً ليكون هناك سؤال وجواب فيكون التقريع أشد والخجل بعد أعظم ، والخوف والهوان أتم وألزم ويكون اقتصاص ذلك عظة للسامعين ، وزجراً للجاهلين ، وتنبيهاً للغافلين ، على طريق
77 ( ) أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلآهين من دون الله ( ) 7
[ المائدة : 116 ] الآيات : ( أهؤلاء ) أي الضالون ؛ وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصاً فقال : ( إياكم ) أي خاصة ) كانوا يعبدون ( بأفعالهم الاختيارية والقسرية ليعلم أنهم عبيد لكم تستحقون عبادتهم ، وفي التعبير بما يدل على الاختصاص تنبيه لقريش على أنه لا يعتد من العبادة إلا بالخالص ) قالوا ) أي الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعاً بين يدي البراءة خوفاً من حلول السطوة ) سبحانك ) أي ننزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد .
ولما كانوا كارهين جداً لعبادتهم ، وكانت فائدة العبادة الوصلة بين العابد والمعبود قالوا : ( أنت ولينا ) أي معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره ) من دونهم ) أي من أقرب منزلة لك من منازلهم منا ، فأنت أقرب شيء إلينا في كل معاني الولاية من العلم والقدرة وغيرهما ، فكيف نترك الأقرب والأقوى ونتولى الأبعد العاجز ، ليس بيننا وبينهم من ولاية ، بل عداوة ، وكذا كل من تقرب إلى شخص بمعصية الله يقسي الله قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه .
ولما كان من يعمل لأحد عملاً لم يأمر به ولم يرضه إنما عمل في الحقيقة للذي(6/188)
صفحة رقم 189
دعاه إلى ذلك العمل قالوا : ( بل كانوا ( بأفعالهم الاختيارية الموجبة للشرك ) يعبدون الجن ) أي إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك ، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة ، ومن هذا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة ؛ ثم استأنفوا قولهم : ( اكثرهم ) أي افنس ) بهم ) أي الجن ) مؤمنون ) أي راسخون في الإشتراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم ، وقليل منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن وغيرهم وهو راض بها ، فهي في الحقيقة لمن زينها لهم من الجن ، وهم من ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات .
ولما بطلت تمسكاتهم ، وتقطعت تعلقاتهم ، تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عنه تنديمهم بقوله بلسان العظمة : ( فاليوم ) أي يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر ) لا يملك ) أي شيئاً من الملك ) بعضكم لبعض ) أي من المقربين والمبعدين .
ولما كان المدار على الخلاص والسياق للشفاعة ، قدم النفع فقال : ( نفعاً ( وأكمل الأمر بقوله : ( ولا ضراً ( تحقيقاً لقطع جميع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه .
ولما كان المعنى : فاليوم نسلب الخلائق ما كنا مكناهم منه في الدنيا من التنافع والتضارر .
وتلاشى بذلك كل شيء سواه ، أثبت لنفسه المقدس ما ينبغي ، فقال عاطفاً على هذا الذي قدرته : ( ونقول ) أي في ذلك الحال من غير إمهال ولا إهمال ) للذين ظلموا ) أي بوضع العبادة في غير موضعها ولا سيما من ضم إلى ذلك إنكار المعاد عند إدخالنا لهم النار : ( ذوقوا عذاب النار ( ولما لم يتقدم للعذاب وصف بترديد - كما تقدم في السجدة - ولا غيره ، كان المضاف إليه أحق بالوصف لأنه المصوب إليه بالتكذيب فقال : ( التي كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) بها تذكبون ( .
سبأ : ( 43 - 45 ) وإذا تتلى عليهم. .. . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ( )
ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان بالقرآن ، المخبر بالغيب من أمر الرحمن الذي هدت إليه العقول ، وشاهدت آثاره العيون ، في هذا الكلام المعجز ، فتظافرت على ما أخبرت به أدلة السمع والبصر والعقل ، وختم بأنهم آمنوا بالجن غبياً وعبدوهم من دون الله بما(6/189)
صفحة رقم 190
لم يدع إليه عقل ولا نقل ، وصدقوهم من الإخبار بما إن صدقوا في شيء منه خلطوا معه أكثر من مائة كذبة ، وسلب أعظم من ادعوا أنهم استندوا إليه النفع والضر ، وأسند تعذيبهم إلى تكذيبهم ، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال : ( وإذا تتلى ) أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان ) عليهم ) أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا : إنه المقصود بالتلاوة ، فلا يلزمهم الاستماع ) آياتنا ( حال كونها ) بينات ( ما قالت شيئً إلا ظهرت حقيته ) قالوا ) أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس .
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور ، وللرسول من القبول ، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك ، فمالوا إليه بكلياتهم ، أكده قولهم : ( ما هذا ) أي التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة ) إلا رجل ) أي مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم ، وتزيدون عليه أنتم بالكثرة ، ولم يسندوا الفعل إليهم نفياً للغرض عن أنفسهم وإلهاباً للمخاطبين فقالوا : ( يريد أن يصدكم ) أي بهذا الذي يتلوه ) عما كان ( دائماً ) يبعد آباؤكم ) أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً ، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر ( كان ) والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد .
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة ، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها ، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك ، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله : ( وقالوا ما هذا ) أي القرآن ) إلا إفك ) أي كذب مصروف عن وجهه ) مفترى ) أي معتمد ما فيه من الصرف .
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيقته ، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافاً لهم إلى وقت ما ، فقال تعالى إخباراً عنهم : ( وقال ( ولما كان الحق قد يخفى ، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات ، أظهر موضع الإضمار بياناً للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس ، فقال : ( الذين كفروا ) أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقيقة القرآن ، ) للحق ) أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه ) لما جاءهم ) أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر ليقال إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوه شبهة عرضت لهم ، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه ، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم ليخيلوهم فقالوا : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه ) إلا سحراً ) أي خيال لا حقيقة له ) مبين ) أي ظاهر العوار جداً ، فهو ينادي على نفسه بذلك ، فلا تغتروا بما فيه مما تميل النفوس ويؤثر في القلوب ، ولقد انصدّ لعمري بهذا التلبيس - مع أن في نسبتهم له إلى السحر الاعتراف(6/190)
صفحة رقم 191
بالعجز - بشر كثير برهة حتى هدى الله بعضهم ، وتمادى بالآخرين الأمر حتى ماتوا على ضلالهم ، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مباردتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم متغرضون ، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية ، والعلق الشهوانية ، قال الطفيل ابن عمرو الدوسي ذو النور رضي الله عنه : لقد اكثروا عليّ في أمره حتى حشوت في أذنيّ الكرسف خوفاً من أن يخلص إلى شيء من كلامه فينتفي ، ثم أراد الله بي الخير فقلت : واثكل أمي إني والله لبيب عاقل شاعر ، ولي معرفة بتمييز غث الكلام من سمينه ، فما لي لا أسمع منه ، فإن كان حقاً تبعته ، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة - أو كما قال ، قال : فقصدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : اعرض عليّ ما جئت به ، فما توقفت في أن أسلمت ، ثم سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعو الله له أن يطيعه آية تعينه على قومه ، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته ، فخشي أن يظنوا أنها مثلة ، فدعا بتحويله ، فتحول في طرف سوطه ، فأعانه الله على قومه فأسلموا .
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع ، بين ذلك معجباً من شأنهم ، موضحاً لعنادهم ، بقوله مؤكداً إشارة إلى أن ما يجترئون عليه من الأقوال التي لا سند لها إلا التقليد لا يكون إلا من كتاب أو رسول : ( وما ) أي قالوا ذلك والحال أنا ما ) آتيناهم ) أي هؤلاء العرب أصلاً لأنه لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب ، وعبر بمظهر العظمة إشارة إلى أن هذا مقام خطر وموطن وعر جداً لأنه أصل الدين ، فلا يقنع فيه إلا بأمر عظيم ، وأكد هذا المعنى بقوله : ( من كتب ( بصيغة الجمع مع تأكيد النفي بالجار قبل كتابك الجامع ) يدرسونها ) أي يجددون دراستها في كل حين ، فهي متظاهرة الدلالة باجتماعها على معنى واحد متواترة عندهم لا شبهة في أمرها ليكون ذلك سبباً للطعن في القرآن إذا خالف تلك الكتب ) وما أرسلنا ) أي إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة ) إليهم ) أي خاصة ، بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم باعيانهم ، فهم مقصودون بالذات ، لا أنهم داخلون في عموم ، أو مصقودون من باب الأمر بالمعروف في جميع الزمان الذي ) قبلك ) أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي ، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام كما تقدم في السجدة نقله عن ابن عباس ومقاتل ، ويجوز أن يراد بعد إسماعيل عليه السلام لأن عيسى عليه السلام - وإن أرسل إلى العرب رسله - لم يكن مرسلاً إلا إلى قومه ، وإرساله إلى غيرهم إنما هو من باب الأمر بالمعروف ، وشعيب عليه السلام إنما كانت رسالته إلى طائفة أو أثنتين منهم وقد(6/191)
صفحة رقم 192
يقال : الذي يدل عليه استغراق جميع الزمان الماضي بالتجريد عن الخافض أن المراد إنما هو نفي الإرسال بهذا الباطل الذي إدعوه لا مطلق الإرسال ، وأكد النفي بقوله : ( من نذير ) أي ليكون عندهم قول منه يغبر في وجه القرآن ، فيكون حاملاً لهم على الطعن .
ولما نفى موجب الطعن ، ذكر المانع الموجب للإذعان فقال : ( وكذب ) أي فعلوا ما فعلوا ، الحال أنه قد كذب ) الذين من قبلهم ) أي من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء ، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر ) وما بلغوا ) أي هؤلاء ) معشار ما آتيناهم ) أي عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل ) فكذبوا ) أي بسبب ما طبعوا عليه من العناد ، وأفرد الضمير كما هو حقه ونصاً على أن النون فيما مضى للعظمة لا للجمع دفعاً لتعنت متعنت فقال : ( رسلي ( .
ولما كان اجتراؤهم على الرسل سبب إهلاكهم على أوجه عجيبة ، صارت مثلاً مضورباً باقياً إلى يوم القيامة ولم يغن عنهم في دفع النقم ما بسط لهم من النعم ، كان موضع أن يقال لرائيه أو لسامعه : ( فكيف كان نكبر ) أي فيما كان له من الشدة التي هي كالجبلة أي إنكاري على المكذبين لرسلي ، ليكون السؤال تنبيهاً لهذا المسؤول وداعياً له إلى الإذعان خوفاً من أن يحل به ما حل بهم أن فعل مثل ما فعلهم سواء كان الإنكار في أدنى الوجوه كما أوقعناه سبباً من تعطيل الأسباب ، أو أعلاها كما أنزلنا بقوم نوح عليه السلام ومن شاكلهم وصب العذاب والاستئصال الوحيّ بالمصاب على ما أشارت إليه قراءتا حذف الياء وإثباتها .
سبأ : ( 46 - 49 ) قل إنما أعظكم. .. . .
) قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( ( )
ولما أبطل شبههم كلها ، وليّن من عريكتهم بالتنبيه على التحذير ، فصاروا جديرين بقبول الوعظ ، وكان مما رموه به - وحاشاه - الجنون وتعمد الكذب ، أمره بالإقبال عليهم به مخففاً له لئلا ينفروا من طوله فقال : ( قل ( وأكده زيادة في استجلابهم إلى الإقبال عليه فقال : ( إنما أعظكم بواحدة ) أي فاسمعوا ولا تنفروا خوفاً من أن أملّكم ؛ ثم استأنف قوله بياناً لها : ( أن تقوموا ) أي توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق ، وعبر بالقيام(6/192)
صفحة رقم 193
إشارة إلى الاجتهاد ) لله ) أي الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم ) مثنى ) أي اثنين اثنين ، وقدمه إشارة أة أن أغلب الناس ناقص العقل ) وفرادى ) أي واحداً واحداً واحداً ، من وثق بنفسه في رصانه عقله وأصالة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره ، وأعون على خلوص فكره ، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إن نسي .
ويقومه إن زاغ .
ولما كان هذا القسم أكثر وجوداً في الناس قدمه ولم يذكر غيرهما من الأقسام ، إشارة إلى أنهم إذا كانوا على هاتين الحالتين كان أجدر لهم بأن يعرفوا الحق من غير شائبة حظ مما يكون في الجمع الكثير من الجدال واللفظ المانع من تهذيب الرأي وتثقيف الفكر وتنقية المعاني .
ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيماً جديراً بأن يهتم له هذا الاهتمام ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم تتفكروا ) أي تجتهدوا بعن التأني وطول التروي في الفكر فيما وستم به صاحبكم من أمر الجنون .
ولما كان بعده ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا آمراً لا يتمارى فيه ، استأنف قوله معيناً بالتعبير بالصاحب مؤكداً تكذيباً لهم وتنبيهاً على ظهور مضمون هذا النفي : ( ما بصاحبكم ) أي الذي دعاكم إلى الله وقد بلوتموه صغيراً ويافعاً وشاباً وكهلاً ، وأعرق في النفي بقوله : ( من جنة ( وخصها لأنها مما يمكن طروءه ، ولم يعرّج على الكذب لأنه مما لا يمكن فيمن عاش بين أناس عمراً طويلاً ودهراً دهيراً يصحبهم ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً سراً وعلناً في السراء والضراء ، وهو أعلاهم همة وأوفاهم مروءة ، وأزكاهم خلائق وأظهرهم شمائل ، وأبعدهم عن الأدناس ساحة في مطلق الكذب ، فكيف بما يخالف أهواءهم فكيف بما ينسب إلى الله فكيف وكلامه الذي ينسب فيه إلى الكذب معجز بما فيه من الحكم والأحكام ، والبلاغة والمعاني التي أعيت الأفهام .
ولما ثبت بهذا إعلاماً وإفهاماً براءته مما قذفوه به كله ، حصر أمره في النصيحة من الهلاك ، فقال منبهاً على أن هذا الذي أتاهم به لا يدعيه إلا أحد رجلين : إما مجنون أو صادق هو أكمل الرجال ، وقد انتفى الأول فثبت الثاني : ( إن ) أي ما ) هو ) أي المحدث عنه بعينه ) إلا نذير لكم ) أي خاصاً إنذاره وقصده الخلاص بكم ، وهول أمر العذاب بتصويره صورة من له آلة بطش محيطة بمن تقصده فقال : ( بين يدي ) أي قبل حلول ) عذاب شديد ( قاهر لا خلاص منه ، إن لم ترجعوا إليه حل بكم سريعاً ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن(6/193)
صفحة رقم 194
العدو يصحبكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى ، فقال : إني نذير لكم بين يدب عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله عز وجل ) تبت يدا أبي لهب وتب ( .
ولما انتفى عنه بهذا ما خيلوا به ، بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بأمره بقوله : ( قل ) أي للكفرة : ( ما ) أي مهما ) سألتكم من أجر ) أي على دعائي لكم ) فهو لكم ( لا أريد منه شيئاً ، وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله أجراً أصلاً بوجه من الوجوه ، فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي ، وأن الداعي أرجح الناس عقلاً ، ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله الذي له الأمر كله .
ولما كانوا يظنون به في بعض ظنونهم أنه يريد أمراً دنيوياً ، أكد قوله : ( إن ) أي ما ) أجري إلا على الله ) أي الذي لا أعظم منه ، فلا ينبغي لذي همة أن يبتغي شيئاً إلا من عنده ) وهو ) أي والحال أنه ) على كل شيء شهيد ) أي بالغ العلم بأحواله ، فهو جدير بأن يهلك الظالم ويعلي كعب المطيع .
ولما لم يبق شيء يخدش في أمر المبلغ ، أتبعه تصحيح النقل جواباً لمن كأنه يقول : برئت ساحتك ، فمن لنا بصحة مضامين ما تخبر ؟ فقال مؤكداً لإنكارهم أن يكون ما يأتي به حق معيداً الأمر بالقول ، إشارة إلى أن كل كلام صدر دليل كاف مستقل بالدلالة على ما سبق له : ( قل ( لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر معبراً بما يقتضي العناية الموجبة لنصره على كل معاند ، ) إن ربي ) أي المحسن إلي بأنواع الإحسان ، المبيض لوجهي عند الامتحان ) يقذف بالحق ) أي يرمي به في إثبات جميع ذلك وغيره مما يريد رمياً وحياً جداً لأنه غني عن تدبر أو تروِّ أو تفكر في تصحيح المعنى أو إصلاح اللوازم لأنه علام الغيوب ، فيفضح من يريد إطفاء نوره فضيحة شديدة ، ويرهق باطله كما فعل فيما وسمتموني به وفي التوحيد وغيره لا كما فعلتم أنتم في مبادرتكم إلى نصر الشرك وإلى ما وصفتموني به ووصفهم ما جئت به ، فلزمكم على ذلك أمور شنيعة منها الكذب الصريح ، ولم تقدروا أن تأتوا في أمري ولا في شيء من ذلك بشيء يقبله ذو عقل أصلاً .
ولما وصفه بنهاية العلم ، أتبعه بعض آثاره فقال : ( قل جاء الحق ) أي الأمر الثابت الذي لا يقدر شيء أن يزيله ؛ وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون فقال :(6/194)
صفحة رقم 195
) وما ) أي والحال أنه ما ) يبدئ الباطل ) أي الذي أنتم عليه وغيره في كل حال حصل فيه تفريعه على مر الأيام ) وما يعيد ( بل هو كالجماد لا حركة به أصلاً ، لأنه مهما نطق به صاحبه في أمره بعد هذا البيان افتضح ، فإن لم ترجعوا عنه طوقاً رجعتم وأنتم صغره كرهاً ، والحاصل أن هذا كناية عن هلاكه بما يهز النفس ويرفضه الفكر بتمثيله بمن انقطعت حركته ، وذهبت قوته ، حتى لا يرجى بوجه .
سبأ : ( 50 - 54 ) قل إن ضللت. .. . .
) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( ( )
ولما لم يبق بعد هذ إلا أن يقولوا عناداً : أنت ضال ، ليس بك جنون ولا كذب ، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن المحجة ، قال : ( قل ) أي لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الانصاف وتعليم الأدب : ( إن ضللت ) أي عن الطريق على سبيل الفرض ) فإنما أضل ( ولما كان الله تعالى قد جعل العقل عقلاً يمنع من الخطأ وينهى عن الهوى ، وكان الغلط لا يأتي إلا من شواغل النفس بشهواتها وحظوظها ، فكان التقدير : بما في نفسي من الشواغل العاقلة للعقل ، قال مشيراً إلى ذلك : ( على نفسي ) أي لأن الضلال إذا استعلى على شيء ظهر أمره فيتبين عواه فيلزم عاره ، ويصير صاحبه بحيث لا يدري شيئاً ينفع ولا يعيد ، ولذلك يصير يفزع إلى السفه والمشاتمة كما وقع في مذاهبكم كلها ، لأن الله تعالى جعل العقول الصحيحة معياراً على ذلك ، فمهما ذكرت طرق الحق وحُررت ظهر أمر الباطل وافتضح .
ولما كانت النفس منقادة بل مترامية نحو الباطل ، عبر في الضلال بالمجرد ، وفي الهدى بالافتعال إشارة إلى أنه لا بد فيه من هاد وعلاج ، وعبر بأداة الشك استعمالاً للأنصاف فقال : ( وإن اهتديت فبما ) أي فاهتدائي إنما بما ) يُوحي إليَّ ربي ) أي المحسن إليّ لا بغيره ، فلا يمكن فيه ضلال لأنه لا حظ فيه للنفس أصلاً ، فلا يقدر أحد على شيء من طعن في شيء منه ، وهداي لنفسي ، فالآية ظاهرها التنزل منه وباطنها إرشادهم إلى تسديدهم النظر وتقمويمه وتهذيب الفكر وتثقيفه ، وهي من الاحتباك : حذف أولاً كون الضلال من نفسه بما دل عليه ثانياً من أن الهدى بقوله : ( إنَّه ) أي ربي ) سميع قريب ) أي لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه ، فهو جدير بأنه يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه ولا يبعد عليه شيء ليحتاج في إداركه إلى تأخير لقطع مسافة أو(6/195)
صفحة رقم 196
نحوها ، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد ، والآية إرشاد من الله تعالى إلى أنه وإن كان خلق للآدمي عقلاً لا يضل ولا يزيغ ، لكنه حفه بقواطع من الشهوات والحظوظ والكسل والفتور فلا يكاد يسلم منها إلا منها إلا من عمصه الله ، فلما كان كذلك أنزل سبحانه كتباً هي العقل الخالص ، وأرسل رسلاً جردهم من تلك القواطع ، فجعل أخلاقهم شرائعهم ، فعلى كل أحد أن يتبع رسله المتخلفين بكتبه متهماً عقله منابذاً رأيه كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ليكون مؤمناً بالغيب حق الإيمان فيدخل في قوله تعالى في سورة فاطر
77 ( ) إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( ) 7
[ فاطر : 18 ] ولا يكون متناوشاً بعد كشف الغطاء من مكان بعيد .
ولما أبطل شبههم وختم من صفاته بما يقتضي البطش بمن خالفه ، قال عاطفاً على ) ولو ترى إذ الظالمون ( : ( ولو ترى ) أي تكون منك رؤية ) إذ فزعوا ) أي يفزعون بأخذنا في الدنيا والآخرة ، ولكنه عبر بالماضي وكذا في الأفعال الآتية بعد هذا لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه ) فلا ) أي فتسبب عن ذلك الفزع أنه لا ) فوت ) أي لهم منا لأنهم في قبضتنا ، لرأيت أمراً مهولاً وشأناً فظيعاً ، وحقر أمرهم بالبناء للمفعول فقال : ( وأخذوا ) أي عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء كان قبل الموت أو بعده .
ولما كان القرب يسهل أخذ ما يراد أخذه قال : ( من مكان قريب ) أي أخذاً لا شيء أسهل منه فإن الآخذ سبحانه قادر وليس بينه وبين شيء ، مسافة ، بل هو أقرب إليه منا الإيمان به وأبيناه ، والأقرب أن يكون القرآن الذي قالوا إنه إفك مفترى ) وأنّى ) أي وكيف ومن أين ) لهم التناوش ) أي تناول الإيمان أو شيء من ثمراته ، وكأنه عبر به لأنه يطلق على الرجوع ، فكان المعنى أن ذلك بعد عليهم من جهة أنه لا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل ، وأنى لهم ذلك ؟ وهو تمثيل لحالهم - في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا - بحال من يريد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قد ذراع تناولاً سهلاً ، لا نصب فيه ، ومده أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم لهمزهم إياه فقيل : إن الهمز على الواو المضمونة كما همزت في وجوه ووقتت فيكون لفظه موافقاً لمعناه ، والصحيح أنه ليس من هذا ، لأن شرط همز الواو المضمونة ضمةً لازمةً أن لا ويكون مدغماً فيها إذا كانت وسطاً كالتعود ، وأن لا يصح في الفعل نحو تناول وتعاون ، وقد حكى عن أبي عمرو أن معناه بالهمز التناول من بعد ، من قولهم نأش - بالهمز - إذا أبطل وتأخر ، والنيش حركة في إبطاء ، والنأش أيضاً : الأخذ ، فيكون الهمز أصلياً ، وقرأه(6/196)
صفحة رقم 197
الباقون بالواو مثل التناول لفظاً ومعنى ، فقراءة الواو المحضة تشير إلى أنهم يريدون تناولاً سهلاً مع بعد المتناول في المكان ، وقراءة الهمز إلى أن إراتهم تأخرت وأيطأت حتى فات وقتها ، فجمعت إلى بعد المكان بعد الزمان .
ولما كان البعيد لا يمكن الإنسان تناوله مع بعده قال : ( من مكان بعدي ( فإنه بعد كشف الغطاء عند مجيء البأس لا ينفع الإيمان ) وقد ) أي كيف لهم ذلك والحال أنهم قد ) كفروا به ) أي بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به أملاً وجزاءً ) من قبل ) أي في دار العمل ) و ( الحال أنهم حين كفرهم ) يقذفون ( في أمر ما دعوا إليه بما يرمون به من الكلام رمياً سريعاً جداً من غير تمهل ولا تدبر ) بالغيب ) أي من مرجمات الظنون ، وهي الشبه التي تقدم إبطالها في هذه السورة وغيرها من استبعادهم البعث وغيره مما أخبر الله به .
ولما كان الشيء لا يمكن أن يصيب ما يقذفه وهو غائب عنه ولا سيما مع البعد قال معلماً ببعدهم عن علم ما يقولون مع بعده جداً من حال من تكلموا فيه سواء كان القرآن أو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو الحشر والجنة والنار : ( من مكان بعيد ( وذلك على الضد من قذف علام الغيوب فإنه من مكان قريب فهو معلوم لازم للحق .
سبأ : ( 50 - 54 ) قل إن ضللت. .. . .
) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبِ ( ( )
لما أشار إلى بعد الإيمان منهم عن إرادتهم تناوله عند فوات أمرلاه وعلوه عنهم عند طعنهم فيه في دار العمل ، ترجم حالتيهم يفي ذلك على وجه يعم ثمرات الإيمان من دخول الجنان ورضى الرحمن بقوله : ( وحيل ( معبرا بصيغة المجهول مشيرا إلى أن حصول الحيلولة بأسهل ما يكون ولأن المنكي لهم نفس الحيلولة لا كونها من شخص معين : ( بينهم وبين ما يشتهون ) أي يميلون إليه ميلا عظيما من تلأثير طعنهم وقبول إيمانهم عند رؤية ، البأس ومن حصول شيء من ثمراته لهم من حسن الثواب كما يرى الإنسان منهم - وهو في غمرات النار - مقعده في الجنة ، الذي كان يكون له لو آمن ولا يقدر على الوصول إليه بوجه ، وإن خيل إليه الوصول فقصده فمنع منه كان أنكى ) كما فعل ( بأيسر وجه ) بأشياعهم ) أي الذين كفروا مثلهم ) من قبل ) أي قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم في الكفران والإيمان ، والسعادة والخسران ، ولم يختل أمرتا في أمة من الأمم ، بل كان كلما كذبت أمة رسولها أخذناها ، فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا ، فلم تقبل منهم ذلك ، ولا نفعهم شيئا لا بالكف عن إهلاكهم ولا بإدراكهم(6/197)
صفحة رقم 198
لشيء من الخير بعد إهلاكهم ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] ثم علل عدم الوصول إلى قصد يفي كل من الحالتين بقوله مؤكدا لأنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك يفي شيء من أمرهم : ( إنهم كانوا ) أي في دار القبول كونا هو كالجبلة لهم ) في شك ) أي من جميع ما يخبرهم به رسلنا عنا من دار القبول كونا هو كالجبلة لهم ) في شك ) أي من جميع ما يخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء أو غير ذلك ) مريب ) أي موقع في الريبة ، فهو بليغ في بابه كما يقال : عجب عجيب ، أو هو واقع يفي الريب كما يقال : شعر شاعر ، أي ذو شعر ، فكيف يقبلون أو ينفذ طعنهم أو تحصل لهم تمرة طيبة وهم على غير بصيرة في شيء من أمرهم بل كانوا يشكون في قدرتنا وعظمتنا ، فاللائق بالحكمة أن تبين لهم العظمة بالعذاب لهم والصواب لأحباننا الذين عاودهم فينا فنبين أنهم يؤمنون به عند ظهور الحمد أتم إما في الآخرة أو في مقدماتها ، فظهر سر الإفصاح بقوله " وله الحمد في الآخرة " وأنه حال سبحانه بينهم وبين ما يريدون فتبين أنه مالك كل شيء فصح أن له الحمد في الأولى وفي كل حالة ، وقد تعانق آخرها مع أولها ، والتحم مقطعها بموصلها - والله سبحانه وتعالى هو المستعان وإليه المرجع والمآب. .. . .(6/198)
صفحة رقم 199
سورة فاطر
فاطر : ( 1 - 3 ) الحمد لله فاطر. .. . .
) الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ( )
هي ختام السور المفتتحة باسم الحمد ، التي تقدم عن الشيخ سعد الدين التفتازاني أنه فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة ، وهي الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ؛ ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها ، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بأنهى القدرة وأحكمها ، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محالّه ، فمقصودها إثبات القدرة الكاملة لله تعالى اللازم منها تمام القدرة على البعث الذي عنه يكون أتم الإبقاءين الإبقاء بالفعل دائماً أبداً بلا انقطاع ولا زوال ولا اندفاع في دار المقامة التي أذهب عنها الحزن والنصب واللغوب ، ودار الشقاوة الجامعة لجميع الأنكاد والهموم ، ولاسم السورة أتم مناسبة لمقصودها لأنه لا شيء يعدل ما في الجنة من تجدد الخلق فإنه لا يؤكل منها شيء إلا عاد كما كان في الحال ، ولا يراد شيء إلا وجد في أسرع وقت ، فهي دار الإبداع والاختراع بالحقيقة وكذا النار ) ) كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ( ) [ النساء : 56 ] ؛ وكذا تسميتها بالملائكة فإنهم يبدعون خلقاً جديداً كل واحد منهم على صورته التي أراد الله المطابقة لقدرته سبحانه وعز شأنه ، وهم من الكفرة على وجه لا يحاط به ) ) وما يعلم جنود ربك إلا هو ( ) [ المدثر : 31 ] ) بسم الله ( الذي أحاط(6/199)
صفحة رقم 200
دائرة قدرته بالممكنات ) الرحمن ( الذي أتم بالبعث عموم الرحمة ) الرحيم ( الذي شرف أهل الكرامة بدوام الإقامة في دار المقامة .
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون ، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور ، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد ، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام ، كما يكون بالإعطاء والإنعام ، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً ) لله ) أي وحده .
ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك ، قال دالاً على استحقاقه للمحامد : ( فاطر ) أي مبتدئ ومبتدع ) السموات والأرض ) أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجها منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفرداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة ، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة ، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر ، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم ، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار : ( جاعل الملائكة رسلاً ) أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين ) أولي أجنحة ) أي تهيؤهم لما يراد منهم ؛ ثم وصف فيه إلى أكثر من ذلك ، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين .
ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال : ( وثلاث ) أي ثلاثة لآخرين منهم .
ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه ، نبه ذكر الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال : ( ورباع ) أي أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم .
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها ، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل ، كانت نتيجة ذلك : ( يزيد في الخق ) أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره(6/200)
صفحة رقم 201
سبحانه ، فبطل قول من قال : أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة ، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد ، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث : ( إن الله ) أي الجامع لجميع أوصاف الكمال ) على كل شيء قدير ( فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ، ومشتحق الحمد في الدنيا والآخرة ، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق ، إذ الكل خلقه وملكه ، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه ، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة ، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة
77 ( ) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ( ) 7
[ سبأ : 22 ] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند ، وتقدس ملكه سبحانه ، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق ، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى ) جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى ( الآية ، وقوله ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم ( وقوله : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ( الاية ، وقوله : ( الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً ( الاية ) والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل ( ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ( ) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ( ) إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ( فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق ، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة ، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد ، وتأمل افتتحاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام ، وقوله سبحانه ) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرة ( الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجزّ في السورتين مما ظاهره الخروج من هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي - رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه - انتهى .(6/201)
صفحة رقم 202
ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة ، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه ، فقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً : ( ما ) أي مهما ) يفتح الله ) أي الذي لا يكافئه شيء .
ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال : ( للناس ( ولما كان الإنعام مقصوداً بالذات محبوباً ، وكانت رحمته سبحانه قد غلبت غضبه ، صرح به فقال مبيناً للشرط في موضع الحال من ضميره أي يفتحه كائناً : ( من رحمة ) أي من الأرزاق الحسية والمعنوية من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر دقت أو جلت فيرسلها ) فلا ممسك لها ) أي الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد في نفسه أنه إذا حصل له خير لا يعدم من يود أنه لم يحصل ، ولو قدر على إزالته لأزاله ، ولا يقدر على تأثير ما فيه .
ولما كان حبس النعمة مكروهاً لم يصرح به ، ترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذاناً بأن رحمته سبقت غضبه فقال : ( وما يمسك ) أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه ) فلا مرسل له ) أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة .
ولما كان ربما ادعى فجوراً حال إمساك الرحمة أو النقمة أنه الممسك قال : ( من بعده ) أي بعد إمساكه ، فمن كان في يده شيء فليمسك ما أتى به الله حال إيجاده بأن يعدمه .
ولما كان هذا ظاهراً في العزة في أمر الناس والحكمة في تدبيرهم عمم فقال : ( وهو ) أي هو فاعل ذلك والحال أنه وحده ) العزيز ) أي القادر على الإمساك والأرسال الغالب لكل شيء ولا غالب له ) الحكيم ( الذي يفعل في كل من الإمساك والأرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراد على قوانين الحكمة ، فلا يستطاع نفض شيء منه .
ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده .
أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه ، فإن الذكر يقود إلى الشكر ، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود ، فقال : ( يا أيها الناس ) أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة ) اذكروا ( بالقلب واللسان ) نعمت الله ) أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه ، ولما كانت نعمة عامة غامرة من كل جانب قال : ( عليكم ) أي في دفع من المحن ، وصنع ما صنع من المنن ، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه ، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم ، وحفظهم من جميع الأمم ، وتشريفهم باليبت ، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس .
ولما أمر بذكر نعمته ، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته ، (6/202)
صفحة رقم 203
فقال منبهاً لمن غفل ، وموبخاً لمن جدد ، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم ، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول : ( هل ( واما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده ب ) من ( فقال : ( من خالق ) أي للنعم وغيرها ، ولما كانت ) من ( للتأكيد ، فكان ) خالق ( في موضع رفع ، قرأ الجمهور قوله : ( غير الله ( بالرفع ، وجره حمزة والكسائي على اللفظ ، وعبر بالجلالة إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال. ظ ولما كان الجواب قطعاً ، لا ، بل هو الخالق وحده ، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول : ( يرزقكم ) أي وحده .
ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال : ( من السماء والأرض ( بالمطر والنبات وغيرهما .
ولما بين أنه سبحانه الأله وحده فقال : ( لا إله إلا هو ( فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال : ( فأنى ) أي فمن وجه وكيف ) تؤفكون ) أي تصرفون وتقبلون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له .
فاطر : ( 4 - 6 ) وإن يكذبوك فقد. .. . .
) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ( )
ولما قررهم على ما تقدم وختم بالتوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الدين ، نبه على أنه المقصود بالذات بذكر ما يعقبه في الأصل الثاني ، وهو الرسالة من تصديق وتكذيب ، فقال ناعياً على قريش سوء تلقيهم لآياته ، وطعنهم في بيناته ، مسلياً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، عاطفاً على ما تقديره : فإن يصدقوك فهم جديرون بالتصديق لما قام على ذلك من الدلائل ، وشهد به من المقاصد والوسائل : ( غن يكذبوك ) أي عناداً وقلة اكتراث بالعواقب فتأسّ بإخوانك ) فقد ) أي بسبب أنه قد ) كذبت رسل ) أي يا لهم من رسل وبني الفعل للمجهول لأن التسلية محطها ، وقوع التكذيب لا تعيين المكذب ، ونفى أن يرسل غيره بعد وجوده بقوله : ( من قبلك ( وأفرد التكذيب بالذكر اهتاماً بالتسلية تنبيهاً على أن الأكثر يكذب ، قال القشيري : وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا قليل ، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من الفتراء المتقشفين .
ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح : فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور ، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره :(6/203)
صفحة رقم 204
) وإلى الله ) أي وحده له الأمور كلها ) نرجع الأمور ) أي حساً ومعنى ، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل .
ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود ، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه : ( يا أيها الناس ) أي الذين عندهم أهليه للتحرك إلى النظر .
ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله : ( إن وعد الله ) أي الذي له صفات الكمال وهو منزه عن كل شائبة نقص ، فهو لا يجوز عليه في مجاري العادات للغنى المطلق أن يخلف الميعاد ) حق ) أي بكل ما وعد به من البعث وغيره وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ، ويعرض عن الأحساب والأنساب ، ليحكم بينكم بالعدل ، ثم سبب عن كونه حقاً قوله على وجه التأكيد لأجل الإنكار أيضاً : ( فلا تغرنكم ) أي بأنواع الخدع من اللهو والزينة غروراً مستمر التجدد ) الحياة الدنيا ( فإنه لا يليق بذي همه عليه اتباع الدنيء ، والرضى بالدون الزائل عن العالي الدائم ) ولا يغرنكم بالله ) أي الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعالي ) الغرور ) أي الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو ، ولذلك استأنف قوله مظهراً في موضع الإضمار للتنفير بمدلول الوصف قبل التذكير بالعداوة ووخامة العاقبة فيما يدعو إليه مؤكداً لأن أفعال المشايعين له بما يمنيهم به من نحو : إن ربكم حليم ، لا يتعاظمه ذنب ، مع الإصرار على المعصية أفعال المتعقدين لمصادقته : ( إن الشيطان ) أي المحترق بالغضب البعيد من الخير ) لكم ) أي خاصة غهو في غاية الفراغ لأذاكم ، فاجتهدوا في الهرب منه ) عدو ( بتصويب مكايده كلها إليكم وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم وأيضاً ( من عادى أباك فقد عاداك ) .
ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات ، عبر بصيغة الافتعال فقال : ( فاتخذوا ( اي بغاية جهدكم ) عدواً ( والله لكم ولي فاتخذوه ولياً بأن تتحروا ما يغيظ الشيطان بأن تخالفوه في كل ما يريد ويأمر به ، وتتعمدوا ما يرضاه الرحمن ونهجه لكم وأمركم به فتلتزموه ، قال القشيري : ولا يقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب فإنه لا يغفل عن عداوتك ، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة .
ثم علل ذلك بقوله : ( إنما يدعو حزبه ) أي الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله ) ليكونوا ( باتباعه كوناً راسخاً ) من أصحاب السعير ( هذا غرضه لا غرض له سواه ، ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف ، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسوف لهم بها بالفسحة في الأمل ، والإبعاد في الأجل ، للإفساد في العمل ، والرحمن سبحانه إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم
77 ( ) والله يدعو إلى دار السلام ( ) 7
[ يونس : 25 ] .(6/204)
صفحة رقم 205
فاطر : ( 7 - 9 ) الذين كفروا لهم. .. . .
) الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( ( )
ولما أنهى البيان في غرض الشيطان إلى منتهاه ، نبه على ما حكم به هو سبحانه في أشياعه بقوله مستأنفاً : ( الذين كفروا ) أي غطو بالاتباع له بالهوى ما دلتهم عليه عقولهم وكشفه لهم غاية الكشف هذا البيان العزيز ) لهم عذاب شديد ) أي في الدنيا بفوات غالب ما يؤملون مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلآههم حجراً ، وانحجاب المعارف التي لا لذاذة في الحقيقة غيرها عنهم ، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها .
ولما ذكر جزاء حزبه ، اتبعه حزب الله الذين عادوا عدوهم فقال : ( والذين آمنوا وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( ولما كان من أعظم مصايد الشيطان ما يعرض للإنسان خطأ وجهلاً من العصيان ، لما له من النقصان ليجره بذلك إلى العمد والعدوان ، قال تعالى داعياً له إلى طاعته وإزالة لخجلته : ( لهم مغفرة ) أي ستر لذنوبهم بحيث لا عقاب وا عتاب ، وذلك معجل في هذه الدار ، ولولا ذلك لافتضحوا وغداً ، ولولا ذلك لهلكوا .
ولما محاها عيناً وأثراً ، أثبت الإنعام فقال : ( واجر كبير ) أي يجل عن الوصف بغير هذا الإجمال ، فمنه عاجل بسهولة العبادة ودوام المعرفة وما يرونه في القلوب من وراء اليقين ، وآجل بتحقيق المسؤول من عظيم المنة ، ونيل ما فوق المأمول في الجنة .
ولما أبان هذا الكلام تفاوت الحزبين في المآل بالهلاك والفوز ، وكان لا يقدم على الهلاك أحد في حس ، وكان الكفار يدعون أنهم الفائزون قناعة بالنظر إلى ما هم فيه ، ويدعون أنهم أبصر الناس وأحسنهم اعمالاً وكذا كل عاص ومبتدع ، كان ذلك سبباً في إنكار تساويهما ، فأنكره مبيناً السبب في ضلالهم بما فيه تسلية للمحسنين وندب إلى الشكر وحث على ملازمة الافتقار والذي وسؤال العافية من الزلل والزيغ قوله : ( زين له سوء عمله ) أي قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بجمع مال ذاهب أو مذهوب عنه من غير خلة وبيع راحة الجنة المؤبدة بمتابعة شهوة منقية وإيثار مخلوق فإن على ربه الغني الباقي ؛ ثم سبب عنه ما أنهى إليه من الغاية فقال : ( فرآه ) أي السيئ بسبب التزيين ، ) حسناً ) أي فركبه ، بما أشار إليه إضافة العمل إليه ، وطوى(6/205)
صفحة رقم 206
المشبه به وهو كمن أبصر الأمور على حقائقها فاتبع الحسن واجتنب السيئ ، لأن المقام يهدي إليه ، وتعجيلاً بكشف ما أشكل على السامع من السبب الحامل على رؤية القبيح ، مُليحاً بقوله مؤكداً رداً على من ينسب إلى غير الله فعلاً من خير أو شر : ( فإن ) أي السبب في رؤية الأشياء على غير ما هو به ، فيقدم على الهلاك البين وهو يراه عين النجاة ) ويهدي من يشاء ( فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلإ حسناً .
ولما كان المحب من يرضى بفعل حبيبه ، سبب عن ذلك النهي لأكمل خلقه عن الغم بسبب ضلالهم في قوله : ( فلا ( والأحسن أن يقدر المشبه به هنا فيكون المعنى : أفمن غير فعل القبيح فاعتقده حسناً لأن الله أضله بسبب أن الله هو المتصرف في القلوب كمن بصره الله بالحقائق ؟ ولما كان الجواب : لا ، ليس هما سواء سبب عنه قولاً : فلا ) تذهب ) أي بالموت أو ما يقرب منه ) نفسك عليهم ) أي بسبب ما هو فيه من العمى عن الجليات ) حسرات ) أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم ، جمع حسرة وهي شدة الحون على ما ما فات من الأمر .
ولما كان كأنه قيل : إنهم يؤذون اولياءك فيشتد أذاهم ، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة ، قال : ( إن الله ) أي المحيط بجميع أوصاف الكمال ) عليم ) أي بالغ العلم ، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب ، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم ) بما يصنعون ) أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه .
ولما أخبر تعالى أنه لا بد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره ، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره ، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب ، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى ، وكان الإيتان به في وقت دون آخر دالاً على القدرة بالاختيار ، قال عاطفاً على جملة ) إن وعد الله حق ( المبني على النظر ، وهو الإخراج من العدم مبيناً لقدرته على ما وعد به : ( والله ) أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها ) الذي ( ولما كان المراد الإيجاد من العدم ، عبر بالماضي مسنداً إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال : ( أرسل الرياح ) أي أوجدها من العدم مضطربة فيها ، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف يشاء لا ثابتة كالأرض ، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض .(6/206)
صفحة رقم 207
ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن تسقي أرضاً ، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب ، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة ، وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة تنبيهاً للسامع على ذلك وحثّاً له على تدبره وتصوره : ( فتثير ) أي بتحريكه لها إذا أراد ) سحاباً ) أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج .
ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث ، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت ، عبر بالمضارع .
ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان ، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال : ( فسقناه ) أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم ، لا من غيره ، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال : ( إلى بلد ميت ( .
ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال : ( فأحيينا به الأرض ( ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون ، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير : ( بعد موتها ( ولما أوصل الأمر إلى غايته ، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله : ( كذلك ) أي مثل الإحياء لميت النبات ) النشور ( حسّاً للأموات ، ومعنى للقلوب والنبات ، قال القشيري : إذا أراد إحياء قلب يرسل أولاً رياح الرجاء ، ويزعج بها كوامن الإرادة ، ثم ينشئ فيه سحاب الاهتياج ، ولوعة الانزعاج ، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح ، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس .
فاطر : ( 10 - 12 ) من كان يريد. .. . .
) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أنه له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا ، وكانت منافسه الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافسهم في الحكمة ، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها(6/207)
صفحة رقم 208
لاكتساب العزة ، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها منا قال :
77 ( ) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً ( ) 7
[ مريم : 81 ] قال مستنتجاً من ذلك : ( من كان ) أي في وقت من الأوقات ) يريد العزة ) أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني غالباً غير مغلوب ) فلله ) أي وحده ) العزة جميعاً ) أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره ، وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز ) ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن خبر أنه لا شيء فيها لغيره ، دل على اختصاصه بها شمول علمه وقدرته ، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال : ( إليه ) أي لا إلى غيره ) يصعد الكلم الطيب ) أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة ، فيعز صاحبه ويثيبه .
ولما أعلى رتبة القول الحكيم ، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات ، والقول وسيلة إليه ، فقال دالاً على علوه بتغيير السياق : ( والعمل الصالح يرفعه ( هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم ، وعمله يفوز ، قال الرازي في اللوامع : العلم إنما يتم العمل كما قيل : العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى ، وقد قيل :
لا ترض من رجل حلاوة قوله حتى يصدق ما يقول فعال فإذا وزنت مقاله بفعاله فتوازنا فإخاء ذاك جمال
ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة ، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال : ( والذين يمكرون ) أي يعملون على وجه الستر المكرات ) السيئات ) أي يسترون قصودهم بها ليوقهوها بغتة ) لهم عذاب شديد ( كما أرادوا بغيرهم ذلك ، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو ، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة .
ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً ؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال : ( ومكر أولئك ) أي البعداء من الفلاح ) هو ) أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى :
77 ( ) ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( ) 7
[ الانفال : 30 ] كما أخرجكم(6/208)
صفحة رقم 209
أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر ) يبور ) أي يكسد ويفسد ويهلك ، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته ، وذلك معنى العزة ، وحذف وضعه المكر السيئ ودل عليه برفعه للعمل الصالح .
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق ، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل ، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه ) والله الذي أرسل الرياح ( الذي هو من آيات الآفاق ، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح ، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال : ( خلقكم من تراب ) أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه ، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً ، وإليه الإشارة بقوله : ( ثم ) أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم ) من نطفة ) أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار ) ثم جعلكم أزواجاً ( بين ذكور وإناث ، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع ، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة .
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع ، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته : ( وما تحمل ) أي في البطن بالحبل ) من أنثى ( دالاً بالجار على كمال الاستغراق .
ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال : ( ولا تضع ) أي حملاً ) إلا ( مصحوباً ) بعمله ( في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه ، فلا يكون إلا بقدرته ، فما شاء أتمه ، وما شاء أخرجه .
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة ، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه ، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد : ( وما يعمر من معمر ) أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً ، قال قتادة : ستين ، أو معنى بزيادة الفاعل(6/209)
صفحة رقم 210
المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه ) ولا بنقص من عمره ) أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره ، فالمعمر المذكور المراد به الفعل ، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام ، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى ، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر .
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال : ( إلا في كتاب ( مكتوب فيه ( عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا ، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعلمه ) .
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ، ولا يحصره الحد ، فكان في عداد ما ينكره الجهلة ، قال مؤكداً لسهولته : ( إن ذلك ) أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل ) على الله ) أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده ، خاصة ) يسير ( ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم : التراب المختلف الأصناف ، ذكر الأصل الآخر : الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب ، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة ، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال : ( وما يستوي البحران ( ولما كانت الألف واللام للعهد ، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو : ( هذا عذاب ) أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع ) فرات ) أي بالغ العذوبة ) سائغ شرابه ) أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع ) وهذا ملح أجاج ) أي جمع إلى الملوحة المرارة ، فلا يسوغ شرابه ، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار ، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها ، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر ، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها .
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه ، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال : ( ومن كل ) أي من الملح والعذب ) تأكلون ( من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك ) لحماً طرياً ) أي شهي المطعم ، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم .
ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين ، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال : ( وستتخرجون ( أي(6/210)
صفحة رقم 211
تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج ، قال البغوي : وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح هيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك .
) حلية تلبسونها ) أي نساؤكم من الجواهر : الدر والمرجان وغيرهما ، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار .
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب ، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً ، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر ، خص بالخطاب فقال : ( وترى الفلك ) أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشرة الماء ، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال : ( فيه ) أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها .
ولما تم الكلام ، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال : ( مواخر ) أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة ؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر : وقال مجاهد : تخمر السفن الريح ، ولا تخمر الريح من السفن إلا الفلك العظام ؛ وقال صاحب القاموس : مخرت السفينة كمنع مخوراً ومخوراً : جرت أو استقبلت الريح في جريتها ، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة ، وفي الحديث : إذ أراد أحدكم البول فليتخمر الريح ، وفي لفظ : استمخروا الريح ، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظره فأخذت عن يمينه ويساره ، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار - انتهى كلام القاموس .
ثم علق بالمخر معللاً قوله : ( لتبتغوا ) أي تطبلوا طلباً شديداً .
ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها ، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال : ( من فضله ) أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا ) ولعلكم تشكرون ) أي ولتكون حالهم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره .
فاطر : ( 13 - 17 ) يولج الليل في. .. . .
) يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا(6/211)
صفحة رقم 212
يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) 73
( ) 71
ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه ، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته ، فقال في موضع الحال من فاعل ( خلقكم ) إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء ، فلم يأت على الإنسان حين ما من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور : ( يولج ) أي يدخل على سبيل الجولان ) اليل في النهار ( فيصير الظلام ضياء .
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب ، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة : نبه عليه بإعادة الفعل فقال : ( ويولج النهار في الّيل ( فيصير ما كان ضياء ظلاماً ، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا ، فدل كل ذلك على أنه تعالى بالاختيار .
ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال : ( وسخر الشمس والقمر ( ثم استأنف قوله : ( كل ) أي منهم ) يجري ( ولما كان مقصود السورة تمام القدرة ، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد ، ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال : ( لأجل ) أي لأجل أجل ) مسمى ( مضروب له لا يقدر أن يتعداه ، فإذا جاء ذلك الأجل غرب ، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم ، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام ، ويقيم الناس ليوم الزحام ، وتكون الأمور العظام .
ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره ، وختم بمت تكرر مشاهدته في كل يوم مرتين ، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع : ( ذلكم ) أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها ) الله ) أي الذي له صفة كمال ؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله : ( ربكم ) أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه ؛ ثم استأنف قوله : ( له ) أي وحده ) الملك ) أي كله وهو مالك كل شيء ) والذين تدعون ) أي دعاء عبادة ، ثم بيّن منزلتهم بقوله : ( من دونه ) أي من الأصنام وغيرها(6/212)
صفحة رقم 213
وكل شيء فهو دونه سبحانه ) ما يملكون ) أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام ؛ وأغرق في النفي فقال : ( من قطمير ( وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها ، كناية عن أدنى الأشياء ، فكيف لما فوقه وليس لهم شيء من الملك ، فالآية من الاحتباك : ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاُ ؛ ثم بين ذلك بقوله : ( إن تدعوهم ) أي المعبودات من دونه دعاء عبادة أو استغاثة ) لا يسمعوا ) أي بحس السمع في وقت من الأوقات ) دعاءكم ( لأنهم جماد ) ولو سمعوا ( في المستقبل ) ما استجابوا لكم ( لأنهم إذ ذاك يعملون أن إجابتكم لا ترضي الله ، وهم مما أبى أن يحمل الأمانة ويخون فيها بالعمل بغير ما يرضي الله سبحانه ، أو يكون المعنى : ولو فرض أنه يوجد لهم سمع ، أو ولو كانوا سامعين - ليدخل فيه من عبد من الأحياء - ما لزم من السماع إجابة ، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق ، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع ، فإن البهائم تسمع وتجيب ، والمجيبون غيره يجيبون ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم .
ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض ، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال : ( ويوم القيامة ) أي حين ينطقهم الله ) يكفرون بشرككم ) أي ينكرونه ويتبرؤون منه .
ولما كان التقدير : قد أنبأكم بذلك الخبير ، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به ، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة ، فقال عاطفاً على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق : ( ولا ينبئك ) أي إنباء بليغاً عظيماً على هذا الوجه بشيء من الأشياء ، ) مثل خبير ) أي بالغ الخبر ، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به ، وأما غيره فلا يخبر خبراً إلا يوجه إليه نقص .
ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع ، أنتج ذلك قوله : ( يا أيها الناس ) أي كافة ) أنتم ) أي خاصة ) الفقراء ) أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازغكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً ، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى ) إلى الله ) أي الذي له جميع الملك ؛ قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة ، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه ، وفي ثانية ليمديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة فهو التجرد ، ففقر العوام التجرد من المال ، وفقر الخواص التجرد من الإعلال ، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات .(6/213)
صفحة رقم 214
ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي ، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة الجهة التي بها وصف بما يذكر ، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال : ( والله هو ) أي وحده ) الغني ) أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً .
ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده ، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض ، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفعك من نوع ذم ، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء : حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء ، وبعض منها إلى غاية تمامه ، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً ، ولم يكن قائمه حميداً ، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي ، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره ، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها ، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ متقطعاً من كل ، والحمد إلا في كل ، ولذلك قال الغزالي : الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية .
وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه ، وأسبغها ظاهرة وباطنة ، وجعل لهم قدرة على تناولها .
لا يعوق عنه إلا قدرته ( وما كان عطاء ربك محظوراً ) وكان لا ينقص ما عنده ، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً ، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال : ( الحميد ) أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته ، فأنتج ذلك قطعاً تهديداً لمن عصاه وتحذيراً شديداً : ( إن يشأ يذهبكم ) أي جميعاً ) ويأت بخلق جديد ) أي غيركم لأنه على كل شيء قدير ) وما ذلك ) أي الأمر العظيم من الإذهاب والإيتان ) على الله ( المحيط بجميع صفات الكمال خاصة ) بعزيز ) أي بممتنع ولا شاق ، وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد .
فاطر : ( 18 - 20 ) ولا تزر وازرة. .. . .
) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ ( ( )
ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً ، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب ، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب : ( ولا ) أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا ) تزر ) أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب ، (6/214)
صفحة رقم 215
ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله ، والمعصوم من عصم الله ، قال : ( وازرة ( دون نفس ، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم ) وزر ) أي حمل وثقل ) أخرى ( لتعذب به ، بل كان واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر ، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو ، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تقعل جبابرة الدنيا .
ولما أثبت أنه لا يؤخذ إلا بوزر ، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره ، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص ، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ ، نفى ذلك الإيهام ودل القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله : ( وإن تدع ) أي نفس ) مثقلة ) أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره ، أحداً ) إلى حملها ) أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها العذاب بسبب خفته ) لا يحمل ) أي من حامل ما ) منه شيء ) أي لا طواعية ولا كرهاً .
بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً ) ولو كان ( ذلك الداعي أو المدعو للحمل ) ذا قربى ( لمن دعاه ، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه ، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم .
ولما كان هذا أمراً - مع كونه جلياً - خالعاً للقلوب ، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى ، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة : ( إنما تنذر ) أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار ، وهو كما قال القشيري : الإعلام بموضع المخافة .
) الذين يخشون ) أي يوقعون هذا الفعل في الحال يواظبون عليه في الاستقبال .
ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال : ( ربهم ( .
ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره ، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها ، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال : ( بالغيب ) أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به ، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته ، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع إلا الله ، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك .
ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن ، فكانت أشرف العبادات ، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص ، (6/215)
صفحة رقم 216
قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة : ( وأقاموا ) أي دليلاً على خشيتهم ) الصلاة ( في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن .
ولما كان التقدير : فمن كان على غير تدسى ، ومن كان على هذا فقد تزكى ، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه ، عطف عليه قوله ، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس ، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم .
) ومن تزكّى ) أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن .
ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال : ( فإنما يتزكّى لنفسه ( فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها ) وإلى الله ( الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره ) المصير ( كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك .
ولما كان التقدير : فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في النور وإن استويا في الإنسانية ، عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي والمتزكي وما يكون به التدسية والتزكية ، دلالة على تمام قدرته الذي السياق له من أول السورة ، وتقريراً لأن الخشية والقسوة بيده إبطالاً لقول من يسند الأمور إلى الطبائع قوله : ( وما يستوي ) أي في حالة من الأحوال .
ولما كان المقام لوعظ المشركين ، وكان المتدسي قبل المتزكي على ما قرر قبله ، ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله مثالاً للكافر والمؤمن والجاهل والعالم ، وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل : ( الأعمى والبصير ) أي لا الصنفان ولا أفرادهما ولا أفراد صنف منهما ، وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين ، فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى والبصر بل بعضهم أعمى وبعضهم بصير ، لأن افتعل هنا لمعنى تفاعل ، ولعله عبر به دلالة على النفي ولو وقع اجتهاد في أن لا يقع ، أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة ، لا في أصل المعنى ولو كان ذلك مستنداً إلى الطبع لكانوا على منهاج واحد بل وأفرد كل متفاوتون فتجد بعض العمى يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة ، وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد ، وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر ، وهل خطه حسن أو لا ، وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره ، ويميز ضرب كل بلد من غيره ، وربما نازعه أحد مغالطة فلا يقبل التشكيك ، وآخر في غاية البعد عن ذلك ، وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم وبصائرهم ، وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر مختار يزيد في الخلق ما يشاء ، وإلا لتساوت الأفراد فكانوا على منهاج واحد .(6/216)
صفحة رقم 217
ولما كان هذا من أغرب الأمور وإن غفل عنه لكثرة إلفه ، نبه على غرابته ومزيد ظهور القدرة فيه بتكرير النافي في أشباهه وعلى أن الصبر لا ينفذ إلا في الظلمة ، تنبيهاً على أن المعاصي تظلم قلب المؤمن وإن كان بصيراً ، وقدم الظلمة لأنها أشد إظهاراً لتفاوت البصر مع المناسبة للسياق على ما قرر ، فقال في عطف الزوج على الزوج وعطف الفرد على الفرد جامعاً تنبيهاً على أن طرق الضلال يتعذر حصرها : ( ولا الظلمات ( التي هي مثال للأباطيل ؛ وأكد بتكرير النافي كالذي قبله لأن المفارقة بين أفراد الظلمة وأفراد النور خفية ، فقال منبهاً على أن طريق الحق واحدة تكذيباً لمن قال من الزنادقة : الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق : ( ولا النور ( الذي هو مثال للحق ، فما أبدعهما على هذا التضاد إلا الله تعالى الفاعل المختار ، وفاوت بين أفراد النور وأفراد الظلمة ، فما يشبه نور الشمس نور القمر ولا شيء منهما نور غيرهما من النجوم ولا شيء من ذلك نور السراج - إلى غير ذلك من الأنوار ، وإذا اعتبرت أفراد الظلمات وجدتها كذلك ، فإن الظلمات إنما هي ظلال ، وبعض الظلال أكثف من بعض .
فاطر : ( 21 - 26 ) ولا الظل ولا. .. . .
) وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ( )
ولما كان الظلام ينشأ عن الظلال ، وهو نسخ النور ، قدمه فقال مثال الخير لأن الرحمة سبقت الغضب : ( ولا الظل ) أي ببرده الذي هو مرجع المؤمن في الآخرة ) لا الحرور ) أي بوهجها ، وهي مرجع الكافر ، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي الريح الحارة بالليل ، وكذا قال في القاموس وزاد : وقد يكون بالنهار وحر الشمس والحر الدائم والنار ، فانتفى حكم الطبائع قطعاً .
ولما كان المظهر لذلك كله الحياة ، قدمها فقال مثالاً آخر للمؤمنين ، ولذلك أعاد الفعل وهو فوق التمثيل بالأعمى والبصير ، لأن الأعمى يشارك البصير في بعض الإدراكات ، وصار للمؤمن مثالان ليفيد الأول نفي استواء الجنس بالجنس مع القبول للحكم على الأفراد ، والثاني بالعكس وهو للنفي في الأفراد مع القبول للجنس : ( وما يستوي الأحياء ) أي لأنه منهم الناطق والأعجم ، والذكي والغبي ، والسهل والصعب ، فلا يكاد يتساوي حيان في جميع الخلال ) ولا الأموات ) أي الذين هم مثال(6/217)
صفحة رقم 218
للكافرين في صعوبة الموت وسهولته والبلى وغيره مما يخفى ولا يقر به الكفار من الشقاوة والسعادة .
ولما كان ما ذكر على هذا الوجه - من وضوح الدلالة على الفعل بالاختيار وعلى ضلال من أشرك به شيئاً لأنه لا يشابهه شيء - بمكان ليس معه خفاء ، ومن الإحكام بحيث لا يدانيه كلام يعجب السامع ممن يأباه ، فقال مزيلاً عجبه مقرراً أن الخشية والقسوة إنما هما بيده ، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه ، مسلياً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، مؤكداً رداً على من يرى لغيره سبحانه فعلاً من خير أو شر : ( إن الله ) أي القادر على المفارقة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال ، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال : ( يسمع من يشاء ) أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات ، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح ، وأموات المعاني والأشباح ، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة أو الإعراض لأن نسبة الدعوة وإظهار المعجزة إليهم على حد سواء ، فالآية تقرير أية ) إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( .
ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق ، فكان كأنه ميت ، قال معبراً بالأسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما أنت ) أي بنفسك من غير إقدار الله لك ، وأعرق في النفي فقال : ( بمسمع ) أي بوجه من الوجوه ) من في القبور ) أي الحسية والمعنوية ، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، والآية دليل على البعث .
ولما كان هذا خاصة الإله ، أشار إلى نفيه عنه مقصراً على وصف النذارة ، إشارة إلى أن أغلب الخلق موتى القلوب ، فقال مؤكداً للرد على من يظن أن النذير يقدر على هداية أو غيرها إلا بإقداره ) إن ) أي ما ) أنت إلا نذير ) أي تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار ، ولست بوكيل يقهرهم على الإيمان ، ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) نبي الرحمة ، وكان الاقتصار على هذا الوصف ربما أوهم غير ذلك ، أتبعه قوله بياناً لعظمته ( صلى الله عليه وسلم ) بالالتفات إلى مظهر العظمة ) أرسلناك ) أي إلى هذه الأمة إرسالاً مصحوباً ) بالحق ) أي الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع ، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيته من الدلائل علم مطابقة الواقع لما تأمر به ، والتقدير بالمصدر(6/218)
صفحة رقم 219
يفهم أن الرسالة حق ، وكلاًّ من المرسل والرسول محق ) بشيراً ) أي لمن أطاع ) ونذيراً ) أي لمن عصى ، والعطف بالواو للدلالة على العراقة في كل من الصفتين .
ولما كان مما يسهل القياد ويضعف الجماح التأسية ، قال مؤكداً دفعاً لاستبعاد الإرسال إلى جميع الأمم : ( وإن ) أي والحال أنه ما ) من أمة ( من الأمم الماضية ) إلا خلا فيها نذير ( أرسلناه إليهم بشيراً ونذيرا إما بنفسه وإما بما ابقى في أعقابهم من شرائعه من أقواله وأفعاله ورسومه مع ما لهم من العقول الشاهدة بذلك ، والنذارة دالة على البشارة ، واقتصر عليها لأنها هي التي تقع بها التسلية لما فيها من المشقة ، ولأن من الأنبياء الماضين عليهم السلام من تمحضت دعوته للنذارة لأنه لم ينتفع أحد ببشارته لعدم اتباع أحد منهم له .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الأسف على إبائهم رحمة لهم وخوفاً من أن يكون ذلك لتقصير في حاله ، وكان التقدير : فإن يصدقونك فهو حظهم في الدنيا والآخرة ، عطف عليه تأسية له وتسلية قوله : ( وإن يكذبونك فقد ) أي فتسل لأنه قد ) كذب الذين ( ولما كان المكذبون بعض الناس ، فلزم لذلك أن يكونوا في بعض الزمان ، دل على ذلك بالجار فقال : ( من قبلهم ) أي ما أتتهم به رسلهم عن الله .
ولما كان القبول الرسل لما جاءهم عن الله ونفى التقصير في الإبلاغ عنهم دالاً على علو شأنهم وسفول أمر المكذبين من الأمم ، وكل ذلك دالاًّ على تمام قدرة الله تعالى في المفارقة بين الخلق ، قال دالاً على أمري العلو والسفول استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : هل كان تكذيبهم عناداً أو لنقص في البيان : ( جاءتهم ) أي الأمم الخالية ) رسلهم بالبينات ) أي الآيات الواضحات في الدلالة على صحة الرسالة .
ولما كان التصديق بالكتاب لازماً لكل من بلغه أمره ، وكانت نسبة التكذيب إلى جميع الأمم أمراً معجباً ، كان الأمر حرياً بالتأكيد لئلا يظن أنهم ما كذبوا إلا لعدم الكتاب ، فأكد بإعادة الجار فقال : ( وبالزبر ) أي الأمور المكتوبة من الصحف ونحوها من السنن والأسرار ) وبالكتاب ) أي جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل ) المنبر ) أي الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كان طريقك أوضح وأظهر ، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر .
ولما سلاه ، هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم فقال ، صارفاً القول إلى الإفراد دفعاً لكل لبس ، مشيراً بأداة التراخي إلى أن طول الإمهال ينبغي أن يكون سبباً للإنابة لا للاغترار بظن الإهمال : ( ثم أخذت ) أي بأنواع الأخذ ) الذين كفورا ) أي ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم ودعائهم لهم .
ولما كان أخذ(6/219)
صفحة رقم 220
من قص أخباره منهم عند العرب شهيراً ، وكان على وجوه من النكال معجبة ، سبب عنه السؤال بقوله : ( فكيف كان نكير ) أي إنكاري عليهم ، أي أنه إنكار يجب السؤال عن كيفية لهوله وعظمه ، كما قال القشيري : ولئن أصروا على سنتهم في الغي فلن تجد لسنتنا تبديلاً في الانتقام والخزي .
فاطر : ( 27 - 29 ) ألم تر أن. .. . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ( ( )
ولما كان من من أغرب الأشياء الدالة على تمام القدرة الدال على الوحدانية أن يكون شيء واحد سبباً لسعادة قوم وهداهم ، وشقاوة قوم وضلالهم وعماهم وكان ذلك ، امراً دقيقاً وخطباً جليلاً ، لا يفهمه حق فهمه إلا أعلى الخلائق ، ذكر المخاطب بهذا الذكر ما يشاهد من آيته ، فقال على طريق الإخبار في قوله : ( الله الذي أرسل الرياح ) ولفت القول إلى الاسم الأعظم دلالة على عظمة ما في حيزه : ( ألم تر أن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) أنزل من السماء ) أي التي لا يصعد إليها الماء ولا يستمسك يشابهه في مماثلة بعضه لبعض ، فلا قدرة لغيره سبحانه على تمييز شيء منه إلى ما يصلح لشيء دون آخر ولما كان أمراً فائتا لقوى العقول ، نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة فقال : ( فأخرجنا ) أي بما لنا من العظمة ) به ) أي الماء من الأرض ) ثمرات ) أي متعددة الأنواع ) مختلفاً ألوانها ) أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها ، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر .
ولما ذكر تنوع ما عن الماء وقدمه لأنه الأصل في التلوين كما أنه الأصل في التكوين ، أتبعه التلوين عن التراب الذي هو أيضاً شيء واحد ، فقال ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التأثر وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه : ( ومن ) أي ومما خلقنا من ) الجبال جدد ) أي طرائق وعلامات وخطوط متقاطعة ) بيض وحمر ((6/220)
صفحة رقم 221
ولعله عبر عنها بذلك دون طرق إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق ولا تضمحل ألوانها على طول الزمان كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده ، والجد بالفتح ، والجدة بالكشر ، والجدد بالتحريك : وجه الأرض ، وجمعه جدد بالكشر ، والجدة بالضم : الطريقة والعلامة والخط في ظهر الحمار يخالف لونه وجمعه جدد كغدة البعير ، والأرض الغليظة المستوية ، والجدجد بالفتح : الأرض المستوية .
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به ، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص : ( مختلف ألوانها ( وهي من الأرض وهي واحدة .
ولما قدم إلى الغبرة التي هي أصل لونها .
ولما كانت مادة ) غرب ( تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس ، ويلزم منه السواد ، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده ، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره ، قال تعالى عاطفاً على بيض : ( وغرابيب ) أي من الجدد أيضاً ) سود ( فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة ( وسود غرابيب سود ) فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع ، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما : أشد سواد الغرابيب - رواه عنه البخاري ، لأن السواد الخالص في الأرض ، مستغرب ، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره ، فتصير في غاية السواد ، وذلك في مدينة فوة ومسير وغيرهما مما داناهما من بلاد مصر .
ولما أكد هذا بما دل على خلوصه ، قدم ذكر الاختلاف عليه ، ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى آخر بعيد من الماء ، وأتبعه التراب الصرف ، ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال : ( ومن الناس ) أي المتحركين بالفعل والاختيار ) والدواب ( ولما كانت الدابة في الأصل لما دب على الأرض ، ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال : ( والأنعام ( ليعم الكل صريحاً ) مختلف ألونه ) أي ألوان ذلك البعض الذي أفهمته ( من ) ) كذلك ) أي مثل الثمار والأراضي فمنه ما هو ذو لون واحد ، ومنه ما هو ذو ألوان مع أن كل ما ذكر فهو من الأراضي متجانس الأعيان مختلف الأوصاف ، ونسبته إليها وإلى السماء واحدة فأين حكم الطبائع .(6/221)
صفحة رقم 222
ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل الاختيار ، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء ، ما يشاء فيجعل الشيء الواحد لقوم نوراً ولقوم عمى ، وكان ذلك مرغباً في خدمته مرهباً من سطوته سبحانه وتعالى وتقدس لكل ذي لب ، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب ، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية ، ولقوم أراد الله قسوتهم قسوة ، التفت النفس إلى طلب قانون يعرف به من يخشى ومن لا يخشى ، فقال على سبيل الاستنتاج من ذلك ، دفعاً لظن من يحسب أنه يمكن أن يكون ولي جاهلاً : ( إنما يخشى الله ) أي الذي له جميع الكمال ، ولا كمال لغيره إلا منه ، ودل على أن كل من سواه في قبضته وتحت قهره بقوله : ( من عباده ( ثم ذكر محط الفائدة وهو من ينفع إنذاره فقال : ( العلماء ) أي لا سواهم وإن كانوا عباداً وإن بلغت عبادتهم ما عسى أن تبلغ ، لأنه لا يخشى أحد أحداً إلا مع معرفته ، ولا يعرفه جاهل ، فصار المعنى كأنه قيل : إنما ينفع الإنذار أهل الخشية ، وإنما يخشى العلماء ، والعالم هو الفقيه العامل بعلمه ، قال السهرودي في الباب الثالث من عوارفه : فينتفي العلم عمن لا يخشى الله ، كما إذا قال : إنما يدخل الدار البغدادي ، فينتفي دخول البغدادي الدار هذا معنى القراءة المشهورة .
ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال ، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله ، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله ، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم ، كان هذا معنى القراءة الأخرى ، فكان قيل : إنما ينفع الإنذار من يجهل الله فالله يجله لعلمه ، وسئل شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بمصر محمد بن القاياتي عن توجيه هذه القراءة فأطرق يسيراً ثم رفع رأسه فقال :
أهابك إجلالاً وما بك قدرة عليّ ولكن مليء عين حبيبها
ولما ثبت بهذا السياق أنه سبحانه فاعل هذه الأشياء المتضادة ، علل ذلك ليفيد أن قدرته على كل ما يريد كقدرته عليه بقوله على سبيل التأكيد تنبيهاً على أنه سبحانه لا يعسر عليه شيء وأنه أهل لأن يخشى ولذلك أظهر الاسم الأعظم : ( إن الله ) أي المحيط بالجلال والإكرام ) عزيز ) أي غالب على جميع أمره .
ولما كان هذا مرهباً من سطوته موجباً لخشيته لإفهامه أنه يمنع الذين لا يخشون من رحمته ، رغبهم بقوله : ( غفور ( في أنه يمحو ذنوب من يريد منهم فيقبل بقلبه إليه وهو أيضاً من معاني العزة .
ولما تقرر هذا ، تشوف السامع إلى معرفة العلماء فكان كأنه قيل : هم الذين يحافظون على كتاب الله علماً وعملاً ، فقيل : فما لهم ؟ فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن من(6/222)
صفحة رقم 223
الكفار وغيرهم من العصاة أنهم من الخاسرين بما ضيعوا من عاجل دنياهم : ( إن الذين يتلون ) أي يجددون التلاوة كل وقت مستمرين على ذلك محافظين عليه كلما نزل من القرآن شيء وبعد كمال نزوله حتى يكون ذلك ديدنهم وشأنهم بفهم وبغير فهم ) كتاب الله ) أي الذي لا ينبغي لعاقل أن يقبل على غيره لما له من صفات الجمال والجلال ، ولما ذكر السبب الذي لا سبب يعادله ، ذكر أحسن ما يربط به ، فقال دالاً على المداومة بالتعبير بالإقامة وعلى تحقيق الفعل بالتعبير بالماضي : ( وأقاموا الصلاة ) أي وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر فناجوا الله فيها بكلامه .
ولما ذكر الوصلة بينهم وبين الخالق ، ذكر إحسانهم إلى الخلائق ، فقال دالاً على إيقاع الفعل بالتعبير بالماضي ، وعلى الدوام بالسر والعلن لافتاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده ، لا بحول أحد غيره ولا غيره : ( وأنفقوا مما رزقناهم ) أي بحولنا وقوتنا لا بشيء من أمرهم في جميع ما يرضينا ، ودل على مواظبتهم على الإنفاق وإن أدى إلى نفاد المال بقوله : ( سراً وعلانية ( وعبر في الأول بالمضارع لأن إنزالها كان قبل التمام وتصريحاً بتكرار التلاوة تعبداً ودراسة لأن القرأن كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشد تفلتا من الإبل في عقلها ) أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وفي الثاني والثالث بالماضي حثاً على المبادرة إلى الفعل ، وقد تحصل من هذا أنه جعل لفعل القلب الذي هو الخشية دليلاً باللسان وآخر بالإركان وثالثاً بالأموال .
ولما أحلهم بالمحل الأعلى معرفاً أنهم أهل العلم الذي يخشون الله ، وكان العبد لا يجب له على سيده شيء ، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الثاني التي هي أم النعم والنتيجة العظمى المقصودة بالذات : ( يرجون ) أي في الدنيا والآخرة ) تجارة ) أي بما عملوا ) لن تبور ) أي تكسد وتهلك بل هي باقية ، لأنها دفعت إلى من لا تضيع لديه الودائع وهي رائجة رابحة ، لكونه تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق .
فاطر : ( 30 - 32 ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم. .. . .
) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( ( )
ولما كان المراد بعدم هلاكها حفظها وبقاءها إلى يوم لقائه ، علله بقوله ، مقتصراً(6/223)
صفحة رقم 224
على الضمير لأن السياق للمؤمنين ، ولذا لفته إلى ضمير الغيبة لأن إيمانهم بالغيب ) ليوفيهم ) أي على تلك الأعمال ) ويزيدهم ) أي على ما جعله بمنه وبيمنه حقاً لهم عليها ) من فضله ) أي زيادة ليس فيها تسبب أصلاً ، بل سيء بعد ما منّ عليهم بما قابل أعمالهم به مما يعرفون أنه جزاءها مضاعفاً للواحد عشرة إلى ما فوق .
ولما كانت أعمالهم لا تنفك عن شائبة ما ، وإن خلصت فلم يكن ثوابها لأنها منّ منه سبحانه مستحقاً ، علل توفيتهم لها بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا يسع الناس إلا عفوه لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره وإن اجتهد ، ولو واخذ أعبد العباد بما يقع من تقصيره أهلكه ) إنه غفور ) أي بمحو النقص عن العمل ) شكور ) أي يقبله ويزيد عليه .
ولما كانت ترجمة الآية أن العلماء هم حملة الكتاب ، وبدأ سبحانه بأدنى درجاتهم ، وكان ذلك مما يرغب في الكتاب ، أتبعه ترغيباً هو أعلى منه ، فقال عاطفاً على قوله في تقرير الأصل الثاني الذي هو الرسالة
77 ( ) إنا أرسلناك بالحق ( ) 7
[ البقرة : 119 ] وأكده دفعاً لتكذيب المكذبين به : ( والذي أوحينا ) أي بما لنا من العظمة ) إليك ( وبين قدره بمظهر العظمة وقال مبيناً للوحي : ( من الكتاب ) أي الجامع لخيري الدارين .
ولما كان الكتاب لا يطرقه نوع من أنواع التغير لأنه صفة من لا يتغير قال : ( هو الحق ) أي الكامل في الثبات ومطابقة الواقع له لا غيره من الكلام ؛ وأكد حقيته بقوله : ( مصدقاً لما بين يديه ) أي من الكتب الماضية الآتي لها الرسل الداعون إلى الله المؤيدون بالبراهين الساطعة والادلة القاطعة .
ولما دل سبحانه على أن العلم هو الحقيقة الثابتة ، وما عداه فهو محو وباطل ، ودل على أن التالين لكتابه الذي هو العلم هم العلماء ، وغيرهم وإن كانوا موجودين فهم بالمعدومين أشبه ، ودل على أن الكتب الماضية وإن كانت حقاً لكنها ليست في كمال القرآن ، لأن الأمر ما دام لم يختم فالزيادة متوقعة فيه بخلاف ما إذا وقع الختم فإنه لا يكون بعده زيادة ترتقب ، وكان ربما تراءى لأحد في بعض المتصفين بذلك غير ذلك ، قال تعالى إعلاماً بأن العبرة بما عنده لا بما يظهر للعباد ، وأكده تنبيهاً على أن هذا المعنى مما تعقد عليه الخناصر وإن تراءى لأكثر الناس خلافه ، أظهر الاسم الأعظم لحاجة المخبرين هنا إليه لأنهم البر والفاجر : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان الإنسان أعلم بمن يربيه ولا سيما إن كان مالكاً له قال : ( بعباده لخبير ) أي عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم ) بصير ) أي بظواهر أمورهم وبواطنها أي فهو يسكن الخشية والعلم القلوب على ما أتوا من الكتاب في عمله(6/224)
صفحة رقم 225
وتلاوته وإن تراءى لهم خلاف ذلك ، فأنت أحقهم بالكمال لأنك أخشاهم وأتقاهم ، فلذلك آتيناك هذا الكتاب ، فأخشاهم بعدك أحقهم بعمله .
ولما كان معنى الوصفين : فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلا للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا ، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم ، قال عطفاً على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم ، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه ، وعبر في غير هذه الأمة
77 ( ) ورثوا الكتاب ( ) 7
[ الأعراف : 169 ] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين ، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك : وأورثناكه ثم أورثناه ، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن ( من ) في ) أوحينا إليك من ( للبيان فقال : ( الكتاب ) أي القرآن باتفاق المفسرين ، قال الأصفهاني - الجامع لكل كتاب أنزلنا ، فهو أم لكل خير ، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي : إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله ) الذين اصطفينا ) أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك ) من عبادنا ) أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم ، يعني أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) - نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقل عن ابن جرير أنه قال : الإرث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، فثم هنا للترتيب ، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان ، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط ، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون .
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان ، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم ، قال معرفاً به بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس ، ويصدع القلوب خوف البأس : ( فمنهم ) أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد ) ظالم لنفسه ) أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر ، وهذا القسم هم أكثر الوارث وهم المرجئون لأمر الله .(6/225)
صفحة رقم 226
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة ، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال : ( ومنهم مقتصد ) أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ) ومنهم سابق بالخيرات ) أي العبادات وجميع أنواع القربات ، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً ، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا ، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويؤيد هذا قول الحسن : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته .
وختم بالسابقين عقيب أهل القربات من الإعراب وأخر المرجين وعقبهم بأهل مسجد الضرار ، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً ، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله ، وهذا على تقدير عود الضمير في ) منهم ( على ) الذين ( لا على ) العباد ( وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هو التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر - وإن كانت ضعيفة - عن الصلاحية لتقوية ذلك ، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ) .
وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وقال ( أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ) ثم قرأ ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( .
وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلهم من هذه الأمة ) .
وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث حديث رضي الله عنه بغير سند : وروى(6/226)
صفحة رقم 227
الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال : كلهم في الجنة .
وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد .
وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، وقال قتادة : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابقون المقربون .
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجارى العادات ، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات ، أشار إلى عظمته بقوله : ( بإذن الله ) أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في اللوامع : ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته ، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره - انتهى - .
ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا ، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه : ( ذلك ) أي السبق أو إيراث الكتاب ) هو ( مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل ) الفضل الكبير ( .
فاطر : ( 33 - 38 ) جنات عدن يدخلونها. .. . .
) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ( )
ولما ذكر تعالى أحوالهم ، بين جزاءهم ومآلهم ، فقال مستانفاً جواباً لمن سأل عن ذلك : ( جنات ) أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل ، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها ، فكان كأنه هو الثواب ) عدن ) أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب(6/227)
صفحة رقم 228
للرحيل عنها ) يدخلونها ) أي الثلاثة أصناف ، ومن دخلها لم يخرج منها لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل ( الذين ) ومن قال ل ( عبادنا ) خص الدخول بالمقتصد والسابق - هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء ، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط ، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم ، فإذا دعوا إلى الجنة أبطؤوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر .
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال : ( يحلّون فيها ) أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي ) من أساور ( ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس ، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين ، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بفضل ما نعرف من الحلية ، فقال مبيناً لنوع الأساور : ( من ذهب ولؤلؤ ( ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر ، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين : ( ولباسهم فيها حرير ( ولما كان المقتصد والسابق يحزنون لكمالهم وشدة شفقتهم على الظالم إذا قوصص ، جمع فقال معبراً بالماضي تحقيقاً له : ( وقالوا ) أي عند دخولهم : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ) أي الذي لم تمام القدرة ) الذي أذهب ) أي بدخولنا هذا ) عنا الحزن ) أي هذا النوع بكماله ، فلا نحزن على شيء كان فاتنا ، ولا يكون لنا حزن أبداً لأنا صرنا في دار لا يفوت فيها شيء أصلاً ولا ينفى .
ولما كانوا عالمين بما اجترحوه من الزلات أو الهفوات أو الغفلات التي لولا الكرم لأدتهم إلى النار ، عللوا ما صاروا إليه معها بقولهم ، مؤكدين إعلاماً بما عندهم من السرور بالعفو عن ذنوبهم ، وأن ما أكدوه حقيق بأن يتغالى في تأكيده لما رأوا من صحته وجنوا من حلو ثمرته : ( إن ربنا ) أي المحسن إلينا مع إساءتنا ) لغفور ) أي محاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين ) شكور ) أي على ما وهبه للعبد من حسن طاعته ووفقه له من الأعمال الحسنة فجعله به سابقاً ، ثم وصفوه بما هو شكر له فقالوا : ( الذي أحلنا دار المقامة ) أي الإقامة ومكانها وزمانها التي لا يريد النازل بها على كثرة النازلين بها - ارتحالاً منها ، ولا يراد به ذلك ، ولا شيء فيها يزول فيؤسف عليه .
وكان المالك المطلق لا يجب عليه شيء ولا استحقاق لمملوكه عليه بوجه قال : ( من فضله ) أي بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منّاً منه سبحانه ، لو لم يبعثنا وييسرها لنا لما كانت .
ولما تذكروا ما شاهدوه في عرصات القيامة من تلك الكروب والأهوال ، والأنكاد(6/228)
صفحة رقم 229
والأثقال ، التي أشار إليها قوله تعالى : ( وإن تدع مثقلة إلى حملها ( الاية ، استأنفوا قولهم في وصف دار القرار : ( لا يمسنا ) أي في وقت من الأوقات ) فيها نصيب ) أي نصب بدن ولا وجع ولا شيء ) ولا يمسنا فيها لغوب ) أي كلال وتعب وإعياء وفتور نفس من شيء من الأشياء ، قال أبو حيان : هو لازم من تعب البدن .
فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها :
علينا لا تنزل الأحزان شاحتها لو مسحها حجر مسته سراء
ولما بيّن ما هم من النعمة ، بيّن ما لأعدائهم من النقمة ، زيادة في سرورهم بما قاسوه في الدنيا من تكبرهم عليهم وفجورهم فقال : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات ) لهم نار جهنم ) أي بما تجهموا أولياء الله الدعاء إليهم .
ولما كانت عادة النار إهلاك من دخلها بسرعة ، بيّن أن حالها على غير ذلك زيادة في نكالهم وسوء مآلهم فقال مستأنفاً : ( لا يقضى ) أي لا يحكم وينفذ ويثبت من حاكم ما ) عليهم ) أي بموت ) فيموتوا ) أي فيتسبب عن القضاء موتهم ، وإذا راجعت ما مضى في سورة سبحان من قوله
77 ( ) فلا يملكون كشف الضر عنكم ( ) 7
[ الأسراء : 56 ] وما يأتي إن شاء الله تعالى في المرسلات من قوله :
77 ( ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( ) 7
[ المرسلات : 36 ] علمت سر وجوب النصب هنا لأنه ثبوت المعجزة يستوي فيها المسع والبصر ، وبنى أبو عمرو الفعل للمفعول إشارة إلى سهولته وتيسره ورفع ) كل ( .
ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال : ( وهم ) أي فعل ذلك بهم والحال أنهم ) يصطرخون فيها ) أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح .
ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله : ( ربنا ) أي يقولون : أيها المحسن إلينا ) أخرجنا ) أي من النار ) نعمل صالحاً ( ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً ) غير ذلك كنا ) أي بغاية جهدنا ) نعمل ( فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت(6/229)
صفحة رقم 230
نفعه واستعلوه عند فواته فلم ينفعهم ، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً : ( أو لم ) أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى ؟ أو لم ) نعمركم ) أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ ) ما ) أي زماناً ) يتذكر فيه ( وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم ، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر .
ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء ، عبر الماضي فقال : ( من تذكر ( إعلاماً قد ختم على ديوان المتذكرين ، فلا يزاد فيهم أحد ، والزمان المشار إليه قيل : إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم ، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير إلى واحد ، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ) .
وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ) .
وأقلهم من يجوز ذلك .
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً ، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل ، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى : أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم : ( وجاءكم النذير ) أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول .
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال : ( فذقوا ) أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً ، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه ، تسبب عن ذلك قوله : ( فما ( وكان الأصل : لكم ، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال : ( للظالمين ) أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها ) من نصير ) أي يعينهم ويقوي أيديهم ، فلا براح لكم عن هذا الذواق ، وهذا عام في كل(6/230)
صفحة رقم 231
ظالم ، فإن من ثبت له نصر عليه ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم .
ولما كان سبحانه عالماً بما نفى وما أثبت ، علل ذكر مقرراً دوام عذابهم وأنه بقدر كفرانهم كما قال تعالى ) ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ( ) [ الشورى : 40 ] بقوله مؤكداً إشارة إلى أنه لا يجب تمرين النفس عليه لما له من الصعوبة لوقوف النفس مع المحسوسات : ( إن الله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) عالم الغيب ( ولما كانت جهة العلو أعرق في الغيب قال : ( السموات والأرض ( فأنتج ذلك قوله مؤكداً لأنه من أعجب الغيب لأنه كثيراً ما يخفى على الإنسان ما في نفسه والله تعالى عالم به ، أو هو تعليل لما قبله : ( إنه عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي قبل أن يعلمها أربابها حين تكون غيباً محضاً ، فهو يعلم أنكم لو مدت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً ، ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وأنه لا مطمع في صلاحكم ، ولذلك يأمر الملك أن يكتب عند نفخ الروح في الولد أنه ما شقي أو سعيد قبل أن يكون له خاطر أصلاً ، وربما كان في غاية ما يكون من الإقبال على الخير فعلاً ونية ، ثم يختم له بشر ، وربما كان على خلاف ذلك في غاية الفساد ، لا يدع شركاً ولا غيره من المعاصي حتى يرتكبها وهو عند الله سعيد لما يعلم من نيته بعد ذلك حين يقبل بقلبه عليه فيختم له بخير فيكون من أهل الجنة ، وأما الخواطر بعد وجودها في القلوب فقد يطلع عليها الملك والشيطان .
فاطر : ( 39 - 41 ) هو الذي جعلكم. .. . .
) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ( ( )
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به ، وإتقان صنعه يدل على تمام قدرة صانعه ، وتمام قدرته ملزوم لتمام علمه ، قال : ( هو ) أي وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم ) الذي جعلكم ) أي أيها الناس ) خلائف ( جمع خليفة ، وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به ، والخلفاء جمع خليف - قال الأصبهاني ، وقال القشيري : أهل كل عصر خليفة عمن تقدمهم ، فمن قوم هم لسلفهم جمال ، ومن قوم هم أراذل وأنذال ، الأفاضل زمانهم لهم محنة ، والأراذل هم لزمانهم محنة .(6/231)
صفحة رقم 232
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم ، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض ، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم ، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان ، وهم في الأصل قطعة يسيرة من ترابها فقال : ( في الأرض ) أي فيما أنتم فيه منها لا غيره تتصرفون فيه بما قدرتم عليه ، ولو شاء لم يصرفكم فيه ، فمن حقه أن تشكروه ولا تكفروه .
ولما ثبت أن ذلك نعمة منه ، عمرهم فيه مدة يتذكر فيه من تذكر ، تسبب عنه قوله : ( فمن كفر ) أي بعد علمه بأن الله هو الذي مكنه لا غيره ، واحتقر هذه النعمة السنية ) فعليه ) أي خاصة ) كفره ) أي ضرره .
ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور ، بيّن حاله بقوله مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له ) ولا ) أي والحال لأنه لا ) يزيد الكافرين ) أي المغطين للحق ) كفرهم ) أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهو راسخون فيه غير متمكنين عنه ، ولذا لم يقل : لا يزيد من كفر قد يكون كفره غير راسخ فيسلم ) عند ربهم ) أي المحسن إليهم ) إلا مقتاً ) أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار .
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها ، وكان ذكرها إنما هو تصوير له بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها ، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت ، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن ، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم الخسارة المالية تسفيلاً لهممهم زيادة في توبيخهم : ( ولا يزيد الكافرين ) أي العريقين في صفة التغطية للحق ) كفرهم إلا خساراً ) أي في الدنيا والآخرة في المال والنفس وهو نهاية ما يفعله الماقت بالممقوت .
ولما بيّن أنه سبحانه هو الذي استخلفهم ، أكد بيان ذلك عندهم بأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يضطرهم إلى الإعتراف به فقال : ( قل أرايتم ) أي أخبروني ) شركاءكم ( أضافهم إليهم لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه ، وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالشوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه ، ثم بين المراد من عدهم لهم شركاء بقوله : ( الذين تدعون ) أي تدعونهم شركاء ) من دون الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان التقدير : بأي شيء جعلتموهم شركاء في العبادة ، ألهم شرك في الأرض ، بنى عليه قوله مككراً لإشهادهم عجز شركائهم ونقص من عبدوه من دونه :(6/232)
صفحة رقم 233
) أروني ماذا ) أي الذي أو أي شيء ) خلقوا من الأرض ) أي لتصح لكم دعوى الشركة فيهم ، وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا ، ولعل استفهامهم عن رؤية شركائهم تنبيه على أنهم من الامتهان والحقارة بحيث يراهم كل من يقصد رؤيتهم ويعلم أنه لا خلق لهم ، والله تعالى ، بخلاف ذلك في كل من الأمرين ، مترد برداء الكبر محتجب بحجاب الجلال والعز ، وكل أحد يعلم أنه خالق لكل مخلوق ، فكيف يكون من لا يخلق كمن يخلق .
ولما نبههم بهذا الأمر الذي ساقه المعلم بأنه لا ينبغي لعاقل أن يدعي شركة لشيء حتى يعلم الشركة وإن جهل عين المشارك فيه ، قال مؤكداً لذلك موسعاً لهم في المجال ، زيادة في تبكيتهم على ما هم فيه من الضلال : ( أم لهم شرك ) أي وإن كان قليلاً ) في السموات ) أي أروني ما خلقوا في السماوات ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه ، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً مثله أولاً عليه .
ولما أتم التبكيت بالاستفهام عن المرئي ، أتبعه التوبيخ بالاستفهام عن المسموع ، مؤذناً بالالتفات إلى التكلم بمظهر العظمة بشديد الغضب فقال : ( أم آتيناهم ) أي الشركاء أو المشركين بهم لما لنا من العظمة ) كتاباً ) أي دالاً على انه من عندنا بإعجازه أو غير ذلك من البراهين القاطعة تثبت لهم شركة ) فهم ) أي المشركون ) علىبينة ) أي حجة ظاهرة ، وبينات - على القراءة الأخرى ، أي دلائل واضحات بما في ذلك الكتاب من ضروب البيان ) منه ) أي ذلك الكتاب على أنا أشركناهم في الأمر حتى يشهدوا لهم هذه الشهادة التي لا يسوغون مثلها في إثبات الشركة لعبد من عبيدهم في أحقر الأشياء فكيف يسوغونها في انتقاص الملك الذي لا خير عندهم إلا منه غير هائبين له ولا مستحين منه .
ولما كان التقدير : لم يكن شيء من ذلك فليسوا على بيان ، بل على غرور ، قال منبهاً لهم على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم مخبراً أنهم لا يقدرون على الإيتان بشيء مما به يطلبون وأنه ليس لهم جواب عما عنه يسألون ، وأكده لأجل ظنهم أن أمورهم في غاية الإحكام ، ) بل أن ) أي ما ) يعد الظالمون ) أي الواضعون للأشياء في غير مواضعها ) بعضهم بعضاً ) أي الأتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تشفع وتضر ولا تنفع ) إلا غروراً ( .
ولما بين حقارة الأصنام وكل ما أشركوا به النسبة إلى جلال عظمته ، وكانوا لا يقدرون على ادعاء الشركة في الخلق في شيء من ذلك ، وكان ربما أقدم على ادعائه(6/233)
صفحة رقم 234
معاند منهم أو من غيرهم ، وكان الناس قد توصلوا إلى معرفة شيء من التغيرات الفلكية كالشروق والغروب والخسوف ، وكانوا لا علم لهم بشيء من الزلازل والزوال ، قال مبيناً عظمته سبحانه بعد تحقير أمر شركائهم معجزاً مهدداً لهم على إقدامهم على هذا الافتراء العظيم مبيناً للنعمة بعدم المعاجلة بالهلاك ، وأكده لأن من الناس المكذوب به وهم المعطلة ، ومنهم من عمله - وإن كان مقراً - عمل المكذب وهو من ينكر شيئاً من قدرته كالبعث : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) يمسك السماوات ) أي على كبرها وعلوها ) والأرض ) أي على سعتها وبعدها عن التماسك على ما يشاهدون إمساكاً مانعاً من ) أن تزولا ) أي بوجه عظيمة وزلزلة كبيرة ، أو زوالاً لا تماسك معه لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته ، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق سبحانه .
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان ، أتبعه ما هو أبين منه ، فقال معبراً بأداة الإمكان : ( ولئن زالتا ) أي بزلزلة أو خراب ) إن ) أي ما ) أمسكهما ( وأكد استغراق النفي بقوله : ( من أحد ( ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل ، أثبت الجار فقال : ( من بعده ) أي بعد إزالته لهما ، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته ، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة .
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب ، وكان كأنه قيل : هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام ، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمته وكثرتهم مما لا تسعه العقول : ( إنه كان ) أي أزولاً وأبداً ) حليماً ) أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص ، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله : ( غفوراً ) أي محاء لذنوب من رجع إليه ، وأقبل بالاعتراف عليه ، فلا يعاقبه ولا يعاتبه .
فاطر : ( 42 - 43 ) وأقسموا بالله جهد. .. . .
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ( ( )(6/234)
صفحة رقم 235
ولما كان التقدير : فقالوا : إنا لا ندعي أنهم خلقوا شيئاً من السماوات ولا من الأرض ونحن مقرون بأنه لا يمسك السماوات والأرض إلا الله ، وإنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى ، كما كان يفعل آباؤنا ، ولولا أنه لهم على ذلك دليلاً ما فعلوه ، عطف عليه قوله مبيناً ضلالهم في تكذيبهم الرسل بعد ما ظهر من ضلالهم في إشراكهم بالمرسل وهو يمهلهم ويرزقهم دليلاً على حلمه مع علمه : ( وأقسموا ) أي كفار مكة ) بالله ) أي الذي لا عظيم غيره ) جهد أيمانهم ) أي بغاية ما يقدرون من الإيمان ، قال البغوي : لما بلغهم - يعني كفار مكة - أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم ، لو أتانا رسول لنكونن أهدى ديناً منهم .
ولما أخبر عن قسمهم ، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله : ( لئن جاءهم ( وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال : ( نذير ) أي من عند الله ) ليكونن ) أي الكفار ) أهدى ) أي أعظم في الهدى ) من أحدى ) أي واحدة من ) الأمم ) أي السالفة أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها ، قال أبو حيان : كما قالوا هو أحد الأحدين ، وهي إحدى الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل .
لأنهم أحد أذهاناً وأقوم لساناً وأعظم عقولاً ، وألزم لما يدعو إليه العقل ، واطلب لما يشهد بالفضل ، وأكدوا بالقسم لأن الناظر لتكذيب أهل العلم بالكتاب يكذبهم في دعوى التصديق قياساً أخروياً ، ودل على إسراعهم في الكذب بالفاء فقال : ( فلما جاءهم نذير ) أي على ما شرطوا وزيادة ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذين كانوا يشهدون أنه خيرهم مع كونه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم في كل خلق أماً وأباً ، وأمتنهم في كل مأثرة سبباً ) ما زادهم ) أي مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال ) إلا نفوراً ) أي لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ، ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق .
ولما كانوا قد جبلوا على الضلال ، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح ، علله بقوله : ( استكباراً ) أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم ) في الأرض ) أي التي من شأنها السفول والتواضع والخمول ) ومكر السيىء ) أي ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره ، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإطفاء نور الله ، وقراءة عبد الله ) ومكراً سيئاً ( يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته ، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بينة الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم ) ولا ( أي(6/235)
صفحة رقم 236
والحال أنه لا ) يحيق ) أي يحيط إحاطة لازمة ضارة ) المكر السيىء ) أي الذي هو عريق في السوء ) إلا بأهله ( وإن آذى غير أهله ، لكنه لا يحيط بذلك الغير ، وعن الزهري أنه قال : بلغنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه الاية ، ولا تبغوا باغياً يقول الله ) إنما بغيكم على أنفسكم ( ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله : ( ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ( ) .
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها ، قال مسبباً عن ذلك : ( فهل ينظرون ) أي ينتظرون ، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر ، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة ، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم .
ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له ، وكان الاستفهام إنكاريا ، فكان بمعنى النفي قال : ( إلا سنت الأولين ) أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم .
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس ، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق ، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره ، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله ، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم : ( فلن تجد ) أي اصلاً في وقت من الأوقات ) لسنت الله ) أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها ، وهي إهلاك العاصين وإنجاذ الطائعين ) تبديلاً ) أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له ) ولن تجد لسنت الله ) أي الذي لا أمر لأحد معه ) تحويلا ) أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه ، لأنه لا كفوء له ، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب ، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤا من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته .
فاطر : ( 44 - 45 ) أو لم يسيروا. .. . .
) أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ( ( )
ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله ، وأنكر ذلك عليهم ، وكان التقدير : ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير(6/236)
صفحة رقم 237
تخلف اصلاً في أن من كذب رسولاً أخذ ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم : ( أولم يسيروا ) أي فيما مضى من الزمان ) في الأرض ) أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق ) فينظروا ) أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله ) كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين ( ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان ، أثبت الجار فقال : ( من قبلهم ) أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل افعالهم فيكون حالهم كحالهم ، وهذا معنى يس
77 ( ) أنهم إليهم لا يرجعون ( ) 7
[ يس : 31 ] سواء كما يأتي إن شاء الله تعالى بيانه .
ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر بالأشدية في حملة حالية فقال : ( وكانوا ) أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا ) أشد منهم ) أي من هؤلاء ) قوة ( في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار .
ولما كان التقدير : فما أعجز الله أمر أمة منهم ، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم ، وما خاب له ولي ولا ربح ولا عدو ، عطف عليه قوله ، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير ، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف : ( وما كان الله ) أي الذي له جميع العظمة ؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله : ( ليعجزه ) أي مريداً لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى وأبلغ في التأكيد بقوله : ( من شيء ) أي قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله : ( في السماوات ) أي جهة العلو ، وأكد بإعادة النافي فقال : ( ولا في الأرض ) أي جهة السفل .
ولما كان منشأ العجز الجهل ، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية : ( إنه كان ) أي أزلاً وأبداً ) عليماً ) أي شامل العلم ) قديراً ) أي كامل القدرة ، فلا يريد شيئاً إلا كان .
ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء فيقولون : ما له لا يهلكنا ، علم أن التقدير : لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم ، فعطف عليه قوله إظهاراً للحكم مع العلم : ( ولن يؤاخذ الله ) أي بما له من صفات العلو ) الناس ) أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة .
ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما لا الاتصاف بهما ، بخلاف الذي هو سياق النحل فإنه ممنوع(6/237)
صفحة رقم 238
من الاتصاف وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح ، عبر هعنا بالكسب وفك الصدر ليخص ما وجد منه بالفعل فقال : ( بما كسبوا ) أي من جميع أعمالهم سواء كان حراماً أو لا ) ما ترك على ظهرها ) أي الأرض ) من دآبة ) أي بل كان يهلك الكل ، أما المكلفون فلأنه ليس في أعمالهم شيء يقدره سبحانه حق قدره ، لما لهم من النقص ولما له سبحانه من العلو والارتقاء والكمال ، وأما غيرهم فإنما خلقوا لهم ، والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم ، وذلك كما فعل في زمان نوح عليه السلام ، لم ينج ممن كان على الأرض غير من كان في السفينة ) ولكن ( لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش ، بل يحلم عنهم فهو ) يؤخرهم ) أي في الحياة الدنيا ثم في البرزخ ) إلى أجل مسمى ) أي سماه في الأزل لأنقضاء أعمارهم ثم لبعثهم من قبورهم ، وهو لا يبدل القول لديه لما له من الصفات التي هي أغرب الغريب عندكم لكونكم لا تدركونها حق الإدراك ) فإذا جاء أجلهم ) أي الفنائي الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله ، أو الإيجابي الإبقائي بعث كلاًّ منهم فجازاه بعمله من غير وهم ولا عجز .
ولما كانوا ينكرون ما يفمهه ذلك من البعث ، أكد فقال : ( فإن الله ) أي الذي له صفات الكمال الموجد بتمام القدرة وكمال الاختيار ) كان ( ولم يزل .
ولما كان السياق للكسب الذي هو أعم من الظلم قال : ( بعباده ( الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد أحد منهم بجميع ذواتهم واحوالهم ) بصيراً ) أي بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب منهم بالكسب ومن يستحق الثواب ، فقد انطبق آخرها كما ترى على أولها باستجماع صفات الكمال وتمام القدرة على كل من الإيجاد والإعدام للحيوان والجماد مهما أراد بالاختيار ، لما شوهد له سبحانه من الآثار ، كما وقع الإرشاد إليه بالأمر بالسير وبغيره وبما ختمت به السورة من صفة العلم على وجه أبلغ من ذكره بلفظه ، لما مضى في سورة طه من أن إحاطة العلم تستلزم شمول القدرة ، ولا تكون القدرة شاملة إلا إذا كانت عن اختيار ، فثبت حينئذ استحقاقه تعالى لجميع المحامد ، فكانت عنه سبحانه الرسالات الهائلة الجامعة للعزة والحكمة بالملائكة المجردين عن الشهوات وكل حظ إلى من ناسبهم من البشر بما غلب من جيش عقله على عساكر شهواته ونفسه ، حتى صار عقلاً مجرداً صافياً ، حاكماً على الشهوات والحظوظ قاهراً كافياً .
.. .. .(6/238)
صفحة رقم 239
( سورة يس )
وتسمى القلب والدافعة والقاضية والمعمة .
مقصودها إثبات الرسالة التي هي روح الوجود وقلب جميع الحقائق وبها قوامه وصلاحها للملارسل بها الذي هو خالصة المرسلين الذين هم قلب الموجودات كلها ذوات ومعاني إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض وهم قريش قلب العرب الذين هم فلب الناس ، بصلاحهم صلاحهم كلهم وبفسادهم فسادهم ، فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض ، وجل فائدة الرسالة إثبات اللوحدانية التي هي قلب الإعتقاد وخالصه وعموده للعزيز الرحيم ذي الجلال والإكرام ، وإنذار يوم الحجمع الذي به - مع ستره عن العيان الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق ، فهو قلب الأكوان ، وبه الصلاح أو الفساد للإنسان ، وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها : يس والقلب والدافعة والقاضية والمعمة ، وأما يس فسيأتي بيانه من جهة إشارته إلى سر كونها قلبا المشير إلى البعث الذي هو من أجل مقاصدها الذي به يكون صلاح القلب الذي به يكون قبول ما ذكر ، وأما الباقي فإن من اعتقد الرسالة كفته ودفعت عنه جميع مهمه ، وقضت له بكل خير ، وأعطته كل مراد ، وكل منها له أتم نظر إلى القلب كما لا يخفى ، والمعمة : الشاملة بالخير والبركة ، قال في القاموس : يقال : عمهم بالعطية وهو معم خير من خيره ، فقد لاج أن هذه السورة الشريعة لما كانت قلبا كان كل شيء فيها له نظر عميق إلى القلبية ) بسم الله ( الذي جل ملكه عن أن يحاط بمقداره ) الرحمن ( الذي جعل الإنذار بيوم الجمع رحمة عامة ) الرحيم ( الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه .
لما كان قلب كل شيء أبطن ما فيه وأنفس ، وكان قلب الإنسان غائبا عن الإحساس ، وكان مودعا من المعاني الجليلة والإدراكات الحفية والجلية ما يكون للبدن سببا في إصلاحه أو إفساده من إشقائه أن إبقائه ، وكان الساعة من عالم الغيب ، وفيها(6/239)
صفحة رقم 240
يكون انكشاف الأمور ، والوقوف على حقائق المقدور ، وبملاحقتها في إصلاح أسبابها تكون السعادة الأبدية ، وبالإعراض عنها وإفساد أسبابها تكون الشقاوة السرمدية ، وكانت قد بينت في هذه السورة بيانا لم يكن في غيرها بما وقع من التصريح في قلبها الذي هزو وسطها بنفختها المميتة لكل من على الأرض ) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ( الباعثة ) فإذا ه من الأجداث إلى ربهم ينسلون ( والتصريح بالمعاد الجسماني والاستدلال عليه بالدليل الذي نقل أبا نصر الفارابي - الذي وسم بأنه المعلم الثاني - كان يقول : وددت أن هذا العالم الرباني - يشير إلأى المعلم الأول أرسطو وقف على هذا القياس أن يقال : الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة ، وكل من أنشأ أو لمرة ، وكل من أنشأ شيئا وأحياه أول مرة فهو قادلا على إنشائه وإحيائه ثاني مرة ، ينتج أن الله قادر عل إنشاء العظام وإحيائها بعد فنائها ، فاختصت بذلكط عن باقي القرآن كانت قلبا له ، كما قالا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه : " لكل شيء قلب وقلب القرآن يس " ورواه أبو يعلى الموصلي - وهذا لفظه والإمام أحمدفي مسنديهما عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال " يس قلب القرآن لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، اقرؤوها على موتاكم " قال شيخنا الحافظ شهاب الدين البوصيري : وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البزار في مسنده - هذا ما هداني الله إليه ، وله الحمد من بيان السر في كونها قلبا ، ثم رأيت البرهان النسفي قال في تفسيره الذي هو مختصر التفسير الكبير للإمام الرازي في آخر السورة بعد أن ذكر الحديث : قال العزالي فيه : إن ذلك - أي كونها قلبا - لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعلت قلب القرآن لذلك ، واستسحنه الإمام المدقق المحقق فخر الدين الرازي ، ويمكن أن يقال : إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والحشر ، بأقوى البراهين فابتدأها ببيان الرسالة بقوله ) إنك لمن المرسلين ( ودليله ما قدمه عليها بقوله ) والقرآن الحكيم ( وما أخبره عنها بقوله ) لتنذر قوما ( وأنهاها ببيان الوحدانية والحشر بقوله ) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ( إشارة إلى التوحيد ، وقوله ) وإليه ترجعون ( إشارة إلى الحشر ، وليس في هذه(6/240)
صفحة رقم 241
السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائلها ، ومن حصل من القرآن أن هذا القدرلا فقد حصل نصيب فلبه ، وهو التصديق الذي بالجنان ، وأما الذي باللسان والذي بالأركان ففي غير هذه السورة ، فلما كان فيها أعمال القلب لاغير سماها قلبا ولهذا ورد عنه ( صلى الله عليه وسلم ) قراءتها عند رأس من دنا منه الموت ، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة والأعضاء الظاهرة ساقطة المنة ، لكن القلب يكون قد أقبل على الله ، ورجع عن كل ما سواه ، فيقرأ عند رأسه ما يزداد به قوة في قلبه ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة - انتهى. وفيه بعض تصرف ، وقوله " إن وظيفة اللسان والأركان ليس في هذه السورة منها شيء " ربما بعكر عليه قوله تعالى ) وما لي لا أعبد الذي فطرني ( ) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ( ) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ( والحديث الذي ذكره رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن معقل بن يسار رضي الله عنه رفعه " اقرؤوا يس على موتاكم " وأ " له ابن القطان وضعفه الدارقطني ، وأسند صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر وحده رضي الله عنه ، والإمام أحمد في مسنده عن صفوان بن عمرو قال : كانت المشيخة يقولون : إذا قرئت يس عند الميت خفف عنه بها. قال ابن حبان : المراد المحتضر. واستمد من هذا التصريح بالحشر كل ما انبث في القرآن من ذكر الآخرة الذي بمراعاته وإتقانه يكون صلاح جميع الأحوال في الدارين ، وبإهماله ونسيانه يكون فسادها فيهما - هذامع ما شاركت به غيرها مما جمعتهمن جميع معانيه المجموعة يفي الفاتحة من الأسماء الحسنى : الله والرب والرحمن والرحيم وملك يوم الدين الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، والأمر بالعبادة بسلوك الصراط المستقيم ، وتفضيل أهل النعيم وأهل الجحيم ، وإثبات الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنا : الوحدانية والحشر والرسالة التي هي قلب الوجود ، وبها صلاحه ، وهي ممدة لكل روح(6/241)
صفحة رقم 242
يكون به جياة هنيئة ، وهي مبدأ الصلاح كما أ ، البعث غايته ، وأن الخاتم لها إنسان عين الموجودات وقلبها ، فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده ، زمع جمع ما افتتحت به السورة من الحروف المقطعة المنثورة أول السورة عمادا للقرآن وسحذا للأذهان لصنفي المنقوطة والعاطلة ووصفي المجهورة والمهموسة .
يس : ( 1 - 6 ) يس
) يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( ( )
ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه ، وكانت الياء في نحو ذلك من حروف ( أبجد ) فإنها العاشرة منها والسين بذلك المحل من حروف أ ب ت ث فإنها الثانية عشرة منها ، وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة ، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف الجامع بين الصلابة والرقة الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة ، ونزل بلطافته عن قساوة الحجر الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد ، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت ليكون قابلاً مفيداً ، فيكون متخلفاً من صفات موجدة بالقدرة والاختيار اللذين دلت عليهما سورة الملائكة ، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه فيكون فيه شاهد من نفسه على الإعتقاد الحق في صانعه ، وكانت المهجورة أقوى فقدمت الياء لجهرها ، وكانتا - بعد اختلاف بالجهر والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر إلا بالإخبات الذي هو في معنى الهمس ، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة لئلا يكون إلى ربه بالهمس فتعادلتا ، ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار ، المنفية للصغار والكبار ، ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار ، امتثالاً لأمر الواحد القهار ، وكان مخرجهما من اللسان الذي هو قلب المخارج الثلاثة لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك ، وكانت الياء من وسطه والسين من طرفه ، وكان هذان المخرجان ، مع كونهما وسطاً ، مداراً لأكثر الحروف ، هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار ، قال تعالى : ( يس ( وإن كان المعنى : يا إنسان ، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها(6/242)
صفحة رقم 243
وسرها ولبابها ، وإن أريد : يا سيد ، فهو خلاصة من سادهم ، وإن أريد : يا رجل ، فهو خلاصة البشر ، وإن أريد : يا محمد ، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب الشر الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة وخيار وعين القلب ، وكأن من قال معناه محمد نظر إلى الإتحاد في عدد اسمه ( صلى الله عليه وسلم ) بالجمل بالنظر إلى اليمين في المشددة وعدد ) قلب ( وعدد اسمي الحرفين ، ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية ، فمبلغ عدده اثنا عشر .
ولما تقدم في الملائكة إثبات رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتهديد قومه على النفرة عنه ، وأن مرسله تعالى بصير بعباده ، عالم بما يصلحهم ومن يصلح منهم للرسالة وغيرها ، وكان مدار مادة ( قرأ ) - كما مضى في سورة الحجر - الجمع مع الفرق ، وكان ذلك أعلى مقامات السائرين إلى الله وهو وظيفة القلب ، عبر في القسم بقوله : ( والقرآن ( ووصفه بصفة القلب العازف فقال : ( الحكيم ) أي الجامع من الدلالة على العلم المزين بالعمل والإرشاد إلى العمل المحكم بالعلم .
ولما كان قد ثبت في سورة الملائكة أنه سبحانه الملك الأعلى ، لما ثبت له من تمام القدرة وشمول العلم ، وكان من أجلّ ثمرات الملك إرسال الرسل إلى الرعايا بأوامر الملك وردهم عما هم عليه مما دعتهم إليه النفوس ، وقادتهم إليه الشهوات والحظوظ ، إلى ما يفتحه لهم من الكرم ، ويبصرهم به من الحكم ، وكانت الرسالة أحد الأصول الثلاثة التي تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، وكانت هي المنظور إليها أولاً لأنها السبب في الأصلين الآخرين ، وكانوا قد ردوا رسالته نفوراً واستكباراً ، قال مقدماً لها تقديم السببعلى مسببه على وجه التأكيد البليغ مع ضمير الخطاب الذي لا يحتمل لبساً : ( إنك لمن المرسلين ) أي الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم ، فصاروا - بما وهبهم الله القدرة النورانية - كالملائكة الذين قدم في السورة الماضية أنهم رسله وفي عدادهم بما تخلقوا به من أوامره ونواهيه وجميع ما يرتضيه .
ولما كان الأنبياء عليهم السلام من نوره ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً ، فكانوا في الحقيقة إنما هم ممهدون لشرعه ، وكان سبحانه إنما أرسله ليتمم مكارم الأخلاق ، وكان قد جعل سبحانه من المكارم أن لا يكلم الناس إلا بما تسع عقولهم ، وكانت عدم المرسلين كما في حديث أبي أمامة الباهلي عن أبي ذر رضي الله عنهما عند أحمد في المسند ثلاثمائة وخمسة عشر ، وفيه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون(6/243)
صفحة رقم 244
ألفاً ، وهو في الطبراني الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر عدد الرسل فقط ، وكانت عقول العرب لا تسع بوجه قبل الإيمان أنهم منه ، أقسم سبحانه ظاهراً أنه منهم ورمزاً للأصفياء باطناً إلى أنهم منه ، بجعلهم عدد أسماء حروف اسمه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي رمز إليه بالحرفين أول السورة ، فكأنه قال : إنك يا ياسين الذي تأويله محمد الذي عدد أسماء حروفه بعددهم لأصلهم ، فصار رمزاً في رمز ، وكنزاً نفيساً داخل كنز ، وسراً من سر ، وبراً إلى بر ، وهو أحلى في منادمة الأحباب من صريح الخطاب ، ثم علق باسم المفعول قوله : ( على صراط ) أي طريق واسع واضح ) مستقيم ) أي أنت من هؤلاء الذين قد ثبت لهم أنهم عليه ، وهو الصراط المستقيم الأكمل المتقدم في الفاتحة لأنه لخواص المنعم عليهم ولقوله تعالى في حق موسى وهارون عليه السلام ) وهديناهما الصراط المستقيم ( فيكون تنوينه - يما أرشد إليه القسم والتأكيد - للتعظيم ، والمعنى أنهم قد ثبت لهم هذا الوصف العظيم وأنت منهم بما شاركتهم فيه من الأدلة ، فليس لأحد أن يخصك من بينهم بالتكذيب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بذلك بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه ، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاء ، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدركها ، واستولت عليها الغفلة فكانت قد جمدت عن معهود حراكها ، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات ، واصطفاه لإيضاح تلك البينات ، فقال تعالى ) يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ( ثم قال ) لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهو غافلون ( فأشار سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار ، ويبعثه التيقظ بالتذكار ؛ ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه وإن كان مسبباً عن الطبع وشر السابقة ) لقد حق القول على أكثرهم ( الآيات ؛ ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عند تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى : ( إنا نحن نحيي الموتى ( فكذلك نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل المكذبين مع بيان الأمر فقال ) واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ( - الآيات ، واتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال ) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ( الآية ، ثم قال ) وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ( إلى قوله : ( أفلا تشكرون ( ثم قال ) وآية لهم الّيل نسلخ منه النهار ( ) وكل في فلك يسبحون ( ثم قال ) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ( إلى قوله : ( إلى حين ( ثم(6/244)
صفحة رقم 245
ذكر إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة اعضائهم بأعمالهم ، ثم تناسجت الآية جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : ما هذا أرسل به ؟ كان كأنه قيل جوباً لمن سأل : هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو ) تنزيل ( أو حاله كونه تنزيل ) العزيز ) أي المتصف بجميع صفات الكمال .
ولما كانت هذه الصفة للقهر والغلبة ، وكان ذلك لا يكون صفة كمال إلا بالرحمة قال : ( الرحيم ) أي الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم بما يقيمهم على المنهاج الذي يرضاه لهم ، فهو الواحد الذي لا مثل له أصلاً لما قهر به من عزته ، وجبر به من رحمته .
نزل إليك وهو في جلالة النظم وجزالة القول وحلاوة السبك وقوة التركيب ورصانة الوضع وحكيم المعاني وإحكام المباني في أعلى ذرى الإعجاز ، وجعل إنزاله تدريجاً بحسب المصالح مطابقاً مطابقة أعجزت الخلائق عن أن يأتوا بمثلها ، ثم نظمه على غير ترتيب النزول نظماً أعجز الخلق عن أند يدركوا جميع المراد من بحور معانيه وحكيم مبانيه ، فكله إعجاز على ما له من أطناب وإيجاز .
ولما ذكر المرسَل والمرسَل به والمرسِل ؛ ذكر المرسَل له فقال : ( لتنذر قوماً ) أي ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة ) ما أنذر ) أي لم ينذر أصلاً ) آباؤهم ) أي الذين غيروا دين أعظم آبائهم إبراهيم عليه السلام ومن أتى بعدهم عند فترة الرسل .
ولما كان عدم الإنذار موجباً لاستيلاء الحظوظ والشهوات على العقل فيحصل عن ذلك الغفلة عن طريق النجاة قال : ( فهم ) أي بسبب زمان الفترة ) غافلون
) أي المعنى على ان ( ما ) مفعول ثان لتنذر : أي لتنذرهم الذي أنذره آباؤهم الذين كانوا قبل التغيير ، فإن هؤلاء غافلون عن ذلك لطول الزمان وحدوث النسيان .
يس : ( 7 - 11 ) لقد حق القول. .. . .
) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( ( )
ولما كان تطاول الإقامة على شيء موجباً للإلف له ، والإلف قتال لما يوجب من الإصرار على المألوف لمحبته ( وحبك للشيء ويصم ) قال جواباً لمن يتوقع الجواب عما أثمرته حالهم : ( لقد حق القول ) أي الكامل في بابه وهو إيجاب العذاب(6/245)
صفحة رقم 246
بملازمة الغفلة ) على أكثرهم فهم ) أي بسبب ذلك ) لا يؤمنون ) أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيئ .
ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة ، وكان ذلك أمراً عجباً ، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه - وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر - وأنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال ، فقال : ( إنا جعلنا ) أي بما لنا من العظمة ، وأكده لما لهم من التكذيب ) في أعناقهم أغلالاً ) أي من الظلمات الضلالات كل عنق غل ، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تنثر على الحديد فكاد يغطيه فصار - والعنق فيه - كأنه فيها وهي محيطة به .
ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب ، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال : ( فهي ) أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل ) إلى الأذقان ( جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ، فهي لذلك مانهة من مطاطأة الرأس .
ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر ، وكان تكبرهم في غير موضعه ، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال : ( فهم ) أي بسبب هذا الوصول ) مقمحون ( من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر ، وأصله من قولهم : قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة ، قال أبو حيان : ميتة أحدهم ليدفنها :
ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الرازي في اللوامع : والقمح : الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير ، وقال القزاز : والمقمح : الشاخص بعيينه الرافع رأسه .
أبو عمرو : والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء ، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح : أخذك الشيء في راحتك ثم تقمحه في فيك أي تبتلعه ، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة - انتهى .
وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لهم يتأخروا صلافة وتيهاً ، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن تقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه ، فهم ذلك كالبعير القامح ، إنما منعه من الماء(6/246)
صفحة رقم 247
مع شدة عطشه مانع عظيم أقمحه ، ولكنه خفي أمره فلم يعلم ما هو ، ولذلك بنى الاسم للمفعول إشارة إلى أنهم مقهورون على تفويت حظهم من هذا الأمر الجليل .
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال : ( وجعلنا ) أي بعظمتنا .
ولما كان المقصود حجبهم عن خير مخصوص ، وهو المؤدي إلى السعادة الكاملة لا عن كل ما ينفعهم ، أدخل الجار فقال : ( من بين أيديهم ) أي الوجه الذي يمكنهم علمه ) سداً ( .
ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال : ( ومن خلفهم ) أي الوجه الذي هو خفي عنهم ، وأعاد السد تأكيداً لإنكارهم ذلك وتحقيقاً لجعله فقال : ( سداً ) أي فصارت كل جهة يلتفت إليها منسدة ، فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ولا الخلوص إليه ، فلذلك قال : ( فأغشيانهم ) أي جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة ) فهم ) أي بسبب ذلك ) لا يبصرون ) أي لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم ببصر ظاهر وبصيرة باطنة أصلاً .
ولما منعوا بذلك حس البصر ، أخبر عن حس السمع فقال : ( وسواء ) أي مستو ومعتدل غاية الاعتدال من غير نوع فرق ؛ وزاد في الدلالة على عدم عقولهم بالتعبير بأداة الاستعلاء إيذاناً بأنهم إذا امتنعوا مع المستعلي كانوا مع غيره أشد امتناعاً فقال : ( عليهم ءأنذرتهم ) أي ما أخبرناك به من الزواجر المانعة من الكفر ) أم لم تنذرهم ( ثم بيّن أن الذي استوى حالهم فيه بما سببه الإغشاء عدم الإيمان ، فقال مستانفاً : ( لا يؤمنون ( ولما بيّن ما كان السبب المانع لهم من الإبصار ، علم أن السبب المانع من السمع مثله ، لأن المخبر عزيز ، فهو إذا فعل شيئاً كان على وجه لا يمكن فيه حيلة .
ولما أخبر أن الأكثر بهذه الصفة ، استشرف السامع إلى إمارة يعرف بها الأقل الناجي لأنه المقصود بالذات فقال جواباً له : ( إنما تنذر ) أي إنذاراً ينتفع به المنذر فيتأثر عنه النجاة ، فالمعنى : إنما يؤمن بإنذارك ) من اتبع الذكر ) أي أجهد نفسه في اتباع كل ما يذكر بالله من القرآن وغيره ويذكر به صاحبه ويشرف ) وخشي الرحمن ) أي خاف العام الرحمة خوفاً عظيماً ، ودل لفت الكلام عن مظهر العظمة إلى الوصف بالرحمانية على أن أهل الخشية يكفيهم في الاتعاظ التذكير بالإحسان ) بالغيب ) أي بسبب ما يخبر به من مقدوراته الغائبة لا سيما البعث الذي كان اختصاصها بغاية بيانه بسبب كونها قلباً من غير طلب آية كاشفة للحجاب بحيث يصير الأمر عن شهادة لا غيب فيه ، بل تجويزاً لما يجوز من انتقامه ولو بقطع إحسانه ، لما ثبت له في سورة فاطر من القدرة والاختيار ، ويخشاه أيضاً خشية خالصة في حال غيبته عمن يرائيه من الناس ، فهؤلاء هم الذين ينفعهم الإنذار ، وهو المتقون الذين ثبت في البقرة أن الكتاب هدى لهم ، وغيرهم لا(6/247)
صفحة رقم 248
سبيل إلى استقامته ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإنه ليس عليك إلا الإنذار ، إن الله عليم بما يصنعون ، فمن علم منه هذه الخشية أقبل به ، ومن علم منه القساوة رده على عقبه بما حال دونه من الغشاوة - والله الموفق .
ولما دل السياق على أن هذا نفع نفسه ، تشوف السامع إلى معرفة جزائه ، فقال مفرداً الضمير على النسق الماضي في مراعاة لفظ ( من ) دلالة على قلة هذا الصنف من الناس بأجمعهم في هذه السورة الجامعة بكونها قلباً لما تفرق في غيرها : ( فبشره ) أي بسبب خشيته بالغيب ) بمغفرة ) أي لذنوبه وإن عظمت وإن تكررت مواقعته لها وتوبته منها ، فإن ذلك لا يمنع الاتصاف بالخشية .
ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال : ( وأجر كريم ) أي دارّ عظيم هنيء لذيذ متواصل ، لا كدر فيه بوجه .
يس : ( 12 - 16 ) إنا نحن نحيي. .. . .
) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( ( )
ولما بين الأصل الثاني هو الرسالة واتبعها ثمرتها المختومة بالبشارة ، وكان الأصل الثالث في الإيمان - وهو البعث - سبباً عظيماً في الترقية إلى اعتقاد الوحدانية التي هي الأصل الأول ، وكان أكثر الخائفين مهه سبحانه مقتراً عليهم في دنياهم منغضة عليهم حياتهم ، علل هذه البشارة إعلاماً بأن هذا الأجر في هذه الدار بالملابس الباطنة الفاخرة من المعارف والسكينة والبركات والطمأنينة ، وبعد البعث بالملابس الطاهرة الزاهرة المسببة عن الملابس الدنيوية الباطنة الخفية من غير أهلها ، بشارة لهم ونذارة للقسم الذي قبلهم بقوله ، مقدماً للبعث لما ذكر من فائدته ، لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بعظمة ههذ المقاصد وبأنه لا يحمي لهؤلاء الخلص مع قلتهم ومباينتهم للأولين مع كثرتهم إلا من له العظمة الباهرة : ( إنا نحن ) أي بما لنا من العظمة التي لا تضاهى ) نحيي ) أي بحسب التدريج الآن وجملة في الساعة ) الموتى ) أي كلهم حساً بالبعث ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلم الإجمال ) ما قدموا ( من جميع أفعالهم وأحوالهم واقوالهم جملة عند نفخ الروح ) وآثارهم ) أي سنتهم التي تبقى من بعدهم صالح كانت أو غير صالحة ، ونجازي كلاً بما يستحق في الدار الآخرة التي الجزاء فيها لا ينقطع ، فلا أكرم منه إذا كان كريماً .
ولما كان ذلك ربما أوهم الاقتصار هلى كتابة ما ذكر من أحوال الآدميين أو(6/248)
صفحة رقم 249
الحاجة إلى الكتابة ، دل على قدرته على ما لا تمكن القدرة عليه لأحد غيره في أقل قليل مما ذكر ، فكيف بما فوقه ، فقال ناصباً عطفاً لفعليه وهي ( تكتب ) : ( وكل شيء ) أي من أمر الأحياء وغيرهم ) أحصيناه ) أي قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وكتبناه ) في إمام ) أي كتاب هو أهل لأن يقصد ) مبين ) أي لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال على أحد أراد علمه منه ، فلله ههذ القدرة الباهرة والعظمة الظاهرة والعزة القاهرة ، فالآية من الاحتباك : دل فعل الإحصاء على مصدره وذكر الإمام على فعل الكتابة .
ولما انتهى الكلام إلى هنا ، وكان مقصود السورة كما سلفت إثبات الرسالة لإنذار يوم الجمع ، وكان الإنذار غاية ، وكانت الغايات هي المقاصد بالذات ، وكانت غاية الإنذار اتباع الذكر ، فكان ذلك غاية الغاية ، كان الكلام على المتبعين أولى عليهم القول والكلام على اليوم المنذر به ، فلذلك ضرب المثل الجامع لذلك كله ، ومر إلى أن صور البعث تصويراً لم يتقدم مثله ، ثم عطف بآية الطمس وما بعدها على القسم المعرض ، ثم رجع إلى الكلام على الرسول والكتاب .
ولما دل سبحانه على ما له من القدرة الكاملة بالأفعال الهائلة من كل من الإماتة والإحياء الحسيين والمعنويين إبداء وإعادة ، وكان ضرب الأمثال بالمشاهدات ألصق شيء بالبال ، وأقطع للمراء والجدال ، وأكتشف لما يراد من الأحوال ، قال عاطفاً على ) فبشره ( مبيناً للأصل الثالث الذي هو الأول بالأصالة المقصود بالذات ، وهو التوحيد ، ضامّاً إليه الأصلين الاخرين ، ليكون المثل جامعاً ، والبرهان به واضحاً ساطعاً : ( واضرب لهم ) أي لأجلهم بشارة بما يرجى لهم عند إقبالهم ، ونذارة لما يخشى عليهم عند إعراضهم وإدبارهم ) مثلاً ) أي مشاهداً في إصرارهم عند إقبالهم ، ونذارة لما يخشى وصبره عليهم ولطفه بهم ، لأنا ختمنا على قلوبهم على الكفران مع قربهم منك في النسب والدار ، وفوز غيرهم لأنا نورنا قلوبهم مع البعد في النسب والدار بالإيمان وثمراته الحسان ، لأنهم يخشون الرحمن بالغيب ، ولا يثبتون على الغباوة والريب .
ولما ذكر المثل ، أبدل منه قوله : ( أصحاب القرية ( التي هي محل الحكمة واجتماع الكلمة وانتشار العلم ومعدن الرحمة .
ولما كان الممثل به في الحقيقة إنما هو إخبارها بأحوال أهلها لأنها وجه الشبه ، وكانت إخبارها كثيرة في أزمنة مديدة ، وعين المراد بقوله : ( إذ ( وهي بدل اشتمال من القرية مسلوخة من الظرفية .
ولما كان الآتي ناحية من بلد وإن عظم يعد في العرف آتياً لذلك البلد ، أعاد الضمير على موضع الرسالة(6/249)
صفحة رقم 250
تحقيقاً له وإبلاغاً في التعريف بمقدار بعد الأقصى فقال : ( جاءها ) أي القرية لإنذار أهلها ) المرسلون ) أي عن الله لكونهم عن رسوله عيسى عليه السلام أرسلهم بأمره لإثبات ما يرضيه سبحانه ونفي ما يكرهه الذين هم من جملة من قيل في فاطر إنهم جاؤوا بالبينات وبالزبر ، والتعريف إما لكونهم يعرفون القرية ويعرفون أمرها ، وإما لأنه شهير جداً فهم بحيث لو سألوا أحداً من أهل الكتاب الذين يعتنون بها اخبرهم به ، لأنه قد عهد منهم الرجوع إليهم بالسؤال ليبينوا لهم - كما زعموا - مواضع الإشكال .
ولما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى صراط المستقيم ، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية ، أبدل من قوله ) إذ جاءها ( تفصيلاً لذلك المجيء قوله ، مسنداً إلى نفسه المقدس لكونه أعظم في التسلية : ( إذ أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة .
ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال : ( إليهم اثنين ) أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالها إليهم كأن قالا : نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله ) فكذبوهما ) أي مع ما لهما من الآيات ، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا ، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور لما ذهب إلى قومه وسأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تكون آية فكانت نوراً في جبهته ، ثم سأل في غير وجهه فكانت في سوطه .
ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه ، وأعون على ما يراد منه ، سبب عن ذلك قوله حاذفاً المفعول لفهمه من السياق ، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له : ( فعززنا ) أي فأوقعنا العزة ، وهي القوة والشدة والغلبة ، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتذكيب فحصل ما أردنا من العزة - بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف ) بثالث ( أرسلناه بما أرسلناهما به ) فقالوا ) أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب ، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم : ( إنا إليكم ) أي لا إلى غيركم ) مرسلون قالوا ) أي أهل القرية : ( ما أنتم ) أي وإن زاد عددكم ) إلا ( ولما نقض الاستثناء النفي زال شبهة ما تلبس فزال عملها فارتفع قوله : ( بشرمثلنا ) أي فما وجه الخصوصية لكم(6/250)
صفحة رقم 251
في كونكم رسلاً دوننا ، ولما كان التقدير : فما أرسلتم إلينا بشيء ، عطفوا عليه قوله : ( وما أنزل الرحمن ) أي العام الرحمة ، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته تقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا ، وأعرقوا في النفي بقولهم : ( من شيء ( .
ولما كان الإيتان على ما ذكر محتملاً للغلط نحوه ، قالوا دافعين لذلك : ( إن ) أي ما ) أنتم إلا تكذبون ) أي حالاً ومآلاً ) قالوا ) أي الرسل : ( ربنا ) أي الذي لو لم يكن لنا وازع عن الكذب عليه إلا إحسانه إلينا لكان كافياً ) يعلم ) أي ولذلك يظهر على أيدينا الآيات ، ويحمينا ممن يكيدنا ، وهذه العبارة تجري مجرى القسم ، وكذا نحو ) شهد الله ( .
ولما واجهوهم بهذا التكذيب المبالغ في تأكيده زادوا في تأكيد جوابه فقالوا : ( إنا إليكم ) أي خاصة ) لمرسلون ( ما أتيانكم غلطاً ولا كذباً ، فالأول ابتداء أخبار ، وهذان جوابا إنكار ، فأعطى كلاًّ ما يستحق .
يس : ( 17 - 24 ) وما علينا إلا. .. . .
) وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما قرروا ذلك عندهم ، اتبعوه بدليله وبالإعلام بأن وبال التكذيب لا يحلقهم منه ضرر ، إشارة لهم إلى الإنذار من عذاب الملك الجبار فقالوا : ( وما علينا ) أي وجوباً من قبل من أرسلنا ، وهو الله تعالى الذي له الأمر كله ) إلا البلاغ المبين ) أي المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات وغيرها ، فلولا أنه يعلم لما أمكننا شيء من ذلك كما أن آلهتكم لما لم يكن لها علم لم يقدروا على بيان في أمرها بشيء ، وإذ قد ثبت علم مرسلنا برسالتنا فهو الشاهد لنا بما يظهر على أيدينا وكفى به شهيداً .
ولما كان حلول الصالحين بين الناس يكون تارة نعمة وأخرى نقمة باعتبار التصديق والتكذيب والإساءة والإحسان ، فكان قد حصل لهؤلاء الذين كذبوا هؤلاء الرسل بلاء لتكذيبهم لهم من جدب الأرض وصعوبة الزمان ، ونحو ذلك من الامتحان ، ذكر ما أثره ذلك عند أهل القرية فقال : ( قالوا ( ولما كانوا لما يرون عليهم من الآيات(6/251)
صفحة رقم 252
وظاهر الكرامات مما يشهد ببركتهم ويمن نقيبتهم إذا ذموهم توقعوا تكذيب الناس لهم ، أكدوا قولهم : ( إنا تطيرنا ) أي حملنا أنفسنا على الطيرة والتشاوم تطيراً ظاهراً - بما أشار إليه الإظهار بخلاف ما في النمل والأعراف ) بكم ( بنسبة ما حل بنا من البلاء إلى شومكم ، لأن عادة الجهال التيمن بما مالوا إليه ويسندون ما حل بهم من نعمة إلى يمنة والتشاوم بما كرهوه ، ويسندون ما أصابهم من نقمة إلى شومه ثم إنهم استأنفوا استئناف النتائج قولهم على سبيل التأكيد إعلاماً بأن ما أخبروا به لا فترة لهم عنه وإن كان مثلهم مستبعداً عند العقلاء : ( لئن لم تنتهوا ) أي عن دعائكم هذا ) لنرجمنكم ) أي لنشتمنكم أو لنرمينكم بالحجارة حتى تنتهوا أو لنقتلنكم شر قتلة .
ولما كان الإنسان قد يفعل ما لا يؤخذ أثره فقالوا معبرين بالمس دون الإمساس : ( وليمسنكم منا ) أي عاجلاً لا من غيرنا كما تقولون أنتم في تهديدكم إيانا بما يحل بنا ممن أرسلكم : ( طائركم ) أي شومكم الذي أحل لكم البلاء ) معكم ( وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم .
ولما كان لم يبد منهم ما يقتضي عند النظر الصحيح التيمن والبركة ، وهو التذكير بالله الذي بيده الخير كله ، أنكروا عليهم تطيرهم منهم على وجه مبين أنه لا سبب لذلك غيره فقالوا : ( أئن ذكرتم ) أي الأجل إن حصل لكم تذكير بالله تطيرتم بنا ؟ ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه ، أضربوا عنه منبهين لهم على أن موضع الشوم إسرافهم لا غير فقالوا : ( بل ) أي ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير سبب للتطير بل ) أنتم قوم ) أي غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون ) مسرفون ) أي عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك .
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله ، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى ، فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد ، ويضل القريب فيهما إن شاء ، وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب ، قدم مكان المجيء على فاعله بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال : ( وجاء من أقصا ) أي أبعد - بخلاف ما مر في سورة القصص ؛ ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية كما تقدم وقال : ( المدينة ( لأنها أدل على الكبر المستلزم لبعد الأطراف وجمع الأخلاط .
ولما بين الفاعل بقوله : ( رجل ( بين اهتمامه بالنهي عن المنكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله : ( يسعى ) أي يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدوحرصاً على نصيحة قومه .
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إيتانه ، بينه قوله : ( قال ( واستعطفهم بقوله : ( يا قوم ( وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله : ( اتبعوا المرسلين ) أي في عبادة الله وحده(6/252)
صفحة رقم 253
وكل ما يأمرونكم به ؛ ثم نبههم على الداعي إلى اتباعخم والمانع من الإعراض عنهم بقوله ، معداً الفعل دلالة على شدة اهتمامه به : ( اتبعوا ) أي بغاية جهدكم ) من لا يسئلكم ) أي في حال من الأحوال ) أجراً ( ولما كان أفرد الضمير نظراً إلى لفظ ( من ) دلالة على وجوب الاتباع لمن اتصف بهذا الأمر الدال على الرسالة وإن كان واحداً ، جمع بياناً للأولوية بالتظافر والتعاضد والاتفاق في الصيانة والبعد عن الدنس ، الدال على اتحاد القصد الدال على تحتم الصدق فقال : ( وهم مهتدون ) أي ثابت لهم الاهتداء لا يزايلهم ، ما قصدوا شيئاً إلا أصابوا وجه صوابه ، فتفوزوا بالدين الموجب للفوز بالآخرة ، ولا يفوتكم شيء من الدنيا ، فأتى بمجاميع الترغيب في هذا الكلام الوجيز .
ولما أفهم السياق أنه قال : فإني اتبعتهم في عبادة الله ، بنى عليه قوله جواباً لمن يلومه على ذلك وترغيباً فيما اختاره لنفسه وتوبيخاً لمن يأباه : ( وما ) أي وأي شيء ) لي ( في أني ) لا أعبد الذي فطرني ) أي وإليه أرجع ، فله مبدئي ومعادي ، وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ) وإليه ) أي لا لما دل عليه ثانياً ، وإنكاره عليهم ثانياً بما دل عليه أولاً من إنكاره على نفسه استجلاباً لهم بإظهار الإنصاف ، والبعد عن التصريح بالخلاف ، وفيه تنبيه لهم على موجب الشكر ، وتهديد على ارتكاب الكفر .
ولما أمر صريحاً ونهى تلويحاً ، ورغب ورهب ، ووبخ وقرع ، وبين جلالة من آمن به ومن كانوا سبباً في ذلك ، أنكر على من يفعل غيره بالإنكار على نفسه ، محقراً لمن عبدوه من دون الله وهو غارقون في نعمه ، فقال مشيراً بصيغة الافتعال إلى أن ذلك مخالفة للفطرة الأولى : ( ءأتخذ ( وبين علو رتبته سبحانه بقوله : ( من دونه ) أي سواء مع دنو المنزلة ؛ وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال : ( آلهة ( ثم حقق ذلك بقوله مبيناً بأداة الشك أن النفع أكثر من الضر ترغيباً فيه سبحانه : ( إن يردن ( إرادة خفيفة بما أشار إليه حذف الياء ، أو شديدة بما أشار إليه إثباتها ، ظاهرة بما دل تحريكها ، أو خفية بما نبه عليه إسكانها .
ولما ذكرهم بإبداعه سبحانه له إرشاداً إلى أنهم كذلك ، صرح بما يعمهم فقال : ( الرحمن ) أي العام النعمة على كل مخلوق من العابد والمعبود ، وحذرهم بقوله : ( بضر ( وأبطل أنهى ما يعتقدونه فيها بقوله : ( لا تعن عني ) أي وكل أحد مثلي في هذا ) شفاعتهم ( وأبطل ما يعتقدونه فيها بقوله : ( لا تغن عني ) أي وكل أحد مثلي في هذا ) شفاعتهم ) أي لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد ) شيئاً ( من إغناء .
ولمادل بإفراد الشفاعة على عدهم عدما ولو اتحدت شفاعتهم وتعاونهم في آن(6/253)
صفحة رقم 254
واحد ، دل بضمير الجميع على أنهم كذلك سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين فقال : ( ولا ينقذون ) أي من مصيبته إن دعا الأمر إلى المشاققة بما أراد فأنه بمجرد إرادته يكون مراده ، إنفاذاً ضعيفاً - بما أشار إليه من حذف الياء ، ولا شديداً - بما دل عليه من أثبتها ظاهراً خفياً ، ثم استأنف ما يبين بعد ذلك عن فعل العقلاء الناصحين لأنفسهم بقوله مؤكداً له بأنواع التأكيد لأجل إنكارهم له بعدم رجوعهم عن معبوداتهم : ( إني إذاً ) أي إذا فعلت ذلك الاتخاذ ) لفي ظلال ) أي محيط بي لا أقدر معه على نوع اهتداء ) مبين ) أي واضح في نفسه لمن لم يكن مظروفاً له ، موضح لكل ناظر ما هو فيه الظلام .
يس : ( 25 - 29 ) إني آمنت بربكم. .. . .
) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( ( )
ولما أقام الأدلة ولم يبق لأحد تخلف عنه علة ، صرح بما لوح إليه من إيمانه ، فقال مظهراً لسروره بالتأكيد وقاطعاً لما يظنونه من أنه لا يجترئ على مقاطعتهم كلهم بمخالفتهم في أصل الدين : ( إني آمنت ) أي أوقعت التصديق الذي لا تصديق في الحقيقة غيره بالرسل مؤمناً لهم من أن أدخل عليهم نوع تشويش من تكذيب أو غيره .
ولما أرشدهم بعموم الرحمانية تلويحاً ، صرح لهم بما يلزمهم شكره من خصوص الربوبية والرحمانية والإبداع ، وزاد في مصارحتكم إظهاراً لعدم المبالاة بهم بقوله : ( فاسمعون ( أس سماعاً إن شئتم أشعتموه ، وإن شئتم كتمتموه - بما دل ةعليه حذف الياء وإثباتها ، فلا تقولوا بعد ذلك : ما سمعناه ، ولو سمعناه لفعلنا به .
فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلون ، وقد أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن مثل صاحب يس هذا في هذه الأمة عروة بن مسعود الثقفي حيث بادى قومة الإسلام ، ونادى على عليته بالأذان ، فرموه بالسهام فقتلوه .
ولما كان من المعلوم - بما دل عليه من صلابتهم في تكذيبهم الرسل وتهديدهم مع ما لهم من الآيات - أنهم لا يبقون هذا الذي هو من مدينتهم وقد صارحهم بما إن أغضوا عنه فيه انتقض عليهم أكثر أمرهم ، لم يذكره تعالى عدّاً له عداد ما لا يحتاج إلى ذكره ، وقال جواباً لمن تشوف إلى علم حاله بعد ذلك بقوله إيجازاً في البيان ترغيباً(6/254)
صفحة رقم 255
لأهل الإيمان : ( قيل ) أي له بعد قتلهم إياه ، فنباه للمفعول وحذفه لأن المقصود القول لا قائله والمقول له معلوم : ( ادخل الجنة ( لأنه شهيد ، والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت .
ولما كان الطبع البشري داعياً إلى محبة الانتقام ممن وقع منه الأذى بين سبحانه أن الأصفياء على غير ذلك الحال ، فقال مستأنفاً : ( قال يا ليت قومي ) أي الذين فيهم قوة لما يراد منهم ، فلو كانت قوتهم على الكفار لكانت حسنة ) يعلمون ( ولما أريد التصريح بوقوع الإحسان إليه ، حل المصدر إلى قوله : ( بما غفر لي ) أي أوقع الذي أحسن إلي في الأخرى بعد إحسانه في الدنيا ) وجعلني ( ولما كان الأنس أعظم فوز ، عدل عن أن يقول ( مكرماً ) إلى قوله : ( من المكرمين ) أي الذين أعطاهم بإكرامه العلى بقطعهم جميع اعمارهم في العبادة ، فنصح لقومه حياً وميتاً يتمنى علمهم بإكرامه تعالى له ليعلموا مثل عمله فينالوا ما ناله ، وفي قصته حث على المبادرة إلى مفارقة الأشرار واتباع الأخيار ، والحلم عن أهل الجنة إلا برحمة الله وإن كان محسناً ، وهذا كما وقع للأنصار رضي الله عنهم في المبادرة إلى الإيمان مع بعد الدار والنسب ، وفي قول من استشهد منهم في بئر معونة - كما رواه البخاري في المغازي عن أنس رضي الله عنه : بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ، وفي غزوة أحد كما في السيرة وغيرها لما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال تبارك وتعالى : فأنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ( الآيات في سورة آل عمران ، وفي التمثيل بهذه القصة إشارة إلى أن في قريش من ختم بغيرهم لتظهر قدرته وليستوفي الآجال أولئك ، ثم يقبل بقلوب غيرهم ، فتظهر مع ذلك حكمته - إلى غير ذلك من ينابيع المعاني ، وثابت المباني .
ولما كان سبحانه قد جعل أكثر جند هذا النبي الكريم من الملائكة فأيده بهم في حالتي المسمالمة والمصادمة وحرسه ممن أراده في مكة المشرفة وبعدها بهم ، ذكره ذلك(6/255)
صفحة رقم 256
بقوله عاطفاً على ما تقديره : وما أنزلنا على قومه قبل قتلهم له من جند من السماء يحول بينهم وبين ذلك كما فعلنا بك إذ أراد أبو جهل قتلك بالصخرة وأنت ساجد عند البيت وغيره بغير ذلك مما هو مفصل في السير ، وأما بعد الهجرة ففي غزوة الأحزاب إذ أرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً ردتهم خائبين ، وفي غزوة أحد وبدر وحنين وغير ذلك : ( وما أنزلنا ( بما لنا من العظمة ) على قومه ) أي صاحب يس ) من بعده ) أي بعد قتله ، وأعرق في النفي بقوله : ( من جند ( وحقق المراد بقوله : ( من السماء ) أي لإهلاكهم ، وحقق أن إرسال الجنود السماوية أمر خص به ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لحكم ترجع إلى النصرة بغير الاستئصال فإنهم يتبدون في صور الآدميين ويفعلون أفعالهم ، وأما عذاب الاستئصال فإن السنة الإلهية جرت بأنه لا يكون بأكثر من واحد من الملائكة لأنه أدل على الاقتدار ، فلذلك قال تعالى : ( وما كنا منزلين ) أي ما كان ذلك من سنتنا ، وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير ) إن ) أي ما ) كانت ) أي الواقعة التي عذبوا بها ) إلا صيحة ( صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم ؟ وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله : ( واحدة ) أي لحقارة أمرهم عندنا ، ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله : ( فإذا هم خامدون ) أي ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت لهم حركة يوماً من الدهر ، ومن المستجاد في هذا قول أبي العلاء أحمد ابن سليمان المعري :
وكالنار الحياة فمن رماد أواخرها وأولها دخان
يس : ( 30 - 33 ) يا حسرة على. .. . .
) يحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( ( )
ولما أخبر عنهم سبحانه بما هو الحق من أمرهم ، ورغبهم بما ضرب لهم من المثل ورهبهم ولم ينفعهم ذلك ، أنتج التأسيف عليهم وعلى الممثل بهم ومن شأبههم فقال تعالى : ( يا حسرة ) أي هذا الحال مستحق لملازمة حسرة عظيمة ) على العباد ( فكأنه قيل لها : تعالى فهذا من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها ، فإن هؤلاء أحقاء بأن يتحسر عليهم ، والحسرة : شدة الندم على ما فات ، فأحرق فقده وأعيى أمره ، فلا حيلة في رده ، ويجوز أن يكون المعنى أن العباد - لكثرة ما يعسكون من أعمالهم - لا تفارقهم أسباب الحسرة ولا حاضر معهم غيرها ، فلا نديم لهم إلا هي ، ولا مستعلي عليهم وغالب لهم سواها .
ولما كان كأنه قيل : أيّ حال ؟ قال مبيناً له ومعللاً للتحسر بذكر سببه : ( ما(6/256)
صفحة رقم 257
يأتيهم ( وأعرق في النفي والتعميم بقوله : ( من رسول ) أي رسول كان في أيّ وقت كان ) إلا كانوا به ) أي بذلك الرسول ) يستهزءون ) أي يوجدون الهزء ، والرسل أبعد الخلق من الهزء حالاً ومقالاً وفعالاً ، ومن الواضح أن المستهزئ بمن هذا حاله هالك فهو جدير بملازمة الحسرة وأن يتحسر عليه .
ولما أتم سبحانه الخبر عن أول أمر الممثل بهم وأول أمر المؤمن بهم وآخره ، وأذن هذا التحسر بأن هلاك المكذبين أمر لا بد منه ، دل عليه معجباً عن عدم نظرهم لأنفسهم ومهددالً للسامعين منهم ، ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله : ( ألم يروا ) أي يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار : ( كم أهلكنا ( على ما لنا من العظمة ، ودل قوله : ( قبلهم ( - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم ، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم ، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد : انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال : ( من القرون ) أي الكثيرة الشديدة الضخمة ، والقرن - قال البغوي : أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ) أنهم ) أي لأن القرون .
ولما كان المراد من رسول ليس واحداً بعينه ، وكانت صيغة فعول كفعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، أعاد الضمير للجميع فقال : ( إليهم ) أي إلى الرسل خاصة من حيث كونهم رسلاً ) لا يرجعون ) أي عن مذاهبهم الخبيثة ، ويخصون الرسل بالاتباع فلا يتبعون غيرهم اصلاً في شيء من الأشياء الدينية أو الدنيوية فاطردت سنتنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً في أنه كلما كذب قوم رسولهم أهلكناهم ونجينا رسولهم ومن تبعه ، أفلا يخاف هؤلاء أن نجريهم على تلك السنة القديمة القويمة ف ( إن ) تعليلية على إرادة حذف لام العلة كما هو معروف في غير موضع ، وضمير ) أنهم ( للمرسل إليهم ، وضمير ) إليهم ( للرسل ، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم ، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع ، و ) يرجعون ( هنا نحو قوله تعالى ) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) [ السجدة : 21 ] أي عن طرقهم الفاسدة - وهذا معنى الآية بغير شك ، وليس بشيء قول من قال : المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك ، ولو سلم لم يحسن ، لأن السياق ليس له ، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء ، فأنكر عليهم(6/257)
صفحة رقم 258
استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه ، أطرد ذلك من سنته ولم يختلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم ، لم يتخلف في واحدة منهم ، وكلهم تعرف العرب أخبارهم ، وينظرون آثارهم ، وكذا ير هؤلاء كثرة من اهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل ، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم ؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن ، وقالوا : إنها استئنافية ، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال : لم أهلكهم ؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب ، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه ، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له : ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك ، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه ، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط ، وذلك أكف له من أن يقال له : ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم ، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره ، فإن هذا أمر معلوم له ، غير مجدد فائدة ، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها ، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً ، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن ، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب .
ولما كان كثير من أهل الجهل وذوي الحمية والأنفة لا يبالون بالهلاك في متابعة الهوى اعتماداً على أن موتة واحدة في لحظة يسيرة أهون من حمل النفس على ما لا تريد ، فيكون لهم في كل حين موتات ، أخبر تعالى أن الأمر غير منقض بالهلاك الدنيوي ، بل هناك من الخزي والذل والهوان والعقوبة والإيلام ما لا ينقضي أبداً فقال : ( وإن كل ) أي وإنهم كلهم ، لا يشذ منهم أحد ، وزاد في التأكيد لمزيد تكذيبهم بقوله : ( لما ( ومن شدد ) لما ( فالمعنى عنده ( وما كل منهم إلا ) وأشار إلى أنهم يأتون صاغرين راغمين في بحال التخلف عن الانتصار عليه فقال : ( جميع ( وأشار إلى غرابة الهيئة التي يجتمعون عليها بقوله : ( لدنيا ( وزاد في العظمة بإبرازه في مظهرها ، وعبر باسم الفاعل المأخوذ من المبني للمفعول جامعاً نظراً إلى معنى ) كل ( لأنه أدل على الجمع في آن واحد وهو أدل على العظمة : ( محضرون ) أي في يوم القيامة(6/258)
صفحة رقم 259
بعد بعثهم بأعيانهم كما كانوا في الدنيا سواء ، إشارة إلى أن هذا الجمع على كراهة منهم وإلى أنه أمر ثابت لازم دائم ، كأنه لعظيم ثباته لم يزل ، وأنه لا بد منه ، ولا حيلة في التفصي عنه ، وأنه يسير لا توقف له غير الإذن ، فإذا أذن فعله كل من يؤمر به من الجنود كائناً من كان ، وما أحسن ما قال القائل :
ولو أنا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شي ولما أتم ضرب المثل المفيد لتمام قدرته على الأفعال الهائلة ببشارة ونذارة حتى أن من طبع على قلبه فهو لا يؤمن وإن كان قريباً في النسب والدار ، ومن أسكن قلبه الخشية يؤمن وإن شط به النسب والمزار ، فتم التعريف بالقسم المقصود بالذات وهو من يتبع الذكر ، وختم بالبعث وكانوا له منكرين ، وكان قد جعله في صدر الكلام من تمام بشارة من اتبع الذكر ، دل عليه بقوله مبتدئاً بنكرة تنويها دال على تعظيمها : ( وآية ) أي علامة عظمية ) لهم ( على قدرتنا على البعث وإيجادنا له ) الأرض ) أي هذا الجنس الذي هم منه ؛ ثم وصفها بما حقق وجه الشبه فقال : ( الميتة ( التي لا روح لها لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفني فتفتت وصار تراباً أو لم يكن بها شيء أصلاً .
ثم استأنف بيان كونها آية بقوله : ( أحييناها ) أي باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله .
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال : ( وأخرجنا منها حباً ( ونبه تعالى على عظيم القدرة فيها وعلى عموم نفعها بمظهر العظمة ، وزاد في التنبيه بالتذكير بأن الحب معظم ما يقيم الحيوان فقال مقدماً للجار إشارة إلى عد غيره بالنسبة إليه عدماً لعظيم وقعه وعموم نفعه بدليل أنه متى قل جاء القحط ووقع الضرر : ( فمنه ) أي بسبب هذا الإخراج ) يأكلون ) أي فهو حب حقيقة يعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا يقدرون على أن يدعوا أن ذلك خيال سحري بوجه ، وفي هذه الآية وأمثالهم حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله وكماله ، وقد أنشد هنا الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في تفسيره في عيب من أهمل ذلك فقال :
يا من تصدر في دست الإمامة في مسائل الفقه إملاء وتدريسا غفلت عن حجج التوحيد تحكمها شيدت فرعاً وما مهدت تأسيسا
يس : ( 34 - 38 ) وجعلنا فيها جنات. .. . .
) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا(6/259)
صفحة رقم 260
تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) 73
( ) 71
ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة ، ودل السياق فيه على الحصر ، أتبعه ما بين المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه ، فقال دالاً على عظمه بمظهر العظمة : ( وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) فيها ) أي الأرض ) جنات ) أي بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة .
ولما كان النخل - ما ما فيه من النفع - زينة دائماً بكونه لا يسقط ورقه ، قدمه وسماه باسمه فقال : ( من نخيل ( وفيه أيضاً إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وجماراً وبسراً ورطباً وتمراً ، ولذلك - والله أعلم - أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون ، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائماً قال : ( وأعناب ( ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك .
ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء ، وكان إلا بالماء ، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل ، فكان فوارنه إلى جهة العلو أمراً باهراً للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال : ( وفجرنا ) أي فتحنا تفتيحاً عظيماً ) فيها ( ودل على تناهي عظمته وتعالبها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله : ( من العيون ( والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء ، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء ، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالباً على الأرض ، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعاً للسكن ، ولو شاء لفجر الأرض عيوناً كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها .
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي الماء ، أشار إلى ذلك بقوله : ( ليأكلوا من ( وأشارت قراءة حمزة والكسائي بصيغة الجمع مع إفراد الضمير إلى أن الشجرة الواحدة تجمع بالتطعيم أصنافاً من الثمر ) ثمره ) أي من ثمر ما تقدم ، ولولا الماء لما طلع ، ولولا أنه بكثرة لما أثمر بعد الطلوع .
ولما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء ، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسبباً ، ونبه على أن الكل بخلقه فقال : ( وما عملته ) أي ولم تعمل شيئاً من ذلك ) أيديهم ) أي عملاً ضعيفاً - بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه(6/260)
صفحة رقم 261
وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد .
ولما كان السياق ظاهراً في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصراً للفعل تعميماً للمفعول رداً لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب ، أي ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء ل لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره ، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله : ( أفلا يشكرون ) أي يدأبون دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار .
ولما كان السياق لإثبات الوحدانية والإعلام بأن ما عبد من دونه لا استحقاق له في ذلك بوجه ، ولا نفع بيده ولا ضر ، وأنتج هذا السياق بما دل عليه من تفرده بكل كمال وأنه لا أمر لأحد معه بوجه من الوجوه - تنزهه عما ادعوه من الشرك غاية التنزه ، قال لافتاً للكلام عن مظهر العظمة لأن إثباتها بالرحمة الدال عليها أدخل في التعظيم : ( سبحان الله ( ووصفه بما أكد ما مضى من إسناد الأمور كلها إليه ونفى كل شيء منها عمن سواه فقال : ( خلق الأزواج ) أي الأنواع المتشاكلة المتباينة في الأوصاف وفي الطعوم والأرابيح والأشكال والهيئات والطبائع وغير ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله تدل أعظم دلالة على كمال القدرة وعظيم الحكمة والاختيار في الإرادة ، وأكد بقوله : ( كلها ( لإفادة التعميم ؛ ثم زاد الأمر تصريحاً بالبيان بقوله : ( مما تنبت الأرض ( فدخل فيه من كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها ، وأشار - لكونه في سياق تكذيبهم - إلى تأديبهم بتحقيرهم بجمع القلة والتعبير بالنفس التي تطلق في الغالب على ما يذم به فقال : ( ومن أنفسهم ( وبين أن وراء ذلك أموراً لا يعلمها إلا هو سبحانه فقال : ( ومما لا يعلمون ) أي ومما لا يحتاجون إليه في دينهم ولا دنياهم ، ولا توقف لشيء من إصلاح المعاش والمعاد عليه ، ولو كان ذلك لأعلم به كما أعلم بأحوال الآخرة وغيرها مما لم نكن نعلمه .
ولما دربهم على النظر بآيات الأعيان الحسية الدالة على القدرة الباهرة لا سيما على البعث ، رقاهم إلى المعاني على ذلك النحو ، فإن إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه أدل دليل على البعث ، فقال ناقلاً لهم من المكان الكلي إلى الزمان الكلي الجامعين للجواهر والأعراض : ( وآية لهم ) أي على إعادة الشيء بعد إفنائه ) الّيل ) أي الذي يشاهدونه لا شك عندهم فيه ولا حيلة بوجه في رفعه ؛ ثم استأنف قوله : ( نسلخ ( عائداً إلى مظهر العظمة دلالة على جلالة هذا الفعل بخصوصه .
ولما كان الأصل في هذا الوجود الظلام ، والضياء حادث ، وكان ضياؤه ليس خالصاً ، عبر ب ( من ) التي تصلح للملابسة مع التخلل في الأجزاء فقال : ( منه النهار ((6/261)
صفحة رقم 262
أي الذي كان مختلطاً به بإزالة الضوء وكشفه عن حقيقة الليل ) فإذا هم ( بعد إزالتنا للنهار الذي سلخناه من الليل ) مظلمون ) أي داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً كما يستر الجلد الشاة ، قال الماوردي : وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم - نقله ابن الجوزي عنه ، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : والنهار نسلخ منه الليل الذي كان سانره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون .
ولما ذكر الوقتين ، ذكر آيتيهما فقال : ( والشمس ) أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها ) تجري ( ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته ، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج ، قال : ( لمستقر ) أي عظيم ) لها ( وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة ، وهي فيه مسرعة - بدليل التعبير باللام في موضع ( إلى ) ويدل على هذا قراءة ( لا مستقر لها ) بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار ، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه ، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مستقرها تحت العرش ، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها ) هذا لفظ مسلم ، وسيأتي لفظ البخاري ، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود .
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه ، وتتحير الأفهام في استنباطه ، عظمه بقوله : ( ذلك ) أي الأمر الباهر للعقول ؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله : ( تقدير ( وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على نوع مغالبة ، وهو غالب على كل شيء ) العليم ) أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر ، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن لا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته ، روى البخاري عن(6/262)
صفحة رقم 263
أبي ذر رضي الله عنه قال : كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر أتدري أين تذهب ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فذلك قوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها (
يس : ( 39 - 45 ) والقمر قدرناه منازل. .. . .
) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ( )
ولما ذكر آية النهار ، أتبعها آية الليل فقال : ( والقمر ( ومعناه في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وروح عن يعقوب بالرفع : يجري لمستقر له ، ونصبه الباقون دلالة على عظمة هذا الجري لسرعته بقطعه في شهر ما تقطعه الشمس في سنة ، ولذلك ضعف الفعل المفسر للناصب وأعمله في ضمير القمر ليكون مذكوراً مرتين فيدل على شدة العناية تنبيهاً على تعظيم الفعل فيه ، وأعاد مظهر العظمة فقال مستانفاً في قراءة الرفع : ( قدرناه ) أي قسناه قياساً عظيماً أي قسنا لسيره ) منازل ( ثمانية وعشرين ، ثم يستشر ليلتين : عند التمام وليلة للنقصان لا يقدر يوماً أن بدراً يتعداه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ، ثم يدنو فكلما ازداد من الشمس دنوا ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى .
) حتى عاد ) أي بعد أن كان بدراً عظيماً ) كالعرجون ( من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منتبه من النخلة دقيقاً منحنياً ، وهو فعلول ذكره أهل اللغة في النون وقالوا : عرجن الثوب : صور فيه صور العراجين ، وقال المفسرون : إنه من عرج ، أي أعوج .
ولما كانت حمرته آخذة إلى صفرة قال : ( القديم ) أي المحول ، فإن العرجون إذا طال مكثه صار كذلك ، فدق وانحنى واصفر .
ولما تقرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها ، فلا يغلب ما هو آيته ما هو آية الآخر ، بل إذا جاء سلطان هذا ذهب ذاك ، وإذا جاء ذاك ذهب هذا ، فإذا اجتمعنا قامت الساعة ، تحرر أن نتيجة هذه القضايا : ( لا الشمس ) أي التي هي آية النهار ) ينبغي لها ) أي ما(6/263)
صفحة رقم 264
دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب ) أن تدرك ) أي لأن حركتها بطيئة ) القمر ) أي فتطسمه بالكلية ، فما النهار سابق الليل ) ولا الّيل سابق النهار ) أي حتى ينبغي للقمر مع سرعة سيره أن يدرك الشمس ويغلبها فلا يوجد نهار أصلاً ، ولو قيل : يستبق لاختل المعنى على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس ، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً ) وكل ) أي من المذكورات حقيقة ومجازاً ) في فلك ( محيط به ، ولما ذكر لها فعل العقلاء ، وكان على نظام محرر لا يختل ، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل ، فكان منزهاً عن آفة تلحقه ، أو ملل يطرقه ، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال : آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم دائماً : ( يسبحون ( حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها - لشدة الإلف لها - الجاهلون .
ولما ذكر ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك لو تعداها لاختل النظام ، ذكر ما هيأه من الفلك والسباحة على وجه الماء الذي طبق الأرض في زمن نوح عليه السلام حتى كانت السماء ، ولو تعدت السفينة ما حد لها سبحانه من المنازل فنفذت إلى بحر الظلمات لفسد الشأن ، وكانوا فيها كأنهم في الأرض ، وبسيرها كأنهم يخترقون الجبال والفيافي والقفاز - كل ذلك تذكير بأيام الله ، وتنبيهاً على استدرار نعمه ، وتحذيراً من سطواته ونقمه ، ومنّاً عليهم بما يسر لهم من سلوك البحر والتوصل به إلى جليل المنافع فقال : ( وآية لهم ) أي على قدرتنا التامة الشامل ) أنا ) أي على ما لنا من العظمة ) حملنا ( .
ولما كان من قبل نوح عليه السلام من أصول البشر لم يحملوا في الفلك ، عدل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله : ( ذريتهم ) أي ذرية البشر التي ذرأناها وذروناها وذررناها حتى ملأنا بها الأرض من ذلك الوقت إلى آخر الدهر ، ولهذا التكثير المفهوم من هذا الاشتقاق البليغ اغتنى ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون فقرؤوا بالإفراد ، وزادت في الإيضاح قراءة الباقين بالجمع ، بعضهم ظاهراً وبعضهم في ظهر أبيه ) في الفلك ( عرفه لشهرته بين جميع الناس ) المشحون ) أي الموقر المملوء حيواناً وزاداً ، وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير قط مثلها ولا يرى أبداً ، ومن ذلك فسلمه الله .
ولما كانت هذه الآية لم تنقطع بل عم سبحانه بنفعها : ( وخلقنا ) أي بعظمتنا الباهرة ) لهم من مثله ) أي من مثل ذلك الفلك من الإبل والفلك ) ما يركبون ) أي مستمرين على ذلك على سبيل التجدد ليقصدوا منافعهم ، ولو شئنا لمنعنا ذلك .(6/264)
صفحة رقم 265
لما كان قد أنجى سبحانه آباءنا حين حمله في ذلك الماء الذي لم يكن مثله قط ، وكان ربما ظن أن الإنجاء لسر من الأسرار غير إرادته ، جعل أمر ما خلق من مثله تارة وتارة ليعرف أن ذلك هو بصنعه فتشكر نعمته أولاً وآخراً فقال : ( وإن نشأ ) أي لأجل ما لنا من القوة الشاملة ) نغرقهم ) أي مع أن هذا الماء الذي يركبونه لا يعشر ذلك الذي حملنا فيه آباءهم ) فلا صريخ لهم ) أي مغيث ينجيهم مما نريد بهم من الغرق ) ولا هم ) أي بأنفسهم من غير صريخ ) ينقذون ) أي يكون لهم إنقاذ أي خلاص بأنفسهم أو غيرها .
ولما كان هو سبحانه يصرخ من يشاء فينجيه وكانت ( كانت ) نافية نفياً مستغرقاً ، استثنى ما كان منه سبحانه فقال : ( إلا رحمة ) أي إلا نحن فننقذهم إن شئنا رحمة ) منا ) أي لهم ، لا وجوباً علينا ، ولا لمنفعة تعود منهم إلينا ) ومتاعاً ) أي لهم ) إلى حين ) أي وهو حين انقضاء آجالهم .
ولما كان هذا الحال معلوماً لهم لا ينازعون فيه رجوعه ، بل إذا وقعوا فيه أخلصوا الدعاء وأمروا به وخلعوا الأنداد ، وكان علم ذلك موجباً لصاحبه أن لا يغفل عن القادر عليه وقتاً ما ، بل لا يفتر عن شكره خوفاً من مكره ، وكان العاقل إذا ذكر بأمر فعلمه يقيناً كان جديراً بأن يقبله ، فإذا لم يقبله وخوف عاقبته بأمر محتمل جد في الاحتراز منه ، عجب منهم في إعراضهم عنه سبحانه مع قيام الأدلة القاطعة على وحدانيته وأنه قادر على ما يريد من عذاب وثواب ، وإقبالهم على ما لا ينفعهم بوجه ، فقال : ( وإذا قيل ) أي من أي قائل كان ) لهم اتقوا ) أي خافوا خوفاً عظيماً تعالجون فيه أنفسكم ) ما بين أيديكم ) أي بما يمكن أن تقعوا فيه من العثرات المهلكة في الدارين ) وما خلفكم ) أي ما فرطتم فيه ولم تجاروا به ولا بد من المحاسبة عليه لأن الله الذي خلقكم أحكم الحاكمين ) لعلكم ترحمون ) أي تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام .
يس : ( 46 - 51 ) وما تأتيهم من. .. . .
) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : أعرضوا لأن الإعراض قد صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك من أسره ، عطف عليه قوله إشارة إليه : ( وما تأتيهم ( وعمم بقوله : ( من آية ((6/265)
صفحة رقم 266
وبين قوله : ( من آيات ( ولفت الكلام للتذكير بالإنعام تكذيباً لهم في أنهم أشكر الناس للمنعم فقال : ( ربهم ) أي المحسن إليهم ) إلا كانوا عنها ) أي مع كونها من عند من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه ) معرضين ) أي دائماً إعراضهم .
ولما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء ( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ) ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) وكان الإنفاق خلق المؤمنين ، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة فلا يخافون ما يجوز وقوعه من العذاب ، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب : ( وإذا قيل لهم ) أي من أيّ قائل كان : ( أنفقوا ) أي على من لا شيء ، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع خلقة الذين هم عياله ، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل ببعضه فقال : ( مما رزقكم ( وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه ، وزاد في تقريعهم بجعل ذلك الظاهر اسم الذات لأنه لا ينبغي أن يكون عطاء العبد على قدر سيده فقال : ( الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) قال ( وأظهر تبكيتاً لهم بالوصف الحامل لهم على البخل فقال : ( الذين كفورا ) أي ستروا وغطوا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات ) للذين آمنوا ) أي القائلين بذلك المعتقدين له سواء كانوا هم القائلين لهم أو غيرهم منكرين عليهم استهزاء بهم عادلين عما اقتضى السؤال عن ذكر الإنفاق إلى ما يفيد التقريع بالفقر والحاجة إلى الأكل : ( أنطعم ( وعدلوا عن التعبير بالماضي لئلا يقال لهم : قد تولى سبحانه إطعامه من حين خلقه إلى الآن ، فقالوا : ( من لو يشاء ( وأظهروا حدّاً له ومساعيه فقالوا : ( الله ) أي الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده ) أطعمه ) أي لكنا ننظره لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم لما نرى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه فتركوا التأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها ، وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير على طريق النتيجة لما تقدم : ( إن ) أي ما ) أنتم إلا في ظلال ) أي محيط بكم ) مبين ) أي في غاية الظهور ، وما دروا أن الضلال إنما هو لهم لأنه سبحانه إنما جعل إطعام بعض خلقه بلا واسطة وبعضهم بواسطة امتحاناً منه للمطيع والعاصي والشاكر والكافر والجزع والصابر - وغير ذلك من حكمه .(6/266)
صفحة رقم 267
ولما ذكر قلة خيرهم المستندة إلى تهكمهم باليوم الذي ذكروا به بالأمر بالاتقاء والتعليل بترجي الرحمة ، أتبعه حكاية استهزاء آخر منهم دال على عظيم جهلهم بتكذيبهم بما يوعدون على وجه التصريح بذلك اليوم والتصوير له بما لا يسع من له أدنى مسكة غير الانقياد له فقال : ( ويقولون ) أي عادة مستمرة مضمونة إلى ما تقدم مما يستلزم تكذيبهم ، وزادوا بالتعبير بأداة القرب في تقريعهم إشارة إلى أنكم زدتم علينا في التهديد به والتقرب له حتى ظن أنه مصحبنا أو ممسينا ولم نحس منه عيناً ولا أثراً : ( متى هذا ( وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا : ( الوعد ) أي الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً ، عجلوه لنا .
وألهبوا وهيجوا زيادة في التكذيب بقولهم : ( إن كنتم صادقين ( ولما كان الحازم من لا يتهكم بشيء إلا إذا استعد له بما هو محقق الدفع ، بين سفههم بإتيانها بغتة وبأنه لا بد من وقوعها ، وأنها بحيث تملأ السماوات والأرض ، فكأنه لا شيء فيهما غيرها بقوله : ( إلا صيحة ( وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله : ( واحدة ( وهي النفخة الأولى المميتة ، واقتصر في تأكيد الوحدة على هذا بخلاف ما يأتي في المحيية لأنهم لا ينكرون أصل الموت ) تاخذهم ) أي تهلكهم ؛ وبين غرورهم بقوله : ( وهم يخصمون ) أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم على غاية من الغفلة ، ولعله عبر بذلك إشارة بالإدغام اللازم عنه التشديد إلى تناهي الخصام بإقامة أسبابه أعلاها وأدناها إلى حد لا مزيد عليها ، ويشير الإدغام أيضاً إلى أن خصومتهم في غاية الخفاء بالنسبة إلى الصيحة ، وأن بلغت الخصومة النهاية في الشدة ، ولم يقرأ أحد ( يختصمون ) بالإظهار إشارة إلى أنه لا يقع في ذلك الوقت خصومه كاملة حتى تكون ظاهرة بل تهلكهم الصيحة قبل استيفاء الحجج وإظهار الدلائل ، فمنها ما كان ابتدأ فيه اصحابه فأوجزوا - بما أشارت إليه قراءة حمزة بإسكان الخاء وكسر الصاد مخففاً ، ومنها ما كان متوسطاً وفيه خفاء وعلو - بما أشار إليه تشديد الصاد مع اختلاس فتحة الخاء ، ومنها ما هو كذلك وهو إلى الجلاء أقرب - بما أشار أخلاص فتحة الخاء مع تشديد الصاد ، وأشار من قرأه كذلك مع كسر الخاء إلى التوسط مع الخفاء والسفول ، والله أعلم .
ولما كانت هذه النفخة المميتة ، سبب عنها قوله : ( فلا يستطيعون توصية ((6/267)
صفحة رقم 268
أي أن يوجدوا الوصية في شيء من الأشياء ، والاستفعال يدلان على أن الموت ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما .
ولما كان ذلك ليس نصّاً في نفي المشي قال : ( ولا إلى أهلهم ) أي فضلاً عن غيرهم ) يرجعون ( بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة ، وربنا أفهم التعبير ( إلى ) أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها ، وفي الحديث ( ليقومن من الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) .
ولما دل ذلك على الموت قطعاً ، عقبه بالبعث ، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه معروف في إفاضة الروح فقال : ( ونفخ في الصور ) أي الذي أخذتهم صيحته ، وجهله إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من الأثر ، بل من أذن الله كائناً من كان تأثر عن نفخه ما ذكر ، وإن كنا نعلم أم المأذون له إسرافيل عليه السلام .
ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده سواء من غير تخلف ، عبر سبحانه بما يدل على التعقب والتسبب والفجاءة فقال : ( فإذا هم ) أي في حين النفخ ) من الأجداث ) أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ ) إلى ربهم ) أي الذي أحسن إليهم بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه ، لا إلى غيره ) ينسلون ) أي يسرعون المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط ، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة ، حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى ، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة .
يس : ( 52 - 56 ) قالوا يا ويلنا. .. . .
) قَالُواْ يوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ ( ( )
ولما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون ، استانف قوله : ( قالوا ) أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين الذين قاموا بالنفخة وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك .
ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي ، اتبعوه قولهم حاكياً سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم : ( يا ويلنا ) أي ليس بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل ، ثم استفهوا جرباً على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين(6/268)
صفحة رقم 269
لضميرهم تخصيصاً بهم لأنهم في معرض الشك : ( من بعثنا من مرقدنا ( عدوا مكانهم الذين كانوا به - مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ - مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر ، ووحده إشارة إلى أنهم يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته ، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً : ( هذا ما ) أي الوعد الذي ) وعد ) أي به ، وحذفوا المعفول تعميماً لأنهم الآن في حيز التصديق ) الرحمن ) أي العام الرحمة الذي رحمانيته متقضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه ، ويجازي كلاًّ بعمله من غير حيف ، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك ، وطال ما أنذرونا حلوله ، وحذرونا صعوبته وطوله .
ولما كان التقدير : فصدق الرحمن ، عطف عليه قوله : ( وصدق ) أي في أمره ) المرسلون ) أي الذين أتونا بوعده ووعيده ، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به ورسله هو الذي بعثنا تصديقاً لوعده ورسله .
ولما كان الإخبار بالنفخ لا ينفي التعدد ، قال محقراً لأمر البعث بالنسبة إلى قدرته مظهراً للعناية بتأكيد كونها واحدة بجعل الخبر عنه أصلاً مستقلاً بفضله عن النفخ والإيتان فيه بفعل الكون و ( إن ) النافية لأدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه دون ( ما ) التي إنما تنفي التمام : ( إن ) أي ما ) كانت ) أي النفخة التي وقع الإحياء بها مطلق كون ) إلا صيحة واحدة ) أي كما كانت نفخة الإماتة واحدة ) فإذا هم ) أي فجأة من غير توقف أصلاً ) جميع ) أي على حالة الاجتماع ، لم يتأخر منهم أحد ، يتعللون به في ترك الانتصار ، ودوام الخضوع والذل والصغار ، ولما كان ذلك على هيئات غريبة لا يبلغ كنهها العقول ، قال لافتاً القول إلى مظهر العظمة معبراً بما للأمور الخاصة : ( لدينا ( ولما كان ذلك أمراً لا بد منه ، ولا يمكن التخلف عنه ، عبر بصيغة المفعول وأكد معنى الاجتماع بالجمع نظراً إلى معنى جميع ولم يفرد اعتباراً للفظها لما ذكر من المعنى فقال : ( محضرون ) أي بغاية الكراهة منهم لذلك بقادة تزجرهم وساقة تقهرهم .
ولما كان هذا الإحضار بسبب العدل وإظهار جميع صفات الكمال قال : ( فاليوم ( ولما كان نفي الظلم مطلقاً أبلغ من نفيه عن أحد بعينه ، وأدل على المراد وأوجز ، قال لافتاً القول عن الإظهار أو الإضمار بمظهر العظمة أو غيره ) لا تظلم ( ولما كان التعبير بما كثر جعله محط الراذائل والحظوظ والنقائص أدل على عموم نفي الظلم قال : ( نفس ) أي أيّ نفس كانت مكروهة أو محبوبة ) شيئاً ) أي لا يقع لها ظلم ما من أحد(6/269)
صفحة رقم 270
ما في شي ما .
ولما كانت المجازاة بالجنس أدل على القدرة وأدخل في العدل ، قال محققاً بالخطاب والجمع أن المنفي ظلمه كل من يصلح للخطاب لئلا يقع في وهم أن المنفي ظلمه نفوس مخصوصة أو نفس واحد : ( ولا تجزون ) أي على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد ما ) إلا ما كنتم تعملون ( ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم .
ولما قرر أن الجزاء من جنس العمل ، شرع في تفصيله ، وبدأ بأشراف الحزبين في جواب من سأل عن هذا الجزاء فقال مؤسفاً لأهل الشقاء بالتذكير بالتأكيد بما كان لهم من الإنكار في الدنيا وإظهار للرغبة في هذا القول والتجح به لما له من عظيم الثمرة : ( إن اصحاب الجنة ) أي الذين لا حظ للنار فيهم ، وكرر التعبير باليوم تعظيماً لشأنه وتهويلاً لأمره على إثر نفختيه المميتة والمقيمة بذكر بعض ثمراته ، وجمل من عظائم تأثيراته ، فقال : ( اليوم ) أي يوم البعث ، وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم أو دخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعة ونحوها من الكرامات عن دخول أهل النار النار ، وعبر بما يدل على أنهم بكلياتهم مقبلون عليه ومظروفون له مع توجههم إليه فقال : ( في شغل ) أي عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات .
ولما تاقت النفوس إلى تفسير هذا الشغل قال : ( فاكهون ) أي لهم عيش المتفكة ، وهو الأمن والنعمة والبسط واللذة وتمام الراحة كما كانوا يرضوننا بإجهاد أنفسهم وإتعابها وإشقائها وإرهابها ، وقراءة أبي جعفر بحذف الالف أبلغ لأنها تدور على دوام ذلك لهم وعلى أنهم في أنفسهم في غاية ما يكون من خفة الروح وحسن الحديث .
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال : ( هم ) أي بظواهرهم وبواطنهم ) وأزواجهم ) أي أشكالهم الذين هم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون ، ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون ) في ظلال ) أي يجدون فيها برد الأكابد وغاية المراد ، كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام ، وتجرع مرارات الأوام ، والصبر في مرضاتنا على الآلام ، ويقرون أيديهم وقلوبهم عن الأموال ، ببذل الصدقات في سبلنا على مر الأيام وكر الليال ، وقراءة حمزة والكسائي بضم الظاء وحذف الألف على أنه أشد امتداداً ، ويدل اتفاقهما في الجمع على أن الظل فيها مختلف باختلاف الأعمال .
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح(6/270)
صفحة رقم 271
النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر ، قال : ( على الأرائك ) أي السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجل ، قال البغوي : قال ثعلب : لا يكون أريكة حتى يكون عليها حجلة ، وقال ابن جرير : الأرائك : الحجال فيها السرر ، وروى أبو عبيد في كتاب الفضائل عن الحسن قال : كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير .
وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون الأبصار ويضعون نفوسهم لأجلنا ) متكئون ( كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال ، والاتكاء : الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه ، أو الجلوس مع التمكين على هيئة المتربع ، وقراءته بضم الكاف وحذف الهمزة أدل على التربع وما قاربه ، وقراءة كسر الكاف وضم الهمزة أدل على القرب من التمدد لما فيها من الكسرة ، فإنه يقال كما نقله أبو عبد الله القزاز : اتكأت الرجل اتكاء - إذا وسدته أي جعلت له وسادة ، أي محذة يستريح عليها .
يس : ( 57 - 64 ) لهم فيها فاكهة. .. . .
) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ( )
ولما قدم المعاني التي توجب أكل الفاكهة ، أتى بها فقال : ( لهم ) أي خاصة بهم ) فيها فاكهة ) أي لا تنقطع أبداً ، فلا مانع لهم من تناولها ، ولا يوقف ذلك على غير الإرادة .
ولما كانت الفاكهة قد تطلق على ما يلذذ ، صرح بأن ذلك هو المراد ، فقال معبراً بالعطف لتكون الفاكهة مذكروة مرتين خصوصاً وعموماً : ( ولهم ( ولما كان السياق لأصحاب الجنة الذين تفهم الصيحة أنهم فيها دائماً وإن كانوا في الدنيا ، أعري الكلام من الظرف ليفهم إجابة دعائهم في الدنيا وإنالتهم جميع مرادهم في الدارين فقال : ( ما يدعون ) أي الذي يطلبون طلباً أما إخراجاً لما قد يهجس في النفس من غير عزم عليه إن كان المراد في الجنة من غير كلام الله كالمآكل والمشارب ونحوها ، وإما إظهار للاهتمام إن كان المراد أنه كلامه سبحانه ، وذلك لأجل ما كانوا في الدنيا يفطمون أنفسهم عن الشهوات عزوفاً عما ينفى ، وطموحاً إلى ما عندنا من الباقيات الصالحات ، ثم فسر يدعونه - أي يطلبونه - بغاية الاشتياق إليه أو استأنف الإخبار عنه بقوله : ( سلام ) أي عظيم جداً لا يكتنه وصفه ، عليكم يا أهل الجنة ، كائن هو أو(6/271)
صفحة رقم 272
مقول هو ، والسلام يجمع جميع النعم ، ثم بين هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله : ( قولاً من رب ) أي دائم الإحسان ) رحيم ) أي عظيم الإكرام بما ترضاه الألهية ، كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا ، فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذة الرؤية مع التقوية عن الدهش والصعق لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه ، وقد أوضح هذا السياق أنه من الله تعالى بلا واسطة ، فإنه أكده بالقول وحرف الابتداء ، وذكر صفات الإحسان كما قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : ولا ارتياب في أنه لا شيء يعدل هذا في النعيم وقرة العين والشرف وعلو القدر ، ولا شك أن هذا هو المقصود بالحقيقة ، فهو قلب النعيم في ذلك اليوم الذي هو قلب الوجود حقاً خفاء وصلاحاً وفساداً ، فصح أن هذه الآية قلب قلب هذه السورة كما كانت هذه السورة قلب القرآن ، وقد ورد حديث في تفسير البغوي وكتاب المائتين للأستاذ أبي عثمان الصابوني أنه من الله تعالى بلا واسطة عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم با أهل الحنة ، وذلك قوله تعالى ) سلام قولاً من رب رحيم ( فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم ) .
قال الاستاذ أبو عثمان : هذا حديث غريب الإسناد والمتن لا أعلم إني كتبته إلا من هذا الوجه .
ولما كان التقدير : فانظروا وازدادوا حسرة أيها المجرمون ، عطف عليه قوله : ( وامتازوا ) أي انفردوا انفراداً هو بغاية القصد ، وجرى على النمط الماضي من زيادة التهويل لذلك الموقف بإعادة قوله : ( اليوم ) أي عن عبادي الصالحين أو عمن بقي منهم معكم في الموقف ليظهروا من أوضارهم ، ويشفوا من مضارهم ، لأن غيبة الرقيب أتم النعيم ، وإبعاد العدو أعلى السرور ، وحذف أداة النداء لا لقرب الكرامة بل للدلالة على أنهم في القبضة لا مانع من غاية التصرف فيهم لكل ما يراد لأنه لا حائل دونهم ) أيها المجرمون ) أي العريقون في الإجرام ، فلا يقع في أوهامكم أنكم تخالطونهم اليوم أصلاً ، وهذا ما كنتم تمتازون عنهم في الدنيا وتقاطعونهم ترفعاً واستكباراً ، فهذا قوله للمجرمين وذلك قوله للمؤمنين ، فصح أنه قلب لأنه به صلاح بعض المكلفين وفساد الآخرين الذي هو تمام صلاح الأولين ، وقد تقدم في أوائل سورة الروم منام ينفع استحضاره هنا .
ولما أمرهم بالامتياز أمراً إدراياً حكيماً ، فامتازوا في الحال ، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل ، وصروا بالأسنان ، وشخصت منهم الأبصار ، وكلحت(6/272)
صفحة رقم 273
الوجوه ، وتقلصت الشفاه ، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان ، وسحبوا على الوجوه ، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول ، وتذوب من ذكر النفوس ، وتنخلع القلوب ، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم إلى ذلك ، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً : ( ألم أعهد ) أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة ، ومنحت من العقول ، وبعثت من الرسل ، وأنزلت من الكتب ، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة ، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس ، ثم أشار إلى علوه وجلاله ، وعظمه وسمو كماله فقال : ( إليكم ( .
ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتوبيخهم وتبكيتهم ، وكانت هذه السورة القلب ، وكان القلب أشرف الإعضاء ، وكان الإنسان أشرف الموجودات ، خصه بالخطاب لأنه خطابه خطاب للجن فقال مؤكداً ما أفهمه حرف الغاية من علو رتبته ، وعظيم منزلته بما أشارت إليه أداة البعد : ( يا بني آدم ) أي فلم أخصكم بذلك عن أبناء غير نوعكم ليكون ذلك التخصيص حاملاً لكم على العصيان بل ليكون موجباً للطاعات والعرفان : ( أن لا تعبدوا الشيطان ) أي البعيد المحترق بطاعتكم له فيما يوسوس لكم به ، ثم علل النهي عن عبادته بما يقتضي شدة النفرة منه بعد أن لوّح إلى ذلك بوصفه فقال : ( إنه لكم ( والتأكيد لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته ) فدو مبين ) أي ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم العداوة التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشف منها ، ومن جهة أمره لكم بما يبغض الدنيا من التخالف والتخاصم ، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه ، فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً وأوضاراً ، فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي ، فكيف إذا كان عائقاً عن المولى ، فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه .
ولما بكتهم بالتذكير بما ارتكبوا مع النهي عن عبادة العدو تقديماً لدرء المفاسد ، وبخهم بالتذكير بما ضيعوا مع أخذ العهود من واجب الأمر بعبادة الولي فقال عاطفاً على ( أن لا ) : ( وأن اعبدوني ( ولما ذكر سبحانه بالأمر بعبادته ، عرف بحسنها حثاً على لزومها قبل ذلك اليوم قائلاً : ( هذا ) أي الأمر بعبادتي ) صراط مستقيم ) أي بيلغ القوم ، وعبادة الشيطان صراط ضيق معوج غاية الضيق والعوج .
ولما كان التقدير : فاتبعتموه وسلكتم سبيله مع اعوجاجه ، وتركتم سبيلي مع ظهور استقامته ، عطف عليه قوله : ( ولقد أضل منكم ) أي عن الطريق الواضح السوي بما(6/273)
صفحة رقم 274
سلطته به من الوسوسة ، وأكده إشارة إلى أنه أمر لا يكاد أن يصدق به لما يبعد ارتكابه في العادة من اتضاح أمره وظهور فساده وضره .
ولما كان الآدمي شديد الشكيمة عالي الهمة إذا أراد ، عبر بقوله : ( جبّلاً ) أي أمما كباراً عظاماً كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد ، ومع ذلك فكان يتلعب بهم تلعباً ، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً ، قال في القاموس : الجبل - بالضم : الشجر اليابس والجماعة منا كالجبل كعنق وعدل وطمر وطمرة وأمير ، ثم قال : وبالكسر وبالضم وكطمرة : الأمة والجماعة ، ثم قال : والجبلة مثلثة ومحركة وكطمرة : الخلقة والطبيعة .
ودلت قراءة أبي عمرو وابن عامر بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام على الذين هم في أول مراتب الشدة والقوة ، وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ورويس عن يعقوب بضمتين وتخفيف على ما فوق ذلك مما يقرب من الوسط مع الظهور والعلو للضم من القوة ، وقراءة روح كذلك مع تشديد على ما فوق الوسط - بما أشارت إليه الحركات والتشديد ، ولكنه مع خفاء ، وكأنه بالمكر بما أشار إليه كون الحركتين بالكسر ، وعظم سبحانه الأمر بقوله : ( كثيراً ( ثم زاد في التوبيخ والإنكار بما أنتجه المقام وسببه إضلاله لهم مع ما اوتوا من العقول من قوله : ( أفلم ( ولما كان سبحانه قد آتاهم عقولاً وأيّ عقول ، عبر بالكون فقال : ( تكونوا تعقلون ) أي لتدلكم على ما فيه النجاة عقولكم بما نصبت من الأدلة ، ومع ما نبهت عليه الرسل ، وحذرت منه من إهلاك الماضين ، بسبب اتباع الشياطين ، وغير ذلك من كل أمر واضح مبين .
ولما أنكر عليهم أن يفعلوا فعل من لا عقل له ، قال متمماً للخزي : ( هذه ( إشارة لحاضر أما حال الوقوف على شفيرها أو الدّع فيها ) جهنم ) أي التي تستقبلكم بالعبوسة والتهجم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين : ( التي كنتم ) أي كوناً هيأتكم به لقبول ما يمكن كونه بما غرزته فيكم من العقول .
ولما كان المحذور الإيعاد بها ، لا كونه من معين ، قال بانياً للمفعول : ( توعدون ) أي إن لم ترجعوا عن غيّكم ) اصلوها ) أي قاسوا حرها وتوقدها واضطرامها ، وهوّل أمر ذلك اليوم بإعادة ذكره على حد ما مضى فقال : ( اليوم ( لتكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة ، وشتان ما بين الشغلين ) بما ) أي بسبب ما .
ولما كانوا قد تجلدوا على الطغيان تجلد من هو مجبول عيله ، بيّن ذلك بذكر الكون فقال : ( كنتم تكفرون ) أي تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي مجددين ذلك مستمرين عليه .
يس : ( 65 - 69 ) اليوم نختم على. .. . .
) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ(6/274)
صفحة رقم 275
يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) 73
( ) 71
ولما كان كأنه قبل : هل يحكم فبهم بعلمه أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة ، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا ، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة لأنه أيق بالتهويل : ( اليوم نختم ) أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة ، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال : ( على أفواههم ) أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا ، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب ، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال : ( وتكلمنا أيديهم ) أي بما عملوا إقراراً عو أعظم شهادة ) وتشهد أرجلهم ) أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار ) بما كانوا ) أي في الدنيا بجبلاتهم ) يكسبون ( فالآية من الاحتباك : أثبت الكلام للأيدي أولاً لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانيا ، وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأرجل أولاً ، وبقرينه أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : يقول العبد : يا رب ألم تجرني من الظلم ، قال : فيقول : بلى ، فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل .
وبالظاهر أن السر في الختم على فيه منعه من أن يلغط حال شهادتها عليه لئلا يسمع قولها ، وكما هو دأب أهل العناد عند الخصام .
ولما أتم بضرب المثل وما بعده الدلالة على مضمون ) إنما تنذر من اتبع الذكر ( وما عللت به من إحياء الموتى ، ودل على ذلك بما تركه كالشمس ليس فيه لبس ، وزاد من بحو الفوائد وجميل العوائد ما ملأ الأكوان من موجبات الإيمان ، وذكر ما في فريقي المتبعين والممتنعين يوم البعث ، وختم بالحتم على الأفواه بعد البعث ، أتبعه آية الختم بالطمس والمسخ قبل الموت تهديداً عطفاً على ما رجع إليه المعنى مما(6/275)
صفحة رقم 276
قبل أول ذلك الخطاب من قوله ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( الاية ، دفعاً لما ربما وقع في وهم أحد أن القدرة لا تتوجه إلى غير الطمس في المعاني بضرب السد وما في معناه ، فأخبر أنه كما أعمى البصائر قادر على إذهاب الأبصار ، فقال مؤكاً لما لهم من الإنكار أو الأفعال التي هي فعل منكر : ( ولو ( وعبر بالمضارع في قوله : ( نشآء ( ليتوقع في كل حين ، فيكون أبلغ في التهديد ) لطمسنا ( وقصر الفعل إشارة إلى أن المعنى : لو نريد لأوقعنا الطمس الذي جعلناه على بصائرهم ) على أعينهم ( فأذهبنا عينها وأثرها ، وجعلناها مساوية للوجه بحيث تصير كأنها لم تكن أصلاً ، وقد تقدم في النساء نقل معنى هذا عن ابن هشام .
ولما كان الجالس مع شخص في مجلس التنازع وهو يهدده إن لم يرجع عن غيه بقارعة يصيبه بها يبادر الهرب إذا فاجأته منه مصيبة كبيرة خوفاً من غيرها جرياً مع الطبع لما ناله من الدهش ، ومسه من عظيم الانزعاج والوجل ، كما اتفق لقوم لوط عليه السلام لما مسح جبريل عليه السلام أعينهم فأغشاها حين بادروا الباب هراباً يقولون : عند لوط أسحر الناس ، سبب عن ذلك قوله : ( فاستبقوا ) أي كلفوا أنفسهم ذلك واوجدوه .
ولما كان المقصود بيان إسراعهم في الهرب ، عدى الفعل مضمناً له معنى ) ابتدروا ( كما قال تعالى :
77 ( ) واستبقوا الخيرات ( ) 7
[ البقرة : 148 ] فقال : ( الصراط ) أي الطريق الواضح الذي ألفوه واعتادوه ، ولهم به غاية المعرفة .
ولما كان الأعمى لا يمكنه في مثل هذه الحالة المشي بلا قائد فضلاً عن المسابقة ، سبب عن ذلك قوله منكراً : ( فأنى ) أي كيف ومن اين ) يبصرون ) أي فلم يهتدوا للصراط لعدم إبصارهم بل تصادموا فتساقطوا في المهالك وتهافتوا .
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال : ( ولو نشاء ) أي أن نمسخهم ) لمسخناهم ) أي حولناهم إلى الجمادية فأبطلنا منهم الحركة الإدراية .
ولما كان المقصود المفاجأة بهذه المصائب بهذه المصائب بياناً لأنه سبحانه لا كلفة عليه في شي من ذلك قال : ( على مكانتهم ) أي المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منه شاغلاً له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه ، وهو معنى قراءة شعبة عن عاصم ( مكانتهم ) ودل على أن المراد التحويل إلى أحوال الجمادية بما سبب عن ذلك من قوله : ( فما استطاعوا ) أي بأنفسهم بنوع معالجة ) مضيّاً ) أي حركة إلى جهة من الجهات ؛ ثم عطف على جملة الشرط قوله : ( ولا يرجعون ) أي يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر ، بل ثباتها لا يمكن أحداً من الخلق رفعه ولا تغيره(6/276)
صفحة رقم 277
بنوع تغيير هذا المراد إن شاء الله ، ولو قيل : ولا رجوعاً - كما قال بعضهم إنه المراد ، لم يفد هذا المعنى النفيس .
ولما كانت هذه أموراً فرضية يتأتى لبعض المعاندين اللد الطعن فيها مكابرة ، وكان كونه ( صلى الله عليه وسلم ) نبي الرحمة مانعاً من المفأجاة بالتعذيب بعذاب الاستئصال بها ، دل عليها بما يشاهدونه من باهر قدرته وغريب حكمته في صنعته ، فقال دالاً بالعاطف على غير معطوف عليه ظاهر على أن التقدير : فقد خلقناهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أولدناهم لا يعلمون شيئاً ولا يقدرون على شيء ، ثم درجناهم في أطوار الأسنان معلين لهم في البشرية - فأوقفنا قواهم الظاهرة والباطنة ، فلم نجر العادة بأن نحدث فيهم إذ ذاك قوة لم تكن أيام الشباب : ( ومن نعمره ) أي نطل عمره إطالة كبيرة منهم بعد ذلك ) ننكسه ( وقراءة عاصم وحمزة بضم أوله وفتح ثانيه وكسر الكاف مشددة دالة على تفاوت الناس في النكس ، ولم يقل ( في خلقه ) لئلا يظن أن المراد أن المعمر له خلق أنشأه وأبدعه ) في الخلق ) أي فيما أبدعناه من تقدير بدنه وروحه أي نرده على عقبه نازلاً في المدارج التي أصعدناه فيها فلا يعلم شيئاً ، ومن قدر على مثل هذا التحويل من حالة إلى أخرى لم تكن طرداً وعكساً قدر على مثل ما مضى من التحويل بلا فرق ، غير أنهم لكثرة إلفهم لذلك صيره عندهم هنياً ، ولقلة وجود الأول صيره عندهم بعيداً ، ولذلك سبب عن الكلام قوله : على الأسلوب الماضي في قراءة الجماعة ولفتاً إلى الخطاب عند المدنيين ويعقوب لأنه أقرب إلى الاستعطاف وإعلاماً بأن الواعظ عام لكل صالح للخطاب : ( أفلا يعقلون ( وقال بعض العارفين : قيد بالخلق احترازاً عن الأمر ، فإن المؤتمر كلما زاد سنّاً ازداد لربه طاعة وبه علماً ، يعني أن النكس في البدن أمر لا بد منه ، وأما في المعارف فتارة تارة .
ولما أتم سبحانه الدليل على آية ) لقد حق القول على أكثرهم ( بأن التكذيب بالأصلين التوحيد والحشر ، وبينهما غاية البيان ، رجع إلى تثبيت الأصل الثالث وهو أمر الرسول والتنزيل ، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلم يزد فيه غريزة ، ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء ، أما المعاني الحسية فمطلقاً ، وأما المعنوية فلا تزيد إلا بالتجربة والكسب ، ولذلك قالوا :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديد(6/277)
صفحة رقم 278
وكان من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام تظهر عليهم غرائز العلوم والحكم وغير ذلك مما يجزيه الله على أيديهم ، ولا ينقص شيء من قواهم بل تزاد كما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يمشي غير مكترث ، وأن الصحابة رضي الله عنهم ليجهدون أنفسهم ، فيكون جهدهم أن يدركوا مشية الهوينا ، وأنه صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل ، وكان واثقاً من نفسه بأنه يصرع من صارعه ، فلم يملكه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه ، وعاد إلى ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك لا يستمسك في يده حتى شرع يقول : أن هذا لعجب يا محمد أتصرعني ، وحتى أنه دار على نسائه - وهن تسع - كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس ، ولم يحك عن نبي من الأنبياء ممن عاش منهم ألفاً ومن عاش دون ذلك أنه نفص شيء من قواه ، بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صكه ففقأ عينه فقال لربه : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ثم ماذا ؟ قال : الموت ، قال فالآن .
وفي آخر التوارة : وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب ، فدفن حذاء بيت فاغورا ، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا ، وكان موسى يوم قضي ابن مائة وعشرين سنة ، لم يضعف سني الوقوف في الغرائز والضعف في القوى خرقاً للعادة إكراماً لهم وتنبيهاً للناس على صدقهم ، علم من العطف على غير معطوف عليه ظاهر ومن الإيتان بضميره ( صلى الله عليه وسلم ) من غير تقدم ذكر له أن التقدير : لكن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) عمرناه وما نكسناه بل منحناه غرائز من الفضائل عجز عنها الأولون والآخرون ، فأتى بقرآن أعجز الإنس والجن ، وعلوم وبركات فاتت(6/278)
صفحة رقم 279
القوى ، ومعلوم قطعاً أن الذي أتى به ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وعدواناً ، وكذباً على جنابه وافتراء وتجاوزاً في البهت وطغياناً ، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعاً ولم يقل بيت شعر ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة ، وبه من المكاثرة ، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعاً أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها : ( وما علمناه ) أي نحن ) الشعر ( فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها ، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات
77 ( ) وما أنا من المتكلفين ( ) 7
[ ص : 86 ] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإيتان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى ، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه ، وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني ، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة ، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة ، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا ، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام ، فلا تكلف عنده اصلاً ، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم ، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله :
متى ما يرى الناس وجاره فقير يقولوا عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ولكن أحاظ قسمت وجدود إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديد وكائن رأينا من غنى مذمم وصعلوك قوم مات وهو حميد
والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز ، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه ، بدليل أنا كثيراً ما رأينا من فاته الغنى شاباً جلداً وناله شيخاً ضعيفاً ، وما رأينا من أخطأته المروءة شاباً نالها شيخاً ، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة ، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة ، والمروءة هي الإنسانية ، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة ، وهذا هو السيادة ، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنياً كان أو فقيراً ، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال ، فلله درهم ما كان أحكمهك وأدراهم(6/279)
صفحة رقم 280
بالدقائق وأعلمهم ، ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم ، فملأت معارفه الأكوان ، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان .
ولما كان الشعر مع ما بني عليه من التكلف الذي هو بعيداً جداً عن سجايا الأنبياء فكيف بأشرفهم مما يكتسب به مدحاً وهجواً ، فيكون أكثره كذباً - إلى غير ذلك من معايبه ، قال سبحانه وتعالى : ( وما ينبغي له ) أي وما يصح ولا ينطلب ولا يتأتى أصلاً ، لأن منصبه أجل ، وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً ، أو أن يتقيد بما قد يجر إلى نقيصة في المعنى ، وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة .
ولما تمت الدلالة على أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتضمنت أن الشعر - وهو تعمد صوغ الكلام على وزن معلوم وقافية ملتزمة - نقيصة لما ذكر ولما يلزمه التقيد بالوزن والروي والقافية من التقديم والتأخير والتحويم على المعاني من غير إفصاح ولا تبيين فيصير عسر الفهم مستعصي البيان ، ونفى عنه ( صلى الله عليه وسلم ) تلك النقيصة ، فتضمن ذلك تنزيه ما أنزل عليه عنها - كما أشارت إليه نون العظمة في ( علمنا ) - أثبت له ما ينبغي له فقال كالتعليل لما قبله : ( إن ) أي ما ) هو ) أي هذا الذي أتاكم به ) إلا ذكر ) أي شرف وموعظة ) وقرآن ) أي جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين مع الفصل بين الملبسات ) مبين ) أي ظاهر في ذلك مطلق لكل ما فيه لمن يرومه حق رومه ، ويسومه بأغلى سومه ، بعد أن يشترط في مطلق فهمه ومجرد اللذة به الذكي والغبي والحديد والبليد ، وليس هو بشعر متكلف يتقدم فيه - بحكم التزام الوزن والروي والقافية - الشيء عن حاق موضعه تارة ويتأخر أخرى ، ويبدل بما لا يساويه فتنقص معانيه وتنعقد فتكشل فلا يفهمه إلا ذاك وذاك مع أنه من همزات الشياطين فيا بعد ما بينهما ، ويبين هذا المعنى غاية البيان آخر ( ص ) ) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ( ) إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما هو ذكر للأذكياء جداً .
يس : ( 70 - 73 ) لينذر من كان. .. . .
) لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ( ( )
ولما ذكر أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما آتاه من غرائز الشرف في سن النكس لغيره ، ذكر علة ذلك فقال : ( لينذر ) أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل ما دل عليه السياق من التقدير ، ويؤيده لفت الكلام في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه غيره ( صلى الله عليه وسلم ) (6/280)
صفحة رقم 281
ولما كان هذا القرآن مبيناً ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متخلقاً به ، فهو مظهره وصورة وسورته ، فكان حاله مقتضياً لئلا يتخلف عن الإيمان حيّ ، قال مظهراً لما كان حقه في بادي الأمر الرأي الإضمار إفادة للتعميم مبيناً لأن حكمه سبحانه منع من ذلك ، فانقسم المنذورن إلى قسمين : ( من كان ( كوناً متمكناً ) حياً ) أي حياة كاملة معنوية تكون سبباً للحياة الدائمة ، فإنه لا يتوقف حينئذ عن الإيمان به خوفاً مما يخوف به من الأمور التي لا يتوجه إليها ريب بوجه ، فيرجى له الخير ، فهو مؤمن في الحقيقة وإن ظهر عليه في أول أمره خلاف ذلك ، وأفرد الضمير هنا على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء ، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء ) ويحق ) أي يجب ويثبت ) القول ) أي بالعذاب ) على الكافرين ) أي العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء ، فالآية من الاحتباك : حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً ، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً ، فتحقق بهذا أن أعظم منافاة القرآن للشعر وكذا السجع من أجل أنه جد كله ، فمحط أساليبه بالقصد الأول المعاني والألفاظ تابعة ، والشاعر والساجع محط نظرهما بالقصد الأول الروي والقافية الفاصلة حتى أن ذلك ليؤدي إلى ركة المعنى والكلام بغير الواقع ولا بد ، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وحاله معروف في البلاغة والتفنن في أساليب الكلام وصدق اللهجة وحسن الإسلام في غزوة الغابة وكان أميرها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه :
أسر أولاد اللقطية أننا سلم غذاة فوارس المقداد
فغضب سعد على حسان رضي الله عنهما وحلف : لا يكلمه أبداً ، وقال : انطلق إلى خيلي وفوارسي ، فجعلها للمقداد ، فاعتذر إليه حسان رضي الله عنهما ومدحه بأبيات وقال : والله ما أردت ذلك ولكن الروي وافق اسم المقداد ، لأن القصيدة دالية ، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدور في فكره أبداً قصد اللفظ ، فإنه من باب الترويق ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) جد كله ، فهو لا يعدل عنه لأنه موزون ، بل لأنه لا يؤدي المعنى كما أن العرب تعدل عن اللحن ولا تحسن النطق به ولا تطوع ألسنتها له لكونه لحناً ، لا لكونه حركة ، فإن وافق شيء من الموزون ما أريد من المعنى لأجل أداء المعنى قاله ، كما يقع لكثير من المصنفين الكلام الموزون وما قصده ، وكما وقع كثير من الكلام الموزون من جميع أبحر الشعر في القرآن وإن لم يوافق المعنى لم يقله ، وعلى هذا يتخرج قوله ( صلى الله عليه وسلم ) :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
لو تظاهر الإنس والجن على أن يأتوا بما أداه من المعنى في ألفاظه أو مثلها على غير هذا النظم لم يقدروا ، وإذا تأملت كل بيت تمثل به فكسره لا تجده كسره إلا لمعنى(6/281)
صفحة رقم 282
جليل ، لا يتأتى مع الوزن أو يكون لا فرق بين أدائه موزوناً ومكسوراً ، وهكذا السجع سواء ، ومن هنا علم أنه ليس المعنى أنه لا يحسن الوزن ، بل المعنى أن تعمد الوزن والسجع نقيصة لا تليق بمنصبه العالي لأن الشاعر مقيد بوزن وروي وقافية ، فإن إطاعه المعنى مع ما هو مقيد به كان وإلا احتال في إتمام ما هو مقيد به وإن نقص المعنى ، والساجع قريب من ذلك ، فهاذ هو الذي لم يعمله الله له ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) تابع للمعاني والحقائق والحكم التي تفيد الحياة الدائمة ، لأنه مهيأ بالطبع المستقيم لذلك غير مهيأ لغيره من التكلف ، وإذا أنعمت النظر في آخر الآية الذي هو تعليل لما قبله تحققت أن هذا هو المراد ، فوضح أيّ وضوح بهذا أن كلاًّ منهما نقيصة ، فلا يتحرك شيء من أخلاقه الشريفة نحوها ، ولا يكون له بذلك شيء من الاعتناء ، وقد أشبعت الكلام في هاذ وأتقنته في كتابي ( مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ) وهو كالمدخل إلى هذا الكتاب - والله الموفق للصواب .
ولما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم ، وهدد بطمس أبصارهم ، مسخهم على مقاعدهم وقرارهم ، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم ، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتاً لذلك ببدائع صنعته ، فقال عاطفاً على ما تقديره : ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية ) ومن نعمره ( وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحاً وتصريحاً الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة ، فمهما صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع ، ولا يتصور له دافع ) أولم يروا ) أي يعلموا علماً هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم ، ولا يبعد عندي - وإن طال المدى - أن يكون معطوفاً على قوله : ( ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون ( فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم ، وهذا بالتذكير بالنعم ، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال : ( أنا خلقنا لهم ( وخصها بنفسه الشريفة محواً للأسباب وإظهاراً لتشريفهم بتشريفها في قوله : ( مما عملت ( .
ولما كان الإنسان مقيداً بالوهم لا ينفك عنه ، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادنا ، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه ، عبر له بما يفهمه فقال : ( أيدنا ( لأي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها ) أنعاماً ( ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله : ( فهم لها مالكون ) أي ضابطون قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب .
ولما كان الملك لا يستلزم الطواعية ، قال تعالى : ( وذللناها لهم ) أي يسرنا قيادها ، ولو شئنا لجعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف ، فمن قدر على تذليل(6/282)
صفحة رقم 283
الأشياء الصعبة جداً لغيره فهو قادر على تطويع الأشياء لنفسه ، ثم سبب عن ذلك قوله : ( فمنها ركوبهم ) أي ما يركبون ، وهي الإبل لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها ، ولمثل ذلك في التذكير بعظيم النعمة والنفع واستقلال كل من النعمتين بنفسه أعاد الجار ، وعبر بالمضارع للتجدد بتجدد الذبح بخلاف المركوب فإن صلاحه لذلك ثابت دائم فقال : ( ومنا يأكلون ( .
ولما أشار إلى عظمة نفع الكركوب والأكل بتقديم الجار ، وكانت منافعها من غير ذلك كثيرة ، قال : ( ولهم فيها منافع ) أي بالأصواف والأوبار والأشعار والجلود والبيع وغير ذلك ، وخص المشرب من عموم المنافع لعموم نفعه ، فقال جامعاً له لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة ، وكأنه عبر بمنتهى الجموع لاختلاف طعوم أفراد النوع الواحد لمن تأمل ) ومشارب ) أي من الألبان ، أخرجماها مميزة عن الفرث والدم خالصة لذيذة ، وكل ذلك لا سبب له إلا أن كلمتنا حقت به ، فلم يكن بد من كونه على وفق ما أردنا ، فليحذر من هو أضعف حالاً منها من حقوق أمرنا ومضي حكمنا بما يسوءه .
ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان ، لو فقده الإنسان لتكدرت معيشته ، سبب عن ذلك استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله : ( أفلا يشكرون ) أي يوقعون الشكر ، وهو تعظيم المنعم لما أنعم وهو استفهام بمعنى الأمر .
يس : ( 74 - 76 ) واتخذوا من دون. .. . .
) وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ( )
ولما ذكرهم نعمه ، وحذرهم نقمه ، عجب منهم في سفول نظهم وقبح أثرهم ، فقال موبخاً ومقرعاً ومبكتاً ومعجباً من زيادة ضلالهم عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه : ( واتخذوا ) أي فعلنا لهم ذلك والحال أنهم كلفوا أنفسهم على غير ما تهدي إليه الفطرة الأولى أن أخذوا ، أو يكون معطوفاً على ( كانوا ) من قوله : ( إلا كانوا به يستهزءون ( فيكون التقدير : إلا كانوا يجددةن الاستهزاء ، واتخذوا قبل إرساله إليهم مع ما رأوا من قدرتنا وتقبلوا فيه من نعمتنا : ( من دون الله ) أي والذي له جميع العظمة ، فكل شيء دونه ، وما كان دونه كان مقهوراً مربوباً ) آلهة ) أي لا شيء لها من القدرة ولا من صلاحية الإلهية .
ولما تقرر أنها غير صالحة لها أهلوها له ، تشوف السامع إلى السؤال عن سبب ذلك ، فقال جواباً له تعجيباً من حالهم : ( لعلهم ) أي العابدين .
ولما كان مقصودهم حصول النصر من أي ناصر كان ، بني للمفعول قوله : ( ينصرون ) أي ليكون حالهم بزعمهم في اجتماعهم عليها والتئامهم بها حال من ينصر على من يعاديه ويعانده ويناويه .(6/283)
صفحة رقم 284
ولما كان للنصر سببان : ظاهري وهو الاجتماع ، وأصلي باطني وهو الإله المجتمع عليه ، بين غلطهم بتضييع الأمل ، فقال مستأنفاً في جواب من كأنه قال : فهل بلغوا ما أرادوا ؟ : ( لا يستطيعون ) أي الألهة المتخذة ) نصرهم ) أي العابدين ) وهم ) أي العابدون ) لهم ) أي الآلهة ) جند ( ولما كان الجند مشتركاً بين العسكر والأعوان والمدينة ، عين المراد بضمير الجمع ولأنه أدل على عجزهم وحقارتهم فقال : ( محضرون ) أي يفعلون في الاجتماع إليها والمحاماة عنها فعل من يجمعه كرهاً إيالة الملك وسياسة العظمة ، فصارت العبرة بهم خاصة في حيازة السبب الظاهري مع تعبدهم للعاجز وذلهم للضعيف الدون مع ما يدعون من الشهامة والأنفة والضخامة ، فلو جمعوا أنفسهم على الله لكان لهم ذلك ، وحازوا معه السبب الأعظم .
ولما بين ما بين من قدرته الباهرة ، وعظمته الظاهرة ، وهي أمرهم في الدنيا والآخرة ، وكان قد تقدم ما لوم إلى أنهم نسبوه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الشعر ، وصرح باستهزائهم بالوعد مع ما قبل ذلك من تكذيبهم وإجابتهم للمؤمنين من تفسفيههم وتضليلهم ، سبب عن ذلك بعد ما نفى عنهم النصرة قوله تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فلا يحزنك ( قراءة الجماعة بفتح اليائ وضم الزاي ، ومعناه : يجعل فيك ، وقراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي تدل على أن المنهي عنه إنما هو كثرة الحزن والاستغراق فيه ، لا ما يعرض من طبع البشر من أصله ، فإن معنى أحزن فلاناً كذا ، أي جعله حزيناً ) قولهم ) أي الذي قدمناه تلويحاً وتصريحاً وغير ذلك فيك وفينا ولما كان علم القادر بما يعمل عدوه سبباً لأخذه ، علل ذلك بقوله مهدداً بمظهر العظمة : ( إنا نعلم ما ) أي كل ما ) يسرون ) أي يجددون إسراره ) وما يعلون ) أي فنحن نجعل ما يسببونه لأذاك سبباً لأذاهم ونفعك إلى أن يصيروا في قبضتك وتحت قهرك وقدرتك .
يس : ( 77 - 78 ) أو لم ير. .. . .
) أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( ( )
ولما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولاً من التحويل من حال إلى أخرى ، فثبتت بذلك قدرته على البعث ، وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة ، أتبع ذلك دليلاً أبين من الأول فقال عاطفاً على ) ألم يروا ( : ( أولم ير ) أي يعلم علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر .
ولما كان هذا المثل الذب قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق ، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو - وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من(6/284)
صفحة رقم 285
العقل - تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلاً فقال : ( الإنسان ) أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحداً ) أنا خلقناه ( بما لنا من العظمة ) من نطفة ) أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام ) فإذا هو ) أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من يريده حتى أنه ليجادل من أعطاء العقل والقدرة في قدرته ، أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في ذلك :
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعدوه رماني
ولما كان التقدير : فبعد - مع أنا تفردنا بالإنعام عليه - عيرنا وخاصم - بما خلقناه له من اللسان وآتيناه من البيان - رسلنا وجميع أهل ودنا ، عطف عليه قوله مقبحاً إنكارهم البعث تقبيحاً لا يرى أعجب منه ، ولا أبلغ ولا أدل على التمادي ، في الضلال والإفراط في الجحود وعقوق الأيادي : ( وضرب ) أي هذا الإنسان ؛ وسبب النزول أبي بن خلف الجمحي الذي قتله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأحد مبارزة ، فهو المراد بهذا التبكيت بالذات وبالقصد الأول ) لنا ) أي على ما يعلم من عظمتنا ) مثلاً ) أي آلهته التي عبدها لكونها لا تقدر على شيء مكابراً لعقله في أنه لا شيء يشبهنا ) ونسي ) أي هذا الذي تصدى على نهاية أصله لمخاصمة الجبار ، وأبرز صفحته لمجادلته ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول ، وأن بكون بمعنى الترك ) خلقه ) أي خلقنا لهذا المخاصم الدال على كمال قدرتنا ، وصار مقولاً له : يا قليل الفطنة أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون ؟ ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بالإخبار عن استحالته لأن يقدر أحد على إحياء الميت كما أن معبودانه لا تقدر على ذلك فقال : ( قال ) أي على سبيل الإنكار : ( من يحيي ( .
ولما كانت العظام أصلب شيء وأبعده عن قبول الحياة لا سيما إذا بليت وأرفتت قال : ( العظام وهي ( ولما أخبر عن المؤنث باسم لما بلي من العظام غير صفة ، لم يثبت تاء التأنيث فقال : ( رميم ) أي صارت تراباً يمر مع الرياح .
يس : ( 79 - 83 ) قل يحييها الذي. .. . .
) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ(6/285)
صفحة رقم 286
بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان موطناً يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه ، استأنف قوله مخاطباً من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره : ( قل ) أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلاً منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء ، وأعاد فعل الإحياء نصاً على المراد دفعاً للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال : ( يحييها ) أي من بعد أن بليت ثاني مرة ، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال : ( الذي أنشأها ) أي من العدم ثم أحياها ) أول مرة ) أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة ، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته ) وهو بكل خلق ) أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة ) عليم ) أي بالغ العلم ، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلاً وإن تفرقت في البر والبحر ، ولا شيء غير ذلك ، فالآية من بديع الاحتباك : الإحياء أولاً دال على مثله ثانياً ، والإنشاء ثانياً دال على مثله أولاً ، و ) أول مرة ( في الثاني دال على ( ثاني مرة ) في الأول ، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه ، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده ، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلاً ، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معاً النهاية التي ليش وراءها بيان ، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعناً بقوله : ( فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ( ) من بعثنا من مرقدنا ( ) فإذا هم جميع لدينا محضرون ( ) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( ) وامتازوا اليوم أيها المجرمون ( ) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ( ) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ( .
ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء - إذا صار تراباً واختلط بالتراب - عن غيره من التراب ، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده ، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه ، فقال معيداً للوصول تنبيهاً على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حياً : ( الذي جعل لكم ) أي متاعاً واستبصاراً ) من الشجر الأخضر ( الذي تشاهدون فيه الماء ) ناراً ( بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهو أنثى - فتخرج النار قال أبو حيان : وعن ابن عباس رضي الله عنهما :(6/286)
صفحة رقم 287
ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب - انتهى .
ولذلك قالوا في المثل المشهور : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ) فإذا أنتم ) أي فيتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنكم ) منه ) أي الشجر الموصوف بالخضرة بعينه ) توقدون ) أي توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى ، ما هو بخيال ولا سحر بل حقيقة ثابنة بينة ، وكأنه قدم الجار لكثرة إيقادهم منه ، إيقادهم من غيره لذلك ولعظمته عدماً .
ولما كان ذلك من غير كافة عليهم ، قدم الجار تخصيصاً له وعداً لغيره كالمعدوم ، فالذي قدر على تمييز النار من الماء والخشب وخبء النار فيهما لا النار تعدو على الخشب فتحرقه ولا الماء يعدو على النار فيطفئها قادر على تمييز تراب العظام من تراب غيرها ، ونفخ الروح كما نفخ روح النار في الحطب المضاد له بالمائية .
ولما كان التقدير : أليس الذي قدر على ذلك بقادر على ما يريد من إحياء العظام وغيرها ، عطف عليه ما هو أعظم شأناً منه تقديراً على الأدنى بالأعلى فقال : ( أوليس الذي خلق ) أي أوجد من العدم وقدر ) السموات والأرض ) أي على كبرهما وعظمتهما وعظيم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع ، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال : ( بقادر ) أي بثابت له قدرة لا يساويها قدرة ، ومعمى قراءة رويس عن يعقوب بتحتانية مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف ورفع الراء أنه يجدد تعليق القدرة على سبيل الاستمرار ) على أن يخلق ( ولفت الكلام إلى الغيبة إيذابناً بأنهم صاروا بهذا الجدل أهلاً لغاية الغضب فقال : ( مثلهم ) أي مثل هؤلاء الأناسي أي يعيدهم بأعيانهم كما تقول : مثلك كذا أي أنت ، وعبر به إفهاماً لتحقيرهم وأن إحياء العظام الميتة أكثر ما يكون خلقاً جديداً ، بل ينقص عن الاختراع بأن له مادة موجودة ، وعبر بضمير الجمع لأنه أدل على القدرة ، قال الرازي : والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء مقدراً بتقدير الإرادة والعلم واقعاً على وفقهما وإن كانت صفات الله تعالى أعلى من أن يطمحها نظر عقل ، وتلحقها العبارات اللغوية ، ولكن غاية القدرة البشرية واللغة العربية هذا .
ولما كان الجواب بعد ما مضى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة الاعتراف ، قال سبحانه مقرراً لما بعد النفي إشارة إلى أنه تجب المبادرة إليه ، ولا يجوز التوقف فيه ومن توقف فهو معاند : ( بلى ) أي هو قادر على ذلك ) وهو ( مع ذلك أي كونه عالماً بالخلق ) الخالق ( البالغ في هذه الصفة مطلقاً في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل شيء ما لا تحيط به الأوهام ، ولا تدركه العقول والإفهام ، ولم ينازع أحد في العلم بالجزئيات بعد كونها ، كما نازعوا في القدرة على إيجاد بعض الجزئيات ، فاكتفى فيه(6/287)
صفحة رقم 288
بصيغة فعيل فقيل : ( العليم ) أي البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة ، فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماضٍ ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب .
ولما تقرر ذلك ، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكارهم القدرة على البعث : ( إنما أمره ) أي شأنه ووصفه ) إذا أراد شيئاً ) أي إيجاد شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان ) أن يقول له كن ) أي أن يريده ؛ ثم عطف على جواب الشرط على قراءة ابن عامر والكسائي بالنصب ، واستأنف على قراءة غيره بالرفع بقوله : ( فيكون ) أي من غير مهلة أصلاً على وفق ما أراد .
ولما كان ذلك ، تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فذللك قال : ( فسبحان ) أي تنزه عن كل شائبة نقص تبوها لا تبلغ أفهامكم كنهه ، وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال : ( الذي بيده ) أي بقدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره ) ملكوت كل شيء ) أي ملكه التام وملكه ظاهراً وباطناً .
ولما كان التقدير : فمنه تبدؤون ، عطف عليه قوله : ( وإليه ) أي لا إلى غيره من التراب أو غيره ، ولفت القول إلى خطابهم استصغاراً لهم وإحتقاراً فقال : ( ترجعون ) أي معنى في جميع أموركم وحساً بالبعث لينصف بينكم ، فيدخل بعضاً النار وبعضاً الجنة ، ونبهت قراءة الجماعة بالبناء للمفعول على غاية صغارهم بكون الرجوع قهراً وبأسهل أمر ، وزادت قراءة الجماعة بالبناء للمفعول على غاية صغارهم بكون الرجوع من شدة سهولته عليه كأنه ناشئ عن فعلهم بأنفسهم اختياراً منهم ، فثبت أنه سبحانه على كل شيء قدير ، فثبت قطعاً أنه حكيم لا ، فثبت قطعاً أنه لا إله إلا هو ، وأن كلامه حكيم ، وثبت بتمام قدرته أنه حليم لا يعجل على أحد بالعقاب ، فثبت أنه أرسل الرسل للبشارة بثوابه والنذارة من عقابه ، فثبت أنه أرسل هذا النبي الكريم لما أيده به من المعجزات ، وأظهره على يده من الأدلة الباهرات ، فرجع آخر السورة بكل من الرسالة وإحياء الموتى إلى أولها ، واتصل في كلا الأمرين مفصلها بموصلها ، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب .
.. .(6/288)
صفحة رقم 289
سورة الصافات
الصافات : ( 1 - 7 ) والصافات صفا
) وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ( ( )
مقصودها الاستدلال على آخر يس من التنزه عن النقائص اللازم منه رد العباد للفصل بينهم بالعدل اللازم منه الوحدانية ، وذلك هو المعنى ذلك أشار إليه وسمها بالصافات ) وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ( ) بسم الله ) أي الذي له الكمال المطلق فلا يدنو من جنابه نقص ) الرحمن ( الذي منٍّ برحمة العدل في الدارين ) الرحيم ( الذي يمنّ على من يريد بالطاعة بالثواب والمتاب لإسقاط العقاب .
لما كان الإنفراد بالملكوت لا يكون إلا مع الوحدانية بالذات ، وفي ذلك استحقاق الاختصاص بالإلهية ، وكان ذلك - مع أنه بحيث لا يخفى على ذي لب - عندهم في غاية البعد ، ولذلك لا يسلمون ما يتعلق بالملكوت وينكرونه غاية الإنكار ، ناسب أن يقسم عليه .
ولما كان من البلاغة أن يناسب بين القسم والمقسم عليه ، وكان الاصطفاف دالاً على اتحاد القصد كما في صفوف القتال والصلاة ، وكان الملائكة لا قصد لهم إلا الله من غير عائق عن ذلك فكانوا أحق الخلق بالاصطفاف ، تارة للصلاة ، وتارة للتسبيح والتقديس ، وتارة لتدبير الأرزاق ، وتارة لتعذيب أهل الشقاق - إلى غير ذلك من الأمور التي لا تسعها الصدور ، وكانوا بعد زجرة الإحياء المصرح بهما في السورة الماضية ثم زجرتي الصعق والإفاقة الآتيتين في الزمر حين تشقق السماء بالغمام وتكون وردة كالدهان ، وتنفطر بسطوة المليك الديان ، ويتكرر ما فيها من أجرام ومعان ، تنزل ملائكة كل سماء فتصير صفاً مستديراً ، ملائكة الأولى حول أهل الأرض ، وملائكة الثانية حول ملائكة الأولى وهكذا ، ثم يصيرون إذا قيل ) ) يا معشر الجن والإنس إن(6/289)
صفحة رقم 290
استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ( ) 7
[ الرحمن : 33 ] فماج العباد بعضهم في بعض من شدة الزحام ، وطول القيام ، كلما مالوا على جهة من جهاتهم زجروهم زجراً ردوهم به عن النفوذ ، مع أن انتظام المدبرات الناشئ عن اصطفافهم في التدبير في طاعة الملك القدير دال على الوحدانية ، قال تعالى : ( والصافات ) أي الجماعات من الملائكة والمصلين والمجاهدين المكملين أنفسهم بالاصطفاف في الطاعة ، فهو صفة لموصوف محذوف مؤنث اللفظ ، وعدل عن أن يقول : ( الصافين ) القاصر على الذكور العقلاء ليشمل الجماعات من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش وغيرها ، إشارة إلى أنه لا يؤلف بين شيء منها ليتحد قصده إلا واحد قهار ، وأنه ما اتحد قصد شيء منها إلا استوى صفة ، ولا اعتدل صفة إلا اتحد زجره وهو صياحه ، ولا اتحد زجره إلا اتحد ما يذكره بصوته ، ولا اتحد منه ذلك إلا نجح قصده واتضح رشده بدليل المشاهدة ، وأدلها أن الصحابة رضي الله عنهم لما اتحد قصدهم في إعلاء الدين وهم أضعف الأمم وأقلها عدداً لم يقم لهم جمع من الناس الذين لا نسبة لهم إليهم في قوة ولا كثرة ، ولم ينقص صفهم ، وجرح القلوب وأبارها زجرهم ، وشرح الصدور وأنارها ذكرهم ، كما اشار إليه تعالى آخر هذه السورة بقوله ) وإن جندنا لهم الغالبون ( وكذا غير الآدميين من الحيوانات كما يرى من الفار والجراد إذا أراد الله تعالى اتحاد قصده في شيء فإنه يغلب فيه من يغالبه ، ويقهر من يقاويه أو يقالبه ، فبان أن الخير كله ما أريد بالقسم ، واتحد جداً بالمقسم عليه والتأم والتحم به أي التحام ، وانتظم معناهما كل الانتظام .
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال : ( صفاً ( وهو ترتيب الجمع على خط .
ولما كان توحد القصد موجباً للقوة المهيئة للزجر ، وكان تكميل الغير مسبباً عن تكميل النفس ، ومرتباً عليه ، وأشرف منه لو تجرد عن التكميل ، وكان التكميل إنما يتم أمره ويعظم أثره مع الهيبة ( فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ) قال عاطفاً بالفاء : ( فالزاجرات ) أي المنتهرات عقب الصف كل من خرج عن أمر الله ) زجراً ) أي انتهاراً بالمواعظ وغيرها تكميلاً لغيرهم .(6/290)
صفحة رقم 291
ولما كانت الإفاضة مسببة عن حسن التلقي المسبب عن تفريغ البال المسبب عن هيبة المفيد ، وكان فيض التلاوة أعظم الفبض قال : ( فالتاليات ) أي التابعات استدلالاً على قولهم وفعلهم وتمهيداً لعذرهم وتشريفاً لقدرتهم ، وتكميلاً لغيرهم : ( ذكراً ) أي موعظة وتشريفاً وتذكيراً من ذكر ربهم غفاضة على غيرهم من روح العلم وإدغام التاء في الصاد والزاي والذال إشارة إلى أن ذلك مع هوله وعظمه قد يخفى من غير من يريد الله إطلاعه عليه ، فقد قطعت الصيحة قلوب الكفرة من ثمود وغيرهم ، ولم تؤثر فيمن آمن منهم ، وقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يأتي به من القرآن والصحابة رضي الله عنهم حوله لا يستمعون شيئاً منه - والله الموفق ) إن إلهكم ) أي الذي اتخذتم من دونه آلهة ) لواحد ) أي فإن التفرق لا يأتي بخير ، لما يصحبه من العجز البعيد جداً عن الكمال الذي لا تكون الإلهية أصلاً إلا معه ، فإليه لا إلى غيره ترجعون ليفصل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ، وهو الذي أنزل هذا الكتاب بعزته ورحمته وحرسه من اللبس وغيره بما سيذكر من كبريائه وعظمته ولو لم يكن واحداً لاختل أمر هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة ، وما يترتب عليها ، فاختل نظام هذا الوجود الذي نشاهده كما نشاهد في أحوال الممالك عند اختلاف الملوك في تغيير العوائد ونسخ الشرائع التي كان من قبلها أطدها وجميع ما له من الآثار والخصائص ، ونحن نشاهد هذا الوجود على ما أحكمه سبحانه وتعالى لا يتغير شيء منه عن حاله الذي حده له ، فعلمنا أنه واحد لا محالة متفرد بالعظمة ، لا كفوء له من غير شك .
وقاال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد وما يهتدي الموفق باعتبار بعضه ، ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه ، ويشهد بأن الملك بجملته لواحد ، وإن رغم أنف المعاند والجاحد ، أتبعها تعالى بالقسم علة وحدانيته فقال تعالى ) والصافات ( - الآية إلى قوله تعالى ) إن إلهكم لواحد ( إلى قوله ) ورب المشارق ( ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى ) إنا رأينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ( إلى قوله ) شهاب ثاقب ( ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه ) إنا خلقناهم من طين لازب ( ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا ، والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب ، وأخذ كل بذنبه ، وتخليص رسل الله وحزبه ، وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائهم وقربه ، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعتدين إلى ختم السورة - انتهى .(6/291)
صفحة رقم 292
ولما ثبت أنه واحد ، أنتج وصفه بقوله : ( رب ) أي موجد ومالك وملك ومدبر ) السموات ) أي الأجرام العالية ) والأرض ) أي الأجرام السافلة ) وما بينهما ) أي من الفضاء المشحون من المرافق والمعاون بما تعجز عن عدة القوى ، وهذا - مع كونه نتيجة ما مضى - يصلح أن يكون دليلاً عليه لما أشار إليه من انتظام التدبير الذي لا يتهيأ مع التعدد كما أن المقسم به هنا إشارة إلى دليل الوحدانية أيضاً على نظام واحد دائماً في الطاعة التي أشير إليها بالصف والزجر والتلاوة ، فسبحان من جعل هذا القرآن معجز النظام ، بديع الشأن بعيد المرام .
ولما كان السياق للإفاضة بالتلاوة وغيرها ، وكانت جهة الشروق جهة الإفاضة بالتجلي الموجد للخفايا الموجب للتنزه عن النقائص ، وكان الجميع أليق بالاصطاف الناظر إلى القهر بالأئتلاف قال : ( ورب المشارق ) أي الثلاثمائة والستين التي تجلى عليكم كل يوم فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة على كر الدهور والأعوام ، والشهور والأيام ، على نظام لا ينحل ، ومسير لا يتغير ولا يختل ، وذكرها يدل قطعاً على المغارب لأنها تختلف بها ، وأعاد الصفة معها تنبيهاً على ضوح دلاتها بما فيها مما السياق من الاصطفاف الدال على حسن الائتلاف ، وللدلالة على البعث بالآيات بعد الغياب .
ولما كانت المشارق تقتضي الفيض والإظهار ، أتبع ذلك نتيجته بما من شأنه الشروق والغروب ولو بمجرد الخفاء والظهور ، فقال مؤكداً مع لفت الكلام إلى التكلم في مظهر العظمة سبحانه وتعالى ، وفخم التعبير عن الزينة بتضعيف الفعل لمثل ذلك : ( إنا زينا ) أي بعظمتنا التي لا تدانى ) السماء ( ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات ، وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال : ( الدنيا ) أي التي هي أدنى السماوات إليكم .
ولما أشير إلى أن الصف زينة في الباطن باتحاد القصد كما أنه زينة في الظاهر بحسن الشكل وبديع الرصف ، زيد في التنبيه على ذلك بإعادة ما فهم من ( زينا ) في قوله : ( بزينة الكواكب ) أي بالزينة التي للنجوم النيرة البراقة المتوقدة الثابتة في محالها - قارة أو مارة - المرصعة في السماء ترصيع المسامير الزاهرة كزهور النور المبثوث في خضرة الرياض الناضرة ، فهي مع عدم التنوين والخفض إضافة بيانية كثوب خز ، ومن نوّن الزينة فإن خفض الكواكب فعلى البدل ، أي الكواكب التي هي زينة ، وإن نصب فعلى المدح بتقدير أعني ، أو على أنه بدل اشتمال من السماء ، أي كواكبها ، إما(6/292)
صفحة رقم 293
بكونها فيما دونها من الجو فبظن أنها فيها ، أو يكونها فيها من جانبها الذي يلينا ، أو بكونها تشف عنها وإن كان بعضها فيما هو أعلى منها ، وزينتها انتظامها وارتسامها على هذا النظم البديع في أشكال متنوعة وصور مستبدعة ما بين صغار وكبار ، منها ثوابت ومنا سيارة وشوارق وغوارب - إلى غير ذلك من الهيئات التي لا تحصى ، ولا حد لها عند البعاد العجزة فيستقصى .
ولما كان كون الشيء الواحد لأشياء متعددة أدل على القدرة وأظهر في العظمة ، قال دالاً بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر على مقدر يدل على أن الزينة بالنجوم أمر مقصود لا اتفاقي : ( وحفظاً ) أي زيناها بها للزينة وللحفظ ) من كل شيطان ) أي بعيد عن الخير محترق .
ولما كان القصد التعميم في الحفظ من كل عاتٍ سواء كان بالغاً في العتو أو لا قال : ( مارد ) أي مجرد عن الخير عاتٍ في كل شر سواء كان بالغاً في ذلك أقصى الغايات أو كان في أدنى الدرجات كضارب وضراب .
الصافات : ( 8 - 13 ) لا يسمعون إلى. .. . .
) لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ ( ( )
ولما كان المراد في سورتي النساء والحج ذم الكفرة بفعل ما ليس في كونه شراً لبس ، وبوضع النفس باتباع ما لا شك في دناءته ببعده عن الخير بعد الإخفاء به ، عبر بالمريد للمبالغة ، وكما أنه حرس السماء المحسوسة بما ذكره سبحانه وتعالى فكذلك زين عز وجل قلوب الأولياء التي هي كالسماء لأراضي أجسامهم بنجوم المعارف ، فإذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فرشقته شهب أحوالهم ومعارفهم وأقوالهم .
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته ، استأنف قولاً : ( لا يسمعون ) أي الشياطين المفهومون من كل شيطان ، لا يتجدد لهم سمع أصلاً ، قال ابن الجوزي : قال الفراء : ( لا ( هنا كقوله ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به ) ويصلح في ) لا ( على هذا المعنى الجزم ، والعرب تقول : ربطت في شيء لا ينفلت - انتهى .
ويؤخذ من التسوير بكل ثم الجمع نظراً إلى المعنى ، والإفراد لضمير الخاطف وللخطفة أنهم معزولون عن السمع جمعهم ومفردهم من الجمع ، وأن الخطف يكون - إن اتفق - في الواحد لا الجمع ومن الواحد لا الجمع ، وللكلمة وما حكمها لا أكثر ، وإليه يشير حديث الصحيح ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ) وأكد بعدهم يلإثبات حرف الغاية ، فقال مضمناً ) سمع ( بعد قصره معنى ( انتهى ) أو ( أصغى ) ليكون المعنى : لا ينتهي سمعهم أو تسمعهم أو إصغاؤهم ) إلى الملأ ) أي الجمع العظيم الشريف ، (6/293)
صفحة رقم 294
وأوضحت هذا المعنى قراءة من شدد السين والميم بمعنى يتسمعون ، أي بنوع حيلة ، تسمعاً منتهياً إلى ذلك ، وهو يفهم أنهم يتسمعون ، ولكن لا ينتهي تسمعهم إلى ما ذكر ، بما أشار إليه الإدغام ، ويشير أيضاً إلى أنهم يجتهدون في إخفاء أمرهم ، وأفرد الوصف دلالة أيضاً على أن العطف يكون من واحد لا من جميع فقال : ( الأعلى ) أي مكاناً ومكانة بحيث يلمؤون العيون بهجة والصدور هيبة .
ولما كان التقدير : لأنهم يطردون طرداً قوياً ، دل عليه بالعاطف في قوله : ( ويقذفون ) أي الشياطين يرمون رمياً وحياً يطردون ، وبني للمفعول لأن النافع قذفهم لا تعيين قاذفهم ، مع أنه أدل على القدرة الألهية عزت وجلت ) من كل جانب ) أي من جوانب السماوات بالشهب إذا قصدوا السماع بالاستراق ) دحوراً ) أي قذفاً يردهم مطرودين صاغرين مبعدين ، فهو تأكيد للقذف بالمعنى أو مفعول له أو حال .
ولما كان هذا ربما سبباً لأن يظن ظان أنهم غير مقدور عليهم في غير هذه الحالة بغير هذا النوع أخبر أنهم في قبضته ، وإنما جعل حالهم هذا فتنة لمن أراد من عباده ، فقال معبراً باللام التي يعبر بها غالباً عن النافع تهكماً بهم : ( ولهم عذاب ) أي في الدنيا بهذا وبغيره ، وفي الآخرة يوم الجمع الأكبر ) واصب ) أي دائم ممرض موجع كثير الإيجاع مواظب على ذلك ثابت عليه وإن افترق الدوامان في الاتصال والعظم والشدة والألم .
ولما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان ، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز ، استثنى من فاعل ) الخطفة ) أي اختلس الكلمة أو أكثر ، مرة من المرات منهم ، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله : ( فأتبعه ( مع تعديه بدونها ، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف ) شهاب ) أي شعلة النار من الكوكب أو غيره ) ثاقب ) أي يثقب ما صادفه من جني وغيره وإن كان الجني من نار فإنه ليس ناراً خالصة ، وعلى التنزل فربما كان الشيء الواحد أنواعاً بعضها أقوى من بعض ، فيؤثر أقواه في أضعفه كالحديد ، وتارة يخطئ الجني وتارة يصيبه ، وإذا أصابه فتارة يحرقه فيتلفه وتارة يضعفه .
ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة : التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر ، ودل سبحانه بهذه المذكورات على وجوده وكمال علمه(6/294)
صفحة رقم 295
وتمام قدرته على الأفعال الهائلة وبديع حكمته اللازم منه إثبات وحدانيته تفصيلاً لبعض إجمال ) أو ليس الذي خلق السموات والأرض ( فكان ما دونها من الأفعال أولى ، سبب عن ذلك لإثبات الحشر الذي أخبر به هذا القرآن الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب التي أنشأ منها الشهب الثواقب قوله تهكماً بهم : ( فاستفهم ) أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث ، وأصله من الفتوة وهي الكرم : ( أهم أشد ) أي أقوى وأشق وأصعب ) خلقاً ) أي من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ) أم من ( ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه سبحانه ، عبر بما يدل على ذلك دون ذكرنا ، وليكون أعم ، وحذف المفعول لأنه مفهوم ، ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين ، فقال : ( خلقنا ) أي من هذه الأشياء التي عددناها من الحي وغيره من الجن الذين أعطيناهم قدرة التوصل إلى الفلك وغيرهم ، وعبر ب ( من ) تغليباً للعاقل من الملائكة وغيرهم مما بين السماوات والأرض .
ولما كان الجواب قطعاً أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقاً ، قال دالاً على إرادة التهكم بهم في السؤال ، مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم البعث لاستبعادهم تمييز التراب من التراب يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه : ( إنا خلقناهم ) أي على عظمتنا ) من طين ) أي تراب رخو مهين ) لازب ) أي شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وضمر وتضايق وتلازم بعضه لبعض ، وقل واشتد ودخل بعض التراب المنتثر من بعض ، قال ابن الجوزي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الطين الحر الجيد اللزق .
وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه من غير أب ولا أم ، فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه الذي عدده قبل ذلك سبحانه الذاتية التي لا يمتنع عليها مقدور ، ولا يعجزها مأمور ، فدل ابتداء خلقهم وخلق ما هو أشد منهم وأعظم على القدرة على إعادتهم قطعاً بل بطريق الأولى من غير وجه ، وحسن هذا الاستفتاء كل الحسن ختم الكلام قبله بمن بلغوا السماء تكبراً وعلواً ، وهموا بما لم ينالوا تجبراً وعلواً ، وسلط عليهم ما يردهم مقهورين مبعدين مدحورين ، واستثنى منهم من ) خطف ( ليعلم أنه غير محال ما تعلقت به منهم الآمال ، هذا مع ذكره في خلقهم من الطين اللازب الذي من شأنه الرسوب لثقله والسفول كما أن من شأن من ختم بهم ما قبله العلو لخفتهم والصعود .
ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد بهذا الأمر بالاستفتاء إنما هو التبكيت لأن(6/295)
صفحة رقم 296
من المعلوم قطعاً أن الجواب : ليسوا أشد خلقاً من ذلك ، فليس بعثهم ممتنعاً ، وليست غلبتهم لرسول الواحد القهار - الذي حكمه في هذا الوحي بإظهاره على الدين كله - بجائزة أصلاً ، نقلاً ولا عقلاً ، بوجه من الوجوه ، فلا شبهة لهم في إنكاره ولا في ظنهم أنهم يغلبون رسولنا ، بل هم في محل عجب شديد في إنكاره وظنهم أنهم غالبون في الدنيا ، عبر عن ذلك بقوله ، مسنداً العجب إلى أجلّ الموجودات أو أجلّ المخلوقات تعظيماً لم بمعنى أنه قول يستحق أن يقال فيه : أنه لا يدري ما الذي أوقع فيه وكان سبباً لارتكابه ، فقال : ( بل عجبت ( بضم التاء على قراءة حمزة والكسائي لفتاً للقول من مظهر العظمة للتصريح بإسناد التعجب إليه سبحانه إشارة إلى تناهي هذا العجب إلى حد لا يوصف لإسناده إلى من هو منزه عنه ، وبفتحها عند الباقين أي من جرأتهم في إنكارهم البعث ولا سيما وقد دل عليه القرآن في هذه الأساليب الغريبة والوجوه البديعة العجيبة التي لا يشك فيها من له أدنى تصور ، وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ظن كما هو اللائق أنه لا يسمع القرآن أحد إلا آمن به ، قال القشيري : وحقيقة التعجب تغير النفس بما خفي فيه السبب مما لم تجر العادة بحدوث مثله ، ومثل هذا حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأم سليم وأبي طلحة رضي الله عنهما : ضحك - وفي رواية : ( عجب - الله من فعالكما الليلة ) وحديث البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً ( عجب ربنا من أقدام يقادون إلى الجنة في السلاسل ) .
ومثله كثير ، والمعنى في الكل التنبيه على عظم الفعل وأنه خارق للعادة ، ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم ينكروه لقلة الدلائل عليه ، بل قد أتى من دلائله ما يعجب إعجاباً عظيماً من كثرته وطول الأناة في مواترته ) ويسخرون ) أي حصل لك العجب والحال أنهم يجددون السخرية كلما جئتهم بحجة ) وإذا ذكروا ) أي وعظوا من أيّ كان بشيء هم به عارفون جداً يدلهم على البعث مثل ما يذكرون به من القدرة ، مع أنه لا يجوز في عقل عاقل منهم أن أحداً يدع مَن تحت يده بلا محاسبة ) لا يذكرون ) أي لا يعلمون بموجب التذكير .
الصافات : ( 14 - 19 ) وإذا رأوا آية. .. . .
) وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُواْ إِن هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ( ( )(6/296)
صفحة رقم 297
ولما ذكر إعراضهم عن المسموع ، أتبعه إعراضهم عن المرئي فقال : ( وإذا رأوا آية ) أي علامة على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره ) يستسخرون ) أي يطلبون السخرية بها بأن يدعو بعضهم بعضاً لذلك من شدة استهزائهم .
ولما كان إنكارهم للبعث ولو صدر مرة واحدة في الشناعة والعظم والقباحة مثل تجديدهم للسخرية كلما سمعوا آية والمبالغة فيها لأن دلائله من الظهور والوضوح بمكان هو في غاية البعد عن الشكوك ، دل على ذلك بالتعبير بالماضي فقال : ( وقالوا ) أي ما هو غاية في العجب : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي الذي أتانا به من أمر البعث وغيره مما شاهدناه أو أخبرنا به ) إلا سحراً ) أي خيال وأمور مموهة لا حقائق لها ) مبين ) أي ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصوا البعث بالإنكار : ( أإذ متنا ( وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا : ( وكنا ) أي كوناً هو في غاية التمكن ) تراباً ( قدموه لأنه أدل على مرادهم لأنه أبعد عن الحياة ) وعظاماً ( كأنهم جعلوا كل واحد من الموت والكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة أو المختلطة منهما مانعاً من البعث ، وهذا بعد اعترافهم أن ابتداء خلقهم كان من التراب مع أن هذا ظاهر جداً ( لكن عقول ضلها باريها ) ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به زيادة في الإنكار فقالوا : ( أإنا لمبعوثون ( .
ولما كان المعنى : أيثبت بعثنا ، عطفوا عليه قولهم مكررين للاستفهام الإنكاري تأكيداً لزيادة استبعادهم حتى أنهم قاطعون بأنه محال فقالوا قولاً واهياً : ( أو آباؤنا ) أي يثبت بعثنا وكذا وزادوا في الاستبعاد بقولهم : ( الأولون ( اي الذين طال مكثهم في الأرض تحت أطباق الثرى وانمحقت أجزاؤهم بحيث لم يبق لهم أثر ما ، ومرت الدهور ولم يبعث أحد منهم يوماً من الأيام ، يدلنا بعثه على ما يدعي من ذلك .
ولما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة ، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى : ( قل نعم ) أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه ، وذكر حالهم بقوله : ( وأنتم داخرون ) أي مكرهون عليه صاغرون ذليلون حقيرون .
ثم سبب عن الوعد بتحتم كونه ما يدل على أنه غاية في الهوان فقال : ( فإنما ) أي يكون ذلك بسبب أنكم تزجرون فتقومون ، والزجرة التي يقومون بها إنما ) هي زجرة ) أي صيحة ، وأكد ما يفهمه من الوحدة لأجل إنكارهم تصريحاً بذلك وتحقيراً لأمر البعث في جنب قدرته سبحانه وتعالى فقال : ( واحدة ( وهي الثانية التي كانت الإماتة لجميع الأحياء في آن واحد بمثلها ، وأصل الزجر الانتهار(6/297)
صفحة رقم 298
ويكون لحث أو منع ، وإنما يكون ذلك للمقدور عليه فعل ما يغضب الزاجر ، فلذلك سمى الصيحة زجرة .
ولما كان هذا الكلام مؤذناً بالغضب ، حققه بصرف الكلام عن خطابهم جعلاً لهم بمحل البعد وتعميماً لغيرهم ، فقال معبراً بالفاء المسببة المعقبة وأداة المفأجأة : ( فإذا هم ) أي جميع الأموات بضمائرهم وظواهرهم القديم منهم والحديث أحياء ) ينظرون ) أي في الحال من غير مهلة أصلاً ، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً ، ومن هو بين ذلك ، ولعله خص النظر بالذكر لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قبض الروح تبعه البصر ) .
وأما السمع فقد يكون لغير الحي لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في الكفار من قتلى بدر ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) .
وشاهدت أنا في بلاد العرقوب المجاروة لبانياس من بلاد الشام شجرة شوك يقال لها الغبيراء متى قيل عندها ( هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة ) أخذ ورقها في الحال في الذبول - فالله أعلم ما سبب ذلك .
الصافات : ( 20 - 28 ) وقالوا يا ويلنا. .. . .
) وَقَالُواْ يوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( ( )
ولما حصل الغرض من تصوير حالهم بهذا الفعل المضارع ، عطف عليه بصيغة المضي التي معناها الاستقبال إعلاماً بتحقق الأمر تحقق ما مضى وكان ، وتحققه مع القيام سواء من غير تخلف ولا تخلل زمان أصلاً فقال : ( وقالوا ) أي كل من جمعه البعث من الكفرة معلمين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل : ( يا ويلنا ( اي يا من ليس لنا نديم غيره ) هذا يوم الدين ) أي الجزاء لكل عامل .
ولما كان قولهم هذا إنما هو للتحسر على ما فاتهم من التصديق النافع به ، زادوا في ذلك بقولهم يخاطب بعضهم بعضاً بدلاً أو وصفاً بعد وصف دالين بإعادة اسم الإشارة على ما داخلهم من الهول : ( هذا يوم الفصل ) أي الذي يفصل فيه بين(6/298)
صفحة رقم 299
الخصوم ، ثو زادوا تأسفاً وتغمماً وتلهفاً بقولهم ، لافتين القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أدل على ذم بعضهم لبعض عن الإنصاف بالاعتراف : ( الذي كنتم ) أي يا دعاة الويل جبلة وطبعاً ) به تكذبون ( وقدموا الجار إشارة إلى عظيم تكذيبهم به ، فبينما هم في هذا التأسف إذ برز النداء بما يهدئ قواهم ، ويقر قلوبهم وكلاهم ، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم ، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله : فقيل الملائكة ، أو فقلنا ، أو فبرز النداء من جانب سلطاننا - ونحو هذا : ( احشروا ) أي اجمعوا بكره وصغار وذل أيها الموكلون بالعباد من الأجناد ، وأظهر تعريفاً بوصفهم الموجب لحتفهم فقال : ( الذين ظلموا ) أي بما كانوا فيه في الدنيا بوضع الأشياء في غير محالها من الخبط الذي لا يفعله إلا من هو في أشد الظلام ) وأزواجهم ) أي أتباعهم ولو بشطر كلمة أو رضى فعلهم لتصير كل طائفة على حدة فيصير بعضهم يبكت بعضاً وبعضهم يشتم بعضاً ) وما كانوا ( لأي بما دعتهم إليه طباعاتهم المعوجة ) يعبدون ) أي مواظبين على عبادته رجاء منفعته تحقيقاً لخسارتهم بتحقق اعتمادهم على غير معتمد ، وهو يعم المعبود حقيقة أو مجازاً بالتزيين ) ومن سبقت له الحسنى ( مستثنى بآية الأنبياء ، وأشار إلى سفول رتبة معبوداتهم وتسفيه آرائهم بانتحال الأذى بقوله صارفاً الأسلوب من المتكلم ولو بمظهر العظمة إلى أعظم منه : ( من دون الله ) أي الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال ، والمراد الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بتوحيد الله .
ولما كانوا قد سلكوا في الدنيا طريق الشقاء المعنوية استحقوا أن يلزموا في القيامة سلوك طريقة الحسية ، فلذلك سبب عن الأمر بحشرهم قوله تهكماً بهم وتحسيراً لهم : ( فاهدوهم ) أي دلوهم دلالة لا يرتابون معها ليعرفوا - مع ما هم فيه من الإكراه على سلوكها - مآلهم ، فيكون أعظم في نكدهم ؛ قال الرازي : وأصل الهداية التقدم ، والعرب تسمي السابق هادياً ، يقال : أقبلت هوادي الخيل أي أعناقها ، والهادية : العصى - لأنها تتقدم ممكسها ، ونظر فلان هدى أمره أي جهته .
ثم أشار إلى طول وقوفهم وسوء مقامهم بقوله بأداة الانتهاء : ( إلى صراط الجحيم ) أي طريق النار الشديدة التوقد الواضح الذي لا لبس عندهم بأنه يشترطهم فيؤديهم إليها ، وخص هذا الأسم غعلاماً بشديد توقدها وعظيم تأججها ، وبعد قعرها وضخامة غمرتها ، بتراكم بعضها فوق بعض وقوة اضطرامها ، وعلو شأنها واصطلاحها ، وصلابة اضطرابها وتحرقها واشتمالها(6/299)
صفحة رقم 300
على داخليها وتضايقها ، وفيه تهكم بهم في كونهم على غير ما كانوا عليه في الدنيا من التناصر والتعاضد .
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة ، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال : ( وقفوهم ) أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال ، فكانت ثمرتها الشقاوة ، وإيقافهم يكون عند الصراط - نقله البغوي عن المفسرين ، قال : لأن السؤال عند الصراط .
ثم علل ذلك بقوله : ( إنهم مسؤولون ( وجمع عليهم الهموم بهذه الكلمة لتذهب أوهامهم كل مذهب ، فلا تبقى حسرة إلا حضرتهم ، ولا مصيبة إلا علت قلوبهم فقهرتهم ، فإن المكلف كله ضعف وعورة ، فموقف السؤال عليه أعظم حسرة .
ولما أوقفوا هذا الموقف الذليل ، قد شغلهم ما دهمهم من الأسف عن القال والقيل ، نودوا من مقام السطوة ، وحجاب الجبروت والعزة ، زيادة في تأسيفهم و توبيخهم وتعنيفهم لفتاً عن سياق الغيبة إلى الخطاب دلالة على أعظم خيبة : ( ما لكم ) أي أيّ شيء حصل لكم فشغلكم وألهاكم حال كونكم ) لا تناصرون ) أي ينصر بعضكم بعضاً ، ويتسابقون في ذلك تسابق المتناظرين فيه أولي الجد والشكيمة والنخوة والحمية ولو بأدنى التناصر - بما يفهمه إسقاط التاء ، أو بعد تمكث وإعمال حلية - بما أشارت إليه قراءة البزي عن ابن كثير بالمد والإدغام : أين قولكم في بدر ( نحن جميع منتصر ) معبرين بما دل على ثبات المناصرة .
ولما كان قد دهمهم من الأمر ما أوجب إبلاسهم ، وأحدّ إدراكهم وإحساسهم ، أشار إلى ذلك بإحلالهم في محل الغيبة المؤذنة بالإبعاد بأن قال مضرباً عما تقديره : أنهم لا يتناصرون : ( بل هم ( وزاد في تعظيم ذلك الوقت والتذكير به فقال : ( اليوم مستسلمون ) أي ثابت لهم استسلامهم ثباتاً لا زوال له ، قد خذل بعضهم بعضاً موجدين الإسلام أي الانقياد إيجاد من كأنه يطلبه ويعظم فيه رغبته رجاء أن يخفف ذلك عنهم .
ولما أخبر بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ، كان ربما ظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد نكدهم ، فقال عاطفاً على قوله ) وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ( إشارة إلى إقبالهم على الخصام ، حين تمام القيام ، والأخذ في تحريك الأقدام ، بالسير على هيئة الاجتماع والازحام ، إلى مواطن النكد والاغتنام ، ولم يعطفه بالفاء لأنه ليس مسبباً عن القيام ، ولا عن الإيقاف للسؤال ، بخلاف ما يأتي عن أهل الجنة : ( وأقبل بعضهم ((6/300)
صفحة رقم 301
أي الذين ظلموا ) على بعض ) أي بعد إيافهم وتوبيخهم ، وعبر عن خصامهم تهكماً بهم بقوله : ( يستاءلون ) أي سؤال خصومة .
ولما كان كأنه قيل : عما ذا ؟ أجيب بقوله : ( قالوا ) أي الأتباع لرؤسائهم مشرين بأداة الكون إلى المداومة على إضلالهم مؤكدين لأجل تكذيب الرؤساء لهم : ( إنكم كنتم ( ولما كانوا يستغوونهم ويغرونهم بما تقبله عقولهم على ما جرت به عوائدهم بحيث يقطعون بذلك قطع من كان يريد الذهاب إلى أمر فتطير بالسانح والبارح ، فرأى ما يحب فأقدم عليه وهو قاطع بحصوله ، أشاروا إلى ذلك بقوله : ( تأتوننا ( مجاوزين لنا ) عن اليمين ) أي عن القوة والقهر والغلبة والسلطان في حملكم لنا على الضلال ، ففعلنا في طاعتكم فعل من خرج لحاجة ، فرأى ما أوجب إقدامه عيلها ، فهذا كان سبب كفرنا ، وكان هذا التفاؤل مما نسيت العرب كيفيته لما نسخه الشرع كما وقع في الميسر فاضطرب كلام أهل اللغة في تفسيره ، قال صاحب القاموس : البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك ، وسنح الظبي سنوحاً ضد برح .
وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال : وسنح الشيء سنوحاً : تيسر ، والطاشر والظبي : جرى عن يمينك إلى يسارك وهو يتيمن به ، وقال في مادة ( برح ) : وبرح الطائر والظبي وغيرهما ضد سنح ، وهو ما أراك ميامنه ، وأهل الحجاز يتشاءمون به ، وغيرهم يتيمنون به ويتشاءمون بالسانح ، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم في مادة ( برح ) : والبارح خلاف السانح ، وقد برح الظبي - إذا والاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك ، والعرب تختلف في عيافه وقيل ، السانح ما يجيء عن يمينك فتلي مياسره مياسرك ، والعرب تختلف في عيافة ذلك ، فمنهم من يتيمن بالسانح ويتشاءم بالبارح ، وعلى هذا المثل : من لي بالسانح بعد البارح ، قال في القاموس : أي بالمبارك بعد المشؤوم ، ومنهم من يتشاءم بالسانح ، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في مادة ( سنح ) : والسانح من الطير والظباء وغيرهما هو الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك ، وهو مما يتمين به أهل العالية ، ويتشاءمون بالسانح ، والسانح هو الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك ، وهو مما يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح ، والبارح أبين في التشاؤم من السانح ، لأن البارح هو الذي يأخذ عن يسارك إلى يمينك فلا يمكنك طعنه ، فيتشاءم به لتعذره على الطاعن أو الرامي ، ولذلك قال أبو(6/301)
صفحة رقم 302
داود : قلت : لما برز أمن فيه كذب العير وإن كان برح ، يقول : كذب إذ طمع أن يجنو ، وإن كان برح وصعب على إمكان طعنه ، وتطير ومن تيمن به بسلامته وخلاصة من الطاعن ، وتطير من تيمن بالسانح بأنه يأتي من ميامنك إلى مياسرك ، فيمكنك من طعنه ، ومن تشاءم به تطير بقلة سلامته ووقوعه فيما يكره ، ومن الطير الجابه وهو الذي يلقاك مواجهة ، ومنه الناطح أيضاً ومنه القعيد ، وهو الذي يأتيك من خلفك - انتهى ما وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك فافهم ، والظاهر كما تفهمه الآية أن العرب مطبقة على أن ما أتى عن اليمين كان مباركاً سواء كان أتى من قدام مواجهاً لك ومر إلى جهة الخلف فوليتك ميامته ، أو أتى من الجانب الأيمن سواء كان ابتداء إيتانه من خلف أو لا فمر من قدامك عرضاً إلى جهة اليسار ، فوليتك في الحالتين مياسره ، وما أتى من جهة اليسار على ضد ذلك كان مشؤوماً ، وكأنهم اختلفوا في التسيمة فأكثرهم سمى الأول سانحاً من السنح بالضم وهو اليمن والبركة ، وهو من قولهم : سنح لي رأي : تيسر - لشهرة معنى اليمن عندهم في ذلك ، والثاني بارحاً من البرح ، وهو الشدة والشر لشهرة هذا المعنى عندهم في مادة برح ، وبعهضم عكس فسمى الأول بارحاً من البرحة ، وهي الناقة تكون من خيار الإبل لشهرة ذلك عندهم ، وسمى الثاني سانحاً من قولهم : سنحه عما أراد : صرفه ، وسنح بالرجل وعليه : أخرجه أو أصابه بشر ، فمن الاختلاف في التسمية أتى الخلاف ، ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالمعنى دون الاسم ، لأن كلامه سبحانه لا يخص قوماً دون غيرهم ، وأما التعليل بإمكان الطعن والرمي فلا معنى له لأن الإنسان ينفتل عن هيئة وقوفه بادنى حركة فينعكس بالنسبة إليه أمر المياسر والميامن ، ويتغير حال الطعن والرمي ، هذا إذا سلم أن الطعن والرمي يعسر من جهة المياسر على أنه غير مسلم ، ولو كان المعنى دائراً عليه لما اختلف فيه إلا بالنسبة إلى الأعسر وغيره ، لا بالنسبة إلى أهل العالية وغيرهم ، وأما البيت الذي استدل به فيمكن حمله على أن قائله كان في حاجة له لا بد له منها ، فرأى البارح فلم يتطير منه ولج في أمره ذلك تكذيباً له فيما دل عليه عند العرب ، وأما الجابه وغيره فأسماء أخر لبعض أنواع كل من السانح والبارح - والله أعلم ، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه الزينة : العيافة والقيافة والزجر نوع من الكهانة من يعبد كما يعبد الصنم ، وكانوا سدنة الأصنام ، بمنزلة الحاكم ، وكان من الكهان من يعبد كما يعبد الصنم ، وكانوا سدنة الأصنام ، قلت : والكاهن في اللغة من يقضي بالغيب وذلك هو غاية العلم ، فهو وصف يدل على التوغل في العلم - انتهى ، قال أبو حاتم : وسمعت بعض أهل الأدب قال : الكاهن بالعبرانية العالم ، وكانوا يسمون هارون عليه السلام كهناً رباً ، معناه عالم الرب ، ثم(6/302)
صفحة رقم 303
قال : إن الكهانة والسحر كان عند المتقدمين نوعاً من العلم ، فكان الساحر والكاهن اسمين محمودين ، فلما جاء الله بالإسلام صار هذان الاسمان مذمومين عند المسلمين لما كشف لهم ما في ذلك من الشر ، ثم قال : فأما العائف والقائف والزاجر فلم يكن سبيلهم كذلك - يعني كالكاهن في أنه ربما عبد ، قال : وإنما كره لأنه كان يخبر بشيء غائب فكره كما كره أمر النجوم توقياً أن يكون مثل الدعوى في علم الغيب ، والعائف هو الذي يعيف الطير ويزجرها ويعتبر بأسمائها وأصواتها ومساقطها ومجاريها ، فإذا سمع صوت طائر أو جرى من يمينه إلى شماله أو من شماله إلى يمينه قضى في ذلك بخير أو بشر في الأمر الذي يريد أن يفعله ، فإذا قضى فيه بشر تجنب ذلك الأمر ، يقال : عاف يعيف - إذا فعل ذلك ، ومعنى عاف أي امتنع وتجنب ، يقال : عافت الإبل الماء - إذا لم تشرب ، وكذلك يقال في غير الإبل الزاجر أيضاً : هو مثل العائف ، يقال : يزجر أيضاً زجراً ، وذلك أنه ينظر إلى الطير فيقضي فيها مثل العائف ، فإذا رأى شيئاً كرهه رجع عن أمر يريد أن يشرع فيه أو حاجة يريد قضاءها ، والزاجر معناه الناهي ، فكأن الطير قد زجره عن ذلك الفعل ، أو أن من عاف له زجره عن ذلك ، ويكون المعنى الزجر أيضاً أنه إذا رأى منها شيئاً صاح بها وطردها ، فكان طرده إياها زجراً لها ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أقروا الطير على مكانتها ) قلت : إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم ، وقال أبو حاتم : والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب ، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك ، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل : يتطير ، أي يستدل بالطير ، وروي عن الأصعمي قال : سألت ابن عون : ما الفال ؟ فقال : هو أن تكون مريضاً فتسمع : يا سالم ، وتكون باغياً فتسمع يا واجد ، قال : وكان ابن سيريت يكره الطيرة ويحب الفال ، وفي الحديث ( أصدق الطير الفال ) .
والفال مأخوذ من الفيال ، وهي لعبة يتاقمرون بها ، كانوا يأخذون(6/303)
صفحة رقم 304
الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه ، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً ، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال ، لأنه يتفاءل بما يحبه ، وكان هذا في العرب كثيراً ، وأكثره في بني أسد ، قال الأصمعي : أخبرني سعد بن نصر أن نفراً ومن الجن تذاكروا عيافة بني أسد فأتوهم فقالوا : ضلت لنا ناقة ، فلو أرسلتم معنا من يعيف ، فقالوا لغليهم لهم : انطلق معهم ، فاستردفه أحدهم ، ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها ، فاقشعر الغليم فبكى فقالوا له : ما لك ؟ فقال : كسرت جناحاً ، ورفعت جناحاً ، وحلفت بالله صراحاً ، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً .
وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك سانحاً ، والذي يجيء عن يسارك فيأخذ غلى يمينك بارحاً ، والذي يستقبلك ناطحاً وكافحاً ، والذي يجيء من خلفك قعيداً ، والذي يعرض في كل وجه متيحاً ، فمنهم من كان بتشاءم بالبارح ويتيمن بالسانح ، ومنهم من كان يتيمن بالبارح ويتشاءم بالسانح ، قال زهير :
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي نوى مشمولة فمتى اللقاء
وقال الكميت :
ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب
وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته ، والأعضب الذي له قرن واحد ، وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل في ولده ، ويروى عن عوسجة ابن معقب القائف : قال : كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم ، فركبوا الحمر فعرفنا بمس ايديهم والعذوق ، فكان القائف سمي قائفاً لأنه يقفو الأثر ، يقال : قفا الأثر وقاف الأثر أي تبعه ، قال الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي قال : رأى قائفان أثر بعير وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو يومين فقال أحدهما : ناقة ، وقال الآخر : جمل ، فاتبعاه فإذا هما به ، فاطافا به فإذا هو خنثى ، ويقال للرجل إذا كان فطناً عارفاً بالأمور : هو عائف وقائف ، وكان قوم من العرب لا يتطيرون ولا يتهيبون الطيرة ويفتخرون بتركه ويعدون تركه شجاعة وإقداماً ، قال بعض شعرائهم :
ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم(6/304)
صفحة رقم 305
فإذا الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
وقال آخر :
ولست بهياب إذا اشتد رحله يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدماً إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
الخثارم : المطير ، وقيل : العيافة والقيافة ، الطرق والخط ، وهو أيضاً نوع من الكهانة ، وهو أن يخط في الأرض خططاً في الطول ، ثم يخط عليها خططاً في العرض ، ثم يطرق بالحصى أو بالشعير أو بخشبات ، ولا يزال يخط ويمحو ويعيد ثم يتكهن عليه ، ومن هذا الباب أيضاً علم الكتف وهو أن ينظر في كتف شاة فيحدث بأشياء تكون في العالم مثل الحروب والأمطار والرياح والجدب والخصب وغير ذلك ، وهذا يقال له : الكتاف ، كأنه أشتق له اسم من الكتف مثل العراف لأن العراف من جنس العيافة ، والعيافة والعرافة ، سواء ، فهذه الأشياء كلها من السحر والكهانة والقيافة والعيافة والخط والطرق والكتف وما أشبهها ، قد جاءت فيها الإخبار والروايات ، ويطول الخطب بها ، وهي كلها مكروهة حرام ، فمنها ما جاء فيها التشديد مثل السحر ، والكهانة ، ومنها ما جاء في القليل منها الرخص والتخفيف مثل القيافة والعيافة والكتف - انتهى .
وهو مسلم له في القيافة ، وأما غيرها فمنازع فيه ، ثم قال : فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام ، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد ، ثم قال : وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له ، ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته إذ كان له في القرآن ذكر ، وإذ كان واجباً على العلماء تعلم ما في القرآن على حسب طاقتهم ، والجهل به نقص عليهم - والله أعلم بالصواب .(6/305)
صفحة رقم 306
الصافات : ( 29 - 37 ) قالوا بل لم. .. . .
) قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( ( )
ولما أشار سبحانه بتسمية كلامهم هذا سؤالاً إلى أن مرادهم : فهل أنتم مغنون عنا شيئاً أو حاملون عنا جزءاً من العذاب ؟ وكان كأنه قيل : بم أجاب الرؤساء بعد هذا القول من الأتباع ؟ قيل : ( قالوا بل ) أي لم يكن كفرهم سبباً بل : ( لم تكونوا مؤمنين ) أي عريقين في هذا الوصف بجبلاتكم فلذلك تابعتمونا فيما أمرناكم به لأنه كان في طبعكم ، وهذا دليل على أن من لم يكن راسخاً في الإيمان كان منهم ، ثم أكدوا هذا المعنى بقوله نافين لما أشاروا باليمين إليه : ( وما كان ) أي كوناً ثابتاً ) لنا عليكم ( وأعرقوا في النفي بقولهم : ( من سلطان ) أي فأكرهنا بذلك السلطان ، إنما تبعتمونا باختياركم وهو معنى ) بل كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) قوماً ) أي ذوي قوة وكفاية لما تحاولونه من الأمور ) طاغين ) أي مجاوزين لمقاديركم غالين في الكفر مسرفين في المعاصي والظلم ، ولذلك أنكم خلق لا تحتاجون فيه إلى كبير تحرك ) فحق علينا ) أي كلنا نحن وأنتم بسبب ذلك ، وعبروا بما يدل على ندمهم فقالوا : ( قول ربنا ) أي الذي قابلنا إحسانه إلينا وتربيته لنا بالكفران ، وقوله هو الحكم بالضلال لما في قلوبنا من لقابلية له والإباء للإيمان ، فالحكم بالعذاب .
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح ، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب ، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع إطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً : ( إنا ) أي جميعاً ) لذائقون ) أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب .
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر ، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا : ( فأغويناكم ) أي أضللناهم واوقعانكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا ، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كا سبب إغوائهم إلا الرؤسائ : ( إنا ) أي جميعاً ) كنا غاوين ) أي في طبعنا الغواية ، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك .(6/306)
صفحة رقم 307
ولما قال لهم الرؤساء ما هو الحق من امرهم مما أوجب الحكم باشتراكهم ، سبب عنه قوله تعالى مؤكداً دفعاً لمن يتوهم اختصاص العذاب بالسبب : ( فإنهم ) أي الفريقين بسبب ما ذكروا عن أنفسهم ) يومئذ ) أي يوم إذ كان هذا القول بينهم ) في العذاب ) أي الأكبر ) مشتركون ) أي في أصله ، وهم مع ذلك متفاوتون في وصفه على مقادير كفرهم كما كانوا متشاركين في السبب متفاوتين في شدتهم فيه ولينهم - هذا وقد قال البخاري في صحيحه في تفسير حم السجدة : وقال المنهال عن سعيد : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ) فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( ) ولا يكتمون الله حديثاً ( ) والله ربنا ما كنا مشركين ( فقد كتموا في هذه الآية ، وقال : ( السماء بناها ( إلى قوله : ( دحاها ( فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال ) أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ( إلى ) طائعين ( فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء ، وقال : ( وكان الله غفوراً رحيماً ( ) عزيزاً حكيماً ( ) سميعاً بصيراً ( فكأنه كان ثم مضى ، فقال : ( فلا أنساب بينهم ( في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وأما قوله ) ما كنا مشركين ( ) ولا يكتمون الله حديثاً ( فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فنختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده يود الذين كفروا - الآية ، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، و ) دحاها ) أي أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله ) دحاها ( وقوله : خلق الأرض في يومين ، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين ، وكان الله غفوراً رحيماً ، سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي لم يزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله .
وقال في سورة المرسلات : وسئل ابن عباس رضي الله عنهما ) هذا يوم لا ينطقون ( ) والله ربنا ما كنا مشركين ( ) اليوم نختم على أفواههم ( فقال : إنه ذو ألوان ، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم .(6/307)
صفحة رقم 308
ولما أخبر سبحانه باشتراكهم ، استأنف الإخبار بما يهول أمر عذابهم ويشير إلى عمومه في الدارين لكل من شاركهم في الإجرام ، فقال مؤكداً دفعاً لظن من ينكر القيامة وظن من يرى الإملاء للمجرم في الدنيا نعمة وينفي كونه نقمة ، أو يفعل في التمادي في الإجرام فعل المنكر ؛ ) إنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء ) كذلك ) أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن ) نفعل ( بهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه علق بالوصف تعميماً وتعليلاً فقال : ( بالمجرمين ) أي كل قاطع لما أمر الله به أن يوصل في الدنيا والآخرة ، نهمل ثم نأخذ أخذاً عنيفاً يصير به المشتركون في الظلم أعداء يتخاصمون ، ويحيل بعضهم على بعض ثم لا ينفعهم ذلك ، بل نشارك بينهم في العقوبة ، ثم علل تعذيبه لهم بقوله مؤكداً للتعجب منهم لأن فعلهم هذا أهل لأن ينكر لأن هذه الكلمة لا يصدق عاقل أن أحداً يستكبر عليها لأنه لا شيء أعدل منها : ( إنهم كانوا ) أي دائماً ) إذ قيل لهم ) أي من أيّ قائل كان : ( لا إله ) أي يمكن ، وإذا نفي الممكن كان الموجود أولى فإنه لا يوجد إلا ما يمكن وجوده وإن كان واجباً ) إلا الله ) أي الملك الأعلى المباين لجميع الموجودات في ذاته وصفاته وافعاله كما هو الحق ليفردوه بالإلهية كما تفرد بالخالقية كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بصفات الكمال ، وقدم النفي لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية ) يستكبرون ) أي يوجدون الكبر عن الإقرار بهذا الحق الذي لا أعدل منه وعن متابعة الداعي إليه ، استكبار من هو طالب للكبر من نفسه ومن غيره لما فيه من العراقة والعتو ، فلم يكن لهم مانع من أبواب جهنم السبعة التي جعلت كل كلمة من هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بإرساله مانعة من باب منها وإلا كان في شيء من ساعات أيامهم - التي هي بعدد حروفهما أربعة وعشرون - خير ينجيهم من المكارة .
ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله ، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا يرضاه : فقال : ( ويقولون ) أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً : ( إئتا لتاركوا آلهتنا ( اي عبادتها ، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله : ( لشاعر مجنون ( فإن الجنون لا نظام معه ، والشعر يحتاج إلى عقل رصين وقصد قويم ، وطبع في الوزن سليم ، أو للإشارة إلى أن إنكار المؤكد إنكار لغيره بطريق الأولى .
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل ، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام(6/308)
صفحة رقم 309
المجنون تخليط ، كان كأنه قال في جوانهم : إنه لم يجئ بشرع ولا جنون : ( بل حياء بالحق ) أي الكامل في الحقية .
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض ، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم ، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال ، فكان مآل أمرهم التقليد قال : ( وصدق المرسلين ) أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان ، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا ( بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض .
الصافات : ( 38 - 45 ) إنكم لذائقوا العذاب. .. . .
) إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ( ( )
ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان ، والزور الظاهر والبهتان ، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب ، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى ، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً : ( إنكم ) أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين ) لذائقوا ) أي بما كنتم تضيقون أولياء الله ) العذاب الأليم ( ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال : ( ما ) أي والحال أنكم ما ) تجزون ) أي جزءاً من الجزاء ) إلا ما ) أي مثل ما .
ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة ، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال : ( كنتم تعملون ( نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه .
ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن ، و استثنى من واو ( ذائقوا ) قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره ، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق : ( إلا عباد الله ( فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه ، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال ،(6/309)
صفحة رقم 310
وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال : ( المخلصين ( .
ولما خلصهم منهم ، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد : ( أولئك ) أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية ) لهم رزق معلوم ) أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره ، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار ) لا تدري نفس ماذا تكسب غداً ( لأن النفس إلى المعلوم أسكن ، وبالأنس إليه أمكن .
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً ، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً ، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد ، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال : ( فواكه ) أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا .
ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا ما العز الذي هو غذاء الروح قال : ( وهم مكرمون ( بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً .
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال : ( في جنات النعيم ) أي التي لا يتصور فيها غيره .
ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب ، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى ، بين أنهم كلهم ملوك فقال : ( على سرر متقابلين ) أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه الآخر على كثرة العدد .
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالشراب ، وكان المقصود الطواف فيه ، لا كونه من معين ، قال : ( يطاف ( بالبناء للمفعول وكأنها يدلى إليهم من جهة العلو ليكون أشرف لها وأصون ، فنبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ) أي وهم فوق أسرتهم كالملوك ) بكأس ) أي إناء فيه خمر ، قالوا : وإن لم يكن في الزجاجة خمر فهي قدح ، ولا تسمى كأساً إلا والخمر فيها ) من معين ) أي من خمر جارية في أنهارها ، ظاهرة للعيون تنبع كما تنبع الماء لا يعالجونها بعصير ، ولا يحملهم على الرفق بها والتقصير فيها نوع تقصير ، قال الرازي : إنما سميت به إما من ظهروها للعين أو لشدة جريها من الإمعان في السير أو لكثرتها من المعن ، وهو الكثير ، وسمي الماعون لكثرة الانتفاع به ، ويقال : مشرب ممعون : لا يكاد ينقطع .
الصافات : ( 46 - 54 ) بيضاء لذة للشاربين
) بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ( ( )(6/310)
صفحة رقم 311
ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه ، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً : ( بيضاء ) أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً ، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله : ( لذة للشاربين ( بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد ، واظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة .
ولما كان قد أثبت لها الكمال ، نفى عنها النقص فقال : ( لا فيها غول ) أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك ، أو يكون سبباً للهلاك ) ولا هم عنها ) أي عادة بعد شربها ) ينزفون ) أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبيناً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال ، أو ذهب عقله ، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف ، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم : نزفت الركية ، اي ذهب ماؤها ، وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر ، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم : نزف الرجل الخمرة - سواء كان مبيناً للفاعل أو المفعول - إذا أفناها .
ولما كان كله لا يكمل إلا بالجماع ، والخمر أدعى شيء إليه ، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال : ( وعندهم ( نساء من أهل الدنيا وغيرها ) قاصرات الطرف ) أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها ) عين ) أي نجل العيون ، جمع عيناء ، كسرت عينه لمناسبة الياء .
ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء ، قال : ( كأنهن بيض ) أي بيض نعام ) مكنون ) أي مصون من دنس يلحقه ، وغبار يرهقه ، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية ، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال :
كبكر مقناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
أي مخالطة البياض المائل إلى الحمرة بصفرة ، وهو أصفى الألوان واعدلها ، يشابه لون نور القمر .(6/311)
صفحة رقم 312
ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور ، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة ، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة ، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال : ( فأقبل بعضهم ) أي أهل الجنة بالكلام ، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال : ( على بعض ) أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام ، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة ، وبين حال هذا الإقبال فقال : ( يتساءلون ) أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم ، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه - لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث ، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع .
ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي ، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً : ( قال قائل منهم ) أي في هذا التساؤل ، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار .
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر ، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى ، نبه عليه بالتأكيد فقال : ( إني كان لي قرين ) أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين ) يقول ) أي مكذباً بالبعث مستبعداً له غاية الاستبعاد مجدداً لقوله في كل وقت ، يريد أن يختدعني بلطافة قياده إلى سوؤ اعتقاده : ( أإنك لمن الصادقين ) أي بالبعث - يوبخني بذلك ويستقصر باعي في النظر استثارة لهمتي وإلهاباً لنخوتي وحميتي ، ويكرر الإنكار بقوله : ( أإذ متنا ) أي فذهبت أوراحنا ) وكنا ) أي كوناً راسخاً ) تراباً وعظاماً ) أي فانمحقت أجسامنا التي هي مراكب الأرواح ) أإنا لمدينون ) أي لمجزيون بعد ذلك بما عملنا بان نبعث ونجازى ، وكان تأكيده للإشارة منه إلى كل عاقل جدير بأن يكذب بما أقررت به لبعده ، أو إلى أنه مكذب به ولو كان مؤكداً .
ولما كان هذا المقال سبباً لعظيم تشوف السامع إلى ما يكون بعده ، وكان أهل الجنة من علو المكان والمكانة وصحة الأجسام وقوة التركيب ونفوذ الأبصار بحيث ينظرون ما شاؤوا من النار وغيرها مما دونهم متى شاؤوا ، استانف قوله مشيراً إلى أن حاله هذت معلم أنه من أهل النار : ( قال ) أي هذا القائل لشربه هؤلاء الذين هم كما قال بعضهم في موشح :
رب شرب كالعقد قد نظموا في ثياب طرازها الكرم(6/312)
صفحة رقم 313
فاغتنمت الهنا كما اغتنموا وظننت الكؤوس بينهمو أنجما في سماى الهناء ترى كل نجم يغيب في بدر
) هل أنتم مطلعون ) أي شافون قلبي بأن تتركوا ما أنتم فيه من تمام اللذة وتكلفوا أنفسكم النظر معي في النار لتسروني بذلك .
الصافات : ( 55 - 62 ) فاطلع فرآه في. .. . .
) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( ( )
ولما كان المحدث عنه المخلصين ، وهم أهل الجنة كلهم أو جلهم ، وكان الضمير يعود لما سبقه بعينه ، وكان مخاطبو هذا القائل إنما هم شربه ، وكان من المعلوم مما مضى من التقابل والتواد والتواصل بالمنادمة والتساؤل أنهم ينتدبون ندبهم إليه ويقبلون قطعاً عليه ، وكان النافع لنا إنما هو قوله فقط في توبيخ عدوه وتغبيط نفسه ووليه ، لم يجمع الضمير لئلا يلبس فيوهم أنه للجميع ، وأعاده عليه وحده لنعتبر بمقاله ، ونتعظ بما قص علينا من حاله فقال : ( فاطلع ) أي بسبب ما رأى لنفسه في ذلك من في وسطها وغمرتها تضطرم عليه أشد اضطرام بما كان يضرم في قلبه في الدنيا من الحر كلما قال له ذلك المقال ، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب كمركز الدائرة ، ثم استأنف الإخبار عن مكافأته له بما كان من تقريعه وتوبيخه على التصديق بالآخرة بقوله : ( قال ) أي لقرينه ذلك .
ولما كان لا يقع في فكر أنه كان يتلفت إلى قوله هذا نوع التفاف لأنه ظاهر البطلان ، ولأن هذا القائل محكوم بأنه من أهل الجنة ، أكد قوله إشارة إلى أنه كان يؤثر فيه قوله في كثير من الأوقات بما يزينه به الشيطان وتحسنه النفوس بالشهوات ، والراحة من كلف الطاعات ، وساقه في أسلوب القسم تنبيهاً على التعجب من سلامته منه فقال : ( تالله ( وزاد التأكيد بعم ما علقه بالاسم الأعظم بالمخففة من المثقلة فقال : ( إن كدت لتردين ) أي إنك قاربت أن تهلكني وتجعلني في أردأ ما يكون من الأماكن ، وفي هذا التأكيد غاية الترغيب في الثبات لمن كان قريباً من التزلزل وفي المباعدة لقرناء السوء .
ولما ذكر سوء ما كان يأتي إليه ، ذكر حسن أثر الله سبحانه عنده ، فقال لافتاً الكلام إلى صفة الإحسان لأنه مقامه : ( ولولا نعمة ربي ) أي المحسن إليّ بما رباني به من تثبيتي عن أتباعك والتجاوز عني في مخالطتك ) لكنت ( كوناً ثابتاً ) من(6/313)
صفحة رقم 314
المحضرين ) أي المكرهين على حضور هذا الموطن الضنك الذي أنت فيه ، فيالله ما أعظم إحسان هذه الآية في التنفير من العشرة لقرناء السوء لأنها شديدة الخطر قبيحة الأثر ، ولقد أبان نظره هذا عن أنه لم يكن أعلى لذة مما كان فيه فليس بأدنى منه ، فإنه لا شيء ألذ من رؤية العدو الماكر الذي طالما أحرق الأكباد وشوش الأفكار ، في مثل دلك من الإنكار ، وعظائم الأكدار ، من غمرات النار .
ولما رأى ذاك فيما هو فيه من الجحيم ، ورأى نفسه فيما هي فيه من النعيم ، ما ملك نفسه أن قال كما يعرض لمن يكون في شدة فيأتيه الفرج فجأة فيصير كأنه في منام أو أضغاث أحلان ، لا يصدق ما صار إليه سروراً : ( أفما ) أي أنحن يا إخواني منعمون مخلدون فيتسبب عن ذلك أنا ما ) نحن بميتين ) أي بعد حالتنا هذه ، وأكده لأن مثله لأجل نفاسته لا يكاد يصدق ، ثم أعرق في العموم بما هو معياره فقال : ( إلا موتتنا الأولى ) أي التي كانت في الدنيا .
ولما ذكر نعمة الخلاص من الموت ، ذكر نعمة الإنقاذ من الأكدار فقال : ( وما ( ) نحن ( وأكد النفي فقال : ( بمعذبين ( ولما تذكر هذا فاستفزه السرور ، وازدهته الغبطة والحبور ، لم يملك نفسه أن قال في أسلوب التأكيد لما له في ذلك من النشاط لما له من خرق العادة منبهاً على عظمته لتعظيم الغبطة : ( إن هذا ) أي الملك الذي نحن فيه ) لهو ) أي وحده ) الفوز العظيم ) أي الذي لا شيء يعدله .
ولما دل هذا السياق على عظيم ما نالوه ، زاد في تعظيمه بقوله : ( لمثل هذا ) أي الجزاء ) فليعمل العاملون ) أي لينالوه فإنهم يغتنون غنى لا فقر بعده بخلاف ما يتنافسون فيه ويتدالجون عليه من أمور الدنيا ، فإنه مع سرعة زواله منغض بكدره وملاله .
ولما فات الوصف هذا التشويق إلى هذا النعيم ، رمى في نعته رمية أخرى سبقت العقول وتجاوزت حد الإدراك وعلت عن تخيل الوهم في استفهام منفر من ضده بمقدار الترغيب فيه لمن كان له لب فقال : ( أذلك ( الجزاء البعيد المنال البديع المثال ) خير نزلا ( فأشار بذلك إلى أنه إنما هو شيء يسير كما يقدم للضيف عند نزوله على ما لاح في جنب ما لهم وراء ذلك مما لا تسعه العقول ولا تضبطه الفهوم : ( أم شجرة الزقوم ) أي التي تعرفها بأنها في غاية النتن والمرارة ، من قولهم : تزقم الطعام - إذا تناوله على كره ومشقة شديدة ، وعادل بين ما لا معادلة بينهما بوجه تنبيهاً على ذلك ، ولأنهم كانوا يرون ما سبب ذلك من الأعمال خيراً من أعمال المؤمنين التي سببت لهم النعيم ، فكأنهم كانوا يقولون : إن هذا العذاب خير من النعيم ، فسيق ذلك كذلك توبيخاً لهم على سوء أختيارهم .(6/314)
صفحة رقم 315
الصافات : ( 63 - 70 ) إنا جعلناها فتنة. .. . .
) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ( ( )
ولما كان قد أخبر أن نباتها في النار ، فكان ذلك سبباً لزيادة تكذيبهم لأن عدم إيمانهم كان سبباً لضيق عقولهم ، قال مؤكداً رداً على من يظن أن سيحانه لا يفتن عباده لأنه غني عن ذلك : ( إنا جعلناها ) أي الشجرة بما لنا من العظمة ) فتنة للظالمين ) أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها كمن هو في الظلام بكونها عذاباً لهم في الأخرى وسبباً لزيادة ضلالهم في الدنيا ، ولو وضعوها مواضعها لعلموا أن من جعل في الشجر الأخضر ناراً لا تحرقه يستخرجونها هم متى شاؤوا فيحرقون بها ما شاؤوا من حطب وغيره قادر على أن ينبت في النار شجراً اخضر لا تحرقه النار ، ثم نبه على أن محل الفتنة جعلها فيما ينكرونه ، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم معللاً لجعلها فتنة تخالطهم فتحيلهم في الدنيا بحرها وفي الأخرى بأثرها : ( إنها ( وحقق أمر نباتها بقوله : ( شجرة ( وزاد الأمر بياناً بقوله : ( تخرج ( وأكده بالظرف فقال : ( في أصل ) أي ثابت وقعر ومعظم وقرار ) الجحيم ) أي النار الشديدة الاضطرام فقال : ( في أصل ) أي ثابت وقعر ومعظم وقرار ) الجحيم ) أي النار الشديدة الاضطرام وفروعها ترتفع إلى دركاتها ، ثم زاد ذلك وضوحاً وتصويراً بقوله : ( طلعها ) أي الذي هو مثل طلع النخل في نموه ثم تشققه عن ثمرة ) كأنه رءوس الشيطان ( فيما هو مثل عند المخاطبين فيه ، وهو القباحة التي بلغت النهاية ، وهذا المثل واقع في أتم مواقعه سواء كان الشيطان عندهم أسماً للحية أو لغيرها ، لأن قبح الشياطين وما يتصل بهم في أنهم شر مخص لا يخلطه خير مقرر في النفوس ، ولهذا كان كل من استقبح منظر إنسان أو فعله يقول : كأنه شيطان ، كما انطبع في النفوس حسن الملائكة وجلالتهم فشبهوا لهم الصور الحسان ، ولذلك سميت العرب ثمر شجر يقال له الأستن بهذا الاسم ، وهو شجر خشن مر منتن منكر الصورة .
ولما أثبت أمرها بما هو في غاية الفتنة لها واللطف للمؤمنين ، سبب عن الفتنة بها قوله : راداً لإنكارهم أن يأكلوا مما لا يشتهونه ومكذباً لما كانوا يدعون من المدافعة : ( فإنهم ) أي بسبب كفرانهم بها وبغيرها مما أمرهم الله ) لآكلون منها ) أي من هذه الشجرة من شوكها وطلعها وما يريد الله بما يؤلم منها .
ولما كانوا قد زادوا في باب التهكم في أمرها ، زاد التأكيد في مقابلة ذلك بقوله : ( فمالئون منها ( ومن غيرها في ذلك الوقت الذي يريد الله أكلهم منها ) البطون ( قهراً على ذلك وإجباراً .
ولما أحرق(6/315)
صفحة رقم 316
أكبادهم من شديد الجوع زيادة فيث العذاب ، ولما جرت العادة بأن الآكل المتنعم يتفكه بعد أكله بما يبرد غلة كبده ، قال مشيراً إلى تناهي شناعة متفكههم ، وطويل تلهبهم من عطشهم ، بأداة التراخي وآلة التأكيد لما لهم في ذلك من عظيم الإنكار : ( ثم إن لهم عليها ) أي على أكلهم منها ) لشوياً ) أي خلطاً عظيم الإحراق ) من حميم ) أي ماء حار كأنه مجمع من مياه من عصارات شتى من قيح وصديدونحوهما - نسأل الله العافية .
ولما كان ما ذكر للفريقين إنما هو النزل الذي مدلوله ما يكون في أول القدوم على حين غفلة ، وكانوا يريدون الحميم كما يورد الإبل الماء ، وكان قوله تعالى
77 ( ) يطوفون بينها وبين حميم آن ( ) 7
[ الرحمن : 44 ] يدل على أن ذلك خارجها أو خارج غمرتها ، كما تكون الأحواض في الحيشان خارج الأماكن المعدة للأبل ، قال مبيناً أنه لهم ما هو أشد شناعة من ذلك ملوحاً إليه بأداة التراخي : ( ثم إن مرجعهم ) أي بعد خروجهم من دار ضيافتهم الزقومية ) لإلى الجحيم ) أي ذات الاضطرام الشديد ، والزفير والبكاء والاغتنام الطويل المديد ، كما أن حزب الله يتقلبون من جنات النعيم إلى جنات المأوى مثلاً إلى جنات عدن إلى الفردوس التي لا يبغون عنها حولاً كما ينقل أهل السعة والأكابر من أهل الدنيا ضيوفهم في البساتين المتواصلة والمناظر ، وينزهزنهم في القصور العالية والدساكر .
ولما أخبر عن عذابهم هذا ، وكان سببه الجمود مع العادة الجارية على غير الحق ، والتقيد بما ألفته النفس ومال إليه الطباع ، مما أصّله من يعتقدون أنه أكبر منهم وأتم عقلاً ، علل ذلك تحذيراً من مثله لأنه كان سبب هلاك أكثر الخلق ، وأكده لأنهم ينكرون ضلال من اصّل لهم ، فتلك العوائد من آبائهم وغيرهم فقال : ( إنهم ألفوا ) أي وجدوا وجدانا ألفوه ) آباءهم ضالين ) أي عريقين في الضلال ، فما هم فيه لا يخفى على أحد أنه ضلال يتسبب عنه النفرة عن صاحبه ) فهم ) أي البعداء البغضاء ) على آثارهم ) أي التي لا تكاد تبين لأحد لخفاء مذاهبها لوهيها وشدة ضعفها وانطماس معالمها ، لا على غيرها ) يهرعون ) أي كأنهم يلجئهم ملجئ إلى الإسراع ، فهم في غاية المبادرة إلى ذلك من غير توقف على دليل ولا استضاءة بحجة بحيث يلحق صاحب هذا الإسراع من شدة تكالبه عليه شيء هو كالرعدة ، وذلك ضد توقفهم وجمودهم فيما أتاهم به رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) من شجرة الزقوم وغيرها مما هو في غاية الوضوح والجلاء ، فأمعنوا في التكذيب به والاستهزاء ، وأصروا بعد قيام الدلائل ، فكانوا كالجبال ثباناً على ضلالهم ، والحجارة الصلاب الثقال رسوخاً في لازب أوحالهم .(6/316)
صفحة رقم 317
الصافات : ( 71 - 75 ) ولقد ضل قبلهم. .. . .
) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( ( )
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شديد المحبة لهداهم والحزن على ضلالهم ، والأسف على غيهم ومحالهم ، وكان الضلال مع العقل أولاً ، ثم مع وجود الرسل الذين هم من الصدق والمعجزات والأمور الملجئة إلى الهدى ثانياً كالمحال ، سلاه سبحانه بقوله على سبيل التأكيد لزيادة التحقيق : ( ولقد ضل قبلهم ) أي قبل من يدعوهم في جميع الزمان الذي تقدمهم ) أكثر الأولين ( بحيث إنه لم يمض قرن بعد آدم عيله السلام إلا وكله أو جله ضلال .
ولما كان ربما ظن أنه لعدم الرسل ، نفى ذلكم بقوله مؤكداً لنحو ذلك : ( ولقد أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة التي توجب الإيتان بما لا ؤيب فيه من البيان ) فيهم منذرين ) أي فأنذروهم بأس الله وبينوا لهم أحسن البيان ، ومع ذلك فغلب عليهم الضلال ، وعناد أهل الحق بالمحال ، حتى اهلكهم الله بما له من شديد المجال ، وهو معنى قوله : ( فانظر ) أي فتسبب عن الإرسال أنا فعلنا في إهلاكهم من العجائب ما يستحق التعجيب به والتحذير من مثله بأن يقال لمن تخلف عنهم : انظر ) كيف ( ولما كان ذلك عادة مستمرة لم تختلف أصلاً قال : ( كان عاقبة ) أي آخر امر ) المنذرين ) أي في إنا أهلكناهم لتكذيبهم ، فاصبر على الشدائد كما صبروا ، واستمر على الدعاء بالبشارة والنذارة حتى يأتيك أمر الله .
ولما أفهم الحكم على الأكثر بالضلال أن الأقل على غير حالهم ، نبه على حال الطائعين بقوله مستثنياً من ضمير المنذرين : ( إلا عباد الله ) أي الذين استخلصهم سبحانه بما له من صفات الكمال ، فاستحقوا الإضافة إلى اسمه الأعظم ) المخلصين ) أي الذين أخلصهم له فأخلصوا هم أعمالهم فلم يجعلوا فيها شوباً لغيره .
ولما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص ، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة هم أنزه الخلق ، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد ، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريداً لنفسه من الشواغل سيراً إلى مولاه وتعريجاً عن كل سواه ، وكان الأب الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر(6/317)
صفحة رقم 318
الماء بين الأرض والسماء ، فقال تعالى مؤكداً لما تقدم من انه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه ، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين ، والعذاب للمكذبين ، عطفاً على تقديره : فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق ، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم : ( ولقد نادانا ( لما لنا من العظمة ) نوح ( بقوله ) ) رب إني مغلوب فانتصر ( ) [ القمر : 10 ] ونحوه مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب ، والشدائد والخطوب ، لنكشف عنه ما اعياه من أمرهم .
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها ، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته ، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق ، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء ، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن كانت الإفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء ، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة : ( فلنعم المجيبون ) أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا ، هذه صفتنا لا تغير لها .
الصافات : ( 76 - 82 ) ونجيناه وأهله من. .. . .
) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( ( )
ولما كان معنى هذا : فأجبناه إجابة هي النهاية في استحقاق على الممادح من إيصاله إلى مراده من حمله وحمل من آمن به والانتقام ممن كذبه كما هي عادتنا دائماً ، عطف عليه قوله : ( ونجيناه ) أي بما لنا من العظمة ) وأهله ) أي الذين وافقوه في الدين ) من كرب العظيم ( وهو الأذى من الغرق ) وجعلنا ذريته هم ) أي خاصة ) الباقين ( لأن جميع أهل الأرض غرقوا فلم يبق منهم أحد أصلاً ، وأهل السفينة لم يعقب منهم أحد غير أولاده ، فأثبناه على نزاهته إن كان هو الأب الثاني ، فالعرب والعجم أولاد سام ، والسودان أولاد حام ، والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج اولاد يافث ، فكل من تبع سنته في الخير كان له مثل أجره .
ولما ذكر لأنه بارك في نسله ، أعلم أنه أدام ذكره بالخير في أهله فقال : ( وتركنا عليه ) أي ثناء حسناً ، لكنه حذف المفعول وجعله لازماً ، فصار المعنى : أوقعنا عليه(6/318)
صفحة رقم 319
الترك بشيء هو من عظمته وحسن ذكره بحيث يعز وصفه ) في الآخرين ) أي كل من تأخر عن زمانه إلى يوم الدين .
ولما كان قد كتب الله في القدم سلامته من كل سوء على كثرة الأعداء وطول الإقامة فيهم وشدة الخلاف قال تعالى مستأنفاً مادحاً : ( سلام ) أي عظيم ) على نوح ( من كل حي من الجن والأنس والملائكة لسلام الله عليه .
ولما كان لسان جميع أهل الأرض في زمانه عليه السلام واحداً ، فكانوا كلهم قومه ، ولم يكن في زمانه نبي ، فكانت نبوته قطب دائرة ذلك الوقت ، فكان رسالته عامة لأهله ، وكان غير الناس من الخلق لهم تبعاً ، خصه في السلام بأن قال : ( في العالمين ) أي مذكور فيهم كلهم لفظاً ومعنى يسلم عليه دائماً إلى أن تقوم الساعة ، وخصوصية نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه أرسل إلى جميع الخلق مع اختلاف الألسنة ومع استمرار الرسالة أبد الآباد ، وكون شريعته ناسخة غير منسوخة ، وكون جميع الخلق في القيامة تحت لوائه ، فهناك يظهر تمام ما أوتيه من عموم البعثة إلى ما ظهر منه في الدنيا .
ولما كان التقدير : فعلنا به ذلك لإحسانه ، وكان الضالون ينكرون أن تنجو الدعاء إلى الله وأتباعهم منهم ، أخبر في سياق التأكيد أنه يفعل بكل محسن ما فعل به فقال ) إنا ) أي على عظمتنا ) كذلك ) أي مثل ذلك الجزاء بالذكر الحسن والنجاة من كل سوء ) نجزي المحسنين ) أي الذين يتجردون من الظلمات النفسانية إلى الأنوار الملكية بحيث لا يغفلون عن المعبود ، ولا ينفكون لحظة عن الشهود .
ولما أفهمت هذه الجملة - ولا بد - إحسانه إلى المحسن ، علل ما أفمهته بقوله : مؤكداً إظهاراً للإقبال عليه بأن ذكره مما يرغب فيه ، وتكذيباً لمن كذبه : ( إنه من عبادنا ) أي الذين هم أهل لأن نضيفهم إلى مقام عظمتنا ) المؤمنين ) أي الراسخين في هذا الوصف ، المتمكنين فيه ، فعلم أن الإيمان هو المراد الأقصى من الإنسان لأنه علل الإنجاء بالإحسان والإحسان بالبيان ، ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم ، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتماماً به وترغيباً في مثله ، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله : مشيراً إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي : ( ثم اغرقنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء ) الآخرين ) أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهو أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم ، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون ( ائتوا نوحاً أول(6/319)
صفحة رقم 320
نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ) وإنما كانوا قوماُ لا أكثر ، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم ، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد ، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام ، وقيل فيما فوقه ، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف ، فقيل : هما من ولد إسماعيل عليه السلام ، وقيل لا ، ثم من قال : إن ثقيفاً من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، وقال بعضهم : لا ، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر ، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس ، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق ، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم ، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق ، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد ، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك ، فهؤلاء كلهم - على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان ، بل وفي بعض اللغة - يسمون أمة واحدة وقوماً لجمع اللسان لهم في أصل العربية ، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف ، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان ، وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه ، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن ، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه ، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب المعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب ، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل ، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وابو بكر بن أبي شيبة والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم(6/320)
صفحة رقم 321
والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضي الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولاً إلى جميع من ادركه من أولاده ، وهم جميع أهل الأرض ، وكذلك نوح عليه السلام ، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولاً إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك : وهم جميع أهل الأرض ، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم ، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال - والله الموفق .
الصافات : ( 83 - 87 ) وإن من شيعته. .. . .
) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما كان لإبراهيم عليه السلام من التجرد عن النعوت البشرية والعلائق النفسانية إلى الأحوال الملكية ما لم يكن لمن بينهما من النبيين من المصارحة بالمعارضة لقومه ، والإبلاغ فيها بكسر الأوثان ، وتوهية مذهب الكفران ، والانفراد عما سوى الله في غمرات النيران ، حتى عن الدعاء بقلب أو لسان فناء عن جميع الأكوان ، ثم الهجرة عن الأوطان ، ثم بالخروج عن الأحباب والأخوان ، بوضع ابنه بكره وسريته في ذلك المكان ، الذي ليس به إنس ولا جان ، ثم بمعالجة ذبحه بأتم قوة وأقوى جنان ، ثم ببناء البيت ذوي الأركان ، قبلة للمتجردين من أهل الإيمان في كل أوان ، عما سوى الملك الديان ، يصفون عند كل صلاة مثل صفوف الملائكة الكرام ، وكان موافقاً لنوح عليه السلام مع ما تقدم في البركة في نسله بحيث إنهم قريب نصف أهل الأرض الآن ، وكان أشهر أمرهفي النار التي هي ضد أشهر أمر نوح عليه السلام في الماء ، تلاه به فقال مؤكداً إظهاراً أيضاً لما له من الكرامة والمنزلة العالية في الإمامة ، المقتضية للنشاط في الثناء عليه ، المنبهة على ما ينبغي من إتمام العزم في متابعته ، وتكذيباً لمن ادعى أنه ابتدع وخالف من كان قبله : ( وإن من شيعته ) أي الذين خالط سره سرهم ووافق أمره أمرهم ، في التصلب في الدين والمصابرة للمفسدين ) لإبراهيم ( ثم علق بمعنى المشايعة بياناً لما كانت به المتابعة قوله على تقدير سؤال من قال : متى شايعه ؟ ) إذا ) أي حين ) جاء ربه ) أي المحسن في تربيته ) بقلب سليم ) أي بالغ السلامة عن حب غيره ، والمجيء مجاز عن الإخلاص الذي لا شائبة فيه كما أن الآتي إليك لا يكون شيء من بدنه عند غيرك ، ثم أبدل من ذلك ما هو دليل عليه فقال : ( إذ قال لأبيه ) أي الذي هو أعظم الناس عنده وأجلهم في غينه وأعزهم لديه ) وقومه ) أي الذين لهم من القوة والجدود ما تهابهم به الأسود : ( ماذا ) أي ما الذي ) تعبدون ( تحقيراً لأمرهم(6/321)
صفحة رقم 322
وأمر معبوداتهم منبهاً على أنه لا علة لهم في الحقيقة تحمل على عبادتها غير مكترث بكثرتهم ولا هائب لقوتهم ولامراع لميل الطبع البشري إلى مودتهم .
ولما لوح لهم بالإنكار ، صرح فقال مقدماً للمفعول تخصيصاً : ( أئفكاً ) أي صرفاً للحق عن وجهه إلى قفاه .
ولما جعل معبوداتهم نفس الإفك ، أبدل منه قوله : ( آلهة ( ثم حقر شأنهم بقوله : ( دون الله ) أي الذي لا كفوء له ) تريدون ( ولما كان قد غلب عليه الشهود عند تحقيره لهم ، سبب عن ذلك تهديداً على فعلهم عظيماً ، فقال مشيراً غلى أنه يكفي العاقل في النهي ظن العطب : ( فما ظنكم ( ولما كان كفران الإحسان شديداً ، ذكرهم بإحسانه حافظاً لسياق التهديد بالإشارة إلى أنه يكفي في ذلك الخوف من قطع الإحسان فقال : ( برب العالمين ( اي الذي توحد بخلق جميع الجواهر والأعراض وتربيتهم فهو مستحق لتوحديهم إياه في عبادتهم ، أتظنون أنه لا يعذبكم وقد صرفتم ما أنعم به عليكم إلى عبادة غيره ، إشارة إلى إنكار تجويز مثل هذا ، وأن المقطوع به أن محسناً لا يرضى بدوام إدرار إحسانه إلى من ينسبه إلى غيره .
الصافات : ( 88 - 96 ) فنظر نظرة في. .. . .
) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما أفهم السياق شدة عداوته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان الله تعالى قد أجرى عادته بأن جعل في النجوم أدلة على بعض المسائل الظنية لا سيما البحر البحرانات في أنواع الأسقام ، وكان أهل تلك البلاد وهم الكسدانيون كما تقدم في الأنعام وكما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وكما دلت عليه كتب الفتوحات - من أشد الناس نظراً في النجوم والاستدلال بها على أحوال هذا العالم في بعض ما كان وبعض ما يكون ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن يتخلف عن الذهاب معهم إلى المحل الذي يجتمعون فيه للعيد ليكسر الأصنام ويريد إخفاء وقت الكسر عليهم ليتمكن من ذلك ، قال تعالى حاكياً عنه مشيراً إلى ذلك بالتسبب عما مضى : ( فنظر نظرة ) أي واحدة ) في النجوم ( حين طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيدهم لئلا ينكروا تخلفه عنهم موهماً لهم أنه استدل بتلك النظرة على مرض باطني يحصل له ، لأنهم ربما أنكروا كونه مريضاً إذا أخبرهم بغير النظر في النجوم لأن الصحة ظاهرة عليه ) فقال ) أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه .
ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره ، أكد فقال : ( إني سقيم ( فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب يسبب آلهتهم ، مقسم(6/322)
صفحة رقم 323
الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها ، ومادة ) سقم ( بتقاليبها الخمسة : سقم سمق قسم قمس مقس ، تدور على القسم ، فالسقام كسحاب وجبل وقفل : المرض ، أي لأنه يقسم القوة والفكر ، وقال ابن القطاع : سقم : طاولة المرض .
وقسمه جزأه ، والدهر القوم : فرقهم ، والقسم - بالكسر : النصيب والقسم أي بالفتح : العطاء ، ولا يجمع ، والرأي والشك والعيب والماء والقدر والخلق والعادة ، ويكسر فيهما ، والتفريق ظاهر في ذلك كله ، أما العطاء فيفرق المال ويقسمه ، والرأي من سهولة القسم ، والقدر يفصل صاحبه من غيره ، وكذا الخلق والعادة ، والمقسم كمعظم : المهموم - لتوزع فكره ، والجميل - لأنه يقسم القول في وصفه ، والقسم محركة : اليمين بالله ، وقد أقسم ، أي أزال تقسيم الفكر ، والقسامة : الحسن - لأنه تزعج الفكر فتقسمه ، أو هو أول وقت الهاجرة أو وقت ذرور الشمس ، وهي حينئذ أحسن ما تكون مرآة - فينقسم الفكر فيها لحسنها إذ ذاك وما يطرأ عليها بعده .
والقمس : الغوص - لأن الغائص قسم الماء بغوصه ، والقمس أيضاً اضطراب الولد في البطن لأنه يقسم الفكر ، ويكاد أن يقسم البطن باضطرابه ، والقاموس : معظم البحر - لأن البحر قسم الأرض ، ومعظمه أحق بهذا الاسم ، والقوامس : الدواهي - لتقسيمها الفكر ، وانقمس النجم : غرب ، أي أخذ قسمه من الغروب كما أخذه من الشروق ، أو أزال التقسيم بالسير ، ومقسه في الماء : غطه - فانقسم الماء بغمسه فيه ، والقربة : ملأها ، فصير فيها من الماء ما يسهل قسمه ، وأخذه الماء الذي وضعه فيها تقسيم للماء المأخوذ منه ، ومقس الشيء : كسره ، والماء : جرى - فانقسم وقسم الأرض ، وهو يمقس الشعر كيف شاء ، أي بقوله فيقسمه من باقي الكلام ، والتقميس في الماء : الإكثار من صبه ، فإن ذلك تقسيم له ، وسمق سموقاً : علا وطال فصار بطوله يقبل من القسمة ما لا يقبله ما هو دونه .
ولما فهموا عنه ظاهر قوله ، وظنوا فيه ما يظهر من حاله ، ولكنهم لم يسعهم لعظمته فيهم إلا التسليم ، تركوه فقال تعالى مسبباً عن قوله مشيراً إلى استبادهم مرضه بصيغة التفعل : ( فتولوا ) أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا ) عنه ( ألى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله : ( مدبرين ) أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب ) فراغ ) أي ذهب في خفية برشاقة وخفة ، ونشاط وهمة ، قال البيضاوي : وأصله الميل بحيلة ) إلى آلهتهم ) أي أصنامهم التي زعموها آلهة ، وقد وضعوا عندها طعاماً ، فخاطبها مخاطبة من يعقل لجعلهم إياها بذلك في عداد من يعقل(6/323)
صفحة رقم 324
) فقال ( منكراً عليها متهكماً بها ظاهراً وموبخاً لقومه حقيقة : ( ألا تأكلون ( ثم زاد في إظهار الحق والاستهزاء بانحطاطها عن رتبة عابديها فقال : ( ما ) أي أيّ شيء حصل ) لكم ( في أنكم ) لا تنطقون ( .
ولما أخبر تعالى أنه أظهر ما يعرفه باطناً من الحجة فقال : ( فراغ ) أي سبب عن إقامته الحجة أنه أقبل مستعلياً ) عليهم ( بغاية النشاط والخفة والرشاقة يضربهم ) ضربا باليمين ) أي بغاية القوة ، وجعل السياق للمصدر إشارة إلى قوة الهمة بحيث صار كله ضرباً .
ولما تسبب عن ذلك أنهم لما علموا بكسرها ظنوا فيه لما كانوا يسمعونه منه من ذمها وحلفه بأنه ليكيدها فأتوه ، أخبر عن ذلك بقوله مسبباً : ( فأقبلوا ( ودل على أنه من مكان بعيد بقوله : ( إليه يزفون ) أي يسرعون ، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع لدلاتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد .
ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم ، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر ، استأنف الخبر عنه في قوله : ( قال ( غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم : ( أتعبدون ( وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله ، وعبر بأداة ما لا يعقل كما هو الحق فقال : ( ما تنحتون ) أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم .
ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة ، وكان الإيجاد من أعظم النعم ، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل ، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي ، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة : ( والله ) أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له ) خلقكم ) أي أوجدكم على هذه الأشكال ) وما تعملون ) أي وخلق عملكم ومعمولكم ، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني ، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها .
الصافات : ( 97 - 101 ) قالوا ابنوا له. .. . .
) قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ( ( )
ولما كان السامع يعلم أنهم لا بد وأن لا يجيبوه بشيء ، فتشوف إلى ذلك ، أجيب بقوله : ( قالوا ابنوا له ) أي لأجله ) بنياناً ) أي من الأحطاب حتى تصير كالجبل(6/324)
صفحة رقم 325
العظيم ، فاحرقوها حتى يشتد لهبها جداً فيصير جحيماً ) فألقوه في ( ذلك ) الجحيم ) أي معظم النار ، وهي على أشد ما يكون إيقاداً .
ولما كان هذا مسبباً عن إرادتهم لإهاننه قال : ( فأرادوا به ) أي إبراهيم عليه السلام بسبب هذا الذي عملوه ) كيداً ) أي تدبيراً يبطل أمره ليعلوا أمرهم ولا يبطل بما أظهر عن عجزهم دينهم ) فجعلناهم ) أي بعظمتنا بسبب عملهم ) الأسفلين ( المقهورين بما أبطلنا من نارهم وجعلناها عليه برداً وسلاماً بضد عادتها في العمل ، فنفذ عملنا وهو خارق للعادة وبطل عملهم الذي هو على مقتضى العادة ، فظهر عجزهم في فعلهم كما ظهر عجزهم في قولهم ، بما أظهرناه من الحجة على لسان خليلنا عليه السلام ، وظهرت قدرتنا واختيارنا ، وإنما فسرت الكيد بما ذكرت لأنه المكر والخبث والاحتيال والخديعة والتدبير بحق أو باطل والحرب والخوف ، فكل هذه المعاني - كما ترى - تدور على التدبير وإعمال الفكر وإدارة الرأي .
ولما كان التقدير : فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد ، عطف عليه قوله : ( وقال ) أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به : ( إني ذاهب ) أي مهاجر من غير تردد ، قالوا : وهو أول من هاجر من الخلق ) إلى ربي ) أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه ، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه .
ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول : من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل مما يكون فيه الصلاح ، وما تفعل في التوصل إليه ؟ قال : ( سيهدين ) أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها ، وهولا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه ، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله ، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية ، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام ، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله
77 ( ) ولما جاء موسى لميقاتنا ( ) 7
[ الأعراف : 143 ] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله
77 ( ) سبحان الذي أسرى بعبده ( ) 7
[ الأسراء : 1 ] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات : إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً ، ثم أخبر أنه قال ) رب أرني ( فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء ، ونبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بعين جمع الجمع - لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل ، بل هو المراد إلى أن قال ) لنريه(6/325)
صفحة رقم 326
من آيتنا ( فهذا هو الفناء حتى عن الفناء ، ثم قال : ( أنه هو السميع البصير ( فأثبت له مع ذلك الكمال .
ولما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام ، قال منادياً منادة الخواض بإسقاط الأداة : ( رب ) أي أيها المحسن إلي ) هب لي من ) أي ولداً من ) الصالحين ( وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد ، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له ) فبشرناه بغلام ) أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة .
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش ، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال : ( حليم ) أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة ، لأنه في غاية الرزانة والثبات ، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم ، والحلم لا يكون إلا بعد العلم ، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم ، وهو اتساع الصدر لمساوئ الخلق ومدانئ أخلاقهم ، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوده : منها وصفه بالحليم ، ووصف إسحاق عيله السلام في سورة الحجر بالعليم ، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد ، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى ، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح ، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك ، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته ، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس ، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال ( يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله خليل الله ) والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة ، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعاً ، ولأن هذه السورة سورة التنزيه ، فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد ، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملاً إلى أن عولج ذبحه ، ولم يذكر ظاهراً ، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها ، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال ، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام ، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه ، وما كان ذكره إلا لبيان إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء - والله الموفق .(6/326)
صفحة رقم 327
الصافات : ( 102 - 107 ) فلما بلغ معه. .. . .
) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يبُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف ، كان التقدير : فولد له غلام كما قلنا ) فلما بلغ ( أن يسعى كائناً ) معه ) أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له ) السعي ( الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به ، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي ، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بان يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب ، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته ، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم : ثلاث عشرة سنة ، وبعضهم : سبع سنين ، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه ، وهو لم يبلغ كمال السعي ) قال ) أي إبراهيم عليه السلام : ( يا بني ( منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب ، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له ، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي ، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض ، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته ، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام : ( إني أرى في المنام ) أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي ) أني أذبحك ) أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال ، ولو عبر بالماضي لمضى وتم ، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال .
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم ، أحب أن يرى ما عنده ، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه ، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده ، ولتكون المشاورة سنة ، فإنه ( ما ندم من استشار ) سبب عن ذلك قوله : ( فانظر ( بعين بصيرتك ) ماذا ) أي ما الذي ) ترى ) أي في هذه الرؤيا ، فهو اختبار لصبره ، لا مؤامرة له ) قال ( تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم : ( يا أبت ( تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير ) افعل ما تؤمر ) أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك ، ولا أتهم الله في قضائه ، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند ) ) ءأنذرتهم أم لم تنذرهم ( ) [ البقرة : 6 ] .(6/327)
صفحة رقم 328
ولما علم طاعته ، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره ، فاستأنف قوله : ( ستجدني ) أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه ، لا خلف فيه ، وكان صادق الوعد .
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقبله قال : ( إن شاء الله ) أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال ؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله : ( من الصابرين ) أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية ، وهو من أعظم ما أريد بقوله
77 ( ) وكان صادق الوعد ( ) 7
[ مريم : 54 ] .
ولو بيد الحبيب سقيت سماً لكان السم من يده يطيب
وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة ، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال ، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار ، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى .
ولما وثق منه ، بادر إلى ما أمر به ، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال : ( فلما أسلما ) أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر ، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك ) وتلّه ) أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام ، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع ( على ) فقال : ( للجبين ) أي أحد شقي الجبهة ، وهي هيئة إضجاع ما يذبح ، وهذا من قولهم : تله - إذا صرعه ، وبه سمي التل من التراب ، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً ، والجبين - قال في الصحاح : فوق الصدغ ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها .
ولما كان من الواضح أن التقدير جواباً لما عالج ذبحه بعزم امضى من السنان ، وجنان في ثباته أيما جنان ، فمنعناه من التأثير بقدرتنا ، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا ، عطف عليه قوله : ( وناديناه ( وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال : ( إن يا إبراهيم ( ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال : ( قد صدقت ) أي تصديقاً عظيماً ) الرؤيا ( في أنك تذبحه ، فإنك قد عالجت ذلك ، وبدلت الوسع فيه ، وفعلت ما رأيته في المنام ، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته ، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا .
ولما كان التقدير : فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب ، وجعلناك إماماً للمتقين ، (6/328)
صفحة رقم 329
ووهبناك لسان صدق في الآخرين ، وجعلنا آلك هم المصطفين ، وملأنا منهم الخافقين ، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي .
ولما كان صلى الله عليه وسبم في همة الذبح وعزمه ، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك ، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك ، لا تسكن عن ثورانها ، ولا تبرد عن غليانها وفورانها ، إلا بأمر شديد ، وقول جازم أكيد ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده ، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي : ( إنا كذلك ) أي مثل هذا الجزاء العظيم ) نجزي المحسنين ( .
ولما كان جزاءه عظيماً جداً ، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة : ( إن هذا ) أي الأمر والطاعة فيه ) لهو البلاؤا ) أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان ) المبين ) أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه انه بلاء .
ولما قدم ما هو الأهم عن نهيه من علاجه ، ومن البشارة بالجزاء ، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين ، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده ، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام ، وهو يعالج إتلافه ، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء ، وهو ما يدفع لفكاك الأسير ، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها ، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال : ( وفديناه ) أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له ) بذبح ) أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح ، وهو كبش من الجنة ، قيل : أنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه ) عظيم ) أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر .
الصافات : ( 108 - 113 ) وتركنا عليه في. .. . .
) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ( ( )
ولما كان سبحانه إذا منّ بشيء علم أنه عظيم ، فإذا ذكر الفعل وترك المفعول أراد فخامته وعظمته ، قال : ( وتركنا عليه ) أي على الذبيح شيئاً هو في الحسن بحيث يطول وصفه .
ولما كان بحيث لا ينسى قال : ( في الآخرين ( ومن هذا الترك ما تقدم من وصفه بصدق الوعد ، لأنه وعد بالصبر على الذبح فصدق .(6/329)
صفحة رقم 330
ولما عظم الغلام ، استأنف تعظيم والده بما يدل على تشريفه على سلامته بقوله : ( سلام على إبراهيم ) أي سلامة له ولولده وتسليم وتحية وتكريم في الدارين ولما كان هذا خطاباً لمن بعده عليه السلام وهم كلهم محبون مجلون معظمون مبجلون لم يكن هناك حال يحوج إلى تأكيد فقال : ( كذلك ) أي مثل هذا الجزاء العظيم ) نجزي المحسنين ( من غير أن يذكر ( أن ) المؤكدة ، ولما كانت أهل الملل كلها متفقة على حبه ، وكان كلهم يدعي اتباعه ورتبه قربه ، قال معللاً لجزائه بهاذ المدح في سياق التأكيد استعطافاً لهم إلى اتباعه في الإيمان في رتبة أتباعه ، قال الرازي : الإيمان المطلق الحقيقي شهود جلال الله ووحدانيته والطمأنينة إليه في كل محبوب ومكروه ، وترك المشيئة لمشيئته والانقياد لأمره في جميع أحواله .
ولما أتم قصته في أمر الذبيح ، وشرع في ذكر ما جازاه به على ذلك ، جعل منه أمر إسحاق عليه السلام فقال : ( وبشرناه ) أي جزاء على صبره في المبادرة إلى امتثال الأمر في إعدام إسماعيل عليه السلام ) بإسحاق ( مولوداً زيادة له بعد ما سلمنا إسماعيل عليه السلام حال كونه ) نبياً ) أي في قضائنا أو بوجوده مقدرة نبوته .
ولما كان هذا اللفظ قد يطلق على المتنبئ ، أزال إشكال هذا الاحتمال وإن كان واهياً بقوله : ( من الصالحين ) أي العريقين في رتبة الصلاح ليصلح لأكثر الأوصاف الصالحة .
ولما أثنى على إبراهيم عيله السلام بما عالج مما لم يحصل لغيره مثله ، وكان من أعظم جزاء الإنسان البركة في ذريته قال : ( وباركنا عليه ) أي على الغلام الحليم وهو الذبيح المحدث عنه الذي جر هذا الكلام كله الحديث عنه ، وكان آخر ضمير محقق عاد عليه الهاء في ( وفديناه ) ثم في ( وتركنا عليه في الآخيرن ) وهذا عندي أولى من إعادة الضمير على إبراهيم عليه السلام لأنه استوفى مدحه ، ثم رأيت حمزة الكرماني صنع هكذا وقال : حتى كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والعرب من صلبه .
) وعلى إسحاق ) أي أخيه ، قال حمزة الكرماني : حتى كان إسرائيل الله والأسباط من صلبه ، وقال غيره : خرج من صلبه الف نبي أولهم بعقوب وآخرهم عيسى عليه السلام .
) ومن ذريتهما ) أي الأخوين في الإخبار عن ذريتهما أولى من قران الابن مع أبيه في ذلك ، فيكون الابن حينئذ من جملة المخبر عنه بذرية الأب ) محسن وظالم لنفسه ( حيث وضعها بما سبب عن المعاصي في غير موضعها الذي يحبه ، وهذا مما يهدم أمر الطبائع حيث كان البر يوجد من الفاجر والفاجر يوجد من البر .(6/330)
صفحة رقم 331
ولما كان الإنسان ، وإن احتهد في الإنسان ، لا بد أن يحتاج إلى الغفران ، لما له من النقصان ، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية ، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال : ( مبين ( وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو ) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ( ( ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة )
77 ( ) وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ( ) 7
[ النساء : 31 ] .
قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوارة وبيان انهم بدلوها ، قال مترجمهم : فغرس إبراهيم ببئر سبع غرساً ، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين ، وسكن إبراهيم أرض فلسطين - يعني عند تلك البئر - أياماً كثيرة .
ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم ، وقال له : يا إبراهيم فقال : لبيك ، فقال له : انطق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين - وفي نسخة : إلى بلدة العبادة - وأصعد إليّ قرباناً على أحد تلك الجبال الذي أقول لك ، فأدلج إبراهيم باكراً فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه ، وشق حطباً للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه : امكثا هاهنا عند الحمار ، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب القربان ، وحمله إسحاق ابنه ، وأخذ معه ناراً وسكيناً ، وانطلقا كلاهما جميعاً ، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم : يا أبة ، فقال له : لبيك ، فقال له : هذه النار والحطب ، أين حمل القربان ، فقال إبراهيم : الله يعد لنا حملاً للقربان يا بني ، فانطلقا جميعاً حتى انتهيا إلى الموضع الذي قال الله ، فبنى هنالك إبراهيم مذبحاً ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب ، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه ، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال : يا إبراهيم يا إبراهيم ، فقال : لبيك فقال : لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئاً لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذا لم تمنعني ابنك الوحيد ، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه ، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قرباناً بدل ابنه اسحاق ، فسمى إبراهيم ذلك الموضع ( الله يتجلى ) كما يقال : الله في هذا الجبل ، الله يتجلى ، فدعل ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال : بي أقسمت ، يقول الرب : بدل ما صنعت هذا الصنيع(6/331)
صفحة رقم 332
ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء ، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي اعدائي وفي نسخة : أعداده - ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك اطعتني ، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعاً إلى بئر السبع وأقام ثمًّ - وفي نسخة : وسكن إبراهيم بئر السبع - انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك ، لأن الكلام ينقض بعضه بعضاً ، وذلك أنه قال في هذه القصة ( انطلق بابنك الوحيد ) وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع ، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيداً ساعة من الدهر ، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوارة ، وقوله في آخر القصة ( ويتبارك بنسلك جميع الشعوب ) لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام ، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط ، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل ، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام ، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً من الأمم على عبادة غير الله - هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضي الله عنها لأبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان بعشر سنين ، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لأبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة ، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام ، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة ، ثم قال ما نصه : وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعباً ، فقالت إبراهيم عليه السلام : أخرج هذه الأمة عني ، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني ، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك ، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق ، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك ، فغدا إبراهيم عليه السلام باكراً وأخذ خبزاً وإداوة من ماء ، فاعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام - إلى آخر ما في البقرة فقوله ( إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل ) لا يصح ، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة ، وتقدم أيضاً أن سارة أمرتخ بطردها وهي حبلى ، وأنه سلمها لها فطردتها ،(6/332)
صفحة رقم 333
وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل ولم يذكر في نسختي - وهي قديمة جداً - شيئاً يدل على رجوعها ، وأما في نسخة عندهم فقال : إن الملك قال لها : ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها - ولم يذكر أنها رجعت ، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام ، عند البيت الحرام وهو يرضع ، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضي الله عنها ، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام ، وقوله ( لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام ) غير مطابق للواقع ، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام أن لم تكم أن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها ، وخبر الله لا يتخلف ، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها ، فلا متمسك فيها لهم ، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد - والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل ؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي : قال القرظي يعني محمد بن كعب - : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله بذبحه ما كان ، ويزعمون أنه أبوهم ، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب ، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له ، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج ، قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : والذين نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزات الكعبة ، وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح : إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا أصميع أين ذهب عقلك ؟ متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه - انتهى ما قال البغوي .
وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعثمان - وهو الحجبي رضي الله عنه ( إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ) .
ورواه(6/333)
صفحة رقم 334
عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضي الله عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له ( إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصلياً ) هكذا قال : عثمان بن شيبة ، ولعله اين طلحة ، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شبية وهما ، أو لا يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فأنقلب - والله أعلم ، وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريح قال : أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان ، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش ؟ قال : نعم ، كانا فيه ، قلت : أرأيتهما ؟ قال : حسبت ، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآها ، قال : وغيره قد رآهما فيه ، قال : ويقولون : إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام ، قال ابن جريح وقالت صفية ابنة شيبة : كان فيه قرنا الكبش ، قال ابن جريح : وحدثت أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانا فيه .
قال : وحدثت عن عجوز قلت : رأيتهما فيه ، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد ، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح ، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه - حكاه عن ابن الجوزي ، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال : إن القائلين بأنه إسحاق : عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم ، وبأنه إسماعيل : ابن عمر ، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق ، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل ، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل ، لأن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما ، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني ، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه ، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه - والله أعلم .
الصافات : ( 114 - 122 ) ولقد مننا على. .. . .
) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( } )(6/334)
صفحة رقم 335
ولما ذكر هؤلاء السادة الذين لهم من رتبة التجرد والنزاهة ما تقدم بيانه ، وختمهم بأخوين ما اجتمعا قط ، وكان من أعظم المقاصد بذكرهم المنة على من اتصف بمثل صفاتهم بالقرب والنصرة تسلية وترجية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولمن اتبعه من المؤمنين ممن قارب - من شدة البلاء والقهر - اليأس من النصر ، أتبعهم بأمثالهم في التجرد وابتدأهما بأخوين افترقا حين ولاة الثاني على حالة لا يمكن الاجتماع معها عادة ، ثم اجتمعا في الباطن مع الافتراق في الظاهر ثم افترقا على حالة يبعد الاجتماع معها عادة ثم اجتمعا اجتماعاً لم يفترقا منه إلا بالموت وبدأهما باول من تجرد منهما من حين ولادته إلى أوان هجرته ، ثم من حين رجعته إلى أن جرد آله - وهم بعض ذرية إبراهيم عليه السلام - وأنقذهم من علائق الكفرة ، ثم تجرد معهم هو وأخوه عن المدن والقرى وأكثر علائق البشر ، ملازمين البراري والفلوات حيث يكثر ظهور الكلمة مع إرسال الله إليهما بمعادن الحكمة إلى أن ماتا عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يعد نصر المؤمنين محالاً ، عاطفاً على ما تقديره : فلقد أنشأنا منهما من الأمم ما يعجز الوصف ويفوت الحصر ، ومننا على كثير منهم بالإحسان من ولد إسماعيل عليه السلام إلى أن غير دينه عمرو بن لحي ، ومن ولد إسحاق يعقوب والأسباط عليهم السلام ومن شاء الله من أولادهم : ( ولقد مننا ) أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به بما لنا من العظمة ، على أول من أظهر لسان الصدق لإبراهيم عليه السلام وذريته اظهاراً تاماً .
وبدأهما بأعرقهما - كما تقدم - في التجرد وأحقها بالتقدم فقال : ( على موسى ( أحد أعيان المتجردين ، ومن له القدم الراسخ في ذلك ) وهارون ) أي عين من تجرد مع أخيه ووافقه أتم موافقة ، ووازره أعظم موازرة ، بما أتيا به من النبوة والكتاب وغير ذلك من أنواع الخطاب .
ولما كان جل المقصود - كما مضى - مقام التجرد ، والإعلام بنصر المستضعفين من المؤمنين ، قال : ( ونجيناهما وقومهما ) أي بني إسرائيل وقد كانوا مرت لهم دهور في ذل لا يقاربه ذل المؤمنين من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أول أمرهم ) من الكرب العظيم ) أي الاستبعاد ، وما يتبعه من عظائم الأنكاد ، وكان ذلك بهلاك القبط الذين استمروا على الضلال ، وهم أضعاف أضعاف بني إسرائيل ، إلى أن أهلكناهم فلم يفلت منهم إنسان ، فصح لبني إسرائيل حينئذ التجرد وزال عنهم ذل التجبر والتمرد .
ولما بين نعمة النجاة من الأسر ، أتبعها نعمة الالتذاذ بالنصر ، فقال : ( ونصرناهم ) أي موسى وهارون عليهما السلام وقومهما على كل من نازعهم في ذلك الزمان من(6/335)
صفحة رقم 336
فرعون وغيره ) فكانوا هم ) أي خاصةى ) الغالبين ) أي على كل من يسومهم سوء العذاب ، وهو فرعون وآله وعلى جميع من ناووه أو ناواهم ، فاحذروا يا معشر قريش والعرب من مثل ذلك ، ولقد كان ما حذرهم منه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أعظم ما يمكن أن يكون إلا نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان نبي الرحمة لين الله قلوبهم حتى ردهم إلى ما اغتبطوا به من متابعته ، فصاروا به ملوك الدنيا والآخرة .
ولما كانت فائدة النصرة التمكن من إقامة الدين قال : ( وآتيناهما ) أي بعظمتنا بعد إهلاك عدوهم ) الكتاب المستبين ) أي الجامع البين الذي هو لشدة بيانه طالب لأن يكون بيناً وهو كذلك فإنه ليس شيء من الكتب مثل التوارة في سهولة مأخذها ، وجمع هارون عليه السلام معه في الضمير لأنه مثله في تقبل الكتاب والعمل بجميع ما فيه والثبات على ما يدعو إليه وإن كان نزوله خاصاً بموسى عليه السلام : ( وهديناهما الصراط ) أي الطريق الواضح في الإيصال إلى المقصود ) المستقيم ) أي الذي هو لعظيم تقومه كأنه طالب لأن يكون قويماً ، فهو في غاية المحافظة على القوم فلا يزيغ أصلاً ، ولذلك هو شرائع الدين القيم .
ولما كان الذكر الجميل عند ذوي الهمم العالية والعزائم الوافية هو الشرف قال : ( وتركنا عليهما ) أي ما تعرفون من الثناء الحسن ) في الآخرين ) أي كل من يجيء بعدهما إلى يوم الدين .
ولما ظهر بهذا أن لهما من الشرف والسؤدد أمراً عظيماً كانت نتيجته : ( سلام ) أي عظيم ) على موسى ( صاحب الشريعة العريق في الاتصاف بمقصود السورة ) وهارون ( وزيره وأخيه .
ولما كان نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمن معه من الضعفاء على قريش وسائر العرب عند قريش في غاية البعد ، وكان التقدير : فعلمنا معهما ذلك لإحسانهما ، علله بما يقطع قلوب قريش في مظهر التأكيد فقال : ( إنا كذلك ) أي مثل هذا الجزاء ) نجزي ) أي دائماً في كل عصر ) المحسنين ) أي العريقين في هذا الوصف ؛ ثم علل إحسانهما وبينه وأكده ترغيباً في مضمونه ، وتكذيباً لمن يقول : إن المؤمنين لا ينصرون ، بقوله : ( إنهما من عبادنا ) أي الذين محضوا العبودية والخضوع لنا ) المؤمنين ) أي الثابتين في وصف الإيمان .
الصافات : ( 123 - 130 ) وإن إلياس لمن. .. . .
) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ( ( )
ولما كان إلياس أعظم المتجردين من أتباعهما المجددين لما درس من أحكام(6/336)
صفحة رقم 337
التوارة ، وكان ترك أحكامها مع ما وصفت به من البيان وما دعت إليه من الاستقامة في سبحانه فقال مؤكداً : ( وإن الياس ) أي الذي كان أحد بني إسرائيل عند جميع المفسرين إلا ابن مسعود وعكرمة ، وهو من سبط لاوي ، ومن أولاد هارون عليه السلام ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو عم اليسع عليهم السلام ، وأرسلناه إلى من كان منهم في أرض بعلبك ونواحيها ، فلما لم يرجعوا إليه نزعنا عنه الشهوات الإنسانية وخلقناه بالأوصاف الملكية ، ولا يبعد أن يكون الداعي إلى تسميته بهذا الاسم ما سبق في علم الله أنه ييأس ممن يدعوهم إلى الله فيكون ممن يأتي يوم القيامة وما معه إلا الواحد أو الاثنان كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه الشيخان : البخاري في الرقاق والطب ، ومسلم في الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما ( عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه رهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي ليس معه أحد ) فجعل سبحانه اسمه مناسباً لأمره في قومه بيأسه منهم حين فر إلى الجبال من شرهم ، ويأسهم من القدرة على قتله ، فإنهم اجتهدوا في ذلك حتى أعياهم ، وأدل دليل على هذا المعنى قراءة ابن عامر بخلاف عنه بوصل الهمزة في الدرج وفتحها في الابتداء ، وإن قال العلماء كما حكاه السمين في إعرابه : إن ذلك من تلاعب العرب بالأسماء العجمية ، قطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى ، يعني فخاطبهم سبحانه بما ألفوه من لسانهم ) لمن المرسلين ) أي إلى من بدل أمر التوارة ونابذ ما دعت إليه ) إذ قال لقومه ( منكراً عليهم ما من حقه الإنكار بقوله : ( ألا تتقون ) أي يوجد منكم تقوى وخوف ، فإن ما أنتم عليه يقتضي شراً طويلاً ، وعذاباً وبيلاً ، وما أنتم عليه من السكون والدعة يقتضي أنه لا خوف عندكم أصلاً ، وذلك غاية الجهل والاغترار بمن تعملون أنه لا خالق لكم ولا رزاق غيره .
ولما كان هذا الإنكار سبباً للإصغاء ، كرره مفصحاً بسببه فقال : ( أتدعون بعلا ) أي إلهاً ورباً ، وهم صنم كان لهم في مدينة بعلبك كان من ذهب طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه ، فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة بحفظونها ، وهم أربعمائة ويعلمونها الناس ، ويحتمل أن يكون علماً على الصنم المذكور فيكون المفعول الثاني منوياً ، وحذف ليفهم الدعاء الذي لا دعاة يشبهه وهو الدعاء بالإلهية ، ومن قرأ شاذ ( بعلاء ) بوزن ( حمراء ) فهو إشارة إلى كثرة حث امرأة الملك على عبادة بعل وقتل إلياس عليه السلام ، وطاعة زوجها لها في ذلك - كما حكاه(6/337)
صفحة رقم 338
البغوي ، فاستحق التأنيث لذلك ، فأنت لكثرة ملابستها له ، والجنسية علة الصنم .
ولما كان دعاؤهم إياه للعبادة بينه بقوله : ( وتذرون ( ومادة ( وذر ) تدور على ما يكره ، فالمعنى : وتتركون ترك المهمل الذي من شانه أن يزهد فيه ، ولو قيل : وتدعون - تهافتاً على الجناس لم يفد هذا وانقلب المراد .
ولما كان الداعي لا يدعو إلا بالكشف ضر أو إلباس نفع ، فكان لا يجوز أن يدعو إلا من يقدر على إعدام ما يشاء وإيجاد ما يريد ، قال منبهاً لهم على غلطهم في الفعل والترك : ( أحسن الخالقين ) أي وهو من لا يحتاج في الإيجاد والإعدام إلى أسباب فلا تعبدونه .
ولما كان الإنسان يعلم يقيناً أنه لم يرب نفسه إلا بالإنشاء من العدم ولا بما بعده ، وكان الإحسان أعظم عاطف للإنسان ، قال مبيناً لمن أراد مذكراً لهم بإحسانه إليهم وإلى من يحامون عنهم ، ويوادون من كان يوادهم بالتربية بعد الإنشاء من العدم الذي هو أعظم تربية مفخماً للأمر ومعظماً بالإبدال في قراءة الجماعة بالرفع : ( الله ( فذكر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات تنبيهاً على أنه الأول المطلق الذي لم يكن شيء إلا به ) ربكم ) أي المحسن إليكم وحده .
ولما كانوا ربما أسندوا إيجادهم إلى من قبلهم غباوة منهم أو عناداً قال : ( ورب آبائكم الأولين ) أي الذين هم أول لكم ، فشمل ذلك آباءهم الأقربين ، ومن قبلهم إلى آدم عليه السلام .
ولما كان من أعظم المقاصد - كما مضى - التسلية والترجية ، سبب عد دعائه قوله : ( فكذبوه ( ولما كانت الترجية مستبعدة ، سبب عن التكذيب قوله مؤكداً لأجل تكذيبهم : ( فإنهم لمحضرون ) أي مقهرون على إقحامنا إياهم فيما نريد من العذاب الأدنى والأكبر ، وذكرهم بالسوء واللعن على مر الآباد وإن كرهوا ) إلا عباد الله ) أي الذين عملوا ما لهم من مجامع العظمة فعملوا بما علمهم فلم يدعوا غيره فإنهم لم يكذبوا ثم وصفهم بما أشار إليه من الوصف بالعبودية والإضافة إلى الاسم الأعظم فقال : ( المخلصين ) أي لعبادته فلم يشركوا به شيئاً جلياً ولا خفياً ، فإنهم ناجون من العذاب .
ولما جاهد في الله تعالى وقام بما يجب عليه من حسن الثناء ، جازاه سبحانه فقال : عاطفاً على ( فإنهم لمحضرون ) ) وتركنا عليه ) أي من الثناء الجميل وجميع ما يسره : ( في الآخرين ) أي كل من كان بعده إلى يوم الدين .
ولما كان السلام اسماً جامعاً لكل خير لأنه إظهار الشرف والإقبال على المسلم عليه بكل ما يريد ، أنتج ذلك قوله : ( سلام ( ولما كان في اسمه على حسب تخفيف العرب له لغات إحداهما توافق(6/338)
صفحة رقم 339
الفواصل ، فكان لا فرق في تأدية المعنى بين الإيتان بما اتفق منها ، وكان ما كثرت حروفه منها أضخم وأجل وأفخم ، وكان السياق بعد كثير من مناقبه لنهاية المدحة ، كان الأحسن التعبير بما هو أكثر حروفاً وهو موافق للفواصل ليفيد ذلك تمكينه في الفضائل ولتحقق أنه اسم أعجمي لا عربي مشتق من الياس وإن أوهمت ذلك قراءة ابن عامر بوصل همزته فقال : ( على آل يس ( ومن قرأ آل يس فيجوز أن يكون المراد في قراءته ما أريد من القراءة الأخرى لأن أهل اللغة قالوا : أن الآل هو الشخص نفسه ، ويس إما لغة في إلياس أو اختصرت اللغة الثانية التي هي إلياسين فحذف منها الهمزة المكسورة مع اللام ، ويجوز أن يكون المراد بآله أتباعه ، ويكون ذلك أضخم في حقه لما تقدم مما يدعو إليه السياق ، ويجوز أن يقصد بهذه القراءة جميع الأنبياء المذكورين في هذه السورة الذين هو أحدهم ، أي على الأنبياء المذكورين عقب سورة يس دلالة على ما دعت إليه معانيها من الوحدانية والرسالة والبعث وإذلال العاصي وإعزاز الطائع المجرد لنفسه في حب مولاه عن جميع العوائق ، القاطع للطيران إليه أقوى العلائق ، وخص بهذا هذه القصة لأنها ختام القصص المسلم فيها على أهلها .
الصافات : ( 131 - 135 ) إنا كذلك نجزي. .. . .
) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ( ( )
ولما أظهر سبحانه شرف إلياس عليه السلام أو الأنبياء الذين هو أحدهم ، علله مؤكداً له تنبيهاً على أنه لا بد من إعلاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه على كل من يناويهم وإن كذبت بذلك قريش فقال : ( إنا كذلك ) أي مثل هذا الجزاء العظيم ) نجزي المحسنين ) أي الذين هو من أعيانهم ؛ ثم علل الحكم بإحسانه مؤكداً لما مضى في مثله بقوله : ( إنه من عبادنا ) أي الجديرين بالإضافة إلينا ) المؤمنين ( ويستفاد من التأكيد أيضاً التنبيه على رسوخ قدمه في الإيمان وأنه بحيث تشتد الرغبة ويقوى النشاط في الإخبار به على ذلك الوجه .
ولما أتم ما أراد سبحانه من أمور المحسنين من ذرية إبراهيم عليه السلام المرسلين إلى ذريته في التسلية ، والترجية وقدمهم لأن المنة عليهم منه عليه ، والإنسان بابنه أسر منه بقريبه ، وهم الذين أظهر الله بهم وما ترك عليه ، من لسان الصدق في الآخرين .
أتبعهم قصة ابن أخيه مع أهل بلاد الأردن من غير قومهم ، فقال مؤكداً للتنبيه على نصر المؤمنين وإن كانوا في القلة والذلة على حال لا يظن انجباره وتكذيباً لليهود المكذبين برسالته أو الشاكين فيها : ( وإن لوطاً ) أي الذي جرد نفسه من مألوفها من بلاده وعشائره بالهجرة مع عمه إبراهيم عليهما السلام ) لمن المرسلين ( ولما كان(6/339)
صفحة رقم 340
جل المقصود تبشير المؤمنين وتحذير الكافرين ، وكان مخالفه كثيراً ، وكان هو غريباً بينهم ، قال في مظهر العظمة : ( إذ نجيناه ) أي على ما لمخالفيه من الكثرة والقوة ، ولم يذكرهم لأنهم اكثر الناس انغماساً في العلائق البشرية والقاذورات البهيمية التي لا تناسب مراد هذه السورة المنبني على الصفات الملكية ) وأهله أجمعين ( ولما كان الكفر قاطعاً للسبب القريب كما أن الإيمان واصلاً للسبب البعيد قال : ( إلا عجوزاً ) أي وهي امرأته فإن كفرها قطعها عن الدخول في حكم أهله فجردوا عنها ، كائنة ) في الغابرين ) أي الباقين في غبرة العذاب ومساءة الانقلاب .
الصافات : ( 136 - 142 ) ثم دمرنا الآخرين
) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالْلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ( )
ولما ذكر نجاته وابتدأ بها اهتماماً بالترجية قال مخوفاً معبراً بأداة البعد إفادة مع الترتيب لعظيم رتبة ما دخلت عليه : ( ثم دمرنا ) أي أهلكنا بما لنا من العظمة ) الآخرين ) أي فجردنا الأرض من قاذوراتهم ونزهنا البلاد المقدسة منهم ومن أرجاس فعلاتهم ، فلم نبق منهم أحداً ولا احتجنا في إهلاكهم إلى استئذان أحد .
ولما كان المقصود من مثل هذا تحذير المخالفين ، وكان تجار قريش يرون البقعة التي كانت فيها أماكن قوم لوط ، وهي البحيرة المعروفة ، ولا يعتبرون بهم ، عدّوا منكرين للمرور عليهم فأبرز لهم الكلام في سياق التأكيد فقيل : ( وإنكم ) أي فعلنا بهم هذا الحال أنكم يا معشر قريش ) لتمرون عليهم ) أي مواضع ديارهم في تجاراتكم إلى الشام ) مصبحين ) أي داخلين في الصباح الوقت الذي قبلنا مدائنهم عليهم فيه ، ونص عليه للتذكير بحالهم فيه .
ولما كان لليل منظر في الهول غير منظر النهار قال : ( وبالليل ( ولما كان أمرهم كافياً للعاقل في التقوى ، أنكر عليهم تماديهم فيما كان سبب أخذهم من تكذيب الناصح فقال : ( أفلا تعقلون ) أي يكون لكم عقول فتعتبروا بحالهم ، فتخافوا مثل مآلهم ، قتصدقوا رسولكم فإنكم أجدر منهم بالأخذ لأنه منكم وأنتم تعرفون من شرف أصله وكريم قوله وفعله ما لا يعرفه أولئك من رسولهم .
ولما أكمل سبحانه ما أراد من أمور من كان على أيديهم هلاك في الدنيا أو في الآخرة ، ختم بمن آل أمر قومه إلى سلامة وإيمان ونعمة وإحسان تغليباً للترجية على التأسيةوالتعزية فقال مؤكداً لأن ما يأتي من ذكر الاباق وبما أوهم شيئاً في أمره : ( وإن(6/340)
صفحة رقم 341
يونس ) أي أحد أنبياء بني إسرائيل وهو يونس بن متى عليه السلام ، حكى البغوي في قصة إلياس عليه السلام أنه لما أرسله الله تعالى إلى سبطه من بني إسرائيل الذين كانوا في مدينة بعلبك ، فكذبوه وأراد ملكهم قتله فاختفى في تلك الجبال ، اشتاق إلى الناس فنزل فمكث عن امرأة من بني إسرائيل وهي أم يونس بن متى عليه السلام ، وكان يونس إذ ذاك رضيعاً ثم رجع إلى الجبال فمات يونس عليه السلام ، فأتت أمه إلى تلك الجبال ، فما زالت تطوف حتى ظفرت بإلياس عليه السلام ، فسألته أن يدعو لابنها فيحييه الله ، فقال لها : إني لم أومر بهذا ، وإنما أنا عبد مأمور ، فجزعت فزاد جزعها وتضرعها إليه ، فرق لها ورحمها وسار معها فوصل إلى بيتها بعد أربعة عشر يوماً من حين مات ، وهو مسجى في ناحية البيت ، فدعا الله فأحياه لها ، وعاد إلياس عليه السلام إلى جبله ) لمن المرسلين ( .
ولما كان من أعظم المقاصد التسلية على استكبارهم عن كلمة التوحيد وقولهم : أنه شاعر مجنون ، ذكر من أمر يونس عيله السلام ما يعرف منه صعوبة أمر الرسالة وشدة خطبها وثقل أمرها وشدة عنايته سبحانه بالرسل عليهم السلام وأنه ما اختارهم إلا عن علم فهو لا يقولهم وإن اجتهدوا في دفع الرسالة ليزدادوا ثباتاً لأعبائها وقوة في القيام بشأنها فقال : ( إذ أبق ) أي هرب حين أرسل من سيده الذي تشرفه الله بالرسالة ضعفاً عن حملها لأن الاباق الهرب من السيد إلى حيث يظن أنه يخفى عليه ) إلى الفلك ) أي البيت الذي يسافر فيه على ظهر البحر .
ولما كان فعله على صورة فعل المشاحن وكان قصده الإيغال في البعد والإسراع في النقلة قال : ( المشحون ) أي الموقر ملأ ، فلا سعة فيه لشيء آخر يكون فيه ، فليس لأهله حاجة في الإقامة لحظة واحدة لانتظار شيء من الأشياء فحين وضع رجله فيه ساروا ، فاضطرب عليهم الأمر وعظم الزلزال حتى أشرف مركبهم على الغرق على هيئة عرفوا بها أن ذلك لعبد أبق من سيده ، فإن عند أهل البحر أن السفينة لا يستقيم سيرها وفيها آبق - نقله الكرماني وغيره عن ابن عباس رضي الله الله عنهما ، فسبب لهم ذلك المساهمة أي المقارعة كما هو رسمهم في مثل ذلك الأمر فاستهموا فساهم ، أي قارع يونس عليه السلام معهم قال البغوي : والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة .
ولما آل وقوع القرعة عليه إلى رميه من السفينة من محل علو إلى أسفل ، عبر عن ذلك بما يدل على الزلق الذي يكون من علو إلى سفل فقال مسبباً عن المساهمة : ( فكان من المدحضين ) أي الموقعين في الدحض ، وهو الزلق ، فنزل عن مكان الظفر بأن وقعت القرعة فرموه في البحر ) فالتقمه ) أي ابتلعه كما تبتلع اللقمة ) الحوت ) أي المعروف من جهة أنه لا حوت أكبر منه ، فكأنه لا حوت غيره ) وهو ) أي والحال أن يونس عليه السلام ) مليم ) أي داخل في الملامة .(6/341)
صفحة رقم 342
الصافات : ( 143 - 148 ) فلولا أنه كان. .. . .
) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( ( )
ولما وقع ما وقع فتجرد عن نفسه وغيرها تجرداً لم يكن لأحد مثل مجموعه لا جرم ، زاد في التجرد بالفناء في مقام الوحدانية فلازم التنزيه حتى أنجاه الله تعالى ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : ( فلولا أنه كان ) أي خلقاً وخلقاً ) من المسبحين ) أي العريقين في هذا المقام ، وهو ما يصح إطلاق التسبيح في اللغة عليه من التنزيه بالقلب واللسان والأركان بالصلاة وغيرها لأن خلقه مطابق لما هيئ له من خلقه ، فهو لازم لذلك في وقت الرخاء والدعة والخفض والسعة ، فكيف به في حال الشدة ، وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على الصلاة ) للبث في بطنه ) أي حياًّ أو بأن يكون غذاء له فتختلط أجزاؤه باجزائه ) إلى يوم يبعثون ) أي هو والحوت وغيرهما من الخلائق ، وعبر بالجمع لإفادة عموم البعث ، ولو أفرد لم يفد بعث الحيوانات العجم ، ولو ثنى لظن أن ذلك له وللحوت خاصة لمعنى يخصها فلا يفيد بعث غيرهما ، وقيل : للبث حيا في بطنه ، وفي الآية إشارة إلى حديث ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) وحث على الذكر وتعظيم لشأنه .
ولما كان التقدير : ولكنه لما كان ذكاراً لله في حال الرخاء ذكرناه في حال الشدة ، فأنجيناه من بطنه ، وأخرجناه منه سالماً ، وكان ذلك امراً باهراً للعقل ، أبرزه في مظهر العظمة فقال : ( فنبذناه ) أي ألقيناه من بطن الحوت إلقاء لم يكن لأحد غيره .
وكان ذلك علينا يسيراً ) بالعراء ) أي المكان القفر الواسع الخالي عن ساتر عن نبت أو غيره ، وذلك بساحل الموصل ، وقال أبو حيان : قذفه في نصيبين من ناحية الموصل : ( وهو سقيم ) أي عليل مما ناله من جوف الحوت بحيث أنه كام كالطفل ساعة يولد وهو إذ ذاك محمود غير مذموم بنعمة الله التي تدراكته ، فكان مجتبى ومن الصالحين ) وأنبتنا ) أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير .
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف ، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال : ( عليه ) أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان .
ولما كان الدباء عن النجم ، وكان قد اعظمها سبحانه لأجله ، عبر عنها بما له ساق فقال : ( شجرة ( ولما كانت هذه العبارة مفهمة لأنها مما له ساق ، نص على خرق العادة بقوله : ( من يقطين ) أي من الأشجار التي تلزم الأرض وتقطن فيها وتصلح لأن(6/342)
صفحة رقم 343
يأوي إليها ويقطن عندها حتى يصلح حاله ، فإنه تعالى عظمها وأخرجها عن عادة أمثالها حتى صارت عليه كالعريش ، واليقطين : كل ما يمتد وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء ولا يقوم على ساق كالبطيخ والقثاء ، والمراد بها هنا - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما شجرة القرع لعظم ورقها وبرد ظلها ونعومة ملمسها وأن الذباب لا يقربها ، قال أبو حيان : وماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أصلاً ، وقال غيره : فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده ، وهو من قطن بالمكان - إذا أقام به إقامة زائل لا ثابت .
ولما كان النظر إلى الترجية أعظم ، ختم بها إشارة إلى أنه لا يميته ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يقر عينه بأمته كثرة طواعية ونعمة فقال : ( وأرسلناه ) أي بعظمتنا التي لا يقوم لها شيء .
ولما لم يتعلق الغرض بتعيين المرسل إليهم ، وهل هم الذين أبق عنهم أولاً ؟ قال : ( إلى مائة ألف ( والجمهور على أنهم الذين أرسل إليهم أولاً - قال أبو حيان .
ولما كان العدد الكثير لا يمكن ناظره الوقوع فيه على حقيقة عدده ، بل يصير - وإن أثبت الناس نظراً - يقول : هم كذا يزيدون قليلاً أو ينقصونه ، وتارة يجزم بأنهم لا ينقصون عن كذا ، وأما الزيادة فممكنة ، وتارة يغلب على ظنه الزيادة ، وهو المراد هنا ، قال : ( أو يزيدون ( لأن الترجية في كثرة الأتباع أقر للعين وأسر للقلب ، وإفهاماً لأن الزيادة واقعة ، وهؤلاء المرسل إليهم هم أهل نينوى وهم من غير قومه ، فإن حدود أرض بني إسرائيل الفرات ، ونينوى من شرقي الفرات بعيدة عنه جداً .
ولما تسبب عن إيتانه إليهم انشراح صدره بعد ما حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال : ( فآمنوا ) أي تجرديداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية .
ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال : ( فمتعناهم ) أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها ) إلى حين ) أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل .
ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء
قال مترجمه : نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي : كانت كلمة الرب على يونان بن متى ، يقول له : قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي ، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب ، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى(6/343)
صفحة رقم 344
ترسيس هارباً من قدام الرب ، والرب طرح ريحاً عظمية في البحر ، فكان في البحر موج عظيم ، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلاهه ، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم ، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له : لماذا أنت نائم ؟ قم فادع إلاهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك ، وقال الرجل لصاحبه : تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا ؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان ، فقالوا له : أخبرنا ما هذا الشر ؟ وماذا هو عملك ، ومن أين أنت ، ومن أيّ شعب أنت ، وأيتها أرضك ؟ فقال لهم يونان : أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر ، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً ، فقالوا له : ماذا صنعت ؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلاه هرب ، فلما أخبرهم قالوا : ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا ؟ قال لهم يونان : خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم ، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل ، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً ، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم ، ودعوا إلى الرب وقالوا : أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي ، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب ، وكل ما شئت تصنع ، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر ، فاستقر البحر من أمواجه ، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً ، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور ، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان ، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال : دعوت الرب في حزني فأجابني ، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه ، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر ، والأنهار أحاطت بي ، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت ، أنا بحق قلت : إني قد تباعدت من قدام عينيك ، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس ، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي ، وفي أسفل البحر احتبس رأسي ، وإلى أسفل الجبال هبطت ، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر ، إذا اغتنمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس ، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا ، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح ، والذي نذرته اوفيه للرب فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس ، وأتى الكلام الرب إليه المرة الثانية ، وقال له : قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك ، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب ، ونينوى كانت مدينة عظمية للرب مسيرة ثلاثة أيام ، وتبدأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال : من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب ، فآمن(6/344)
صفحة رقم 345
أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم ، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه ونزع تاجه ، واكتسى مسح شعر ، وجلس على الرماد ، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه : وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون ، وماء فلا يشربون ، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع ، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء ، وعن الاختطاف الذي في يده ، وقالوا : من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك ، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم ، وحزن يونان حزناً شديداً ، وتكره من ذلك جداً ، وصلى قدام الرب وقال : أيها الرب ألم تكن هذه كلمتي ، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس ، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف ، طويل صبرك وكثيرة نعمتك ، وترد السوء الآن يا رب انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي في الحياة ، فقال له : جداً حزنت يا يونان ، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة ، وأمر الله الرب أصل القرع ، ونبت وارتفع على رأس يونان ، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع .
وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته ، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع ، وحميت الشمس في رأس يونان ، واغتنم وسال الموت لنفسه وقال : إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني ، لأني لم أكن أخبر من إياي ، وقال الرب ليونان : جداً حزنت على أصل القرع ، فقال يونان : جداًّ أحزن حتى الموت ، قال له الرب : أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه ، الذي في ليلة نبت ، وفي ليلة يبس ، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمنيهم من شمالهم وكثرة من الغدائر - انتهى .
ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت ، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته ، فكان منه ما كان ، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة - والله الموفق .
الصافات : ( 149 - 157 ) فاستفتهم ألربك البنات. .. . .
) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ(6/345)
صفحة رقم 346
بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان الذي سبق ادعاؤه أمرين أحدهما أن هؤلاء المنذرين يسارعون في اقتفاء آثار آبائهم في الضلال ، والثاني أن أكثر الأولين ضلوا ، وسقيت دليلاً شهودياً على الثاني هذه القصص الست التي ما اهتدى من أهلها أمة بكمالها إلا قوم يونس عليه السلام ، كان ذلك سبباً للأمر بإقامة الدليل على ضلال هؤلاء تبعاً لآبائهم بأمر ليس في بيان الضلال أوضح منه ، فقال متهكماً بهم مخصصاً الأمر به ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى عظم هذه النتيجة وأنه لا يفهمها حق فهمها سواه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فاستفهم ) أي فاطلب من هؤلاء الذين يعرضون عن دعوتك إلى أباطيلهم أن يجيبوك فتوة منهم وكرماً : بأي دليل وبأي حجة حكموا بما يقولونه تبعاً لآبائهم في الملائكة الذين تقدم في فاطر أنهم رسل الله ، وفي يس أنهم في غاية الشدة بحيث إن عذاب الأمة الكثيرة يكفي فيه واحد منهم ، وبحيث إن صيحة واحده من أحدهم يميت الأحياء كلهم ، وصيحة أخرى يحي الأموات كلهم ، هذا إلى ما أفادته هذه السورة لهم من الصف والزجر والتلاوة حين ابتدأت بالإقسام بهم لأن لمقصودها نظراً عظيماً إلى أحوالهم في تجرديهم وتقديسهم ، ويلزم من هذا الاستفتاء تنزيههم وتنزيه الي خلقهم وذلك مقصود السورة ، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى ما هو دليل عليها فإن الرسول دال على قدر من أرسله فقال : ( ألربك ) أي خاصة وهو الملك الأعلى الذي رباك وأحسن إليك بهدايتك والهداية بك وغير ذلك من أمرك حتى كنا أكمل الخلق وأعلاهم في كل أمر يكون به الكمال والقرب من الله فاصطفاك لرسالته ، ففي إفراد الضمير إشارة إلى أنه لا يختار إلا الأكمل الأشرف الأفضل .
ولما كان المراد تبكيتهم بكونوا جعلوا جعلوا الأخس لله ، وكانت الإناث أضعف من الذكور ، ولكنها قد تطلق الأنوثة على غير الحيوان ، وكانت الإناث في بعض الأجناس كالأسحار أشرف ، عدل عن التعبير بالإناث وعبر بما ينص على المراد فقال : ( البنات ) أي دون البنين ، وهم - مع أنهم مربون مقهورون - يأنفون منهم غاية الأنفة ) ولهم ) أي دونه ) البنون ( مع أن الرب الذي خصوه بأدنى القبيلين تارة يخلق الذكر من تراب ويريبه أحسن تربية ، وأخرى من غيره أو يخرجه من بطن حوت أو غمرات نار أو غير ذلك ، فبأي وسيلة ادعوا له ولداً والوالد لا يكون إلا بالتدريج في أطوار الخلق من النقطة إلى ما فوقها ، ولا يرضى بذلك إلا عاجز فكيف باعاء أدنى الصنفين من الولد ، سبحان ربك رب العزة .
ولما كان دعواهم لأنوثة الملائكة متضمنة لادعاء العلم باختصاصه عند دعوى الولدية بأدنى القبيلتين أو ادعاء العلم بأنه خلقهم إناثاً بمشاهدة منهم أو كتاب منه إليهم ، (6/346)
صفحة رقم 347
وأما العقل فإنه لا مدخل له في ذلك ، قال معلماً بأنهم أهل لأن يبكتوا ويستهزأ بهم لأنه لا علم عندهم بإحدى الطريقين ، ولا يقدرون أن يدعوا ذلك لئلا يفتضحوا فضيحة لا تنجبر أصلاً ، عائداً إلى التصريح بمظهر العظمة التي إن لم يقتض اختيار الأكمل لم يقتض الاختصاص بالأدون لأنها منافية بكل اعتبار للدناءة ) الملائكة ) أي الذين حكموا عليهم بالأنوثة ، وهم من أعظم رسلنا وأجل خواصنا ولم يروا منهم أحداً ولا سبيل لهم إلى العلم بأحوالهم باعترافهم بذلك ، ولما تعين أن المراد بالأنوثة الخساسة ، وكان في بعض الإناث قوة الذكور ، عبر بالأنوثة إلزاماً لهم في حكمهم ذلك بخساستين فقال : ( إناثاُ وهم ) أي والحال ان هؤلاء الذين ينسبون إلى الله ما لا يليق به ) شاهدون ) أي ثابت لهم شهود ذلك لا يغيبون عنه ، فإنا كل يوم نجدد منهم من شئنا ، قال الرازي : وكل واحد من الملائكة نوع برأسه ، أما الآدميون فكلهم نوع واحد ، وهو ناقص في ابتداء الفطرة ، مستكمل ، وله درجات في الترقي إلى أن يبلغ مقام المشاهدة ، وهم أن تتجلى له حلية الحق الأول من ذاته وصفاته وترتيب أفعاله علماً لا ينفصل عنه ولا يغيب فيترقى في إدراكه عن المحسوسات والخيالات ، ويترقى فعله على أن يكون لمقتضى الغضب أو الشهوة ، وبهذا يقرب من الله تعالى - انتهى .
ولما اشتد تشوف السامع إلى أن يعلم حقيقة قولهم الذي تسبب عنها هذا الاستفتاء أعلم سبحانه بذلك في قوله مؤكداً إشارة إلى أنه قول لا يكاد أن لا يقر أحد أن قاله ، معجباً منهم فيه منادياً عليهم بما أبان من فضيحتهم بما قدم من استفتائهم : ( إلا أنهم من إفكهم ) أي من أجل أن صرفهم الأمور عن وجوها عادتهم ) ليقولون ) أي قولاً هم مستمرون عليه وإن كانوا لا يقدرون على إبرازه في مقام المناظرة ، وعدل عن مظهر العظمة إلى إسم الجلالة العلم على الذات الجامعة لجميع الصفات إشارة إلى أن كل صفة من صفاته ونعت من نعوته يأبى الولدية فقال : ( ولد الله ) أي وجد له - وهو المحيط بصفات الكمال - ولد هم على صفة الأنوثة أي أتى بالولد ، فولد فعل ماض والجلالة فاعل ، وقرئ شاذاً برفع ( ولد ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وجر الجلالة بالإضافة ، والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض ، فلذلك يخبر به عن المفرد وغيره والمؤنث وغيره .
ولما أتى سبحانه بالاسم الأعظم إشارة إلى عظيم تعاليه عن ذلك ، صرح به في قوله دالاً على الثبوت مؤكداً لأجل دعواهم أنهم صادقون : ( وإنهم لكاذبون ( ودل على كذبهم أيضاً بإنكاره موبخاً لهم في أسلوب الخطاب زيادة في الإغضاب في قوله :(6/347)
صفحة رقم 348
) اصطفى ( بهمزة الإنكاري ، ومن أسقطها فهي عنده مقدرة مرادة ، أي أخبروني هل اختار هذا السيد الذي أنتم مقرون بتمام عمله وشمول قدرته وعلو سؤدده ما تسترذلونه .
ولما كان التعبير بالبنت أكره إليهم من التعبير بالأنثى ، والتعبير بالابن أحب إليهم من التعبير بالذكور وأنص على المراد لأن الذكر مشترك بين معان ، قال : ( البنات ( اللاتي تستنكفون أنتم من لحوقهن بكم ، وتستحيون من نسبتهن إليكم ، حتى أن بعضكم ليصل في إبعادهن إلى الوأد ) على البنين ( فكان حينئذ نظره لنفسه دون نظر أقلكم فضلاً عن أجلكم ، ولذلك عظم حسناً وتناهى بلاغة قوله : ( ما ) أي يا معاشر العرب المدعين لصحة العقول وسداد الأنظار والفهوم أي شيء ) لكم ( من الخير في هذا المقال ؟ ثم زاد في التقريع عليه بقوله معجباً منهم : ( كيف تحكمون ) أي في كل سألناكم عنه بمثل هذه الأحكام التي لا تصدر عمن له أدنى مسكة من عقله ، وعبر بالحكم لاشتهاوه فيما يبت فيأبى النقص ، فكان التعبير به أعظم في تقريعهم حيث أطلقوه على ما لا أوهى منه .
ولما كان هذا شديد المنافاة للعقول ، عظيم البعد عن الطباع ، حسن جداً قوله أيضاً مبكتاً : ( أفلا تذكرون ) أي أدنى تذكر بما أشارت إليه قراءة من خفف بما جمعت من التخفيف والحذف ، فإن الأمر في غاية الظهور لما في عقولكم وطباعكم من أنكم لا ترضون لأنفسكم أخس المنازل ، فكيف يختاره لنفسه ربكم الذي بيده كل شيء ؟ وإنه لا يكون الولد مطلقاً إلا ممن له جنس ، فيكون محتاجاً إلى جنسه ، والمحتاج لا يكون إلهاً بوجه ، وأشارت مع دقة بما أشار إليه الإدغام لأجل حل شبهة من يرى أفعال من يحيي الموءودة فيظن أن ذلك رغبة منهم في الإناث ، وليس ذلك إلا رغبة في دفع فساد القتل ورحمة للضعيف ، ولم يقرأ بالفك إشارة إلى أن الأمر غني عن الدرجة العليا في التأمل .
ولما قررهم على شهود ذلك بما تضمن إبطاله عقلاً ، فلم يبق من طرق الأدلة إلا السمع ، عادل به قوله : ( أم لكم ) أي على ادعاء ذلك ) سلطان ) أي دليل سمعي بخبر سماوي قاهر ، وأشار إلى أنه لا يتكلم في أحوال الملوك إلا بأمر واضح بقوله : ( مبين ( .
ولما كان المراد هذا - ولا بد - البرهان السمعي ، بينه بما سبب عنه من قوله : ( فأتوا بكتابكم ) أي الذي أتاكم بذلك السلطان من الملك في أنه اختار لنفسه ذلك ، ودل على كذبهم تلويحاً بعد أن أتى به تصريحاً وهو أنكى ما يكون بالإيتان بأداة الشك(6/348)
صفحة رقم 349
في قوله : ( إن كنتم صادقين ( وهذه الآيات صادرة عن سخط وإنكار فظيع ، والأساليب التي وردت عليها ناطقة بتسفيه أحلام المدعي لذلك وبجهل نفوسهم ، واستركاك عقولهم ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مثل ذلك على بال فضلاً على أن يتخذ معتقداً ، ويتظاهر به مذهباً .
الصافات : ( 158 - 164 ) وجعلوا بينه وبين. .. . .
) وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( ( )
ولما تم إظهار ضلالهم ، بكتهم في أسلوب آخر معرضاً عن خطابهم تخويفاً من إحلال عذابهم فقال : ( وجعلوا ) أي بعض العرب منابذين لما قضى بيانه من الأدلة ) بينه وبين الجنة ) أي الجن الذين هم شر الطوائف ، وأنثهم إشارة إلى تحقيرهم عن هذا الأمر الذي أهلوهم له ) نسباً ( بأن قالوا : إنه - جلت سبحات وجهه وعظم تعالى جده - تزوج بنات سروات الجن ، فأولد منهم الملائكة ، ومن المعلوم أن أحداً لا يتزوج إلا من يجانسه ، فأبعدوا غاية البعد لأنه لا مجانس له .
ولما كان النسيب يكرم ولا يهان قال مؤنثاً لضميرهم زيادة في تحقيرهم : ( ولقد علمت الجنة ) أي مطلقاً السروات منهم والأسافل ) إنهم ) أي الجن كلهم ) لمحضرون ) أي إليه بالبعث كرهاً ليعاملوا بالعدل مع بقية الخلائق يوم فصل القضاء ، والتجلي في مظاهر العز والعظمة والكبرياء ، فهم أقل من أن يدعى لهم ذلك .
ولما ذكر اليوم الأعظم الذي يظهر فيه لكل أحد معاقد الصفات ، وتتلاشى عند تلك المظاهر أعيان الكائنات ، وتنمحي لدى تلك النعوت آثار الفانيات ، وكان ذكره على وجه مبين بُعد الجن عن المناسبة ، كان مجزأ للتنزيه وموضعاً لجميع أنواعه ، والجلالة إشارة إلى عظم المقام : ( سبحان الله ) أي تنزه الذي له جميع العظمة تنزهاً يفوت الحصر ) عما يصفون ) أي عما يصفه به جميع الخلائق الذين يجمعهم الإحضار ذلك اليوم ، أو الكفار الذين ادعوا له الولد وجعلوا الملائكة من والولد ) إلا عباد الله ) أي الذين أظهر ولم يضمر ، لأن الضمير يعود على عين الماضي ، فربما أوهم تقييده بما ذكر في الأول فينفهم تقييد تشريفهم بالتسبيح ، ) المخلصين ( من جميع الخلائق أو من العرب وهم من أسلم منهم بعد نزول هذه السورة فإنهم لا يصفونه إلا بما أذن لهم فيه(6/349)
صفحة رقم 350
ولأجل أن هذه السورة سورة المتجردين عن علائق العوائق عن السير إليه ، كرر وصف الإخلاص فيها كثيراً .
ولما نزه نفسه المقدس سبحانه عن كل نقص ، دل على ذلك بأنهم وجميع ما يعبدونه من دونه لا يقدرون على شيء لم يقدره ، فقال مسبباً عن التنزيه مؤكداً تكذيباً لمن يظن أن غير الله يملك شيئاً مواجهاً لهم بالخطاب لأنه أنكى وأجدر بالإغضاب : ( فإنكم وما تعبدون ) أي من الأصنام وغيرها من كل من زعمتموه إلهاً .
وابتدأ الخبر عن ( أن ) فصدره بالنافي فقال : ( ما ( وغلب المخاطبين المعبر عنهم بكاف الخطاب على من عطف عليهم وهم معبوادتهم تنبيهاً على أنهم عدم كما حقرهم بالتعبير عنهم بما دون ( من ) فقال مخاطباً : ( أنتم عليه ) أي على الله خاصة ) بفاتنين ) أي بمغيرين أحداً من الناس بالإضلال ) إلا من هو ) أي في حكمة وتقديره ) صال الجحيم ) أي معذب بعذابه لحكمه عليه بالشقاوة فعلم أنكم لا تقدرون أن تغيروا عليه إلا من غيره هو فبحكمه ضل لا بكم ، نعوذ بك منك ، لا مهرب منك إلا إليك ، والمراد بتقديم الجار أن غيره قد يقدر على أن يفسد عليه من لا يريد فساده ويعجز عن رد المفسد ، فالتعبير بأداة الاستعلاء تهكم بهم بمعنى أنه ليس في أيديكم من الإضلال إلا هذا الذي جعله لكم من التسبب ، فإن كان عندكم غلبة فسموه بها ، وتوحيد الضمير على لفظ ( من ) في الموضعين للإشارة إلى أن الميت على الشرك بعد بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب قليل ، وقرئ شاذاً ( صالوا ) دفعاً لظن أنه وتحد .
ولما كان من المعلوم أن هذا الاستفتاء من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقع امتثالاً المصدر به ، وبطل بهذه الجملة قدرتهم وقدرة معبوداتهم التي يدعون لها بعض القدرة ، قال مؤكداً لذلك ومبطلاً لقدرة المخلصين أيضاً عطفاً على ) فإنكم وما تعبدون ( : ( وما منا ) أي نحن وأنتم ومعبوادتكم وغير ذلك ، أحد ) إلا له مقام معلوم ( قد قدره الله تعالى في الأزل ، ثم أعلم الملائكة بما أراد منه فلا يقدر أحد من الخلق على أن يتجاوز ما أقامه فيه سبحانه نوع مجاوزة ، فلكل من الملائكة مقام معروف لا يتعداه ، والأولياء لهم مقام مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحد ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مقام مشهور مؤيد بالمعجزات الظاهرة ، لأنهم للخلق قدوة ، فأمرهم على الشهوة ، وأمر الأولياء على السترة - قاله القشيري ، وغير المذكورين من أهل السعادة لهم مقام في الشقاوة معلوم عند الله تعالى وعند من أطلعه عليه من عباده .
الصافات : ( 165 - 171 ) وإنا لنحن الصافون
) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ(6/350)
صفحة رقم 351
الأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ) 73
( ) 71
ولما سلب عن الكل كل شيء من القدرة إلا ما وهبهم ، وكان الكفار يدعون أنهم يعبدون الله تعالى وينزهونه وأن الإشتراك لا يقدح في ذلك ، بين أن المخلصين خصواً دونهم بمواقف الصفاء ، ومقامات الصدق والوفاء ، لأن طاعتهم أبطلها إشراكهم ، فقال مؤكداً ومخصصاً : ( وإنا ) أي يا معشر المخلصين ) لنحن ) أي دونكم ) الصافون ) أي أنفسنا في الصلاة والجهاد وأجنحتنا في الهواء فيما أرسلنا به وغير ذلك لاجتماع قلوبنا على الطاعة ) وإنا لنحن المسبحون ) أي المنزهون له سبحانه عن كل نقص مما ادعيتوه من البنات وبجوز أن يكون المعنى : لنا هذا الفعل ، وهو الصف والتسبيح ، ولا ينوي له مفعول البتة .
ولما بين ضلالهم وهداه ( صلى الله عليه وسلم ) وهدى من اتبعه - بما أشار إليه بصفة الربوبية التي أضافها إليه في قوله ( ألربك ) أعلم بأنهم زادوا على عيب الضلال في نفسه عيب الإخلاف للوعد والنقض لما أكدوه من العهد ، فقال مؤكداً إشارة إلى أنه لا يكاد يصدق أن عاقلاً يؤكد على نفسه في أمر ثم يخلفه جواباً لمن يقول : هل نزهوه كما نزهه المخلصون : ( وإن ) أي فعلوا ذلك من الضلال بالشبه التي افتضحت بما كشفناه من ستورها ولم ينزهوا كما نزه المخصلون والحال أنهم ) كانوا ( قبل هذا ) ليقولون ) أي قولاً لا يزالون يجددونه مع ما فيه من التأكيد ) لو أن عندنا ذكراً ) أي على أيَ حال كان من أحواله من كتاب أو غيره ) من الأولين ) أي من الرسل الماضين ) لكنا عباد الله ) أي بحيث أنا نصير اهلاً للإضافة إلى المحيط بصفات الكمال ) المخلصين ) أي في العبادة له بلا شائبة من شرك أصلاً .
ولما كان هذا الذكر - الذي أتاهم مع كونه أعظم ذكر أتى مصدقاً لكتب الأولين وكان الرسول الآتي به أعظم الرسل ، فكان لذلك هو عين ما عقدوا عليه مع زيادة الشرف - سبباً لكفرهم قال : ( فكفروا به ) أي فتسبب عما عاهدوا عليه أنهم كفروا بذلك الذكر مع زيادته في الشرف على ما طلبوا بالإعجاز وغيره فتسبب عن ذلك تهديدهم ممن أخلفوا وعده ، ونقضوا مع التأكيد عهده ، فقال : ( فسوف يعلمون ) أي بوعيد ليس هو من جنس كلامهم ، بل هو مما لا خلف فيه بوجه .
ولما كان التقدير كما أرشد إليه سياق التهديد : فلقد سبقت كلمتنا على من لا خلف فيه بوجه .
ولما كان التقدير كما أرشد إليه سياق التهديد : فلقد سبقت كلمتنا على من خالف رسلنا بالخذلان المهين ، عطف عليه قوله : ( ولقد سبقت ) أي في الأزل ) كلمتنا ) أي على ما لنا من العظمة ) لعبادنا ) أي الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون ) المرسلين ( الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة .(6/351)
صفحة رقم 352
الصافات : ( 172 - 178 ) إنهم لهم المنصورون
) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( ( )
ولما آذنت اللام بعلوهم ، أوضح ذلك ببيان ما سماه كلمة لانتظامه في معنى واحد بقوله : ( إنهم ( وزاد في تأكيده في نظير ما عنده الكفرة على ما تدل أعمالهم أنه في غاية البعد فقال : ( لهم ) أي خاصة ) المنصورون ) أي الثابت نصرهم في الجدال والجلاد وإن وقع للكفار عليهم في الثاني ظهور ما .
ولما خص بذلك المرسلين ، عم فقال : ( وإن جندنا ) أي من المرسلين وأتباعهم ، ولما كان مدلول الجند في اللغة العسكر والأعوان والمدينة وصنفاً من الخلق على حدة ، قال جامعاً على المعنى دون اللفظ نصاً على المراد : ( لهم ) أي لا غيرهم ) الغالبون ) أي وإن رئي أنهم مغلوبون لأن العاقبة لهم إن لم يكن في هذه الدار فهو في دار القرار ، وقد جمع لهذا النبي الكريم فيهما ، وسمى هذا كله كلمة لانتظامه معنى واحداً ، ولا يضر انهزام في بعض المواطن من بعضهم ولا وهن قد يقع ، وكفى دليلاً على هذا سيرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الثلاثة بعده رضي الله عنهم .
ولما ثبت لا محالة بهذا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) هو المنصور لأنه من المرسلين ومن جند الله ، بل هو أعلاهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فتولّ ) أي فكلف نفسك الإعراض ) عنهم ) أي عن ردهم عن الضلال قسراً ) حتى حين ) أي مبهم ، وهو الوقت الذي عيناه لنصرك في الأزل ) وأبصرهم ) أي ببصرك وبصيرتك عند الحين الذي ضربناه لك وقبله : كيف تؤديهم أحوالهم وتقلباتهم كلما تقلبوا إلى سفول .
ولما كانوا قبل الإسلام عمياً صمًّا لأنهم لا يصدقون وعداً ولا وعيداً ، ولا يفكرون في عاقبة ، حذف المفعول من فعلهم فقال متوعداً محققاً بالتوسيف لا مبعداً : ( فسوف يبصرون ) أي يحصل لهم الإبصار الذي لا غلط فيه بالعين والقلب بعد ما هم فيه من العمى ، وهذا الحين واضح في يوم بدر وما كان من أمثاله قبل الفتح ، فإنهم كان لهم في تلك الأوقات نوع من القوة ، فلذلك أثبتهم نوع إثبات في أبصرهم .
ولما كانت عادتهم الاستعجال بما يهددون به استهزاء ، كلما ورد عليهم تهديد ، سبب عن ذلك الإنكار عليهم على وجه تهديد آخر لهم فقال : ( أفبعذابنا ) أي على ما علم من العظمة بإضافته إلينا ) يستعجلون ) أي يطلبون أن يعجل لهم فيأتيهم قبل أوانه الذي ضربناه له .
ولما علم من هذا أنه لا بشرى لهم يوم حلوله ، ولا قرار عند نزوله ، صرح بذلك في قوله : ( فإذا ) أي هددناهم وأنكرنا عليهم بسبب أنه إذا ) نزل(6/352)
صفحة رقم 353
بساحتهم ) أي غلب عليها لأن ذلك شأن النازل بالشيء من غير إذن صاحبه ولا يغلب عليها إلا وقد غلب على أهلها فبرك عليهم بروكاً لا يقدرون معه على البروز إلى تلك الساحة وهي الفناء الخالي عن الأبنية كأنه متحدث القوم وموضع راحتهم في أي وقت كان بروكه من ليل أو نهار ، ولكن لما كانت عادتهم الإغارة صباحاً ، قال على سبيل التمثيل مشيراً بالفاء إلى أنه السبب لا غيره ) فساء صباح المنذرين ) أي الذين هم ولقد صار من لم يتأهل لغير الإنذار فيه في غاية السوء ، وهم الذين قتلهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم ، ومنهم من تعلق بأستار الكعبة فلم يفده ذلك ، ولكنهم كانوا قليلاً ، والباقون إن كان ذلك الصباح على ما ساءهم منظره فلقد سرهم لعمر الله مخبره .
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نبي الرحمة لا يستأصل قومه بعذاب ، قال دالاً على ذلك بتكرير الأمر تأكيداً للتسلية ، ووعد النصرة مع ما فيه من زيادة المعنى على الأول ، عاطفاً على ( تولّ ) الأولى : ( وتول ) أي كلف نفسك الصبر عليهم في ذلك اليوم الذي ينزل بهم العذاب الثاني والإعراض ) عنهم حتى حين ( وكذا فعل ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه حل بساحتهم يوم الفتح صباحاً ، فلم يقدروا على مدافعة .
الصافات : ( 179 - 182 ) وأبصر فسوف يبصرون
) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما كابر بعضهم ودافع ، لم يكن بأسرع من أن ولوا وطلبوا السلامة بالدخول فيما جعله ( صلى الله عليه وسلم ) علماً على التأمين ، وقال حماس بن قيس أخو بني بكر لما دخل بيته لامرأته : أغلقي عليّ الباب ، فعيرته بالهزيمة بعن أن كانت تنهاه عن منابذة المسلمين فلا ينتهي ويقول لها : لا بد ، أن أخدمك بعضهم :
إنك لو شهدت يوم الحندمه إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمه ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلقنا وهمهمهلم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ولما كان هذا منطبقاً على يوم الفتح ، وكان ذلك اليوم قد أحل الكفار محلاًّ صاروا به بحيث لا اعتبار لهم قال : ( وأبصر ( مسقطاً ضميرهم ، أي أبصر ما تريد من شؤونك التي يهمك النظر فيها ، وأما هم فصاروا بحيث لا يبالي بهم ولا يفكر في أمرهم ولا يلتفت إليهم ، فإنا أبدلنا من عزتهم ذلاًّ ، ومن كثرتهم قلاًّ ، وجردنا تلك الأراضي(6/353)
صفحة رقم 354
من قاذورات الشرك ، وأحللنا بها طهارة التنزيه وأقداس التحميد ، وكذا كان ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم وهو على درج الكعبة وهم تحته كالغنم المجموعة في اليوم المطير بعد أن قال ( ا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ) : تظنون أني فاعل بكم يا معاشر قريش ( قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كرين ، قال ) اذهبوا فأنتم الطلقاء ( وقال له صفوان بن أمية : اجعلني بالخيار شهرين ، قال ) أنت بالخيار أربعة أشهر ( ولم يكلف أحداً منهم الإسلام حتى أسلموا بعد ذلك طوعاً من عند آخرهم .
ولما حصر الطائف فعسرت عليه انصرف عنها ، فما لبثوا أن أرسلوا إليه رسلهم وأسلموا فحسن إسلامهم ولم يرتد أحد منهم في الردة ، وهذا من معنى ) فسوف يبصرون ( .
ولما تقرر له سبحانه من العظمة ما ذكر ، فكان الأمر أمره والخلق خلقه ، ثبت تنزهه عن كل نقص واتصافه بكل كمال ، فلذلك كانت نتيجة ذلك الختم بمجامع التنزيه والتحميد فقال : ( سبحان الله ) أي المحسن إليك بإرسالك وإقامة الدليل الظاهر المحرر على صدقك بكل ما يكون من أحوال أعدائك من كلام أو سكوت ، وتأييدك بكل قوة وإلباسك كل هيبة ) رب العزة ) أي التي هو مختص بها بما أفهمته الإضافة وأفاد شاهد الوجود وحاكم العقل ، وقد علم بما ذكر في هذه السورة أنها تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء ، وفي إضافة الرب إليه وإلى العزة وإن رئي في ظاهر الأمر غير ذلك ) عما يصفون ( مما يقتضي النقائص لما ثبت من ضلالهم وبعدهم عن الحق .
ولما قدم السلام على من شاء تخصيصه في هذه السورة من رسله عمهم فقال عاطفاً على ) سبحان ( : ( وسلام ) أي تنزه له وسلامة وشرف وفخر وعلا ) على المرسلين ) أي الواصفين له بما له أهل ، الذين اصطفاهم ، الصافين صفًّا ، الزاجرين زجراً ، التالين ذكراً ، من البشر والملائكة المذكورين في هذه السورة وغيرهم لأجل ما حكم لهم من سبحانه في الأزل من العز والنصر ) والحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ) أي الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي دل عليها مجموع خلقه ، وإلى ذلك أشار بقوله : ( رب العالمين ( فهو حينئذ الواحد المعتال ، الذي تنزه(6/354)
صفحة رقم 355
عن الأكفاء والأمثال ، والنظراء والأشكال ، في كل شيء من الأقوال والأفعال ، والشؤون والأحوال ، ولقد ترافق آخرها - كما ترى - وأولها ، وتعانق مفصلها وموصلها - والله الهادي إلى الصواب .
.. . .(6/355)
صفحة رقم 356
( سورة ص )
المقصود منها بيان ما ذكر في آخر الصافات من أن جند الله هم الغالبون - وإن رئي أنهم ضعفاء ، وإن تأخر نصرهم - غلبة آخرها سلامة للفريقين ، لأنه سبحانه واحد لكونه محيطا بصفات الكمال كما أفهمه آخر الصافات من التنزيه والحمد وما معهما ، وعلى ذلك دلت تسميتها بحرف " ص " لأن مخرجه من طرف اللسان ، وبين أصول الثنيتين السفليتين ، ولهمن الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير ، فكان دالا على ذلك لأن مخرجه أمكن مخارج الحروف وأوسعها وأخفها وأرشقها وأغلبها ، ولأن ما له من الصفات العالية أكثر من ضدها وأفخم وأعلى وأضخم ، ولذلك ذكر من فيها من الأنبياء الذين لم يكن على أيديهم إهلاك ، بل ابتلوا وعرفوا وسلمهم الله من أعدائهم من الجن والإنس ، وإلى ذلك الإشارة بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من أن معناه : الله صادق فيما وعد ، أو صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو صاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، قلوب الخلق واستمالها ، وبه قرأ أبو عمرو في رواية شاذة على أنه فعل ماض من الصيد ، وقرأ الحسن وغيره بكسر الصاد على أنه أمر من المصاداة وهي المعارضة أي عارض بما أنزلناه إليك الخلائق وجادلهم به فإنك تغلبهم لأن الصدق سيف الله في أرضه ، ما وضعه على شيء إلا قطعه ، وقد انبسط هذا الصدق الذي أشار إليه الصاد على كل صدق في الوجود فاستمال كل من فيه نوع من الصدق ، ولهذا قال في السورة التي بعدها ) والذي جاء بالصدق وصدق به ) [ الزمر : 33 ] فذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام شاهد وجودي على ما هو معنى الصاد عند العلماء الربانيين من أنه مطابقة ما بين الخلق والأمر ، وتسمى سورة داود عليه السلام - كما قاله ابن الجوزي رحمه الله - وحاله ( صلى الله عليه وسلم ) أدل أحوال من فيها من الأنبياء على هذا المقصود ، لما كان فيه من الضعف أولا والملك آخرا ) بسن الله ( الذي يعز من انتمى إليه وإن كان ضعيفا لأن ه العزيز ) الرحمن ( الذي له القدرة التامة على أن يرحم بالضراء كما يرحم بالسراء ) الرحيم ( الذي أكرم أهل وده ، بالإعانة على لزوم شكره وحمده .(6/356)
صفحة رقم 357
ص : ( 1 - 4 ) ص والقرآن ذي. .. . .
) ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ( )
ولما نزه ربنا سبحانه نفسه الأقدس في ختام تلك عن كل شائبة نقص ، وأثبت له كل كمال ناصاً على العزة ، وأوجب للمرسلين السلامة ، افتتح هذه بالأشارة إلى دليل ذلك بخذلان من ينازع فيه فقال : ( ص ) أي إما أمرك - يا من أمرناه باستفتاء العصاة آخر الصافات وبشرناه بالنصر - مهيأ مع الضعف الذي أنتم به الآن والرخاوة والإطباق ، وعلو وانتشار يملأ الآفاق ) زالقرآن ) أي الجامع - مع البيان لكل خير - لأتباع لا يحصيهم العد ، ولا يحيط بهم الحد .
ولما كان القسم لا يليث ولا يحسن إلا بما يعتقد المقسم له شرفه قال : ( ذي الذكر ) أي الموعظة والتذكير بما يعرف ، والعلو والشرف والصدق الذي لا ريب فيه عند كل أحد ، فكل من سمعه اعتقد شرفه وصدق الآتي به ليملأن شرفه المنزل عليه الأقطار ، وليزيدن على كل مقدار ، كما تقدمت الدلالة عليه بالحرف الأول ، والذين كفروا وإن أظهروا الشك في ذلك وانتقصوه قولاً فإنهم لا ينتقصونه علماً ) بل الذين كفروا ( بما يظهرون من تكذيبه ) في عزة ) أي عسر وصعوبة ومغالبة بحمية الجاهلية مظروفون لها ، فهي معمية لهم عن الحق لإحاطتهم بهم ، وأنثها إشارة إلى ضعفها ، وبشارة بسرعة زوالها وانقلابها إلى ذل ) وشقاق ) أي إعراض وامتناع واستكبار على قبول الصدق من لساني الحال الذي أفصح به الوجود ، والقال الذي صرح به الذكر فهداهم إلى ما هو في فطرهم وجبلاتهم بأرشق عبارة وأوضح إشارة لو كانوا يعقلون ، فأعرضوا عن تدبره عناداً منهم لا اعتقاداً فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، وتنكيرهما للتعظيم ، قال الرازي : حذف الجواب ليذهب فيه القلب كل مذهب ليكون أغزر وبحوره أزخر - انتهى .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مع أنبيائهم في العتو والتكذيب ، وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والطويل ، كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب ، فحل بالمعاند سوء العذاب ، فبسط حال هؤلاء وسء مقالهم ليعلم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب ، وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى ) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ( إلى قوله : ( إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ( ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قوله ) عجل لنا قطناً قبل يوم الحساب ( أتبع ذلك بأمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر فقال ) اصبر على ما يقولون ( ثم آنسه بذكر(6/357)
صفحة رقم 358
الأنبياء وحال المقربين الأصفياء ) وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت يه فؤادك ( - انتهى .
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان : حال ومقال ، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد ، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود ، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر ، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه ، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك ، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائطاً للمؤمنين ، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين ، وهو أبين ما يكون من دلالاته ، وأظهر ما يوجد من آياته ، فقال استئنافاً : ( كم أهلكنا ( وكأن المنادين بما يذكر كانوا المهلكين ، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان ، فأدخل الجار لذلك ، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك : ( من قبلهم ( وأكد كثرتهم بقوله مميزاً : ( من قرن ) أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم ، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه ( قرن ) .
ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى ( قرن ) لأنه أدل على عظمة الإهلاك : ( فنادوا ) أي بما كان يقال لهم : أنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة ، واستعانوا بمن ينقذهم ، أو فعلوا النداء ذعراً ودهشة من غير قصد منادي ، فيكون الفعل لازماً ، وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا ( مناص ) أي عليكم بالفرار ، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم .
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب ، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في ( لا ) أو في ( حين ) كما أكدوا بزيادتها في رب وثم ، والهاء في أراق والتاء في مثال والا فقالوا : ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان ) ولات ) أي وليس الحين ) حين مناص ) أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر ، بحركة قوية ولا ضعيفة ، فضلاً عن نجاة ، قال ابن برجان : والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس ، ونوص حمار رفعه رأسه كأنه نافر جامح .
ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر من تقسيمهم القول فيه ، عجب منهم في قوله : ( وعجبوا أن ) أي لأجل أن ) جاءهم ( ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال : ( منذر منهم ) أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه(6/358)
صفحة رقم 359
أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك ، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل ، فهم لكلامه أقبل .
ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير ( صلى الله عليه وسلم ) في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة ، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب : ( وقال ( ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ، ومعاندون لا غافلون ، أظهر موضع الإضمار إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله : ( الكافرون هذا ) أي النذير .
ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب ، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا : ( ساحر ) أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه ، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى ) كذاب ) أي في إدعائه أم ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة ، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهو يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إيتانه بأصدق الصدق وأحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل .
ص : ( 5 - 8 ) أجعل الآلهة إلها. .. . .
) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ( ( )
ولما ذكر قولهم الناشئ عن عجبهم ، ذكر سببه ليعلم أن حالهم هو الذي يعجب منه لا حال من أنذرهم بقوله حاكياً قولهم إنكاراً لمضمون ما دخل عليه : ( أجعل ) أي صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه ) الآلهة ) أي التي نعبدها ) إلهاً واحداً ( ولما كان الكلام في الإلهية التي هي أعظم أصول الدين ، وكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) وكا من تبعه بل وكل منصف ينكرون أن يكون هذا عجباً ، بل العجب كل العجب ممن يقبل عقله أن يكون الإله أكثر من واحد ، أكدوا قولهم لذلك وإعلاماً لضعفائهم تثبياً لهم بأنهم على غاية الثقة والاعتقاد لمل يقولون ، لم يزلزلهم ما رأوا من منذرهم من الأحوال الغريبة على غاية ولا بد من صدقه ، فسموها سحراً لعجزهم عنها : ( إن هذا ) أي القول بالوحدانية ) لشيء عجاب ) أي في غاية العجب - بما دلت عليه الضمة والصيغة ، ولذلك قرئ(6/359)
صفحة رقم 360
شاذاً بتشديد الجيم ، وهي أبلغ قال الاستاذ أبو القاسم القشيري : فلا هم عرفوا الإله ولا معنى الإلهية هي القدرة على الاختراع ، وتقدير القادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالهما ، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين ، وكل أمر جر ثبوته سقوطه فهو باطل مطرح - انتهى .
وستأتي الإشارة إلى الرد عليهم بقوله : ( العزيز الوهاب ( ثم بقوله : ( وما من إله إلا الله الواحد القهار ( .
ولما كان العجب فكيف بالعجاب جديراً بأن يلزم صاحبه ليزداد الناظر عجباً ، بين أنهم فعلوا خلاف ذلك تصديقاً لمن نسبهم إليه من الشقاق فقال : ( وانطلق ( ولما كان ما فعلوه : ( الملأ ) أي الأشراف ، وقال : ( منهم ) أي لا من غيرهم فكيف بالأسقاط منهم وكيف بغيرهم ، ثم حقق الانطلاق مضمناً له القول لأنه من لوازمه بقوله : ( أن مشوا ) أي قائلاً كل منهم لذلك آمراً لنفسه ولصاحبه بالجد في المفارقة حالاً ومقالاً ، وإذا وقف على ( أن ) ابتدئ بكسر الهمزة لأن أصله : امشيوا فالثالث مكسور كما أنه لو قيل لأمرأة : اغزي يبتدأ بالضم لأن الأصل : اغزوي كاخرجي ) واصبروا على آلهتكم ) أي لزوم عبادتها وعدم الالتفات إلى ما سواها ، قال القشيري : وإذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم .
ولما كان كل منهم قد أخذ ما سمعه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قلب وسلب لبه ، على ما أشار إليه ( ذي الذكر بل ) فهو خائف من صاحبه أن يكون قد استحال عن اعتقاد التعدد بما يعرف من تزحزحه في نفسه ، أكدوا قولهم : ( إن هذا ) أي الصبر على عبادة الآلهة ) لشيء يراد ) أي هو أهل للإرادة فهو أهل لئلا ينفك عنه ، أو الذي يدعو إليه شيء يريده هو ولا نعلم نحن ما هو على ما نحن عليه من الحذق ، فهو شيء لا يعلم في نفسه .
ولما كان كأنه قيل : فما حال ما يقوله ؟ قالوا جواباً واقفاً مع التقليد والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم : ( ما سمعنا بهذا ) أي الذي تذكره من الوحداينة ) في الملة الآخرة ( وتقييدهم لها يدل على أنهم عالمون به في الملة الأولى ، وأنهم عارفون بأن إبراهيم عليه السلام ومن وجد من أولاده الذين هم آباؤهم إلى عمرو بن لحي كانوا بعيدين من الشرك ملازمين للتوحيد وأنه لا شبهة لهم إلا كونه سبحانه لم يغير عليهم في هذه المدد الطوال ، وكانوا أيضاً يعرفون البعث ولكنهم تناسوه ، ذكر ابن الفرات في تأريخه يوم حليمة من أيام العرب وقال : إن حجر بن عمرو آكل المرار سار إلى بني أسد(6/360)
صفحة رقم 361
فقتلهم وسيرهم إلى تهامة فقال عبيد بن الأبرص من أبيات :
ومنعتهم نجداً فقد حلوا على وحل تهامه أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامه
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أول من سيب السوايب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأني رأيته يجر أمعاءه في النار ) .
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أول من غير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي بن قميئة ) .
وروى البخاري في فتح مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخرج من البيت صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام فقال ( قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط ) .
فبطل ما يقال من أن أهل الفترة جهلوا جهلاً أسقط عنهم اللوم ، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله أين أبي قال ( في النار ، فلما قفى دعاه فقال : إن أبي وأباك في النار ) .
أخرجه مسلم في آخر كتاب الإيمان ، وقد مر في سبحان في قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ما ينفع هنا ، والقاطع للنزاع في هذا قوله
77 ( ) ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدو الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ( ) 7
[ النحل : 36 ] فما تركت هذه الآية أحداً حتى شملته وحكمت عليه بالجنة أو النار .
ولما كان قوله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده جديراً بأن يزلزلهم فكيف إذا انضم إليه علمهم بأن أسلافهم لا سيما إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما السلام كانوا عليه ، أكدوا قولهم : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي الذي يقوله ) إلا اختلاق ) أي تعمد الكذب مع أنه لا ملازمة بين عدم سماعهم فيها وبين كونه اختلافاً ، بل هو قول يعرف معانيه بأدنى تأمل ، روى(6/361)
صفحة رقم 362
الترمذي - وقال : حسن صحيح - والنسائي وابن حبان في صحيحه وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش ، وجاءه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه ، قال : وشكوه ألى أبي طالب - زاد الكسائي في الكبير وأبو يعلى : وقالوا : يقع في آلهتنا فقال : يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ قال ( أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية ) قال : كلمة واحدة ، قال : كلمة واحدة ، فقال : وما هي ؟ فقال : يا عم ، قولوا ( لا إله إلا الله ) فقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن إلا اختلاق ، قال : فنزل فيهم ( ) ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفورا في عزة وشقاق ( إلى قوله : ( اختلاق ( وفي التفاسير أنهم قالوا : كيف يسع الخلق كلهم إله واحد .
ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه ، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه ، وسلطان يبطله ويهتكه ، أتبع ذكل حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً عل حرمهم ، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد ، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر ، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله قفالوا : ( أءنزل عليه ) أي خاصة ) الذكر ) أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به ، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا : ( من بيننا ( ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً ، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة ، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا(6/362)
صفحة رقم 363
يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيقته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم ، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام ، وأن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسموه محدثاً ، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج .
ولما كان هذا دالاً على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال : ( بل ) أي أنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد ، بل ) هم في شك ) أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم ) من ذكري ) أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد ، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك .
وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم .
ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال : ( بل ) أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك .
ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن ، وشدائد وفتن ، ربما : ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها ، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام ، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال : ( لما يذوقوا ( من أول أمرهم إلى الآن ) عذاب ) أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق ، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم ، وصاروا أذل شيء وأحقره ادناه وأصغره وإطباق أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية ، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب .
ص : ( 9 - 12 ) أم عندهم خزائن. .. . .
) أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( ( )
ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بانه مرسل ، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير : أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزل الله عليه هذا البشير النذير ( صلى الله عليه وسلم ) ، عادل به قوله : ( أم عندهم ( أي(6/363)
صفحة رقم 364
خاصة دون غيرهم ) خزائن رحمة ( ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه ، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية ، فقال مخاطباً له ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أضخم لشأنه ، وأفخم لمقداره ومكانه : ( ربك ) أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاوؤا ويمنعوا من شاؤوا
77 ( ) أهم يقسمون رحمة ربك ( ) 7
[ الزخرف : 32 ] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه ، المفيض على من يشاء ، ما يشاء ، قال : ( العزيز الوهاب ) أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد ، وله صفة الإفاضة متكررة الآثار على الدوام ، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى .
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن ، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال : ( أم لهم ) أي خاصة ) ملك السماوات والأرض ( ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال : ( وما بينهما ) أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا ، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله : ( فليرتقوا ) أي يتكفلوا الرقي أن كان لهم ذلك ) في الأسباب ) أي الطرق الموصلة بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء .
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية ، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه ، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقائهم ، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم ، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به : ( جند ما ) أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض ، قال أبو حيان : ويجوز أن تكون ( ما ) صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن ( ما ) الصفة تستعمل لهذين المعنيين .
وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند : ( هنالك ) أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية ، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً : ( مهزوم ) أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة ) من الأحزاب ) أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة ، وللرسل عليهم السلام العاقبة ، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان : فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر ، ثم انبسط صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة .(6/364)
صفحة رقم 365
ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية ، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم ، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة ، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال : ( كذبت ( ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر ، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل : ( قبلهم ) أي مثل تكذيبهم .
ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم ، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال : ( قوم نوح ( واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا .
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض ، أتبعهم بهم ، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال : ( وعاد ( مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك ، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح ، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض ، وهجم عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها ، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه .
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك ، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه ، حتى ادعى الألهية في زمانه ، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما لم من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطق ، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت ، فانطبق البحر على فرعون وآله ، فقال تعالى : ( وفرعون ( ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشككياً لضعفاء المسلمين .
ولما نص على كفره ، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال : ( ذو الأوتاد ) أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر ، قال أبو حيان : وأصله من البيت المطنب بأوتاده - قال الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد(6/365)
صفحة رقم 366
واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل ، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك ، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك من شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية .
ص : ( 13 - 18 ) وثمود وقوم لوط. .. . .
) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( ( )
ولما كانت ثمود أضخم الناس بعدهم بما لهم من إتقان الأبنية في الجبال والسهول والتوسع بعمارة الجدائق وإنباط العيون وغير ذلك من الأمور ، مع مناسبتهم لهم في رؤية الآيات المحسوسة الظاهرة العظيمة أتبعهم بهم فقال : ( ثمود ( واستمروا فيما فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ، ولم يكن لهم في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم .
ولما كان الحامل لثمود على المعصية الموجبة العذاب النساء لأن عاقر الناقة ما اجترأ على عقرها إلا لامرأة منهم جعلت له على عقرها زواجها ، وكان الموجب لعذاب قوم لوط إيتان الذكور ، فالجامع بينهم الشهوة الفرج مع الطباق بالذكور والإناث ، مع أن عذاب ثمود برجف ديارهم ، وعذاب قوم لوط بقلع مدائنهم وحملها ثم قبلها ، أتبعهم بهم فقال معبراً بما يدل على قوتهم مضيفاً لهم إلى نبيهم عليه السلام لأنهم عدة مداين ليس لهم اسم جامع كقوم نوح عليه السلام : ( وقوم لوط ) أي الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وشقاقهم حتى ضربوا بالعشا وطمس الأعين ، ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولا التمكن مما أرادوا ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم ، بل توعدوه بطلوم النهار .
ولما ذكر أهل المدر ، أتبعهم طائفة من أهل الوبر يقاربونهم في الاستعصاء بالشجر ، مع أن عذابهم بظلة النار كما لقوم لوط السلام حجارة من نار فقال : ( وأصحاب لئيْكَةِ ) أي العطاء في التجند والاجتماع على من يناوونه ) الأحزاب ) أي الذين أقصى رتب هؤلاء في المخالفة ان يكونوا مثل حزب منهم .
ولما كان في معرض المعارضة لتألبهم وشقاقهم ، وتجمعهم على المناواة باطلاً واتفاقهم ، ولما كانوا لما عندهم من العناد وحمية الجاهلية ربما أنكروا أن يكون هلاك هؤلاء الأحزاب لأجل التكذيب ، وقالوا : هو عادة الدهر في الإهلاك والتخالف في(6/366)
صفحة رقم 367
أسباب الهلاك ، قال مؤكداً بأنواع التأكيد : ( إن ) أي ما ) كل ( من هذه الفرق كان لهلاكه سب من الأسباب ) إلا ( أنه ) كذب الرسل ) أي كلهم بتذكيب رسوله ، فإن من كذب رسولاً واحداً مع ثبوت رسالته فقد استهان بمن أرسله ، وذلك ملزوم لتكذيب جميع من يرسله لتساوي أقدام المعجزات التي ثبتت رسالتهم بها في إيجاب التصديق ) فحق ) أي فتسبب عن ذلك التكذيب أنه حق ) عقاب ) أي ثبت عليه فلم يقدر على التخلص منه بوجه من الوجوه والعدول إلى إفراد الضمير مع أسلوب التكلم لأن المقام للتوحيد كما مضى وهو أنص على المراد ، وتقدم السر في حذف الياء رسماً في جميع المصاحف ، وقراءة عند أكثر القراء وفي إثباتها في الحالين ليعقوب وحده .
ولما كان السياق للشقاق والإذعان للذكر الذي هو الموعظة ذات الشرف :
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
كان الحال مقتضياً للعقوبة بخلاف ما في ( ق ) فإن السياق لإنكارهم البعث وصحة النذارة وإثبات المجد ، فكان الوعيد في ذلك كافياً .
ولما كان التقدير : فلقد أعقبنا كلاًّ من أولئك الأحزاب لما حق عليهم العقاب بنوع من الأنواع لا شك فيه عند أحد ولا ارتياب ، عطف عليه قوله : ( وما ( ولما كانت قريش في شدة العناد والتصميم على الكفر والاستكبار عن الإذعان للحق وتعاطي الجميع أسباب العذاب كأنهم ينتظرونه ويستعجلونه ، عبر بما يدل على الانتظار .
ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم والقطع بصحة ما يقول كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون ، جرد فعل الانتظار فقال : ( ينظر ( وحقرهم بقوله : ( هؤلاء ) أي الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق ، وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب الذين تحزبوا على جندنا فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا ومعروف من أيامنا بأصناف العذاب ، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئاً ولم يضر جندنا ضعفهم ولا قلتهم ) إلا صيحة ( وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كافٍ في إهلاكهم فقال ) واحدة ( ولما كان السياق للتهديد فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم ، بينه بقوله : ( ما لها ) أي الصيحة ) من فواق ) أي مزيد أيّ شيء من جنسها يكون فروقها ، بقال : فاق أصحابه فوقاً وفواقاً ، علاهم ، وقرأه حمزة بالضم فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها من غير تأخر اصلاً ، فإن الفواق كغراب ما يأخذ المحتضر عند النزاع ، والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة لأنه لا صيحة فوقها ، ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه وتحقير أعلى شيء من أمرهم ويجوز أن تكون القرءاتان من فواق الحلب ، قال الصغائي : والفوق والفواق أي بالضم والفتح : ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك(6/367)
صفحة رقم 368
سريعة يرضعها الفصيل لتدر قال في القاموس : أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع ، فالمعنى : ما لها من رجوع كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة ، أو ما لها من انفصال وافتراق بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس وأقصره زمناً كما هي عادة الأصوات المألوفة يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعاً يصير به وقعه ضعيفاً فاتراً ، واعتماده على مخرجه رخواً ، بل هي صماء على نمط واحد لا تفجأ أحداً إلا مات إلا من ثبته الله تعالى ، ويجوز أن يكون من فواق المختصر ، أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت ، وهذا موافق لقولهم : ما لها من نظرة وراحة - والله أعلم .
ولما عجب منهم بما مضى ، وأبطل شبههم وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضاً قريباً ، أتبع ذلك تعجيباً أشد من الأول فقال : ( وقالوا ) أي استهزاء غير هائبين ما هددناهم به ولا ناظرين في عاقبته : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) عجل لنا ) أي إحساناً إلينا ) قطنا ) أي نصيباً من العذاب الذي توعدنا بع وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك وأحصيت فيه أعمالنا ، وأصله من قط الشيء - إذا قطعه ، ومنه قط القلم ، وأكثر استعماله في الكتاب .
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة ، أسقطوا ، حرف الجر وقالوا : ( قبل يوم الحساب ( فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك ، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء ، وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى من غير دليل فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره ، واشتقاقه من القط وهو القطع ، فالقط النصيب والصك وكتاب المحاسبة لأنه قطعه من الورق ، وتقطقط الرجل : ركب رأسه أي تبع هواه الذي هو قطعة من أمره ، وجاءت الخيل قطاقط أي قطعاً وجماعات في تفرقة ، والقط : القطع ، والقطط : القصير الجعد ، والطقطقة : حكاية صوت الحجارة ، فكأنهم قالوا : عجل من ذلك ما يكون مقطوعاً به لا شك فيه ويسمع صوته على غاية الشدة فيهلك ويفرق بين الأحباب ويكتب في كل صك ، ويتلى خبره في سائر الأحقاب ، فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلاً ، فسبحان الحليم الذي أكرمنا ورحمنا بنبي الرحمة ، فلم يعجل لنا النقمة ، وأقبل بقلوبنا إليه ، وقصر هممنا بعد أن كانت في أشد بعد عليه. ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى ، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى ، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب ، والكلام البعيد عن(6/368)
صفحة رقم 369
الصواب ، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا ، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاء أو المبلغ ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم ، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين ، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن ، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم ، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر ، وبدأ بأهل الشرف الراحة في الدنيا ، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصوصات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر ، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان ، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية : ( اصبر ( وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال : ( على ما ( وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال : ( يقولون ) أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية ، فإنه ليس لنقص فيك ، ولكنه لحكم تجل عن الوصف ، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك ، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك : ( واذكر عبدنا ) أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا ، وأبدل منه أو بقوله : ( داود ذان الأيد ) أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام ، فكانت قوته في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام .
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات ، بالإصعاد في مدارج الكمالات ، ومعارج الإقبال ، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات ، علل قوته بقوله مؤكداً : ( إنه أواب ) أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع ، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت ، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها ، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله .
ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه ، وظهرت على يديه الخوارق ، قال مستانفاً جواباً لمن سأل عم جزائه على ذلك الجهاد ، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ) سخرنا الجبال ) أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة ، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل(6/369)
صفحة رقم 370
الأنف ، ثم قيد بقوله : ( معه ) أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير ظاهراً لأحد بعده ولا قبله ، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد ، عبر بالفعل المضارع ، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة ، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر ، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها ، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله .
ولما كان في سياق الأوبة ، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال : ( بالعشي ) أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل .
ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال : ( والإشراق ) أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال ، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال ، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه ، وليس الإشراق طلوع الشمس ، إنما هو صفاؤها وضوءها ، وشروقها طلوعها ، وروت أم هانئ رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى في بيتها الضحى وقال لها ( هذه صلاة الإشراق ) وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلاة الضحى في القرآن ، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص ، ثم قرأ هذه الاية .
وإليها الإشارة ايضاً - والله أعلم - بصلاة الأوابين ) واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب ( ) ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب ( ) يا جبال أوبي معه ( ) والطير محشورة كل له أواب ( روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) ولفظ الدارمي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ، ولفظ عبد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال ( هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال ) .
أي بركت من شدة الحر وإحراقه(6/370)
صفحة رقم 371
أخفافها ، من الرمض - بالتحريك ، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره ، والرمضاء : الشديدة الحر .
ص : ( 19 - 22 ) والطير محشورة كل. .. . .
) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ ( ( )
ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له ، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً ، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد ، ذكر حالها في وصف صالح للواحد ، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام : ( والطير ) أي سخرناها له حال كونها ) محشورة ) أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسك دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشذ نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي يد بعض أصحابه ، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال ( اسكن أحد ) فسكن ، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به ، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر ) كل ) أي كل واحد من الجبال والطير ) له أواب ) أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته ، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير ، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته ، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد ، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع ، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير ، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح ، وكل من تحقق بحاله ساعده كل(6/371)
صفحة رقم 372
شيء - قاله القشيري ، ففي هذا إشارة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا ، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم ، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً ، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول ، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة ، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة ، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام ، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون .
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً ، فكان كأنه قيل : كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه ، قال : ( وشددنا ) أي بما لنا من العظمة ) ملكه ( بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً .
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال : ( وآتيناه ) أي بعظمتنا ) الحكمة ) أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه ، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها ، فالحكمة العمل بالعلم .
ولما كان تمامه بقطع النزاع قال : ( وفصل الخطاب ) أي ومعرفة الفرق بيما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك ، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترئ أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات ، وميز بين المشكلات الغامضات ، وإذا تكلم وقف على المفاصل ، فيبين من سرده للحديث معانيه ، ويضع الشيء في أحكم مبانيه .
ولما كان السياق للتدريب على الصبر والتثبيت الشافي والتدبر التام والابتلاء لأهل القرب ، وكان المظنون بمن أوتي فصل الخطاب أن لا يقع له لبس في حكم ولا عجلة في أمر ، وكان التقدير : هل أتتك هذه الأنباء ، عطف عليه - مبيناً عواقب العجلة معلماً أن على من أعطى المعارف أن لا يزال ناظراً إلى من أعطاه ذلك سائلاً له التفهيم ، استعجازاً لنفسه متصوراً لمقام العبودية التي كرر التنبيه عليها في هذه السورة بنحو قوله : ( نعم العبد ) قوله في سياق ظاهره الاستفهام وباطنه التنبيه على ما في ذلك من الغرابة خبره العظيم جداً ، وأفرده وإن كان المراد الجمع دلالة على أنهم على كلمة واحدة في إظهار الخصومة لا يظهر لأحد منهم أنه متوسط مثلاً ونحو ذلك .
ولما كان الخصم مصدراً يقع على الواحد فما فوقه ذكراً كان أو أنثى ، وكان يصح(6/372)
صفحة رقم 373
تسمية ربقة المتخاصمين خصماً لأنهم في صورة الخصم قال : ( إذا ) أي خبر تخاصمهم حين ) تسوروا ) أي صعدوا السور ونزلوا من هم ومن معهم ، آخذاً من السور وهو الوثوب ) المحراب ) أي أشرف ما في موضع العبادة الذي كان داود عليه السلام به ، وهو كناية عن أنهم جاؤوه في يوم العبادة ومن غير الباب ، فخالفوا عادة الناس في الأمرين ، وكأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر ، فنبه على ذلك بأن أبدل من ( إذ ) الأول قوله : ( إذ ) أي حين ) دخلوا ( وصرح باسمه رفعا للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال : ( على داود ( ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا ، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله : ( ففزع ) أي ذعر وفرق وخاف ) منهم ) أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان .
ولما كان كأنه قيل : فما قالوا له ؟ قال : ( قالوا لا تخف ( ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب ، عينوا أمرهم بقولهم : ( خصمان ) أي نحن فريقان في خصومة ، ثم بينوا ذلك بقولهم : ( بغى بعضنا ) أي طلب طلبة علو واستطالة ) على بعض ( فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس ، ولما تسبب عن هذا سؤاله في الحكم قالوا : ( فاحكم بيننا بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة ) ولا تشطط ) أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك بحيث يلتبس علينا المراد ولا فر غير ذلك ، أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه ، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه ، قال أبو عبيد : شط في الحكم وأشط - إذا جار ، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً .
ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط ، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا ) واهدنا ) أي أرشدنا ) إلى سواء ) أي وسط ) الصراط ) أي الطريق الواضح ، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين : الإفراط في تتبع مداق الأمر والتفريط في إهمال ذلك .
ص : ( 23 - 26 ) إن هذا أخي. .. . .
) إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا(6/373)
صفحة رقم 374
لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ) 73
( ) 71
ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال : ( إن هذا ( يشير إلى شخص من الداخلين ، ثم أبدل منه قوله : ( أخي ) أي في الدين والصحبة ، ثم أخبر عنه بقوله : ( لع تسع وتسعون نعجة ( ويجوز أن يكون ) أخي ( هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً ) ولي ) أي أنا أيها المدعي ) نعجة ( ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله : ( واحدة ( ثم سبب عنه قوله : ( فقال ) أي الذي له الأكثر : ( أكفلينها ) أي أعطنيها لأكون كافلاً لها ) وعزني ) أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي ) في الخطاب ) أي الكلام الذي له شأن من جدال وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه ، ولم يقنع مني بشيء دون مراده .
ولما تمت الدعوى ، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله : ( قال ) أي على تقدير صحة ما قلت ، وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت ولم ينكر مما قال المدعي شيئاً ، وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج ، كل ذلك تدريباً وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج ، كل ذلك تدريباً على التثبت في القضاء وأن لا ينحي نحو القرآئن ، وأن لا يقنع فيه إلا بمثل الشمس ، وأكد قوله في سياق القسم ردعاً للظالم على تقدير صحة الدعوى بالمبالغة في إنكار فعله لأن حال من فعل شيئاً مؤذن بإنكار كونه ظالماً وكون فعله ظلماً .
مفتتحاً لقوله بحرف التوقع لاقتضاء حال الدعوى له : ( لقد ظلمك ) أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك ) بسؤال نعجتك ) أي بأن سألك أن يضمها ، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله : ( إلى نعاجه ( بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل : ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها ، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح للمظلوم : ( وإن كان كثيراً من الخلطاء ) أي مطلقاً منكم ومن غيركم ) ليبغي ) أي يتعدى ويستطيل ) بعضهم ( عالياً ) على بعض ( فيريدون غير الحق ) إلا الذين آمنوا ( من الخلطاء ) وعملوا ) أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان ) الصالحات ) أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي ) وقليل ( وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله : ( ما ( مثل نعماً ولأمرها ) هم ( وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة ، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه .(6/374)
صفحة رقم 375
ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحداً فوقع في نفسه أنه لا خصومة ، وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم ويدربوه عليه ، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقاً للوصول إليها أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد ، وحاصله أنه تذكر كلام ، والمراد به بعض لوازمه ، فهو مثل دلالة التضمن في المفردات ، وهذا مثل قول سليمان عليه السلام ( ائتوني بالسكين أشقه بينهما ) وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذباً ، وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابقى لمفردات ألفاظه بدليل لغوو اليمين ، وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لصفية رضي الله عنها ( عقرى حلقى ) ولأم سلمة رضي الله عنها ( تربت يمينك ) وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ) مشير إلى أن الكلام قد لا يراد به معناه ، ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن اقترن بقصد المعنى ، ولما كان هذا القدر معلوماً عطف عليه قوله : ( وظن داود ) أي بذهابهم قبل فصل الأمر وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله لا عهد له بمثله ) إنما فتناه ) أي اختبرناه بهذه الحكومة في الأحكام التي يلزم الملوك مثلها ليتبين أمرهم فيها .
وعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه إلى أنه ظلم من قبل أن يسمع كلامه ويسأله المدعي الحكم ، فعاتبه الله على ذلك ، والأنبياء عليهم السلام لعلو مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا ، وهو من قصر الموصوف على الصفة قلباً ، أي هذه القصة مقصورة على الفتنة لا تعلق لهم بالخصوصة ، ولو كان المراد ما قيل من قصة المرأة التي على كل مسلم تنزيهه وسائر إخوانه عليهم السلام عن مثلها لقيل ( وعلم داود ) ولم يقل : وظن - كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات - والله الموفق ، وقال الزمخشري : وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين ، وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام ، وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز ، وعنده رجل من أهل الحق ، فكذب المحدث به(6/375)
صفحة رقم 376
وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله عز وجل فما ينبغي أن يلتمس خلافها ، وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فما ينبغي إظهارها عليه ، فقال عمر بن عبد العزيز : لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس .
وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود ، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه .
ولما ظن هذا ، سبب له تحقيق ما وصفه الله من الأوبة فعبر عن ذلك بقوله : ( فاستغفر ( ولما استغرقته العظمة التي هذا مخرها ، رجع إلى ذكر الإحسان واللطف فقال : ( ربه ) أي طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه بإحلاله ذلك المحل العظيم من أن يعود للحكم للأول بدون أن يسمع الآخر ) وخر ) أي سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك ، ولما كان الخرور قد يكون لغير العبادة قال : ( راكعاً ) أي ساجداً لأن الخرور لا يكون إلا للسقوط على الأرض ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسره بالسجود فيما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سجد في ( ص ) وقال ( سجدها داود توبة ونسجدها شكراً ) .
وعين بالركوع عن السجود ليفهم أنه كان عن قيام وأنه في غاية السرعة لقوة الاهتمام به وتوفر الداعي إليه بحيث أنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع ، قال ابن التياني في كتابه الموعب : وكل شيء يكب لوجهه فتمس ركبته الأرض بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع .
ابن دريد : الراكع الذي يكبو على وجهه - انتهى .
والركعة - بالضم : الهوة من الأرض ، كأنها سميت بذلك لأنها تسقط فيها على الوجه ، وكأنها هي أصل المادة ، وقال في القاموس : ركع أي صلى ، فحينئذ يكون المعنى : سقط مصلياً ، ومعلوم أن صلاتهم لا ركوع فيها وقد تقدم ذلك في آل عمران والبقرة ) وأناب ) أي تاب أي رجع عن أن يعود لمثلها .
ولما كان الحال قد يشكل في الإخبار عم المغفرة لو عبر بضمير الغائب لإيهام أن ربه غير المتكلم ، وكان الغفران لا يحسن إلا مع القدرة ، عاد إلى مظهر العظمة إثباتاً للكمال ونفياً للنقص : فقال : ( فغفرنا ) أي بسبب ذلك وفي أثره على عظمتنا وتمام قدرتنا غفراً يناسب مقداره ما لنا من العظمة ) له ذلك ) أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اشترط على ربه سبحانه لأجل هذه القصة أن كل من سبه أو دعا عليه وليس أهلاً لذلك أن يكون ذلك له صلاة وبركة ورحمة ، والحاصل أن هذه(6/376)
صفحة رقم 377
القضية لتدريب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصبر على قومه ، والثاني فإن هذه السورة على ما روي عن جابر بن زيد من أوائل ما أنزل بمكة ، وعلى هذا دل الحديث السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما في شكوى المشركين منه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عمه أبي طالب الوقوع في آلهتهم فإنه كان في أوائل الأمر ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول ما دعاهم لم يؤمر بذكر آلهتهم فلم يجيبوه ولم يبعدوا عن كل البعد ، ثم أمره الله بذكر ألهتهم فناكروه حينئذ وباعدوه ، وتقدموا ذلك بالشكوى إلى أبي طالب مرة بعد أخرى ليرده عنه ، فكانت هذه الدعوى تدريباً لداود عليه السلام في الأحكام ، وذكرها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تدريباً له على الأناة في جميع أموره على الداوم .
ولما كان ذكر هذا ربما أوهم شيئاً في مقامه ( صلى الله عليه وسلم ) ، سيق في أسلوب التأكيد قوله : ( وإن له ) أي مع الغفران ، وعظم ذلك بمظهر العظمة لأن ما ينسب إلى العظيم لا يكون إلا عظيماً فقال : ( عندنا ( وزاد في إظهار الاهتمام بذلك نفياً لذلك الذي ربما مرجع في كل ما يؤمل من الخير ، وفرق ذلك ، وأدل دليل على ما ذكرته - أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم لا بامرأة ولا غيرها وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل الاستثمار منها صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى المواجهة بلذيذ الخطاب ، على نحو ما يجري بين الأحباب ) يا داود ( .
ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر ، أكده لذلك وإظهاراً لأنه مما يرغب فيه لحسنه وجميل أثره وينشط غاية النشاط لذكره فقال : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) جعلناك ( فلا تحسب لشيء من أسبابه حساباً ولا تخش له عاقبة ) خليفة ) أي من قبلنا تنفذ أوامرنا في عبادنا فحكمك حكمنا ، وحذف ما يعلم أنه مراد من نحو ) قلنا ( إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود إعلاماً بصدق ظنه ، وقال : ( في الأرض ) أي كلها بهذا الكلام الألذ عن فراغه من السجود إعلاماً بصدق ظنه ، وقال : ( في الأرض ) أي كلها إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها ، فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها ، ولم يذكر المخلوف تعظيماً له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بفي ، وأشار الإطلاق والتعبير بآل إلى أنها خليفة في جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم فيها صح ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرسل إلى قومه خاصة فيكون ما يؤديه إليه واجباً عليه ، وأما بقية الناس فأمره معهم(6/377)
صفحة رقم 378
من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مهما فعله منه صح ومضى ، ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل بابنه سليمان عليه السلام فاستوفى الإطلاق ) وآل ( المكملة أقصى ما يراد منه ، إعلاماً بأن كلام القدير كله كذلك وإن لم يظهر في الحالة الراهنة ، وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر وبسببه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان خليفة بالفعل في أرض العرب التي هي قيام لهم ، ومن انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض وفي جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى ، فقد أعطى تميماً الداري رضي الله عنه أرض بلد الخليل من بلاد الشام قبل أن يفتح وصح نفذ ، وأعطى شويلاً رضي الله عنه بنت بقيلة من أهل الحيرة وصح ذلك ونفذ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو من ذرية داود عليه السلام ثم في جميع الوجود يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه ، ويغبطه الأولون والاخرون بذلك المقام المحمود .
ولما تمت النعمة ، سبب عنها قوله : ( فاحكم بين الناس ) أي الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع .
ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه لما لها من الشهوات ، وأعظم جناياته وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله ، مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه سبحانه عفا الخطرات ، وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه توبة إلى الله تعالى : ( ولا تتبع الهوى ) أي ما يهوى بصاحبه فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان ، ثم سبب عنه قوله : ( فيضلك ) أي ذلك الاتباع أو الهوى لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقاً فغلب صاحبها عن ردها عنه ، ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى تعظيماً لأمر سبيله ، وحثاً على لزومه والتشرف بحلوله ، فقال : ( عن سبيل الله ) أي طريقه التي شرعها للوصول إليه بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل ، ولا يوصل إليه بدونها لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية ، والإهمال لتكميل القوى الروحانية ، الموصلة إلى السعادة الأبدية ، فإن دواعي البدن والروح متضادتان فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى .
ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى ، ميالة عن السوى ، قال معللاً للنهي مؤكداً لما للنفس من التعللات عن المخالفة بالكرم والمغفرة الدافع للعذاب : ( إن الذين يضلون ((6/378)
صفحة رقم 379
أي يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى لاتباع الهوى المقتضي لأن يكون متبعه ضالاً ) عن سبيل الله ( إعادة تفخيماً لأمره وتيمناً لأمره وإيذاناً بأن سبيله مأمور به مطلقاً من غير تقييد بداود عليه السلام ولا غيره فيه ) لهم عذاب شديد ) أي بسبب ضلالهم .
ولما أمر سبحانه ونهى ، وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال وعلم منه أن سبب الضلال الهوى ، ذكر سبب هذا السبب فقال معبراً بالنسيان إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظاً فنسي ، وفك الصدور لأنه أصرح لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول ، واختيرت ) ما ( دون ) إن ( لأن صورتها صورة الموصول الاسمي ، وهو أبلغ مما هو حرف صورة ومعنى : ( بما نسبوا يوم الحساب ) أي عاملوه معاملة المنسي بعضهم بالإنكار وبعضهم بخبث الأعمال ، فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلاً أن أقل الناس وأجهلهم يرسل أحداً إلى مزرعة له يعملها ، ثم لا يحاسبه عليها فكيف إذا كان حكيماً فكيف إذا كان ملكاً فكيف وهو ملك الملوك ، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في الكلام على العقل : ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي ، وهم الكفار ، وإلى من جال فكره فتذكر ، وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها ، ولذلك قال تعالى ) لعلهم يتذكرون ( ) وليتذكر أولوا الألباب ( ) ) واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ( ) [ المائدة : 7 ] ) ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ) [ القمر : 17 ] وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد ، وكأن التذكر ضربان : أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه ، لكن غابت بعد الوجود ، والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه الفطرة ، وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة صقيلة على من يستروح المعنى : اصبر على ما يقولون الآن ، فلننصرك فيما يأتي من الزمان ، ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن .
ص : ( 27 - 30 ) وما خلقنا السماء. .. . .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ( )
ولما كان التقدير : فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب وتوعدنا به سدى ، عطف(6/379)
صفحة رقم 380
عليه قوله صارفاً الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم : ( وما خلقنا ) أي على ما لنا من العظمة ، ويجوز أن تكون الجملة حالية .
ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عناداً لا جهلاً ، ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه مع أن اللفظ للجنس فيشمل الكل فقال : ( السماء ) أي التي ترونها ) والأرض وما بينهما ( مما تحسونه من الرياح وغيرها خلقا ) باطلاً ) أي لغير غاية أردناها بذلك من حساب من فيهما كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء ، ومجازاة من فيهما بالثواب لكن أطاع والعقاب لمن عصى كما يفعل أقل ملوككم فإن أدنى الناس عقلاً لا يبني بناء ضخماً إلا لغاية أرادها ، وتلك الغاية هي الفصل بين الناس الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار ، وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم والأكدار ، وأعطيناهم العقول تنبيهاً على ما يراد ، وأرسلنا فيهم الرسل ، وأنزلنا إليهم الكتب ، بالتعريف بما يرضينا ويسخطنا ، فنابذوا كل ذلك فلو تركناهم بلا جمع لهم ولا إنصاف بينها لكان هذا الخلق كله باطلاً لا حكمة فيه اصلاً ، لأن خلقه للضر أو النفع أو لا لواحد منهما ، والأول باطل لأنه غير لائق بالرحيم الكريم ، والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك ، فلم يبق للإيجاد مرجح ، فتعين الوسط وهو النفع ، وهو لا يكون بالدنيا لأن ضرها أكثر من نفعها ، وتحمل ضر كثير لنفع غير لائق بالحكيم الكريم ، فتعين ما وقع الوعد الصادق به من نفع الآخرة المطابق لما ذكر من عقل العقلاء وسير النبلاء .
ولما كان هذا - وهو منابذة الحكمة - عظيماً جداً ، عظمه بقوله : ( ذلك ) أي الأمر البعيد عن الصواب ) ظن الذين كفروا ) أي من أوقع هذا الظن في وقت ما ، فقد أوجد الكفر لأنه جحد الحكمة التي هي البعث لإظهار صفات الكمال والمجازاة بالثواب والعقاب ، ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق ، فكان إقراره بأنه خالق كلا إقرار فكان كافراً به ، ثم سبب عن هذا الظن قوله : ( فويل ) أي هلاك عظيم بسبب هذا الظن ، وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( للذين كفروا ) أي مطلقاً بهذا الظن وبغيره ) من ) أي مبتدأ من ) النار ) أي الحكم عليهم بها .
ولما كان التقدير : أفنحن نخلق ذلك باطلاً ؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث ، عطف عليه قوله إنكاراً لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه ، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يقبح منه شيء : ( أم نجعل ) أي على عظمتنا ) الذين آمنوا ) أي امتثالاً لأوامرنا ) وعملوا ) أي تصديقاً لدعواهم الإيمان ) الصالحات ( من الأعمال كالذين أفسدوا وعملوا السيئات(6/380)
صفحة رقم 381
أم نجعل المصلحين في الأرض ) كالمفسدين ) أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه ) في الأرض ) أي بالكفر وغيره ، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه ) أم نجعل ( على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر ) المتقين ) أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل ) كالفجار ) أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلاًّ من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا ، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح ، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك ، ولا شك أن المساواة بين المصلح والمفسد والمتقي والمارق لا يراها حكيم ولا غيره من سائر أنواع العقلاء فهو لا يفعلها سبحانه وإن كان له أن يفعل ذلك ، فإنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وقد علم أن الآية من الاحتباك ، وأنه مشير إلى احتباك آخر ، فإنه ذكر ) الذين أمنوا ( أولاً دليلاً على ) الذين أفسدوا ( ثانياً ، وذكر ) المفسدين ( ثانياً دليلاً ) على المؤمنين ( أولاً ، وأفهم ذلك ذكر ) الذين اتقوا ( وأضداهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهاً على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على أدنى الوجوه وذكر أعلى على أحوال الفساد ، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيباً للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها .
ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأبها إلا مدخول الفكر مخالط العقل ، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليتجنب مخبراً على مبتدأ تقديره هو : ( كتاب ) أي له من العظمة ما لا يحاط به ، ووصفه بقوله : ( أنزلته ) أي بما من العظمة ) إليك ( وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق ، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال : ( مبارك ) أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخ كتاب ولا شيء .
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة ، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال : ( ليدبروا ( بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل ، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل ، وأما هو ( صلى الله عليه وسلم ) ففي غاية الإتعام للنظر ، والتدبر بأجلى الفكر ، من حين الإنزال ، لعلمه الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه(6/381)
صفحة رقم 382
) آياته ) أي لينظروا في عواقب كل آية وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر ، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نتوج لا يستولدها ، وكان جديراً بأن يضع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً .
ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك ، قتع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر ، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه - والله أعلم .
ولما كان السياق للذكر ، وأسند إلى خلاصة الخلق ، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهروه ، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال : ( وليتذكر ) أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار ) أولوا الألباب ) أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم أو غيرها ، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها ، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً ، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] وأظهره فإنه مركوز في طبع في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً .
ولما كان الإنسان وإن طال التدبر وأقبل بكليته على التذكر لا بد له من نسيان وغفلة وذهول ، ولما كان الممدوح إنما هو الرجاع ( لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) وكان الله تعالى هو الملك الذي لا شريك له والمالك الذي له الملك كله فهو يرفع من يشاء ممن لا يخطر في وهم أن يرتفع ، ويخفض من يشاء ممن علا في الملك حتى لا يقع في خاطر أنه يحصل له خلل ولا سيما إن كان على أعلى خلال الطاعة ليبين لكل ذي لب أن الفاعل لذلك هو الفاعل المختار ، فلا يزال خيره مرجواً ، وانتقامه مرهوباً مخشياً ، قال تعالى : ( ووهبنا ) أي بما لنا من الحكمة والعظمة ) لدواد سليمان ( فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنياً وعلماً وحكمة وحلماً وعظمة ورحمة ، ولذلك نبه على أمثال هذه المعاني باستئناف الإخبار عما حرك النفس(6/382)
صفحة رقم 383
إلى السؤال عنها من إسناد الهبة إلى نون العظمة فقال : ( نعم العبد ( ولما كان السياق لسرعة الانتباه من الغفلات ، والتفضي من الهفوات ، والتوبة من الزلات ، وبيان أن الابتلاء ليس منحصراً في العقوبات ، بل قد يكون لرفعة الدرجات ، وكان هذا بعيداً من العادات ، علل مدحه مؤكداً له بقوله : ( إنه أواب ) أي رجاع إلى الازدياد من الاجتهاد في المبالغة في الشكر والصبر على الضر كلما علا من مقام بالاستغفار منه وعده مع ما له من الكمال مما يرغب عنه .
ص : ( 31 - 37 ) إذ عرض عليه. .. . .
) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ( ( )
ولما كانت الخيل من اعظم ما زين للناس من حب الشهوات ، وكان السياق للعزة والشقاق الدالين على عظيم الاحتياج إلى ما يكف ذلك مما أعظمه الخيل ، ذكر فيها آمراً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، دل على أنه مع ما له من عظمة الملك كثير الأوبة عظيمها لأن من لم يكن ذلك له طبعاً لم يقدر على ما فعل فقال : ( إذ ) أي اذكر لتقف على شاهد ما أخبرناك به حين ) عرض عليه بالعشي ) أي فيما بعد زوال الشمس ) الصافات ) أي الخيول العربية الخالصة التي لا يكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمتها وإظهاراً لقوتها ورشاقتها وخفتها ، قال في القاموس : صفن الفرس يصفن صفوناً : قام على ثلاث قوائم وطرف حافز الرابعة ، قوال القزاز : قام على ثلاث قوائم وقائمة يرفعها عن الأرض أو ينال سنبكها الأرض ليستريح بذلك ، وأكثر ما تصفن الخيل العتاق ، قال : وقالوا : كل ذي حافز يفعله ولكنه من الجياد أكثر ، لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص ، وقيل : الصافن الذي يجمع يديه ويثني طرف سنبك إحدى رجليه ، وقيل : الصافن الذي يرفع سنبك إحدى يديه فإذا رفع طرف سنبك إحدى رجليه فهم مخيم ، وقد أخام - إذا فعل ذلك .
ولما تحرر أنه يجوز أن يجمل الصافن على غير العتيق وإن كان قليلاً ، حقق أن المراد الوصف بالجودة واقفة وجارية فقال : ( الجياد ) أي التي تجود في جريها بأعظم ما تقدر عليه ، جمع جواد ، فلم تزل تعرض عليه فاتته صلاة آخر النهار ، وكان المفروض على من تقدمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره ، فانتبه في الحال .(6/383)
صفحة رقم 384
ولما كان بيان ضخامة ملكه زكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه ، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته له وسرعة أوبته بقوله : ( فقال ( ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه ، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله : ( إني ( ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به ، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بقرائن قال اعترافاً : ( أحببت ) أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود ) حب الخير ( وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً ) عن ذكر ربي ( المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها ، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لما لكونه في طاعته ذكراً له .
ولم يزل ذلك بي ) حتى توارت ) أي الشمس المفهومة من ( العشي ) ) بالحجاب ( وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأواب بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل ، أجيب بقوله : ( ردها ) أي قال سليمان عليه السلام : ردوا ) عليّ ( الخيول التي شغلتني .
ولما كان التقدير : فردوها عليه ، نسق به قوله : ( فطفق ) أي أخذ يفعل ظافراً بمراده لازماً له مصمماً عليه وأصلاً له معتمداً على الله يف التقوية على العدو لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذكر معرضاً عما يمكن أن يتعلق به القلب متقرباً به إلى الله تعالى كما يقترب في هذه الملة بالضحايا ) مسحاً ) أي يوقع المسح - أي القطع - فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً .
ولما كان السيف إنما يقع في جزء يسير من العضوين أدخل الباء فقال : ( بالسوق ) أي منها ) والأعناق ( يضربها ضرباً بسيف ماض وساعد شديد وصنع سديد فيها من غير وقفة أصلاً حتى كأنه يمسحه على ظاهر جلودها كما يقال : مسح علاوته ، أي ضرب عنقه - والله أعلم .(6/384)
صفحة رقم 385
ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان ، وكانت الأوبة عظيمة جداً ، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم ، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب : ( ولقد فتنا ) أي بما لنا من العظمة ) سليمان ) أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة ، الله أعلم بحقيقتها ، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء ، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً ) وألقينا ) أي بما لنا من العظمة ) على كرسيه ( الذي كانت تهابه أسود الفيل .
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني ، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه ، له صورة بلا معنى ، قال : ( جسداً ( فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً من أن يغلب عليه ، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه ، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا ، نفعل ما نشاء بمن نشاء ، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا ، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك ، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك وبقاء الذكر ، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار .
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له ، لا أنه لا روح فيه ، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد كما فعل في العجل حيث قال ( له خوار ) فبين بذلك أنه لا روح له ، وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني وأن سببه سجود الجرادة امرأة سليمان عليه السلام لصورة أبيها بغير علم نبي الله سليمان عليه السلام ولا إرادته ، فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا لصورة رفع السجود بعض من ينسب إليه لها في بيته أمره إرادته ولا علمه ، فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام فعما قليل نزيل أمرهم ونخمد شرهم ونمحو ذكرهم .
ولما كانت الإنابة رجوعاً إلى ما كان ، فهي استرجاع لما فات قال : ( ثم أناب ( وفسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جوباً لمن سأل عنها : ( قال ربّ ) أي أيها المحسن إلي ) اغفر لي ) أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه .
ولما قدم أمر الآخرة ، أتبعه قوله : ( وهب لي ) أي بخصوصي ) ملكاً لا ينبغي ((6/385)
صفحة رقم 386
أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل ) لأحد ( في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل ، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال : ( من بعدي ( حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب إليك وجهاد من عاداك ، ويكون ذلك إمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو ( صلى الله عليه وسلم ) شيء ، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز - والله أعلم ، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده ، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب : ( إنك أنت ) أي وحدك ) الوهاب ) أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت ، فتعطي بسبب من تشاء وتمنع من تشاء .
ولما تسبب عن دعائه الإجابة ، اعلم سبحانه بقوله : ( فسخرنا ) أي ذللنا بما لنا من العظمة ) له الريح ( لإرهاب العدو وبلوغ المقاصد عوضاً عن الخيل التي خرج عنها لأجلنا ؛ ثم بين التسخير بقوله مستأنفاً : ( تجري بأمره رخاء ) أي حال كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا يدرك بالخيل ( غدوها شهر ورواحها شهر ) وكل من ترك شيئاً لله غوضه الله خيراً منه ، وهو هنا مبالغة من الرخاوة .
ولما كانت إصابته لما يشاء ملازمة لإرادته ، عبر بها لأنها المقصود بالذات فقال : ( حيث أصاب ) أي أراد إصابة شيء من الأشياء ، وقد جعل الله لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فيه أربعة أشهر ) والشياطين ) أي الذين عندهم خفة الريح مع الاقتران بالروح سخرناهم له ؛ ثم نبه على منفعتهم بالإبدال منهم فقال : ( كل ( وعبر ببناء المبالغة في سياق الامتنان فقال : ( بناء وغواص ) أي عظيم في البناء صاعداً في جو السماء والغوص نازلاً في أعماق الماء ، يستخرج الدر وغيره من منافع البحر .
ص : ( 38 - 41 ) وآخرين مقرنين في. .. . .
) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( ( )
ولما دل على مطلق تسخيرهم ، دل على أنه قهر وغلبة كما هو شأن أيالة الملك وصولة العز فقال : ( وآخرين ) أي سخرناهم له من الشيطاطين حال كونهم ) مقرنين ( بأمره إلى من يشاكلهم أو مقرونة أيديهم بأرجلهم أو بأعناقهم ، وعبر به مثقلاً(6/386)
صفحة رقم 387
دون ( مقرونين ) مثلاً إشارة إلى شدة وثاقهم وعظيم تقرينهم .
ولما كانت مانعة لهم من التصرف في أنفسهم ، جعلوا كأنهم بأجمعهم فيها وإن لم يكن فيها إلا بعض أعضائهم مثل
77 ( ) جعلوا أصابعهم في آذانهم ( ) 7
[ نوح : 7 ] فقال : ( في الأصفاد ) أي القيود التي يوثق بها الأسرى من حديد أو قيد أو غير ذلك ، جمع صفد بالتحريك ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن عفريتاً من الجن تلفت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان ) هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ( فرددته خاسئاً ) وقد حكمه الله في بعض الجن ، فحمي من الذين يطعنون دار مولده ودار هجرته ، روى أحمد في مسنده بسند حسن إن شاء الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة ، على كل نقب منهما ملك ، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون ) .
وهذا في البلدين ، وأما المدينة خاصة ففيها أحاديث عدة عن عدة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما ، وقد عوض الله نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) عن الشياطين التأييد بجيوش الملائكة في غزواته ، وقد كان نبينا عبداً كما اختار فلم يكن له حاجة بغير ذلك .
ولما كان ذلك ملكاً عظيماً ، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير : قلنا له ونحوه : ( هذا ) أي الأمر الكبير ) عطاؤنا ) أي على ما لنا من العظمة ؛ ثم سبب عن ذلك إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد ، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصفر فيه ، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل القلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام : ( فامنن ) أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي : ( أو أمسك ) أي عمن شئت .
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه ، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال : ( بغير ) أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن ) حساب ( لأنك لا تخشى من نقصه وربك هو المعطي والآمر ، ولا من كونه مما يسأل عنه في(6/387)
صفحة رقم 388
الآخرة لأنه قد أذن لك ، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع ، وجعله مصدراً مزيداً يفهم إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس .
ولما رفع الحرج عنه في الدارين ، أثبت المزيد فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا له في الدنيا ، مؤكداً زيادة في الطمأنية لكونه خارقاً لما حكم به من العادة في أنه كل ما زاد عن الكفاف في الدنيا كان ناقصاً للحظ في الآخرة : ( وإن له ) أي خاصاً به ) عندنا ) أي في الآخرة ) لزلفى ) أي قربى عظمية ) وحسن مآب ) أي مرجع .
ولما انقضى الخبر عن الملك الأواب الذي ملك الدنيا بالفعل قهراً وغلبة شرقاً وغرباً ، وكان أيوب عليه السلام في ثروة الملوك وإن لم يكن ملكاً بالفعل ، وكان تكذيب من كذب بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هو بتسليط الله الشياطين بوسوسته عليهم ، وأمره سبحانه بالصبر على ذلك وقص عليه من أخبار الأوابين تعليماً لحسن الأوبة إن وهن الصبر ، أتبعه الإخبار عن الصابر الأواب الذي لم يتأوه إلا من وسوسة الشيطان لزوجه بما كان يفتنها ليزداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذكر هذه الأخبار صبراً ويتضاعف إقباله على الله تعالى وتضرعه له اقتداء بإخوانه الذين لم تشغلهم عنه محنة السراء ولا محنة الضراء ، وتذكيراً لقدرة الله على كل ما يريده تنبيهاً على أنه قادر على رد قريش عما هم فيه ونصر المستضعفين من عباده عليهم بأيسر سعي فقال : ( واذكر عبدنا ) أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا ، وبينه بقوله : ( أيوب ( وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه .
ولما أمره بذكره ، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال : ( إذ ) أي اذكر حاله الذي كان حين : ( نادى ( وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال : ( ربه ( : أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه ، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى أتاه ما لا صبر عليه : ( إني ) أي أدعوك إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال : ( مسّني ) أي وأنا من أوليائك ) الشيطان ) أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له ) بنصب ) أي ضر ومشقة وهم داء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتبعه ويعيده ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك ، (6/388)
صفحة رقم 389
وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرّشد ، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه ، والمحرك أوسطه ، والمثقل الضم أعلاه ) عذاب ) أي نكد قوي دائم مانع من كل ما يلذ ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله ، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى ، وأوهن البلاء القوي ، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه ، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً ، فلذلك ثم تراءى لزوجته رضي الله عنها في زي طبيب وقال لها : أنا أداويه ولا أريد أن يقول لي ، إذت عوفي أنت شفيتني ، وقيل : قال لها : لو سجد لي سجدة واحدة شفيته ، فأتته وحدثته بذلك فأخبرها وعرفها أنه الشيطان ، وحذرها منه وخاف غائله عليها ، فدعا الله بما تقدم وشدد النكير والتعظيم لما وسوس لها به بأن حلف ليضربها مائة ضربة ، ردعاً لها عن الإصغاء إلى شيء من ذلك ، وتهويناً لما يلقاه من بلائه في جنبه .
ص : ( 42 - 45 ) اركض برجلك هذا. .. . .
) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( ( )
ولما تشوف السامع إلى جوابه عن ذلك ، استأنف قوله : ( اركض ) أي قلنا له : اضرب الأرض وأوجد الركض وهو المشي والتحريك والإسراع والاستحثاث ) برجلك ( يخرج منها ماء نافع حسن لتغتسل فيه وتشرب منه ففعل فأنبعنا له عيناً ، فقيل له : ( هذا ( بإشارة القريب إشارة إلى تسهله ) مغتسل ) أي ماء يغتسل به وموضعه وزمانه ) بارد ) أي يبرد حر الظاهر ) وشراب ( يبرد حر الباطن .
ولما كان التقدير : ففعل اغتسل فبرأ ظاهره وسر باطنه ، عطف عليه قوله صارفاً القول إلى مظهر الجلال تنبيهاً على عظمة الفعل : ( ووهبنا ) أي بما لنا من العظمة ) له أهله ) أي الذين كان الشيطان سلط عليهم بأن أحييناهم ، وجمع اعتباراً بالمعنى لأنه أفخم وأقرب إلى فهم المراد فقال : ( ومثلهم ( وأعلم باجتماع الكل في آنٍ واحد فقال : ( معهم ( جددناهم له وليعلم من يسمع ذلك أنه لا عبرة بشسء من الدنيا وأنها وكل ما فيها عرض زائل لا ثبات له اصلاً إلا ما كان لنا ، فإنه من الباقيات الصالحات ، فلا يغير أحد بشيء منها ولا يشتغل عنا أصلاً ، ويعلم من هذا من صدقه القدروة على البعث بمجرد تصديقه له ومن توقف فيه سأل أهل الكتاب فعلم ذلك(6/389)
صفحة رقم 390
بتصديقهم له ، ثم علل سبحانه فعله ذلك بقوله : ( رحمة ( ولما كان في مقام الحث على الصبر عظم الأمر بقوله : ( منا ( فإنه أعظم من التعبير في سورة الأنبياء بعندنا ، ليكون ذلك أحث على لزوم الصبر ، وإذا نظرت إلى ختام الآيتين عرفت تفاوت العبارتين ولاح لك أن مقام الصبر لا يساويه شيء ، لأن الطريق إليه سبحانه لا ينفك شيء منه عن صبر وقهر للنفس وجبر ، لأنها بالإجماع خلاف ما تدعو إليه الطبائع ) وذكرى ) أي إكراماً وتذكيراً عظيماً ) لأولي الألباب ) أي الأفهام الصافية ، جعلنا ذلك لرحمته ولتذكير غيره من الموصوفين على طول الزمان ليتأسى به كل مبتلى ويرجو مثل ما رجا ، فإن رحمة الله واسعة ، وهو عند القلوب المنكسرة ، فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة ، فمن دام إقباله عليه أغناه من غيره :
لكل شيء إذا فارقته عوض وليس لله إن فارقت من عوض
ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر ، وذكر المخلص منه ، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن ، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربها مائة لئلا إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة ، فشكر الله لها ذلك ، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على ) اركض ( ) وخذ بيدك ) أي التي قد صارت في غاية الصحة ) ضغثاً ) أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كمشراخ النخلة ، قال الفراء : هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة ، وقال السمين : وأصل المادة يدل على جميع المختلطات ) فأضرب به ) أي مطلق ضرب ضربة واحدة ) ولا تحنث ( في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله ، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره ، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا ، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه ( صلى الله عليه وسلم ) في بدنه وولده وماله ، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما أذى آدم وحواء عليهما السلام ، إلى أن قارب منها بعض ما يريد ، والمراد بالإعلام به تذكير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منَ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم ، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى ، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء ، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات ، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل .(6/390)
صفحة رقم 391
ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها ، علل سبحانه هذا الإكرام له ( صلى الله عليه وسلم ) وأكده ، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر ، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) وجدناه ) أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين ، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله
77 ( ) واصبر على ما يقولون ( ) 7
[ المزمل : 10 ] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال : ( صابراُ ( ثم استأنف قوله : ( نعم العبد ( ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك : ( إنه أواب ) أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر ، قال الرازي في اللوامع : قال ابن عطاء : واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة ، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : وضع رجل يده على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء ) .
ولما ذكر سبحانه من ابتلاه في بدنه وماله وولده ثم جعل له الماء برداً وسلاماً وعافية ونظاماً وشفاء وقواماً ، عطف عليه من ابتلاه بالنار على أيدي الجبابرة فجعلها عليه برداً وسلاماً باعتماده عليه وصبره لديه ، ونجاه من كيدهم ، وجعل أيده بمفرده فوق أيدهم ، قم ابتلاه بالهجرة لوطنه وأهله وعشيرته وسكنه ، ثم بذبح ابنه ، فصبر على ذلك كله ، اعتماداً على فضل الله ومنّة فقال : ( واذكر عبدنا ( بالتوحيد في رواية ابن كثير للجنس أو لإبراهيم وحده عليه السلام لأنه أصل من عطف عليه ديناً وأبوة ، فبين الله أساس عطفه عليه في المدح بالعبودية أيضاً ، ثم بين المراد بقوله : ( إبراهيم ( وعطف على العبد لا على مبينه لئلا يلزم بيان واحد بجماعة إذا أريد به إبراهيم وحده لا الجنس ابنه لصبره على دينه في الغربة بين عباد الأوثان ومباعدي الإيمان ، فلم يلفت لفتهم ولا داناهم ، بل أرسل إلى أقاربه في بلاد الشرق ، فتزوج منه من وافقته على دينه الحق ، واستمر على إخلاص العبادة لا يأخذه في الله لومة لائم إلى أن مضى لسبيله فقال : ( وإسحاق ( ثم أتبعه ولده الذي قفا أثره ، وصبر صبره ، وابتلى ولده ، وبهجة كبده ، (6/391)
صفحة رقم 392
فصبر أتم الصبر في ذلك الضر ، وأبلغ في الحمد والشكر ، فقال تعالى : ( ويعقوب ( وألحقهما سبحانه بأبيها بعد أن بينت قراءة الإفراد إصالته في المدح بالعبودية فعطفهما عليه نفسه في قراءة غير ان كثير ) عبادنا ( بالجمع كما قال تعالى ) ) والذين آمنوا واتبعهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم ( ) [ الطور : 21 ] .
ولما اجتعموا بالعطف أو البدل وصفهم بقوله : ( أولي الأيدي ) أي القوة الشديدة والأعمال السديدة لأن الأيدي أعظم آلات ذلك ) والأبصار ) أي الحواس الظاهرة والباطنة التي هي حقيقة بأن تذكر وتمدح بها لقوة إدراكها وعظمة نفوذها فيما هو جدير بأن يراعى من جلال الله ومراقبته في الحركات والسكنات سراً وعلناً ، وعبر عن ذلك بالأبصار لأنها أقوى مبادئه ، ومن لم يكن مثلهم كان مسلوب القوة والعقل ، فلم يكن له عقل فكان عدماً ، فهو أعظم توبيخ لمن رزقه الله قوة وعقلاً ، ثم لا يصرفه في عبادة الله والمجاهدة فيه سبحانه .
ص : ( 46 - 50 ) إنا أخلصناهم بخالصة. .. . .
) إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ ( ( )
ولما اشتد تشوف السامع لما استحقوا به هذا الذكر ، قال مؤكداً إشارة إلى محبته سبحانه لمدحهم ورداً على من ينسب إليهم أو إلى أحد منهم ما لا يليق كما كذبه اليهود فيما بدلوه من التوارة في حق إسحاق عليه السلام في بعض المواضع معدياً للفعل بالهمزة إشارة إلى أنه جذبهم من العوائق إليه جذبة واحدة هي في غاية السرعة : ( إنا اخلصناهم ) أي لنا إخلاصاً يليق بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة ) بخالصة ) أي أعمال وأحوال ومقامات وبلايا ومحن هي سالمة عن شوب ما ، فصاروا عليها في غاية الخلوص .
ولما كان سبب الإخلاص تذكر يوم الدين وما يبرز فيه من صفات الجلال والجمال وينكشف فيه من الأمور التي لا توصف عظمتها ، بينها بقوله : ( ذكرى الدار ) أي تذكرهم تلك الخالصة تذكيراً عظيماً لا يغيب عنهم أصلاً الدار التي لا يستحق غيرها أن يسمى داراً بوجه بحيث نسوا بذكر هذا الغائب الثابت الشاهد من دار الزائل عكس ما عليه العامة ، وإضافة نافع وأبي جعفر وهشام ابن عمر بخلاف عنه لخالصة مؤيد لما قلت من أن ذكرى بيان لأنها إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى أنهم لا يعلمون شيئاً(6/392)
صفحة رقم 393
إلا وهو مقرب للآخرة ، فالمعنى أن ذكرهم لها خالص عن سواه لا يشاركه فيه شيء ولا يشوبه شوب أصلاً .
ولما دلت هذه الجملة على هذا المدح البليغ ، عطف عليه ما يلازم الإخلاص فقال مؤكداً لمثل ما تقدم من التنبيه على أنهم ممن يغتبط بمدحهم ، ورداً على من ربما ظن خلاف ذلك بكثرة مصائبهم في الدنيا : ( وإنهم عندنا ) أي على ما لنا من العظمة والخبرة ) لمن المصطفين ( المبالغ في تصفيتهم مبالغة كأنها بعلاج ) الأخيار ( الذين كل واحد منهم بخير بليغ في الخير ، وإصابتنا إياهم بالمصائب دليل ذلك عكسه كما يظنه من طمس قلبه ، والآية من الاحتباك : ذكر ) أخلصناهم ( أولاً دليل على ) اصطفيانهم ( ثانياً ، و ) المصطفين ( دليلاً على ) المخلصين ( أولاً ، وسر ذلك أن الإخلاص يلزم منه الاصطفاء ، لا سيما إذا أسنده إليه بخلاف العكس بدليل
77 ( ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظلم لنفسه ( ) 7
[ فاطر : 32 ] .
ولما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام الذي لم يخرج من كنفه قط ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم الدين وإن خالفهم ، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع ، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام ، فصار ما أضيف إليه من الأحوال والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام ، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام ، فقال : ( واذكر إسماعيل ) أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة ) واليسع ) أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام ) وذا الكفل ) أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ ، وعمل صالح زكي .
ولما تقدم وصف من قبل إبراهيم عيله السلام بالأوبة وخصوا بالتصريح ، لما كان لهم من الشواغل عنها بكل من محنة السراء ومحنة الضراء وكذلك بالعبودية سواء ، وكان الأمر بالذكر مع حذف الوصف المذكور لأجله والإشارة إليه بالتلويح ولا مانع من ذكره دالاً على غاية المدح له لذهاب الوهم في تطلبه كل مذهب ، قال معمّماً للوصف بالعبودية والأوبة بها جميع المذكورين ، عاطفاً بما أرشد إليه العطف على غير مذكور على ما تقديره : غنهم أوابون ، ليكون تعليلاً لذكرهم بما علل به ذكر أو مذكور فيهم : ( وكل ) أي من هؤلاء المذكورين في هذه السورة من الأنبياء قائمون بحق(6/393)
صفحة رقم 394
العبودية فهم من خيار عبادنا من هؤلاء الثلاثة ومن قبلهم ) من الأخيار ) أي كما أن كلاًّ منهم أواب بالعراقة في وصف الصبر كما مضى في الأنبياء ، وبغير ذلك من كل خير على أن الصبر جامع لجميع الطريق ، فهم الذين يجب الاقتداء بهم في الصبر على الدين ولزوم طريق المتقين .
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر هؤلاء الأصفياء عليهم السلام الذين عافاهم بصبرهم وعافى من دعوهم ، فجعلهم سبحانه سبب الفلاح ولم يجعلهم سبباً للهلاك ، قال مؤكداً لشرفهم وشرف ما ذكروا به ، حاثاً على إدامة تذكره وتأمله وتدبره للعمل به ، مبيناً ما لهم في الآخرة على ما ذكر من أعمالهم وما لمن نكب عن طريقهم على سبيل التفصيل : ( وهذا ) أي ما تلوناه عليك من أمورهم وأمور غيرهم ) ذكر ) أي شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ، ثم عطف على قوله ) إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد ( ما لأضدادهم ، فقال مؤكداً رداً على من ينكر ذلك من كفارة العرب وغيرهم : ( وإن ( ويجوز وهو أحسن أن يكون معطوفاً على ( هذا ) وتقديره : هذا ذكر للصابرين .
ولما أداهم إليه صبرهم في الدنيا وأن لهم على ما وهبناهم من الأعمال الصالحة التي مجمعها الصبر لمرجعاً حسناً ، ولكنه أظهر الوصف الذي أداهم إلى هذا المآب تعميماً لكل من اقتدى بهم حثاً على الاقتداء فقال : ( للمتقين ) أي جميع العريقين في وصف التقوى الذين يلزمون لتقواهم الصراط المستقيم ) لحسن مآب ) أي مصير ومرجع ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله : ( جنات عدن ) أي إقامة في استمراء وطيب عيش ونمو وامتلاء وشرف أصل .
ولما كانت من الأعلام الغالبة ، نصب عنها على الحال قوله : ( مفتحة ) أي تفتيحاً كثيراً وبليغاً من غير أن يعانوا في فتحها شيئاً من نصب أو طلب أو تعب ، وأشار جعل هذا الوصف مفرداً أن تفتحيها على كثرتها كان لهم في آن واحد حتى كأنها باب واحد ) لهم ) أي لا لغيرهم ) الأبواب ( التي لها فيها فلا يلحقهم في دخولها ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والإكرام .
ص : ( 51 - 59 ) متكئين فيها يدعون. .. . .
) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ( ( )(6/394)
صفحة رقم 395
ولما ذكر إقامتهم ويسر دخولهم ، وصف حالهم إذ ذاك فقال : ( متكئين فيها ) أي ليس لهم شغل سوى النعيم ولا عليهم كلفة أصلاً .
ولما كان المتكئ لا يتم نعيمه إلا إن كان مخدوماً ، دل على سؤودهم بقوله : ( يدعون فيها ( اي كلما أرادوا من غير مانع أصلاً ولا حاجة إلى قيام ولا قعود يترك به الاتكاء .
ولما كان أكلهم إنما هو للتفكه لا لحفظ الجسد من آفة قال : ( بفاكهة كثيرة ( فسمى جميع مآكلهم فاكهة ، ولما كانت الفاكهة لا يمل منها ، والشراب لا يؤخذ إلا بقدر الكفاية ، وصفها دونه فقال : ( وشراب ( .
ولما كان الأكل والشرب داعيين إلى النساء لا سيما مع الراحة قال : ( وعندهم ) أي لهم من غير مفارقة أصلاً .
ولما كان سياق الامتنان مفهماً كثرة الممتن به لا سيما إذا كان من العظيم ، أتى بجمع القلة مريداً به الكثرة لأنه أشهر وأوضح وأرشق من ( قواصر ) المشترك بين جمع قاصر وقوصرة بالتشديد والتخفيف لوعاء التمر فقال : ( قاصرات ( ولما كن على خلق واحد في العفة وكمال الجمال وحد فقال : ( الطرف ) أي طرفهن لعفتهن وطرف أزواجهن لحسنهن ، ولما لم تنقص صيغة جمع القلة المعنى ، لكونه في سياق المدح والامتنان ، وكان يستعار للكثرة ، أتى على نمط الفواصل بقوله : ( أتراب ) أي على سن واحد مع أزواجهن وهو الشباب ، سمي القرين ترباً لمس التراب جلده وجلد قرينه في وقت واحد ، قال البغوي : بنات ثلاث وثلاثين سنة ، لأن ذلك ادعى للتآلف فإن التحاب بين الأقران أشد وأثبت .
ولما ذكر هذا النعيم لأهل الطاعة ، وقدم ذلك العذاب لأهل المعصية قال : ( هذا ) أي الذي هنا والذي مضى ) ما ( وبني للمفعول اختصاراً وتحقيقاً للتحتم قوله : ( توعدون ( من الوعد والإيعاد ، وقراءة الغيب على الأسلوب الماضي ، ومن خاطب لفت الكلام للتلذيذ بالخطاب تنشيطاً لهممهم وإيقاظاً لقلوبهم ) ليوم الحساب ) أي ليكون في ذلك اليوم .
ولما كان هذا يصدق بأن يوجد ثم ينقطع كما هو المعهود من حال الدنيا ، أخبر أنه على غير هذا المنوال فقال : ( إن هذا ) أي المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب ) لرزقنا ) أي للرزق الذي يستحق الإضافة إلينا في مظهر العظمة ، فلذلك كانت النتيجة : ( ما له من نفاد ) أي فناء وانقطاع ، بل هو كالماء المتواصل في نبعه ، كلما أخذ منه شيء أخلف في الحال بحيث إنه لا يميز المأخوذ من الموجود بوجه من الوجوه ، فيكون في ذلك تلذيذ وتنعيم لأهل الجنة بكثرة ما عنده ، وبمشاهدة ما كانوا يعتقدونه ويثبتونه لله تعالى من القدرة على الإعادة في كل وقت ، جزاء وفاقاً عكس ما يأتي لأهل النار .(6/395)
صفحة رقم 396
ولما كانت النفوس نزاعة للهوى ميالة إلى الردى ، فكانت محتاجة إلى مزيد تخويف وشديد تهويل ، قال تعالى متوعداً لمن ترك التأسي بهؤلاء السادة في أحوال العبادة ، مؤكداً لما مضى من إيعاد العصاة وتخويف العتاة : ( هذا ) أي الأمر العظيم الذي هو جدير بأن يجعل نصب العين وهو أنه لكل من الفريقين ما ذكر وإن أنكره الكفرة ، وحذف الخبر بعد إثباته في الأول أهول ليذهب الوهم فيه كل مذهب ) وإن للطاغين ) أي الذين لم يصبروا على تزيليهم أنفسهم في منازلها بالصبر على ما أمروا به فرفعوا أنفسهم فوق قدرها ، وتجاوزوا الحد وعلوا في الكفر به وأسرفوا في المعاصي والظلم وتجبروا وتكبروا فكانوا أحمق الناس ) لشر مآب ) أي مصير ومرجع ، وأبدل منه أو بينه بقوله : ( جهنم ) أي الشديدة الاضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم .
ولما كان اختصاصهم بها ليس بصريح في عذابهم ، استأنف التصريح به في قوله : ( يصلونها ) أي يدخلونها فيباشرون شدائدها .
ولما أفهم هذا غاية الكراهة لها وأنه لا فراش لهم غير جمرها ، فكان التقدير : فيكون مهاداً لهم لتحيط بهم فيعمهم صليها ، سبب عنه قوله : ( فبئس المهاد ) أي الفراش هي ، فإن الفائدة الفراش تنعيم الجسد ، وهذه تذيب الجلد واللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب عاد عقوبة لهم ليريهم الله ما كانوا يكذبون به من الإعادة في كل وقت دائماً أبداً ، كما كانوا يعتقدون ذلك دائماً أبداً جزاء وفاقاً عكس ما لأهل الجنة من التنعيم والتلذيذ بإعادة كل ما قطعوا من فاكهتها وأكلوا من طيرها ، لأنهم يعتقدون الإعادة فنالوا هذه السعادة .
ولما قدم أن لأهل الطاعة فاكهة وشراباً ، وكان ما وصف به مأوى العصاة لا يكون إلا عذاباً ، وكان مفهماً لا محالة أن الحرارة تسيل من أهل النار عصارة من صديد وغيره قال : ( هذا ) أي العذاب للطاغين ) فليذوقوه ( ثم فسره بقوله : ( حميم ) أي ماء حار ، وأشار بالعطف بالواو إلى تمكنه في كل من الوصفين فقال : ( وغساق ) أي سيل منتن عظيم جداً بارد أسود مظلم شديد في جميع هذه الصفات من صديد ونحوه وهو في قراءة الجماعة بالتخفيف اسم كالعذاب والنكال من غسقت عينه ، أي سالت ، وغسق الشيء ، أي امتلأ ، ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله ، وفي قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد صفة كالخباز والضراب ، تشير إلى شدة أمره في جميع ما استعمل فيه من السيلان والبرد والسواد .
ولما كان في النار أجارنا الله منها بعفوه ورحمته ما لا يعد من أنواع العقاب ، قال عاطفاً على هذا ، ) وآخر ) أي من أنواع المذوقات على قراءة البصريين بالجمع(6/396)
صفحة رقم 397
لأخرى ، ومذوق على قراءة غيرهما بالإفراد ، وهو حينئذ للجنس ، وأخبر عن المبتدأ بقوله : ( من شكلة ) أي شكل هذا المذوق ولما كان المراد الكثرة في المعذبين وهم الطاغون وفي عذابهم مع افتراقه بالأنواع وإن اتخذ في جنس العذاب ، صرح بها في قوله : ( أزواج ) أي هم أو هي أو هو ، أي جنس عذابهم أنواع كثيرة .
ولما كان مما أفهمه الكتاب في هذا الخطاب أن الطاغين الداخلين إلى جهنم أصناف كثيرة ، وكانت العادة جارية بأن الأصناف إذا اجتمعوا كانت محاورات ولا سيما إن كانوا من الطغاة العتاة ، تحرك السامع إلى تعرف ذلك فقال تعالى مستأنفاً جوابه بما يدل على تقاولهم بأقبح المقاولة وهو التخاصم الناشئ عن التباغض والتدابر الذي من شأنه أن يقع بين الذين دبروا أمراً فعاد عليهم بالوبال في أن كلاًّ منهم يحيل ما وقع به العكس على صاحبه ، وذلك أشد لعذابهم : ( هذا ) أي قال أطغى الطغاة لما دخلوها أولاً كما هم أهل له لأنهم ضالون مضلون ورأوا جمعاً من الأتباع داخلاً عليهم : هذا ) فوج ) أي جماعة كثيفة مشاة مسرعون .
ولما كانوا يدخلونها من شدة ما تدفعهم الزبانية على هيئة الواثب قال مشيراً بالتعبير بالوصف مفرداً إلى أنهم في الموافقة فيه والتسابق كأنهم نفس واحدة : ( مقتحم ) أي رام بنفسه في الشدة بشدة فجاءة بلا روية كائناً ) معكم ( .
ولما كالن أهل النار يؤذي بعضهم بعضاً بالشهيق والزفير والزحام والدفاع والبكاء والعويل وما يسيل من بعضهم على بعض من القيح والصديد وغير ذلك من أنواع النكد ، ولا سيما إن كانوا أتباعاً لهم في الدنيا ، فصاروا مثلهم في ذلك الدخول في الرتبة ، لا يتحاشون عن دفاعهم وخصامهم ونزاعهم ، قالوا استئنافاً : ( لا مرحباً ( ثم بينوا المدعو عليه فقالوا : ( بهم ( وهي كلمة واقعة في أتم مواقعها لأنها دالة على التضجر والبغضة مع الصدق في أهل مدلولها الذي هو مصادقة الضيق ، مفعل من الرحب مصدر ميمي وهو السعة ، أي لا كان بهم راحة ، ولذلك عللوا استحقاقهم لهذا الدعاء بقولهم مؤكدين لما كان استقر في نفوسهم وتطاول عليه الزمان من إنكارهم له : ( إنهم صالوا النار ) أي ومن صليها صادف من الضيق ما لم يصادفه أحد وآذى كل من جاوره .
ص : ( 60 - 64 ) قالوا بل أنتم. .. . .
) قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ(6/397)
صفحة رقم 398
سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَرُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) 73
( ) 71
ولما كان من المعلوم على ما جرت به العوائد أنهم يتأثرون من هذا القول فيحصل التشوق إلى ما يكون من أمرهم هل يجيبونهم أم تمنعهم هيبتهم على ما كانوا في الدنيا ، اعلم بما يعلم منه انقطاع الأسباب هناك ، فلا يكون من أحد منهم خوف من آخر ، فقال مستأنفاً : ( قالوا ) أي الأتباع المعبر عنهم بالفوج لسفولهم وبطون أمرهم : ( بل أنتم ) أي خاصة أيها الرؤساء ) لا مرحباً ( وبينوا بقولهم : ( بكم ) أي هذا الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به منا ، ثم عللوا قولهم بما أفهم أنهم شاركوهم في الضلال وزادوا عليهم بالإضلال فقالوا : ( أنتم ) أي خاصة ) قدمتموه ) أي الاقتحام في العذاب بما أقحتمتونا فيه من أسبابه وقدمتم في دار الغرور من تزيينه ) لنا ( ولما كان الاقتحام وهو الوثوب أو الدخول على شيء بسرعة كأنها الوثوب ينتهي من إلى استقرارا ، وكان الفريقان قد استقروا في مقاعدهم في النار ، سببوا عن ذلك قولهم : ( فبئس القرار ) أي قراركم .
ولما كان قول الأتباع هذا مفهماً لأنهم علموا أن سبب ما وصلوا إليه من الشقاء هو الرؤساء ، وكان هذا موجباً لنهاية غيظهم منهم ، تشوف السامع لما يكون من أمرهم معهم ؟ هل يكتفون بما أجابوهم به أو يكون أمنهم شيء آخر ؟ فاستانف قوله إعلاماً بأنهم لم يكتفوا بذلك وعلموا أنهم لا يقدرون على الانتقام منهم : ( قالوا ) أي الأتباع : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا الذي منعنا هؤلاء عن الشكر له ) من قدم لنا هذا ) أي العذاب بما قدم لنا من الأسباب التي اقتحمناه ، وقدموا ذلك اهتماماً به وأجابوا الشرط بقولهم : ( فزده ) أي على العذاب الذي استحقه بما استحققنا به نحن وهو الضلال ) عذاباً ضعفاً ) أي زائداً على ذلك مثله مرة أخرى بالإضلال ، وقيدوه طلباً لفخامته بقولهم معبرين بالظرف لإفهام الضيق الذي تقدم الدعاء المجاب فيه به ليكون عذاباً آخر فهو أبلغ في الأعراف لأن السياق هنا للطاغين وهناك الكافرين ) في النار ) أي كائناً فيها ، وهذا مثل الآية الأخرى ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً أي مثل عذابنا مرتين .
ولما ذكر من اقتحامهم في العذاب وتقاولهم بما دل على خزيهم وحسرتهم وحزنهم ، أعلم بما دل على زيادة خسرانهم وحسرتهم وهوانهم بمعرفتهم بنجاة المؤمنين الذين كانوا يهزؤون بهم ويذلونهم فقال : ( وقالوا ) أي الفريقان : الرؤساء والأتباع بعد أن قضوا وطرهم مما لم يغن عنهم شيئاً من تخاصمهم : ( ما ) أي أيّ شيء حصل ) لنا ( مانعاً في أنا ) لا نرى ) أي في المحل الذي أدخلناه ) رجالاً ( يعنون فقراء(6/398)
صفحة رقم 399
المؤمنين ) كنا نعدهم ) أي في دار الدنيا ) من الأشرار ) أي الأرذال الذين لا خير فيهم بأنهم قد قطعوا الرحم ، وفرقوا بين العشيرة وأفسدوا ذات البين ، وغيروا الدين بكونهم لا يزالون يخالفون الناس في أقوالهم وأفعالهم ، مع ما كانوا فيه من الضعف والذل والهوان وسوء الحال في الدنيا ، فيظن أهلها نقص حظهم منه وكثرة مصائبهم فيها لسوء حالهم عند الله وما دروا أنه تعالى يحمي أحباءه منها كما يحي الإنسان عليله الطعام والشراب من يرد به خيراً يصب منه .
ولما كانوا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم ، وهم ليسوا موضعاً لذلك ، بل حالهم في جِدهم وجَدهم في غاية البعد عن ذلك ، قالوا مستفهمين ، أما على قراءة الحرمين وابن عامر وعاصم فتحقيقاً ، وأما على قراءة غيرهم فتقديراً : ( اتخذناهم ) أي كلفنا أنفسنا وعالجناها في أخذهم ) سخرياً ) أي نسخر منهم ونستهزئ بهم على قراءة الكسر ، ونسخرهم أي نستخدمهم على قراءة الضم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك ، بل كانوا خيراً منا فلم يدخلوا هنا لعدم شرارتهم ، وكأنهم إلى تجويز كونهم في النار معهم ومنعهم من رؤيتهم أميل ، فدلوا على ذلك بتأنيث الفعل ناسبين خفاءهم عنهم إلى رخاوة في أبصارهم على قوتها في ذلك الحين فقالوا : ( أم زاغت ) أي مالت متجاوزة ) عنهم ( .
ولما كان تعالى يعيد الخلق في القيامة على غاية الإحكام في أبدانهم ومعانيها فتكون أبصارهم أحد ما يمكن أن تكون وأنفذه ) اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا فبصرك اليوم حديد ( عدوا أبصارهم في الدنيا بالنسبة إليها عدماً ، فلذلك عرفوا قولهم : ( الأبصار ) أي منا التي لا أبصار في الحقيقة سواها فلم نرها وهم فينا ومعنا في النار ولكن حجبهم عنا بعض أوديتها وجبالها ولهبها .
ف ) أم ( معادلة لجملة السخرية ، وقد علم بهاذ التقدير أن معنى الآية إلى إنفصال حقيقي معناه : أهم معنا أم لا ؟ فهي من الاحتباك : أثبت الاتخاذ المذكور الذي يلزمه بحكم العناد بين الجملتين عدم كون المستسخر بهم معهم في النار اولاً دليلاً على ضده ثانياً ، وهو كونهم معهم فيها ، وأثبت زيغ الأبصار ثانياً اللازم منه بمثل ذلك كونهم معهم في النار دليلاً على ضده أولاً وهو كونهم ليسوا معهم ، وسر ذلك أن الموضع لتسحرهم ولومهم لأنفسهم ، في غلطهم والذي ذكر عنهم أقعد في ذلك .
ولما كان هذا أمراً رائعاً جداً زاجراً لمن له عقل فتأمله مجرداً لنفسه من الهوى ، وكانت الجدود تمنعهم عن التصديق به ، كان موضعاً لتأكيد الخبر عنه فقال : ( إن ذلك ) أي الأمر العظيم الذي تقدم الإخبار به ) لحق ) أي ثابت لا بد من وقوعه إذا وقع(6/399)
صفحة رقم 400
مضمونة وافق الواقع منه هذا الإخبار عنه ، ولما كان أشق ما فيه وأنكأ تخاصمهم جعله هو المخبر به وحده ، فقال مبيناً له مخبراً عن مبتدإ استنافاً تقديره : هو ) تخاصم أهل النار ( لأنه ما أناره لهم إلا الشر والنكد فسمي تخاصماً .
ص : ( 65 - 70 ) قل إنما أنا. .. . .
) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا : عجل لنا هذا إن كنت صادقاً فينا ادعيت ، ومن المقطوع به أنه لا يقدر على ذلك إلا الإله فصاروا كأنهم نسبوه إلى أنه ادعى الإلهية ، قال تعالى منبهاً على ذلك آمراً له بالجواب : ( قل ) أي لمن يقول لك ذلك : ( إنما أنا منذر ) أي مخوف لمن عصى ، ولم أدّع أني إله ، ليطلب مني ذلك فإنه لا يقدر على مثله إلا الإله ، فهو قصر قلب الموصوف على الصفة ، وأفرد قاصراً للصفة في قوله : ( وما ( وأعرق في النفي بقوله : ( من إله ( اي معبود بحق لكونه محيطاً بصفات الكمال .
ولما كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين ، لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين فقال : ( إلا الله ( وللإحاطة عبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ولو شاركه شيء لم يكن محيطاً وللتفرد قال مبرهناً على ذلك : ( الواحد ) أي بكل اعتبار فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه محتاجاً مكافئاً ) القهار ) أي الذي يقهر غيره على ما يريد ، وهذا برهان على أنه الإله وحده وأن آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافئها بالمشابهة واحتياجها .
ولما وصف نفسه سبحانه بذلك ، دل عليه بقوله : ( رب السماوات ) أي مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع ، وجمع لأن المقام للقدرة ، وإقامة الدليل على تعددها سهل ) والأرض ( على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب .
ولما كان القائل مخيراً كما قال ابن مالك في الكافية الشافية عند اختلاط العقلاء بغيرهم في إطلاق ما شاء من ( مَن ) التي أغلب إطلاقها على العقلاء و ( ما ) التي هي بعكس ذلك ، وكان ربما وقع في وهم أن تمكنه تعالى من العقلاء دون تمكنه من غيرهم لما لهم من الحيل التي يختزون بها عن المحذور ، وينظرون بها في عواقب الأمور ، أشار إلى أن حكمه فيهم كحكمه في غيرهم من غير فرق بالتعبير عنهم ب ( ما ) التي أصلها وأغلب استعمالها لمن لا يعقل ، وسياق العظمة بالوحدانية وآثارها دال على دخولها في(6/400)
صفحة رقم 401
العبادة قطعاً فقال : ( وما بينهما ) أي الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ، ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب ، فدل ذلك على قهره ، وتفرده في جميع أمره .
ولما كان السياق للإنذار ، كرر ما يدل على القهر فقال : ( العزيز ) أي الذي يعز الوصول إليه ويغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ولما ثبت أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، وكانت دلالة الوصفين العظيمين على الوعيد أظهر من إشعارها بالوعد ، كان موضع قولهم ، فما له لا يعجل بالهلاك لمن يخالفه فقال : ( الغفار ) أي المكرر ستره لما يشاء من الذنوب حلماً إلى وقت الماحي لها بالكلية بالنسبة إلى من يشاء من العباد كما فعل مع أكثر الصحابة رضي الله عنهم حيث غفر لهم ما اقترفوه قبل الإسلام .
ولما ثبت بهذا وحدانيته وقدرته ولم يزعهم ذلك عن ضلالهم ، ولا ردهم عن عتوهم ومحالهم ، مع كونه موجباً لأن يقبل كل أحد عليه ولا يعدل أبداً ، قال آمراً له بما ينبهمم على عظيم خطئهم : ( قل هو ) أي هذا الأمر الذي تلوته عليكم من الأخبار عن الماضي والآتي من القيامة المشتملة على التخاصم المذكور وغيرها والأحكام والمواعظ ، فثبت بمضمونه الوحدانية ، وتحقق بإعجازه مع ثبوت الوحدانية وتمام القدرة وجميع صفات الكمال أنه كلام الله : ( نبؤا عظيم ) أي خبر يفوت الوصف في الجلال والعظم بدلالة العبارة والصفة لا يعرض عن مثله إلا غافل لا وعي له ولا شيء من رأى .
ولما كانوا يدعون أنهم أعظم الناس إقبالاً على الغرائب ، وتنقيباً عن الدقائق والجلائل من المناقب ، بكتهم بقوله واصفاً له : ( أنتم عنه ) أي خاصة لا عن غيره والحال أن غيره من المهملات ، ولما كان أكثرهم متهيئاً للإسلام والرجوع عن الكفران لم يقل : مدبرون ، ولا ( يعرضون ) بل قال : ( معرضون ) أي ثابت لكم الإعراض في هذا الحين ، وقد كان ينبغي لكم الإقبال عليه خاصة والإعراض عن كل ما عداه لأن في ذلك السعادة الكاملة ، ولو أقبلتم عليه بالتدبر لعلمتم قطعاً صدقي وأني ما أريد بكم إلا السعادة في الدنيا والآخرة ، فبادرتم الإقبلا إليّ والقبول لما أقول .
ولما قصر نفسه الشريفة على الإنذار ، وكانوا ينازعون فيه وينسبونه إلى الكذب ، دل على صدقه وعلى عظيم هذا النبأ بقوله : ( ما كان لي ( وأعرق في النفي بالتأكيد في قوله : ( من علم ) أي من جهة أحد من الناس كما تعرفون ذلك من حالي له إحاطة ما ) بالملأ ) أي الفريق المتصف بالشرف ) الأعلى ( وهم الملائكة أهل السماوات العلى وآدم وإبليس ، وكأن مخاطبة الله لهم كانت بواسطة ملك كما هو أليق بالكبرياء(6/401)
صفحة رقم 402
والجلال ، فصح أن المقاولة بين الملأ ) إذ ) أي حين ، ولما أفرد وصف الملأ إيذاناً بأنهم في الاتفاق في علو رتبة الطاعة كأنهم شيء واحد ، جمع لئلا يظن حقيقة الوحدة فقال : ( يختصمون ) أي في شأن آدم عليه السلام ، أول خليفة في الأرض بل الخليفة المطلق ، لأن خلافه أولاده من خلافته ، وفي الكفارات الواقعة من بينه ، كما أنه ما كان لي من علم بأهل النار إذ يختصمون ، ولا بالخصم الذين دخلوا على داود عليه السلام الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض إذ يختصمون ، وقد علمت ذلك علماً مطابقاً للحق بشهادة الكتب القديمة وأنتم تعلمون أني لم أخالط عالماً قط ، فهذا علم من أعلام النبوة واضح في أني لم أعلم ذلك إلا بالوحي لكوني رسول الله وعبر هنا بالمضارع - وإن كان قد وقع ومضى من أول الدهر تذكيراً بذلك الحال وإعلاماً بما هم فيه الآن من مثله في الدرجات ، كما سيأتي قريباً في الحديث القدسي ، وعبر في تخاصم أهل النار وهو لم يأت بالماضي تنبيهاً على أن وقوعه مما لا ريب فيه ، فكأنه وقع وفرغ منه لأنه قد فرغ من قضائه من لا يرد قضاء ، لأنه الواحد فلا شريك له ولا منازع .
ولما كانوا ربما قالوا في تعنتهم : فلعله مثل ما أوحي إليك بعلم ما لم تكن تعلم ، يوحي إليك بالقدرة على ما لم تكن تقدر عليه ، فتعجل لنا الموت ثم البعث لنرى ما اخبرتنا به من التخاصم مصوراً ، لعلناً نصدقك فيما أتيت به ، قال مجيباً لهم قاصراً للوحي على قصره على النذارة وهي إبلاغ ما أنزل إليه ، لا تعجيل شيء مما توعدوا به : ( إن ) أي ما ) يوحى ) أي في وقت من الأوقات ، وبناه للمفعول لأن ذلك كاف في تنبيههم على موضع الإشارة في أن دعواه إنما هي النبوة لا الإلهية ) إليّ إلا ( ولما كان الوحي قولاً قرأ أبو جعفر بكسر ) إنما أنا نذير ) أي قصري على النذارة لا أنجز ما يتوعد به الله ؛ فإنما مفعول يوحى القائم مقام الفاعل في القراءتين وإن اختلف التوجيهان فالتقدير على قراءة الجماعة بالفتح : إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً ، وعلى قراءة الكسر : إلا هذا القول وهو أني لكم كذا ) مبين ) أي لا أدع لبساً فيما ابلغه بوجه من الوجوه .
ص : ( 71 - 74 ) إذ قال ربك. .. . .
) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ( )
ولما دل على أنه نذير ، وأزال ما ربما أوردوه عليه ، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى ، أو بدل ( إذ ) الأولى فقال : ( إذ ) أي حين ) قال ( ودل على أنه هذا كله(6/402)
صفحة رقم 403
إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك ، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله :
77 ( ) قل من كان عدواً لجبريل ( ) 7
[ البقرة : 97 ] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال : ( ربك ) أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر ، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه ) للملائكة ( وهو الملأ الأعلى وإبليس منهم لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم .
ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد ، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه ، أكد لهم سبحانه قوله : ( إني خالق بشراً ) أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام ، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر : ( من طين ( اجعله خليفتي في الأرض وإن كان في ذلك فساد لأني أريد أن أظهر حلمي ورحمتي وعفوي وغير ذلك من صفاتي التي لا يحسن في الحكمة إظهارها إلا مع الذنوب ( لو لم تذنبوا فتسغفروا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) قال القشيري : وإخباره للملائكة بذلك يدل على تفخيم شأن آدم عليه السلام لأنه خلق ما خلق من الكونين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة ، ولم يقل في صفة شيء منها ما قاله في صفة آدم عليه السلام وأولاده ، ولم يأمر بالسجود لشيء غيره .
ولما أخبرهم سبحانه بما يريد أن يفعل ، سبب عنه قوله : ( فإذا سويته ) أي هيأنه بإتمام خلقه لما يراد منه من قبول الروح وما يترتب ) ونفخت فيه من روحي ( فصار حساساً متنفساً ، سبه سبحانه إفاضته الروح بما يتأثر عن نفخ الإنسان من لهب النيران ، وغير ذلك من التحريك والإسكان ، والزيادة والنقصان ، وأضافة سبحانه إليه تشريفاً له ، ) فقعوا له ) أي خاصة ) ساجدين ) أي اسجدوا له للتكرمة امتثالاً لأمري سجوداً هو بغاية ما يكون من الطواعية والاختيار والمحبة لتكونوا كأنكم وقعتم بغير اختيار ، ففعلوا ما أمرهم به سبحانه من غير توقف ، ولذلك ذكر فعلهم مع جواز تأنيثه فقال : ( فسجد ) أي عند ما نفخ فيه الروح ) الملائكة ( على ما أمرهم الله ، ولما كان إسناد الخبر إلى الجميع قد يراد به أكثرهم ، أكد بقوله : ( كلهم ( إرادة لرفع المجاز .
ولما كان لا يقدح في ذلك واحد مثلاً أو قليل لا يعبأ بهم لضعف أو نحوه ، رفع(6/403)
صفحة رقم 404
ذلك بقوله : ( أجمعون ( مع إفادة أن السجود كان في آن واحد إعلاماً بشدة انقيادهم ، وحسن تأهبهم للطاعة واستعدادهم ، ثم زاد في إيضاح العموم بالاستثناء الذي هو معياره فقال : ( إلا إبليس ( عبر عنه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى أنه في أول خطاب الله له بالإنكار عليه على كيفية عدم منها تأبد الغضب عليه وتحتم العقوبة له .
ولما عرف بالاستثناء أنه لم يسجد ، وكان مبنى السورة على استكبار الكفرة بكونهم في عزة وشقاق ، بين أن المانع له من السجود الكبر تنفيراً عنه مقتصراً في شرح الاختصام عليه وعلى ما يتصل به فقال : ( استكبر ) أي طلب أن يكون أكبر من أن يؤمر بالسجود له وأوجد الكبر على أمر الله ، وكان من المستكبرين العريقين في هذا الوصف كما استكبرتم أيها الكفرة على رسولنا ، وسنرفع رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) كما رفعنا آدم صفينا عليه السلام على من استكبر عن السجود له ، ونجعله خليفة هذا الوجود كما جعلنا آدم عليه السلام ، وأشرنا إلى ذلك في هذه السورة بافتتاحها بخليفة أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذكر كل من أحوالهما .
ولما كان الفعل الماضي ربما أوهم أنه حدث فيه وصف لم يكن ، وكان التقدير : فكفر بذلك ، عطفاً عليه بياناً لأنه جبل على الكفر ولم يحدث منه إلا ظهور ذلك للخلق قوله : ( وكان ) أي جبلة وطبعاً ) من الكافرين ) أي عريقاً في وصف الكفر الذي منشؤه الكبر على الحق المستلزم للذل للباطل ، فالآية من الاحتباك : ذكر فعل الاستكبار أولاً ، دليلاً على فعل الكفر ثانياً ووصف الكفر ثانياً دليلاً على وصف الاستكبار أولاً ، وسر ذلك أن ما ما ذكره أقعد في التحذير بأن من وقع منه كبر جره إلى الكفر .
ص : ( 75 - 80 ) قال يا إبليس. .. . .
) قَالَ يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ( ( )
ولما كان من خالف أمر الملك جديراً بأن يحدث إليه أمر ينتقم ، فتشوف السامع لما كان من الملك إليه ، استأنف البيان لذلك بقوله : ( قال ( وبين أنه بمحل البعد بقوله : ( يا ( وبين يأسه من الرحمة ، وأنه لا جواب له اصلاً بتعبيره بقوله : ( إبليس ما ) أي ، أي شيء ) منعك أن تسجد ( وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل : ( لما خلقت ( فأنا العالم به وبما يستحقه دون غيري ، وما أمرت بالسجود له إلا لحكمة في الأمر(6/404)
صفحة رقم 405
وابتلاء للغير ، وأكد بيان ذلك بذكر اليد وتثنيتها فقال : ( بيدي ) أي من غير توسط سبب من بين هذا النوع وما ذاك إلا لمزيد اختصاص ، والمراد باليد هنا صفة شريفة غير النعمة والقدرة معلومة له سبحانه ولمن تبحر في علمي اللغة والسنّة ، خص بها خلق آدم عليه السلام تشريفاً له وفي تثنية اليد إشارة إلى أنه ربما أظهر فيه معاني الشمال وإن كان كل من يديه مباركاً ، ثم قسم المانع إلى طلب العلو ووجود العلو مع الإنكار عليه في الاستناد إلى شيء منهما ، فقال في صيغة استفهام التقرير مع الإنكار والتقريع ، بياناً لأنه يلزمه لا محالة زيادة على ما كفر به أن يكون على أحد هذين الأمرين : ( أستكبرت ) أي طلبت أن تكون أعلى منه وأنت تعلم أنك دونه فأنت بذلك ظالم ، فكنت من المستكبرين العريقين في وصف الظلم ، فإن من اجترأ على أدناه أوشك أن يصل إلى أعلاه ) أم كنت ) أي مما لك من الجبلة الراسخة ) من العالين ) أي الكبراء المستحقين للكبر وأنا لا أعلم ذلك فنقصتك من منزلتك فكنت جائراً في أمري لك بما أمرتك به ، فلذلك علوت بنفسك فلم تسجد له ، هذا المراد لا ما يقوله بعض الملاحدة من أن العالين جماعة من الملائكة لم يسجدوا لأنهم لم يؤمروا لأن ذلك قدح في العموم المؤكد هذا التأكيد العظيم ، وفي تفسير العلماء له من غير شبهة ، والآية من الاحتباك ؛ دل فعل الاستكبار أولاً على فعل العلو ثانياً ، على وصف الاستكبار أولاً ، وسر ذلك ان إنكار الفعل المطلق مستلزم لإنكار المقيد لأنه المطلق بزيادة ، وإنكار الوصف مستلزم لإنكار الفعل لأنه جزوه مع أن إنكار الفعل من هذا مستلزم لأنكار الفعل من ذاك ، فيكون كل من الفعلين مدلولاً على إنكاره مرتين : تارة بإنكار من فعل العلو و ( أم ) معادلة لهمزة الاستفهام وإن حذفت من قراءة بعضهم لدلالة ( أم ) عليها وإن اختلف الفعل ، قال أبو حيان : قال سيبويه : تقول : أضربت زيداً أم قتلته ، فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أي ذلك كان انتهى .
ولما صدعه سبحانه بهذا الإنكار ، دل على إبلاسه بقول مستأنفاً : ( قال ( مدعياً لأنه من العالين : ( أنا خير منه ) أي فلا حكمة في أمري بالسجود له ، ثم بين ما ادعاه بقوله : ( خلقتني من نار ) أي وهي في غاية القوة والإشراق ) وخلقته من طين ) أي وهو في غاية الكدورة والضعف ، واستؤنف بيان ما حصل التشوف إليه من علم جوابه بقوله معرضاً عن القدح في جوابه لظهور سقوطه بأن المخلوق المربوب لا اعتراض له على ربه بوجه : ( قال فاخرج ) أي بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه(6/405)
صفحة رقم 406
إلى الجور ) منها ) أي من الجنة محل الطهر عن الأدواء الظاهرة والباطنة ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل ادعاء أنه أهل لأقرب القرب : ( فإنك رجيم ) أي مستحق للطرد والرجم وهو الرمي بالحجارة الذي هو للمبالغة في الطرد .
ولما كان الطرد قد يكون في وقت يسير ، بين أن دائم بقوله ، مؤكداً إشارة إلى الإعلام بما في نفسه من مزيد الكبر : ( وإن عليك ) أي خاصة .
ولما كان السياق هنا للتكلم في غير مظهر العظمة لم يأت بلام الكلام بخلاف الحجر فقال : ( لعنتي ) أي إبعادي مع الطرد والخزي والهوان والذل مستعل ذلك عليك دائماً قاهراً لك لا تقدر على الانفكاك عنه بوجه ، وأما غيرك فلا يتعين للعن بل يكون بين الرجاء والخوف لا علم للخلائق بأنه مقطوع بلعنة ما دام حياً إلا من أخبر عنه نبي من الأنبياء بذلك ، ثم غيى هذا اللعن بقوهب : ( إلى يوم الدين ) أي فإذا جاء ذلك اليوم أخذ في المجازاة لكل عامل بما عمل ولم يبق لمذنب وقت يتداركفيه ما فاته ، وحينئذ يعلم أهل الاستحقاق للعن كلهم ، ولم يبق علم ذلك خاصاً بإبليس ، بل يقع العلم بجميع أهل اللعنة ، فالغاية لعلم الاختصاص باللعن لا للعن .
ولما كان ذلك ، تشوف السامع إلى ما كان منه فأخبر سبحانه به في سياق معلم أنه منعه التوفيق فلم يسأل التخفيف ولا عطف نحو التوبة ، بل أدركه الخذلان بالتمادي في الطغيان ، فطلب ما يزداد به لعنة من الإضلال والإعراق في الضلال ضد ما أنعم به على آدم عليه السلام ، فقال ذاكراً صفة الإحسان والتسبيب لسؤال الإنظار لما جرأه عليهما من ظاهر العبارة في أن اللعنة مغباة بيوم الدين : ( قال رب ) أي أيها المحسن إليّ بإيجادي وجعلني في عداد الملائكة الكرام ) فأنظرني ) أي بسبب ما عذبتني به من الطرد ) إلى يوم يبعثون ) أي آدم وذريته الذين تبعثهم ببعث جميع الخلائق : ( قال ( مؤكداً لأن مثل ذلك في خرقه للعادة لا يكاد يتصور : ( فإنك ) أي بسبب هذا السؤال ) من المنظرين ( وهذا يدل أن مثل هذا الإنظار لغيره أيضاً .
ص : ( 81 - 88 ) إلى يوم الوقت. .. . .
) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ( )
ولما دبج في عبارته بما يقتضي السؤال في أن لا يموت ، فإن يوم البعث ظرف لفيض الحياة لا لغيضها ولبسطها لا لقبضها ، منعه ذلك بقوله : ( إلى يوم الوقت ( ولما(6/406)
صفحة رقم 407
كان تدبيجه في السؤال قد أفهم تجاهله بما هو أعلم الخلق به من تحتم الموت لكل من لم يكن في دار الخلد الذي أبلغ الله تعالى في الإعلام به ، قال : ( المعلوم ( وهو الصعقة الأولى وما يتبعها .
ولما كانت هذه الإجابة سبباً لأن يخضع وينيب شكراً عليها ، وأن يطغى ويتمرد ويخيب لأنها تسليط ، وتهيئة للشر ، فاستشرف السامع إلى معرفة ما يكون من هذين المسببين ، عرف أنه منعه الخذلان من اختيار الإحسان بقوله : ( قال فبعزتك ) أي التي أبت أن يكون لغيرك فعل لا بغير ذلك ، ويجوز أن تكون الباء للقسم ) لأغوينهم ) أي ذرية آدم عليه السلام ) أجمعين ( قال القشيري : ولو عرف عزته لما أقسم بها على مخالفته .
ولما كان عالماً بأن القادر ما خلق آدم عليه السلام وشرفه بما شرفه به ليشقي ذريته كلهم قال : ( إلا عبادك ( فأضافهم إليه سبحانه تنبيهاً على أن غيرهم قد انسلخوا من التشرف بعبوديته بالنسبة إلى من أطاعوه .
ولما كان يمكن أن يكون المستثنى ، من غير البشر قيد قوله : ( منهم المخلصين ) أي الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته فأخلصوا قصدهم لها ، وعرف من الاستثناء أنهم قليل وأن الغواة هم الأصل .
ولما حصل التشوف إلى جوابه ، دل عليه بقوله : ( قال فالحق ) أي فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق ) والحق ) أي لا غير أبداً ) أقول ) أي لا أقول إلا الحق ، فإن كل شيء قلته ثبت ، فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه .
ولما كانت إجابته بالإنظار ربما كانت سبباً لطعمه في الخلاص ، قطع رجاءه بما أبرزه في أسلوب التأكيد من قوله جواباً لقسم مقدر وبياناً للحق ، وفي قراءة عاصم وحمزة برفع ) فالحق ( يكون هو المقسم به أي فالحق قسمي ، والجواب ) لأملأن ( وما بينهما اعتراض مبين أن هذا مما لا يخلف اصلاً ) جهنم ) أي النار العظيمة التي من شأنها تجهم من حكم بدخوله إياها ) منك ) أي نفسك وكل من كان على شاكلتك من جنسك من جميع الجن ) وممن ( .
ولما كان الأغلب على سياقات هذه السورة العاقبة ، كان توحيد الضمير في ) تبع ( أولى ، وليفهم الحكم على كل فرد ثم الحكم على المجموع فقال : ( تبعك ( ولما كان ربما قال متعنت : إن المالئ لجهنم من غير البشر قال : ( منهم ) أي الناس الذين طلبت الإمهال لأجلهم ، وأكد ضمير ) منك ( والموصول في ) ممن ( بقوله : ( أجمعين ( لا تفاوت في ذلك بين أحد منكم ، وهذا الخصام الذي بين سبحانه أنه كان بين بين الملأ الأعلى كان سبباً لهم إلى انكشاف علوم كثيرة منها أن السجود والتحيات(6/407)
صفحة رقم 408
والاستغفار والكفارات سبب الوصول إلى الله والقربات ، فصاروا بعد ذلك يختصمون فيها ، فكانت هذه القضية سبباً لاطلاع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أسرار الملك والملكوت ، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي وقال : حسن غريب والدارمي والبغوي في تفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إني نعست فاستثقلت نوماً فأتاني ربي ) وفي رواية ( آتِ من ربي في أحسن صورة ، فقال لي يا محمد ، قلت : لبيك ربي وسعديك ، قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، فقلت لا يا رب ) وفي رواية ( قلت : أنت أعلم أي رب مرتين قال : فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال : نحري فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ) وفي رواية ( ما بين المشرق والمغرب ) وفي رواية الدارمي والبغوي ( ثم تلا هذه الآية ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ، قال : وما هن ؟ قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكاره ) وفي رواية ( في السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال : من فعل ذك عاش بخير ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ، وقال : يا محمد ، قلت : لبيك وسعديك ، قال : إذا صليت فقل ) اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ( قال ) والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام ( قال المنذري : الملأ الأعلى : الملائكة المقربون ، والسبرات بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة : جمع سبرة ، وهي شدة البرد ، وعزاه شيخنا في تخريج أحاديث الفردوس إلى أحمد والترمذي عن معاذ رضي الله عنه أيضاً وقال : وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه عند أحمد بن منيع وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وأبي رافع وأبي أمامة وأبي عبيدة وأسامة وجابر بن سمرة وجبير بن مطعم وأسامة بن عمير وأنس رضي الله عنهم عند أحمد ، فهذا اختصام سبب العلم بتفاصيله الاختصام الأول وهو ما شأن آدم عليه السلام وذريته ، والعلم الموهوب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب السؤال عن هذا الاختصام كالعلم الموهوب لأبيه آدم عليه عليه السلام بسبب ذك الاختصام ، وهذا الاختصام والله أعلم هو اختلافهم في مقادير جزاء العاملين من الثواب المشار إليه(6/408)
صفحة رقم 409
بالدرجات الحامل عليها العقل الداعي إلى أحسن تقويم ، والعقاب المشار إليه بالكفارات الداعي إلى أسبابها الوساس الشيطانية الرادة إلى أسفل سافلين التي سأل إبليس الإنظار لأجلها ، وسبب اختلافهم في مقادير الجزاء اختلاف مقادير الأعمال الباطنة من صحة النيات وقة العزائم وشدة المجاهدات ولينها على حسب دواعي الحظوظ والشهوات التي كان سبب علمهم بهذا الاختصام في أمر آدم عليه السلام وما نشأ عنه تفصيله بأمور دقيقة المأخذ المظهرة لأن الفضل في ذلك اختصاماً دلالة على عظمة ما تقاولوا فيه ، لأن الخصومة لا تكون إلا بسبب أمر نفيس ، فالمعنى أن الملائكة كل واحد منهم مشغول بما أقيم فيه من الخدمة ، فليس بينهم تقاول يكون بغاية بغاية الجد والرغبة كما هو شأن الخصام إلا في هذا لشدة عجبهم منه لما يعملون من صعوبة هذه الأمور على الآدمي لما عنده من الشواغل والصوارف عنها بما وهبهم الله من العلم جزاء لانقيادهم للطاعة بالسجود بعد ذلك الخصام فنزوع الآدمي عن صوارفه وحظوظه إلى ما للملائكة من الصفوف في الطاعة والإعراض أصلاً عن المعصية غاية في العجب ، وعلمه ( صلى الله عليه وسلم ) لما في السماوات وما في الأرض علم عام لما كان في حين الرؤيا ظهر له به ملكوتهما ، ونسبة ذلك كله إلى علم الله تعالى كالنسبة التي ذكرها الخضر لموسى عليهما السلام وفي نفرة العصفور من البحر ، والذي ذكره العلماء في ذلك أنه تقريب للإفهام فإنه لا نسبة في الحقيقة لعلم أحد من علمه تعالى ولا بنقص علمه أصلاً سبحانه عما يلم بنقص أو يدني إلى وهن
77 ( ) قل لو كان البحر مداداً ( ) 7
[ الكهف : 109 ]
77 ( ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( ) 7
[ لقمان : 27 ]
77 ( ) يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا ( ) 7
ويقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ناس اختلجوا دونه عن حوضه ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟ فيقول : فسحقاً سحقاً ) .
ولما تم ما أراد من الدليل على أن ما ذكره لهم نبأ عظيم هم عنه معرضون بما أخبر به من الغيب مع ما له من الإعجاز ، فثبت بذلك ما اقتضى أنه صادق في نسبته إلى الله تعالى ، وختم بالتحذير من اتباع إبليس ، أمره بالبراءة من طريقه وأن ينفي عن نفسه ما قد يحمل على التقول بقوله : ( قل ) أي لأمتك : ( ما أسئلكم ( سؤالاً مستعلياً ، وعلق به لا ( بأجر ) قوله : ( عليه ) أي على التبليغ والإنذار مما أنتم متعرضون له من الهلاك بالإعراض ، فأداة الاستعلاء للاحتراز عن سؤال المودة في القربى وحسن الاتباع(6/409)
صفحة رقم 410
فإنهما مسؤولان وهما روح الدين ، ولكن سؤالهما ليس مستعلياً على الإبلاغ بحيث إنهما لو انتفيا انتفى ، وأعرق في النفي بقوله : ( من أجر ) أي فيكون لكم في الرد شبهة ) وما أنا من المتكلفين ) أي المتحلين بما ليسوا من أهله من قول ولا فعل ، الذين يكلفون أنفسهم تزوير الكلام والتصنع فيه وترتيبه على طريق من الطرق بنظم أو نثر سجع أو خطب أو غير ذلك ، أو وضع أنفسهم في غير مواضعها ، كما فعل إبليس ، لست منهم بسبيل ولا أعد في عدادهم بوجه ، لا أفعل أفعالهم ولا أحبهم ولا أتعصب لهم ، فهو أبلغ من ( وما أنا متكلفاً ) قد عرفتموني طول عمري كذلك ، ومن المعلوم أن ذلك لو كان في غريزتي لما كففت عنه طول زماني النمو من الصبي والشباب اللذين توجد فيهما الغرائز ولا توجد بعدهما ، فإذا ثبت أن ذلك لم يكن لي إذ ذاك ثبت أنه متعذر بعده ، لما تقرر من أنه لا توجد غريزة بعد الوقوف عن النمو في سن الثلاث والأربعين ، فإذا علم أني لست كذلك علم أني مأمور بما أنا فيه من القول والفعل ، فأنا من المكلفين لا المتكلفين ، فكل من قال أو فعل ما لم يؤمر به فهو متكلف ، وروى الثعلبي بسنده من حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه مرفوعاً والبيهقي في الشعب من قول علي بن أرطاة وأبو نعيم في الحلية من قول وهب : علامة المتكلف ثلاث : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم .
ولما أثبت المقتضيات لأنه من عند الله وأزال الموانع ، بين حقيقته التي لا يتعداها إلى ما نسبوه إليه بقوله : ( إن ) أي ما ) هو إلا ذكر ) أي عظة وشرف ) للعالمين ) أي كلهم يفهم كل فرد ما تحتمله قواه ذكياً كان أو غبياً على ما هو عليه من العلو الذي لا يدانيه فيه كلام بخلاف الشعر والكهانة التي محطها السجع والكذب في الإختبار ببعض المغيبات ، فإنهما مع سفول رتبتهما لا يفهمهما من العالمين إلا ذاك وذاك .
ولما كان التقدير : أنا عالم بذلك ، عطف عليه قوله جواباً لقسم : ( ولتعلمن ) أي أنتم أيضاً ) نبأه ) أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه عنه من الأخبار العظيمة وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة وختامهم بخليفة من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة ، وكثرتكم تصير إلى قل ، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه ، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته ، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض على يد ابنه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي وأنصاري(6/410)
صفحة رقم 411
وأشياعي ، وترك الجار إعلاماً باستغراق العلم لزمان البعد فقال : ( بعد حين ) أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم وفي الآخرة مطلقا ، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها ، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه ، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم ، وجمع فيه من شريف الرسوم ، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان ، وإلى أن ينفى كل فان ، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران ، فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكراً ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد ، فانعطف الآخر على الأول ، واتصل به أحسن اتصال وأجمل ، ونظر إلى أول الزمر اعظم نظر وأكمل ، فلله در هذا الانتظام ، فهو لعمري أضوأ من شمس الضحى وأتم من بدر التمام ، فسبحان من أنزله و - أجمله وفصله ، وفضله وشرفه وكرمه والله أعلم .
.. .(6/411)
صفحة رقم 412
سورة الزمر
مقصودها الدلالة على أنه سبحانه وتعالى صادق الوعد ، ، أنه غالب لكل شيء ، فلا يعجل لأنه لا يفوته شيء ، ويضع الأشياء في أوفق محالها يعرف ذلك أولو الألباب المميزون بين القشر واللباب ، وعلى ذلك دلت تسميتها الزمر لأنها إشارة إلى أنه أنزل كلا من المحشورين داره المعدة له بعد الإعذار في الإنذار ، والحكم بينهم بما استحقته أعمالهم ، عدلا منه سبحانه في أهل النار ، وفضلا على المتقين الأبرار ، وكذا تسميتها ) تنزيل ( لمن تأمل آيتها ، وحقق عبارتها وإشارتها ، وكذا ) الغرف ( ، لأنها إشارة إلى حكمه سبحانه في الفريقين أهل الظلل النارية والغرف النورية ، تسمية للشيء بأشرف جزئيه ، فالقول فيها كالقول في الزمر سواء ، ويزيد أهل الغرف ختام آيتهم ) وعد الله لا يخاف الله الميعاد ( ) بسم الله ( الذي تمت كلمته فع أمره ) الرحمن ( الذي وضع ، رحمته العامة أحكم وضع فدق لذي الأفهام سره ) الرحيم ( الذي خص أولياءه بالتوفيق لطاعته فعمهم بره .
الزمر : ( 1 - 3 ) تنزيل الكتاب من. .. . .
) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( ( )
لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد ، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين ، وأن كل ما فيه لا بد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة ، فكانوا ربما قال متعنتهم : ما له إذا كان قادراً لا يعجل ما يريده بعد حين ، علل ذلك بأنه ) تنزيل ) أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين ، ووضع موضع الضمير قوله : ( الكتاب ( للدلالة على(6/412)
صفحة رقم 413
جمعه لكل صلاح ، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان ، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله : ( من الله ) أي المتصف بجميع صفات الكمال ) العزيز ( فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ) الحكيم ( الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها ، فلكونه منه لا من غيره كان ذكراً للعالمين ، صادقاً في كل ما يخبر به ، حكيماً في جميع أموره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء ، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدم ، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب ، فقال تعالى ) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( ) إنا أنزلناه إليك الكتاب بالحق فاعبد من دونه أولياء ( الآية في معرض أن لو قيل : عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص ، فسترى حاله ، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم ، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال ) لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ( الآية ، فنزه نفسه من عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه ) هو الله الواحد القهار ( ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد ، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل ، ثم بين تعالى أنه غني من الكل بقوله ) إن تكفروا فإن الله غني عنكم ( ثم قال ) ولا يرضة لعباده الكفر ( فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر ، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم أنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى ) ولا تزر وازرة وزر أخرى (
77 ( ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ( ) 7
[ الأسراء : 7 ] ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها ( ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة انتهى .
ولما أخبر أنه من عنده ، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير ، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً ، مبرزاً له أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه ، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن(6/413)
صفحة رقم 414
الحكم الجازم الذي لا مرد له : ( إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) أنزلنا ) أي بما لنا من العظمة ، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة ، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن قرب منه ويسره وسهولته لأمته فقال : ( إليك ) أي خاصة بواسطة الملك ، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك ، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس ، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف ) الكتاب ) أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي ، والكائن ، متلبساً ) بالحق ( وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره ، فالواقع تابع لأخباره ، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها ، لا حيلة له ولا لباس إلا الحق ، فلا دليل على كونه من عنده من ذلك ، فليتبعوا خبره ، ولينظروا عينه وأثره .
ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد ، ثبت أنه سبحانه الإله وحده ، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلخط جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيماً لقدرها لأنها المقصود بالذات : ( فاعبد الله ) أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك ) مخلصاً ( والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة ) له ) أي وحده ) الدين ( بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخساً عنك الأعداء ، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص انه لا سبيل للشيطان عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم ، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم ، قال الرازي : قال الجنيد : الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال ، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال ، وهو إفراد الله بالعمل ، وفي الخبر ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) .
ولما أمره سبحانه بهاذ الأمر ، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه ، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره ، فقال في جواب من كأنه قال : لم منعه من الالتفات إلى غيره ؟ منادياً إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحداً يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعاً أو كارهاً : ( إلا الله ) أي الملك الأعلى وحده ) الدين الخالص ( لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد ، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما ما لك من شيء فكذلك(6/414)
صفحة رقم 415
ينبغي أن تفرده بالطاعة ، ولأنه إذا عبده أحد مخلصاً كفاه كل شيء ، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئاً من الأشياء فضلاً عن كل شيء والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد الخمس المثبتة بالإخلاص المحض الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه ، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها ، وإنما استحقه سبحانه دون غيره لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه ، وأما ما كان فيه أدنى شرك فهو رد على عامله والله غني حميد ، وهذه كما ترى مناداة لعمري تخضع لها الأعناق فتنكس الرؤوس ولا يوجد لها جواب إلا بنعم وعزته وأي وكبريائه وعظمته ، قال القشيري : وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد اللهم إلا أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فأطاعه لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه ، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص ، قال ابن برجان : وذلك أي ترك الإخلاص كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى ، ثم قال ما معناه : إن ذلك من الشرك ، وهو ثلاثة أنواع : شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهاً آخر ، وهو شرك المجوس والمجسمة : والوثنية ، ويضاهيه غلط القدرية ، الثاني شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس ، والثالث الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية ، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهار ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره ، ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله أن تتزين لغيره بعمل إلهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك ، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك ، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفاً ، وذلك كالشجرة إذا ظهرت عروقها ضعف شربها ، وأضر بها حرارة الهواء وبرده ، وتعرضت للآفات من قطع ويبس وغير ذلك ولم تحسن فروعها وخف ورقها فقل نفعها ، وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات وأمنت القطع من أيدي الناس ، فكثر شربها فجرى ماؤها فيها ، فتزايدت لذلك فروعها واخضر ورقها وكثر خيرها وطاب ثمرها لجانيها ، فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه وطهر من الأدناس وكثر خيره وطاب ثوابه لعامله ، وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين ، وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه إلا العجب ومحبة أن يطلع عليه ، وهي الشهوة الخفية ، ومن قولهم ( من عرف الله بعد الضلالة وعرف الإخلاص بعد الرياء وأنزل الموت حق منزلته لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه ) انتهى .(6/415)
صفحة رقم 416
ولما أخبر سبحانه عما له وحده ، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها ، وأرشد السياق إلى أن التقدير : فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره ، وإن اشتد الإشكال ، وتراكمت وجوه الضلال ، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال ، والغي والمحال ، فقال محذراً من مثل حاله ، بما حكم عليه في مآله : ( والذين ( ولما كان الإنسان مفطوراً على الخضوع للملك الديان ، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان ، عبر بصيغة الافتعال فقال : ( اتخذوا ) أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا ، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله : ( من دونه ( ومعلوم أن كل شيء دونه ) أولياء ) أي يكلون إليهم أمورهم ، ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله مع اعترافهم بان الله تفرد بخلقهم ورزقهم .
ولما كان من العجب العجيب فعلهم ، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال : ( ما ) أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه ولياً : ما ) نعبدهم ( لشيء من الأشياء ) إلا ليقربونا ( ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال : ( إلى الله ( الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ، تقريباً عظيماً على وجه التدريج ويزلفونا إليه ) زلفى ) أي تقريباً حسناً سهلاً بهجاً زائداً نامياً متعالياً ، قال القشيري : ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بإذنه ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم ، فرد الله عليهم ، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت ، فكل ذلك اتباع هوى انتهى والاية من الاحتباك : ذكر فعل التقريب أولاً دليلاً على فعل الزلف ثانياً ، واسم الزلف ثانياً دليلاً على الاسم من التقريب أولاً ، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم ، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين وأوضحهما ، وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها ، وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول ، وهم أهل الاتحاد الذين لا أسخف من عقولهم ولا أجمد من أذهانهم .
ولما كان إنما محط دينهم الهوى ، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه ، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيراً فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة ، ولذلك كلن لكل قبيلة ممن يعبد(6/416)
صفحة رقم 417
الأصنام صنم غير صنم الأخرى وكان بعض القبائل يعبد الشعرى ، وبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم غير ذلك
77 ( ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون ( ) 7
[ المؤمنون : 53 ] نبه على ذلك مهدداً لهم بقوله مخبراً مؤكداًَ لأجل إنكارهم : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال : ( يحكم بينهم ( من غير تاكيداً آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل .
ولما كانوا أوزاعاً أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها ، قال : ( في ما ) أي في الدين الذي والأمر الذي .
ولما كان تحكيمهم للهوى موفراً لدواعيهم على الاختلاف ، وكان الاتخاذ الذي يبنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال : ( هم ) أي بضمائرهم ) فيه تختلفون ) أي ليس لهم أصل يضبطهم ، فهو لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقبلوا لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف ، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم ، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون عنها ليس خلافاً بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله ، ومن هذا إنكار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على عمر وأبي وغيرهما رضي الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فى تختلفوا ) فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نقلاً أو اجتهاداً لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه - والله الموفق ، ويجوز أن يكون الضمير في ( بينهم ) لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود ، فهم من يعبدهم في غاية الخلاف .
ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحاً إلا أن انتظم بنظام غير مختل ، وكان الدين إذا كان معوجاً داعياً إلى التفرق منادياً على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضياً للتعجب ممن تدين به ، فضلاً عمن يدوم عليه ، فضلاً(6/417)
صفحة رقم 418
عمن لا ينتبه عند التنبيه ، فضلاً عمن يقاتل دون ذلك ، أجاب من كأنه قال : سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعاً الاختلاف بالفعل أو بالقوة ، فقال مؤكداً تكذيباً لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن ظهر لبعض وإنما هي استدراج .
ولما أرشد السياق إلى أن المعنى : لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم ، نسق به قوله : ( إن الله ) أي الملك القادر القاهر تنفيرا عنه قال : ( لا يهدي ) أي لا يخلق الهداية في قلب ) من هو ) أي لضميره ) كاذب ) أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئاً يقرب إليه بغير إذنه ، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم ، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضراً ولا نفعاً ، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم .
ولما كان من كفر في حين الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان ، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال ) كفار ( بصيغة المبالغة ، والأحسن أن يقال : إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه سبحانه الموت على ذلك ، قال القشيري : والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي شيئاً ليس بصادق فيه فالله لا يهديه إلى ما فيه سداده ورشده ، وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوه وذوقه .
الزمر : ( 4 - 6 ) لو أراد الله. .. . .
) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( ( )
ولما أخبر سبحانه بالحكم بينهم ، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً ينفي الشريك ، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم ، فلم يبق في ذيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الوليدة ، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن(6/418)
صفحة رقم 419
يقول : فما حال من يتولى الولد ؟ - قال القشيري : والمحال على جهة افبعاد أن لو كان كيف حكمه - : ( لو أراد الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ) أن يتخذ ) أي يتكلف كما هو دأبكم ، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً ) ولداً ) أي كما زعم من زعم ذلك ، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً ، وكان الله قادراً على كل شيء ، عدل عن أن يقول ) لاتخذ ( إلى قوله : ( لاصطفى ) أي اختار على سبيل التبني ) مما يخلق ) أي يبدعه في أسرع من الطرف ، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال : ( ما يشاء ) أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إيتان الولد من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك .
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد الأبناء ، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن ، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه ، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام ، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات ، فكنتم كاذبين من جهتين ، هذا غاية الإمكان ، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا ، بل هو مما يحيله العقل ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً ، قال ابن برجان ما معناه : كان معهود الولادة لا يتصور على وجهين ، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة روحماً ، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود ، ولا في الأمكان تمكن ، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه ، وولد بمعنى التنبي والاتخاذ ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن ، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا ، فلما أعضل بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك ، وكشف معنى الاصطفاء ، وأظهر معنى الولاية ، ونسخ ذلك بهذا ، لأن هذا لا يداخله لبس ، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر .
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع ، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل باالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود ، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد ، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام ، فقال : ( سبحانه ) أي له التنزيه التام عن كل نقيصة ، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال : ( هو ) أي الفاعل لهذا الفعال ، والقائل لهذه الأقوال ، ظاهراً وباطناً ) الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ثم ذكر من(6/419)
صفحة رقم 420
الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال : ( الواحد ) أي الذي لا ينقسم أصلاً ، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه ) القهار ) أي الذي له هذه الصفة ، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار ، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً ، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله .
ولما أثبت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد ، وأثبتت له الكمال المطلق ، دل عليها بقوله : ( خلق السماوات والأرض ) أي أبدعهما من العدم ) بالحق ) أي خلقاً متلبساً بالأمر الثابت الذي ليس بخيال ولا سحر ، على وجه لا نقص فيه بوجه ، ولا تفاوت ولا خلل يقول أحد فيه مناف للحكمة ولما كان من أدل الأشياء على صفتي الوحدانية والقهر ، وتمام القدرة وكمال الأمر ، بعد إيجاد الخافقين اختلاف الملوين ، وكان التكوير - وهو إرادة الشيء على الشيء بسرعة وإحاطته به بحيث يعلو عليه ويغلبه ويغطيه - أدل على صفة القهر من الإيلاج ، قال مبيناً لوقت إيجاد الملوين : ( يكور ) أي خلقهما أي صورهما في حال كونه يلف ويلوي ويدير فيغطي مع السرعة والعلو والغلة تكويراً كثيراً متجدداً مستمراً إلى أجله ) الّيل على النهار ( بأن يستره به فلا يدع له أثراً ، ولعظمة هذا الصنع أعاد العامل فقال : ( ويكور النهار ( عالياً تكويره وتغطيته ) على الّيل ( فيذهبه كذلك ويدخل في هذا الزيادة في كل منهما بما ينقص من الآخر لأنه إذا ذهب احدهما وأتى الآخر مكانه ، فكأن الآتي لف على الذاهب وألبسه كما يلف اللباس على اللابس ، أو أنه شبه الذاهب في خفائه بالآتي بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامع الأبصار ، أو أن كلاًّ منهما لما كان يكر على الآخر كروراً متتابعاً شبه ذلك بتتابع أكوار بعضها على بعض ، فتغيب ما تحتها .
ولما كانت الظلمة سابقة على الضياء ، وكان الليل إنما هو ظلمة يسبقها ضياء بطلوع الشمس ، رتب سبحانه هذا الترتيب على حسب الإيجاد ، ولذلك قدم آية النهار فقال معبراً بالماضي بخلقه الآيتين مسخرتين على منهاج معلوم لكل منها لا يتعداه ، وحد محدود لا يتخطاه ) وسخر ) أي ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر ) الشمس ) أي التي محت ما كان من الظلام فأوجبت اسم النهار ) والقمر ) أي آية الليل .
ولما أخبر بقهرهما ، بين ما صرفهما فيه ، فقال بياناً لهذا التسخير : ( كل ) أي منهما ) يجري ) أي بقضائنا الذي لا مرد له ، وهذا آية لاختلاف أحوال العبد لأن خلقه جامع ، فيختلف في القبض والبسط والجمع والفرق والأخذ والرد والصحو(6/420)
صفحة رقم 421
والسكر ، وفي نجوم العقل ، واقمار العلم ، وشموس المعرفة ، ونهار التوحيد ، وليل الشك والجحد ، ونهار الوصل وليالي الهجر والفراق ، وكيفية اختلافها وزيادتها ونقصانها - قاله القشيري .
ولما كان مقصود السورة العزة التي محطها الغلبة ، وكان السياق للقهر ، وكان القضاء لعلة لا يتخلف عنها المعلول أدل على القهر من ذكر الغاية مجردة عن العلة قال : ( لأجل مسمى ) أي لمنتهى الدور ومنقطع الحركة .
ولما ثبت بهذا قهره ، قال منادياً رشقاً في قلوب المنكرين : ( ألا هو ) أي وحده ) العزيز ( ولما كان ربما قال متعنت : فما له لا يأخذ من يخالفه ؟ وكانت صفة القهر والعزة ربما أقنطت العصاة فأخرتهم عن الإقبال ، قال مبيناً لسبب التأخير ومستعطفاً : ( الغفار ) أي الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة فيمحو ذنوب من يشاء عيناً ، وأثراً بمغفرته ويأخذ من يشاء بعزته .
ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله ، وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها ، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته ، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق ، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب ، وترقيهم في عُلا الأسباب ، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له : ( خلقكم ) أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره ) من نفس واحدة ( هي آدم عليه السلام .
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها ، قال عاطفاً على ما تقديره : أوجدها من تراب ، مبيناً بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهاً بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده ، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضاً بأن ذلك - لكونه شديد المباينة لأصله - من أعجب العجب : ( ثم ) أي بعد حين ، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له سبحانه من صفات الكمال فقال : ( جعل منها ) أي تلك النفس ) زوجها ) أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه : قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه ، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا(6/421)
صفحة رقم 422
تنقصون وأن تفيض منه زوجه ، وذلك قبل خلق حواء منه ، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضاً منه فالكل منه ، ولهذا ورد الحديث في مسند أحمد بن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خلق الله آدم يوم خلقه وضرب على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر ، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم ، فقال للذي في يمينه : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال للذي في يساره : إلى النار ولا أبالي .
) ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر ، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو ، وكان أكثر الأنعام أشد الإنسان ، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً عن قوته وإيهاناً لشدته ، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال : ( وأنزل لكم ) أي خاصة ) من الأنعام ) أي الإبل بنوعيها ، والبقر كذلك ، والضأن والمعز .
ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه ، واقتصر على ما عندهم ، وقال : ( ثمانية أزواج ) أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى ، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به ، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأناثها على انفراده ، لا أن أحداً منها من صاحبه ، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي .
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل : ( يخلقكم ) أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر ) في بطون أمهاتكم ( ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره ، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر : ( خلقاً ( ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال : ( من بعد خلق ) أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار .
ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا في التطوير الرابع ، وكان الجهل ظلمة قال : ( في ظلمات ثلاث ( ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة ، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل ، وصار آخر ، وقيل ؛(6/422)
صفحة رقم 423
ظلمة البطن والرحم والمشيمة - نقل ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام .
ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر ، قال مستأنفاً ما أنتجه الكلام السابق معظماً باداة البعد رميم الجمع : ( ذلكم ) أي العالي المراتب شهادتكم أيها الخلق كلكم ، بعضكم بلسان قاله ، وبعضكم بناطق حاله ، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله ، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد ، أخبر عن اسم الإشارة فقال : ( الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفاً : ( ربكم ) أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق .
ولما كان المربي قد لا يكون ملكاً قال نتيجة إلهاً ، قال مثبتاً له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو بمنزلة نتيجة النتيجة : ( لا إله إلا الله ( .
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه ، لأن الكل تحت قهره ، وشمول نهيه وأمره ، سبب عنه قوله : ( فأنى ) أي كيف ومن أي وجه ) تصرفون ) أي قهراً عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيماً ، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض ، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها ، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قرهاً ؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول ، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة .
الزمر : ( 7 - 9 ) إن تكفروا فإن. .. . .
) إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ ( ( )
ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج ، بين ما على من غطاها بالإصرار ، وما لمن تاب ورجع التذكار ، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى ، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما(6/423)
صفحة رقم 424
تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر ، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد : ( إن تكفروا ) أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك ) فإن الله ( لأنه جامع لصفات الكمال ) غني حكيم ) أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم ، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه ، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم ) ولا يرضى ( لكم - هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه ، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال : ( لعباده ) أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم ) الكفر ( بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف ، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه ) وإن تشكروا ) أي بالعبادة والإخلاص فيها ) يرضه ) أي الشكر الدال فعله ) لكم ) أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله ، والقسمان بإرادته ، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر - والله أعلم ، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه .
ولما كان في سياق الحكم والقهر ، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم ، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال : ( ولا تزر وازرة ) أي وازرة كانت ) وزر أخرى ( بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل ، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره ، وإنما هو وزر نفسه ، فوزر الفاعل على الفعل ، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي ) ثم إلى ربكم ) أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به ) مرجعكم ) أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء .
ولما كان الجزاء تابعاً للعلم ، قال معبراً عنه به : ( فينبئكم ) أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً ) بما كنتم تعملون ) أي بما كان في طبعكم العمل به سواء علمتموه بالفعل أم لا يجازيكم عليه إن شاؤ .
ولما كان المراد - كما أشار إليه بكان - الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة ، حسن التعليل بقوله : ( أنه عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم ، وذلك بما دلت عليه الصحبة - كل ما لم يبرز إلى الخارج ، فهو بما برز أعلم .(6/424)
صفحة رقم 425
ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده ، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه ، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال : ( وإذا ( وهي - والله أعلم - حيالة من واو ) تصرفون ( وكان الأصل : مسكم ، ولكنه عموم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال : ( مس الإنسان ) أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره ) ضر ) أي ضر كان من جهة يتوقعها - بما أشار إليه الظرف تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله ( ذلكم الله ربكم ) ذاكراً صفة إحسانه ) منبياً ) أي راجعاً رجوعاً عظيماً ) إليه ( بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيهر ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزل عنه الأمومة والحظوظ ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد .
ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه ، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب ، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال : ( ثم ) أي بعد استبعاده جداً .
ولما كان الرخاء محقاً ، وهو أكثر من الشدة ، عبر بأداة التحقق ، فقال منبهاً بالتعبير ب ( خول ) على أن غطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه متمكناً ابتداء ، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده ) نعمة منه ( ومكنه فيها ) نسي ) أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان ، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه ، فعلم أن صلاحه بالضراء ) ما ) أي الأمر الذي ) كان يدعوا ( ربه على وجه الإخلاص ) إليه ( إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان ، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال : ( من قبل ) أي قبل حال التخويل بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال : ( لله ) أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع ) أنداداً ) أي لكونه يتأهلهم ، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة ، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه ، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً ، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم .
ولما كان ذلك في غاية الضلال ، لكونه - مع أنه خطأ - موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس ، وكان هذا(6/425)
صفحة رقم 426
الضلال في غاية الظهور ، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة ، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه ، فقال مشيراً إلى ذلك كله : ( ليضل ) أي بنفسه عند فتح الياء ، ويضل غيره عند من ضمها ) عن سبليه ) أي الطريق الموصل إلى رضوانه ، الموجب للفور بإحسانه .
ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب ، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت - بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه - كافراً من غير شك عند ذي عقل ، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار ، والتمتع الصافي عن الأكدار ، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار ، فقال تعالى مبيناً لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب ) قل ) أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب ، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر : ( تمتع ) أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها - مع كونه زائلاً - يفيض إلى الله ، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله .
ولما ذكر تمتيعه بالخسيس ، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمنيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال : ( بكفرك ( ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال : ( قليلاً ( ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال : ما رأيت نعيماً قط ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار ، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم ، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها : ( إنك ( وهذا الأمر هنا يراد به الزجر ، تقديره : إن تمتعت هكذا كنت ) من أصحاب النار ) أي الذين لم يخلفوا إلا لها
77 ( ) ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ( ) 7
[ الأعراف : 179 ] .
ولما أرشدت ( أم ) قطعاً في قراءة من شدد إدغاماً لإحدى الميمين في الأخرى أن التقدير شرحاً لأحوال المؤمنين بعد أحوال المشركين : أهذا - الذي يدعو الله مرة ، وغيره ممن يجعله له نداً اخرى - أسد طريقة وأقوم قيلاً : ( أمّن هو ( والتقدير في قراءة نافع وابن كثير وحمزة بالتخفيف : أمن هو بهذه الصفة خير أم ذلك الكافر الناسي لمن أحسن إليه ، ويرجح التقدير بالاستفهام دون النداء إنكار التسوية بين العالم الذي حداه علمه(6/426)
صفحة رقم 427
على القنوت والذي ى يعلم حقيقة أو مجازاً لعدم الانتفاع بعلمه ) قانت ) أي مخلص في عبادته الله تعالى دائماً ) آناء الّيل ) أي جميع ساعاته .
ولما كان المقام للإخلاص ، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار ، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال ، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه ، لأنه خاص بالله تعالى ، قال : ( وقائماً ) أي وقاعداً ، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه ، والآية من الاحتباك : ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود ، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن السجود يدل على العبادة ، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة ، وذلك مع الإيذان بانهما أعظم الأركان ، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين للعبادة ، لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرهم ، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد ، فلما ضم إليها الركوع تمخضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم .
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان ، وكان ذلك في محل الغفران ، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان ، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول : ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد : ( يحذر الآخرة ) أي عذاب الله فيها ، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه .
ولما ذكر الخوف ، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال : ( ويرجوا رحمة ربه ) أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه .
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع ، وكان العلم لا ينفع كالجهل أو الجهل خير ، كان جواب ما تقدم من الاستفهام : لا يستويان ، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل .
فأمره بالجواب بقوله : ( قل ) أي لا يستويان ، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل ، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل له : ( هل يستوي ) أي في الرتبة ) الذين يعلمون ) أي فيعلمون على مقتضى العلم ، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين ) والذين لا يعلمون ( فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإغراض على مقتضى العلم فصاروا لا علم لهم لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد اصلاً لعبده أن يخالف أمره ، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة
77 ( ) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ( ) 7
[ آل عمران : 188 ] أن يقول الناس : علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا حق .(6/427)
صفحة رقم 428
ولما كان مدار السداد التذكر .
وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم ، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً ، بل العدم خير منه ، قال : ( إنما يتذكر ) أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره ) أولوا الألباب ) أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى : ( ) الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ( ) [ آل عمران : 191 ] إلى آخرها ، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء لأن السياق للإخلاص ، قال الرازي في اللوامع : قال الإمام محمد بن علي الترمذي : خلق الله تعالى الأشياء مسخرة للآدمي ، وخلق الآدمي للخدمة ، ووضع فيه أنواره ليخرج الخدمة لله تعالى من باطنه بالحاجة ، فالآدمي مندوب إلى العلم بالله تعالى وبأوامره حسب ما خلق له ، والخدمة والقنوت بقلبك بين يديه ماثلاً منتصباً محقاً مبادراً مسارعاً سائقاً مركبك في جميع أمورك بالحب له ، وعلم الخدمة علم البساطين : بساط القدرة وبساط العبودة فإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر وهو أن تعرف نفسك وتركيبك من روحاني وجسماني ، وطالعت بساط العبودة بكياسة تامة أدركت تدبيره في العبودة وباطن أمره ونهيه وعلل التحريم والتحليل ، وبسط الله بساط الربوبية من باب القدرة ، وبسط بساط العبودة من باب العظمة ، ثم كان آخر خلقه سبحانه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين ، وجميع فيه العالمين ، وزاد على ما فيهما من قبول الأمر اختياراً وطوعاً ، وكل شيء أعطاك إنما أعطاك لتبرزه إلى جوارحك ، وتستعمله فيما خلق له ، فلو لم يعطك منك ، فلا تطلب الزكاة ممن لا مال له ، ولا الصلاة قياماً ممن لا رجل له .
الزمر : ( 10 - 13 ) قل يا عباد. .. . .
) قُلْ يعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما ثبت أن القانت خير ، وكان المخالف له كثيراً ، وعلى أعظم حامل على القنوت التقوى ، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل ، وكان الإنسان - لما له من النقصان - أحوج شيء إلى التثبيت ، وكان التثبيت من المجانس ، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر ، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال : ( قل ( ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف ، وتوالي الزالزل والمتالف ، إلا إذ كان عن الملك ، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق ، فقال : ( يا عباد ( دون أن يقول : يا عباد الله ، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن(6/428)
صفحة رقم 429
التقدير .
قال الله ، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية ، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه : ( الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها .
ولما كان الإحسان ربما جرأ على المحسن ، أشار سبحانه إلى سداد قزل العارفين ( اجلس على البساط وإياك والانبساط ) ونبه بلفت القول على مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً ، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً ، وخوفاً وانسكاراً ، مما أقله قطع الإحسان فقال : ( اتقوا ربكم ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم ، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى .
ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا : فما لنا إن فعلنا ؟ قال مجيباً معللاً : ( للذين أحسنوا ) أي لكم ، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه ، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال : ( في هذه ( باسم الإشارة زيادة في التعين ) الدنيا ) أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه ) حسنة ) أي عظمية في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب ، ويجوز أن يكون معنى ) أحسنوا ( أوقعوا الإحسان ، ومعلوم أنه في هذه الدنيا ، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً ، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا ، فالأول حسن .
ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان ، ويحمله على العصيان ، حيث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه ذلك المانع ، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل :
وإذا نبا بك منزل فتحول
فقال : ( وأرض الله ) أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة ) واسعة ( ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء ، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين ، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة .
ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً ، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال : ( إنما يوفى ) أي التوفية العظمية ) الصابرون ) أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها ) أجرهم بغير(6/429)
صفحة رقم 430
حساب ) أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل ، وكل عمل عده وحصرؤه إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس ، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره ، وتتعاظم آثاره ، بحسب الهمم في علوها وسفولها ، وسموها ونزولها ، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال - لم يكن عليه حساب ، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت امرأة بما لمم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ، ادع الله لي ، قال ( إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك ) قالت : بل أصبر ولا حساب علي .
ولما كانت الأعين ناظرة إلى الأمر هل يفعل ما يأمر به ومقيده بالرئيس لتأتسي به ، وكان أعظم الصابرين من جاهد نفسه حتى خلص أعمالها من الشوائب وحماها من الحظوظ والعوائق ، وصانها من الفتور والشواغل ، أمره بما يرغبهم في المجاهدة ، ويكشف لهم عن حلاوة الصبر ، بقوله : ( قل ( ولما كان الرئيس لقربه من الملك بحيث يظن أنه يسامحه في كثير مما يكلف به غيره أكد قوله : ( إني أمرت ( وبني الفعل لما لم يسم فاعله تعظيماً للأمر بأنه قطع ومضى بحيث لم يبق فيه مشوبة ، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه قوله : ( أن أعبد الله ) أي الذي خلق كلهم سواء بالنسبة إلى قبضته وعلوه وعظمته لأنه غني عن كل شيء ) مخلصاً له الدين ) أي العبادة التي يرجى منه الجزاء عليها .
ولما كان الرئيس إذا سابق إلى شيء شوق النفوس إليه ، وأوجب عليها العكوف عليه قال : ( وأمرت ) أي ، وقع الأمر لي وانبرم بأوامر وعظيمة وراء ما أمرتم به ى تطيقونها ) لأن ) أي لأجل أن ) أكون ( في وقتي وفي شرعي ) أول ) أي أعظم ) المسلمين ) أي المنقادين في الرتبة الحائزين قصب السبق بكل اعتبار لأوامر الإله الذي لا فوز إلا بامتثال أوامره أو أسبق الكائنين منهم في زماني ، فجهة هذا الفعل غير جه الأول ، فلذلك عطف عليه لأنه لإحراز قصب السبق ، والأول لمطلق الإخلاص في العبادة .
ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب ، وكان ربما يظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى ، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين(6/430)
صفحة رقم 431
أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى : ( قل ) أي لأمتك ، وأكد - لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف - قوله ) إني أخاف ) أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما عبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة ، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان ، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال : ( إن عصيت ربي ) أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له ) عذاب يوم عظيم ( وإذا كان اليوم عظيماً ، فكيف يكون عذابه .
الزمر : ( 14 - 19 ) قل الله أعبد. .. . .
) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يعِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ( ( )
ولما بين ما أمر به ، وأعلم أنه يخاف ممن مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به ، امؤه سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح من المزية ما لا يخفى فقال : ( قل الله ) أي المحيط بصفات الكمال وحده ) أعبد ( تخصيصاً له بذلك ، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً ) مخلصاً له ( وحده ) ديني ) أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر ، فصارت الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية .
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أقواهم قلباً وأصفاهم لباً ، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً ، كان خوف غيره من باب الأولى ، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديداً بقوله : ( فاعبدوا ) أي أنتم أيها أو غيره .
ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله : ( من دونه ( فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه ، ولا إحسان إلا إحسانه ، فإذا انقطع حل كل سوء ، وفي ذلك جميع الخسارة .(6/431)
صفحة رقم 432
ولما كانوا يدعون الذكاء ، ويفعلون ما لا يفعله عاقل ، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال : ( الذين خسروا أنفسهم ) أي بدخولهم على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال : ( وأهليهم ) أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم ، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه ، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم .
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات ، قال : ( يوم القيامة ( لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول .
كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه وتعريف الخبر ووصفه : ( إلا ذلك ) أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً ) وهو ) أي وحده ) الخسران ( أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات ، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله : ( المبين ( .
ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره ، فصله بقوله على طريق التهكم بهم : ( لهم ( فإن عادة اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الراحة ، أزال إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال : ( من فوقهم ظلل ( ولما أوهم ذلك الراحة ، أزال ذلك بقوله : ( من النار ( وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر .
ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون ، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب ، يصعدهم اللهيب تارة ، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى ، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار ، يغلي به صاعداً وسافلاً ، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله : ( ومن تحتهم ( .
ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة ، أعادها ولم يكتف بالأولى ، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال : ( ظلل ( ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمر بن جندب رضي الله عنه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال ( من رأى منكم الليلة رؤيا ) فسألنا يوماً قلنا : لا ، قال ( لكني رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة ) فذكره بطوله حتى قال ( فانطلقا إلى نقب مثل(6/432)
صفحة رقم 433
التنور أعلاه ضيق وأسفله ، توقد تحته نار ، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا فذكره ) وهو طويل عظيم ، ثم فسرهم بالزناة .
ولما كان هذا أمراً مهولاً ، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به ، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الشأن ) يخوف الله ) أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر ) به عباده ) أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً فيعيذهم منه .
ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته ، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال : ( يا عباد فائقون ) أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم .
ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت ، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد ، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال : ( والذين اجتنبوا ) أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان ( حفت النار بالشهوات ) ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم ، قال : ( الطاغوت ( وهو كل ما عبد من دون الله ، فلغوت من الطغيان وهو صيغة مبالغة ، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى ، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها ، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه ، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهو إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة ، فقال مبدلاً منها يدل اشتمال : ( أن يعبدوها ( .
ولما ذكر اجتناب الشرك ، أتبعه التزام التوحيد فقال : ( وأنابوا ) أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها ) إلى الله ) أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه ) لهم البشرى ( في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم ، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين : ( فبشر عباد ) أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ ) الذين يستمعون ) أي بجميع قلوبهم ) القول ) أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على شيء(6/433)
صفحة رقم 434
أعرضوا عن غيره بغير دليل ) فيتبعون ) أي بكل عزائمهم بعد انتقاده : ( أحسنه ( بما دلتهم عليه عقولهم من غير إلى أدنى هوى ، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم ، فإن كتب الله كلها حسنة ، وهذا القرآن أحسنها كلاماً ، ويعاني ونظاماً ، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق .
ولما بين عملهم ، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد : ( أولئك ) أي العالو الهمة والرتبة خاصة ) الذين ( ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره ، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم ، ) هداهم الله ( بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به ، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال ) أولئك الذين هدى الله ( فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية ، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال : ( وأولئك هم ) أي خاصة ) أولوا الألباب ) أي العقول الصافية عن شوب كدر .
ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين ، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض ، سبب عن أسقه عليهم قوله : ( أفمن حق ( وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم ) عليه كلمة العذاب ( بإبائه وتوليه ، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها ، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار ؟ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده ( صلى الله عليه وسلم ) من جبلة العطف والرقة على عباد الله : ( أفأنت تنقذ ) أي تخلص وتمنع وتنجي ، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه ) من في النار ( متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها ، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب ، وكان الأصل : أنت تنقذ من حق عليه العذاب ، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه ، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب ، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه ، فغيره من باب الأولى ، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله .
الزمر : ( 20 - 23 ) لكن الذين اتقوا. .. . .
) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ(6/434)
صفحة رقم 435
يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) 73
( ) 71
ولما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة وعدم تدبير ، بين ما لأضدادهم ، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى : ( لكن الذين اتقوا ربهم ) أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة ، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه ) لهم غرف ) أي علالي من الجنة يسكونها في نظير ظلل الكفار .
ولما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل ( من فوقهم ) كما قال في أهل النار وقال : ( من فوقها غرف ) أي شديدة العلو .
ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء ، لأن الغرفة أصلها العالي ، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة ، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار ، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما يعقل : ( مبنية ( .
ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء ، وكان الجاري أشرف وأحسن قال : ( تجري من تحتها ) أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوتن بين العلو والسفل ، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك ) الأنهار ( .
ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه ، بين أنه أمر لا بد منه بقوله ، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف : ( وعد الله ( مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر الدال على الفعل الناصب له ، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات ، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة : ( لا يخلف الله ) أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده .
ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه أبلغ من رعيه نفسه ، عبر بالمفعال فقال : ( الميعاد ( لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف .
ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث ، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها ، (6/435)
صفحة رقم 436
وخص المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً : ( ألم تر ) أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق ، وأرفت وتفرق : ( أن الله ) أي الذي له صفة كمال ) أنزل من السماء ) أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك ) ينابيع ) أي عيوناً فائرة ) في الأرض ( فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم ، قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا .
ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر ، عبر بثم ، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال : ( ثم يخرج ) أي والله ) به ) أي الماء ) زرعاً ( ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة ، قال : ( مختلفاً ألوانه ) أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً .
ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر ، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه النقص ) ثم يهيج ( وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( فتراه ) أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه ) مصفراً ( آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة .
ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة ، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال : ( ثم يجعله حطاماً ) أي مكسراً مفتتاً بالياً .
ولما تم هذا المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة ، كما قدر على الإيجاد من العدم والإفادة لكل ما لم يكن ، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود : ( إن في ذلك ) أي التدبير على هذا الوجه ) لذكرى ) أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده ، فإن النبات كالإنسان سواء ، يكون ماء ، ثم ينعقد بشراً ، ثم يخرج طفلاً ، ثم يكون شاباً ، ثم يكون كهلاً ، ثم شيخاً ثم هرماً ، ثم تراباً مفتتاً في الأرض ، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات : ( لأولي الألباب ) أي العقول الصافية جداً(6/436)
صفحة رقم 437
كما نبه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب ، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان .
ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض المرافقين مع الظواهر تخصيص الألباء به ، سبب عن ذلك الإنكار في قوله : ( أفمن شرح الله ) أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ) صدره للإسلام ) أي للإنقياد للدليل ، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل ) فهو ) أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان ) على نور ) أي بيان عظيم كتاب ، به يأخذ ، ويه يعطي ، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه ، يصرفه حيث يشاء ، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت القول إلى مظهر الإحسان فقال : ( من ربه ) أي المحسن إليه إحسانه في انقياده ، فبشرى له فهو على صراط مستقيم ، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً ، فكان في الظلام خابطاً ، فويل له - هكذا كان الأصل ولكن قيل : ( فويل للقاسية قلوبهم ) أي لضيق صدورهم ، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال : ( من ذكر الله ( فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود ، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود .
ولنا كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى : ( أولئك ) أي الأباعد الأباغض ) في ضلال مبين ) أي واضح في نفسه موضح أمره لكل واحد ، فالاية من الاحتباك : ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف أولاً - روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية ، قال : فقلنا : يا رسول الله ؟ كيف انشراح صدورهم ؟ قال ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ) قلنا : يا رسول الله ؟ فما علاقة ذلك ؟ قال ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ) .
وقال الأستاذ أبوة القاسم القشيري : والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثن نون المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، فعند ذلك لا وجد(6/437)
صفحة رقم 438
ولا قصد ، ولا قرب ولا بعد ، كلا بل هو الله الواحد القهار ، وذلك كما قيل : المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعمله إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته ، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة ، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة ، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب .
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله ، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء ، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى ، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه : ( الله ) أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال ) نزّل ) أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة ) أحسن الحديث ( وأعظم الذكر ، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن ، ولقدر - ولو يوماً واحداً - على الإيتان بشيء من مثله ، وأبدل من ( أحسن ) قوله : ( كتاباً ) أي جامعاً لكل خير ) متشابهاً ) أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة ، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى ، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة ، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحدج زمانه أو لا ، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر ، ولم يقل : متشبهاً ، لئلا يظن أنه غير واضح الدلالة لا يمدح به .
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل ، وصفه بالجمع في قوله : ( مثاني ( جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواهظ والأحكام والحكم ، مختلفة البيان في وجوه من الحكم ، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات ، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى ، ولا يمل من تكراره ، وترداد قراءته وتأمله واعتباره ، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده : المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي ، والرحمة العامة والرحمة الخاصة ، والجنة والنار ، والنعيم والشقاء والضلال والهدى ، والسراء والضراء ، والبشارة والنذارة ، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً ، فكان مذكوراً مرتين ، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين ، ويجوز أن يكون التقدير : متشابهة مثانيه ، فيكون نصبه على التمييز ، وفائدة التكرير أن النفوس أنفي شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عوداً على ما بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله ، ومن ثم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر .
ولما كان التكرار يمل ، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار ، (6/438)
صفحة رقم 439
ويزداد حلاوة ولو أثنى آناء الليل وأطراف النهار ، فقال : ( تقشعر ) أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضاً شديداً ، من القشع وهو الأدسم اليابس ، وزيد حرفاً لزيادة المعنى ، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه ، وكونه حرف التطوير أشد للمناشبة ) منه جلود ) أي ظواهر أجسام ) الذين يخشون ) أي يخافون خوفاً شديداً ويلتذون لذة توجب إجلالاً وهيبة ، فيكون ذلك سبب ذلك ، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن ، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفاً ، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال : ( ربهم ) أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم ، روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه ) وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر برجل من أهل العراق ساقط ، قال : فما بال هذا ؟ قال : إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ثم تلين ) أي تمتد وتنعم ، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه البيس ، وأخر القلوب إبعاداً لها عما قد يفهم يبساً فيوهم قسوة فقال : ( جلودهم ( لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء ةإن اشتدت صلابتها ) وقلوبهم ( وذكره الخشية لا تكون إلا في القلب ، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيهاً عن ذكر ما قد يفهم القسوة .
ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب ، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية ب ( إلى ) ليكون المعنى : ساكنة مطمئنة ) إلى ذكر الله ) أي ذي الجلال والأكرام ، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه ، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب ، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع ، ولم يقل : إلى الحديث أو الكتاب - مثلاً ، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه ، وزاده فخامة بصرف القول المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام .
ولما كان ما ذكر من الآثار عجباً ، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط ) هدى الله ( أي(6/439)
صفحة رقم 440
الذي لا يتمتع عليه شيء ) يهدي به من يشاء ( ومن هداه الله فما له من مضل ، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم ، فيكون هدى لناس ضلالاً لآخرين ) ومن يضلل الله ) أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالاً راسخاً في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض ) فما له من هاد ( لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، لأنه الواحد في ملكه ، فلا شريك له ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً إطلاق أمره في الهداية دليلاً على حذف مثله في الضلال ، وثانياً انسداد باب الهداية على من أضله دليلاً على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية .
الزمر : ( 24 - 28 ) أفمن يتقي بوجهه. .. . .
) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ( )
ولما أتم الإنكار على من سوى ، بين من شرح صدره ومن ضيق ، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد ، والثاني ضال ، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً ، فقال مشيراً إلى أن الضلال سب العذاب ، والهدى سبب النعيم ، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب ، لتتقابل الآيتان ، وتتعادل العبارتان : ( أفمن ( وأفرد على لفظ ) من ( لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال : ( يتقي ( ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله : ( بوجهه ( الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه ) سوء العذاب ) أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه ) يوم القيامة ( لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل ، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم ، ويسحب في النار على وجهه ، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه .
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً ، بنى للمفعول قوله : ( وقيل ( له - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً فقال : ( للظالمين ) أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا : ( ذوقوا ما ) أي جزاء ما ) كنتم تكسبون ) أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم ، وقيل لأهل النعيم : طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم(6/440)
صفحة رقم 441
تعلمون ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً ، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً .
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة ، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينتظرون إلا الجزئيات الحاضرة ، خوفهم بما يعملونه في الدنيا ، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول : فهل يعذبون في الدنيا : ( كذب الذين ( وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال : ( من قبلهم ) أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم : ( فأتاهم العذاب ( وكان أمرهم علينا يسيراً ، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله : ( من حيث ) أي من جهة ) لا يشعرون ( أنه يأتي منها عذاب ، جعل إيتانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب ، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإيتان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما ، فضلاً عما أخذوه به ، بل لا يتوقع إلا الخير .
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء ، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال : ( فأذاقهم الله ) أي الذي لا راد لأمره ) الخزي ) أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادزه من إخزاء الرسل بتكذبيهم ) في الحياة الدنيا ) أي العاجلة الدنية .
ولما كان انتظار الفرج مما يسلس ، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد ، وأكده إنكارهم إياه : ( ولعذاب الآخرة ) أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث : ( أكبر ( من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا ، وأشدهم إخزاء ، فالآية من الاحتباك : ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً ، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت .
فإن سيافه للطعن في الوحدانية ، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب .
ولما كان من علم أنه فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال : ( لو كانوا يعلمون ) أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا ، ولكنه لا علم لهم أصلاً ، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات ، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق الله في طبعه من أكل أمثالها ، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق .
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب ، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى(6/441)
صفحة رقم 442
مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة ، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به ، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة ، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة ، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر : ( ولقد ضربنا ( على ما لنا من العظمة .
ولما كان في سيقا المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال ( أمن هو قانت ) إلى أن ختم بقوله ( أفمن يتقي بوجهه ) وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة ، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر ، فقدم قوله : ( للناس ) أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة .
ولما كان المتعنت كثيراً ، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف ، وجعلها ما يعبر به عن القرب ، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) خلع القلوب وملأها ، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان ، فقال : ( في هذا القرآن ) أي الجامع لكل علم .
ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفذ وعجائبه لا تعد ولا تحد ، وكان في سياق التعجيب من توقفهم قال ) من كل مثل ) أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة ، ثم بين علة الضرب بقوله : ( لعلهم يتذكرون ) أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً - بما أرشد إليه الإظهار ، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان .
ولما كان ذلك غاية في الشرف ، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم ، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله : ( قرآناً ) أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه ، ويجوز أن يكون النصب على المدح ) عربياً ( جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة ، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً .
ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة ، قال تعالى : ( غير ذي عوج ) أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من شأنه العوج ، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء ، وفي الإيتان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة ، فهو أبلغ من غير معوج ، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز .
ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً ، ولا بد للعاقل على الخوف(6/442)
صفحة رقم 443
المسبب للنجاة قال : ( لعلهم يتقون ) أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشئ عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية .
الزمر : ( 29 - 33 ) ضرب الله مثلا. .. . .
) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( ( )
ولما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم ، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً ، وختم بضرب الأمثال ، وكان الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال ، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال : ( ضرب الله ) أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال ) مثلاً ( لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول : إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون .
ولما كان الذكر أقوى من الأنثى ، وأعرف بمواقع النفع والضر ، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته ، فيكون أنفى للعار عن نفسه وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه ، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه أدنى الأرقاء ) رجلاً فيه ) أي خاصة .
ولما كانت معبوداتهم - لكونها من جملة المخلوقات - كثيرة الأشباه والنظائر ، عبر عنها بجمع الكثرة فقال : ( شركاء ( في الظاهر من الأصنام وفي الباطن من الحظوظ والشهوات ، ووصف الشركاء بقوله : ( متشاكسون ) أي مختلفون عسرون يتجاذبون مع سوء الأخلاق وضيقها وقباحة الشركة ، فليس أحد منهم يرضى بالإنصاف ، فهو لا يقدر أن يرضيهم أصلاً ) ورجىً سلماً ) أي من نزاع ) لرجل ( فليس فيه لغيره شركة ولا علاقة أصلاً ، فهو أجدر بأن يقدر على رضاه مع راحته من تجاذب الشركاء - هذا على قراءة المكي والبصري ، وعلى قراءة الباقين بحذف الألف وفتح اللام وهو وصف بالمصدر على المبالغة .
ولما انكشف الحال فيها جداً قال : ( هل يستويان ) أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية .
ولما كان الاستواء مبهماً قال : ( مثلاً ) أي من جهة المثل ، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد حتى أن يكونا هما متساويين فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل ، والجواب في هذا(6/443)
صفحة رقم 444
الاستفهام الإنكاري قطعاً : لا سواء ، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن فكذا ممثوله وهو القانت المخلص ، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا مثموله وهو الداعي للأنداد .
ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد ، وعلو السالم وهو القانت ، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله ، فأنتج قطعاً قوله : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ( الذي لا مكافئ له ، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل ، فلا يصح أن يكون له شريك ) بل أكثرهم ) أي الناس ) لا يعلمون ( لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً ، ويجوز أن يقال : له الكمال كله ، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء ، بل لا علم لهم أصلاً ، وهو المشركون شركاً جلياً ، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم ، وإن كان لهم علم - فليس بكامل .
ولما كان السالم مثلاً له ( صلى الله عليه وسلم ) ولأتباعه ، والآخر للمخالفين ، وكان سبحانه قد أثبت جهلهم ، وكان الجاهل ذا حمية وإباء لما يدعى إليه من الحق وعصبيته :
والجاهلون لأهل العلم اعداء
فكان لذلك التفكير في أمرهم وما يؤدي إليه من التقاعد من الأتباع والتصويب بالأذى ولا سيما وهو أكثر من أهل العلم مؤدياً إلى الأسف وشديد القلق فكان موضع أن يقال : فما يعمل ؟ وكان لا ينبغي في الحقيقة أن يقلق إلا من ظن دوام النكد ، قال تعالى مسلياً ومعزساً وموسياً في سياق التأكيد ، تنبيهاً على أن من قلق كان حاله مقتضياً لإنكار انقطاع التأكيد : ( إنك ( فخصه ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه ، فكل موضع كان للأتباع وخص فيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ .
ولما لم يكن لممكن من نفسه إلا العدم قال : ( ميت ) أي الآن لأن هذه الصفة لازمة بخلاف ( مايت ) يعني : فكن كالميت بين يدي الغاسل فإنك مستريح قريباً عما تقاسي من أنكادهم ، وراجع إلى ربك ليجازيك على طاعتك له ) وإنهم ) أي العباد كلهم أتباعك وغيرهم ) ميتون ( فمنقطع ما هم فيه من اللدد والعيش والرغد .
ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار ، وإذلال الظالم ، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة : ( ثم إنكم ) أي أيها العباد كلكم ، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه(6/444)
صفحة رقم 445
وعن غيره هل راعى حق الله فيه ، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين ، وزاد إثبات المعنى بقوله : ( يوم القيامة ( فساقه مساق ما خلاف فيه ، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله ، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً ، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة ، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء ) تختصمون ) أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم ، ويجازي كلاًّ بما عمل ، أما في الشر فسوءاً بسوء ، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه ، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها - إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره ، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل ، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه ، ويسر بما ييسر حسابه ، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان ، ولا يشتغل بما لا يكون من تصفية دار الكدر عن الأكدار ، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار ، فإن محال على حال من الأحوال ، قال القشيري : نعاه ( صلى الله عليه وسلم ) ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم ، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث ، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه ، فليس له من هذا الحديث شمة ، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته ، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم ، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا :
كتبت إليكم بعد موتي بليلة ولم أدر أني بعد موتي أكتب
انتهى .
ومن المعلوم أنهم جعلوا لله أنداداً ، وأعلم بأنهم كذبة في ذلك كافرون ساترون للحق ، وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار ، وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه سبحانه ، لآنه لا يجوز في الحكمة تركهم هملاً كما هو مقرر في العقول وموجود في الفطر الأولى ، ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم فينعم على المظلوم ، وينتقم من الظالم ، وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً ، وأظلم منه الكاذب على الأكابر ، وأظلم الظالمين الكاذب على الله ، قال تعالى مسبباً عما مضى : ( فمن اظلم ) أي منهم -(6/445)
صفحة رقم 446
هكذا كان الأصل ولكنه قال : ( ممن كذب ( تعميماً وتعليقاً بالوصف ، فكفر بستر الصدق الثابت وإظهار ما لا حقيقة له .
ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر فكيف إذا كانوا ملوكاً ، فكيف إذا كان على ملك الملوك ، لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم تنبيهاً على ذلك فقال : ( على الله ) أي الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره ، فمن نازعه واحدة منهما قصمه ، فزعم فب كذبه أن له سبحانه أنداداً ، وشركاء وأولاداً .
ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقاً لكونه واقعاً لا محالة وقوعاً يطابق الخبر عنه ، لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى ، فكيف بالخالق ؟ فكان الخبر به صدقاً لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع قال : ( إذ جاءه ) أي من غير توقف ولا نظر في دليل ، كما هو دأب المعاندين ، أولئك هم الكافرون لهم ما يضرهم من عذاب جهنم ، ذلك جزاء المسيئين .
ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى ، فكان يوم الدين معلوماً قطعاً ، وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله فترجمته : ليس أحد أكذب منهم ، وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة أفعل إثبات مدلول افعل ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق ، فكان التقدير : أليس هذا الكاذب المكذب عاقلاً يخشى أن يحاسبه الله كل خلقه ؟ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده ؟ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه كما يفعل أدنى الحكام ؟ أليس دار انتقامه جهنم التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم ؟ نسق به قوله : ( أليس في جهنم ) أي النار النار تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله ) مثوى ) أي منزل مهيأ للإقامة فيه على وجه اللزوم لهم هكذا كان الأصل ، ولكنه قال تعميماً وتعليلاً بالوصف مبيناً أن الكذب كفر أي ستر للصدق وغظهار لما لا حقيقة له ، والتكذيب بالصدق كذلك ) للكافرين ) أي الذين ستروا كذبهم فألبسوه ملابس الصدق وستروا الصدق الذي كذبوا به ، ذلك جزاء المسيئين لأنهم ليسوا بمتقين ، فأقام سبحانه هذه المقدمة دليلاً على تلك المقدمات كلها .
ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال : ( والذي ) أي الفريق الذي ) جاء بالصدق ) أي الخبر(6/446)
صفحة رقم 447
المطابق للواقع ، فصدق على الله ، وتعريفه يدل على كماله ، فيشير إلى أن الإيتان به ديدنه لا يتعمد كذباً ) وصدق به ) أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل ، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم ، فهو يكذب بكل ما لم يسمع ، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق ، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم ، ولذلك حصر التقوى فيهم ، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً : ( أولئك ) أي العالو الترتبة ) هم ) أي خاصة ) المتقون ( الذين جانبوا الظلم ، فليس لجهنم عليهم سبيل ، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل ، بل الجنة منزلهم ، أليس في الجنة ضده ثانياً ، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء .
وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه ، وذكر أحب جزائه إليه ، والإشارة إلى عراقته في الصدق والتصديق ثانياً ، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه ، ولا سيما عند العرب ، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء .
الزمر : ( 34 - 37 ) لهم ما يشاؤون. .. . .
) لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ( ( )
ولما مدحه على تقواهم ، قال في جواب من سأل عن ثوابهم ، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم : ( لمه ما يشآءون ) أي يتجدد لهم إرادته متى ارادوه ) عند ربهم ) أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء ، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون .
ولما كان أعظم الجزاء ، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال : ( ذلك ) أي الثواب الكبير ) جزاء المحسنين ) أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى ، فأحبه اللهي سبحانه كما أحبهم ، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها .
ولما كان العاقل من قدم في كل أمر الأهم فالأهم فميز بين خير الخيرين فأتبعه ، (6/447)
صفحة رقم 448
وشر الشرين فاجتنبه ، كان المحسن من جعل أكبر ذنوبه نصب عينيه وعمل على هدمه ، فلذلك علل الإحسان بقوله : ( ليكفر ) أي يستر ستراً عظيماً كأنه قال : المحسنين الذين أحسنوا لهذا الغرض ، ويجوز أن يكون التعليل للجزاء ، وعبر بالاسم الأعظم لفتاً عن صفة الإحسان إشارة إلى عظيم الاجتهاد في العمل والإيذان بأنه لا يقدر على الغفران لمن يريد إلا مطلق التصرف فقال : ( الله ) أي الذي نصب المحسن جلاله وجماله بين عينيه ، فاستغرق في صفاته ابتغاء مرضاته ، فعبده كأنه يراه ، وحقق باعترافهم بالخطأ وقصدهم التكفير لما أهمهم فعلهم له بقوله : ( عنهم أسوأ ( العمل ) الذي عملوا ( وتابوا عند بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود وقد علم أنه إذا محي الأكبر انمحى الأصغر لأن الحسنات يذهبن السيئات ، فلله در أهل البصائر والإخلاص في الإعلان والسرائر ولما أخبر بالتطهير من اوضار السيئ ، أتبعه الإخبار بالتنوير بأنوار الحسن فقال : ( ويجزيهم أجرهم ) أي الذي تفضل عليهم بالوعد به .
ولما كان تعالى يزيد العمل الصالح ويربيه ، زاد الجار في الجزاء إعلاماً بأنه يجعل الأعمال الصالحة كلها مثل أعلاها فقال : ( بأحسن ( ولما كان مقصود هذه السورة أخص من مقصود سورة النحل ، وكانت ( الذي ) و ( من ) أقل إبهاماً من ( ما ) قال : ( الذي ) أي العمل الذي ، وهو كالأول من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه كخاتم فضة ، وأشار إلى مداومتهم على الخير بالتعبير بالكون والمضارع فقال : ( كانوا يعملون ( مجددين له وقتاً بعد وقت لأنه في طبائعهم فهم عريقون في تعاطيه ، فمن كان في هذه الدار محسناً في وقت ما يعبد الله كأنه يراه فهو في الآخرة كل حين يراه ، قال القشيري ، ثم يجب أن يكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب ، وأحسن الثواب الرؤية ، فيجب أن يكون على الدوام .
وهذا استدلال قوي .
ولما فهم من قوله : ( وكذب بالصدق إذ جاءه ) أن المشركين يكذبونه ، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً ، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا ولآخرة ، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة ، وبشر المحسنين وحذر المسيئين ، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه ، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار ، ومنكراً لنفيها كل الإنكار : ( أليس الله ) أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال ، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال : ( بكاف ( وحقق المناط بالإضافة في قوله : ( عبده ) أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر(6/448)
صفحة رقم 449
دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه ، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به ، وهاذ لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله ، فأن شاء ربط بها المسببات ، وإن شاء أعقمها ، بل السعي أكمل ، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم ، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر : عباده - بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه .
ولما كان الجواب قطعاً : بلى ، إنه ليكفي من يشاء ، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم ، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم ، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم : ( ويخوفونك ) أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك .
ولما كان الخوف ممن له اختيار ، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته ، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل ، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم ، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس : ( بالذين ( وبين حقارتهم بقوله : ( من دونه ( وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون : إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام
77 ( ) أن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ( ) 7
[ هود : 54 ] وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم .
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل ، وكان التقدير : فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك ، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه آية ، فقال مخففاً عنه ( صلى الله عليه وسلم ) في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية : ( ومن يضلل الله ) أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره ) فما له ( لأجل أنه هو الذي أضله ) من هاد ) أي فخفض من حزنك عليهم ) ومن يهد الله ) أي الذي لا يعجزه شيء أبداً ) فما له من مضل ( فهو سبحانه يهدي من شاء منهم إن أراد .
ولما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم في الظاهر علة للنقمة ، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة ، بلغ النهاية في الحسن قوله : ( أليس الله ) أي الذي بيده كل شيء ) بعزيز ) أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم ) ذي انتقام ) أي له هذا الوصف ، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله .(6/449)
صفحة رقم 450
الزمر : ( 38 - 41 ) ولئن سألتهم من. .. . .
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( ( )
ولما علم بهذه البراهين أنه سبحانه المتصرف في المعاني بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال ، وكان التقدير : فلئن قررتم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن : بلى عطف عليه بيان أن الخالق للذات كما أنه المالك للمعاني والصفات ، فقال مفسداً لدينهم باعترافهم بأصلين : القدرة التامة له والعجز الكامل لمعبوداتهم : ( ولئن سألتهم ) أي فقلت لمن شئت منهم فرادى أو مجتمعين : ( من خلق السماوات ) أي على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع ) والأرض ( على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع ) ليقولن ( بعد تخوفيهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك بما أنت فيه : الذي خلقها ) الله ) أي وحده الذي لا سمي له وإلباس بوجه في أمره ، ولا ي يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض ولا الخوف من التهافت بالتعارض .
ولما كان هذا مخيراً لأن بين ولا بد أنهم لا يقبلون ولا يعرضون كان كأنه قيل : فماذا أصنع ؟ فقال : ( قل ( مسبباً من اعترافهم له سبحانه بجميع التعبير عنها سابقاً بأداة الذكور العقلاء بياناً لغلطهم ، فقال معبراً عن مفعول ) رأيت ( الأول والثاني جملة الاستفهام ، ) ما تدعون ) أي دعاء عبادة ، وقرر بعدهم عن التخويف بهد بادعاء إلهيتهم بقوله : ( من دون الله ) أي الذي هو ذو الجلال والإكرام فلا شيء إلا وهو من دونه وتحت قهره ، ولما كانت العافية أكثر من البلوى ، أشار إليها بأداة الشك ونبه على مزيد عظمته سبحانه بإعادة الاسم الأعظم فقال : ( إن أرادني الله ) أي الذي لا راد لأمره ولما كان درأ المفاسد مقدماً قال : ( بضر ) أي إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفاً منها ، وبالغ في تنبيههم نصحاً لهم ليرجعوا عن ظاهر غيهم بما ذكر من دناءتها وسفولها بالتأنيث بعد سفولها بعدم العقل مع دناءتها وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء(6/450)
صفحة رقم 451
فقال : ( هل هن ) أي هذه الأوثان التي تعبدونها ) كاشفات ) أي عني مع اعترافكم بأنه لا خلق لها وأنها مخلوقة لله تعالى ) ضره ) أي الذي أصابني به نوعاً من الكشف ، لأرجوها في وقت شدتي ) أو أرادني برحمة ( لطاعتي إياه في توحيده ، وخلع ما سواه من عبيده ) هل هن ممسكات ) أي عني ) رحمته ) أي لأجل عصياني لهن نوع إمساك ، لأطيعكم في الخوف منهن - هذه قراءة أبي عمرو بالتنوين وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده ، وهو الأصل في اسم الفاعل ، والباقون بالإضافة ، ولا فائدة غير التخفيف ، وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة .
ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال لما يعلمون من لزوم التناقض أن أجابوا بالباطل ، ومن بطلان دينهم أن أجابوا بالحق ، وكان الجواب قطعاً عن هذا : لا سوء نطقوا أو اسكتوا ، تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله ، فكانت النتيجة قوله : ( قل ( إذا ألقمتهم الحجر : ( حسبي ) أي كافي ) الله ( الذي أفردته بالعبادة لأنه له الأمر كله مما يخوفونني به ومن غيره ) عليه ( وحده لأن له الكمال كله ) يتوكل المتوكلين ) أي الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر ، وأمره بالقول إعلاماً بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض الظاهر جداً .
ولما كانوا مع هذه الحجج القاطعة ، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة ، التي لا دافع له بوجه ، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها ، قال مهدداً مع القيام بما يحاولونه ) قل يا قوم ) أي افعلوا افعالاً مبينة على العلم ) على مكانتكم ) أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور ، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية ، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم ، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم ، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها .
ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم : فماذا تعمل أنت ؟ بقوله : ( إني عامل ( على كفاية الله لي ، ليس لي نظر إلى سواه ، ولا أخشى غيره ، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها ، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله ، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت وأنا مرتقب كل وقت للزيادة ، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم : وماذا عساه يكون قوله ؟ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره ، لأن المخبر له به الله : ( فسوف تعملون ) أي بوعد لا خلف فيه ) من يأتيه ) أي منا ومنكم ) عذاب يخزيه ( بأن يزيل عنه كل شيء يمكنه أن يستعذبه ) ويحل عليه ) أي بجب في قوته ، من حل(6/451)
صفحة رقم 452
عليه الحق يحل بالكسر أي وجب ، والدين : صار حالاً بحضور أجله ) عذاب مقيم ( لإقامته على حالته وجموده على ضلالته ، ومن يؤتيه الله انتصاراً يعليه وينقله إلى نعيم عظيم ، لانتقاله بارتقائه في مدارج الكمال ، بأوامر ذي الجلال والجمال ، ولقد علموا ذلك في قصة المستهزئين ثم في وقعة بدر فإن من اهلكه الله منهم جعل أهلاكه أول عذابه ونقله به غلى عذاب البرزخ ثم عذاب النار ، فلا انفكاك له من العذاب ، ولا رجاء لحسن المآب .
ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب ، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب ، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب ، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإيتان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار : ( إنا أنزلنا ) أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة .
ولما كان توسط بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال ، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له ( صلى الله عليه وسلم ) وصار ظهوره فيه هادياً لغيره ، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : ( عليك ) أي خاصة لا على غيرك من أهل هذا الزمان ، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم ، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ ) الكتاب ( الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه ( ال ) ) الناس ( عامة لأن رسالتك عامة ) بالحق ( مصاحباً له ، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده ، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده ، بل هو معجز في معانيه - حاضرة كانت أو غائبه - ونظومه ، وألفاظه وأسماء وآياته وجميع رسومه ، فلا بد من إيتان ما فيه من وعد ووعيد .
ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين ، حسن جداً قوله تعالى تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم : ( فمن اهتدى ) أي طاوع الهادي ) فلنفسه ) أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب ) ومن ضل ) أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم معتمد ، أو إهمال للنظر وتهاون .
ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال ، وكان السياق لتهديد الضالين .
زاد في التأكيد فقال : ( فإنما يضل عليها ) أي ليس عليك بشيء من ضلاله ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
ولما هدى السياق إلى أن التقدير : فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدئ ، عطف عليه قوله : ( وما أنت ) أي في هذا الحال ، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة(6/452)
صفحة رقم 453
الاستعلاء فقال : ( عليهم بوكيل ( لتحفظهم عن الضلال ، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك .
الزمر : ( 42 - 44 ) الله يتوفى الأنفس. .. . .
) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق ، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت ، ولم تصح وكالة أحد من الخلق فيه ، وكان كأنه قيل : لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك ، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم ، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله ، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة ، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب ، فهي تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له ، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً ، فقال : ( الله ) أي الذي له مجامع الكمال ، وليس لشائبة نقص إليه سبيل ) يتوفى الأنفس ( التي ماتت عند انقضاء آجالها ، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد ، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة ، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها ) حين موتها ) أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له ، وعطف على الأنفس قوله : ( والتي ) أي ويتوفى الأنفس التي ) لم تمت ( لأنها لم تنقص آجالها حين نومها كائنة ) في منامها ( بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة ، فالجانع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف ، ولو قيل : بموتها وبمنامها ، لم يفد أن كلّص من الموت والوفاة آية مغايرة للآخرى .
ولما كان النوم منقضياً ، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض ، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد ، فسبب عن ذلك قوله : ( فيمسك ) أي فيتسبب عن(6/453)
صفحة رقم 454
الوفاتين أنه يمسك عنده ) التي قضى ) أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه ، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة ) عليها الموت ( مظروفة لمماتها ، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها ) ويرسل الأخرى ) أي التي أخر موتها ، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن ينفى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها ، ويجعل ذلك الإمساك للميتة ، والإرسال للنائمة ) إلى أجل مسمى ( لبعث الميتة ولموت النائمة ، لا يعلمه غيره ، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة ، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح ، قال ابن الصلاح في فتاويه : وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة - انتهى .
روى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال : تلتقي أرواح الأحياء والأموات ، فيتسألون بينهم ، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها .
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل ) باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ( وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك : ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثابتاً ، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً .
ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع ، والنظم المنيع ، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه ) لآيات ) أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره ، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده ) لقوم ) أي ذوي قوة في مزاولة الأمور .
ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال : ( يتفكرون ) أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله ، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات : إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً ، وذلك هو الحياة مع اليقظة ، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً ، وذلك بالنوم ، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت ، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام ، والنوم انقطاع ناقص ، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين ، ثم(6/454)
صفحة رقم 455
يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه ، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك .
ولما أنتج هذا ولا بد نحو أن يقال توعداً لهم : هل علموا أنه لا يقوم شيء مقامه ، ولا يكون شيء إلا بإذنه ، ولا يقرب أحد من القدرة على شيء من فعله ، فكيف بالقرب من رتبته فضلاً عن مماثلته ، فرجعوا عن ضلالهم ، عادلة بقوله : ( أم اتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندها أن أخذوا ) من دون الله ) أي الذي لا مكافئ له مداني ) شفعاء ) أي تقربهم إليه زلفى في الدنيا وفي الآخرة على تقدير كونها مع قيام الأدلة الشهودية عندهم على أنه لا يشفع أحد إلا عند من يصح أن يكافئه بوجه من الوجوه ، ولذلك نبه على المعنى بقوله معرضاً عنهم إشارة إلى سفولهم عن الفهم : ( قل أولو ) أي أيتخذونهم لذلك ولو ) كانوا لا يملكون شيئاً ) أي لا تتجدد لهم هذه الصفة ) ولا يعقلون ( كما يشاهد من حال أصنامكم .
ولما نفى صلاحية أصنامهم لهذا الأمر ، أشار إلى نفيه عما سواه بقصر الأمر عليه فقال : ( قل الله ) أي المحتوي على صفات الكمال وحده ) الشفاعة ) أي هذا الجنس ) جميعاً ( فلا يملك أحد سواه منها شيئاً لكنه يأذن إن شاء فيما يريد منها لمن لمن يشاء من عباده .
ولما كان كل من سواه ملكاً له ، وكان من المقرر أن المملوك لا يصح أن يملك شيئاً يملكه سيده ، لأن الملكين لا يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة ، علل ذلك بقوله : ( له ) أي وحده ) ملك السماوات والأرض ) أي التي لا تشاهدون من ملكه سواهما والشفاعة من ملكهما .
ولما كان المملوك ملكاً ضعيفاً قد يتغلب على مالكه فيناظره فيتأهل للشفاعة عنده ، نفى ذلك في حقه سبحانه بقوله دالاًّ على عظمة القهر بأداة التراخي فقال : ( ثم إليه ) أي لا إلى غيره ) ترجعون ( معنى في الدنيا بأن ينفذ فيكم جميع أمره وحساً ظاهراً ومعمى في الآخرة .
الزمر : ( 45 - 49 ) وإذا ذكر الله. .. . .
) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(6/455)
صفحة رقم 456
فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) 73
( ) 71
ولما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة ، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه ، وختم بأنه لا بد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه ، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه ، ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره ، ذكر حالاً من أحوالهم فقال : ( وإذا ) أي الحال ما ذكرناه وإذا ) ذكر ( وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيماً لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال : ( الله ) أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه ) وحده ) أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم : ( اشمأزّت ) أي نفرت كراهية وذعراً واستكباراً مع تعمر الوجه وتقبضه قلوبهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : ( قلوب الذين لا يؤمنون ) أي لا يجددون إيماناً ) بالآخرة ( بياناً لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع إليه الذي أتمه واظهره رجوع الآخرة ) وإذا ذكر الذين ( وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال : ( من دونه ) أي الأوثان ، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل ، أو سماع لقال أو قيل ، بقوله : ( إذا هم ) أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم ) يستبشرون ) أي فاجؤوا طلب البشر وإيقاعه وتجديده على سبيل الثبات في ذلك كله سواء ذكر معهم الله أو لا ، فالاستبشار حينئذ إنما هو بالانداد ، والاشمئزاز والاستبشار متقابلان لأن الاشمئزاز : امتلاء القلب غماً وغيظاً فيظهر أثره ، وهو الانقباض في أديم الوجه ، والاستبشار : امتلاء القلب سروراً حتى يظهر أثره ، وهو الانبساط والتهلل في الوجه - قال الزمخشري ، والعمل في ( إذ ) الأولى هو العامل في الفجائية ، أي فاجؤوا الاستبشار وقت هذا الذكر ، وعبر بالفعل اولاً وبالاسمية ثانياً ، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال ، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحاً لمطلق الكفر ، ثم الثبات عليه فتحاً لباب التوبة .
ولما نفى صلاحية الوكالة على الناس في الهدى والضلال لغيره ودل على ذلك بملكه وأخبر بتعمدهم الباطل ، أنتج ذلك وجب اللجاء إليه والإعراض عما سواه وقصر العزم عليه فقال معلماً بذلك لما يقال غند مخالفة الداعي باتباع الهوى : ( قل ) أي يا من نزل عليه الكتاب فلا يفهم عنا حق الفهم غيره راغباً إلى ربك في أن ينصرك عليهم في الدنيا والآخرة : ( اللهم ) أي يا الله ، وهذا نداء محض ويستعمل أيضاً على نحوين آخرين - ذكرهما ابن الخشاب الموصلي في كتابه النهاية شرح الكفاية - أحدهما أن تذكر لتمكين الجواب في نفس السائل كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لضمام بن ثعلبة(6/456)
صفحة رقم 457
رضي الله عنه حيث قال ( الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس ) فقال : اللهم نعم - إلى آخر ما قاله له ، وسره أن المسؤول إذا ذكر الله في جوابه .
كان ذكره إياه أبعث للسائل على تصديقه لأنه أوقر في صدره إن لم يتصد لذكر الله ولم يكن بصدده ، وهو ممن يدين باستعمال الكذب ، والثاني أن يدل به على الندرة وقلة وقوع المذكور كقول المصنفين : لا يكون كذا اللهم إلا إذ كان كذا - كأنه استغفر الله من جزمه أو لا يسد الباب في أنه لا يكون غير ما ذكره سيبويه ووصف عند غيره فقال : ( فاطر ) أي مبدع من العدم ) السماوات ) أي كلهم ) والأرض ) أي جنسها .
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بتمام العلم قال : ( عالم الغيب والشهادة ) أي ما لا يصح علمه للخلق وما يصح .
ولما كان غيره سبحانه لا يمكن له ذلك ، حسن التخصيص في قوله : ( أنت ) أي وحدك ) تحكم بين عبادك ) أي أنا وهو غيرنا في الدنيا والآخرة لا محيص عن ذلك ولا يصح في الحكمة سواه كما أن كل أحد يحكم بين عبيده ومن تحت أمره لا يسوغ في رأيه غير ذلك ) في ما كانوا ) أي دائماً بما اقتضته جبلاتهم التي جبلتهم عليها ) فيه يختلفون ( وأما غيرك فإنه لا يعلم جميع ما يفعلون ، فلا يقدر على الحكم بينهم ، وأما غير ما هم عريقون في الاختلاف فيه فلا يحكم بينهم فيه لأنه أما ما هيؤوا بفطرهم على سبيل القصد أو بقصد غير ثابت فهو مما تذهبه الحسنات فعرف أن تقديم الظرف إنما وهو للاختصاص لا الفاصلة .
ولما كان التقدير : فيعذب الظالمين فلو علموا ذلك لما ظنوا بادعائهم له سبحانه ولداً وشركاء يقربونهم إليه زلفى منهم بجلاله ونزاهته عما ادعوه له وكماله ، عطف عليه تهويلاً للأمر قوله : ( ولو أن ( وكان الأصل : لهم - ولكنه قال تعميماً وتعليقاً بالوصف : ( للذين ظلموا ) أي وقعوا في الظلم في شيء من الأشياء ولو قال ) ما في الأرض ( ولما كان الأمر عظيماً أكد ذلك بقوله : ( جميعاً ( وزاد في تعظيمه بقوله : ( ومثله ( وقال : ( معه ( ليفهم بدل الكل جملة لا على سبيل التقطيع ) لافتدوا ) أي لاجتهدوا في طلب أن يفدوا ) به ( أنفسهم ) من سوء العذاب ( وبين الوقت تعظيماً له وزيادة في هوله فقال : ( يوم القيامة ( روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (6/457)
صفحة رقم 458
قال ( يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً : لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي ) .
قوله : أردت أي فعلت معك بالأمر فعل المريد وهو معنى قوله في رواية : قد سألتك .
ولما كان التقدير : ولو كان لهم ذلك وافتدوا به ما قبل منهم ولا نفعهم ، ولأن ذلك الوقت وقت الجزاء لا وقت العمل ، واليوم قوت العمل لا وقت الجزاء ، فلو أنفقوا فيه أيسر شيء على وجهه قبل منهم ، عطف عليه من أصله لا على جزائه قوله معظماً الأمر بصرف القول إلى الاسم الأعظم : ( وبداً ) أي ظهر ظهوراً تاماً ) لهم ( في ذلك اليوم ) من الله ) أي الملك الأعظم ، وهول أمره بإبهامه ليكون ضد
77 ( ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ( ) 7
[ السجدة : 17 ] فقال : ( ما لم يكونوا ( بحسب جبلاتهم وما فطروا عليه من الإهمال والتهاون ) يحتسبون ) أي لم يكن في طبائعهم أن يعتمدوا أن يحسبوه وتجوزه عقولهم من العذاب ، وما كان كذلك كان أشق على النفس وأروع للقلب ) وبدا لهم ) أي ظهر ظهوراً تاماً كأنه في البادية لا مانع منه ) سيئات ما ( ولما كان في سياق الافتداء ، وكان الإنسان يبذل عند الافتداء في فكاك نفسه الرغائب والنفائس ، عبر هنا بالكسب الذي من مدلوله الخلاصة والعصارة التي هي سر الشيء فهو أخص من العمل ، ولذا جعله الأشعري مناط الجزاء ، فقال مبيناً أن خالص عملهم ساقط فكيف بغيره ، وهذا بخلاف ما في الجاثية ) كسبوا ) أي الشيء الذي عملوه برغبة مجتهدين فيه لظنهم نفعه وأنه خاص أعمالهم وأجلها وأنفعها ) وحاق ) أي أحاط على جهة اللزوم والأذى ) بهم ما ) أي جزاء الشيء الذي ) كانوا به ) أي دائماً كأنهم جبلوا عليه ) يستهزئون ) أي يطلبون ويوجدون الهزء والسخرية به من النار وجميع ما كانوا يتوعدون به .
ولما أخبر عن ظهور هذا لهم ، علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم ، وهو مجازاة الإحسان بالإساءة وقد كانوا جديرين بضده فقال : ( فإذا ) أي وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم ، ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه فقال : ( مس الإنسان ضر ( أيّ ضر كان من جهة يتوقعها كما تقدم في التي في أول السورة ، ويجوز أن يكون مسبباً عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه وأن يكون مسبباً عن اشمئزازهم من توحيد الله تعجيباً في تعكيسهم وضلالهم ، وتقدم في الآية(6/458)
صفحة رقم 459
التي في أول السورة سر كونها بالواو ، ولفت القول إلى مظهر العظمة دالاً على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق وإذعانه لأهل الإحسان إلا إذا مس بأضرار فقال : ( دعانا ( عالماً بعظمتنا دون آلهته مع اشمئزازه من ذكرنا واستبشاره بذكرها .
ولما كان ذلك الضر عظيماً يبعد الخلاص عنه من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه ، أشار إلى عظمته وطول زمنه بأداة التراخي فقال مقبحاً عليه نسيانه للضر مع عظمه في نفسه ومع طول زمنه : ( ثم إذا خولناه ) أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقاً بحاله جديراً بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط في حقنا ) نعمة منا ( ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت ) قال ( ناسياً لما كان فيه من الضر وإن كان قد طال أمده ، قاصراً لها على نفسه غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه وإقبالنا عليه عند إذعانه ، مذكراً لضميرها تفخيماً لها ، وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو يشكره ، وإنما نظره في عظمة النعمة وعظمة نفسه ، وإنها على مقدار ما : ( إنما أوتيته ) أي هذا المنعم به عليّ الذي هو كبير وعظيم لأني عظيم فأنا أعطي على مقداري ، و ( ما ) هي الزائدة الكافة لأن للدلالة على الحصر ، ويجوز أن تكون موصولة هي اسم إن وخبرها قوله : ( على ( إي إيتاء مستعلياً متمكناً على ) علم ) أي عظيم ، وجد مني بطريق الكسب والاجتهاد ووجوده الطلب والاحتيال ، فكان ذلك سبباً لمجيئه إليّ أو علم من الله باستحقاقه له .
ولما كان التقدير : ليس كذلك ولا هي معمة ، قال دالاً على شؤم ذلك المعطى وحقارته لأنه من أسباب إضلاله بالتانيث ) بل هي ) أي العطية والنعمة ) فتنة ( لاختباره هل يشكر أم يكفر لتقام عليه الحجة .
فإن أدت إلى النار كانت استدراجاً ، وأنث الضمير تحقيراً لها بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى ولأنها أدت إلى الغرور بعد أن ذكر ضميرها أولاً تعظيماً لها لإيجاب شكرها .
ولما كان من المفتونين من ينتبه وهم الأقل ، قال جامعاً تنبيهاً على إرادة الجنس وأن تعبيره أولاً بإفراد الضمير إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة : ( ولكن أكثرهم ) أي أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام ) لا يعلمون ) أي لا يتجدد لهم علم أصلاً لأنهم طبعوا على الجلافة والجهل والغباوة ، فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم وأنعمنا عليهم نعمتنا ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا سواء .(6/459)
صفحة رقم 460
الزمر : ( 50 - 53 ) قد قالها الذين. .. . .
) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ( )
ولما كان كفار قريش مقصودين بهذت قصداً عظيماً وإن كان شاملاً بإطلاقه غيرهم من الأولين والآخرين قال موضحاً لذلك : ( قد قالها ) أي مقالتهم ( إنما أوتيته على علم ) ) الذين من قبلهم ) أي ممن هو أشد منهم قوة وأكثر جمعاً كما قال قارون ومن رضي حاله فتمنى ماله ) فما أغنى عنهم ) أي أولئك الماضين ) ما كانوا ( بما اقتضته جبلاتهم ) يكسبون ) أي يجددون على الاستمرار كسبه من المال والجاه وإن كان مليء السهل والجبل : ( فأصابهم ) أي إصابة شديدة بما دل عليه تذكير الفعل - أي تسبب عن عدم الإغناء أنه أصابهم ) سيئات ما كسبوا ) أي وبال ذلك وما يسوء من آثاره ) والذين ظلموا ) أي أوقعوا الأشياء في غير محالها ) من هؤلاء ) أي قومك الذين لا يتدبرون القرآن فإنهم لو تدبروا آياته عرفوا ولكن سبق عليهم العمى ) سيصيبهم ) أي إصابة شديدة جداً بوعد لا خلف فيه كما أصاب من قبلهم ) سيئات ما كسبوا ) أي عملوا من الأشر والبطر فيه أعمال من يظن أنه لا تناله مصيبة في الدنيا وأنه لا يبعث إلى ما أعددنا له من الأهوال في الآخرة ، ولقد أصابهم ذلك ، فأول ما أصابهم ما كشف عنه الزمان من وقعة بدر ثم ما تبعه إلى ما لا آخر له .
ولما ثبت أن الضار النافع إنما هو الله ، من شاء أعطاه ، ومن شاء منعه ، ومن شاء استلبه ووضعه بعد ما رفعه ، وكان التقدير : ألم يعلموا أن ما جمعه من قبلهم لم يدفع عنهم أمر الله ، عطف قوله : ( أولم ( ولما كان السياق لنفي العلم عن الأكثر ، وكان مقصود السورة بيان أنه صادق الوعد ومطلق العلم كافٍ فيه ، عبر بالعلم بخلاف ما مضى في الروم فقال : ( يعلموا ) أي بما رأوا في أعمارهم ومن التجارب .
ولفت الكلام إلى الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ودفعاً للبس والتعنت بغاية الإفهام : ( إن الله ) أي الذي له الجلال والجمال ) يبسط ) أي هو وحده ) الرزق ( غاية البسط ) لمن يشاء ( وإن كان لا حيلة له ولا قوة ) يقدر ) أي يضيق مع النكد بأمر قاهر على من هو أوسع الناس باعاً في الحيل وأمكنهم في الدول ، ومن المعلوم أنه لولا أن ذلك كله منه وحده لما كان أحد ممن له قوة في الجسم وتمكن في العلم فقيراً أصلاً .(6/460)
صفحة رقم 461
ولما كان هذا أمراً لا ينكره أحد ، عده مسلماً وقال : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم ، وأكده لأن أفعالهم أفعال من ينكر أن يكون فيه عبرة ) لآيات لقوم ( ذوي قوة وهمم عليه ) يؤمنون ) أي هيئوا لأن يوجد منهم الإيمان فيجددوا التصديق في كل وقت تجديداً مستمراً بأن الأمور كلها من الله فيخافوه ويرجوه ويشكروه ولا يكفروه ، وأما غيرهم فقد حقت عليه الكلمة بما هيئ له من عمل النار ، فلا يمكنه الإيمان فليس له في ذلك آيات لأنها لا تنفعه .
ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير ، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير ، وختم بالحث على الإيمان ، والنظر السديد في العرفان ، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت ، وصدت عن العطف وأبعدت ، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين ، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة : ( قل ) أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد ، ولفت عما تقتضيه ( قل ) من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف ، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال : ( يا ) أي ربكم المحسن إليكم يقول : يا ) عبادي ( فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه .
ولما أضاف ، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين ، فرفعوا رؤوسهم ، ونكس العاصون وقالوا : من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال ؟ فقال تعالى جابراً لهم : ( الذي أسرفوا ) أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال ) على أنفسهم ( فأبعدوها عن الحضرات الربانية ، وأركسوها في الدنايا الشيطانية ، فانقلب الحال ، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم - قاله القشيري ، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير ) لا تقنطوا ) أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا - وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال : ( من رحمة الله ) أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال ، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة ، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم ، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران ، وحتمت الجزاء بالانتقام ، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال ، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم : ( إن الله ) أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام ، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران ) يغفر ( إن شاء ) الذنوب ( ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال : ( جميعاً ( ولا يبالي ، لكنه(6/461)
صفحة رقم 462
سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه ، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة ، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك .
ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم ، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده ، علل هذه العلة بما يخصه ، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون : ( إنه هو ) أي وحده ) الغفور ) أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً ، فلا يعاقب ولا يعاتب ) الرحيم ) أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه ، ولا توجيه طعن إليه .
الزمر : ( 54 - 57 ) وأنيبوا إلى ربكم. .. . .
) وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ( )
ولما كان التقدير : فأقلعوا عن ذنوبكم ، فإنها قاطعة عن الخير ، مبعدة عن الكمال ، عطف عليه استعطافاً قوله دالاً على أن الغفران المتقدم إنما هو إذا شاء التفضل سبحانه بتوبة وبغير توبة : ( وأنيبوا ) أي ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم ) إلى ( ولفت الكلام إلى صفة الإحسان زيادة في الاستعطاف فقال : ( ربكم ) أي الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه ) وأسلموا له ) أي أوجدوا إسلام جميع ما ملكه لكم من الأعيان والمعاني متبرئين عنه لأجله فإنه لو شاء سلبكموه ، فإذا لم تكونوا مالكيه ملكاً تاماً أنفسكم عارية عنه غير مالكة له ولا قادرة ، وكان الذي لكم بالإصالة ما كان .
ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة ، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها : ( من قبل أن يأتيكم ) أي وأنتم صاغرون ) العذاب ) أي القاطع لكل العذوبة المجرّع لكل مرارة وصعوبة .
ولما كان الإنسان ربما توقع ضرراً في إقدامه على ما له فيه لذة ، وحاول دفعه ، قال معظماً لهذا العذاب مشيراً بأداة التراخي إلى أنه لا يمكن دفعه ولو طال المدى : ( ثم لا تنصرون ) أي لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً .(6/462)
صفحة رقم 463
ولما أمر بروية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه ، أمر بما هو أعلى من ذلك ، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال : ( واتبعوا ) أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع ) أحسن ما أنزل ( واصلاً ) إليكم ( على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه ، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك ، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون ( كأنك تراه ) الذي هو أعلى من استحضار ( إنه يراك ) الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك .
ولما كان هذا شديداً على النفس ، رغب فيه بقوله مظهراً صغة الإحسان موضع الإضمار : ( من ربكم ) أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم .
ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب ، قال منبهاً أيضاً علة رفقه بإثبات الجار : ( من قبل أن يأتيكم ) أي على ما بكم من العجز عن الدفاع ) العذاب ) أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو اكم في الدنيا أو في الآخرة .
ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال : ( بغتة ( ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته ، نفى ذلك بقوله : ( وأنتم لا تشعرون ) أي ليس عندكم شعور بإيتانه لا في حال إيتانه ولا قبله بوجه من الوجوه لفرط غفلتكم ، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطئة عليه من ضده .
ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه .
علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال : ( إن ) أي كراهة أن ) تقول ( ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله ، عبر بقوله : ( نفس ) أي عند وقوع العذاب لها ، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد ) يا حسرتي ( والتحسير : الاغتنام على ما فات والتندم عليه ، وألحق الألف بدلاً من الياء تعظيماً له ، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه ، وذلك عند انكشاف أحوالها ، وحلول اوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر ( حسرتاي ) بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء ، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم ، وأدل على المراد وأعظم ، فقال : ( على ما فرطت ) أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه ، وتعذر انضمامه والتئامه .
ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حنى كأنه إلى جنبه ، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاًعن الوجاه والعيان ، فيدل التفريط فيه على(6/463)
صفحة رقم 464
نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه ، وذلك أمر لا يغفر ، قال : ( في جنب ( وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله : ( الله ) أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به .
ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف ، ورجاء القبول والانصراف ، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله ، ويصرح به مقاله ، من أنه على الحق وأجد الجد : ( وإن ) أي والحال أني ) كنت ) أي كان ذلك في طبعي ) لمن الساخرين ) أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها ، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة ، أي تقول : هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد ، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد .
ولما كانت النفس إذا وقعت في ورطة لا تدع وجهاً محتملاً حتى تتعلق بأذياله ، وتمت بحباله وتفتر بمحاله ، قال حاكياً كذبها حيث لا يغني إلا الصدق : ( أو تقول ) أي عند نزول ما لا قبل لها به ) لو أن ( وأظهر ولم يضمر إظهاراً للتعظيم وتلذذاً بذكر الاسم الشريف فقال : ( الله ) أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ) هداني ) أي ببيان الطريق ) لكنت ) أي ملازماً ملازمة المطبوع على كوني ) من المتقين ) أي الذي لا يقدمون على فعل ما لم يدلهم عليه دليل .
الزمر : ( 58 - 62 ) أو تقول حين. .. . .
) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ( )
ولما ذكر حالها في الاعتراف بالبطلان ، ثم الفزع إلى الزور والبهتان ، أتبعه التمني الذي لا يفيد غير الخسران ، فقال : ( أو تقول ) أي تلك النفس المفرطة ) حين ترى العذاب ) أي الذي هاجمهما للحرحمة أو النقمة : ( لو أن ) أي يا ليت ) اي كرة ) أي رجعة إلى دار العمل لأتمكن منه ) فأكون ) أي فيتسبب عن رجوعي إليها أن أكون ) من المحسنين ) أي العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن ، هذا الأعراب - وهو عطفه على الجواب - أوفق لبقية الآيات التي من سلكه .
ولما حذر سبحانه بما يكون للمأخوذ من سيئ الأحوال وفظيع الأهوال ، وكان(6/464)
صفحة رقم 465
معنى ما تقدم من كذبه أنه ما جاءني بيان ولا كان لي وقت أتمكن فيه من العمل ، قال تعالى مكذباً له : ( بلى ) أي قد كان لك الأمران كلاهما ) قد جاءتك ( ولفت القول إلى التكلم مع تجريد الضمير عن مظهر العظمة لما تقدم من موجبات استحضارها إعلاماً بتناهي الغضب بعد لفته إلى تذكير النفس المخاطبة المشير إلى أنها فعلت في العصيان فعل الأقوياء الشداد من التكذيب والكبر مع القدرة في الظاهر على تأمل الآيات ، واستيضاح الدلالات ، والمشي على طرق الهدايات بعد ما أشار تأنيثها إلى ضعفها عن حمل العذاب وغلبة النقائص لها فقال : ( آياتي ( على عظمتها في البيان الذي ليس مثله بيان في وقت كنت فيه متمكناً من العمل بالجنان واللسان والأركان ) فكذبت بها ( جرأة على الله وقلة مبالاة بالعواقب ) واستكبرت ) أي عددت نفسك كبيراً عن قبولها ) وكنت ) أي كوناً كأنه جبلة لك لشدة توغلك فيه وحرصك عليه ) من الكافرين ) أي العريقين في ستر ما ظهر من أنوار الهداية للتكذيب تكبراً لم يكن لك مانع من الإحسان إلا ذلك لا عدم البيان ولا عدم الزمان القابل للعمل .
ولما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل ، قال تعالى محذراً من حاله وحال أمثاله ، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره : ( ويوم القيامة ) أي الذي لا يصح في الحكمة تركه ) ترى ) أي يا محسن ) الذين كذبوا ( وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال : ( على الله ) أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان ، ومن خلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم ، أو ادعوا له شريكاً أو نحو ذلك ، قال ابن الجوزي : وقال الحسن : هم الذين يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل - انتهى ، وكأنه عنى المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم : إنهم يخلقون أفعالهم ، ويدخل فيه كل من تكلم في الدين بجهل ، وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أيّ شيء كان ، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله لا يعلم كذبه أو لا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله - تراهم بالعين حال كونهم ) وجوههم مسودة ( مبتدأ وخبر ، وهو حال الموصول أي ثابت سوادها زائد البشاعة والمعظم في الشناعة بجعل ذلك إمارة عليهم ليعرفهم من يراهم بما كذبوا في الدنيا فإنهم لم يستحيوا من الكذب المخزي ، أليس ذلك زاجراً عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه ) أليس في جهنم ) أي التي تلقى فيها بالتهجم والعبوسة ) مثوى ) أي منزل ) للمتكبرين ( الذي تكبروا على اتباع أمر الله .(6/465)
صفحة رقم 466
ولما ذكر حال الذين أشقاهم ، أتبعهم حال الذين أسعدهم ، فقال عاطفاً لجملة على جملة لا على ( ترى ) المظروف ليوم القيامة ، إشارة إلى أن هذا فعله معهم في الدارين وإشارة إلى كثرة التنجية لكثرة الأهوال كثرة تفوت الحصر : ( وينجي ) أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة يعقوب بالتخفيف ، وتنجية عظمية لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد ، وأظهر ولم يضمر زيادة على تعظيم حالهم وتسكين قلوبهم ) الله ) أي يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك ) الذين اتقوا ) أي بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هناك من العقوبات ) بمفازتهم ) أي بسبب أنهم عدوا أنفسهم في مفازة بعيدة مخوفة فوقفوا فيها عن كل عمل إلا بدليل لئلا يمشوا بغير دليل فيهلكوا ، فأدتهم تقواهم إلى الفوز ، وهو الظفر بالمراد وزمانه ومكانه الذي سميت المفازة به تفاؤلاً ، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة لأنها سبب الفوز ، وقرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر ، وذلك كله بعناية الله بهم في الدارين ، فمفازة كل أحد في الأخرى على قدر مفازته بالطاعات في الدنيا .
ولما كان كأنه قيل : ما فعل في تنجيتهم ؟ قال ذاكراً نتيجة التنجية ) لا يسهم السوء ) أي هذا النوع فلا يخافون ) ولا هم يحزنون ) أي ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنهم لا يفوت لهم شيء أصلاً .
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا المبدع القيوم ، قال مستأنفاً أو معللاً مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام : ( الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي نجاهم ) خالق كل شيء ( فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه ، وهو لا يخلق ما يتوقعون منه خوفاً ، ولا يقع لهم عليه حزن .
ولما دل على القدرة الشاملة ، كان ولا بد معها من العلم الكامل قال : ( وهو ( وعبر بأداة الاستعلاء لأنه من أحسن مجزأتها ) على كل شيء ) أي مع القهر والغلبة ) وكيل ) أي حفيظ لجميع ما يريد منه ، قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة .
الزمر : ( 63 - 67 ) له مقاليد السماوات. .. . .
) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ( )(6/466)
صفحة رقم 467
ولما كان الخافقان خزائن الكائنات ، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح ، قال دالاً على وكالته : ( له ) أي وحده ) مقاليد ( واحدها مقلاد مثل مفتاح ، ومقليد مثل قنديل ، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية وهي استعارة لشدة التمكن من ) السماوات ) أي جميع أعدادها ) والأرض ) أي جنسها خزائنها وأمورها ومفاتيحها الجامعة لكل ما فيهما ، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف فيه شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا .
ولما كان التقدير : فالذين آمنوا بالله وتقبلوا آياته أولئك هم الفائزون ، عطف عليه قوله الذي اقتضاه سياق التهديد : ( والذين كفروا ) أي لبسوا ما اتضح لهم من الدلالات ، وجحدوا أن تكون الأمور كلها بيده ) بآيات الله ) أي الذي لا ظاهر غيرها ، فإنه ليس في الوجود إلا ذاته سبحانه وهي غيب لا يمكن المخلوق دركها ، وأفعاله وهي أظهر الأشياء ، وصفاته وهي غيب من جهة شهادة من جهة أخرى ) أولئك ( البعداء البغضاء ) هم ( خاصة ) الخاسرون ( فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجع النفع لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث إنه متعلق بأظهر الأشياء .
ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام ، فانجابت دياجير الظلام ، وكان الجهلة قد دعوه ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال المفسرون في أول سورة ص - إلى أن يكف عن آلهتهم ، وكان الإقرار عليها عبادة لها ، تسبب عن ذلك أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يصدعهم به بقوله : ( قل ( ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار ، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع اعراضه ، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول - على تقدير ( أن ) - لتأمر فقال : ( أفغير الله ) أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلاً .
ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع ، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع ، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع ، قال صارفاً الكلام إلى خطابهم ، لأنه أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم ) تأمروني ( بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء .
ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع .
ولما قرر الإنكار لإثبات إلإغيار ، أتم تقرير ذكر العامل في ) غير ( قال حاذفاً ( أن ) المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار : ( أعبد ( وهو مرفوع لأن ( أن ) لما حذفت بطل عملها ، ولم يراع أيضاً حكمها ليقال : إنه يمتنع نصب ( غير ) بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول .
ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل ، وكان الجهل محط كل سفول ، قال :(6/467)
صفحة رقم 468
) أيها الجاهلون ) أي العريقون في الجهل ، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم - قاله الحرالي في سورة البقرة .
ولما كان التقديم يدل على الاختصاص ، وكانوا لم يدعوه للتخصيص ، بل للكف المقتضي للشرك ، بين أنه تخصيص من حيث إن الإله غني عن كل شيء فهو لا يقبل عملاً فيه شرك ، ومتى حصل أدنى شرك كان في ذلك العمل كله للذي أشرك ، فكان التقدير بياناً لسبب أمره بأن يقول لهم ما تقدم منكراً عليهم : قل كذا ، فلقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وجوب التوحيد ، فعطف عليه قوله مؤكداً لأجل ما استقر في النفوس من أن من عمل لأحد شيئاً قبل سواه كان على وجه الشركة أولاً : ( ولقد ( ولما كان الموحي معلوماً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، بني للمفعول قوله : ( أوحي إليك ( ولما كان التعميم أدعى إلى التقبل قال : ( وإلى الذين ( ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان لبعض الناس قال : ( من قبلك ( ولما كان الحكم على قوم ربما كان حكماً على المجموع مع قيد الجمع خص بياناً لأنه مع كونه حكماً على المجموع حكم على كل فرد ، ولأن خطاب الرئيس خطاب لأتباعه لأنه مقتداهم .
ولما كان الموحى إليهم أنه من أشرك حبط عمله سواء كان هو أو غيره ، صح قوله بالإفراد موضع نحو أن الإشراك محبط للعمل وقائم مقام الفاعل ، وعدل عنه إلى ما ذكر لأنه أعظم في النهي وأقعد في الزجر لمن يتأهل له من الأمة ، وأكد لأن المشركين ينكرون معناه غاية الإنكار : ( لئن ) أي أوحى إلى كل منكم هذا اللفظ وهو وعزتي لئن ) أشركت ) أي شيئاً من الأشياء في شيء من عملك بالله وهو من فرض المحال ، ذكره هكذا ليكون أروع للأتباع ، والفعل بعد أن الشرطية للاستقبال ، فعدل هنا عن التعبير بالمضارع للمطابقة بين اللفظ والمعنى لأن الآية سبقت للتعريض بالكفار فكان التعبير بالماضي أنسب ليدل بلفظه على أن من وقع منه شرك فقد خسر ، وبمعناه على أن الذي يقنع منه ذلك فهو كذلك .
ولما تقر الترهيب أجاب الشرط والقسم بقوله : ( ليحبطن ) أي ليفسدن فيبطلن عملك فلا يبقى له أثراً ما من جهة القادر فلأنه أشرك به فيه وهو غني لا يقبل إلا الخالص ، لأنه لا حاجة إلى شيء ، وأما من جهة غيره فلأنه لا يقدر على شيء .
ولما كان السياق للتهديد ، وكانت العبادة شاملة لمت تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه ، لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وقال : ( ولتكونن ) أي لأجل حبوطه ) من الخاسرين ( فإنه من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته ، (6/468)
صفحة رقم 469
والخطاب للرؤساء على هذا النحو - وإن كان المراد به في الحقيقة أتباعهم - أزجر للأتباع ، وأهز للقلوب منهم والأسماع .
ولما كان التقدير قطعاً : فلا تشرك ، بنى عليه قوله : ( بل الله ) أي المتصف بجميع صفات الكمال وحده بسبب هذا النهي العظيم والتهديد الفظيع مهما وقعت منك عبادة ما ) فاعبد ) أي مخلصاً له العبادة ، فحذف الشرط ، عوض عنه بتقديم المفعول .
ولما كانت عبادته لا يمكن أن تقع إلا شكراً لما له من عموم النعم سابقاً ولاحقاً ، وشكر المنعم واجب ، نبه على ذلك قوله : ( وكن من الشاكرين ) أي العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق .
ولما كان التقدير : فما أحسن هؤلاء ولا أجملوا حين دعوك للإشراك بالله ، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به ، عطف عليه قوله : ( وما قدروا ( وأظهر الأسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال : ( الله ) أي الملك الأعظم ) حق قدره ) أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضها عنها فكيف إذا عدل به غيره .
ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه ، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون ، فقال كناية عن العظمة بذلك : ( والأرض ) أي والحال أنها ، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها .
ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وأن لم يدركوا أنه سبع ، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال : ( جميعاً ( ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته ، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته : ( قبضته ( .
ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة ، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال : ( يوم القيامة ( ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً ، وكذا الطي واليمين ، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة .
ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم ، جمع ليكون مع ) جميعاً ( كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله : ( والسماوات مطويات ( ولما كان العالم العلوي أشرف ، شرفه عند التمثيل باليمين فقال : ( بيمينه ( ولما كان هذا إنما هو تمثيل بما نعهد والمراد به الغاية في القدرة ، نزه نفسه المقدس عما ربما تشبث به المجسم والمشبه فقال : ( سبحانه ) أي تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص وما يؤدي إلى(6/469)
صفحة رقم 470
النقص من الشرك والتجسيم وما شاكله ) وتعالى ( علواً لا يحاط به ) عما يشركون ) أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه ، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها ، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء ، روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره من عبد الله رضي عنه قال : جاء حبر من اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع ، ثم يميزهن ثم يقول : أنا الملك ، فلقد رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضحك حتى بدت نواجذه - تعجيباً وتصديقاً لقوله - ثم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) وما قدروا الله حق قدره ( ( - إلى : - ) ) يشركون ( ) [ الأنعام : 91 ] وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك اين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ) وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض .
)
الزمر : ( 68 ) ونفخ في الصور. .. . .
) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( ( )
ولما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة ، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر ، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول : ( ونفخ في الصور ) أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها العالي عليها في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس ، والمراد بها - والله أعلم - ألقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب أظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي ، ولا تطيقه الأحلام والنهى ، كما كان آخر ما فجأهم يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير ، فإن ذلك أثرت الموت ، وهذه أثرت الغشي لأنه لا موت بعد البعث ، وهي الثالثة من النفخات(6/470)
صفحة رقم 471
) فصعق ) أي مغشياً عليه ) من في السماوات ( ولما كان المقام التهويل ، وكان التصريح أهول ، أعاد الفاعل بلفظه فقال : ( ومن في الأرض ( .
ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار ، استثناه فقال : ( إلا من شاء الله ) أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم ، وصعقاً لقوم دون قوم ، يجعل ذلك الذي كان به الهلاك به الحياة وذلك الذي كان به الغشي به الإفاقة وإن كان بالنسبة إليهم على حد سواء ، إعلاماً بأن الفاعل لما يريد لا الأثر ، قيل : المستثنون الشهداء وقيل : غيرهم ) ثم نفخ فيه أخرى ) أي نفخة ثانية من هذه ، وهي رابعة من النفخة المميتة ، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله : ( فإذا هم قيام ) أي قائمون كلهم ) ينظرون ) أي يقبلون أبصارهم أو ينتظرون ما يأتي بعد ذلك من أمثاله من دلائل العظمة ، وهاتان النفختان هما المرادتان في حديث تخاصم اليهود مع المسلم الذي لطم وجهه ، وفي آخره ( يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ) وقد رواه البخاري في الخصومات في موضعين ، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين ، وفي الرقاق وفي التوحيد ومسلم في الفضائل ، وأبو داود في السنة ، والنسائي في التفسير والنعوت ، وبتفصيل رواياته وجمع ألفاظها يعلم أن ما ذكرته هو المراد روى البخاري ومسلم في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما يهودي يعرض سلعة له - وقال البخاري : سلعته - أعطى بها شيئاً كرهه أو لم يرضه ، قال : لا والذي اصفطى موسى على البشر فسمعه رجل من الأنصار فلطم - وقال البخاري : فقام فلطم وجهه ، قال : تقول : والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرنا ، فذهب اليهودي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً ، وقال : فلان لطم وجهي ، - وقال البخاري : فما بال فلان لطم وجهي ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم لطمت وجهه ) قال : قال يا رسول الله ( والذي اصطفى موسى على البشر ) وأنت بين أظهرنا ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى عرف الغضب في وجهه ، ثم قال ( لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ) وفي رواية مسلم ( أو في أول من بعث - فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي ولا اقول : إت أحداً أفضل من يونس بن متى ) وفي رواية للبخاري في تفسير الزمر ( إني من أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة ) وفي رواية للبخاري في(6/471)
صفحة رقم 472
الخصومات والرقاق وأحاديث الأنبياء وهي لمسلم أيضاً قالا : استب رجلان : رجل من المسلمين ورجل من اليهود - وفي رواية لمسلم : رجل من اليهود ورجل من المسلمين - قال المسلم : والذي اصفطى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على العالمين ، قال البخاري في كتاب التوحيد وأحاديث الأنبياء : في قسم يقسم به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، قال البخاري : فغضب المسلم عن ذلك فلطم وجه اليهودي ، وقال مسلم وكذلك البخاري في التوحيد والخصومات وأحاديث الأنبياء : فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، قال البخاري في الخصومات : فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المسلم فسأله عن ذلك فأخبره - ثم اتفقا : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون ) قال البخاري في الرقاق والخصومات وأحاديث الأنبياء ونسخة في التوحيد ( يوم القيامة فأكون في أول من يفيق ) وفي رواية له في الخصومات ( فأصعق معهم ) وفي رواية له في الرقاق وفي رواية في التوحيد وهي رواية لمسلم وأبي داود ( فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش ) وقال أبو داود ( في جانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله ) وفي رواية ( فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور ) وفي رواية للبخاري في أحاديث الأنبياء ( فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله ) ولم يذكر قبلي وروى الحديث الترمذي في تفسير سورة الزمر وبان ماجه في الزهد : قال : قال اليهودي ، وقال ابن ماجه : رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى وموسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يداً فصك بها وجهه - وقال ابن ماجه : فلطمه - قال : تقول هذا وفينا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ونفخ في الصور ) وقال ابن ماجه : تقول هذا وفينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( قال الله تعالى : ونفخ في الصور - فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ ) وقال ابن ماجه : فإذا أنا بموسى آخذ ( بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله ، ومن قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
وفي رواية للبخاري في الرقاق ( يصعق الناس حين يصعقون ، فأكون أول من قام ، فإذا موسى آخذ بالعرش ، فما أدري أكان فيمن صعق ) قال : ورواه أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه ، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس جاء يهودي فقال : يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك ، قال : من ؟ قال : رجل من الأنصار ، قال : ادعوه ، قال : ضربته ؟ قال : سمعته بالسوق يحلف ( والذي اصطفى(6/472)
صفحة رقم 473
موسى على البشر ) قلت : أي خبيث على محمد ، فأخذتني غضبة ضربت وجهه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تخيروا بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض ) وفي رواية في أحاديث الأنبياء ( فأكون أول من يفيق - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى ) وفي رواية في أحاديث الأنبياء ( فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور ) والله أعلم - هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة ، وأما معنى صعق قلإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه ، قال في القاموس : الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب ، وصعق كسمع صعقاً ويحرك وصعقة وتصعاقاً : غشي عليه .
والصعق محركة : شدة الصوت ، وككتف : الشديد الصوت ، وقال عبد الحق في الواعي : الأزهري : الصاعقة - يعني بالفتح - وأصعقتهم - إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا ، ومن حديث الحسن : ينتظر بالمصعوق ثلاثاً ما لم يخافوا عليه نتناً - يعني الذي مات فجأة ، قال : والصاعقة مصدر جاء على فاعلة ، تقول : سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء ، وقوله :
77 ( ) وخر موسى صعقاً ( ) 7
[ الأعراف : 143 ] أي مغشياً عليه ، دل على ذلك قوله سبحانه ) فلما أفاق ( إنما يقال : أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت ، قال : وجملة الصاعقة الصوت مع النار ، وقال أبو عبد الله القزاز : الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله ، واشتقاق الصاعقة من هذا ، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول : إنه لصعق ، أي شديد الصوت ، وكذا هو صعاق - انتهى .
فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة ، وعلى الغشي كذلك ، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت ، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة ، وأيضاً فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام ، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه ، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها ، وعلى تقدير أن تكون غشياً إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أن يحصل له غشي أصلاً ، لأن الذي يكون به(6/473)
صفحة رقم 474
بطشه بالعرش - وهو بروحه وجسه - إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث ، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبساً أن يكون ذلك بعد البعث ، وتكون حينئذ النفخات أربعاً : الأولى لإماتة الأحياء ، الثانية لإحياء جميع الموتى ، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس ، ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره ) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ( الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد ، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب ، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب ، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في كثير من رواياته : ( فإن الناس يصعقون يوم القيامة ) فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره ، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة ، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول من تنشق عنه الأرض ، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث ، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك ، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه ، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل ، ولذلك عبر عنها بالفزع ، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أوتي جوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصاراً ، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصراً عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف ، وهو مما لا يظن ببليغ ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس ( صلى الله عليه وسلم ) فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيداً أنها أربع ، ولعل ذلك معنى
77 ( ) أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين ( ) 7
[ غافر : 11 ] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر ، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث ، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات ( فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا موسى ) إلى آخره ، فالظاهر أن راويها وهم ، أو روى المعنى فما وفي بالغرض ، والراجح روايات من قالوا ( فأكون أول من يفيق ) بالكثرة وبزوال الإشكال ، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه ، ثم(6/474)
صفحة رقم 475
رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال : وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض .
وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه : تكميل : زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع : الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض ، حياً ، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت ، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم ، لا يموت منها أحد ، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي ، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع ، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين ، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً ويغشى على من كان ميتاً ، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى ، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كلن مغشياً عليه ويحيى من كان ميتاً ، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية ، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل ، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالاً وفزعاً ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله ، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض - والله الموفق .
الزمر : ( 69 - 72 ) وأشرقت الأرض بنور. .. . .
) وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( ( )
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن ، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي ، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال : ( وأشرقت ) أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة ) الأرض ) أي التي أوجدت لحشرهم ، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لا سيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال : ( بنور ربها ) أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل ، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً ، وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة .
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة ، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم(6/475)
صفحة رقم 476
من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة الأمر فيه فقال : ( ووضع الكتاب ) أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به .
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين ، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف ، وقد يتبعه من أراد الله به الخير ، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً ، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس ، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال : ( وجاء بالنبيين ( للشهادة على أممهم بالبلاغ .
ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين ، عبر بجمع الكثرة فقال : ( والشهداء ) أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية ، ووقع الجزاء على حسب ذلك ، فظهر العدل رحمة للكفار ، وبان الفضل رحمة للمسلمين ) وقضى بينهم ) أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم ، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال : ( بالحق ( بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل .
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما ، أزال ذلك بقوله : ( وهم ) أي باطناً وظاهراً ) لا يظلمون ) أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً ، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً .
ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم ، وليس نصاً في شمول الحكم لكل عمل ، نص عليه بقوله ، ذاكراً الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق ، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم ، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم ، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثواباً والقبيحة إن كان عقاباً ، والفرق بينه وبين العقل المؤسس على الشهوة وقوة الداعية : ( ووفيت كل نفس ( ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى ، جعل الموفي نفس العمل فقال : ( ما عملت ) أي من الحسنات ، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير ( والله أعلم بما يعملون ) .(6/476)
صفحة رقم 477
ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصاً في العلم قال : ( وهو أعلم ) أي من العاملين والشهداء عليهم ) بما يفعلون ) أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا .
فالآية من الاحتباك : ذكر ما عملت أولاً يدل على ما فعلت ثانياً ، وذكر ما يفعلون ثانياً يدل عليه ما يفعلون أولاً ، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظالم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم ، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازي عليه بل الله يعلمه .
ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير ، قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب فقال : ( وسبق ) أي بأمر يسير من قبلنا بعد إقامة الحساب سوقاً عنيفاً ) الذين كفروا ) أي غطوا أنوار عقولهم ، فالتبست عليهم الأمور فضلوا ) إلى جهنم ) أي الدركة التي تلقاهم بالعبوسة كما تلقوا الأوامر والنواهي والقائمين بها بمثل ذلك ، فإن ذلك لازم لتغطية العقل ) زمراً ) أي جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض - قاله أبو عبيد - أصنافاً مصنفين ، كل شخص مع من يلائمه في الطريقة الزمرة ، مأخوذة من الزمر وهو صوت فيه التباس كالزمر المعروف لأن ذلك الصوت من لازم الجمع .
ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاً على صغاره ، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق : ( حتى إذ جاءوها ) أي على صفة الذل والصغار ، وأجاب ( إذا ) بقوله : ( فتحت أبوابها ) أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام .
ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة ، فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه قال : ( وقال لهم خزنتها ( إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً : ( ألم يأتكم رسل ( ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى قال واصفاً لرسل : ( منكم ) أي لتسهل عليكم مراجعتهم .
ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس قال آتياً بصفة أخرى معبراً بالتلاوة التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير : ( ويتلون ) أي يوالون ) عليكم آيات ( ولما كان أمر المحسن أخف على النفس فيكون أدعى إلى القبول قالوا : ( ربكم ) أي بالبشارة إن تابعتم .
ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر قالوا : ( وينذرونكم لقاء يومكم ( ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص قالوا : ( هذا ( إشارة إلى يوم البعث كله ، أي من الملك الجبار إن(6/477)
صفحة رقم 478
نازعتم ، فالآية من الاحتباك : ذكر الرب أولاً دلالة على حذف الجبروت ثانياً والإنذار ثانياً دليلاً على البشارة أولاً ) قالوا بلى ) أي قد أتونا وتلوا علينا وحذرونا .
ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه مع كونه يسيراً من أعجب العجب ، بينوا موجبه بقولهم : ( ولكن حقت ) أي وجبت وجوباً يطابقه الواقع ، لا يقدر معه على الانفكاك عنه ) كلمة العذاب ) أي التي سبقت في الأزل علينا - هكذا كان الأصل ، ولكنهم قالوا : ( على الكافرين ( تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تعظيم للأنوار التي أتتهم بها الرسل .
ولما فرغوا من إهانتهم بتكبيتهم ، أنكوهم بالأمر بالدخول ، وعبر بالمبني للمفعول إشارة ألى أنهم وصلوا إلى أقصى ما يكون من الذل إنهم يتمثلون قول كل قائل جل أو قل ، فقيل في جواب من كأنه قال : ماذا وقع بعد هذا التقريع ؟ : ( قيل ) أي لهم جواباً لكلامهم : ( ادخلوا أبواب جهنم ) أي طبقاتها المتجهمة لداخليها .
ولما كان الإخبار بالخلود حين الدخول أوجع لهم قالوا : ( خالدين ) أي مقدرين الخلود ) فيها ( ولما كان سبب كفرهم بالأدلة هو التكبر ، سبب عن الأمر بالدخول قوله معرى عن التأكيد لأنه يقال في الآخرة ولا تكذيب فيها يقتضي التأكيد ولم يتقدم منهم هنا كذب كالنحل بل اعتراف وتندم ) فبئس مثوى ) أي منزل ومقام ) المتكبرين ) أي الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم ، فلذلك تعاطوا أسبابها .
الزمر : ( 73 - 75 ) وسيق الذين اتقوا. .. . .
) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما ذكر أحوال الكافرين ، أتبعه أحوال أضدادهم فقال : ( وسيق ( وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق ، فشتان ما بين السوقين هذا سوق إكرام ، وذاك سوق إهانة وانتقام ، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع ، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم ، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم ، فسبحان من أنزله معجز المباني ، متمكن المعاني ، عذب الموارد والمثاني .(6/478)
صفحة رقم 479
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم ، دل على ذلك بقوله : ( الذين اتقوا ) أي لا جميع المؤمنين ) ربهم ) أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة ، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة ، فقيل : ما أطول هذا اليوم ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيدهإنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة ) .
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( تجتمعون يوم القيامة ) فذكر الحديث حتى قال : قالوا : فأين المؤمنون يومئذ ؟ قال ( توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار ) .
ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين ) إلى الجنة زمراً ( أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة ، وأهل الصوم كذلك - إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه .
ولما ذكر السوق ، ذكر غايته بقوله : ( حتى إذا جاءها ( ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به ، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوه هوان قال : ( وفتحت ) أي والحال أنها قد فتحت ) أبوابها ) أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها ، ويرون من زهرتها وبهجتها ، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا ولا رأوا عنه ثانياً .
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار ، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار ، فقال عطفاً على جواب ( إذا ) بما تقديره : تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم : ( وقال لهم خزنتها ) أي حين الوصول : ( سلام عليكم ( تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها .
ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا : ( طبتم ) أي صلحتم لسكناها ، فلا تحول لكم عنها أصلاً ، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب ، فلا يدخلها إلا مناسب(6/479)
صفحة رقم 480
لها ، قولهم : ( فادخلوها ( فأنتج ذلك ) خالدين ( ولعل فائدة الحذف لجواب ( إذا ) أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف ، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب ، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد .
ولما كان التقدير : فدخلوها ، عطف عليه قوله : ( وقالوا ) أي جميع الداخلين : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ، وعدلوا إلى الاسم الأعظم لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا : ( لله ) أي الملك الأعظم ) الذي صدقنا وعده ( في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة ) وأورثنا ( كما وعدنا ) الأرض ( الي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا ) نتبوأ ) أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها ، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير : ( من الجنة ) أي كلها ) حيث نشاء ( لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان اصلاً ، ولا يشتهي إلا مكانه .
ولما كانت بهذا الوصف الجليل ، تسبب عنه مدحها بقوله : ( فنعم ( أجرنا - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : ( أجر العالمين ( ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال .
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات ، وما وصلوا إليه من المقامات ، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات ، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره .
) وترى ( معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى ) وإن القوة لله جميعاً ) [ البقرة : 165 ] ) الملائكة ( القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق ) حافين ) أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله .
من الخف وهو الجمع ، والحفة وهو جماعة الناس ، والأعداد الكثيرة ، وهو جمع حاف ، وهو الواحد من الجماعة المحدقة .
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه ، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى ، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال : ( من حول العرش ) أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه ، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة .
محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم ، فإدخال ) من ( يفهم أنهم(6/480)
صفحة رقم 481
مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله ، لا يملؤون ما حوله ، حال كونهم ) يسبحون بحمد ( وصرف القول إلى وصف الأحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال : ( ربهم ) أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره ، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم ، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم ، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه ، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام .
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات ، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك ( الآية فقال : ( وقضى بينهم ) أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات .
ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً ، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام ، قال : ( بالحق ( بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع ، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا ، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا ، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات ، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات ، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات : ( وقيل ) أي من كل قائل : آخر الأمور كلها ) الحمد ) أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال : ( لله ( ذي الجلال والإكرام ، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين .
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر ، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم : ( رب العالمين ) أي الذي ابتدأهم ، أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير ، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير ، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير ، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه ، فتحقق أنه تنزيله ، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام ، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال ، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله ، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول ، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني ، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه ، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين .
.. . .(6/481)
صفحة رقم 482
سورة غافر
غافر : ( 1 - 4 ) حم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ ( ( )
سورة غافر مكية - آياتها خمس وثمانون وتسمى سورة المؤمن والطول مقصودها الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين ، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل ، بأن الفاعل ذلك له العزة الكاملة والعلم الشامل ، وقد بين ما يغضبه وما يرضيه غاية البيان على وجه الحكمة ، فمن لم يسلم أمره كله إليه وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها بقوله أو فعله فإنه يخزيه فيعذبه ويرديه ، وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر ، فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء لمن يشاء إلا كامل العزة ، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم ، وكذا في جميع الأوصاف التي في الآية من المثاب والعقاب ، وكذا الطول فإنه لا يقدر على التطول المطلق إلا من كان كذلك ، فإن من كان ناقص العزة فهو قابل لأنه يمنعه من بعض التطولات مانع ، ولن يكون ذلك إلا بنقصان العلم ، وكذا الدلالة بتسميتها بالمؤمن فإن قصته تدل على هذا المقصد ولا سيما أمر القيامة الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم لمعرفة المعبود ) بسم الله ( الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه ، فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك لا يعارض ) الرحمن ( الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان لا خفاء معه ) الرحيم ( الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً ، وفي تلك الأرض وملكوت السماء عظيماً ) حم ) أي هذه حكمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال .
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله صدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق(6/482)
صفحة رقم 483
في داره التي أعدها له ، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه ، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال : ( تنزيل الكتاب ) أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والأكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة ، والتدريب للألباب السائرة في جو المعاني والطائرة ) من الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال .
ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر ، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال : ( العزيز العليم ( .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب ، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله ) ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشكسون ورجلاً سلماً لرجل ( ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم ، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم
77 ( ) ما نعبدهم إلا لقربونا إلى الله زلفى ( ) 7
[ الزمر : 3 ] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره ، فقال الله تعالى
77 ( ) أليس الله بكاف عبده - إلى قوله : أليس الله بعزيز ذي انتقام ( ) 7
[ الزمر : 37 ] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال
77 ( ) قل أفريتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ( ) 7
[ الزمر : 38 ] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال
77 ( ) قل لله الشفاعة جميعاً ( ) 7
[ الزمر : 44 ] ) قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ( ) أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر ( ) الله خالق كل شيء ( ) له مقاليد السماوات والأرض ( ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى ) أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( ثم قال تعالى ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ( ثم اتبع تعالى - ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين ، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر ، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه ، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : ( حك تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للداؤ الآخرة ، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار ، مع قهره للكل في الدارين معاً ، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره ، ثم قال تعالى ) غافر الذنب وقابل التوب ( تأنيساً لمن(6/483)
صفحة رقم 484
استجاب بحمده ، وأناب بلطفه ، وجرياً على حكم الرحمة وتغليبها ، ثم قال ) شديد العقاب ذي الطول ( ليأخذ المؤمن عبوديته من الخوف والرجاء ، واكتنف قوله ) شديد العقاب ( بقوله ) غافر الذنب وقابل التوبة ( وقوله ) ذي الطول ( وأشار سبحانه بقوله - ) فلا يغررك تقبلهم في البلاد ( - إلى قوله قبل ) وأوثنا الأرض ( وكأنه في تقدير : إذا كانت العاقبة لك ولإتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد ، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم ، وجدالهم في الآيات كجدالهم ، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب ، وسبق لهم في أم الكتاب - انتهى .
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين ، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح ، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن ، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به ، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة ، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله : ( غافر الذنب ) أي بتوبة وغير توبة إن شاء ، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة .
قال السمين : نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة ، ولم يستثن الكوفيون شيئاً .
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك ، وكان المشركون يقولون : قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا ، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال : ( وقابل التوب ( وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة .
ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته ، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن ، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه ، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في
77 ( ) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ( ) 7
[ النحل : 61 ] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ : ( شديد العقاب ( على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر ، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها .
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ ، أتبعه التشويق إلى الفضل ، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة ، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه : ( ذي الطول ) أي سعة الفضل والإنعام والقدرة(6/484)
صفحة رقم 485
والغنى والسعة والمنة ، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه ، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال : ( لا إله إلا هو ( ولما أنتج هذا كله تفرده ، أنتج قطعاً قوله : ( إليه ) أي وحده ) المصير ) أي في المعنى في الدنيا ، وفي الحس والمعنى في الآخرة ، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً ، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس ، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه ، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده .
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه ، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه ، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه : ( ما يجادل ) أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده ) في آيات ( وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال : ( الله ) أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير ، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها ، أو غيره بالتشكيك له ، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى ) إلا الذين كفروا ) أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم .
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه ، وأن الله تعالى قادر كل قدرة لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال ، تسبب عن ذلك قوله : ( فلا يغررك تقلبهم ) أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم ) في البلاد ( فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة ، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق ، أو أن أحداً يحميهم علينا ، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين ، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله .
غافر : ( 5 - 7 ) كذبت قبلهم قوم. .. . .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ( )
ولما نهى من الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله ، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين ، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة ، (6/485)
صفحة رقم 486
وتلاشيهم عند المصادمة ، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم : ( كذبت ( ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم ، جعل مستغرقاً بجميع الزمان ، فقال من غير خافض : ( قبلهم ( ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع ، وحدهم فقال : ( قوم نوح ) أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء .
ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان ، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال : ( والأحزاب ) أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله : ( من بعدهم ( .
ولما كان التذكيب وحده كافياً في الأذى ، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة ، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال : ( وهمَّت كل أمة ) أي من الأحزاب المذكورين ) برسولهم ) أي الذي أسلناه إليهم .
ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال : ( ليأخذوه ( ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره ، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً : ( وجادلوا بالباطل ) أي الأمر الذي لا حقيقة له ، وليس له من ذاته إلا الزوال ، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب ، ثم بين علة مجادلتهم فقال : ( ليدحضوا ) أي ليزلقوا فيزيلوا ) به الحق ) أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته .
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل مغلوب ، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه ، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للألباس ، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم : ( فأخذتهم ) أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم .
ولما كان أخذه عظيماً ، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال : ( فكيف كان عقاب ( ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه ، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد .
ولما كان التقدير : فحقت عليهم كامة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها ، عطف عليه قوله : ( وكذلك ) أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها ) حقت ( بالأخذ والنكال ) كلمت ((6/486)
صفحة رقم 487
وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به ( صلى الله عليه وسلم ) وبشارة له بالرفق بقومه فقال : ( ربك ) أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك .
ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق ، وذلك تغطية للدليل الحق وتلبيس ، كان الحال أحق بالتعبير بالكفر الذي معناه التغطية فلذا قال تعالى : ( على الذين كفروا ) أي أوقعوا الكفر وقتاً ما كلهم سواء هؤلاء العرب وغيرهم ، لأن علة الإهلاك واحدة ، وهي التكذيب الدال على أن من تلبس به مخلوق للنار ، ثم أبدل من ( الكلمة ) فقال : ( أنهم أصحاب النار ) أي من كفر في حين من الأحيان فهو مستحق للنار في الأخرى كما أنه مستحق للأخذ في الدنيا لا يبالي الله به بالة ، فمن تداركته الرحمة بالتوبة ، ومن أوبقته اللعنة بالإصرار هلك .
ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله : ( وما يجادل في آيات ( ما بعده ، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً ، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عاودهم فيه سبحانه ، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال ، أو يقال : إنه لما بين حقوق كلمة العذاب ، كان كأنه قيل : فكيف النجاة ؟ قيل : بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية ، فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر ، فقال مظهراً لشرف الإيمان وفضله : ( الذين يحملون العرش ( وهم المقربون وهم أربعة كما يذكر إن شاء الله تعالى في الحاقه ، فإذا كانت القيامة كانوا ثمانية ، وهل هم أشخاص أو صفوف فيه كلام يذكر إن شاء الله تعالى ) ومن حوله ( وهم جميع الملائكة وغيرهم ممن ربما أراد الله كونه محيطاً به كما تقدم في التي قبلها ) وترى الملائكة حافين من حول العرش ) أي طائفين به ، فأفادت هذه العبارة النص على الجميع مع تصوير العظمة .
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى جملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء ، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا ، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه : ( بحمد ( وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد ، وكائنون تحت تصرفه وقهره ، وإحسانه وجبره ، فقال : ( ربهم ) أي باحاطة بأوصاف الكمال .(6/487)
صفحة رقم 488
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً ، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة ، لا فرق بينهم في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله : ( ويؤمنون ( لأن الإيمان إنما يكون بالغيب .
ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف ، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا ، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود ، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده ، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله : ( ويستغفرون ) أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً .
ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب ، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة : ( للذين آمنوا ) أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو ) وما قدروا الله حق قدره ( ) ويعفو عن كثير ( ( لن يدخل أحد الجنة بعمله ) .
ولما استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره .
ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه ، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول ، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال : ( وسعت كل شيء ( ثم بين جهة التوسع بقوله تميزاً محولاً عن الفاعل : ( رحمة ) أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك ) وعلماً ) أي وأحاط بهم علمك ، فمن أكرمته فعن علم بما جلبته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً .
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك ، قالوا منبهين على ذلك : ( فاغفر للذين تابوا ) أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها ، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها ) واتبعوا ) أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا ) سبيلك ( المستقيم الذي لا لبس فيه .
ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب ، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له ، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا : ( وقهم عذاب الجحيم ) أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم ، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ، ولا يبدل القول لديك ، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء .(6/488)
صفحة رقم 489
غافر : ( 8 - 13 ) ربنا وأدخلهم جنات. .. . .
) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ( ( )
ولما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب ، قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان ) وأدخلهم جنات عدن ) أي إقامة لا عناد فيها .
ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء ، نبهوا على ذلك بقولهم : ( التي وعدتهم ( مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات .
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال : ( ومن صلح من آبائهم ( ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا : ( وأزواجهم وذرياتهم ( .
ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه ، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين ، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره ، ومن ذلك تسميتهم العزى : ( إنك أنت ) أي وحدك ) العزيز ( فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن ) الحكيم ( فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه .
ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم ، وفيه من الأخلاق ما ربما حمله على بعض الأفعال الناقصة دعوا لهم بالكمال فقالوا : ( وقهم السيئات ) أي بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها بتطهير القلوب بنزع كل ما يكره منها أو بأن يغفرها لهم ولا يجازيهم عليها ، وعظموا هذه الطهارة ترغيباً في حمل النفس في هذه الدار على لزومها بقمع النفوس وإماتة الحظوظ بقولهم : ( ومن تق السيئات ) أي جزاءها كلها ) يومئذ ) أي يوم إذ تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات أو إذ تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين : ( فقد رحمته ) أي الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها أن يسمى معها رحمة ، فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد(6/489)
صفحة رقم 490
والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا : ( وذلك ) أي الأمر العظيم جداً ) هو ) أي وحده ) الفوز العظيم ( فالآية من الاحتباك : ذكر إدخال الجنات أولاً دليلاً على حذف النجاة من النار ثانياً ، ووقاية السيئات ثانياً دليلاً على التوفيق للصالحات أولاً ، وسر ذلك التشويق إلى المحبوب - وهو الجنان - بعمل المحبوب - وهو الصالح - والتنفير من النيران باجتناب الممقوت من الأعمال ، وهي السيء فذكر المسبب أولاً وحذف السبب لأنه لا سبب في الحقيقة إلا الرحمة ، وذكر السبب ثانياً في إدخال النار وحذف المسبب .
ولما أتم الذين آمنوا ، فتشوفت النفس إلى معرفة ما لأضدادهم ، قال مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم هذه المناداة بانكار يومها : ( إن الذين كفروا ) أي أوقعوا الكفر ولو لحظة ) ينادون ) أي يوم القيامة بنداء يناديهم به من أراد الله من جنوده أو في الدار أرفع نعماً - أنهم آثر عند الله من فقراء المؤمنين ، أكد قوله : ( لمقت الله ) أي الملك الأعظم إياكم بخذلانكم ) أكبر من مقتكم ( وقوله : ( أنفسكم ( مثل قوله تعالى : ( انظر كيف كذبوا على أنفسهم ( جاز على سبيل الإشارة إلى تنزه الحضرة المقدسة عما لزم فعلهم من المقت ، فإن من دعا إلى أحد فأعرض عنه إلى غيره كان إعراضه مقتاً للمعرض عنه ، وهذا المقت منهم الموجب لمقت الله لهم موصل لهم إلى عذاب يمقتون به أنفسهم ، والمقت أشد البغض ؛ ثم ذكر ظرف مقتهم العائد وباله عليهم بقوله : ( إذا ) أي حين ، وأشار إلى أن الإيمان لظهور دلائله ينبغي أن يقبل من أي داع كان ، فبنى الفعل لما لم يسم فاعله فقال : ( تُدعون إلى الإيمان ) أي بالله وما جاء من عنده ) فتكفرون ) أي فتوقعون الكفر الذي هو تغطية الآيات موضع إظهارها والإذعان بها ، وهذا أعظم العقاب عند أولي الألباب ، لأن من علم أن مولاه عليه غضبان علم أنه لا ينفعه بكاء ولا يغني عنه شفاعة ولا حيلة في خلاصه بوجه .
ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث ، وكانوا قد استقروا العوائد ، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد ، من أن كل ثان لا بد له من ثالث ، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان موت ، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب : ( قالوا ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا ) أمتَّنا اثنتين ( قيل : واحدة عند انقضاء الآجل في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر ، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة
77 ( ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم(6/490)
صفحة رقم 491
يحييكم ( ) 7
[ آية : 28 ] وأما الصعق فليس بموت ، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت ، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم ، والضب على الشهادتين ، والفرس حين قال لها فارسها ثبي إطلال على قولها وثباً وسورة البقرة ) وأحيينا اثنين ( واحدة في البطن ، وأخرى بالبعث بعد الموت ، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق ، أو الإقامة في القبر ، فشاهدنا قدرتك على البعث ) فاعترفنا ) أي فتسبب عن ذلك أنّا اعترفنا بعد تكرر الإحياء ) بذنوبنا ( الحاصلة بسبب إنكار البعث لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى ، فذلك توبة لنا ) فهل إلى خروج ) أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً ) من سبيل ( فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياء ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث .
ولما كان الجواب قطعاً : لا سبيل إلى ذلك ، علله بقوله : ( ذلكم ) أي القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم ) بأنه ) أي كان بسبب أنه ) إذا دُعي الله ) أي وجدت ولو مرة واحدة دعوة الملك الأعظم من أي داع كان ) وحده ) أي محكوماً له بالوحدة أو منفرداً من غير شريك ) كفرتم ) أي هذا طبعكم دائماً رجعتم إلى الدنيا أولاً ) وإن يشرَك به ) أي يوقع الإشراك به ويجدد ولو بعدد الأنفاس من أي مشرك كان ) تؤمنوا ) أي بالشركاء وتجددوا ذلك غير متحاشين ومن تجديد الكفر وهذا مفهم لأن حب الله للإنسان أكبر من حبه له الدال عليه توفيقه له في أنه إذا ذكر الله وحده آمن ، وإن ذكر معه غيره على طريقة تؤل إلى الشركة كفر بذلك الغير وجعل الأمر لله وحده ) فالحكم ) أي فتسبب عن القطع بأن لا رجعة ، وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونفوذ ذلك أن كل حكم ) لله ) أي المحيط بصفات الكمال خاص به لا دخل للعوائد في أحكامه بل مهما شاء فعل إجراء على العوائد أو خرقاً لها ) العلي ) أي وحده عن أن يكون له شريك ، فكذب قول أبي سفيان يوم أحد ( اعل هبل ) وقول ابن عربي أحد أتباع فرعون أكذب وأقبح وأبطل حيث قال : العلي علا عن من وما ثم إلا هو ، فعليه الخزي واللعنة وعلى من قال بقوله وعلى من توقف في لعنه .
ولما كانت النفوس لا تنقاد غاية الانقياد للحاكم إلا مع العظمة الزائدة والقدم في المجد ، قال معبراً بما يجمع العظمة والقدم : ( الكبير ( الذي لا يليق الكبر إلا له ، وكبر كل متكبر كل كبير متضائل تحت دائرة كبره وكبره ، وعذابه مناسب لكبريائه فما أسفه من شقي بالكبراء فإنهم يلجئون أنفسهم إلى أن يقولوا ما لا يجديهم ) ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ( : ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك بقوله ذاكراً من آيات(6/491)
صفحة رقم 492
الآفاق العلوية ما يرد الموفق عن غيه : ( هو ) أي وحده ) الذي يريكم ) أي بالبصر والبصيرة ) آياته ) أي علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال تكميلاً لنفوسكم ، فينزل من السماء ما فيحيي به الأرض بإعادة ما تحطم فيها من الحبوب فتفتتت بعد موتها بصيرورة ذلك الحب تراباً لا تميز له عنه من طبعه الإنابة ، وهو الرجوع عما هو عليه من الجهل إلى الدليل بما ركز في فطرته من العلم ، وذلك هو معنى قوله : ( وينزل لكم ) أي خاصاً بنفعكم أو ضركم ) من السماء ) أي جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله ) رزقاً ( لإقامة أبدانكم من الثمار والأقوات بانزال الماء فهو سبحانه يدلكم عليه ويتحبب إليكم لتنفعوا أنفسكم وأنتم تتبغضون إليه وتتعامون عنه لتضروها ) وما يتذكر ( ذلك تذكراً تاماً - بما أشار إليه الإظهار - فيقيس عليه بعث من أكلته الهوام ، وانمحق باقيه في الأرض ) إلا من ينيب ) أي له أهلية التجديد في كل وقت للرجوع إلى الدليل بأن يكون حنيفاً ميالاً للطافته مع الدليل حيثما مال .
ما هو بحلف جامد ما الفه ، ولا يحول عنه أصلاً ، لا يصغي إلي قال ولا قيل ، ولو قام على خطابه كل دليل .
غافر : ( 14 - 17 ) فادعوا الله مخلصين. .. . .
) فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ( )
ولما كان من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل ، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده ، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث ، فكان سبباً لإخلاصهم ، فقال تعالى مسبباً عنه : ( فادعوا ( وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين فقال : ( الله ) أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل ) مخلصين له الدين ) أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها ، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله ، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص .
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة(6/492)
صفحة رقم 493
الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى : ( ولو كره ) أي الدعاء منكم ) الكافرون ) أي الساترون لأنوار عقولهم ، والإخلاص أن يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر ، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه - سبحانه وما أعز شأنه - بنفع ولا ضر ، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم ، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه ، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص ، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري : ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص .
ولما كان الإخلاص لا يتأنى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام ، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان ، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به ، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره ، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العبادج مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره : هو ) رفيع الدرجات ) أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات .
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك ، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه ، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه ، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه ، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا ، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه ، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال ، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في ) سأل ( بصيغة منتهى الجموع ) المعارج ( - ثم قال ممثلاً لنا بما عرف نعرف : ( ذو العرش ) أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو ، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان ، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان .
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال : ( يلقي الروح ) أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح ) من أمره ) أي من كلامه ، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه ، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك .
ولما كان أمره عالياً على كل أمر ، أشار(6/493)
صفحة رقم 494
إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال : ( على من يشاء ( ولما كان ما رأه من الملوك لا يتمكنون من رفع من أرادوا من رقيقهم ، نبه على عظمته بقوله : ( من عباده ( وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه ، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم
77 ( ) أو أنزل عليه الذكر من بيننا ( ) 7
[ ص : 8 ] بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين ، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه ، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات .
قال الرازي : قال ابن عطاء : حياة القلب حسب ما ألقي إليه من الروح ، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة ، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة ، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة ، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة ، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة والخدمة ، ومنهم من ألقي إليه روح الحياو فقط ، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله ، فهو ميت في الباطن ، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد - انتهى .
وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم ، وتصرفهم في عظيم شأنهم .
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم ، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال : ( لينذر ) أي الذي اختصه سبحانه بروحه ، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع ، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره ) يوم التلاق ) أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل ، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له ، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين : أحدهما بالآخر فإنه - والله أعلم - قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره : الأسعدين بغير حساب ، والأخسرين لا يقام لهم وزن ، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض .
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال ، أو أشجار أو تلال ، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال ، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له : ( يوم هم ) أي بظواهرهم وبواطنهم ) بارزون ) أي برزوا لا ساتر فيه أصلا .(6/494)
صفحة رقم 495
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم ، أجرهم على ما يعهدون ، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم : ( لا يخفى على الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) منهم شيء ) أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره .
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصاينهم ويندمهم قال : ( لمن الملك اليوم ) أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد ، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال :
سكت الدهر طويلاً عنهم قد أبكاهم دماً حين نطق
) لله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ، ثم دل على ذلك بقوله : ( الواحد ) أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها ) القهار ) أي الذي يقهر من يشاء متكرراً وصفه بذلك دائماً أبداً لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة .
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب ، أخبرهم بما يزيد رعبهم ، ويبعث رغبهم ورهبهم ، وهو نتيجة تفدره بالملك قال : ( اليوم تجزى ) أي تقضى وتكافأ ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه ) كل نفس ( لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم ، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منه .
ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب ، لأن ذلك شأم الملك ، قال معبراً بالباء والكسب : ( بما ) أي بسبب ما ) كسبت ) أي عملت ، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت لها .
ولما كانت السببية مفهمة للعدل ، فإن الزيادة تكون بغير سبب ، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا : ( لا ظلم ) أي بوجه من الوجوه ) اليوم ( ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه ، ولا يتأنى حفظه وربطه ، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها :(6/495)
صفحة رقم 496
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
ضافت النفوس من خوف الطول ، فخفف عنها بقوله معلماً أن أموره على غير ما يعهدونه ، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم : ( إن الله ) أي التام القدرة الشامل العلم ) سريع الحساب ) أي بليغ السرعة فيه ، لا يشغله حساب أحدج عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير ، ولا يشغله شأن من شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد ، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب ، ولا شيء ، فكان في ذلك ترجية للفريقين وتخويف ، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب ، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب .
غافر : ( 18 - 20 ) وأنذرهم يوم الآزفة. .. . .
) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( ( )
ولما تم هذا على هذا الوجه المهول ، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله ، منها يوم البعث وهو ظاهر ، ومنه يوم التلاق لما تقدم ، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته ، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه ، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : وأمن ممن ألقينا هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به ، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة : ( وأنذرهم ) أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن ) يوم الآزفة ) أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس ، وهي القيامة ، كرر ذكرها الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها .
ولما ذكر اليوم ، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال : ( إذ القلوب ) أي من كل من حضره .
ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن ، عبر ب ( لدةى ) فقال : ( لدى الحناجر ) أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله ، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى ، يعني أنها زوالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الافئدة هواء ، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا .
ولما كان الحديث - وإن كان في الظاهر عن القلوب - إنما هو عن أصحابها ، جمع على طريقة جمع العقلاء ، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم ، وبها صلاح الجملة وفسادها ، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال : ( كاظمين ) أي ممتلئين خوفاً ورعباً(6/496)
صفحة رقم 497
وحزناً ، ساكتين مكروبين ، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم .
ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم ، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات ، قال مستانفاً : ( ما للظالمين ) أي العريقين في الظلم منهم ) من حميم ) أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم ، قال ابن برجان : والحميم : الماء الحار الناهي في الحرارة ، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً ، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً ) ولا شفيع يطاع ) أي ليس شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع ، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك ، فيبرأ منهم .
ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه ، وإما بالاعتذار عنه ، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر ، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو عملوا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه ، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال : ( يعلم خائنة ( ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي ، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة ، وأنه ما عدل عنه إلى جميع القلة إلا للإشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل ، عليه هين ، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال : ( الأعين ) أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر ، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين ، قال أبو حيان : من كسر وغمز ونظر يفهم منه ما يراد - انتهى .
وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر ، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر ، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال : ( وما تخفي الصدور ) أي عن المشفوع عنده وغير ذلك .
ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً ، لكونه لا حكمة فيه ، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال : ( والله ) أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال ) يقضي بالحق ) أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه ، فلو قضى ذلك الكمال ) والذين يدعون ) أي الظالمون - على قراءة الجماعة ، وأيها الظالمون - على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالأزراء .
ولما كانت المراتب جون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء ، أثبت الجار فقال :(6/497)
صفحة رقم 498
) من دونه ) أي سواه ، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره ) لا يقضون بشيء ( من الأشياء أصلاً ، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه ، فلا مانع له من القضاء بالحق ، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في الظلم أنه لا ينفك عنه .
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم ، وأن الأمر له وحده ، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر ، مرغباً في كل خير ، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك : ( إن ذلك ( عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان ) هو ) أي وحده .
ولما ذكر ما هو غيب ، وصفه بأظهر فقال : ( السميع ) أي لكل ما يمكن أن يسمع ) البصير ) أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم ، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة ، ومن لا إدراك له ولا قضاء له ، فثبت أن الأمر له وحده ، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، فإن كل أحد يحجم عنها ختى يصل الأمر إليه ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : أنا لها أنا لها ، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع ، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره : جنته أو ناره ، ورى الشيخان : البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كما مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دعوة فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ، فنهش منها نهشة ، فقال : ( أنا سيد الناس يوم القيامة ، هل تدرون مم ذاك ، يجمع الله الأولين والاخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ، ويسمعهم الداعي ، وتدنو منهم الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون ، فيقول الناس : ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم ، فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء ، وكل واحد منهم يحيل على الذي يعده ألى أن يقول عيسى عليه السلام : اذهبوا إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين يأتونه : أنا لها ، فينطلق فيسجد تحت العرش ) وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه ( صلى الله عليه وسلم ) من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب ( من سأل الناس تكثراً ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قال : ( إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد(6/498)
صفحة رقم 499
فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب ، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم ) ، وكذا فيما رواه أيو يعلى في مسنده فقال : حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في طائفة من أصحابه فقال : ( إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر ) وهو حديث طويل جداً إلى أن قال ( ثم يقفون موقفاً واحداً مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم ، فتبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم تدمعون دماً وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان ، فتضجون وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا يقضى بيننا ، فتقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلاً ، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول : ما أنا بصاحب ذلك ) ثم يستقربون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حتى تأتوني ، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجداً ) فقال أبو هريرة : يا رسول الله ما الفحص ؟ قال ( قدام العرش - حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي : يا محمد فأقول : نعم يا رب فيقول : ما شأنك - وهو أعلم فأقول : يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم ، قال : قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة ، ومثل الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ، وهو آت ، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام ، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية ، وهو اليوم على أربعة ) إلى أن قال ( فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ، ثم يهتف بصوته فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم ، وأبصر أعمالكم ، فانصتوا لي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم ، ثم يقول الله عز وجل ) ألم أعهد إليكم يا بني(6/499)
صفحة رقم 500
آدم أن لا تعبدوا الشيطان أنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون - أو بها تكذبون - شك أبو عاصم ، وامتازوا } [ يس : 61 ] فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه ) فذكره وهو طويل جداً ، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة ، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال ( ثم يأذن الله في الشفاعة ، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع ) إلى أن قال ( ثم يقول الله عز وجل : بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين .
فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره ( وروى ابن حبان في صحيحه - قال المنذري : ولا أعلم في إسناده مطعناً - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة .
يا رباه ، فيقول الرب جل وعلا : يا لبيكاه ، فيقول إبراهيم : يا رب حرقت بني - فيقول الله : أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان ( وروى الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع : ( يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول : يا أبة أي ابن كنت لك ؟ فيقول : خير ابن ، فيقول : هل أنت مطيعي اليوم ، فيقول : نعم ، فيقول خذ بازرتي ، فيأخذ بازرته ، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق ، فيقول : يا عبدي ادخل من أب أبواب الجنة شئت ، فيقول : أي ربي ، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني ، قال : فيمسخ الله أباه ضبعاً أمذر أو أمجر ( شك أبو جعفر أحد وراة ابن منيع ) فيأخذ بأنفه فيقول : أبوك هو ، فيقول : ما هو بأبي ، فيهوى في النار ( وهو في البخاري في احاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ : ( يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم عليه السلام : ألم أقل لك : لا تعصني ، فيقول له ابوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد ، فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام : انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ(6/500)
صفحة رقم 501
( وهو ذكر الضبعان ) متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار ( ، وورى أبو يعلى الموصلي والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة ، قال : فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك ، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال : فيقول : أي رب أبي ، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه ، فكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرون أنه إبراهيم عليه السلام ( ، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب على المنبر يقول : ( إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين ، إلا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام إلا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح ) وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم - إلى قوله : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ) [ المائدة : 118 ] ورواه الترمذي والنسائي بنحوه ، ومن نحو ما قال عيسى عليه السلام قول إبراهيم عيله السلام كما حكاه الله عنه ) فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( وروى مسلم في الإيمان من صحيحه والنسائي في التفسير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام ) رب إنهن أظللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني ( الآية - وقال عيسى عليه السلام ) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( فرفع يديه وقال : اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي - وبكى ) ، فقال الله عز وجل : يا جبريل ، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله : فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل ( إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) وللشيخين في الحوض والفتن ومسلم في فضل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أنا فرطكم على الحوض ، من مر على شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ) زاد أبو سعيد رضي الله عنه : فاقول(6/501)
صفحة رقم 502
( إنهم مني - فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غير بعدي ) ولمسلم وابن ماجه - وهذا لفظه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - فذكر خطبته في الحج ثم قال : ( إلا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم ، ولا تسودوا وجهي ، ألا وإني مستنفذ أناساً ومستنفذ مني أناس فأقول : يا رب : أصحابي أصحابي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) ولفظ مسلم ( أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول : يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) ولمسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وهو بين ظهراني أصحابه : ( إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم ، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن : أي رب مني ومن أمتي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ما زالوا يرجعون على أعقابهم ) .
وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله ، قالوا : يا نبي الله تعرفنا ؟ قال : نعم ، لكم سيما ليست لغيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء ، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول يا رب هؤلاء اصحابي ، فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ وفي رواية : بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل ، فقال : هلم ؛ فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم ، فقال : إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم .
أي ضوالها - أي الناجي قليل ، وفي رواية لمسلم في الوضوء : ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً ) .
قال المنذري : والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً .
غافر : ( 21 - 26 ) أولم يسيروا في. .. . .
) أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ(6/502)
صفحة رقم 503
وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) 73
( ) 71
ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار ، وختمه بالإنذار يما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار ، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار ، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار ، ومن الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار ، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به من الظالمين الأولين من تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى : ( أو لم يسيروا ( ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم ، نبه عليه بقوله : ( في الأرض ) أي أي أرض ساروا فيها وعظمتهم بما حوت من الأعلام .
ولما كان السير سبباً للنظر قال : ( فينظروا ) أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم .
ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة ، نبه عليها بقوله : ( كيف ) أي أنها أهل لأن يسأل عنها ، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله : ( كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين كانوا ) أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها .
ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه ، نبه على ذلك بالجار فقال : ( من قبلهم ) أي قبل زمانهم ) كانوا ( ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين ، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس ، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم ، فأكدر أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله : ( هم ) أي المتقدمون ، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة .
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة ، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول : ما كان أمرهم ؟ : ( أشد منهم ) أي هؤلاء - قرأه ابن عامر ) منكم ( بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتقاف للتنصيص على المراد ) قوة ) أي ذواتاً ومعاني ) و ( أشد ) آثاراً في الأرض ( لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين ، وأما المتأخرون فتطمس آثارهم في أقل من قرن .
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة(6/503)
صفحة رقم 504
رسله ، فكان ذلك سبب هلاكهم قال : ( فأخذهم الله ) أي الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة ، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم ، قال مبيناً ما أخذوا به : ( بذنوبهم ) أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع ) وما كان لهم ) أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم ) من الله ) أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال ، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله ، وأكد النفي بزيادة الجار فقال : ( من واق ) أي يقيهم مراده سبحانه فيهم ، لا من شركائهم ولا من غيرهم ، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء ، ويجوز أن تكون ( من ) الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف نت عاقبه الله عقوبة تأديب ، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية .
ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله : ( ذلك ) أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين ، فكانوا إحدى عمدتي الكلام ، أتى بضميرهم فقال : ( بأنهم ) أي الذين كانوا من قبل ) كانت تأتيهم ) أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه ) رسلهم ) أي الذين هم منهم ) بالبينات ) أي الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها .
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب ، عبر بالماضي فقال : ( فكفروا ) أي سببوا عن إيتان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إيتانهم سبباً له من الإيمان .
ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال : ( فاخذهم ) أي أخذ غضب ) الله ) أي الملك الأعظم .
ولما كان قوله ) فكفروا ( معلماً بسبب اخذهم لم يقل : بكفرهم ، كما قال سابقاً : بذنوبهم ، لإرشاد السباق إليه .
ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة ، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه : ( إنه يقوي ( لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ) شديد العقاب ( .
ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر ، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة : فلقد أرسلناهم كذلك ، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات ، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر ، وإشارة لمن استبصر قوله : ( ولقد ( ولفت القول إلى مظر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا الملك المتعاظم من الهول والعظم الذي تصاغرت به نفسه وتحاقرت عنده همته وانطمس حسه ، فقال : ( أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة ) موسى بآياتنا ) أي الدالة على جلالنا ) وسلطان ((6/504)
صفحة رقم 505
أي أمر قاهر عظيم جداً ، لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ) مبين ) أي بين في نفسه مناد لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر جداً ، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول ألى أذاه مع ما له من القوة والسلطان ) إلى فرعون ) أي ملك مصر .
ولما كان الأكابر أول من أعجب العجب أن يكذب الرسول من جاء لنصرته واستنفاذه من شدته قال : ( وقارون ) أي قريب موسى عليه السلام ) فقالوا ) أي هؤلاء ومن تبعهم ، أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل ، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً ، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في التيه ، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به ، لأنه لم يتب منه ) ساحر ( لعجزهم عن مقاهرته ، ولم يقل ، ( سحار ) لئلا يتوهم أحد أنه مبتدأ محذوف ، ثم وصفوه بقولهم : ( كذاب ( لخوفهم من تصديق الناس له ، فبعث أخصّ عباده به إلى أخسّ عباده عنده ليقيم الحجة عليه ، وأمهله عندما قابل بالتكذيب وحلم عنه حتى أعذر إليه غاية الإعذار .
ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين ، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة : ( فلما جاءهم ) أي موسى عليه السلام ) بالحق ) أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ) من عندنا ( على ما لنا من القهر ، فآمن معه طائفة من قومه ) قالوا ) أي فرعون وأتباعه ) اقتلوا ) أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ) أبناء الذين آمنوا ) أي به فكانوا ) معه ) أي خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه ) واستحيوا نساءهم ) أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن .
ولما كان هذا الأمر صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران ، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال : ( وما ) أي والحال أنه ما كيدهم - هكذا كان الأصل ولكنه قال : ( كيد الكافرين ( تعميماً وتعليقاً بالوصف ) إلا في ظلال ) أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم ، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم ، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله ، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها .
ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام ، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال : ( وقال فرعون ) أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه(6/505)
صفحة رقم 506
عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً ، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه ، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه ، وأنه لولا ذلك قتله : ( ذروني ) أي اتركوني على أيّ حالة كانت بقوله : ( وليدع ربه ) أي الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه الأمر صعب جداً لأنه كان منهم من يوهي أمره بأنه لا يؤثر ما هو فيه شيئاً أصلاً تقرباً إلى فرعون ، وإظهاراً للثبات على متابعته ) إني أخاف ) أي إن تركته ) أن يبدل دينكم ) أي الذي أنتم عليه من نسبة الفعل إلى الطبيعة بما يدعو إليه من عباده إلهه .
ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام ، زاد في ذلك بقوله : ( وأن يظهر ) أي بسببه - على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة ) في الأرض ) أي كلها ) الفساد ( وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذ غلب علينا قوي على من سوانا ، فسقك الدماء وسبى الذرية ، وانتهب الأموال ، ففسدت الدنيا مع فساد الدين ، فسمى اللعين الصلاح - لمخالفته لطريقته الفاسدة - فساداً كما هو شأن كل مفسد مع المصلحين ، وقرأ الكوفيون ويعقوب ( أو أن ) بمعنى أنه يخاف وقوع أحد الأمرين : التبديل أو ظهور ما هو عليه مما سماه فساداً ، وإن لم يحصل التبديل عاجلاً فإنه يحصل به الوهن .
غافر : ( 27 - 30 ) وقال موسى إني. .. . .
) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ ( ( )
ولما أعلم بمقالة العدو ، أتبعه الإعلام بقول الولي فقال : ( وقال موسى ( إبطالاً لهذا القول وإزالة لآثاره مؤكداً لما استقر في النفوس من قدرة فرعون : ( إني عذت ) أي اعتصمت عند ابتداء الرسالة ) بربي ( ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله : ( وربكم ((6/506)
صفحة رقم 507
أي المحسن إلينا أجمعين ، فأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا ) من كل متكبر ) أي عاتٍ طاغ متعظم على الحق هذا وغيره ) لا يؤمن ) أي لا يتجدد له تصديق ) بيوم الحساب ( من ربه بما لا يحكم على نفسه ، ومعنى العوذ أنه لا وصول لأحد منهم إلى قتلي بسبب عوذي ، هذا أمر قد فرغ منه مرسلي لخلاصكم ، القادر على كل شيء .
ولما انقضى كلام الرأسين ، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم ، واجتهد في جميع مفترق علنهم وسرهم ، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك : ( وقال رجل ) أي كامل في رجوليته ) مؤمن ) أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام .
ولما كان للإنسان ، إذا عم الطغيان ، أن يسكن بين أهل العدوان ، إذا نصح بحسب الإمكان ، أفاد ذلك بقوله : ( من آل فرعون ) أي وجوههم ورؤسائهم ) يكتم إيمانه ) أي يخفيه إخفاءاً شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة ، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان .
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل ، فقال منكراً له غاية الإنكار : ( أتقتلون رجلاً ) أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال : ( أن ) أي لأجل أن ) يقول ( ولو على سبيل التكرير : ( ربي ) أي المربي لي والمحسن إليّ ) الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) وقد ) أي والحال أنه قد ) جاءكم بالبينات ) أي الآيات الظاهرات من غير لبس ) من ربكم ) أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه ، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى اعترافكم له بها .
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرخ بإيمانه ، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره ، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه : ( وإن ) أي والحال أنه إن .
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة : قتلهم خير الناس إذ ذاك ، وإتيانهم بالعذاب ، واطلاعهم على إيمانه ، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن ، حذف النون فقال : ( يك كاذباً فعليه ) أي خاصة ) كذبه ( يضره ذلك وليس عليكم منه(6/507)
صفحة رقم 508
ضرر ، ولم يقل : أو صادقاً ، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه ، فيكون قد أخل ببعض الأدب ، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه : ( وإن يك ( حذف نونه لمثل ما مضى ) صادقاً يصبكم ) أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً .
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خمصه من غير حجة ، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض ، قال ملزماً الحجة بالبعض ، غير ناف لما فوقه أظهاراً للأنصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه : ( بعض الذي ( وقال : ( يعدكم ( دون ( يوعدكم ) إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير ، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر ، والآية من الاحتباك : ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً ، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً ، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين ، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه ، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية ، ودموعه تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه - رضي الله عنه .
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب ، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لأرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال : ( إن الله ) أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ) لا يهدي ) أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ) من هو مسرف ) أي بإظهار الفساد متجاوز للحد ، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً ، ولذا قال ) يصبكم بعض الذي يعدكم ( فعلق الأمر بالمبالغة فقال : ( كذاب ( لأن أول خذلانه تعمقه في الكذب ، ويهدي من هو مقتصد صادق ، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه ، ولم يهتد لوجه يخلصه ، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم ، لاتصافكم بالوصفين .(6/508)
صفحة رقم 509
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه ، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه مهم : ( يا قوم ( وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال : ( لكم الملك ( ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله : ( اليوم ( وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله : ( ظاهرين ) أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم ، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء ، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى ، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم : ( في الأرض ) أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها ، قد غلبتم الناس عليها .
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون ، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد ، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه ، فلذلك قال : ( فمن نصرنا ) أي أنا وأنتم ، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة : ( من بأس الله ) أي الذي له الملك كله ، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن ، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى في التدرع منه فقال : ( إن جاءنا ) أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله ، ويجوز أن يكون صادقاً ، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل ، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب ، وكذا قول موسى عليه السلام
77 ( ) لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض ( ) 7
[ الاسراء : 102 ] وإن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد .
ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه ، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن ، فتشوف السامع لجوابه ، أخبر تعالى أنه رد رداً جون رد بقوله : ( قال فرعون ) أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه : ( ما أريكم ) أي من الآراء ) ألا ما أرى ) أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي ، أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي ، أي أن ما ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه .
ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية ، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه ، ويكون تطابقهما على ضلال ، قال : ( وما أهديكم ) أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره ) إلا سبيل الرشاد ) أي الذي أرى أنه صواب ، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره ، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره ، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد .(6/509)
صفحة رقم 510
ولما ظهر لهذا المؤمن رضي الله عنه أن فرعون ذل لكلامه ، ولم يستطع مصارحته ، ارتفع ألى أصرح من الأسلوب الأول فأخبرنا تعالى عنه بقوله مكتفياً في وصفه بالفعل الماضي لأنه في مقام الوعظ الذي ينبغي أن يكون من أدنى متصف بالإيمان بعد أن ذكر عراقته في الوصف لأجل أنه كان في مقام المجاهدة والمدافعة عن الرسول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الذي لا يقدم عليه إلا راسخ القدم في الدين : ( وقال الذي آمن ) أي بعد قول فرعون هذا الكلام الذي هو أبرد من الثلج الذي دل على جهله وعجزه وذله ) يا قوم ( وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم من اتهامه فقال : ( إنب أخاف عليكم ) أي من المكابرة في أمر موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما أقل ما يخشى يكفي العاقل ، وكانت قدرة الله سبحانه عليهم كلهم على حد سواء لا تفاوت فيها فكان هلاكهم كلهم كهلاك نفس واحدة ، أفرد فقال : ( مثل يوم الأحزاب ( مع أن إفراده أروع وأقوى في التخويف وأفظع للاشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على إهلاكهم في أقل زمان .
غافر : ( 31 - 34 ) مثل دأب قوم. .. . .
) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ وَيقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ( ( )
ولما أجمل فصل وبين أو بدل بعد أن هول ، فقال بادئاً بمن كان عذابهم مثل عذابهم ، ودأبهم شبيهاً بدأبهم : ( قوم نوح ) أي فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المحاولة والمقاومة لما يريدونه ) وعاد وثمود ( مع ما بلغكم من جبروتكم .
ولما كان هؤلاء أقوى الأمم ، اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال : ( والذين ( وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال : هذه عادة الدهر ، فقال : ( من بعدهم ) أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم .
ولما كان التقدير : أهلكهم الله وما ظلمهم ، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال : ( وما الله ) أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال .
ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال ، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم ، ونكر تعميماً فقال : ( يريد ظلماً ) أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم ) للعباد ( لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره ، (6/510)
صفحة رقم 511
وطوع مشيئته وأمره ، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد ، وإلا كان كفه ظلماً للمبغي عليهم .
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البغث ونور الحشر ، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه ، ومكسوراً من حاكمه ، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض - كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل ، ومظاهر الكرم الفضل قال : ( ويا قوم ( ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال : ( إني أخاف ( وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال : ( عليكم ( ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر ، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال : ( يوم التناد ) أي أهواله وما يقع فيه ، فينادي الجبار سبحانه بقوله ) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تبعدو الشيطان ( وينادونه ( بلى يا ربنا ) وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ( يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع ) وينادي ذلك العبد ( ألا سمعاً وطاعة ) وينادي الفائز ( ألا نعم أجر العاملين ) وينادي الخائب ( ألا بئس منقلب الظالمين ) وينادي الكل حين يذبح الموت ، ويدعى كل أناس بإمامهم ، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس ، وترتفع الأصوات بالضجيج ، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور ، وتنادي ألسن النيران : أي الجبارون أين المتكبرون ، وتنادي الجنة ، أين المشمرون في مرضاة الله ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير - إذا هرب ونفر ، وهو كقوله يوم
77 ( ) يفر المرء من أخيه ( ) 7
[ عبس : 34 ] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا .
ولما كانت عادة المتنادين الإقبال ، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً : ( يوم تولون مدبرين ) أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران ، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها ، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى
77 ( ) والملك على أرجائها ( ) 7
[ الحاقة : 17 ](6/511)
صفحة رقم 512
وينادي المنادي
77 ( ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( ) 7
[ الرحمن : 33 ] .
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره ، قال مبيناً حالهم : ( ما لكم من الله ) أي الملك الجبار الذي لا ند له ، وأعرق في النفي فقال : ( من عاصم ) أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً ، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه .
ولما كان التقدير : لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم ، عطف عليه قوله معمماً : ( ومن يضلل اللهُ ) أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال ، إضلالاً جبله عليه فهم في غاية البيان - بما أشار إليه الفلك ) فما له من هاد ) أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه ، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده ، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري : فمن مات على شيء فهو مجبول عليه .
ولما كان الحاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها ، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة ، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك ، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة ، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه : ( ولقد جاءكم ) أي جاء آباءكم يا معشر القبط ، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ، ومن أنهم على طبائعهم لا سيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم : ( يوسف ) أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي قبل زمن موسى عليه السلام : ( بالبينات ) أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد ) فما زلتم ( بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ) في شك ) أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ) مما جاءكم به ( من التوحيد وما يتبعه ، ودل على تمادي شكهم بقوله : ( حتى إذا هلك ( وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له ، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة ) قلتم ) أي من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى : ( لن يبعث الله ) أي الذي له صفات الكمال .(6/512)
صفحة رقم 513
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل ، أدخل الجار فقال : ( من بعده ) أي يوسف عليه السلام ) رسولا ( وهذا ليس إقراراً منهم برسالته ، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده ، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله .
ولما كان كأنه قيل : هذا ضلال عظيم هل ضر أحد مثله ؟ أجيب بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن ) يضل ( وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخض الإضلال بالحيثية الماضية ، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده ) الله ) أي بما له من صفات القهر ) من هو مسرف ) أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر .
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال : ( مرتاب ) أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه ، أي بدينه التذبذب في الأمور الدينية ، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور ، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه ، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق ، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة .
غافر : ( 35 - 39 ) الذين يجادلون في. .. . .
) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وَقَالَ فَرْعَوْنُ يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( ( )
ولما ظهر ظهوراً لا يحتمل شكاً بما أتى به موسى عليه السلام من البينات أن شكهم في رسالة وجزمهم في الحكم بنفي رسالة الآتي أعظم ضلال وأنه من الجدال الذي لا معنى له إلا فتل المحق عما هو عليه من الحق إلى ما عليه المجادل من الضلال ، وصل بذلك قوله على سبيل الاستنتاج ذماً لهم بعبارة تعم غيرهم : ( الذين ) أي جدال من ) يجادلون ) أي يقاتلون ويخاصمون خصاماً شديداً ) في آيات الله ) أي المحيطة بأوصاف الكمال لا سيما الآيات الدالة على يوم التناد ، فإنها أظهر الآيات على وجوده سبحانه وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل .(6/513)
صفحة رقم 514
ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً ، وهو بما أمر به قال : ( بغير سلطان ) أي تسليط ودليل ) أتاهم ) أي من عند من له الأمر كله ) كبر ) أي عظم هو ، أي الجدال المقدر مضافاً قبل ) الذين ( وبين ما أبهم من هذا العظم بتمييز محول عن الفاعل فقال : ( مقتاً عند الله ) أي الملك الأعظم ) وعند الذين آمنوا ) أي الذين هم خاصته .
ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب ، فكان التقدير : أولئك طبع الله على قلوبهم ، وصل به استنافاً قوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الطبع العظيم ) يطبع ) أي يختم ختماً فيه العطب ) الله ) أي الذي له جميع العظمة ) على كل قلب ( ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه ، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله : ( متكبر ) أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب ، وهي أبين من القراءة ممن اتصف بهذا الوصف ، ومن المقطوع به أن آحاد القلوب موزعة على أحاد الأشخاص لأنه لا يكون لشخص أكثر من قلب بخلاف ما إذا قدم القلب فإنه يدعي أن الشخص الواحد ، وأن السور لأجل جمعه لأنواع الكبر والجبروت فيكون المعنى : على قلب شخص جامع لكل فرد من أفراد التكبر والتجبر - والله الموفق .
ولما ذكر الطبع المذكور ، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن ، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تهياً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه ، فصار بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل ، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل ، فقال تعال : ( وقال فرعون ) أي بعد قول المؤمن هذا ، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً : ( يا هامان ( وهو وزيره ) ابنِ ( وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله : ( لي صرحاً ) أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد .
قال البغوي : لا يخفى على الناظر وإن بعد .
وأصله من التصريح وهو الإظهار ، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق ، فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي فقال : ( لعلي أبلغ الأسباب ) أي التي لا أسباب غيرها لعظمها .(6/514)
صفحة رقم 515
ولما كان بلوغها أمراً عجيباً ، أورده على نمط مشوق عليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنها ، ليتشوف السامع إلى بيانها ، بقوله : ( أسباب السماوات ) أي الأمور الموصلة إليها ، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه .
ولما ذكر هذا السبب ، ذكر المسبب عنه فقال : ( فاطًّلع ) أي فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ) إلى إله موسى ( فيكون كما ترى عطفاً على ) أبلغ ( ، ونصبه حفص عن عاصم على الجواب تنبيهاً على أن ما أبرزه الخبيث في عداد الممكن إنما هو تمني محال غير ممكن في العادة .
ولما كان من جملة إرادته بذلك مع إيقاف قومه إلى وقت ما عن المتابعة أن يخيلهم بأن يقول : طلعت فبحثت عما قال موسى فلم أقف له على صحة ، قدم لهم قوله مبيناً لحاله إذ ذاك لما ظن من ميل قلوبهم إلى تصديق موسى عليه السلام : ( وإني لأظنه ) أي موسى ) كاذباً ( فترك الكلام على احتمال أن يريد في الرسالة أو في الإلهية .
ولما كان هذا أمراً عجيباً ، وهو كون أحد يظن أنه يخيل للعقول أنه يصعد إلى السماء ، وأن الإله الذي هو غني عن كل شيء وقد كان ولا شيء معه يكون في السماء ، أو في محل من المحال ، فإن كل حال في شيء يحتاج إلى محله ، وكل محتاج عاجز ولا يصلح العاجز للإلهية لو لم يجئ عن الله لما كان أهلاً لأن يصدق ، فكان التقدير : عمله فرعون لأنا زيناه له ، عطف عليه زيادة في التعجيب : ( وكذلك ) أي ومثل ذلك التزيين العظيم الشأن اللاعب بالألباب .
ولما كان الضار هو التزيين لا المزين الخاص ، بناه للمفعول فقال : ( زين ) أي زين المزين النافذ الأمر ، وهو لله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه ، والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي خلق الله تعالى ) لفرعون سوء عمله ( في جميع أمره ، فاقبل عليه راغباً فيه مع بعده من عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك ، وأطاعة فيه وقومه ) وصُد ( بنفسه ومنع غيره على قراءة الفتح ، ومنعه الله - على قراءة الكوفيين ويعقوب بالضم ) عن السبيل ) أي التي لا سبيل في الحقيقة غيرها ، وهو الموصلة إلى الله تعالى .
ولما كان هذا السياق بحيث يظن منه الظان أن لفرعون نوع تصرف ، نفي ذلك بقوله : ( وما كيد ( واعاد الاسم ولم يضمره لئلا يخص بخيثية من الحيثيات فقال : ( فرعون ) أي في إبطال أمر موسى عليه السلام ) إلا في تباب ) أي خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه ، وما تعطاه إلا لأنه محمول عليه ومقهور فيه ، كما كشف عنه الحال ، فدل ذلك قطعاً على أنه لو كان له أدنى تصرف يستقل به لما أنتج فعله الخسار .(6/515)
صفحة رقم 516
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، أعرض المؤمن عنه تصريحاً ، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات : الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة ، والأخريان على سبيل التفصيل ، فقال تعالى عنه : ( وقال الذي آمن ) أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه ، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الواعظ : ( يا قوم ) أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير مهتم في نصيحتهم ) اتبعون ) أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ) أهدكم سبيل ) أي طريق ) الرشاد ) أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود ، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار ، فهو تعريض به شبيه بالتصريح .
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال ، وكان الداء في الإقبال على الفاني ، والدواء كله في الإقدام على الباقي ، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما ينفى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله ، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ) يا قوم ( كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال : ( إنما هذه الحياة ( وحقرها بقوله : ( الدنيا ( إشارة إلى دناءتها وبقوله : ( متاع ( إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع ، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال .
ولما افتتح بذم الدنيا ، ثنى بمدح الآخرة فقال : ( وإن الآخرة ( لكونها المقصودة بالذات ) هي دار القرار ( التي لا تحول منها أصلاً دائم كل شيء من ثوابها وعقابها ، والهلاك ، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الاصفهاني : قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً ، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان ، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن .
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب ، فكان الترغيب في نعيم الجنان ، والترهيب من عذاب النيران ، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب ، فالآية من الاحتباك : ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً ، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً .(6/516)
صفحة رقم 517
غافر : ( 40 - 44 ) من عمل سيئة. .. . .
) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( ( )
ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض ، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال ، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه الإقبال على محاسن الأعمال ، وترك السيء من الخلال ، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان ، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف ، وينشط لما يزلف ، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب ، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا ) من عمل سيئة ) أي ما يسوء من أي صنف كان : الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين ) فلا يجزي ) أي من الملك الذي لا ملك سواه ) إلا مثلها ( عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها ، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء ، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه منقطعاً ، والآية على عمومها ، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره ، ومن قال : إنها في شيء معين ، لزمه أن تكون مجملة ، لأن ذاك المعين غير مذكور ، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول .
ولما بين العدل في العقاب ، بين الفضل في الثواب ، تنبيهاً على أن الرحمة سيقت الغضب فقال : ( ومن عمل صالحاً ) أي ولو قل .
ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم ، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال : ( من ذكر أو أنثى ( ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه : ( وهو ) أي عمل والحال أنه ) مؤمن ( ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله ، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال : ( فأولئك ) أي العالو الهمة والمقدار ) يدخلون الجنة ) أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً ، والآية من الاحتباك : ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً ، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على(6/517)
صفحة رقم 518
إدخال النار أولاً ، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين ) يرزقزن فيها ) أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً إلى أسباب ، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول ) بغير حساب ( لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر ، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، وهذا من باب الفضل ، وفضل الله لا حد له ، ورحمته غلبت غضبه ، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل ، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم ، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب ، فأنهدمت قواعد المعتزلة .
ولما بلغ النهاية في نصحهم ، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان : هالك وناج ، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار ، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة .
والتذكير بأنهم قومه واعضاده ، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه : ( ويا قوم ما ) أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح ) لي ( في أني ) أدعوكم إلى النجاة ( والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم ) و ( مالكم من ذلك في كونكم ) تدعوني إلى النار ( والهلاك بالكفران ، فالآية من الاحتباك : ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً ، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليش من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة .
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً ، بينه بقوله : ( تدعونني ) أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم ) لأكفر ) أي لأجل أن أكفر ) بالله ) أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر ) وأشرك ) أي أوقع الشرك ) به ) أي أجعل له شريكاً .
ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته ، إلا العدم ، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال : ( ما ليس لي به علم ) أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة ، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك ، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة ، فلم يكن له وجود لأن الملك رزن الإلهية وهو أشهر الأشياء ، فما ادعى له أشهر الأشياء ، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه ، كان عدماً محضاً .
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها ، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله ، ولا نفع ولا ضر إلا بيده ، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها :(6/518)
صفحة رقم 519
) وأنا ادعوكم ) أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده ) إلى العزيز ) أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء .
ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً ، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله : ( الغفار ) أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على غير ذلك من هو بصفة العزة ، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه ، من صفات الكمال أحد ، فالآية من الاحتباك : ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً ، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً .
ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في أصول الدين ، كان ما دعوه إليه باطلاً ، وكان ما دعاهم إليه هو الحق ، فلذلك أنتج قطعاً قوله : ( لا جرم ( وهي إن كانت بمعنى : لا ظن ولا اضطراب أصلاً - كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة ، أي فلأجل ذلك لا شك في ) إنما ) أي الذي ) تدعونني إليه ( من هذه الأنداد ) ليس له دعوة ( بوجه من الوجوه ، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة ) في الدنيا ( التي هي محل الأسباب ، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين ) ولا في الآخرة ( لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون ) وإن ) أي ولا اضطراب في أن ) مردنا ) أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ ) إلى الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته ، فيجازي كل أحد بما يستحقه ) وأنَّ ) أي ولا شك في أن ) المسرفين ) أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف ) هم ) أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم ) أصحاب النار ) أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف ، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها .
ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد ، تسبب عنه بقوله : ( فستذكرون ) أي قعطاً بوعد لا خلف فيه مع القرب ) ما أقول لكم ( حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه .
ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على ( ستذكرون ) غير مراعى فيها معنى السين : ( وأفوض ) أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ) أمري ( فيما تمكرونه بي ) إلى الله ) أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم : إن شاء ، قال صاحب المنازل : التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده ، وهو عين الاستسلام ، والتوكل شعبة(6/519)
صفحة رقم 520
منه ، وهو على ثلاث درجات : الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة ، فلا يأمن من مكر ، ولا ييأس من معونة ، ولا يعول على نية ، والثانية معاينة الاضطرار فلا ترى عملاً منجياً ولا ذنباً مهلكاً ولا سبباً حاملاً ، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع .
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة ، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره ) إن الله ( وكرر الأسم الأعظم بياناً لمراده بأنه ) بصير ) أي بالغ البصر ) بالعباد ( ظاهراً وباطناً ، فيعلم من يستحث النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة .
غافر : ( 45 - 50 ) فوقاه الله سيئات. .. . .
) فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ( ( )
ولما تسبب عن نصحه هذا لهم والتجائه إلى ملك الملوك حفظه منهم على عظم الخطر ، قال تعالى مخبراً أنه صدق ظنه ) فوقاه الله ) أي جعل له وقاية تجنه منهم بما له من سبحانه من الجلال والعظمة والكمال جزاء على تفويضه ) سيئات ) أي شدائد ) ما مكروا ( ديناً ودنيا ، فنجاه مع موسى عليه السلام تصديقاً لوعده سبحانه بقوله ) أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) [ القصص : 35 ] ولما كان المكر السيء لا يحيق إلا بأهله قال : ( وحاق ) أي نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق ) بآل فرعون ) أي كلهم فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم ، فالإحاطة بفرعون من باب الأولى وإن لم نقل : أن الآل مشترك بين الشخص والأتباع ، لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه فهو مفهوم موافقة ) سوء العذاب ) أي العقوبة المانعة من كل مستعذب ، ثم بين ذلك بقوله : ( النار ) أي حال كونهم ) يُعرضون عليها ) أي في البرزخ ) غدواً وعشياً ) أي غادين ورائحين في وقت استرواحهم بالأكل واستلذاذهم به - هذا دأبهم طول أيام البرزخ ، وكان عليهم في هذا العرض زيادة نكد فوق ما ورد(6/520)
صفحة رقم 521
عاماً مما روى مالك والشيخان وغيرهم عن أن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ) .
ولعل زيادة النكد أنهم هم المعرضون ، فيذهب بهم في الأغلال يساقون لينظروا ما أعد الله لهم ، وعامة الناس يقتصر في ذلك على أن يكشف لهم - وهو في محالّهم - عن مقاعدهم ، ففي ذلك زيادة إهانة لهم ، وهو مثل : عرض الأمير فلاناً على السيف إذا أراد قتله ، هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة ) ويوم تقوم الساعة ( يقال لهم : ( ادخلوا آل ) أي يا آل ) فرعون ( هو نفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به ، وجعله نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص فعل أمر من الإدخال ، فالتقدير : نقول لبعض جنودنا : أدخلوا آله لأجل ضلالهم به اليوم ) أشد العذاب ( وإذا كان هذا لآله لأجله كان له أعظم منه من باب الأولى ، وهذه الآية نص في عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب .
ولما كان هذا من خبر موسى عليه السلام وفرعون أمراً غريباً جداً ، قل من يعرفه على ما هو عليه ، لأنه من خفي العلم ، أشار سبحانه إلى ذلك بقوله : ( وإذا ) أي اذكر لهم هذا الذي أنبأناك به مما كان في الزمن الأقدم ، ولا وصول له إليك إلا من جهتنا ، لأنهم يعلمون قطعاً أنك ما جالست عالماً قط ، واذكر لهم ما يكون في الزمن الآتي حين ) يتحاجون ) أي هؤلاء الذين نعذبهم ) في النار ) أي يتخاصمون فيما أتباعهم ورؤساؤهم بما لا يغنيهم : ( فيقول الضعفاء ) أي الأتباع ) للذين استكبروا ) أي طلبوا أن يكونوا كبراء .
ولما كانوا لشدة ما هم فيه يتبرأ كل منهم من صاحبه .
أكدوا قولهم : ( إنا كنا لكم ) أي دون غيركم ) تبعاً ) أي أتباعاً ، فتكبرتم على الناس بنا ، وهو عند البصريين يكون واحداً كجمل ويكون جمعاً كخدم جمع خادم ، ولعله عبر به إشارة إلى أنهم كانوا في عظيم الطواعية لهم على قلب رجل واحد ولما كان الكبير يحمي تابعه ، سببوا عن ذلك سؤالهم فقالوا : ( فهل أنتم ) أي أيها الكبراء ) مغنون ) أي كافون ومجزون وحاملون ) عنا نصيباً من النار ( .
ولما أتى بكلام الضعفاء على الأصل ، وإشارة مع تصوير الحال لأنه أقطع إلى طول خصامهم لأنه أشد في إيلامهم ، فتشوف السامع إلى جوابهم ، استأنف الخبر(6/521)
صفحة رقم 522
عنه بصيغة الماضي تأكيداً لتحقيق وقوعه رداً قد يتوهمه الضعيف من أن المستكبر له قوة المدافعة وإباء الأنفة فقال : ( قال الذين استكبروا ) أي من شدة ما هم فيه .
ولما كان الأتباع قد ظنوا أن المتبوعين يغنون عنهم ، أكدوا إخبارهم لهم بما ينافي ذلك فقالوا : ( إنّا كل ) أي كلنا كائنون ) فيها ) أي النار ، كل يناله من العذاب بقدر ما يستحقه سواء إن جادلتمونا أو تركتم جدالنا ولا يظلم بك أحداً ، فلة قدرنا على شيء لأغنينا عن أنفسنا ، ولو سألنا أو ننقص لما أجبنا .
فإن هذه دار العدل فاتركونا وما نحن فيه .
ولما كان حكم الله تعالى مانعاً مما كان يفعل في الدنيا من فك المجرم وإيثاق غيره به ، وكان سؤالهم في الإغناء سؤال من يجوز أن يكون حكمه على ما عليه الأحكام من حكام أهل الدنيا ، عللوا جوابهم مؤكدين فقالوا : ( إن الله ) أي المحيط بأوصاف الكمال ) قد حكم بين العباد ) أي بالعدل ، فأدخل أهل الجنة دارهم ، وأهل النار نارهم ، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً .
ولما دل على أنه لا يغني أحد عن أحد شيئاً ، أخبر انهم لما رأوا بعدهم من الله وأنهم ليسوا بأهل لدعائه سبحانه ، علقوا آمالهم بتوسط الملائكة ، فأخبر عن ذلك منهم بقوله : ( وقال الذين في النار ) أي جميعاً الأتباع والمتبوعون ) لخزنة ( ووضع موضع الضمير قوله : ( جهنم ( للدلالة على أن سؤالهم لأهل الطبقة التي من شأنها وشأن خزنتها تجهم داخليها ليدل على أنهم لسوء ما هم فيه لا يعقلون ، فهم لا يضعون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا : ( ادعوا ربكم ) أي المحسن إليكم بأنكم لا تجدون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا : ( ادعوا ربكم ) أي المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار ) يخفف عنه يوماً ) أي مقداره ) من العذاب ) أي بعضه .
ولما سألوهم ، استأنفوا جوابهم إشارة إلى ما حصل من تشوف السامع إليه ، معرفين لهم بسياقه بالسبب ، الجاعل لهم في محل الاطراح والسفول عن التأهل أن يسمع لهم كلام ، فقال تعالى مخبراً عنهم : ( قالوا ) أي الخزنة .
ولما كان التقدير : ألم تكن لكم عقول تهديكم إلى الإعتقاد الحق ، عطف عليه قوله إلزامناً لهم الحجة وتوبيخاً وتنديماً بتفويت أوقات الدعاء المجاب : ( أولم ( ولما كان المقام خطراً ، والمرام وعراً عسراً ، فكانوا محتاجين إلى الإيجاز ، قالوا مشيرين بذكر فعل الكون مع اقتضاء الحال للإيجاز إلى عراقة الرسل عليهم السلام في النصح المنجي من المخاوف بالمعجزات والرفق والتلّطف وطول الأناة والحلم والصبر مع شرف النسب وطهارة الشيم وحسن الأخلاق وبداعة الهيئات والمناظر ولطافة العشرة وجلالة المناصب : ( تك ( بإسقاط النون مع التصوير للحال بالمضارع ) تأتيكم ( على سبيل التجدد شئياً في أثر شيء(6/522)
صفحة رقم 523
) رسلكم ) أي الذين هم منكم فأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم ، لأن الجنس إلى الجنس أمثل ، والإنسان من مثله أقبل ) بالبينات ) أي التي لا شيء أوضح منها ) قالوا ) أي الكفار : ( بلى ) أي أتونا كذلك ، ثم استأنفوا جوابهم لما حصل من التشوف إليه بما حاصله عدم إجابتهم فسببوا عن إخبارهم بعدم إجابتهم للرسل عدم إجابة دعائهم فقال تعالى مخبراً عنهم : ( قالوا ) أي الخزنة : ( فادعوا ) أي أنتم الآن الله أو أهل الله من رسل البشر أو الملائكة أو غيرهم ، أو لا تدعوا فإنه لا يسمع لكم .
ولما كان أمرهم بالدعاء موجياً لأن يظنوا نفعه ، أتبعوه بما أيأسهم لأن ذلك أنكأ وأوجع وأشد عليهم وأفظع بقولهم : ( وما ( دعاؤكم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أتى بالوصف تعليقاً للحكم به فقال : ( دعاءُ الكافرين ) أي الساترين لمرائي عقولهم عن أنوار العقل المؤيد بصحيح النقل ) إلا في ظلال ) أي ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة ، والآخرة ثمرة الدنيا إلا من جنس ما غرس في الدنيا .
غافر : ( 51 - 55 ) إنا لننصر رسلنا. .. . .
) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ( )
ولما كان حاصل ما مضى من هذا القص الذي هو أحلى من الشراب ، وأغلى من الجوهر المنظم في أعناق الكواعب الأتراب ، لأنه سحبانه نصر الرسل على أممهم حين هموا بأخذهم ، فلم يصلوا إليهم ثم أهلكهم الله هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فعذبهم أشد العذاب ، وكذلك نصر موسى عليه السلام والمؤمن الذي دافع عنه ، وكان نصر اهل الله قاطبة خفياً ، لأنهم يُبتلون ثم يكون لهم العاقبة ، فكان أكثر الجامدين وهم أكثر الناس يظن أنه لا نصره لهم ، قال الله تعالى لافتاً القول إلى مظهر العظمة ، لأن النصرة عنها تكون على سبيل الاستنتاج مما مضى مؤكداً تنبيهاً للأغبياء على ما يخفى عليهم : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) لننصر رسلنا ) أي على من نأوأهم ) والذين آمنوا ) أي اتسموا بهذا الوصف وإن كان في أدنى رتبة .
ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها ، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم رتببتها دنية فقال : ( في الحياة الدنيا ( بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة ، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون(6/523)
صفحة رقم 524
لهم ، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين ، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم ) ويوم يقوم الأشهاد ) أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين ، جمع كشريف وأشراف ، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها ، لما لهم من الحضور التام ، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجميع القلة ، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، وإنما عبر بذلك إشارة إلى أهل الحكم بصفات الجبروت للقسط ، فيرفع أولياءه لكل اعتبار ، ويهين أعداءهم كل إهانة .
ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس ، أتبعه ما اوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان ، فقال مبدلاً مما قبله : ( يوم لا ينفع الظالمين ( الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها ) معذرتهم ) أي اعتذارهم وزمانه ومكانه - بما أشار إليه كون المصدر ميمياً ولو جل - وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب
77 ( ) والله ربنا ما كنا مشركين ( ) 7
[ الأنعام : 23 ] أو بالقدر
77 ( ) ربنا غلبت علينا شقوتنا ( ) 7
[ المؤمون : 106 ] ) ولهم ) أي خاصة ) اللعنة ) أي البعد عن كل خير ، مع الإهانة بكل ضير ) ولهم ) أي خاصة ) سوء الدار ( وهي النار الحاوية لكل سوء - هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة ، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم ، وقد علم من هذا أن لأعدائهم - وهم الرسل وأتباعهم - الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار ، فظهرت بذلك أعلام النصرة ، وصح ما أخبر به من تمام القدرة .
ولما كان التقدير : فلقد نصرنا موسى رسولنا مع إبراق فرعون وإرعاده ، عطف عليه قوله دالاً على الكرامة والرحمة ، مؤكداً لإزالة ما استقر في النفوس من أن ملوك الدنيا لا يغلبهم الضعفاء : ( ولقد آتينا ) أي بما لنا من العزة ) موسى الهدى ) أي في الدين اللازم منه أن يكون له العاقبة وإن تناهت ضخامة من يعانده ، لأنه ضال عن الهدى ، والضال هالك وإن طال المدى ، وذلك بما آتيناه من النبوة والكتاب .
ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عاماً قال : ( وأورثنا ) أي بعظمتنا ) بني إسرائيل ( بعد ما كانوا فيه من الذل ) الكتاب ) أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به - وهو التوراة - إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد ، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم ، حال كونه ) هدى ) أي بياناً عاماً لكل من تبعه ) وذكرى ) أي عظة عظيمة ) لأولي الألباب ) أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية ، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي ، ومنهم من صل ، وذلك تحذير للاتباع ، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع .(6/524)
صفحة رقم 525
ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد بنصرة الرسل وأتباعهم : ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى ، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم ، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه ، سبب عنه قوله : ( فاصبر ) أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها ، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد : ( إن وعد الله ) أي الذي له الكمال كله ) حق ) أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك ، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة ، قال القشيري : الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق ، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى .
ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام ، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات ، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام ، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال : ( واستغفر لذنبك ) أي وهو كل عمل كامل لأن ذلك غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك ، وسماه ذنباً من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) .
ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال ، المطلع على بحور العظمة ومفارز الجلال ، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال ، لافتاً القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال : ( وسبح ) أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً ) بحمد ربك ) أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك ، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر .
ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة ، وكان العشي أدل عليها ، قدمه فقال : ( بالعشي والإبكار ( فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته ، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر ، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل على الصلوات الخمس - نقله البغوي .
وذلك لأن العشى من زوال الشمس ، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .(6/525)
صفحة رقم 526
غافر : ( 56 - 61 ) إن الذين يجادلون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( ( )
ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمراً لشغل غيرهما من باب الأولى ، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام ، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما ، وكان ذلك موجباً للاشتغال عن أعداء الدين رأساً ، وكان ذلك لأن خذلانهم أمر قد نوع منه فقال معللاً للمداومة على الطاعة : ( إن الذين يجادلون ) أي يناصبون بالعداوة ولتقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل ، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهويناً لشأنهم فقال : ( في آيات الله ) أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا ) بغير سلطان ( أمر مسلط ودليل مسلك ) أتاهم إن ) أي ما ) في صدورهم ( بصدورهم عن سواء السبيل ، وآذن ذكر الصدور التي هي مساكنها ) إلا كبر ) أي عن اتباع الحق مع أشراق ضيائه واعتلاء لألائه إرادة إطفائه أو إخفائه ، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة ، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد ) ما هم ببالغيه ) أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين متكبراً على أن يكونوا تحت أوامره ، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه ، ولا بد أن يظهر بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين ، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخيرن .
ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يحظر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا(6/526)
صفحة رقم 527
عالين غالبين ، عنه قوله تعالى : ( فاستعذ ) أي اطلب العوذ ) بالله ( المحيط بك شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنه ) أي على ما له من البطون ) هو ) أي وحده ) السميع ( لكل ما يمكن أن يسمع .
ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن ، ختم بقوله : ( البصير ( الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم ، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساس وخطرات باطنة بالعليم .
ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل ، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد ، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر ، فقال مؤكداً تنزيلاً للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده : ( لخلق السماوات ) أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ) والأرض ( على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها ) أكبر ( عند كل من يعقل من الخلق في الخلق ) من خلق الناس ) أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما ، فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ) ولكن أكثر الناس ( وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع ) لا يعلمون ) أي لا علم لهم أصلاً ، بل هم كبالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم اهواءهم ، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن ، بل هم أنزل رتبة من البهائم ، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهم كالمحسوس ، فمن توقف فيه كان جماداً .
ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة ، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل ، والقدر والهيئة والشكل ، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه ، وهي لا اختيار لها ، وكان من الناس من يقول : إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع ، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره ، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة ، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار ، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور :(6/527)
صفحة رقم 528
وأقلهم يعلمون ، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له ، فإنه ما يستوي العالم والجاهل : ( وما يستوي ) أي بوجه من الوجوه من حيث البصر ) الأعمى والبصير ( وذلك موجب للعلم بأن استناد المختالفين ليس إلى الطبيعة ، بل إلى فاعل مختار .
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين ، أتبعه المعنويين نشراً ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود ، كالذهب الإبريز بين النقود ، فقال : ( والذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا ) وعملوا الصالحات ( كذلك فكانوا محسنين ) ولا المسيء ) أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات ، ووقع التغاير في العطف لأن المراد - والله أعلم - نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء ، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي ، عطف البصير بغير ( لا ) ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير ، لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق ، واقتصر على الواو في عطف ) الذين آمنو ( لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً ، وينتفي التساوي بينهما لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير ، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى ، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفسي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء ، وزيدت ( لا ) في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة ، وأنها بالاختيار ، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت ( لا ) هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات ، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه ، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع ، والآية من الاحتباك : ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً ، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً .
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى : ( قليلاً ما يتذكرون ) أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس المتذكر - بما دل عليه الإظهار - منكم قليل - على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت ، وأدل على الغضب .(6/528)
صفحة رقم 529
قطعاً قوله : ( إن الساعة ) أي القيامة التي يجادله فيها المجادلون ) لآتية ( وعزتي للحكم بالعدل في المقارنة بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي أحد بين محسن عبيده ومسيئهم ، فكيف يظن ذلك بأحكم الحاكمين الذي نشاهده يميت المسيء وهو في غاية النعمة والمعصية ، والمحسن وهو في غاية البلاء والطاعة ، والمظلوم قبل أن ينتصف من الظالم ، ولهذا الأمر الظاهر قال : ( لا ريب فيها ) أي لا شك في إيتانها بوجه من الوجوه ، لأفضي فيها بالعدل فأدخل فيها ناساً دار رحمتي ، وآخرين نقمتي .
ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً ، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى : ( ولكن أكثر الناس ) أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب ، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت : ( لا يؤمنون ) أي لا يجعلون المخبر لهم بإيتانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم ، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس .
ولما كان التقدير : فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له ، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له ، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحية الدنيا وفي الآخرة ، وقال لعباده كلهم : آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار ، عطف عليه قوله : ( وقال ربكم ) أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة : ( ادعوني ) أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة ، وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدعاء هو العبادة ) فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما ، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : وحدوني اغفر لكم .
وعن الثوري أنه قيل له : ادع ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء : ( أستجب ) أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه ) لكم ( في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به ، أو كشف مثله من الضر ، أو إدخاره في الآخرة ، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة العبادة في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها ، فكل ميسر لما خلق له ، قال القشيري ، وقيل : الدعاء مفتاح الإجابة ، وأسنانه لقمة الحلال - انتهى - والآية بمعنى آية البقرة
77 ( ) أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي ( ) 7
[ آية : 186 ] .
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر ، فكان كأنه قيل : ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين ، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله : ( إن الذين يستكبرون ( أي(6/529)
صفحة رقم 530
يوجدون الكبر ، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله : ( عن عبادتي ) أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء ) سيدخلون ( بوعد لا خلف فيه ) جهنم ( فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتهجم والعبوسة والكراهة ) داخرين ) أي صاغرين حقيرين ذليلين ، فالآية من الاحتباك : ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة ، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب ، في دار ثواب وعقاب ، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب ، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عيله مع الإبلاغ في الإحسان إليهم ) الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) الذي جعل لكم ( لا غيره ) الّيل ) أي مظلماً ) لتسكنوا فيه ( راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر ، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ) والنهار مبصراً ( لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى ، فالآية من الاحتباك : حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه ، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل : للراحة لما أرادها ، لما اعتمدها واستزادها .
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار ، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً : ( إن الله ) أي ذا الجلال والإكرام ) لذو الفضل ) أي عظيم جداً ياختياره ) على الناس ) أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع .
ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها ، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم ، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله ، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه ، وكان المراد هنا التعميم ، أظهر للإفهام إرادة ذلك ، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال : ( ولكن أكثر الناس ) أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب ) لا يشكرون ( فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ، أي يعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره ، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس ، وهو كل من برز الوجود ، وبهم ثانياً الجن والإنس - والله أعلم .(6/530)
صفحة رقم 531
غافر : ( 62 - 65 ) ذلكم الله ربكم. .. . .
) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار ، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع : ( ذلكم ) أي أيها المخاطبون - الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد ، ولذلك قال : ( ربكم ) أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه .
ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها ، قدم الخلق على التهليل فقال : ( خالق كل شيء ) أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين ، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه ) لا إله إلا الله ( بل كان ذلك واجباً في الحكمة ، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر ، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم ، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة ، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام ، والعليم هو المتوحد بكمال الذات ، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال ، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم ، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام ، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضاً في مطلعها .
ولما أنتجت هذه الأخبار - التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له - الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال ، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً : ( فأنى ) أي فكيف ومن أي وجه ) تؤفكون ) أي تقبلون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه ، وذلك مؤدٍ إلى(6/531)
صفحة رقم 532
سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوس ، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس .
ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل ، كان كأنه قيل : هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا ؟ فأجيب بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء ) يؤفك ) أي يصرف صرف سيئاً - بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان ، ولأنه المتعجب منه ) الذين كانوا ( مطبوعين على أنهم ) بآيات الله ) أي ذي الجلال والجمال ) يجحدون ) أي ينكرون عناداً ومكابرة ، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم ، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه .
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده ، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند ، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد ، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته ، واضح في العقول معرفته ، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً ، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين ، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك ، بما حصل فيه من الاختلاف ، فقال : ( الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ) الذي جعل ) أي وحده ) لكم الأرض ) أي مع كونها فراشاً ممهداً ) قراراً ( مع كونها في غاية الثقل ، ولا ممسك لها سوى قدرته ) والسماء ( على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار ) بناء ( مظلة كالقبة من غير عماد حامل ، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض ، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر ، فالآية من الاحتباك : ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً ، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً .
ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات ، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها ، ولا تسبه واحدة منها الأخرى ، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال : ( وصوركم ( والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع ) فأحسن صوركم ( على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الموجود ما(6/532)
صفحة رقم 533
يشبهها ، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه ، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك .
ولما ذكر المسكن والساكن ، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال : ( ورزقكم من الطيبات ( الشهية الملائكة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه ، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكين والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان ، وبث من الساكن - مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض - أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض ، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض ، وعمهم به الرزق ، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن الحسن أنه قال : لما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام : إن الأرض لا تسعهم ، قال : فإني جاعل موتاً ، قالوا : إذا لا يهنأهم العيش ، قال : فإني جاعل أملاً .
ولما دل هذا قطعاً على التفرد ، قال على وجه الإنتاج ( ) ذلكم ) أي الرفيع الدرجات ) الله ) أي المالك لجميع الملك ، ودلهم على ما مضى بترتيبهم وما فيها من بديع الصنائع فقال : ( ربكم ) أي لا غيره ، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها ، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته تسبب عنه ولا بد قوله : ( فتبارك ) أي ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ) الله ) أي المختص بالكمال ، ورقى الخطاب وعظم إيضاحاً للدلالة فقال : ( رب العالمين ( كلهم أنتم وغيركم ، ثم دل على ما أفاده الدليل معللاً بقوله : ( هو ) أي وحده ) الحي ( وكل ما عداه لا حياة له ، لأنه ليس له من ذاته إلا العدم ، فأنتج ذلك قطعاً قوله : ( لا إله إلا هو ( فتسبب عنه قوله : ( فادعوه ) أي وحده بالقول والفعل على وجه العبادة ، وذلك معنى ) مخلصين له الدين ) أي من كل شرك جلي أو خفي .
ولما أمر بقصر الهمم عليه ، علله بقوله : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ، وأظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن له من الصفات العلي ما لا ينحصر : ( لله ) أي المسمى بهذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى لذاته .
ولما كان هذا الوجود على ما هو عليه من النظام ، وبديع الارتسام ، دالاً دلالة قطعية على الحمد ، قال واصفاً بما هو كالعلة للعلم بمضمون الخبر : ( رب العالمين ) أي الذي رباهم هذه التربية فإنه لا يكون إلا كذلك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من قال ) لا إله إلا الله ( فليقل على أثرها ) الحمد لله رب العالمين ( .(6/533)
صفحة رقم 534
غافر : ( 66 - 70 ) قل إني نهيت. .. . .
) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما أمر سبحانه بما دل على استحقاقه إياه ، أنتج قطعاً قوله : ( قل ) أي لهؤلاء الذين يجادلونك في التوحيد والبعث مقابلاً لإنكارهم بالتأكيد : ( إني نهيت ) أي ممن لا ناهي غيره ، نهياً عاماً ببراهين العقل ، ونهياً خاصاً بأدلة النقل ) أن أعبد ( ولما أهلوهم لأعلى المقامات ، عبر عنهم إرخاء للعنان بقوله : ( الذين تدعون ) أي يؤهلونهم لأن تدعوهم ، ودل على سفولهم بقوله تعالى : ( من دون الله ) أي الذي له الكمال كله ، ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعث بشرع أحد بقوله : ( لما جاءني البينات ) أي الحجج الواضحة جداً من أدلة العقل والنقل ظاهرة ، ولفت القول إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنه كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لأحسانه فقال : ( من ربي ) أي المربي لي تربية خاصة هي أعلى من تربية كل مخلوق سواي ، فلذلك أنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد .
ولما أخبر بما يتخلى عنه ، أتبعه الأمر بما يتحلى به فقال : ( وأُمرت أن أسلم ) أي بأن أجدد إسلام كليتي في كل وقت على سبيل الدوام ) لرب العالمين ( لأن كل ما سواه مربوب فالإقبال عليه خسار ، وإذا نهى هو ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي لأنه رب كل شيء ، كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة .
ولما قامت الأدلة وسطعت الحجج على أنه سبحانه رب العالمين الذين من جملتهم المخاطبون ، ولا حكم للطبيعة ولا غيرها ، أتبع ذلك آية أخرى في أنفسهم هي أظهر مما مضى ، فوصل به على طريق العلة لمشاركتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) في الأمر والنهي في التي قبلها قوله تعالى : ( هو ( لا غيره ) الذي ( ولما كان الوصف بالتربية ماضياً ، عبر عنه به فقال : ( خلقكم من تراب ) أي أصلكم وأكلكم التي تربى به أجسادكم ) ثم من نطفة ( من مني يمنى ) ثم من علقة ( مباعداً حالها لحال النطفة كما كان النطفة مباعداً لحال التراب ، ) ثم ( بعد أن جرت شؤون أخرى ) يخرجكم ) أي يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء ) طفلاً ( لا تملكون شيئاً ولا تعملون شيئاً ، ثم يدرجكم في مدارج التربية(6/534)
صفحة رقم 535
صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال ) لتبلغوا أشدكم ثم ( يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول ) لتكونوا شيوخاً ( ضعفاء غرباء ، قد مات أقرانكم ، ووهت أركانكم ، فصرتم تخشون كل أحد .
ولما كان هذا مفهماً لأنه حال الكل ، بين أنه ما أريد به إلا البعض لأن المخاطب الجنس ، وهو يتناول البعض كما يتناول الكل فقال : ( ومنكم من يتوفى ( بقبض روحه لحظة يسيرة مما بينهما ، أدخل الجار على الظرف فقال : ( من قبل ) أي قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية .
ولما كان المعنى : لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم ، عطف عليه قوله : ( ولتبلغوا ) أي كل واحد منكم ) أجلاً مسمى ) أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل ، فلا يتعداه مرة ، ولا بمقدار فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان .
ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها ، وغير مترجاة عند من يجهلها ، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها ، فعبر فيها اللام ، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال : ( ولعلكم تعقلون ) أي فتعلموا بالمفارقة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة وأدوار الأسنان ، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار ، لا يشبه شيئاً ولا يشبه شيء .
ولما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب ، وختمه بأن دلالته على البعث - بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك - لا يحتاج إلى غير العقل ، أنتج عنه قوله : ( هو ( لا غيره ) الذي يحيي ويميت ( كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض ، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها ، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها ، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان ، فليست النهاية بأبعد من البداية .
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة ، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء : ( فإذا قضى أمراً ) أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها ) فإنما يقول له كن ( ولما كانت ) إذا ( شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله : ( فيكون ( وعطفها في قراءة غيره على ) كن ( بالنظر إلى معناه ، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون ، وعبر بالمضارع(6/535)
صفحة رقم 536
تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء ، وقد مضى في سورة البقرة إشباع الكلام في توجيه قراءة ابن عامر بما تبين به أنها أشد من قراءة غيره .
ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق ، أنتج التعجب من حالهم من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة ، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة ، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة : ( ألم تر ) أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً ، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال : ( إلى الذين يجادلون ) أي بالباطل ، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال : ( في آيات الله ) أي الملك الأعظم ) أنَّى ) أي وكيف ومن أي وجه ) يُصرفون ( عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم ، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون ، لأنه سبحانه استاقهم - كما قال ابن جرجان - بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة - فصل ما جادلوا فيه واصفاً لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال : ( الذين كذبوا ( وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب : ( بالكتاب ) أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي تفوت الحصر والعظمة في كل أمر كان أشير بأداة الكمال إلى أنه لكماله كأنه لا كتاب غيره لأن من سمعه فكأنما سمعه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لإعجازه ، فمن كذب بحرف منه فقد كذب بكل كتاب الله .
ولما كان التذكيب به تكذيباً بجميع الرسالات الإلهية ، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة ، تحذيراً للمكذبين من سطواته ، وتذكيراً لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله ، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال : ( وبما أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة ) به رسلنا ( من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره ، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله ، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى : ( فسوف يعلمون ) أي بوعيد صادق لا خلف فيه ، ما يحل بهم من سطوتنا .
غافر : ( 71 ) إذ الأغلال في. .. . .
) إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى(6/536)
صفحة رقم 537
الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) 73
( ) 71
ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة ، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى
77 ( ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( ) 7
[ يس : 8 ] الآية ، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال : ( إذ ) أي حين تكون ) الأغلال ( جمع غل ، قال في ديوان الأدب ، هو الذي يعذب به الإنسان .
وقال القزاز : الغل من الحديد معروف ، ويكون من القد ، وقال في النهاية : هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ، ويقال لها جامعة أيضاً - انتهى .
وأصله الإدخال ، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به ، وذلك معنى قول الصغائي في مجمع البحرين : في رقبته غل من حديد ، وقد غلت يده إلى عنقه ) في أعناقهم ) أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم ، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال ، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً ) والسلاسل ) أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول ، والسلسلة من : تسلسل الشيء : اضطراب ، قال الراغب : كأنه تصور منه تسلسل متردد ، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه ، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا ، حال كونهم ) يسحبون ) أي بها ، والسحب : الجر بعنف ) في الحميم ) أي الماء الحار الحاضر الذي يسكب الوجوه سواداً ، والأعراض عاراً ، والأرواح عذاباً والأجسام ناراً ، والقلوب هماً واللحوم ذوباناً واعتصاراً ، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات .
ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس ، ويضعف القوى ، ويخفف القلوب ، أخبر بما هو فوق ذلك فقال : ( ثم في النار ) أي عذابها خاصة ) يسجرون ) أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب - أي يملأ - وتهيج ناره ، وكما يسجر - أي يصب - الماء في الحلق ، فيملؤؤنها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي ، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها ، ويثبت عمودها ، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي ، التي هي في الظاهر نيران ، وفي الحقيقة جنان .
ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد ، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر(6/537)
صفحة رقم 538
نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكئ هذا القول مطلقاً لا لكونه من قائل معين : ( ثم قيل لهم ) أي بعد أن طال عذابهم ، وبلغ منهم كل مبلغ ، ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم : ( أين ( والتعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في أحكم مواضعه في قوله : ( ما كنتم ) أي دائماً ) تشركون ) أي بدعائكم لهم في مهماتكم دعاء عبادة مع تجديده في كل وقت ؛ ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال : ( من دون الله ) أي المحيط بجميع العز وكل العظمة ، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه : ( قالوا ) أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق : ( ضلوا عنا ( فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا .
ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك ، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب ، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا : ( بل لم نكن ندعو ) أي لم يكن ذلك في طباعنا .
ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها ، لا النفي المقيد بالاستغراق ، فإنه لا ينفي ما دونه ، أثبتوا الجار فقالوا : ( من قبل ) أي قبرل هذه الإعادة ) شيئاً ( لنكون قد أشركنا به ، فلا يقدرهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا
77 ( ) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ) 7
[ الأنعام : 24 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً ، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً .
ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم ، كان كأنه قيل : هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء ، فأجيب بقوله : ( كذلك ) أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب ) يضل الله ) أي المحيط علماً وقدرة ، على القصد النافع عن حجة وغيرها ) الكافرين ) أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً .
ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال ، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم : ( ذلكم ) أي الجزاء العظيم المراتب ، الضخم المواكب ) بما كنتم ) أي دائماً ) تفرحون ) أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب .
ولما كانت الأرض سجناً ، فهي في الحقيقة دار الأحزان ، حسن قوله : ( في الأرض ) أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له ، وزاد ذلك حسناً قوله :(6/538)
صفحة رقم 539
) بغير الحق ( فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة ، وهي الثبات دائماً للمفروح به ، وذلك لا يكون إلا في الجنة ) وبما ) أي وبسبب ما ) كنتم تمرحون ) أي تبالغون في الفرح ما الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح .
ولما كان السياق لذم الجدال ، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر ، وكان الفرح غير ملازم للكبر ، لم يسبب دخول النار عنه ، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال : ( ادخلوا ) أي أيها المكذبون .
ولما كان في النار أنواع من العذاب ، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال : ( أبواب جهنم ) أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبرسة وتحبهم ) خالدين فيها ) أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً .
ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء ، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال : فهي مثواكم ، تسبب عنه قوله : ( فبئس مثوى ( دون أن يقال : مدخل ) المتكبرين ) أي موضع إقامتهم المحكوم بلزومهم إياه لكونهم تعاطوا ما ليس لهم ، ولا ينبغي أن يكون إلا الله يقول الله تعالى : ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعنيهما قصمته ) ولم يؤكد جملة ) بئس ( هنا لأن مقاولتهم هذه بنيت على تجدد علمهم في الآخرة بأحوال النار ، وأحوال ما سببها ، والتأكيد يكون للمنكر ومن في عداده ، وحال كل منهما مناف للعلم ، وزاد ذلك حسناً أن أصل الكرم من الأعلم للسر الذي تقدم - ثلى الله عليه وسلم فبعد جداً من التأكيد .
ولما كان هذا في الجزاء أعظم الشماتة بهم ، فكان فيهم أعظم التسلية لما جادلوه وتكبروا عليه ، سبب عنه قوله : ( فاصبر ) أي ارتقاباً فيهم أعظم التسلية لمن جادلوه وتكبروا عليه ، سبب عنه قوله : ( فاصبر ) أي ارتقاباً لهذه النصرة ، ثم علل بقوله مؤكداً لأجل تكذبيهم بالوعد : ( إن وعد الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) حق ) أي في نصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه ، وفيه أعظم تأسية لك ولذلك سبب عنه مع صرف القول إلى ما يأتي الاعتراض إشارة إلى أنه لا يسأل عما يفعل ، قوله تعالى : ( فإما نرينك ( وأكده ب ( ما ) والنون ومظهر العظمة لأنكارهم لنصرته عليهم ولبعثهم ) بعض الذي نعدهم ) أي بما لنا من العظمة مما يسرك فيهم من عذاب أو متاب قبل وفاتك ، فذاك إلينا وهو علينا هين .(6/539)
صفحة رقم 540
ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به ، عطف عليه قوله : ( أو نتوفينَّك ) أي قبل أن ترى ذلك فيهم وأجاب هذا المعطوف بقوله : ( فإلينا ) أي بما لنا من العظمة ) يرجعون ) أي معي في الدنيا فتريهم بعد وفاتك من نصر أصحابك عليهم بما تسرك به في برزخك فإنه لا بقاء لجولة باطلهم ، وحساً في القيامة فنريك فيهم فوق ما تؤمل من النصرة المتضمنة لتصديقك وتكذيبهم ، وإكرامك وإهانتهم ، والآية من الاحتباك : ذكر الوفاة ثانياً دللايً على حذفها أولاً ، والرؤية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً .
غافر : ( 78 - 80 ) ولقد أرسلنا رسلا. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( ( )
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان ، وتحملهم على الموافقة والإذعان ، فيزول النزاع بحسن الاتباع ، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام ، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر ، فلقد أرسالناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم ، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ : ( ولقد أرسلنا ) أي على ما لنا من العظمة ) رسلاً ) أي بكثرة .
ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه ، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال : ( من قبلك ) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به : ( منهم من قصصنا ) أي بما لنا من الإحاطة ) عليك ) أي أخبارهم وأخبار أممهم ) ومنهم من لم نقصص ( وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة ) عليك ( لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم ) وما ) أي أرسلناهم والحال أنه ما ) كان لرسول ( أصلاً ) أن يأتي بآية ) أي ملجئة أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون استعجالاً لاتباع قومه له ، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون ، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال : ( إلا بإذن الله ) أي بأمره وتمكينه ، فإن له الإحاطة بكل شيء ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتبسوا ، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه ) فإذا جاء ( وزاد(6/540)
صفحة رقم 541
الأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال : ( أمر الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح ، ومن القيامة وما فيها ، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام ، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه بالقضاء ، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة : ( قُضَي ) أي بأمره على أيسر وجه وأسلهه ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - وهذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته ، واما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات ، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( وما أشبهه ) وخسر ) أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر ) هنالك ) أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه ، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسارة تمكن الجالس ) المبطلون ) أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق ، إما باقتراح الآيات مع إيتانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك ، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما الهلاك ، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين ، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها ، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى ) وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ( ) وما كان لرسول أن يأتي بآية ( إلى ) وجادلوا بالباطل ( و ) أفلم يسيروا في الأرض ( إلى ) فأخذتهم فكيف كان عقاب ( وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول .
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم ، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكراً لهم نعمته مستعطفاً إلى طاعته دالاً على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهراً الاسم الجامع إشارة إلى أن هذه الآية من الدلالات لا يحصى : ( الله ) أي الملك الأعظم ) الذي جعل لكم ( لا غيره ) الأنعام ) أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير ) لتركبوا منها ( وهي الإبل مع قوتها ونفرتها ، والتعبير باللام في الركوب مطلقاً ثم فيه مقيداً ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات ، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه ، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة .
ولما كان الاقتيات منها - في عظيم نفعه وكثرته وشهوته - بحيث لا يناسبه غيره ، عد الغير عدماً فقال تعالى : ( منها ) أي من الأنعام كلها ) تأكلون ( بتقديم الجار .(6/541)
صفحة رقم 542
ولما كان التصرف فيها غير منضبط ، أجمله بقوله : ( ولكم فيها ) أي كلها ) منافع ) أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها .
ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جداً ، نبه على عظمته بقطعه عما قبله بإجمال المنافع ثم تفصيله منه فقال : ( ولتبلغوا ) أي مستعلين ) عليها ( وهي في غاية الذل والطواعية ، ونبههم على نقصهم وعظيم نعمته عليهم بقوله : ( حاجة ) أي جنس الحاجة .
ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال : ( في صدوركم ( إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حنى فاضت منها فملأت مساكنها .
ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولاً بخلاف الركوب ، قال معبراً بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، فإنهاكانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها : ( وعيلها ) أي في البر ) وعلى الفلك ) أي في البحر ) تحملون ) أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب .
وأشار بالنباء للمفعول أنه سخر ذلك تسخيراً عظيماً لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل .
غافر : ( 81 - 85 ) ويريكم آياته فأي. .. . .
) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( ( )
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة ، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهاً على ما تقديره : فأراكم هذه الآيات البينات منها ، قوله : ( ويريكم ) أي في لحظة ) آياته ) أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفكسم ومن الآفاق ، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض في غير النداء بإظهار الاسم الأعظم في قوله : ( فأيّ آيات الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) تنكرون ( حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته التي من أوضحها البعث .
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد ، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهيب فقال : ( أفلم(6/542)
صفحة رقم 543
يسيروا ) أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام ) في الأرض ( أيّ أرض كانت ، سير اعتبار ) فينظروا ( نظر ادكار فيما سلكوه من سلبها ونواحيها ، ونبه زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهاً على خروجه عن أمثاله ، ومباينته لأشكاله ، بقوله : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين ( ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها ، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى : ( من قبلهم ) أي مع قرب الزمان والمكان ، لوما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم ، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق ، وعظيم النكير عليهم بعدم النظر عن المسير في الأرض بأعين الاعتبار في الآثار ، من المساكن والديار ، لمن مضى من الأشرار ، وأثبت لهم الأشدية وأنها لم تغن عنهم ، وذكر فرعون وما كان له من المكنة بالمال والرجال ، وأنه أخذه أخذة صارت مثلاً من الأمثال ، وكان قد بقي مما قد يتعلل به في المبالغة الكثرة ، ذكرها مضمومة إلى الشدة تأكيداً لمضمون الخبر في أنه لا أمر لأحد مع أمره ، فقال مستانفاً جواباً لمن يقول : ما كانت عاقبتهم ؟ فقال : ( كانوا أكثر منهم ) أي عدداً أضعافاً مضاعفة ولا سيما قوم نوح عليه الصلاة والسلام : ( وأرشد قوة ( في الأبدان كقوم هود عليه الصلاة والسلام الذين قالزا كما يأتي في التي بعدها
77 ( ) من أشد منا قوة ( ) 7
[ فصلت : 15 ] ) وآثاراً في الأرض ( بنحت البيوت في الجبال ، بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما تبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب .
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم ، سبب عنه شرح حالهم ، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم ، فقال مبيناً لما أغنى : ( فلما جاءتهم رسلهم ) أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم ) بالبينات ) أي الدالة على صدقهم لا محالة ) فرحوا ) أي القوم الموصوفون ) بما عندهم من العلم ( الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش ، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم ، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر(6/543)
صفحة رقم 544
الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال التي قبلها
77 ( ) ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ( ) 7
[ الزمر : 49 ] وكما قال قارون لما قيل له ) وأحسن كما أحسن الله إليك ( : ( قال ) : ( إنما أوتيته على علم عندي ( وفرحهم به لأداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما واستهزوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي ، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي ، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا ، وإسراع المصائب إليهم ، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد ، ويكابدونه من الأنداد والأضداد ، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به من بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً ، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى ) فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون ( ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد ، وأحاطوا بهم المكر والغوايل ، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم ، وأطال غمهم وترحهم ) وحاق ) أي أحاط على وجه الشدة ) بهم بما كانوا ) أي عادة مستمرة .
ولما كان استهزائهم بالحق عظيماً جداً ، عد استهزائهم بغيرة عدماً ، وأشار إلى ذلك بتقديم الجال فقال : ( به يستهزؤون ( من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يكفرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم ، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب ، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب ، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب ، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً ، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور ، ولهذا كل أقبل شيء للعلم الصغار ، والآية من الاحتباك : إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف ضده ثانياً ، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً .
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة ، (6/544)
صفحة رقم 545
وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها ، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ( ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم ، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال ) هو الذي يريكم آياته ( وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم ، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به على اقتراح غيره ، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم ) فائت بآية إن كنت من الصادقين ( ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف ، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف ، حتى قال ) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ( ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى ان قال ) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم لشدة الإلف وضوحها جدال المجادل ، وضلال المماحك المماحل ، لولا أنه قد أخرجتها شدة الألف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين ، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن ، فكشفت ستورها ، وبين دلالتها وظهورها ، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم ) ألم تر إلى الذين يجادلون خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام .
فلما ثبت بذلك عنادهم وغلظتهم وقوتهم في لددهم واشتدادهم ، بين جهلهم بذلهم عند ما أحكموا عقده من شرهم ، فقال مبيناً لما أجمل من الحيق مسبباً عنه لافتاً القول إلى مظهر العظمة ترهيباً : ( فلما رأوا ) أي عاينوا ) بأسنا ) أي عذابنا الشديد على ما له مجامع العظمة ، ومعاقد العز ونفوذ الكلمة ، كما ظهر لنا في هذا البأس من غير إشكال ولا إلباس ، وأكدوا ذلك نافين لما كانوا فيه من الشرك : بقولهم ) وحده ( ودل على إنحلال عراهم ووهي قواهم بزيادة التصريح في قولهم : ( وكفرنا بما كنا ) أي جبلة وطبعاً ) به مشركين ( لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء .
غافر : ( 81 - 85 ) ويريكم آياته فأي. .. . .
) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( ( )(6/545)
صفحة رقم 546
ولما كان الكفر بالغيب سببا لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال : ( فلم يك ) أي لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه لأنهع لا كون يساعد على ذلك ولا بأدنى درجات الكون ، فأشار بكان إلى أن هذا أمر مستقر وشأن مستمر لكل أمة ليس خاصا بالمحدث عنهم ومن مضى قبلهم وبحذف لام الكلمة إلى أنهم أمعنوا في الترقق بتقرير الإيمان وتكريره وتسريحه ، والوقت ضيق والمجال حصير ، وقد أزفت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة ، فلم يكونوا لفوات الوقت موفين بما طلب منهم ) ينفعهم إيمانهم ) أي يتجد لهم نفعة بعد ذلك لأنه إيمان إلجاء واضطرار لا إيمان طواعية واختيار ) لما رأوا ( وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب ، فقال : ( بأسنا ( لأن الإيمان لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب ، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على أنه قد فاتت حقيقته وصثورته ، فلو ردوا لعادوا ، ولو أتاهم بعد ذلك العذاب لانقادوا ، ولهذا السر قال تعالى صارفا القول إلى الاسم المقتضي لمزج الحكمة بالعظمة : ( سنت الله ) أي سن الملك الأعظم المحيط علما وقدرة ذلك ف يكل دهر سنة ، ولذا قال ) التي قد خلت في عباده ( أن الإيمان بعد كشف الغطاء لا يقبل ، وكل أمة كذبت الرسل أهلكت ، وكل من أجيب إلى الإيمان المقترحة فلم يؤمن عذب ، سنها سنة وأمضاها عزمة ، فلا غير لها ، فربح إذ ذاك المؤمنون ) وخسر ) أي هلك أو تحقق وتبين أنه خسر. ولما كان المكان لا ينفك عن الزمان ، استعير ظرفه له وليدل على غاية التمكن فقيل : ( هنالك ) أي في ذلك الوقت العظيم الشأن بما كان فيه وكان ) الكافرون ) أي العريفون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبينه ، وقد التف آخرها بما بين من كمال العزة وتمام القدرة وشمول العلم مما رتب من أسباب الهداية والإضلال ووالإشقاء والإسعاد والنجاة والإهلاك بأولها أي التفاف ، واكتنفت البداية والنهاية بيان ذلك مع ما اشتمل عليه الوسط أيضا منه أعظم اكتناف ، فسبحان من هذا إنزاله ، وتبارك اسمه وجل جلاله ، ولا إله سواه ولا حوةل ولا قوة إلا بالله ، رب سهل كريم .(6/546)
صفحة رقم 547
سورة فصلت
فصلت : ( 1 - 6 ) حم
) حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ( ( )
سورة فصلت مكية - آياتها أربع وخمسون وتسمى حم السجدة مقصودها الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره وعلماً من علمه لعباده فشرعه ، لهم ، فجاءتهم به عنه رسله ، وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله والاستقامة على طاعته المقترن بهما - كما تقدم في الزمر في قوله ) ) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( ) [ آية : 9 ] فتكون عاقبته الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به ، ( بصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ) - إلى آخر الحديث القدسي الذي معناه أنه يوفقه سبحانه فلا يفعل إلا ما يرضيه ، وعلى ذلك دل اسمها ) فصلت ( بالإشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها هذه الكلمة من الكتاب المفصل لقوم يعلمون .
والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان ، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان ) بسم الله ( الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل ) الرحمن ( الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ففصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان ) الرحيم ( الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة ) حم ) أي حكمة محمد التي أعجزت الخلائق .(6/547)
صفحة رقم 548
ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل ، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا ، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم ، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم ، بل الجهل خير منه ، وكان ذلك شاقاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خوفاً من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك ، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس ، وأن يكون أغلب أحواله ( صلى الله عليه وسلم ) النذارة ، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه ، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم ، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلاً وبين تبييناً لا يضره جدال مجال ، وكيد مماحك مماحل ، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبراً عن مبتدأ : ( تنزيل ) أي بحسب التدريج عظيم ) من الرحمن ) أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل ) الرحيم ) أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم .
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج ، بين أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلاً من تنزيل : ( كتاب ) أي جامع قاطع غالب .
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال : ( فصلت ) أي تفصيل الجوهر ) آياته ) أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني ، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات ، حال كونه ) قرآناً ) أي جامعاً مع التفصيل ، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة ( قرا ) من معنى الإمساك ، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد ، ولا نهاية وعد ، بل كلما دقق النظر جل المفهوم ، ولذلك قال تعالى : ( عربياً ( لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة ، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة ، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً ، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً ، قال الحرالي : وهو قرأن لجمعه ، فرقان لتفصيله ، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات ، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية ، مجيد لإقامته قسطاس العدل ، عربي لبيانه عم كل شيء ، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص ، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله ، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص فيقبل العدول عن سنن .
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك ، وأدمن اللزوم ذلاً للأعتاب ، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب ، قال معلقاً ب ( فصلت أو تنزيل ) أو ( الرحمن الرحيم ) : ( لقوم ) أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه ) يعملون ) أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم(6/548)
صفحة رقم 549
بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار ، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له ، وفيه حث لهم - وهم أولو العزائم الكبار - على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود ، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً ، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً ، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته ، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة ، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً ، وقد خالفت كلامهم وأسجاعهم ، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هم من أنواع نثرهم ، ولا من ضروب خطبهم ، فعجزوا عن الإيتان بشيء من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعضار ، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات ، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم ، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها ، ألا ترى قوله تعالى
77 ( ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ( ) 7
[ غافر : 4 ] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله
77 ( ) فلا يغررك تقبلهم في البلاد ( ) 7
[ غافر : 4 ] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل ) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ( فعصمتهم واقية
77 ( ) أنا لننصر رسلنا ( ) 7
[ غافر : 51 ] وقال تعالى :
77 ( ) وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( ) 7
[ غافر : 5 ] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم ، فلا اعتبر هؤلاء بهم
77 ( ) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وإثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ( ) 7
[ غافر : 21 ] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات ) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله ( ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون ، وبسط القصة تنبيهاً على سوء عاقبة من عتند وجادل بالباطل وكذب الآيات ، ثم قال تعالى بعد آيات ) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ( إذ الحول والقوة ليست لهم
77 ( ) فاستعذ بالله ( ) 7
[ الأعراف : 300 ] من شرهم ، فخلق غيرهم لة استبصروا أعظم من خلقهم
77 ( ) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق(6/549)
صفحة رقم 550
الناس ( ) 7
[ غافر : 57 [ وهو غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين
77 ( ) إنما نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ( ) 7
[ سبأ : 9 ] ثم قال تعالى بعد هذا ) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون ( إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها ، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم
77 ( ) ضلوا عنا بل لمن نكن ندعو من قبل شيئاً ( ) 7
[ غافر : 74 ] ثم صبر تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله :
77 ( ) فاصبر إن وعد الله حق ( ) 7
[ الروم : 60 ] ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض ( إلى ختم السورة ، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات ، فلما بينت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب ، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق ، وكان قيله لهم : احذروا ما قدم لكم ، فقد جاءكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأوضح آية وأعظم برهان ) تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً ( وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة تبهر العقول بأول وهلة ، فلا يمكن العربي الفصيح في شاهد برهان أدنى توقف ، ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف ، وأنه لكتاب عزيز ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( ) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي ( فوبخهم سبحانه وتعالى وأدحض حجتهم وأرغم باطلهم وبكَّت دعاويهم ثم قال ) قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في اذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ) إنما يستجيب الذين يسمعون ( وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم ) قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ( وقولهم ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته ، وتسجيلهم بقوة عارضته ، ثم فضحهم بقوله ) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ( - الآية ، وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم ، وهم الذين قدم ذكرهم مجملاً في سورة غافر في آيتي ) أو لم يسيروا في الأرض ( ) أفلم يسيروا ( فقال تعالى مفصلاً لبعض ذلك الإجمال ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ( ثم قال ) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ( ثم قال تعالى ) فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً ( الاية ، ثم قال ) وأما ثمود ( فبين تعالى حالهم وأخذهم ، فاعتضد التحام السورتين ، واتصال المقصدين - والله أعلم - انتهى .(6/550)
صفحة رقم 551
ولما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر ، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال ، بالتوسط الموصل إلى الكمال ، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه ، قال واصفاً ل ( قرآناً ) ) بشيراً ) أي لمن اتبع ) ونذيراً ) أي لمن امتنع فانقطع .
روى أبو نعيم في الحلية في تلاجمة إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال في خطبة له : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها إن سنح له الرجاء ادلهمه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد .
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي ، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال : ( فأعرض أكثرهم ) أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره ) فهم ( لذلك ) لا يسمعون ) أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه .
ولما أخبر عن إعراضهم ، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال : ( وقالوا ) أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم : ( قلوبنا في أكنَّة ) أي أغشية محيطة بها ، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال ) إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ( وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا ) مما ) أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي ) تدعونا ( أيها المخبر بأنه نبي ) إليه ( فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً .
ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا : ( وفي آذاننا ( التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب ) وقر ) أي ثقل قد أصمها عن سماعه ) ومن بيننا وبينك ) أي مبتدئ من الحد الذي فصلك منا والحد الذي فصلنا منك في منتصف المسافة قي ذلك ) حجاب ( ساتر كثيف ، فنحن لا نراك لنفهم عنك بالإشارة ، فانسدت طرق الفهم لما نقول ) فاعمل ) أي بما تدين به .
ولما كان تكرار الوعظ موضعاً للرجاء في رجوع الموعوظ قطعوا ذلك الرجاء بالتأكيد بأداته ، وزادوه بالنون الثالثة والتعبير بالاسمية فقالوا : ( إننا عاملون ) أي بما ندين به فلا مواصلة بيينا بوجه ليستحي أحد منا من الآخر في عمله أو يرجع إليه ، ولو قال ) وبيينا ( من غير ) من ( لأفهم أن البينين بأسرهما حجاب ، فكان كل من الفريقين ملاصقاً لبينه ، وهو نصف الفراغ الحاصل بينه(6/551)
صفحة رقم 552
وبين خصمه ، فيكون حينئذ كل فريق محبوساً بحجابة لا يقدر على عمل فينا في ما بعده أو يكون بينهما اتصال أقله بالإعلام بطرق من أراد من المتباينين الحجاب ، فأفادت ( من ) التبعيض مع إفادة الابتداء ، فإنهم لا يثبتون الحجاب في غير أمور الدين .
ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه ، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال : ( قل ) أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي عليهم بالعجز : ( إنما أنا بشر مثلكم ( لا غير بشر مما لا يرى ، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً .
ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين : أحدهما فيه ، والآخر فيما يدعو إليه ، ونقض الأول ، قال في الثاني : ( يوحى إليّ ) أي بطريق يخفى عليكم ) إنما إلهكم ) أي الذي يستحق العبادة ) إله واحد ( لا غير واحد ، وهذا مما دلت عليه الطرق النقلية ، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية ، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك ، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات ، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً ، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً ، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى ، أو يشكل فهمها ، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد ، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله .
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فاستقيموا ) أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم ) إليه ( غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره .
ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل ، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه ، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال : ( واستغفروه ) أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم ، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها ، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً .
واما أمر بالخير ، رغب فيه ووهب من ضده ، فكان التقدير للترغيب : فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك ، فعطف عليه ما السياق له فقال : ( وويل ) أي وسواة وهلاك ) للمشركين ( .
فصلت : ( 7 - 12 ) الذين لا يؤتون. .. . .
) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ(6/552)
صفحة رقم 553
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) 73
( ) 71
ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته ، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك ، وكان اخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك ، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجه الله في الزكاة ، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي لا شوب فيه ، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله .
قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق : ( الذين لا يؤتون ) أي أمثالهم من أولاد آدم ) الزكاة ( من المال الذي لا صنع لهم في خلقه ، فهو مخلف عن أبيهم آدم ، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء ، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة ، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم ، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف ، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق .
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها ، فأنكروا الآخرة ، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه ، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون ، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون ، ما أثبت لنفسه من فعله ، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق : ( وهم بالآخرة ) أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها ) هم ) أي بخاصة من بين أهل الملل ) كافرون ( فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك ، وأثبتوا لمن لم يشاهددوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً ، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم ، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة : الشرك الذي هو ضد التعليم لأمر الله ، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة على(6/553)
صفحة رقم 554
خلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله في طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله ، قال الأصبهاني : وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام : أمس واليوم والغد ، فمعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في الاليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة ، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة ، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال .
ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً ، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً ، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره : ( إن الذين آمنوا ) أي بما آتاهم الله من العلم النافع ) وعملوا الصالحات ( من الزكاة وغيرها ليكون عملهم شرعياً نافعاً ، ولما كان افتتاح السورة بالرحمن الرحيم مشعراً بأن الأسباب الظاهرية انمحت عند السبب الحقيقي الذي هو رحمته ، أعرى الخبر عن الفاء ، فقال إيذاناً بعظم الجزاء لأن سببه رحمة الرحيم ، ولو كان بالفاء لآذنت أنه على مقدار العمل الذي هو سببه : ( لهم أجر ) أي عظيم ) غير ممنون ) أي مقطوع - جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله به من أقوالهم في الآخرة والدنيا ، والممنون : المقطوع من مننت الحبل أي قطعته بقطع مننه ومنه قولهم : قد منه السفر أي قطعه وأذهب منته .
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة ، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له ، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق : ( قل ) أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك : ( أئنكم ( وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر ) لتكفرون ) أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة ) بالذي خلق الأرض ) أي على سعتها وعظمتها من العدم ) في يومين ( فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها ، وهذا اليومان الأحد والاثنين - نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ما وعبدالله بن سلام رضي الله عنه - قال ابن الجوزي : والأكثرين ، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة
77 ( ) خلق الله التربة يوم السبت ( ) 7
يخالف هذا ، فإن البداءة فيه(6/554)
صفحة رقم 555
بيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية ، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل ، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك ، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك ، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل ، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي : مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا .
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره ، عطف على ) تكفرون ( قوله : ( وتجعلون ) أي مع هذا الكفر ) له أنداداً ( مما خلقه ، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك ، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه ، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلاً ، هذا هو الضلال المبين .
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم ، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال : ( ذلك ) أي الإله العظيم ) رب العالمين ) أي موجدهم ومربيهم ، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال .
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها ، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب ، فقال عاطفاً على ما تقديره : أبدع الأرض على ما ذكر : ( وجعل ( ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي ) فيها رواسي ( هي أشدها وهي الجبال ، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال : ( من فوقها ( فمنعتها من الميد ، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة ، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها ، أساطين حاملة ، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها ، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل .
ولما هيأها لما يراد منها ، ذكر ما أودعها فقال : ( وبارك فيها ) أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه ، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى ) وقدر فيها أقواتها ) أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه ، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه ، وقدره فأمضاه ، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض ، فكان جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها ، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً ، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه ، وفي الأرض أضعاف كفايته ، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال : ( في أربعة أيام ( وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء ، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام ، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية ، فتعارض آية ) ألم السجدة ( ) لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ( وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص(6/555)
صفحة رقم 556
الأقوات والمنافع لأحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان ، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد ، وإنما كان أدل على القدرة ، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة ، وتقدير الأقوات فإنه أملا لا يقوم بنفسه ، فلم يفرد يوميه بالذكر ، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع ، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه ، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار ، ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم ، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين ، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها ، والاعتناء بشأنهم وشأنها ، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم - كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور ، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح ، بل لحكم تعجز عن حملها العقول ، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة .
ولما كان لفظ ) سواء ( الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين ، تقول : سواء زيد وعمرو ) إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله : ( أربعة أيام ( من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة ، ناصباً على المصدر : ( سواء ) أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء ) للسائلين ) أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها ، لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص ، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص ، وقراءة يعقوب بجر ( سواء ) معينة لأن تكون نعتاً ل ( أربعة ) وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف ، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة ، قال ابن برجان : ألا(6/556)
صفحة رقم 557
ترى الأمر إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة .
الشتاء الربيع الصيف والخريف ، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة ، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب ، قال : وقوله ( السائلين ) تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب ، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى .
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال : ( ثم استوى ) أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده ) إلى السماء وهي ) أي والحال أنها ) دخان ( بعد ما فتقها من الأرض ، قالوا : كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار ، وهو تشبيه صوري ، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض ، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الرض وبعد تصوير السماء أولاً إيجاداً وتتميماً لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً ، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال ، ) فقال لها ) أي عقب مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها ، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال : ( طوعاً أو كرهاً ) أي طائعين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف ) قالتا أتينا ) أي نحن وما فينا ما بيننا .
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم ، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل : ( طائعين ) أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل ، وذلك هو بذلهما للأمانة ، وعدم حملها ، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان ، بل قد يكون القول لهما متعاقباً ) فقضاهن ) أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات ) سبع سماوات ((6/557)
صفحة رقم 558
صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه ) في يومين ) أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين ، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص ، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع ، قال ابن جرير : وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض .
يعني فرغ من ذلك وأتمه ) وأوحى ) أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي ) في كل سماء أمرها ) أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل ، وزمام مبرم لا ينحل .
ولما عم ، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا ، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم : ( وزينّا ) أي بما لنا من العظمة ) السماء الدنيا ) أي القربى إليكم لأجلكم ) بمصابيح ( من زواهر النجوم ، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها ، ودل السياق على أن المراد : زينة ) و ( حفظناها بها ) حفظاً ( من الشياطين ، فالآية من الاحتباك : حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر ، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها .
ولما كان هذا أمراً باهراً ، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها : ( ذلك ) أي الأمر الرفيع والشأن البديع ) تقدير العزيز ( الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ) العليم ( المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم ، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمه من الأمم قبلها ، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول : إنه فاعل بالذات لا بالاختيار ، فاقتضى الحال عدداً ، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص ، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال ، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص ، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك ، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد ، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار .(6/558)
صفحة رقم 559
فصلت : ( 13 - 16 ) فإن أعرضوا فقل. .. . .
) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ ( ( )
ولما كان هذا القدر من العلم موجباً للانقياد لكل خير من الوحدانية وغيرها ، والإقبال على الحق في كل أمر ، فكان المتمادي على إعراضه قبل الوعظ به كأنه جدد إعراضاً غير إرعراضه الأول ، قال مفصلاً بعض قوله ) فأعرض أكثرهم ( : ( فإن أعرضوا ) أي استروا على إعراضهم ، أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة ) فقل ) أي لهم : إن لكم سلفاً سلكتم طريقهم في العناد ، فإن أبيتم إلا الإصرار ألحقناكم بهم كأمثالهم وهو معنى ) أنذرتكم صاعقة ( ، أي حلول صاعقة مهيأة لمن كشف له الأمر فعاند ، فإن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه ، قال البغوي وابن الجوزي : والصاعقة المهلكة من كل شيء - انتهى .
والحاصل أنه عذاب شديد الوقع كأنه في شدة وقعه صاعقة .
ولما كان التخويف بما تسهل مشاهدة مثله أوقع في النفس قال : ( مثا صاعقة عاد وثمود ) أي الذين تنظرون ديارهم وتستعظمون آثارهم ، وعلل إيقاع ذلك بهم بقوله : ( إذا ( ويجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي حين ) جاءتهم الرسل ( لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه ، ولما كانت الرسل إنما أتت بالفعل في بعض الزمان أدخل الجار فقال : ( من بين أيديهم ) أي من قبلهم لأن النذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به ) ومن خلفهم ( وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إيتانهم ، فالخلف كناية عن الخفاء ، والقدام عن الجلاء ، ولا شك أن الإنسان لما انقاد له من قبله فسمعه منه أقبل مما رآه بعينه ، لأن النفس لا تنقاد لما خالفها إلا بعد جدال وجهاد ، فإذا تطاول الزمن وانقاد له الغير ، سهل عليها الأمر ، وخف عليها الخطب ، وأيضاً الآتي إلى ناس إنما يأتيهم بعد وجودهم وبلوغهم حد التكيف ، فهو بهذا آتٍ إليهم من ورائهم أي بعد وجودهم أو يكون ما بين الأيدي هو من جاءهم لأنهم علموا بمجيئه علم من ينظر من قدامه ، وما خلفهم ما غاب عنهم ممن(6/559)
صفحة رقم 560
تقدمهم ، فلم تنقل إليهم أخبارهم إلا على وجوه تحتمل الطعن ، أو المعنى : أتاهم رسولهم الذي هو بإظهار المعجزة كجميع الرسل بالوعظ من كل جانب يخفى عليهم أو يتضح لهم وأعمل فيهم كل حيلة بكل حجة حتى لم يدع لهم شبهة ، ثم بين أن مجيء الرسل ينفي عبادة غير الله وقصر العبادة عليه ، فقال مظهراً مع العبادة الاسم الذي هو أولى بها : ( أن ) أي بأن قولوا لهم ) لا تعبدوا إلا الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان هذا موضعاً لتشوف السامع إلى خبرهم عند ذلك إجابة بقولهم : ( قالوا ) أي كل منهم : ( لو شاء ربنا ) أي والذي ربانا أحسن تربية وجعلنا من خواصه بما حبانا به من النعم أن يرسل إلينا رسولا ) ملائكة ( فأرسلهم إلبينا بما يريده منا لكنه لم ينزل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً ، فتسبب عما قالوه من القياس الاستثنائي الذي استنتجوا فيه من نقيض تاليه نقيض مقدمه ، لما جعلوا بين المقدم والتالي من الملازمة بزعمهم قولهم : ( فإنا بما ) أي بسبب الذي ولما كانوا لم ينكروا مطلق رسالتهم ، إنما أنكروا كونها من الله ، بنوا للمجهول قولهم مغلباً تعالى في الترجمة عنهم للخطاب على الغيبة لأنه أدخل في بيان قلة أدبهم : ( أرسلتم ) أي أيها الرسل ومن كان على مثل حالهم من البشر ) به ( لأن قياسنا قد دل على أنه تعالى لم يشأ الإرسال ، فأنتم لستم بمرسل عنه لأنكم بشر لا ملائكة وقد كذبوا في قياسهم الذي لم يأخذوه عن عقل ولا نقل لأنه لا ملازمة بين مشيئة الإرسال إلى الناس كافة أو إلى أمة منهم وبين أن يكون المرسل إليهم كلهم ملائكة .
ولما جمعهم فيما اجتمعوا فيه حتى كأنهم تواصوا به ، فصل ما اختلفوا فيه فقال مسبباً عما مضى من مقالهم : ( فأما عاد ) أي قوم هود عليه الصلاة والسلام ) فاستكبروا ) أي طلبوا الكبر وأوجوه ) في الأرض ) أي كلها التي كانوا فيها بالفعل وبقيتها بالقوة ، أو في الكل بالقعل لكونهم ملكوها كلها .
ولما كان الكبر قد يكون بالحق كما على من خالف أمر الله قال : ( بغير الحق ) أي الأمر الذي يطابقه الواقع ، وهو إنكار رسالة البشر ، فإن الواقع إرسالهم ) وقالوا ) أي وضموا إلى استكبارهم على قبول ما جاءهم من الحق أن قالوا متعاظمين على أمر الله بما أتاهم الله من فضله : ( من أشد منا قوة ( فنحن نقدر على دفع ما يأتي من العذاب الذي يهددنا به هود عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا أشد الناس قوى وأعظمهم أجساماً .
ولما كان التقدير أن يقال إنكاراً عليهم : ألم يروا أن الله لو شاء لجعلهم كغيرهم ، عطف عليه قوله : ( أو لم يروا ) أي يعلموا علماً كما هو كالمشاهدة لأنه غريزة في(6/560)
صفحة رقم 561
الفطرة الأولى فهو علم ضروري ) أنّ الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) الذي خلقهم ( ولم يكونوا شيئاً ) هو أشد منهم قوة ( ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلاً انقاد له فيما ينفعه ولا يضره ، واجتماع قوتهم التي هي شدة البنية وقوته سبحانه التي هي كمال القدرة وهي صفة قائمة بذاته سبحانه إنما هو من الآثار الناشئة عن القوة ، فلذلك جمعاً بأشد .
ولما بين أنهم أجدوا الكبر ، عطف عليه من غرائزهم ما هو أصل لكل سوء ، فقال مبيناً قرط جهلهم باجرائهم على العظمة التي شأنها قصم الظالم وأخذ الآثم : ( وكانوا ) أي طبعاً لهم ) بآياتنا ( على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا ) يجحدون ) أي ينكرون إنكاراً يضمحل عنده كل إنكار عناداً مع علمهم بأنها من عندنا ) فأرسلنا ( بسبب ذلك على ما لنا من العظمة ، ودل على صغارهم وحقارتهم بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ( وزاد في تحقيرهم بأن أخبر أنه أهلكهم لأجل ما تعززوا به من قوة أبدانهم ووثاقة خلقهم بما هو من ألطف الأشياء جسماً وهو الهواء فقال : ( ريحاً ) أي عظيمة ) صرصراً ) أي شديدة البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجمد البدن ببردها فتكون كأنها تصره - أي تجمعه - في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوته ، وتقطع القلب بصوتها ، فتقهر شجاعته ، وتحرق بشدة بردها كل ما مرات عليه .
ولما تقدم في هذا السياق استكبارهم على الوجه المذكور وادعاؤهم أنهم أشد الناس قوة اقتضى الحال تحقيرهم في إهلاكهم ، فذكر الأيام دون الليالي وإن تضمنتها فقال تعالى : ( في أيام ( ولما كان جمع القلة قد يستعار للكثرة حقق أن المراد القلة بوصفه بجمع السلامة فقال : ( نحسات ( وكان ذلك أدل على هذا المراد من إفراد اليوم كما في القمر لأنه قد يراد به زمان يتم فيه أمر ظاهر ولو طالت مدته ، ويصح للجنس فيشمل مع القليل ما يصلح له جمع الكثرة .
وفيه - مع أنه نذارة - رمز للمنزل عليه هذا الوحي ( صلى الله عليه وسلم ) بأعظم بشارة لما أومأ إليه افتتاح السورة باسمي الرحمة ، وقوله تعالى ) بشيراً ونذيراً ( ومن جعل أيام هذا العذاب ثمانية ، أشار إلى الحلم والتأني كما أشار إليه ما تقدم من خلق هذا الوجود في ستة أيام ، وقد كان قادراً على كل من التعذيب والإيجاد في لحظة واحدة ، فأشار ذلك إلى أنه في السنة السادسة من الهجرة يكون الفتح السببي بعمرة الحديبية التي كانت سبب نزول سورة الفتح ، وفي السابعة يكون الاعتمار الذي كان عليهم أشد من وقوع الصارم البتار ، حتى ذهب عمرو بن العاص من أجل ذلك إلى الحبشة لئلا يرى من دخول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم ما لا صبر له عليه ، وفي(6/561)
صفحة رقم 562
الثامنة يكون الفتح الحقيقي بعشرة آلاف مقاتل أكثرهم دارع لا يُرى منهم إلا الحدق ، حتى خالوا بياض لأمهم السراب ، فظنوا بهم غاية العذاب ، فكانوا رحمة ، وعاد رأوا السحاب فظنوه رحمة فكان عذاباً ونقمة ، ووصفها بالنحس مبالغة مثل رجل عدل ليدل على أنها كانت قابلة لانفعال الجسد وما كان فيه من القوى بهذه الريح ، وهو مصدر جمع لاختلاف أنواع النحس فيها - هذا على قراءة الجماعة بسكون الحاء ، وأما قراءة ابن عامر والكوفيين بكسر الحاء فهي صفة من فعل بالكسر مثل : فرح فهو فرح ، وأول هذه الأيام الأربعاء في قول يحيى بن سلام ، وقال غيره : وما عذب قوم إلا يوم الأربعاء ) لنذيقهم ( وأضاف الموصوف إلى صفته على المبالغة من وادي رجل عدل فقال : ( عذاب الخزي ) أي الذي يهيئهم ويفضحهم ويذلهم بما تعظموا وافتخروا على كلمة الله التي أتتهم بما رسله ، وصف العذاب بالخزي الذي هو للمعذب به مبالغة في إخزائه له ) في الحياة الدنيا ( ليذلوا عند من تقيد بالوهم ) ولَعذاب الآخرة ( الذي أعد للمتكبرين ) أخزى ) أي أشد إخزاء كما قالوا : هو أعطاهم للدراهم وأولادهم للمعروف ، وأكد لإنكارهم له .
ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم ، نفى دفع غيرهم فقال : ( وهم ) أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم ) لا يُنصرون ) أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه .
فصلت : ( 17 - 21 ) وأما ثمود فهديناهم. .. . .
) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما أنهى أمر صاعقتهم ، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال : ( وأما ثمود ( وهم قوم صالح عليه الصلاة والسلام ) فهديناهم ) أي بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا ، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب أبصار بصائرهم غايه الإبصار ، فكرهوا ذلك لما يلزمه من الناشئ عن عمى اليصر أو البصيرة أو هما معاً ) على الهدى ) أي أوجدوا من الأفعال والأقوال ما يدل على حب ذلك وعلى طلب حبه فعموا فضلوا ، وقال القشيري : قيل :(6/562)
صفحة رقم 563
إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا ، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال .
) فأخذتهم ) أي بسبب ذلك أخذ قسر وهوان ) صاعقة العذاب ( وأبلغ في وصفه بجعله نفس الهون فقال : ( الهون ) أي ذي الهون ، قامت ضمته مقام ما في الهون من الصيغة فعلم أن المراد المهين المخزي ) بما كانوا ) أي دائماً ) يكسبون ) أي يتجدد تحصيلهم له وعدهم له فائدة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهداية أولاً دليلاً على حذف الضلال ثانياً والعمى ثانياً دليلاً على حذف الإبصار أولاً ، وسره أنه نسب إليه أشرف فعليه ، وأسند إليهم ما لا يرضاه ذو الروح .
ولما أتم الخبر عن الكافرين من الفريقين ، أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونذارة لمن صد عنه فقال : ( ونجينا ) أي تنجية عظيمة ) الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى وجوهه من الفريقين ) وكانوا ) أي كوناً عظيماً ) يتقون ) أي يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بلا دليل .
ولما ذكر حالهم في الدنيا ، وأشار إلى حال الآخرة ، أتبعه تفصيل ذلك فقال : ( ويوم ) أي اذكر أيام أعداء الله في الدنيا في إنزال عذابه بهم وإحلال مثلاته بساحاتهم ، واذكر يوم يحشرون - هكذا كان الأصل ، ولكنه بين ما عذبوا به ليعم كل من اتصف به من الأولين والاخرين فقال : ( يحشر ) أي يجمع بكثرة بأمر قاهر لا كلفة علينا فيه - هذا على قراءة الجماعة بالبناء للمفعول ، وعلى قراءة ناقع ويعقوب بالنون مبيناً للفاعل يكون ناظراً إلى سياق ( ونجينا ) وفي كلتا القراءتين معنى العظمة ، فلذلك ناسبهما الاسم الأعظم الذي هو أعظم من مظهر العظمة الذي وقع الصرف عنه لما في ذكره من زيادة التوبيخ لهم والتهجين لفعلهم والتخسيس لعقولهم في قولهم : ( أعداء الله ) أي الملك الأعظم ولا يخفى إعرابه بحسب كل قراءة ) إلى النار ( دار الأشقياء ) فهم ( بسبب حشرهم ) يوزعون ) أي يدفعون وبرد بأيسر أمر أولهم على آخرهم ، ومن يريد أن يعرج منهم يميناً أو شمالاً ظناً أنه قد يخفى بسبب كثرتهم ويزجرون زجر إهانة ، ويجمع إليهم من شذ منهم ، ة فإن كل شيء من ذلك نوع من العذاب .
ولما بين إهانتهم بالوزع ، بين غاياتها فقال : ( حتى إذا ( وأكد الكلام لإنكارهم مضمونه زيادة النافي ليكون اجتماعه مع الإثبات نفياً للضد فيفيد القوة بمضمون الخبر في تحقيقه وثباته واتصاله بالشهادة على الفور فقال : ( ما جاؤوها ) أي النار التي كانوا بها يكذبون ) شهد عليهم ( حين التكوير فيها مركومين بعضهم على بعض .
ولما(6/563)
صفحة رقم 564
كان في مقام الترهيب ، وكان التفصيل أهول قال : ( سمعهم ( أفرده لتقارب الناس فيه ) وأبصارهم ( جمع لعظم التفاوت فيها ) وجلودهم بما ( وأثبت الكون بياناً لأنهم كانوا مطبوعين على ما أوجب لهم النار من الأوزار فقال : ( كانوا يعملون ) أي يجددون عمله مستمرين عليه ، فكأن هذه الأعضاء تقول في ذلك الحين إقامة للحجة البالغة : أيها الأكوان والحاضرون من الإنس والملائكة والجان ، اعلموا أن صاحبي كان يعمل بي كذا وكذا مع الإصرار ، فاستحق بذلك النار ، وغضب الجبار - ثم يقذف به .
ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما ، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فلم تفدهم هذه الشهادة خجلاً من الله ولا خضوعاً في أنفسهم ولا رجوعاً عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله فيهم : ( وقالوا لجلودهم ( ودخل فيها ما صرح به من منافعها بها لفقد ما يدعو إلى التفصيل .
ولما فعلت فعل العقلاء خاطبوها مخاطبتهم فقالوا : ( لم شهدتم علينا ( .
ولما كان هذا محل عجب منهم ، وكان متضمناً لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت ، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم ، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبراً لنطقها بصيغة ما يعقل : ( قالوا ( معتذرين : ( أنطقنا ( قهراً ) الله ( الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه .
ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد ، أقاموا على ذلك دليلن شهوديين فقالوا : ( الذي أنطق كل شيء ) أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً .
ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه ، نبهوهم على ذلك بقولهم : ( وهو خلقكم أول مرة ( والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه ، ثم طوركم في أدوار الأطوار إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك ، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم .
ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال : ( وإليه ) أي إلى غيره ) ترجعون ) أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له ، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز ، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : كنا عند(6/564)
صفحة رقم 565
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( هل تدرون ممّ أضحك ) ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال ( من مخاطبة العبد ربه ، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى ، اقل : فيقول : فإني لا أجيز إلا شاهداً مني ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً ، قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا أناضل ) .
فصلت : ( 22 - 26 ) وما كنتم تستترون. .. . .
) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( ( )
ولما اعتذروا بما إخبارهم به في هذه الدنيا وعظ وتنبيه ، وفي الآخرة توبيخ وتنديم ، قالوا مكريين للوعظ محذرين من جميع الكون : ( وما كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) تستترون ) أي تتكفلون الستر عند المعاصي وأنتم تتوهمون ، وهو مراد قتادة بقوله ؛ تظنون .
) أن يشهد عليكم ( بتلك المعاصي .
ولما كان المقصود الإبلاغ في الزجر ، أعاد التفصيل فقال : ( سمعكم ( وأكد بتكرير النافي فقال : ( ولا أبصاركم ( جمع وأفرد لما مضى ) ولا جلودكم ولكن ( إنما استتاركم لأنكم ) ظننتم ( بسبب إنكاركم البعث جهلاً منكم ) أن الله ( الذي له جميع الكمال ) لا يعلم ) أي في وقت من الأوقات ) كثيراً مما تعملون ) أي تجددون عمله مستمرين عليه ، وهو ما كنتم تعدونه خفياً فهذا هو الذي جرأكم على ما فعلتم ، فإن كان هذا ظنكم فهو كافر ، وإلا كان عملكم عمل من يظنه فهو قريب من الكفر والمؤمن حقاً من علم أن الله مطلع على سره وجهره ، فلم يزل مراقباً خائفاً هائباً ، روى الشيخان في صحيحهما واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : اجتمع عن البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن(6/565)
صفحة رقم 566
كان يسمع إذا جهرنا فأنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله ) وما كنتم ( - الآية ، قال البغوي ؛ قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه ، والقرشيان : ربيعة وصفوان بن أمية .
ولما كان ذكر المعصية وما جرأ عليها يقتضي انتقاصاً يقدح في الإلهية ، بين أنه الموجب للغضب فقال : ( وذلكم ) أي الأمر العظيم في القباحة ، ثم بينه بقوله : ( ظنكم ) أي الفاسد ، ووصفه بقوله : ( الذي ظننتم بربكم ) أي الذي طال إحسانه إليكم من أنه لا يعلم حالكم ، ثم أخبر عنه بقوله : ( أردناكم ) أي تسبب عنه خاصة أنه أهلككم .
وأما معاصي الجوارح مع التوحيد والتنزيه فأمرها أسهل ، والحاصل أن كل ظن كان غير مأذون فيه من الشارع فهو يردي صاحبه .
ولما كان الصباح محل رجاء الفراح ، فكان شر الأتراح ما كان فيه ، قال : ( فأصبحتم ) أي بسبب أن ما أعطيتموه من النعم لتستنفذوا به أنفسكم من الهلاك كان سبب هلاككم ) من الخاسرين ) أي العريقين في الخسارة ، المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم ، وصوره بأقبح صورة وهو الصباح ، فالمعنى أنه إذا صار حالكم حال من أصبح كذلك لم يكن للربح وقت يتدارك فيه بخلاف ما لو وجد ذلك عن المساء فإنه كان ينتظر الصباح للسعي في الربح ، ويوم القيامة لا يوم بعده يسعى فيه للربح ، فينبغي للمؤمن أن يكون حال خلوته أشد ما يكون هيبة لله .
ولما كان ذلك ، تسبب عنه قوله لافتاً القول عن خطابهم إيذاناً بشدة الغضب وإشارة ألى أنهم لما وصلوا إلى ما ذكر من الحال أعيا عليهم المقال ، فلم يقدروا على نطق بلسان ، ولا إشارة برأس ولا بنان : ( فإن يصبروا ) أي على ما جوزوا به فليس صبرهم بنافعهم ، وهو معنى قوله : ( فالنار مثوى ) أي منزلاً ) لهم وإن يستعتبوا ) أي يطلبوا الرضى بزوال العتب عليهم ليعفي عنهم ويترك عذابهم .
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة ، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد ، وعطفه على ما تقديره : فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب ، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود ، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً : ( وقيضنا ) أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا ، من القيض الذي هو المثل ، وقشر البيضة الأعلى اليابس ) لهم(6/566)
صفحة رقم 567
قرناء ) أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف أقوياء وهم كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس ) فزينوا لهم ) أي من القبائح ) ما ( وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال : ( بين أيديهم ) أي يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه ) وما خلفهم ) أي ما يجهلون أمره ولا يزالون في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل ، فإن التكرير مقرون بالتأثير ، قال القشيري : إذا أراد الله بعبداً سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعات ويحملونه عليها ويدعون إليها ، ومن ذلك الشيطان ، وشر منه النفس وبئس القرين ، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه .
ولما كان التقدير : فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها ، عطف عليه قوله : ( وحق ) أي وجب وثبت ) عليهم القول ) أي بدوام الغضب .
ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه ( صلى الله عليه وسلم ) ، خفف منه بقوله : ( في ) أي كائنين في جلمة ) أمم ) أي كثيرة .
ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون ، حقرهم بمضير التأنيث فقال : ( قد خلت ) أي لم تتعظ أمه منهم بالأخرى .
ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم ، بين أنه مما مضى وفات .
ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان ، عبر ب ( من ) فقال : ( من قبلهم ) أي في الزمان ، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى ، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال : ( من الجن والأنس ( ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر ) إنهم ) أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم : ( كانوا ) أي طبعاً وفعلاً ) خاسرين ( فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخذانه وأحبابه ، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة ، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه ولا قبيحاً إلا حسنه عنده ) .
ولأحمد وأبي داود والنسائي وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أراد الله بوالي خيراً جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه ، وإن أراد به غير(6/567)
صفحة رقم 568
ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنهوروى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضاً عن أبي أيوب رضي الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله تعالى ( .
وفي رواية النسائي : ( ما من وال إلا وله بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه خبالاً ، فمن وقي شرها فقد وقي ، وهو إلى من يغلب عليه منهما ( ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها .
ولما أخبر بخسرانهم ، دل عليه بما عطف على ما أرشد إليه السياق من تقديره من وقولي : فأعرضوا - أي هؤلاء العرب - وقالوا - هكذا كان ألأصل ولكنه قال تنبيها على الوصف الذي أوجب إعراضهم : ( وقال الذين كفروا ) أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من الحق ) لا تسمعوا ) أي شيئاً من مطلق السماع ) لهذا القرآن ( تعييناً بالإشارة احترازاً من غيره من الكتب القديمة كالتوارة ، قال القشيري : لأنه يغلب القلوب ويسلب العقول ، وكل من استمع له صبا إليه ) وألغوا ) أي أهذوا من لغي - بالكسر يلغى - بالفتح - إذا تكلم بما لا فائدة فيه ) فيه ) أي اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغو بالمكاء والتصدية أي الصفير والتصفيق وغيرهما في حال تلاوته ليقع تاليه في السهو والغلط ، قال القشيري : قالوا ذلك ولم يعلموا أن من نور قلبه بالإيمان وأيد بالفهم وأمد بالبصيرة وكوشف بسماع السر من الغيب ، فهو الذي يسمع ويؤمن ، والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمان قلبه ، ولا يباشر السماع سره .
) لعلكم تغلبون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن يميل إليه أحد ، أو يسكت أو ينسى ما كان يقول ، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من سمعه ولا هوى عنده مال إليه وأقبل بكلتيه عليه ، وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها ، وذلك لأنهم تحدوا به في أن يأتوا بشيء من مثله ليعدوا غالبين فلم يجدوا شيئاً يترجون به الغلب إلا الصفير والتصفيق ونحوه من اللغو في معارضة ما علا من أعلى ذرى الكلام إلى حيث لا(6/568)
صفحة رقم 569
مطمع ولا مرام ، فلا يفيد ما أتوا به معنى غير أنهم عاجزون عن المعارضة قاطعون بأنهم متى أتوا بشيء منها افتضحوا ، وقطع كل من سمعه بأنهم مغلوبون .
فصلت : ( 27 - 30 ) فلنذيقن الذين كفروا. .. . .
) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُون وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( ( )
ولما استحقوا بهذا العقوبة ، سبب عن ذلك مؤكداً لإنكارهم قوله تعالى : ( الذين كفروا ) أي هؤلاء وغيرهم ) عذاباً شديداً ( في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان وفي الآخرة بالنيران ) ولنجزينهم ) أي بأعمالهم .
ولما كان من قدر على الأغلظ ، قدر على ما دونه قال : ( أسوا ) أي جزاء أسوأ العمل ) الذين كانوا ( بما هو لهم كالغرائز ) يعملون ( مواظبين عليه .
ولما أبلغ سبحانه في الترهيب من عقابهم ، زاد في تعظيمه وفضله لطفاً لمن أراد هدايته من عباده وإقامة الحجة على غيرهم فقال : ( ذلك ) أي الجزاء الأسوأ العظيم جداً ) جزاء ( ولما كانت عداوة من لا يطاق آمراً زائد العظمة ، نبه على ذلك بصرف الكلام عن مظهرها إلى أعظم منه فقال : ( أعداء الله ) أي الملك الأعظم ، لأنهم ما كانوا يفعلون ما دون الأسوأ إلا عجزاً عنه لأن جبلتهم تقتضي ذلك ، وبينه بقوله : ( النار ( وفصل بعض ما فيها بقوله : ( لهم فيها ) أي النار ) دار الخلد ) أي المحل المحيط بهم الدائر من غير علم من زواية أو غيرها يعرف به خصوص موضع منه ، مع إيذانه بالدوام واللزوم وعدم الانفكاك ، أو هو على التجريد بمعنى : هي لهم دار خلود كما كان لهم في الدنيا دار سرور بمعنى أنها كانت لهم نفسها دار لهو وغرور .
ولما كانوا على أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب مصرين إصراراً يمتنع انفكاكهم عنه ، زاد حسناً قوله : ( جزاء ) أي وفاقاً ) بما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ، ورد الكلاك إلى مظهر العظمة المقتضي للنكال فقال : ( بآياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) يجحدون ) أي ينكرون عناداً من غير مراعاة لعلوها في نفسها ولا علوها بنسبتها إلينا ، فلأجل جحودهم كانوا يقدمون على ما لا يرضاه عاقل من اللهو وغيره .
ولما تراءى لهم أن الذي أوجب لهم هذا السوء جلودهم بالشهادة عليهم وقرناؤهم بإضلالهم لهم وكان التباعض والعداوة قد وقع بين الجميع ، فصار تمني كل للآخر(6/569)
صفحة رقم 570
السوء زيادة في عذابهم ، وكانت مساءة جلودهم مساءتهم ، خصوا القرناء بإرادة الانتقام منهم ، فحكى سبحانه قولهم بقوله عطفاً على ) وقالوا لجلودهم ( أو على ما تقديره : فعلموا حينئذ انهم كانوا على ضلال لتقصيرهم في النظر وتقليدهم لغيرهم : ( وقال الذين كفروا ) أي غطوا أنوار عقولهم داعين بما لو يسمع لهم ، فهو زيادة في عقوبتهم ، وحكايته لنا وعظ وتحذير : ( ربنا ) أي أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا ) أرنا ( الصنفين ) اللّذين أضلاّنا ( عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان ) من الجن والإنس ( المزينين لنا ارتكاب السوء خفية وجهراً ، قرأ الجماعة بكسر الراء من أرنا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء هنا خاصة .
قال الأصبهاني : يحكى عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك - بالكسر فالمعنى بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء ، ومعناه أعطني ثوبك ، ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار - انتهى .
) نجعلهما تحت أقدامنا ( في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما ) ليكونا من الأسفلين ) أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا ، وفي الاخرة بهذا المال ، والظاهر أن المراد أن كل أحد يتمنى أن يعرف من أضله من القبيلتين ليفعل ذلك إن قدر عليه .
ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة ، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة ، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين : ( إن الذين ( قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه .
) قالوا ) أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد ، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل عل السداد ، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح ، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله ، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط : ( ربنا ) أي المحسن إلينا ) الله ( المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له .
ولما كان الثبات على التوحيد ومصصحاته إلى الممات أمراً في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم استقاموا ( طلبوا وأوجدوا القوام بالإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ولم يشركوا به صنماً ولا ثناً ولا آدمياً ولا ملكاً ولا كوكباً ولا غير بعبادة ولا رياء ، وعملوا بما يرضيه وتجنبوا كل ما(6/570)
صفحة رقم 571
يسخطه وإن طال الزمان ، امتثالاً لما أمر به أول السورة في قوله ) إنما إلهككم إله واحد فاستقيموا إليه ( فمن كان له أصل الاستقامة في التوحيد أمن من النار بالخلود ، ون كان له كمال الاستقامة في الأصول والفروع أمن الوعيد ) تتنزل ( على سبيل التدريج المتصل ) عليهم ( من حين نفخ الروح فيهم إلى أن يموتوا ثم إلى أن يدخلوا الجنة باطناً فظاهراً ) الملائكة ( بالتأييد في جميع ما ينوبهم فتستعلي الأحوال الملكية على صفاتهم البشرية وشهواتهم الحيوانية فتضمحل عندها ، وتشرق مرائيهم ، ثم شرح ما يؤيدونهم به وفسره فقال : ( ألا تخافوا ) أي من شي مثله يخيف ، وكأنهم يثبتون ذلك في قلوبهم ) ولا تحزنوا ) أي على شيء فاتكم ، فإن ما حصل لكم أفضل منه ، فأوقاتكم الأخراوية فيها بل هي كلها روح وراحة ، فلا يفوتهم لذلك محبوب ولا يلحقهم مكروه ) وابشروا ) أي املأوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ونعمة سائر الجسد ) بالجنة التي كنتم ) أي كوناً عظيماً على ألسنة الرسل ) توعدون ) أي يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل ، وقال الرازي في اللوامع : يبشرون في ثلاثة مواضع : عند الموت ، وفي القبر ، ويوم البعث - انتهى .
وهذا محول على الكلام الحقيقي وما قبله على أنهم يفعلون معه ما ترجمته ذلك .
فصلت : ( 31 - 33 ) نحن أولياؤكم في. .. . .
) نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ( )
ولما أثبتوا لهم الخير ، ونفوا عنهم الضير ، عللوه بقولهم : ( نحن أولياؤكم ) أي أقرب الأقرباء إليكم ، فنحن نفعل معكم كل ما يمكن أن يفعله القريب ) في الحيالة الدنيا ( نجتلب لكم المسرات ونبعد عنكم المضرات ونحملكم على جميع الخيرات بحيث يكون لكم فيها ما تؤثره العقول بالامتناع مما تهواه النفوس وإن تراءى للرائين في الدنيا أن الأمر بخلاف ذلك ، فنوقظكم من المنام ، ونحملكم على الصلاة والصيام ، ونبعدكم عن الآثام ، ضد ما تفعله الشياطين مع أوليائهم ) وفي الآخرة ( كذلك حيث يتعادى الأخلاء إلا الأتقياء ) ولكم فيها ) أي الآخرة في الجنة وقبل دخولها في جميع اوقات الحشر ) ما تشتهي ( ولو على أدنى وجوه الشهوة بما يرشد إليه حذف المفعول ) أنفسكم ( لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا ) ولكم ( .
ولما كان السياق للذين استقاموا العام للسابقين وأصحاب اليمين على ما أشير إليه الختم بصفة المغفرة وتقديمها ، قيد بالظرف بخلاف ما في يس فقال : ( فيها ( أي(6/571)
صفحة رقم 572
الآخرة ) ما تدعون ) أي ما تؤثرون دعاءه وطلبه وتسألونه وتمنونه بشهوة نفوسكم ورغبة قلوبكم .
ولما كان هذا كله بالنسبة إلى ما يعطزن شيئاً يسيراً ، نبه عليه بقوله : ( نزلاً ) أي هذا كله يكون لكم كما يقدم إلى الضيف عند قدومه إلى أن يتهيأ ما يضاف به .
ولما كان من حوسب عذب ، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، أشار إلى ذلك بقوله : ( من ) أي كائناً النزل من ) غفور ( له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها ) رحيم ) أي بالغ الرحمة بما ترضاه الإلهية ، فالحاصل أن المفسد يقيض الله له قرناء والملائكة يعينونه ويحببونه ويبعدونه ويكرهونه في جميع المضرات - والله يتولى الصالحين .
ولما كان هذا لمن كمل نفسه ، أتبعه بمن أكمل غيره إشارة إلى أن السعادة التامة أن يكتسب الإنسان من الصفات الفاضلة مما يصير بها كاملاً في نفسه ، فإذا فرغ اشتغل بتكميل الناقص عاطفاً على ما تقديره : ما أحسن هذا الذي كمل نفسه ، وقاله تنويهاً بعلو قدر النفع المتعدي وحثاً على مداومة الدعاء وإن دعوا وقالوا ) قلوبنا في أكنة ( ثم قالوا ) لا تسمعوا لهذا القرآن ( فإنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً إلا ذكرت أجوبته الشافية الكافية فاندفعت جميع الشبهات وزالت غياهب الضلالات ، فصار تحذير الدعاء موضعاً للقبول ) ومن أحسن قولاً ) أي من جهة القول ) ممن دعا ( وحد الضمير دلالة على قلة هذا الصنف ) إلى الله ) أي الذي عم بصفات كماله جميع الخلق فهو يستعطف كل أحد بما تعرف إليه سبحانه به من صفاته ) وعمل ) أي والحال أنه قد عمل ) صالحاً ( في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه أعم من أن يكون ذلك لصالح نية أو قولاً أو عملاً للجوارح الظاهرة سراً كان أو علناً ، ولذا حذف الموصوف لئلا يوهم تقيده بالأعمال الظاهرة وللاغناء عنها بقوله ( دعا ) بخلاف ما كان سياقه للتوبة كآية الفرقان أو اعتقاد الحشر كآية الكهف ، فإنه لا بد فيه من إظهار العمل ليكون شاهداً على صحة الإعتقاد وكمال التوبة ، والدعاء هنا مغنِ عن ذلك ) وقال ( مؤكداً عند المخالف والمؤالف قاطعاً لطمع المفسد فيه : ( إنني من المسلمين ) أي الراسخين في صفة الإسلام متظاهراً بذلك لا يخاف في الله لومة لائم وإن سماه أيناء زمانه كذا جافياً وغليظاً عاسياً لتصلبه في مخالفته إياهم فيما هم عليه بتسهله في انقياده لكل ما أمره به ربه سبحانه .
فصلت : ( 34 - 37 ) ولا تستوي الحسنة. .. . .
) وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ(6/572)
صفحة رقم 573
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان التقدير : لا أحد أحسن قولا منه ، بل هو المحسن وحده ، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً ، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله ، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى ، وغير ذلك من جميع الأخلاق ، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال : ( ولا تستوي ) أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار ) الحسنة ) أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها ، لتفاوت الحسنات في أنفسها ، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها ، وإلى ذلك إشارة بالتأكيد في قوله : ( ولا السيئة ) أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر .
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء ، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات ، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها ، أنتج عند قصد الأعلى فقال : ( ادفع ) أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس ) بالتي ) أي الخصال والأحوال التي ) هي أحسن ( على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن ، والإحسان أحسن منه ) فإذا الذي بينك وبينه عداوة ( عظيمة قد ملأت ما بين البنيين فاجأته حال كونه ) كأنه ولي ) أي قريب ما يفعل القريب ) حميم ) أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره ، وشفا علله ، وقرب بعيده ، وأزال درنه ، كما يزيل الماء الحار الوسخ .
ولما كانت هذه الخصلة أمّا جامعاً لجميع مصالح الدين والدنيا قال منبهاً على عظيم وبديع نبلها حاثاً على الاستظلال بجميع ظلها مشيراً بالبناء للمفعول إلى أنها هي العمدة المقصودة بالذات على وجه منبه على أنها مخالفة لجبلة الأنسان حثاً على الرغبة في طلبها من واهبها ) وما يلاقها ) أي يجعل لاقياً لهذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة باحسن الحسن وهو الإحسان الذي هو أحسن من العفو والحلم والصبر والاحتمال بأن يعلق الله تعالى إرادته على وجه الشدة والمبالغة بإلقائها إليه ) إلا الذين صبروا ) أي وجدت منهم هذه الحقيقة وركزت في طباعهم ، فصاروا يكظمون الغيظ(6/573)
صفحة رقم 574
ويحتملون المكاره ، وكرر إظهار البناء للمفعول للتنبيه على أنه لا قدرة عليها أصلاً إلا بتوفيق الخالق بأمر وطني يقذفه وحياً تظهر ثمرته على سائر البدن ، فقال دالاً باعادة النافي على زيادة العظم وعلى لأن أصحاب هذه الخصلة على رتبتين كب رتبة منها مقصودة في نفسها ) وما يلقّاها ( على ما هي عليه من العظمة ) إلا ( وأفرد هنا بعد جمع الصابر على ندرة المستقيم على هذه لخصلة ) ذو حظ ) أي نصيب وقسم وبخت ) عظيم ) أي جليل في الدنيا والآخرة عند الله وعند الناس .
ولما كان التقدير : فأن لقيت ذلك وأعاذك الله من الشيطان فأنت أنت ، عطف عليه قوله معبراً بأداة الشك المفهمة لجواز وقوع ذلك في الجملة ، مع العلم بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) معصوم إشارة إلى رتبة الإنسان من حيث هو إنسان وإلى أن الشيطان يتوهم مع علمه بالعصمة أنه يقدر على ذلك فيعلق أمله به ، وكأنه لذلك أكد لأنه نزعه له في محل الإنكار ) وإمّا ( ولما كانت وسوسة الشيطان تبعث على ما لا ينبغي ، وكان العاقل لا يفعل ما لا ينبغي إلا بالالجاء ، شبه المتعاطي له بالمخنوس الذي حمله النخس على ارتكاب ما يضر فقال : ( ينزغنك ) أي ينخسنك ويطعننك طعناً مفسداً فيحصل لك تألم ) من الشيطان ( البعيد من الرحمة المحترق باللعنة .
ولما كان المقام خطراً لأن الطبع مساعد للوسواس ، جعل النزغ نفسه نازعاً إشارة إلى ذلك فقال : ( نزغ ) أي وسوسة تحرك نحو الموسوس من أجله وتبعث إليه بعث المنخوس إلى الجهة التي يوجه إليها ، فإن ينبعث إلى تلك الجهة بعزم عظيم ) فاستعذ بالله ) أي استجر بالملك الأعلى واطلب منه الدخول في عصمته مبادراً إلى ذلك حين نخس بالنزعة فإنه لا يقدر في أول الخطرة ، فإنك إن لم تخالف أول الخطرة صارت فكرة فيحصل العزم فتقع الزلة فتصير قسوة فيحصل التمادي - نبه عليه القشيري .
ولما كانت الاستعاذة هنا من الشطيان ، وكان نزغه مما يعلم لا مما يرى وكانت صفة السمع نعم ما يرى وما لا يرى ، قال مؤكداً لوقوف الجامدين مع الظواهر : ( إنه هو ) أي وحده ) السميع ( وختم بقوله : ( العليم ( الذي يسمع كل مسموع من استعاذتك وغيرها ، ويعلم كل معلوم من نزغه وغيره ، فهو القادر على رد كيده ، وتوهين أمره وأيده ، وليس هو كما جعلتموه له من الأنداد الصم البكم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً .
ولما ذكر أنهم جعلوا له أنداداً مع أنه خلق الأرض في يومين ، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله ، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم ، أتبعه دلائل التوحيد إعلاماً بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء ، وتنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى(6/574)
صفحة رقم 575
عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات ، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهراً وعرضاً ، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها ادل ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام : ( ومن آياته ( الدالة على وحدانيته :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ولما كانت الظلمة عدماً والنور وجوداً والعدم مقدم قال : ( الليل والنهار ) أي الدالان باختلافهما وهيئتهما على قدرته على البعث وعلى كل مقدور ) والشمس والقمر ( اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد ، وهذه الموجوات - مع ما مضى من خلق الخافقين - كتاب الملك الديان ، إلى الإنس والجان ، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان :
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط غيها لو تأملت خطة إلا كل شيء ما خلا الله باطل
ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر ، وكان باطناً إلا عند من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه ، وكانا مشاهدين ، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله ، أنتج قوله محذراً من عبادتهما لما يرة لهما من البهاء وفيهما من المنافع : ( لا تسجدوا للشمس ( التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته ، وأعاد النافي تأكيداً للنفي لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال : ( ولا للقمر ( كذلك .
ولما نهى عن السجود لهما ، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال : ( واسجدوا ( ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال : ( لله ) أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أقول أو تجدد حلول ) الذي خلقهن ) أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية ، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضاً آيات ، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة ، ويمكن أن يكون عد القمر أقماراً لأنه يكون تارة هلالاً وأخرى بدراً وأخرى محواً ، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير ، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل .(6/575)
صفحة رقم 576
ولما ظهر أن الكل عبيده ، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال : ( إن كنتم إياه ) أي خاصة بغاية الرسوخ ) تعبدون ( كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر ، ومحصل قولكم ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( فإن أشركتم به شيئاً بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة ، ومن أشرك به لم يعبده وحده ، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً ، لأنه أغنى الأغنياء ، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم ، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم ، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود آدم وهم في ظهره فتبكر اللعين إبليس ، فابد لعنه ، فشتان ما بين المقامين .
فصلت : ( 38 - 41 ) فإن استكبروا فالذين. .. . .
) فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( ( )
ولما كانوا في هذا الأمر بين طاعة ومعصية ، وكاك درء المفاسد مقدماً ، سبب عن ذلك قوله معبراً بأداة الشك تنبيهاً لهم على أن استكبارهم بعد إقامة هذه الأدلة ينبغي أن لا يتوهم ، وصرف القول إلى الغيبة تحقيراً لهم وإبعاداً على تقدير وقوع ذلك منهم ) فإن استكبروا ) أي أوجدوا الكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلو يوحدوا الله ولم ينزهوه تعالى عن الشريك ) فالذين عند ( وأظهر موضع الإصخار معبراً بوصف الإحسان بشارة له ونذارة لهم ) ربك ( خاصة لا عندهم لكونهم مقربين لديه في درجة الرضاء والكرامة ولكونهم مما يستغرق به الآدميون ولكون الكفار لا قدرة لهم على الوصول إليهم بوجه : ( يسبحون له ) أي يوقعون التنزيه عن النقائص ويعبدون عن الشركة لأجل علوه الأقدس وعزه الأكبر لا لشيء غيهر إخلاصاً في عبادته وهم لا يستكبرون .
ولما كان حال الكفار في الإخلاص مختلفاً في الشدة والرخاء ، أشار إلى تقبيح ذلك منهم بتعميم خواصه عليهم الصلاة والسلام بالإخلاص حالتي الإثبات الذي هو حالة بسط في الجملة ، والمحو الذي هو حالة قبض كذلك يجددون هذا التنزيه مستمرين عليه في كل وقت فقال : ( بالليل والنهار ) أي على مر الملوين الجديدين لا(6/576)
صفحة رقم 577
يفترون .
ولما كان في سياق الفرص لاستكبارهم المقتضي لإنكارهم ، أكد بالعاطف والضمير فقال مؤذناً بأن هذا ديدنهم لا ينفكون عنه : ( وهم ) أي والحال أنهم على هذا الدوام ) لا يسئمون ) أي لا يكاد لهم في وقت من الأوقات فتور ولا ملل ، فهو غني عن عبادة هؤلاء بل وعن عبادة كل عابد ، والحظ الأوفر لمن عنده وأما هو سبحانه فلا يزيده شيئاً ولا ينقصه شيء فدع هؤلاء أن استكبروا وشأنهم ، فيعلمون من الخاسر ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستكبار أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والتسبيح ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أقبح ما لأعدائه وأحسن ما لأوليائه .
ولما ذكر بعض آيات السماء لشرفها ، ولأن بعضها عبد ، ومن آثار الإلهية ، فذكر دلالتها على وحدانيته اللازم منه إبطال عبادتها ، أتبعه بعض آيات الأرض بخلاف ما في يس ، فإن السياق هناك للبعث ةآيات الأرض أدل فقال : ( ومن آياته ) أي الدالة على عظم شأنه وعلو سلطانه ) أنك ترى الأرض ) أي بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرته ، لأن الكل بالنسبة إلى القدرة على حد سواء .
ولما كان السياق للوحدانية ، عبر بما هو أقرب إلى حال العابد ما مضى في الحج فقال : ( خاشعة ) أي يابسة لا نبات فيها فهي بصورة الذليل الذي لا منعة عنده لأنه لا مانع من المشيء فبها لكونها متطأمنة بعد الساتر لوجهها بخلاف ما إذا كانت مهتزة رابية متزخرفة تختال بالنبات .
ولما كان إنزال الماء مما استأثر به سبحانه ، فهو من أعظم الأدلة على عظمة الواحد ، صرف القول إلى مظهر العظمة فقال : ( فإذا أنزلنا ( بما لنا من القدرة التامة والعظمة ) عليها الماء ( من الغمام أو سقناه إليها من الأماكن العالية وجلبنا به إليه من الطين ما تصلح به للانبات وإن كانت سبخة كأرض مصر ) اهتزت ) أي تحركت حركة عظيمة كثير سريعة ، فكانت كمن يعالج ذلك بنفسه ) وربت ) أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها ، وتشعبت عروقه ، وغلظت سوقه ، فصار يمنع سلوكها على ما كان فيه من السهولة ، وصار بحسن زيه بمنزلة عليها فطرها بمياه المعارف فظهرت فيها بركات الندم وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم وأشرقت بحلى الطاعات وزهت بملابس القربات ، وزكت بأنواع التجليات .
ولما كان هذا دليلاً مشاهداً على القدرة على إيجاد المعدوم ، وإعادة البالي المحطوم ، أنتج ولا بد قوله مؤكداً لأجل ما هم في من الإنكار صارفاً القول عن مظهر(6/577)
صفحة رقم 578
العظمة إلى ما ينبه على القدرة على البعث ولا بد : ( إن الذي أحياها ( بما أخرج من نباتها الذي كان بلي وتحطم وصار تراباً ) لمحيي الموتى ( كما فعل بالنبات من غير فرق .
ولما كانوا مع إقرارهم بتمام قدرته كأنهم ينكرون قدرته لإنكارهم البعث قال معللاً مؤكداً : ( أنه على كل شيء قدير ( لأن الممكنات متساوية الأقدام بالنسبة إلى القدرة ، فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره .
ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث ، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح ، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله : فقال في عبارة عامة له ولغيره ، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله : ( إن الذين يلحدون ) أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( ، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغظ وكل ما يشمله عما تصح إرادته .
ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة ، أعاد مظهرها فقال : ( في آياتنا ( على ما لها من العظمة الدالة على مل لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة : ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة : ( لا يخفون علينا ) أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه ، ونحن قادرون على أخذهم ، فمتى شئنا أخذنا ، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت .
ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار ، وكان التقدير : ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن من كل مخوف ، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار ، سبب عنه قوله تعالى : ( أفمن يلقى في النار ) أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات ، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه ) خير أم من يأتي ( إلينا ) آمناً يوم القيامة ( حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً ، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً ، وسره أنه ذكر المقصود بالذات ، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً ، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً .
ولمام كان هذا راداً ولا بد للعاقل عن سوء أعماله إلى الإحسان رجاء إنعام الله وإفضاله ، أنتج قوله مهدداً ومخوفاً ومتوعداً صارفاً القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أدل على الغضب على التمادي بعد هذا البيان : ( اعملوا ما شئتم ) أي فقد علمتم مصير المشيء والمحسن ، فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعماله ، فإنه ملاقيه .
ولما(6/578)
صفحة رقم 579
كان العامل لا يطمع في الإهمال إلى على تقدير خفاء الأعمال ، والمعمول له لا يترك الجزاء إلا لجهل أو عجز ، بين أنه سبحانه محيط العلم عالم بمثاقيل الذر فقال مرغباً مرهباً مؤكداً لأنهم يعملون عمل من يظن أن أعماله تخفى ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى ما هو أدل شيء على الفردانية ، لئلا يظن ان مزيد العلم بواسطة كثيرة : ( إنه ( وقجم أعمالهم تنبيهاً على الاهتمام بشأنها جداً فقال : ( بما تعملون ) أي في كل وقت ) بصير ( بصراً وعلماً ، فهو على كل شيء منكم قدير .
ولما جعل إليهم الاختيار في العمل تهديداً ، أتبعه الإخبار بما لمن خالقه ، فقال مؤكداً لإنكارهم مضامين ما دخل عليه التأكيد : ( إن الذين كفروا ) أي ستروا مرائي العقول الدالة على الحق مكذبين ) بالذكر ( الذي لا ذكر في الحقيقة غيره ) لكتاب ) أي جامع لكل خير ) عزيز ) أي لا يوجد مثله فهو يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب من ذلك ، ويعجز أصلاً عن إقعاد مناهض .
فصلت : ( 42 - 45 ) لا يأتيه الباطل. .. . .
) لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ( ( )
ولما كان من معاني العزة أنه ممتنع بمتانة رصفه وجزاله نظمه وجلالة معانيه من أن يلحقه تغيير ما ، بين ذلك بقوله : ( لا يأتيه الباطل ) أي البين البطلان إيتان غلبة فيصير أو شيء منه باطلاً بيّنا ، ولما كان المراد تعميم النفي ، لا نفي العموم ، أدخل الجار فقال : ( من بين يديه ) أي من جهة الظاهر مثل ما أمر أخبر به عما كان قبله ) ولا من خلفه ( من جهة العلم الباطن مثل علم ما لم يشتهر من الكائن والآتي سواء كان حكماً أو خبراً لأنه في غاية الحقية والصدق ، والحاصل أنه لا يأتيه من جهة من الجهات ، لأن ما قدام اوضح يكون ، وما خلف أخفى ما يكون ، فما بين ذلك من باب الأولى ، فالعبارة كنابة عن ذلك لأن صفة الله لا وراء لها ولا أمام على الحقيقة ، ومثل ذلك ليس وراء الله مرمى ، ولا دون الله منتهى ، ونحوه مما تفهم العرب ومن علم لسانها المراد به دون لبس ، ثم علل ذلك بقوله : ( تنزيل ) أي بحسب التدريج لأجل(6/579)
صفحة رقم 580
المصالح ) من حكيم ( بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في محاله في وقت النزول وسياق النظم ) حميد ) أي بالغ الإحاطة الكمال من الحكمة وغيرها والتنزه والتطهر والتقدس عن كل شائبة نقص ، يحمده كل خلق بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله ، بما ظهر عليه من نقصه أو كماله ، والخبر محذوف تقديره : خاسرون لا محالة لأنهم لا يقدرون على شيء مما يوجهونه إليه من الطعن لأنهم عجزة ضعفاء صغرة كما قال المعري :
أرى الجوزاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
وحذف الخبر أهول لتذهب كل مذهب .
ولما وصف الذكر بأنه لا يصح ولا يتصور أن يلحقه نقص ، فبطل قولهم ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( ونحوه مما مضى وحصل الأمن منه ، أتبعه التسلية مما يلحق به من الغم ليقع الصبر على جميع أقوالهم فقال : ( ما يقال لك ) أي يبرز إلى الوجود قوله سواء كان في ماضي الزمان أو حاضره آو آتيه من شيء من الكفار أو غيرهم يحصل به ضيق صدر أو تشويش فكر من قولهم ) قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ( إلى آخره .
وغير ذلك مما تقدم أنهم قالوه له متعنتين به ) إلا ما ) أي شيء ) وقد قيل ) أي حصل قوله على ذلك الوجه ) للرسل ( وأن لم يقل لكل واحد منهم فإنه قيل للمجموع ، ونبه على أن ذلك ليس لمستغرق للزمان بل تارة وتارة بإدخال الجار في قوله : ( من قبلك ( ولما حصل بهذا الكلام ما أريد من التأسية ، فكان موضع التوقع لهم أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم من عذاب الاستئصال ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الشفقة عليهم والمحبة لصلاحهم ، سكن سبحانه ورعه بالإعلام بأن رحمته سبقت غضبه فقال مخوفاً مرجياً لأجل إنكار المنكرين : ( إن ( وأشار إلى مزيد رفعته بذكر صفة الإحسان وإفراد الضمير فقال : ( ربك ) أي المحسن إليك بأرسالك وإنزال كتابه إليك ، ومن أكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض ) لذو مغفرة ) أي عظيمة جداً في نفسها وزمانها ومكانها لمن يشاء منهم ، فلا يقطع لأحد شقاء .
ولما رغبهم باتصافه بالمغفرة ، رهبهم باتصافه بالانتقام ، وأكد باعادة ( ذو ) والواو فقال : ( وذو عقاب ( والختم بما رويه الميم مع تقديم الاسم الميمي في التي قبلها دال للأشعري الذي قال بأن الفواصل غير مراعية في الكتاب العزيز ، وإنما المعول عليه المعاني لا غير ، والمعنى هنا على إيلام من كانوا يؤلمون أولياءه باللغو عند التلاوة الدالة على غاية العناد ، فلذلك قدم حكيم ، ولم يقل شديد ، وقال : ( أليم ) أي كذلك ، فلا يقطع لأحد نجاة إلا من أخبر هو سبحانه بإشقائه أو إنجائه ، وقد تقدم فعله لكل(6/580)
صفحة رقم 581
من الأمرين أنجى ناساً وغفر لهم كقوم يونس عليه الصلاة والسلام ، وعاقب آخرين ، وسيفعل في قومك من كل من الأمرين ما هو الأليق بالرحمة بإرسالك ، كما أشار إليه ابتداؤه بالمغفرة ، فالآية نحو : إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، ولعله لم يصرح هنا تعظيماً للقرآن الذي الكلام بسببه .
ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل ، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن ، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم ) فلوبنا في أكنة ( إلى آخره ، وكان ربما قال قائل ؛ لو كان بلسان غير العرب ، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تنبييه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع ، أخبر أن الأمر ليس كذلك ، لأنهم لم يقولوا : هذا الشك حصل لهم في أمره ، بل عناداً ، والمعاند لا يرده شيء ، فقال على سبيل التأكيد ، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان ، وقال الأصبهاني : إنه جواب عن قولهم ) وقالوا قلوبنا في أكنه ( .
والأحسن عندي أن يكون عطفاً على ) فصلت آياته قرآناً عربياً ( وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل ، فيكون التقدير : فقد جعلناه عربياً معجزاً ، وهم أهل العلم باللسان ، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم ، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربياً إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة ) ولو جعلناه ) أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة ) قرآناً ) أي على ما هو عليه من الجمع ) أعجمياً ) أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه ) لقالوا ) أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغياً وتعنتاً : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) فصلت آياته ) أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين ، حال كونه قرآناً عربياً كما قدمنا أول السورة .
ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود ، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف ، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما ، فقال مستانفاً منكراً عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلباً للوقوف على سبيل الرشد : ( أعجمي ) أي أمطلوبكم أو مطلوبنا - على قراءة الخبر من غير استفهام - أعجمي ) وعربي ( مفصل باللسانين ، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع : الذي لا يفصح ولو كان عربياً والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية .
ولما كان من الجائز أن يقولوا : نعم ، ذلك مطلوبنا ، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب ، أو عاجز عن إنفاذ ما(6/581)
صفحة رقم 582
نريد ، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال : ( قل هو ) أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره ) للذين آمنوا ) أي أردنا وقوع الإيمان منهم ) هدى ( بيان لكل مطلوب ) شفاء ( لما في صدروهم من داء الكفر والهواء شفاء للعلماء حيث استراحوا من كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه ، ولقلوب المحبين من لواعج الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد ، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز ) والذين لا يؤمنون ) أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان ) في آذانهم وقر ) أي ثقل مذهب للسمع مصم ، فهم لذلك لا يسمعون سماعاً ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعو عليهم فهمه ) وهو عليهم ) أي خاصة ) عمى ( مستعلٍ على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم ، فهم لا يعونه حق الوعي ، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار ، فلهم به ضلال وداء ، فلذلك قالوا ) ومن بيننا وبينك حجاب ( وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها ، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها ، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهدى والشفاء اولاً دليلاً على الضلال والداء ثانياً ، والوقر والعمى ثانياً دليلاً على السمع والبصائر أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين ، لأنه لا أحقر من أصم أعمى .
ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من ) ينادون ) أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله ) من مكان بعيد ( فهم بحيث لا يتأبى سماعهم ، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب ، فهذه هي القدرة الباهرة ، وذلك أن شيئاً واحداً يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد .
ولما كان التقدير : فلقد آتيناك الكتاب على هذه الصفة من العظمة ، فاختلفت فيه أمتك على ما أعلمناك به أول البقرة من انقسام الناس فعاقبنا الذين تكبروا عليه أن ختمنا على مشاعرهم ، عطف عليه مسلياً قوله مؤكداً لمن يقول من أهل الكتاب إضلالاً : لو كان نبياً ما اختلف الناس عليه ونحو ذلك مما يلبس به : ( ولقد آتينا ) أي على ما لنا من العظمة ) موسى الكتاب ) أي الجامع لما فيه هداهم ) فاختلف ) أي وقع الاختلاف ) فيه ) أي من أمته كما وقع في هذا الكتاب لأن الله تعالى خلق الخلق للاختلاف مع ما(6/582)
صفحة رقم 583
ركب فيهم من العقول الداعية إلى الإنفاق ) ولولا كلمة ) أي إرادة ) سبقت ( في الأزل ، ولفت القول إلى صفة الأحسان ترضية بالقدر وتسلية ، وزاد بإفراده بالإضافة فقال : ( من ربك ) أي المحسن إليك بتوفيق الصالح لاتباعك وخذلان الطالح بالطرد عنك لإراحتك منه من غير ضرر لدينك وبإهمال كل إلى أجل معلوم ثم إمهال الكل إلى يوم الفصل الأعظم من غير استئصال بعذاب كما صنعنا بغيرهم من الأمم ) لقضي ) أي وقع القضاء الفصيل ) بينهم ( المختلفين بإنصاف المظلوم من ظالمه الآن .
ولما علم بهذا وغيره أن يوم القيامة قد قدره وجعله موعداً من لا يبدل القول لديه ، فاتضح أنه لا بدلا منه ولا محيد عنه وهو يجادلون فيه ، قال مؤكداً : ( إنهم لفي شك ) أي محيط بهم ) منه ) أي القضاء يوم الفصل ) مريب ) أي موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً .
فصلت : ( 46 - 48 ) من عمل صالحا. .. . .
) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُواْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ( ( )
ولما تقرر بما مضى أن المطيع ناجٍ ، وتحرر أن العاصي هالك كانت النتيجة من غير تردد : ( من عمل صالحاً ( كائناً من كان من ذكر أو أنثى ) فلنفسه ) أي فنفع عمله لها ببركتها به لا يتعدادها ، والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص ، فلذا عبر بها ، وكان قياس العبارة في جانب الصلاح .
( ومن عمل سيئاً ) فأفاد العدول إلى ما عبر به مع ذكر العمل أولاً الذي مبناه العلم أن الصالح تتوقف صحته على نيته ، وأن السيء يؤاخذ به عامله في الجملة من الله أو الناس ولو وقع خطأ فلذا قال : ( ومن أساء ) أي في عمله ) فعليها ) أي على نفسه خاصة ليس على غيره منه شيء .
ولما كان لمقصد السورة نظر كبير إلى الرحمة ، كرر سبحانه وصف الربوبية فيها كثيراً ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فما ربك بتارك جزاء أحد أصلا خيراً كان أو شراً : ( وما ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق .
ولما كان لا يصح أصلاً ولا يتصور أن ينسب إليه سبحانه ظلم ، عبر للدلالة على ذلك بنكرة في سياق النفي دالة على النسبة مقرونة بالجار فقال : ( بظلام ) أي بذم ظلم ) للعبيد ) أي الجنس فلا يتصور أن يقع منه ظلم لأحد أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة ، وعبر ب ( عبيد ) دون عباد لأنه موضع إشفاق وإعلام بضعف وعدم قدرة على(6/583)
صفحة رقم 584
انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال ، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة ألى أنه ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم ، لكن بليغ الظلم من جهة الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه ، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء ، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها - هذا مع أن التعبير بها لا يضر لأنها موضوعة أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً ولأن نفي الظلم مصرح به في آيات أخرى .
ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير ، وقليل وكثير ، والبراءة من الظلم ، كما قال تعالى ) وضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (
77 ( ) ووفيت كل نفس ما علمت ( ) 7
[ آل عمران : 25 ] ) وهو أعلم بما يفعلون ( وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء ، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم ، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز ، والظلم إنما يكون للجهل ، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام ، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم به الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية - كما ذكره ابن الجوزي - بقوله على سبيل التعليل : ( إليه ) أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره ) يرد ( من كل راد ) علم الساعة ) أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها ، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها ، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان ، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهوراً بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلاً ، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها ، وكلما انتقل السائل من مسؤول ألى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى ، والعالم منهم هو الذي يقول : الله أعلم ، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه ، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته ، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم ، وأنه لا يصح اتصافه به ، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه ، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع .
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها ، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة ، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من(6/584)
صفحة رقم 585
ثمرات النبات والحيوان التي هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه ، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض ، فقال مقدماً للرزق على الخلق كما هو الأليق ، عطفاً على ما تقديره : فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو : ( وما تخرج ) أي في وقت من الأوقات الماضية والكائنة والاية ، فإن ( ما ) نافية لا تدخل إلا على معناه الحلول ، فالمراد مجرد تصوير إن كان زمانه قد مضى أو لم يأت ، وأكد النفي بالجار فقال : ( من ثمرات ) أي صغيرة أو كبيرة صلحة أو فاسدة من الفواكه والحبوب وغيرها ؛ والإفراد في قراءة الجماعة للجنس الصالح للقليل والكثير ، نبهت قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالجمع على كثرة الأنواع ) من أكملها ( جمع كم وكمامة بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وغطاء النور ، وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شابه أن يخرج فهوكم ، ومنه قيل للقلنسوة : كمة ، ولكم القميص ونحوه : كم ، رأى إلا بعلمه ) وما تحمل من أنثى ( خداجاً أو تماماً ، ناقصاً أو تاماً ، وكذا النفي باعادة النافي ليشمل كلا على حياله ، وعبر ( لا ) لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال : ( ولا تضع ( حملاً حياً أو ميتاً ) إلا ( حال كونه ملتبساً ) بعلمه ( ولا علم لأحد غيره بذلك ، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً ، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما ثبت بهذا علمه صريحاً وقدرته لزوماً وعجز من سواه وجهله ، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام عليها بما أقام من الأدلة ، وأنه لا بد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحداً وإن كانوا في إيجادها ينازعون ، ولم ينكرون قال تعالى مصوراً ما تضمنه ما سبق من جهلهم ، ومقرراً بعض أحوال القيامة ، عاطفاً على أرشد السياق إلى تقديره من نحو : فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك ، مقرراً قدرته تصريحاً وعجز ما ادعوا من الشركاء : ( ويوم يناديهم ) أي المشركين بعد بعثهم من القبور ، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم : ( أين شركائي ) أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم ، والعامل في الظرف ) قالوا ) أي المشركون : ( آذنّاك ) أي اعلمناك سابقاً بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا ، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك ، (6/585)
صفحة رقم 586
ولذا عبروا بما منه الإذن ) ما منا ( وأكدوا النفي بإدخال الحار في المبتدأ المؤخر فقالوا : ( من شهيد ) أي حي دائماً حاضر جون غيبة ، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة ، فآل الأمر إلى أن المعنى : لا نعلم أي ما كنا نسميهم شركاء لأنه ما منا من هو محيط العلم .
ولما قرر جهلهم ، أتبعه عجزهم فقال : ( وضل ) أي ذهب وشد وغاب وخفي ) عنهم ( ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة ، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال : ( ما كانوا ) أي دائماً ) يدعون ( في كل حين على وجه العادة .
ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق القبل ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ( فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه ، كأنهم كانوا لما هم عريقون فيه من الجهل وسوء الطبع يتوقعون أن يظفروا بهم فيشفعوا لهم ، فلذلك عبر بالظن في قوله : ( وظنوا ) أي في ذلك الحال ) ما لهم ( وأبلغ في النفي بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال ) من محيص ) أي مهرب وملجأ ومعدل .
فصلت : ( 49 - 51 ) لا يسأم الإنسان. .. . .
) لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ( ( )
ولما دل أتباعهم للظن حتى في ذلك اليوم الذي تنكشف فيه الأمور ، وتظهر عظائم المقدور ، وغلقاؤهم بأيدهم فيه على أنهم في غاية العراقة في الجهل والرسوخ في العجز ، أتبع ذلك الدليل على أن ذلك طبع هذا النوع فلا يزال متبدل الأحوال متغير المناهج ، إن أحسن بخير انفتح عظمه وتطاول كبراً ، وإن مس ببلاء تضاءل ذلاً وأمتلأ ضعفاً وعجزاً ، وذلك ضد مقصود السورة الذي هو العلم ، بياناً لأن حال هذا النوع بعيد من العلم ، عريق الصفات في الجهل والشر إلا من عصمه الله فقال تعالى : ( لا يسئم ) أي يمل ويضجر ) الإنسان ) أي من الإنس بنفسه الناظر في أعطافه ، الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية ) من دعاء الخير ) أي من طلبه طلباً عظيماً ، وذلك دال مع شرهه على جهله ، فإنه لو كان عالماً بان الخير يأتيه أو لا يأتيه لخفف عن نفسه من جهده في الدعاء ) ) ولو كنت أعلم بالغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ( ) [ الأعراف : 188 ] ) وإن مسه الشر ) أي هذا النوع قليله وكثيره بغتة من جهة لا يتوقعها(6/586)
صفحة رقم 587
) فيؤوس ) أي عريق في اليأس ، وهو انقطاع الرحاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك ) قنوط ) أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة ، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه ، وهذا هو ما طبع عليه الجنس ، فمن أراد الله به منهم خيراً عصمه ، ومن أراد به شراً أجراه مع الطبع فكان كافراً ، وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير ، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر ، وبدأ بصفى القلب لأنها عي المؤثرة فيها يظهر على الصورة من الانكسار .
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله ، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه ملزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه ، وليس له دليل على ما دوامها وانصرافها لعاد إلى البطر والكبر والأشر ، ونسي ما كان فيه من الشدة ، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر ، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة تنبيهاً على أن ذلك من جليل التدبير ) ولئن أذقناه ) أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حنى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها .
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر ، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به خلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال : ( رحمة منا ) أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها ، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك ، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث : الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط ، ثم شرع بيان ذلك فقال : ( من بعد ضراء ) أي محنة وشدة عظيمة ) مسته ( فطال بروكها عليه ؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله : ( ليقولن ( بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك : ( هذا ) أي الأمر العظيم ) لي ) أي مختص بي لما لي من الفضل ، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها ، ويطردها بكفرها ) قائمة ) أي ثابتاً قيامها ، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله ، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير : والفرض ، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته : ( ولئن رجعت ) أي على سبيل(6/587)
صفحة رقم 588
الفرض بقسر قاسر ما ) إلى ربي ) أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه ) إن لي عنده ( وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قبله وقالبه ) للحسنى ) أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حداً لا يوصف لأني أهل لذلك ، والدليل على تأهيلي له ما أنا فيه الآن من الخير ، ونسي ما يشاهده غالباً من أن كثيراً من النعم يكون للاستدارج ، ومن أن كثيراً من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمه ، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا ، وفي الاخرة يقول : يا ليتي كنت تراباً ، فلا يزال في المحال - نعوذ بالله من سوء الحال .
ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته ، سبب عنه سبحانه قوله ، مؤكداً في نظير تأكيد هذا الناسي : ( فلننبئن ) أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل ، وجعل الضمير الوصف تصريحاً بالعموم وبياناً للعلة الموجبة فقال : ( الذين كفروا ) أي ستروا ما دلت عليه العقول ، وأوجبته صرائح النقول ، من إقامة الساعة لأظهار جلاله وجماله ، ومن أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو ) بما عملوا ( لا ندع منه قليلاً ولا كثيراً صغيراً ولا كبيراً ، فليرون عياناً ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى
77 ( ) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ( ) 7
[ الفرقان : 23 ] ) من عذاب غليظ ( لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعة قواهم .
ولما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر ، والأمن عن ذوق النعمة بعد الضر ، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان ، ومسقطاً عنه خوف الشبه بذلك والنسبة إلى الخفة وعدم الثبات ، فقال معبراًَ بأداة التحقيق دلالة على غلبة نعمه تعالى في الدنيا لنقمه ، ودلالة على حالة الإنسان عند مس النعمة من جهة يتوقعها بعد بيان حاله عند مسها بغتة من غير توقع تأكيداً لبيان جهله حيث جعل ظرف النعمة ظرفاً للإعراض من غير خوف من نزعها على قرب عهده بالضر : ( وإذا أنعمنا ( مما لنا من العظمة يعبر في هذا الجانب بما عبر به في الذي بعده إيذاناً بأن المعرض مسيء لمجرد الإعراض لا المبالغة فيه فقال : ( أعرض ) أي انحرف عن وسواء القصد إلينا عنا في(6/588)
صفحة رقم 589
جميع مدة النعمة - بما أفهمه الظرف ، فلم يقيد تلك النعمة بالشكر بعد ما رأى من حلالنا ، قاطعاً تلك النعمة خير محض ظاهراً وباطناً فهو يستديمها ، وربما كانت بلاء استدراجاً وامتحاناً ) وناء ) أي أبعد إبعاداً شديداً بحيث جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً حال كونه مال ) بجانبه ) أي بشقه كناية عن تكبره وبأوه وإعجابه بنفسه وزهوة وتصويراً له بمن كلمته فازور عنك والتوى ، وأبعد في ضلاله وغوى .
ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة ، بين حاله عند مسه وهو يتوقعه ، فقال معبراً في جانب الشر بأداة التحقيق على غير عادة القرآن في الأغلب ، ليدل على أنه لزيادة جهله على الحد يلزم الكبر وإن كان يتوقع الشر ولا يزال حاله حال الآمن إلى أن يخالطه وحينئذ تنحل عراه وتضمحل قوله : ( وإذا مسه الشر ) أي هذا النوع قليله وكثيره لانتقامنا منه ، فالآية من الاحتابك : ذكر الإنعام أولاً دليلاً الانتقام ثانياً وذكر الشر ثانياً دليل الخير أولاً ، وسره تعليم الأدب بنسبة الإنعام دون الشر إليه وإن كان الكل منه .
ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول ، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام : ( فذو دعاء ) أي في كشفه ، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس ، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه ، فدل تركه على عدم شره لما مضى وخفة لما يأتي ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على دعم صبره وتلاشي جلده وقله حيائه ) عريض ) أي مديد العرض جداً ، وأما طوله فلا تسأل عنه ، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة .
فصلت : ( 52 - 54 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ ( ( )
ولما ذكر سبحانه من احوالهم المندرجة في أحوال هذا النوع كله ما هو مكشوف بشاهد الوجود من أنه لا ثبات لهم لا سيما عند الشدائد إعلاماً بالعراقة في الجهل والعجز ، دل على الأمرين معا بما لا يمكن عاقلاً دفعه من أنهم لا يجوزون الممكن فيعدون له ما يمتعه على تقدير وقوعه ، فأمره ( صلى الله عليه وسلم ) أن يذكر ذلك إيذاناً بالإعراض عنهم دليلاً على تناهي الغضب : ( قل أرأيتم ) أي أخبروني ) إن كان ) أي هذا القرآن الذي نصبتم لمغالبته حتى الإعراض عن السماع باللغو حال قراءته من الصفير والتصفيق(6/589)
صفحة رقم 590
وغير ذلك ، وليس ذلك منكم صادراً عن حجة قاطعة في أمره أتم معها على يقين بل هو عن خفة وعدم تأمل منكم أنه ) من عند الله ( الذي له الإحاطة بجميع صفاات الجلال والجمال فهو لا يغالب .
ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد ، وكان مقصود السورة دائراً على العلم ، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل ، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال : ( ثم كفرتم به ) أي بعد إمعان النظر فيه والتحقق لأنه حق ، فكنتم بذلك في شقاق هو في غاية البعد من الملائمة لمن لم يزل يستعطفكم بجميل أفعاله ، ويردكم بجليل أقواله وآمن به غيركم لأنه من عند الله ) من أضل ( منكم - هكذا كان الأصل ولكنه قال : ( ممن هو في شقاق ) أي لأولياء الله ) بعيد ( تنبيهاً على أنهم صاروا كذلك ، وأن من صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله وتعالى التي من واقعته هلك لا محالة ، ومن أهدى ممن هو في إسلام قريب وهو الذي آمن لأنه سالم الله الذي من سالمه سالمه كل شيء ، فنجا من كل خطر - فالآية من الاحتباك : ذكر الكفر أولاً دليلاً على الإيمان ثانياً ، والضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً ، وسره أن يذكر المضار أصدع للقلب فهو أنفع في الوعظ .
ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع ، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه : ( سنريهم ) أي عن قرب بوعد لا خلف فيه ) آياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) في الآفاق ) أي النواحي ، جمع أفق كعنق وأعناق ، أبدلت الهمزة الثانية ألفاً لسكونها بعد مثلها ، أي وظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح ، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة ، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة ، تصديقاً لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في النجانس - وغير ذلك من الآيات بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع .
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر ، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال ، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك ، بدأ بها ، ثم قال : ( وفي أنفسهم ) أي من ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال(6/590)
صفحة رقم 591
والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال ، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عن جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه ، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية ) أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ( وما شاكلها ، وفي الأنفس في آيات ) فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود والذي من بعدهم ( ونحوها ، وآيات ) لا يسئم الإنسان من دعاء الخير ( إلى آخرها الدالة على أن الإنسان مبني أمره على الجهل والعجز ، فأكثر ما يتصوره ليس كما تصوره ، فعليه أن يتأمل كتاب ربه ويتدبره - والله أعلم ، قال الرازي في اللوامع : الاستدلال بالأفعال على فاعلها واضح وطريق لائح ، والأفعال على قسمين أحدهما الآفاق وهو جملة العالم ، والثاني النفوس ، فإن تصرف التدبير وعلم صفاتها من أنها باقية بغير البدن لا يحتاج في قوامها عرف ربه وصفاته من وحدانيته وعلمه وقدرته وإرادته وتصرفه في جلمة العالم يعني وأن وجوده تعالى مباين وجود غيره .
ولما كان التقدير : ولا نزال نواتر ذلك شيئاً في أثر شيء ، عطف عليه قوله : ( حتى يتبين لهم ( غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر ) أنه ) أي القرآن ) الحق ( الكامل في الحقية الذي تطايقه الوقائع وتصادقه الأحوال العارضة والصنائع ، فيجتعوا عليه ويُقبلوا بكل قلوبهم إليه ، فلا يأباه في جزيرة العرب إنسان ، ولا يختلف فيه منهم اثنان ، ثم ينثون في أرجاء الأرض بطولها والعرض فيظهر بهم على سائر الأديان ، ويبيد على أيديهم أهل الكفران ، في سائر البلدان ، ويزول كل طغيان ، فيكون ظهورهم في هذا الوقت وضعف المؤمنين بعد أن كان سبباً لازدياهم من الكفر عظمة لهم ولكل من يأتي بعدهم يوجب الثبات في محال الزلزال علماً بأن الله أجرى عادته أن يكون للباطل ريح تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل ، وصولة تجول ثم تحول .
ولما كان هذا القول منبهاً على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرأها أولو الأبصار بالبصائر ، ويتأملها بأعين السرائر ، أمراً لا يحيط به الوصف ، فكان حادياً على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار ، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار ، كان كأنه قيل : ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن القرآن من عند الله فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم ، عطف عيله قوله : ( أو لم يكف ( وأكد بإدخال الجار ، وحقق الفاعل فقال مؤكداً بالباء ومحققاً أنه الفاعل(6/591)
صفحة رقم 592
صارفاً القول إلى وصف الإحسان إيذاناً بالرفق بهم بردِّهم إليه دون ارتكابهم ما يوجب نكالهم وإهلاكهم واستئصالهم : ( بربك ) أي المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأنه من عنده ) أنّه ) أي أو لم يكف شهادة ربك لأنه ) على كل شيء شهيد ( لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، لا هذا القرآن ولا غيره ، وقد شهد لك فيه بإعجازه لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ، ونطقت به كلماته ، ففيه أعظم بشاءة بتمام أمر الدين وظهوره على المعتدين ، وذلك لأن كل أحد يجد في نفسه أنه إذا أراد ثبوت حق ينكره من هو عليه لصاحب الحق من الشهود ما يتحقق قولهم فيه ووصوله بهم إليه أنه يكون مطمئناً لا ينزعج بالجحد علماً منه بأن حقه لا بد أن يظهر ويخزي معانده ويقهر ، وفي هذا تأديب لكل من كان على حق ولا يجد من يساعده على ظهوره فإن الله شاهده فلا بد أن يظهر أمره فتوكل على الله إنك على الحق المبين .
ولما لم يبق بعد هذا لمتعنت مقال ، ولا شبهة أصلاً لضال ، كان موضع المناداة على من استمر على عناده بقوله مؤكداً لادعائهم إنهم على جلية من أمرهم ، ) ألا إنهم ) أي الكفرة ) في مرية ) أي جحد وجدال وشك وضلال على العبث ) من لقاء ( وصرف القول إلى إضافة وصف الإحسان إليهم إشارة إلة أنه لا بد من كمال تربيتهم بالبعث لأنه أحكم الحاكمين فقال : ( ربهم ) أي المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم للحساب والجزاء بالثواب والعقاب كما هو شأن كل حكيم فيمن تحت أمره .
ولما كانوا مظهرين الشك في القدرة على البعث ، قرره إيمانهم معترفون به من قدرته على كل يء من البعث وغيره فقال : ( ألا إنه ) أي هذا المحسن إليهم ) بكل شيء ) أي من الأشياء جملها وتفاصيلها كلياتها وجزيائتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها ) محيط ( قدرة وعلماً من كثير الأشياء وقليلها كليها وجزئيها ، فعما قليل يجمعهم على الحق ويبدلهم بالمرية إذعاناً وبالشك يقيناً وبرهاناً ، فرحمته عامة لجميع أهل الوجود وخاصة لمن منَّ عليه الإيمان الموصل إلى راحة الأمان ، فكيف يتصور في عقل أن يترك البعث ليوم الفصل الذي هو مدار الحكمة ، ومحط إظهار النعمة والنقمة ، وقد علم بذلك انطباق آخرها المادح للكتاب المقرر للبعث والحساب على أولها المفصل للقرآن المفيض لقسمي الرحمة : العامة والخاصة لأهل الأكوان ، وعلى ما اقتضاه العدل والإحسان ، بالبشارة لأهل الإيمان ، والنذارة لأهل الطغيان - والله الهادي وعليه التكلان .
.. .(6/592)
صفحة رقم 593
سورة الشورى
الشورى : ( 1 - 5 ) حم
) حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ( )
سورة الشورى مكية - آياتها ثلاث وخمسون وتسمى حم عسق مقصودها الاجتماع على الدين الذي أساسه الإيمان ، وأم دعائمه الصلاة ، وورح أمره الألفة بالمشاورة المقتضية لكل أهل الدين كلهم في سواء كما أنهم في العبودية لشارعه سواء ، وأعظم نافع في ذلك الإنفاق والمؤاساة فيما في اليد ، والعفو والصفح عن المسيء ، والإذعان للحق وإن صعب وشق ، وذلك كله الداعي إليه هذا الكتاب الذي هو روح جسد هذا الدين المعبر عما دعا إليه من محاسن الأعمال ، وشرائف الخلال بالصراط المستقيم ، وإلى ذلك لوح آخر آخر السورة الماضية ) حتى يتبين لهم أنه الحق ( ) ألا إنه بكل شيء محيط ( وصرح ما في هذه من قوله : ( أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه إلا المودة في القربى ( ) استجيبوا لربكم ( ) نهدي به من نشاء من عبادنا ( ) وإنك لتهدي إلى صارط مستقيم ( ) ألا إلى الله تصير الأمور ( وتسميتها بالشورى واضح المطابقة لذلك لما في الانتهاء وكذلك بالأحرف المتقطعة فإنها جامعة للمخارج الثلاثة : الحلق والشفة واللسان ، وكذا جمعها لصنفي المنقطوطة والعاطلة ، ووصفي المجهورة والمهموسة ، وهي واسطة جامعة بين حروف أم الكتاب الذكر الأول ، وحروف الرقآن العظيم ، وهذا المقصود هو غاية المقصود من أختها سورة مريم الموافقة لها في الابتداء بالتساوي في عدد الحروف المقطعة ، وفي الانتهاء من حيث أن من اختص بمصير الأمور ، كان المختص بالقدرة على إهلاك القرون ، وذلك لأن مقصودها اتصافه تعالى بشمول الرحمة بإفاضة جميع النعم على جميع خلقه ، وغاية(6/593)
صفحة رقم 594
هذا الاجتماع على الدين ، ولما توافقتا في المقصود في الابتداء والانتهاء ، واختصت الشورى بأن حروفها اثنان ، دل سبحانه بذلك أرباب البصائر على أنه إشارة إلى أن الدين قسمان : أصول وفروع ، دلت مريم على الأصول
77 ( ) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه تمترون ( ) 7
[ مريم : 34 ] ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ،
77 ( ) هل تعلم له سميا ( ) 7
[ مريم : 65 ] والشورى على مجموع الدين أصولاً وفروعاً ) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك ( الآية ، هذا موافقة البداية ، وأما موافقة النهاية فهو أنهما ختمتا بكلمتين : أول كل منهما آخر الأخرى وآخر كل أول الأخرى وإيذاناً بأن السورتين دائرة واحدة محيطة بالدين متصلة لا انفصام لها ، وذلك أن آخر مريم أول الشورى وآخر الشورى أو مريم ) فإنما يسرناه بلسانك ( ، الآية ) هو كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ( ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ( إلى آخرها هو ) ذكر رحمة ربك عبده زكريا ( - إلى آخر القصة في الدعاء بارث الحكمة والنبوة الذي روحه الوحي والله الهادي ، وكذا تسميتها ببعضها بدلالة الجزء على الكل ) بسم الله ( الذي أحاط بضفات الكمال ، فنفذ أمره ، فاستجاب له كل شيء طوعاً أو كرهاً ) الرحمن ( الذي عمت رحمته فهيأت عباده لقبول أمره ) الرحيم ( الذي خص اولياءه بما ترتضيه الإلهية من رحمته ، فجمع كلمتهم على دينه عقداً وفعلاً ومآلاً ) حم عسق ( هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم يشير إلى أن معنى هذا الجمع يجوز أن يقال : حكمة محمد علت وعمت فعفت سقام القلوب ، وقسمت حروفها قسمين موافقة لبقية أخواتها وبعدها آيتين ، ولم تقسم ) كهيعص ( لأنها آية واحد ولا أخت لها ولم تقسم ) المص ( مثلاً وإن كان لها أخوات لأنها آية واحدة ، ولم يعد في شيء من القرآن حرف واحد آية ، ويجوز أن يعتبر مفردة فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار ، وتشرح الصدور والأفكار ، فإن نظرت إلى مخارجها وجدتها قد حصل الابتداء فيها بأدنى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين ، وهو جامع للحلق واللسان ، وقصد رابعاً إلى اللسان بالسين التي هي من أدناه إلى الشفتين وهو رأسه ولها التصاق بطوناً إلى أصل اللسان ، وهو اقصاه من الشفة بالقاف ، ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق والاختام بالشفة العليا والثنيتين السفليين ، ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر بما فيها من الجمع إلى مقصود السورة ، وقد(6/594)
صفحة رقم 595
اتسق الابتداء فيها فيما كان من حرفين جمعهما مخرج بالأعلى ثم بالأدنى إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون كما كان في ألو الإسلام حيث حصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأقاربه في الشعب ، وذلك أيضاً إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن من زين ظاهره بجمع الأعمال الصالحة صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة على أن في هذا التدلي بشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول ، كما كان عند الظهور من الشعب بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة الذي كان الضيق سبباً له ، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجاً ، فإن الحاء له من الصفات الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والميم له من الصفات والجهر والشدة والانفتاح والاستفال وبين الشدة والرخاوة ، والعين لها من الصفات ما للميم سواء ، والسين لها من الصفات ما للحاء ، وتزيد بالصفير ، والقاف له من الصفات الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة فالحرف الأول أكثر صفاته الضعف ، ويزيد بالإمالة التي قرأ بها كثر من القراء ، والثاني والثالث على السواء ، وهما إلى القوة أرجح قليلاً ، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروح من الشعب ، والرابع فيه قوة وضعف وضعفه أكثر ، فإن فيه للضعف ثلاث صفات وللقوة صفتين ، وذلك كما كان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند آخر أمره بمكة المشرفة حين مات الوزيران خديجة رضي الله عنها وأبو طالب لكن ربما كانت الصفتان القويتان عاليتين على الصفات الضعيفة بما فيهما بالانتشار بالصفير والجمع الذي مضت الإشارة إليه من الإشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار ، والخامس وهو الأخير كله قوة كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فلما هاجرنا انتصفنا من القوم وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم ) ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع بعد قتال أهل الردة بعد موته ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم انتشر أهل هذا الدين في الأرض يميناً وشمالاً ، فما قام لهم مخالف ، ولا وافقهم أمه من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم وقوة غيرهم وكثرتهم إلا دمروا عليهم فجعلوهم كأمس الدار ، وقد جمعت هذه الحروف كما مضى وصفي المجهورة والمهموسة كانت المجهورة أغلبها إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود ، وصنفي المنقطوطة والعاطلة ، وكانت كلها عاطلة إلا حرفاً واحداً ، إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن أن يكون أغلب أحواله لا يرى له صفة من الصفات بل يعد في زمرة الأموات وإلى أن المتحلي بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين قليل جداً ، وكان المنقوط آخرها إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق(6/595)
صفحة رقم 596
الجمع بعد المحو والفرق وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم ، وهي ذات الدائرة المستوية الاستداؤة إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع فيه والانطباق عليه والإطافة به والإسراع من الفم المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم بحيث أنه لا نهاية له مع حسن استنارته بتناسب استدارته ، ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في هذه الأحرف بأن جمعت أعداد مسمياتها وهو مائتان وثمانية وسبعون وفي السنة الموافقة لهذه العدد كانت ولادتي ، فكان الابتداء في هذا الكتاب الديني في شعبان كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة ، وهو موافق لعدد حرفي ) دن ( أمراً من الدين الذي هو مقصود السورة ، فكأنه أمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب ليحصل مقصودها ، وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين في شعبان منها كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة ، وهو عدد موافق لعدد أحرف ) دين ( الذي هو مقصود السورة ، فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب أن يكون ذلك مشيراً إلى أن الله تعابى يجمع بكتابي هذه الذي خصني بإلهامه وادخر لي المنحة بحله وإبرامه ، واعتناقه والتزامه ، أهل هذا الدين القيم جمعاً عظيماً جليلاً جسيماً ، يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم وحسن تأسيهم برؤوس نقلته وأتباعه ، ومن الآثار الجليلة في لحظها للجمع أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها السلام بيان اتصاف الرحمن ، المنزل لهذا القرآن ، بشمول الرحمة لجميع الأكوان ، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة من آثار تلك الرحمة العامة ، وهي الاجتماع على هذا الدين المراد ظهوره وعلوه على كل دين وقهره لكل أمر ، فكان لذلك محيطاً قاهراً لحظ كل قاهر وظالم ، وكانت هذه الرحمة الخاصة - لنسبتها إلى الخلق - ثانية لتلك العامة ومنشعبة منها ، وكانت لكونها من أوصاف الخلق الخلق بمنزلة اليسار ، وتلك لكونها من صفة الحق بمنزلة اليمين ، لذلك - والله أعلم - قال الاستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب له من الحرف : ولما كان ذلك - أي هذه الأسم المجتمع من هذه أصابع اليسار ثم وضعت على هانجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله ، وكانت خمسها مضافة إلى خمس ) كهيعص ( المستولية على حكمة اليمين محيطاً ذلك بالعشر المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء الذي هو أول العشر ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف - انتهى .
ولما كانت هذه الحروف - والله أعلم - مشيرة إلى الاجتماع كما أشار إليه آخر السورة الماضية ، قال الله سبحانه وتعالى : ( كذلك ) أي مثل هذه الإيحاء العظيم الشأن(6/596)
صفحة رقم 597
الذي أخبرك به ربك صريحاً أول ( فصلت ) من أن الإله إله واحد وآخرها من أنه ما يقال لك غلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، ومن أنه يجمع أمتك على هذا الدين بما يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق بما يريهم من الآيات البينات والدلالات الواضحات في الآفاق وفي أنفسهم وبشهادته سبحانه باعجاز القرآن لجميع الإنس والجان ولا سيما إذا أقدم ضال على معارضته كمسيلمة فإنه يتبين لهم الأمر بذلك غاية البيان ( وبضدها تتبين الأشياء ) ورمز لك به سبحانه تلويحاً اول هذه السورة بهذه الأحرف المقطعة التي هي أعلى واغلى من الجواهر المرصعة - إلى مثل ذلك ، فهما نوعان من الوحي : صريح وعبارة ، وتلويح وإشارة .
ولما كان المقصود الإفهام لأن الإيحاء منه سبحانه عادة مستمرة إلى جميع أنبيائه ورسله والبشارة له ( صلى الله عليه وسلم ) بتجديده له ، مدة حياته تثبيتاً لفؤاده ، ودلالة على دوام وداده ، عبر بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، وتقدم في أول البقرة نقلاً عن أبي حيان ومن قبله الزمخشري وغيره أنه قد لا يلاحظ منه زمن معين ، بل يراد مطلق الوجود فقال : ( يوحة إليك ) أي سابقاً ولاحقاً ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك أصلاً توديعاً ولا قلى بما يريد من أمره مما يعلى لك مقدارك ، وينشر أنوارك ويعلي منارك .
ولما كان الاهتمام بالوحي لمعرفة أنه حق - كما أشارت إليه قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول - والموحي إليه لمعرفة أنه رسول حقاً وكان المراد بالمضارع مجرد إيقاع مدلوله لا يفيد الاستقبال صح أن يتعلق به قوله مقدماً على الفاعل : ( وإلى الذين ( والقائم مقام الفاعل في قراءة ابم كثير ضمير يعود على ( كذلك ) .
ولما كان الرسل بعض من تقدم في بعض أزمنة القبل ، ادخل الجار فقال : ( من قبلك ) أي من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ، بأن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء ، وأخذ كل منهم العهد باتباعك ، وأن يكون من أنصارك وأشياعك .
ولما قدم ما هو الأهم من الوحي والموحى إليه ، أتى بفاعل ) يوحي ( في قراءة العامة فقال : ( الله ) أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. .
وهو مرفوع عند ابن كثير بفعل مضمر تقديره الذي يوحيه .
ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال : ( العزيز ) أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) الحكيم ( الذي يضع ما يصنعه في أتقن محاله ، فلأجل ذلك لا يقدر على نقض ما أبرمه ، ولا نقص ما أحكمه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حالي المعاندين والجاحدين ، وأعقبت بسورة السجدة بياناً أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمه وإيضاحاً لأنه الكتاب العزيز وعظيم الكتاب العزيز وعظيم برهانه ، ومع ذلك فلم يجد على من(6/597)
صفحة رقم 598
قضى عليه تعالى بالكفر ، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في عمله تعالى بحكم الأزلية ) فريق في الجنة وفريق في السعير ( ) وما أنت عليهم بوكيل ( ) ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ( ) ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم ( ) وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ( ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ( ) ومن يضلل الله فما له من سبيل ( ) إن عليك إلا البلاغ ( ) نهدي به من نشاء من عبادنا ( فتأمل هذه وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر ، ومحكم ما استجره ، وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها ، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها .
ولما ختمت سورة السجدة بقوله تعالى ) إلا أنهم في مرية من لقاء ربهم ( اعقبها سبحانه بتنزيهه وتعاليه عن ريبهم وشكهم ، فقال تعالى ) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ( كما أعقب بمثله في قوله تعالى ) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إذ تكاد السماوات يتفطرون منه ( ولما تكرر في سورة حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله تعالى ) فأعرض أكثرهم وقالوا قلوبنا في أكنة ( إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم قال تعالى في سورة الشورى ) كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ( - انتهى .
ولما أخبر سبحانه أنه صاحب الوحي بالشرائع دائماً قديماً وحديثاً ، علل ذلك بأنه صاحب الملك العام فقال : ( له ما في السموات ) أي من الذوات والمعاني ) وما في الأرض ( كذلك .
ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال : ( وهو العلي ) أي على العرض الذي السماوات فيه علو رتبة وعظمة ومكانة لا مكان وملابسة ، فاستلزم ذلك أن تكون له السماوات كلها والأراضي كلها مع ما فيها ) العظيم ) أي فلا يتصور شيء في وهم ولا يتخيل في عقل إلا وهو أعظم منه بالقهر والملك ، فلذلك يوحي إلى من يشاء بما يشاء من إقرار وتبديل ، لا اعتراض لأحد عليه .
ولما كان السياق مفهماً عظيم ملكه سبحانه وقدرته بكثرة ما في الأكوان من الأجسام والمعاني التي هي لفظاعتها لا تحتمل ، قال مبيناً لذلك : ( تكاد السماوات ) أي على عظم خلقهن ووثاقة إبداعهن ، وفلقهن بما أعلم به الواقع ، ونبه عليه بتذكير ) تكاد ( في قراءة نافع والكسائي ) يتفطرن ) أي يتشققن ويتفرط أجزاؤهن مطلق انفطار في قراءة من قرأ بالنون وخفف وهم هنا أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وتفطراً شديداً في قراءة الباقين بالتاء المثناة من فوق مفتوحة وتشديد الطاء ، مبتدئاً ذلك ) من(6/598)
صفحة رقم 599
فوقهن ( الذي جرت العادة أن يكون أصلب مما تحته ، فانفطار غيره من باب الأولى ، وابتداء الانفطار من ثم لأن جهة الفوق أجدر بتجلي ما يشق حمله من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة التي منها ما يحمل من الملائكة الذي لا تسع عقولهم وصفهم على ما عليه من كل واحد منهم من عظم الخلق في الهيئة والطول والمتانة والكبر إلى غير ذلك مما لا يحيط به علماً إلا الذي يراهم بحيث إنّ أحدهم إذا أشير إلى الأرض حملها كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا فيه ملك قائم يصلي ) ومن غير ذلك من العظمة والكبرياء والجبروت والعلاء ، أو يكون انفطارهن من عظيم شناعة الكفر بالذي خلق الأرض في يومين وجعلهم له أنداداً كما قال في السورة المناظرة لهذه سورة مريم
77 ( ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولدا ( ) 7
[ آية : 90 ] ونقص ما في هذه عن تلك لأنه لم يذكر هنا للولد ، وهذا كناية عن التخويف بالعذاب لأن من المعلوم أن العالي إذا انفطر تهيأ للسقوط ، فإذا سقط أهلك من تحته فكيف إذا كان من العلو والعظم وثقل الجسم على صفة لا يحيط بها إلا بارئها ، فذكر الفوق تصوير لما يترتب على هذه الانفطار من البلايا الكبار ، وعلى هذا يحسن أني يعود الضمير على الأراضي التي كفروا بفاطرها .
ولما بين أن سبب كيدودة انفطارهن حلالة العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر ، بين لها سبباً آخر وهو عظيم قولهم ، فقال : ( والملائكة ) أي والحال أنهم ، وعدل عن التأنيث مراعاة للفظ إلى التذكير وضمير الجمع ، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين فقال : ( يسبحون ) أي يوقعون التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى ملتبسين ) بحمد ربهم ) أي بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بما لهم - بما أشارت إليه الإضافة دائماً لا يفترون ، فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ، ولا تثبت لها الجبال ، فلا تستبعدن ذلك ، فكم من صاعقة سمعتها من السحاب فرجت لها الأرض فتصدعت لها الأبنية المتينة والجبال الصلاب ، ولفت القول إلى صفة الإحسان لمدح الملائكة بالإشارة إلى أنهم عرفوا إحسان المحسن وعملوا في الشكر بما اقتضاه إحسانه فصار تعريضاً بذم الكفرة بما غطوا من إحسانه ، وتذرعوا من كفرانه .
ولما كانوا لما عندهم من العلم بجلال الله سبحانه يستحيون منه سبحانه كما يفعل أهل الأرض ويقولون ما لا يليق بحضرته الشماء وجنابه الأسمى ، وكانوا يعلمون مما(6/599)
صفحة رقم 600
جادلهم سبحانه عنهم أنه له بهم عناية ، فكانوا يرون أن الأقرب إلى رضاه الاستغفار لهم ، فلذلك عبر عنهم سبحانه بقوله حاذقاً ما أوجبه السياق في ) غافر ( من ذكر الإيمان ، إشارة إلى أن أقرب الخلق من العرش كأبعد الناس في الإيمان المشروط بالغيب إبلاغاً في التنزيه لأنه لا مقتضى له هنا : ( ويستغفرون ) أي وهم مع التسبيح يطلبون الغفران ) لمن في الأرض ( لما يرون من شدة تقصيرهم في الوفاء بحق تلك العظمة ، التي لا تضاهى ، أما للمؤمن فمطلقاً ، وأما للكافر فبتأخير المعالجة ، وكذا لبقية الحيوانات ، وذلك لما يهولهم مما يشاهدونه من عظمة ذي الكبرياء وجلالة ذي الجبروت .
قال ابن برجان : لم يشأ الله جل ذكره كون ضيء إلا قيض ملائكة من عباده يشفعون في كونه ، وكذلك في إبقاء ما شاء إبقاءه وإعدام ما شاء إعدامه ، وهذه أصول الشفاعة فلا تكن من الممترين ، وألطف من ذلك أن تكون كيدودة انفطارهن في حال تسبيح الملائكة واستغفارهم لما يرين من فوقهن من العظمة ، ومن تحتهن من ذنوب الثقلين ، فلولا ذكرهم لتفطرن وحضر العذاب ، فعوجل الخلق بالهلاك ، وقامت القيامة ، وقضيا الأمر ، وإذا كانت كيدودة الانفطار مع هذا التنزيه والاستغفار ، فما ظنك بما يكون لو عرى الأمر عنه وخلا منه ، ولذلك ذكر العموم هنا ولم يخص المؤمنين بالاستغفار كما في ) غافر ( لما اقتضاه السياق هنا من العموم ، ولأن مقصود غافر تصنيف الناس في الآخرة هذه الجمع على الدين في الدنيا فناسب ذلك إفراد الذين تلبسوا بالإيمان ، ومقصود هذه الجمع على الدين في الدنيا فناسب الدعاء للكل ليجازي كل بما يستحقه من إطلاق المغفرة في الدارين للمؤمن وتقييدها بالتأخير في الدنيا للكافر .
ولما كانت أفعال أهل الأرض وأقوالهم عظيمة المخالفة لما يرضيه سبحانه فهم يستحقون المعاجلة بسببها ، أجاب من كأنه قال : هذا يستجاب لهم في المؤمنين ، فكيف يستجاب لهم في الكافرين ليجمع الكلام التهييب والتهويل في أوله والبشارة واللطف والتسير في آخره ، فقال لافتاً القول عن صفة الإحسان إلى الاسم الأعظم تعريفاً بعظيم الأمر حملاً على لزوم الحمد وإدامة الشكر : ( ألا إن الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ، فله جميع العظمة ، وأكد لأن ذلك لعظمة لا يكاد يصدق ) هو ) أي وحده ، ورتب وصيفه سبحانه على أعلى وجوه البلاغة فبدأ بما أفهم إجابة الملائكة وأتبعه الإعلام بمزيد الإكرام فقال : ( الغفور الرحيم ) أي العام الستر والإكرام على الوجه الأبلغ أما لأهل الإيمان فواضح دنيا وآخرة ، وأما لأهل الكفران ففي الدنيا فهو يرزقهم ويعافيهم ويملي لهم
77 ( ) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ( ) 7
[ فاطر : 45 ] وأما الله فلا يغفر لأهل معصيته ، ولو أراد ذلك ما تمكن .(6/600)
صفحة رقم 601
الشورى : ( 6 - 9 ) والذين اتخذوا من. .. . .
) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ( )
ولما كان التقدير : فالذين تولوه وماتوا في ولا يته فهو يغفر ذنوبهم بمعنى أنه يزيلها عيناً وأثراً ، عطف عليه قوله : ( والذين اتخذوا ) أي عالجوا فطرهم الأولى وعقولهم حتى أخذوا ) من دونه ) أي من أدنى رتبة من رتبته ) أولياء ( يعبدونهم كالأصنام وكل من ابتع هواه في شيء من الأشياء ، فقد اتخذ الشيطان الآمر له بذلك ولياً من دون الله بمخالفة أمره .
ولما كان ما فعلوه عظيم البشاعة ، اشتد التشوف إلى جزائهم عليه فأخبر عنه سبحانه بقوله معبراً بالاسم الأعظم إشارة إلى وضوح ضلالهم وعظم تهديدهم معرياً له عن الفاء لئلا يتوهم أن الحفظ مسبب عن الاتخاذ المذكور عادلاً إلى التعبير بالجلالة تعظيماً لما في الشرك من الظلم وتغليظاً لما يستحق فاعله من الزجر : ( الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) حفيظ عليهم ) أي رقيب وراع وشهيد على اعمالهم ، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم ، فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعده للكافرين ، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً ، فلم يعاقبهم ولم يعاتبهم ، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاتبهم ) وما أنت عليهم بوكيل ) أي حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم ، فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل مما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا ) لا تسمعوا لهذا القرآن ( أو قالوا ) قلوبنا في أكنة ( أو غير ذلك .
ولما كان الإيحاء السابق أول السورة للبشرى لأنها المقصود بالذات وكانت البشرى مقتضية تلويحاً ورمزاً بالأحرف المقطعة لاجتماع أهل الدين وغلبتهم على سائر الأديان وأن دينهم يعم سائر الأمم ويحيط بجميع الخلق ، ولا يريد أحد بأهله سوءاً إلا كان له فيه رفعة كما مضى بيانه ، وكانت رمزاً لأن المقام للانذار بما تشهد به السورة الماضية ، وكان المراد بها التكرار حتى لا تزال لذاذتها في أذن المبشر وحلاوتها في قلبه ، ذكرها بلفظ المضارع الدال على التجدد والتكرار والحدوث والاستمرار ، وكان المتعنت ربما حمله على الوعد بالإيحاء في المستقبل ، وكان العاقل يكفيه في النذرى(6/601)
صفحة رقم 602
مرة واحدة فقال معبراً بالماضي الدال على الإمضاء والقطع والقضاء الحتم في كل من الإيحاء وفائدته التي هي الأنذار ، عاطفاً على ما يتصل بالآية السالفة المختومة بنفي الوكالة مما تقديره : إنما عليك البلاغ بالبشارة والنذارة ، وقد أوحينا إليك البشارة رمزاً ، كما جرت به عادة الأحباب في محاورات الخطاب ، ولفت القول إلى مظهر العظمة لأن الإنذار من مجازه : ( وكذلك ) أي ومثل ذلك الإيحاء الذي قدمنا أنا حبوناك به من وحي الإشارة بالحروف المقطعة ) أوحينا ( بما لنا من العظمة مع الفرق بين كل ملبس ) إليك قرآناً ( جامعاً لكل حكمة ) عربياً ( فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب ) لتنذر ) أي به ) أم القرى ( مكة التي هي أم الأرض وأصلها ، منها دحيت ولشرفها أوقع الفعل عليها ، عدا لها عداد العقلاء ، ثم بين أن المراد أهلها بقوله : ( ومن ) أي وتنذر من ) حولها ( وهم سكان جميع الأرض التي هي امها ، وبذلك فسره البغوي فقال : قرى الأرض كلها ، وكذا القشيري وقال : العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرة الأرض .
ولما كان مفعول ) تنذر ( الثاني على ما هدى إليه السياق ما عذبت به الأمم السالفة والقرون الماضية حين تمادى بهم الكفر وغلب عليهم الظلم في اتخاذهم أولياء من دون الله ، عطف عليه : ( وتنذر ) أي أم القرى ومن حولها مع عذاب الأمم في الدنيا ) يوم الجمع ) أي لجميع الخلائق ببعثهم من الموت ، حذف المفعول الأول من الشق الثاني ، والمفعول الثاني من الأول ، فالآية من الاحتباك : ذكر المنذرين أولاً دلالة على إرادتها ثانياً ، وذكر المنذر به وهو يوم الجمع ثانياً دلالة على المنذر به من عذاب الأمم أولاً ، ليذهب به الوهم في المحذوف كل مذهب ، فيكون أهول ، وذكر هذا المذكور أفخم وأوجل .
ولما كان الإنذار - وهو الإعلام بموضع المخافة - تارة يكون عما لا علم به ، وهو الأغلب ، وتارة عما وقع العمل به ثم خالف المنذر به علمه أعمال من لا علم له به ، نبه على هذا من القسم الثاني بقوله في جملة حالية : ( لا ريب فيه ) أي لأنه قد ركز في فطرة كل أحد أن الحاكم إذا استعمل عبيده في شيء ثم تظالموا فلا بد له بما تقتضيه السياسة من جمعهم لينصف بينهم وإلا عد سفيهاً ، فما ظنك بأحكم الحاكمين .
ولما تشوف السامع إلى ما يفعل في جمعهم ، وكان الثقلان لما طبعوا عليه من النقصان أهل فرقة وطغيان ، ذكر نهايته معبراً بما هو من الفرقة بقوله مسوغاً الابتداء بالنكرة للتفصيل أو تقرير الوصف : ( فريق ) أي من المجموعين أهل فرقة تداركهم الله بأن جعلهم أهل جمع ) في الجنة ( فصلاّ منه وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار(6/602)
صفحة رقم 603
) وفريق ) أي منهم خذلهم الله ووكلهم إلى أنفسهم فزادوا في الفرقة ) في السعير ( عدلاً منه ، قال القشيري : كما أنهم في الدنيا فريقان : فريق في درجات الطاعة وحلاوات العبادات ، وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك ، فلذلك غذاهم فريقان : فريق هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل البلاء والشقاء .
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي يده كتابان فقال : ( أتدرون ما هذا الكتابان ) قال : قلنا لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى ( هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ) ثم قال للذي في يساره ( هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ) فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمراً قد فرغ منه ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل ) قال بيده فقبضها ، ثم قال ( فرغ ربكم عز وجل من العباد ، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة ، ونبذ باليسرى فقال : فريق في السعير ) قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي والترمذي جميعاً ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
ولما كان ملوك الدنيا غالباً لا يريدون أن يعصى أمرهم ، فإذا حذروا من شيء أرادوا أن لا يقرب ، فإن فعله أحد كان فعله له خارجاً من مرادهم ، فكانت عقوبتهم له لخروجه عن المراد شفاء لما حصل لهم من داء الغيظ ، بين أمه سبحانه على غير ذلك ، وأنه منزه عن خروج شيء عن مراده ، وعن أن يلحقه نفع بطاعة أو ضر بمعصية ، وإن عقوبته إنما هي على مخالفة أمره مع الدخول تحت مراده بإلجائه وقسره ، وهذا في نفس الأمر ، وأما في الظاهر فالأمر أن لا يظهر أنه لشيء منهما إلا صرف الاختيار ، فقال صارفاً القول عن مظهر العظمة استيفاء لإنذار ما هو حقيق به منها إلى الاسم الجامع صفات العظمة وغيرها لاقتضاء الحال له : ( ولو شاء الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) لجعلهم ) أي المجموعين ) امة واحدة ( للعذاب أو الثواب ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين : مقسطين وظالمين ، ليظهر فضله وعدله وأنه إله جبار واحد(6/603)
صفحة رقم 604
قهار ، لا يبالي بأحد وهو معنى قوله : ( ولكن يدخل من يشاء ) أي إدخاله ) في رحمته ( بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهو المقسطون ، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلال في قلوبهم فيكونون ظالمين ، فلا يطون لهم فعل في حاق موضعه ، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير ) والظالمون ) أي العريقون في الظلم الذين شاء ظلمهم فيدخلهم في لعنته ) ما لهم من ولي ( يلي أمورهم فيجتهد في إصلاحها ) ولا نصير ( ينصرهم من الهوان ، فالآية ثانياً دليلاً على أضداده أولاً ، وسره أنه ذكر السبب الحقيقي في أهل السعادة ليحملهم على مزيد الشكر ، والسبب الظاهري في أهل الشقاوة لينهاهم عن الكفر .
ولما كان التقدير : هل قصر هؤلاء الذين تنذرهم هممهم وعزائهم وأقوالهم وأفعالهم على الله تعالى اتعاظاً وانتذاراً بهذا الكلام المعجز ، عادل به قوله : ( أم اتخذوا ) أي عالجوا فطرهم الشاهدة بذلك بشهادة أوقات الاضطرار حتى لفتوها عنه سبحانه فأخذوا ) من دونه أولياء ( هم عالمون بأنه وحده الضار النافع علمُهم بأنه ) هو ( وحده ) الولي ( لا غيره ، ويجوز أن يكون مسبباً عن هذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي كأنه قيل : هل قصروا هممهم عليه سبحانه ، فسبب أنه وحمده المستحق لما يقصدونه من التولي ) وهو ( أيضاً وحده لا غيره ) يحيي الموتى ) أي يجدد إحيائهم في أي وقت يشاؤه ) وهو ) أي وحده ) على كل شيء قدير ) أي بالغ القدرة لا يشاركه شيء في ذلك بشهادة كل عاقل ، وأكده بالقصر لأن شركهم بالأولياء إنكار لاختصاصه بالولاية .
الشورى : ( 10 - 13 ) وما اختلفتم فيه. .. . .
) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ( ( )
ولما كانوا جميعاً يقرون بجميع ما وصف به نفسه المدسقة وفي هذه الآية عند(6/604)
صفحة رقم 605
الشدائد ، بعضه تصريحاً من الوحدانية في الولاية والإحياء في هذه الدار والقدرة على كل شيء ، وبعضه تصريحاً من الوحدانية في الولاية والإحياء في هذه الدار والقدرة على كل شيء ، وبعضه لزوماً وهو الإحياء بالبعث ، تسبب عن ذلك قطعاً أن بقال مع صرف القول إلى الخطاب إشارة إلى أنه تعالى قريب إليهم كل خير وقرب إليهم فهم الوحدانية لعقولهم بعد أن فطرهم على لزومها عند الاضطرار ، فما اتفقتم فيه من أمره سبحانه فهو الحق ، وذلك هو أصل الدين الذي أطبق عليه الخلائق في وقت الاضطرار ، لم يتلعثم فيه منهم ضعيف ، ولا جبار منيف ، عطف عليه قوله : ( وما اختلفتم ) أي أيها الخلق ) فيه من شيء ( وذلك هو الفروع مطلقاً والأصول في حال الرفاهية ) فحكمه إلى الله ) أي الذي هو الولي لا غيره وهو القدير لا غيره ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فحصوا عنه تجدوه في كتابه لأنه فيه تبيان كل شيء ، فإن قصرت أفهامكم عن إخراجه منه فاطلبوه في سنة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن عز عليكم ففي إجماع أهل دينه ، فإن أعوزكم ذلك فقي القياس على شيء من ذلك .
قال القشيري : هذه الأشياء هي قانون الشريعة ، وجملتها من كتاب الله ، فإن الكتاب هو الذي يدل على صحة هذه الجملة - انتهى .
وما اجتهدتم فيه على ما شرع لكم وفصلتموه بما ظهر لكم على حكم بذل الجهد مضى ، وما لا فصله بينكم سبحانه في هذا اليوم أن أراد بنصر المحق وخذلان الظالم ، وإن أراد إلى يوم الدين ، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب عليه ، فلا حكم لغيره لا في الدنيا ولا في الآخرة .
ولما أنتج هذا أنه لا عظيم غيره ، ولا إله إلا هو ، ترجم ذلك بقوله مخاطباً للكل : ( ذلكم ) أي العظيم الرتبة جداً ) الله ( المحيط بجميع أوصاف الكمال ، فلا شريك له في شيء منه بوجه ) ربي ( الذي لا مربي له غيره في ماضٍ ولا حال ولا استقبال .
ولما كان ذلك ، أنتج ولا بد قوله : ( عليه ) أي وحده ) توكلت ) أي أسلمت جميع أمري ) وإليه ) أي لا إلى غيره ) أنيب ) أي أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور ، فأعرف منه حكمه فافعلوا أنتم كذلك ، اجعلوه الحكم تفلحوا ، ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا .
ولما تقرر بهذا الكلام أنه قد ركز في الفطر أنه لا إله غيره لأنه خالق سواه كما يهدي إليه الاضطرار وإن أغفل عنه البطر ، وصفه بالدليل على ذلك الذي جبل عليه جميع الفطر : ( فاطر السماوات والأرض ) أي مبتدئها بالخلق والإخراج من العدم ، وكل ما اتخذتموه ولياً من دونه فهو منهما ، فهو مما فطره كما يعلم كل أحد منكم ذلك لا يتمارى فيه ، فهذا هو السبب في العلم المركوز في الفطر من أنه الواحد الذي لا إله معه كما كان في الأزل ولا شيء معه .(6/605)
صفحة رقم 606
ولما ذكر سبحانه ما شق العدم بإيجاده من غير سبب أصلاً ، أتبعه ما سببه عن ذلك فأنشأه من العناصر التي أبدعتها يد القدرة في الخافقين ، فقال معبراً بالفعلية تذكيراً بما يوجب لهم الاعتراف بما اعترف به نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من أنه وحده ربه لا شريك له في ذلك ، فيوجب التوكل عليه وحده : ( جعل لكم ) أي بعد أن خلقكم من الأرض ) من أنفسكم أزواجاً ( يكون بالسكون إليها بقاء نوعكم ، ولما كانت الأنعام ومنافعها لأجلنا قال : ( ومن ) أي وجعل لكم من ) الأنعام ( الي هي أموالكم وجمالكم وبها أعظم قوامكم ) أزواجاً ) أي من انفسها ، يكون بها أيضاً بقاء نوعها ، وكذا جميع الحيوانات ، ومعنى قوله مغلباً العقلاء : ( يذرؤكم ) أي يخلقكم ويكثركم ولما كان الأزواج في غاية المحبة للزواج بحيث إنه مستول على القلوب ، كان كأنه محيط بهم فقال : ( فيه ) أي في ذلك التزاوج بحيث يجعلكم مولعين به ، من قوله ذراه : خلقه وكثره وأولعه بالشيء ، فيكون لكم في الأزواج من البشر نطفاً وجمالاً وولادة ، وفي الأنعام غذاء وشراباً واكلاً ، وغير ذلك مما لكم فيه من المنافع ، ولا تزالون في هذا الوجه والتزاوج نسلاً بعد نسل وجيلاً بعد جيل .
ولما تقرر في الأوهام وثبت في كثير من الأذهان أنه لا يكون شيء إلا بسبب التزواج ، كان ربما سرى شيء من هذا الوهم في حق الخالق سبحانه فنفاه على أبلغ وجه بقوله : استئنافاً في جواب من يسأل عنه : ( ليس ( وقدم الخبر لأن المراد نفيه فأولاه النافي دلالة على شدة العناية بنفسه فقال : ( كمثله ) أي مثل نفسه في ذاته ولا في شيء من صفاته : ( شيء ( يزاوجه أو يناسبه ، وكل ما اتخذتموه ولياً من دونه ، فله ما يزاوجه ويماثله ، فالمراد بالمثل هنا النفس وهو أصله وحقيقته في اللغة من قولهم : مثل الرجل يمثل - إذا قام وانتصب ، قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : و المثل يكون هو الحديث نفسه
77 ( ) مثل الجنة التي وعد المتقون ( ) 7
[ الرعد : 35 ] فمثلها هو الخبر عنها ، وقيل : المثل ههنا الصفة
77 ( ) ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ( ) 7
[ البقرة : 214 ] أي صفتهم ، نقل ذلك الهروي ونقل عن أبي عبد الله القزاز قوله :
77 ( ) ضرب مثل فاستمعوا له ( ) 7
[ الحج : 73 ] كذلك ، لأنه قال : ( إن الذي تدعون ( الآية فصار الخبر عن ذلك هو المثل ، قال : وهو على أصل ما ذكرنا أن مثل الشيء صفته وصورته ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ ) مثال ( وقرأ ) أمثال الجنة التي وعد المتقون ( ثم قال : وهذا كله يدل على أن معنى ) مثل ( صفة صورة ، قال أبو عبد الله : مثلت له الشيء تمثيلاً : صورته له حتى كأنه ينظر إليه ، وفي الحديث : ( مثلت(6/606)
صفحة رقم 607
لي الجنة والنار ) انتهى .
في القاموس : المثل - بالكسر والتحريك وكأمر : المشبه ، والمثل محركة : الحجة والحديث والصفة ، والمثيل : المقدار والقصاص وصفة الشيء والفراش ، جمعه أمثلة ومثل ، والتمثال - بالكسر : الصورة ومثل قائماً : قام منتصباً كمثل بلاضم مثولاً - انتهى .
وفي شمس العلوم : والعرب تقيم المثل مقام النفس فتقول : مثلي لا يقول هذا أي أنل انتهى .
فقد بان أن المثل بالإسكان والتحريك واحد ، وأنه في الأصل عبارة عن نفس الشيء وصورته ، ثم شاع فيما يشابهه ، فمعنى مثل أي انتصب تشكل وتصور فكانت له صورة وشكل لأن بالانتصاب تتحقق صورته وتظهر ، وكذا مثل بمعنى لصق الأرض وإن كان ظهوره بالقيام أوضح ، وكذا مثل بمعنى لصق الأرض وإن كان ظهوره بالقيام أوضح ، وكذا مثل إذا زال عن مكانه لأنه حصل الانتصاب أو اللصوق ، وزاد الانتقال ، ويوضح ذلك قولهم : مثله له - إذا صوره حتى كأنه ينظر إليه ، فعلم قطعاً أن معنى الآية ما قلته ، وأنه لو قيل ) ليس كمثله شيء ( ، من غير كاف ، لربما قال بعض أهل التعنت : هذا معناه أنه ليس شيئاً ، لأنا قد علمنا أن المثل هو الشيء ، وقد كانوا يتعنتون بدون هذا ، لأنه يؤدي إلى محالين هما في غاية الضمور يحاشى عن أحدهما فكيف إذا اجتمعا من له أدنى حكمة فكيف بأحكم الحكماء ، أحدهما أن له مثلاً ، والثاني أن مثله لا مثل له مع الحكم بأنه مثله ، وذلك تناقض ظاهر يتعالى الله عن إرادة مثله علواً كبيراً - والله الموفق .
ولما كان قد أبطن نفسه سبحانه بهذا التنزيه إبطاناً عظيماً ، وكان هذا الإعراق في البطون لا تحتمله العقول ، فلا يؤمن عليها النزوع إلى التعطيل ، قربه بنوع ظهور بذكر ما نعقله من الأوصاف بعد الأمن من التشبيه لمن يأمل الكلام ، وحكم العقل وطرد الوهم ، فأتى بأوضح ما نحسه من أوصافنا .
واظهره مع استلزامه لبقية الصفات فقال : ( وهو ) أي والحال أنه لا غيره ) السميع البصير ) أي الكامل في السمع والبصر والعلم من البصر والبصيرة ، ومن المقطوع به أن ذلك لا يكون على وجه الخصوص إلا بالوحدانية والحياة والقدرة والإرادة والكلام ، فاستوفت هذه الآية ما لوح إليه العاطف فيب قوله ( وما اختلفتم ) بعد ما صرح به ، فالله هو الولي من أصول الدين بالصفات السبع على أتم وجه - والله الموفق ، قال الحرالي : السمع إدراك ألطف المثلين وهو الاسم ، والصر إدراك أظهر المثلين وهو الصورة ، وبالحق سبحانه بدأ كل مثل لطيف فهو السميع بالحقيقة أن(6/607)
صفحة رقم 608
لا يسمع ما هو مبتدئ ألطف مثيله ، أو لا يبصر ما هو مبدئ أظهر مثيله ، ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بأمثال البادئات قبل كونها كان سميعاً لها بصيراً لها قبل كونها ، وإنما يستجد السمع والبصر من يتبع علمه إدراك حسه ، لا من هو دائماً سميع بصير بما هو دائماً عليم ، فهو سبحانه يسمع الأشياء وإن لم تتسم ، ويراها وإن لم تتصور ، رؤيته لها وسمعه في خلقها وبريها وتصويرها رؤية دائمة وسمع دائم ، والخلق لا يرون الشيء قبل تصوره ولا يسمعونه قبل تكلمه - انتهى .
فقد صرحت الآية بتنزيهه عن مساوٍ في شيء ما ، فمن ادعى لأحد مساواته في شيء من صفاته علم أو غيره فقد أشرك به في تلك الصفة وهو أشد ملامة من المشرك بالصنم ونحوه من المخلوقات لأن إشراك هذا ظاهر الوهي واضح الخلل بين السفسفة ، وإشراك الأول خفي لا يقدر على حله إلا راسخ وإن كان كل منهما يصير إلى الركاكة والهذيان لأنه لا يسوغ في عقل أن يكون أحد شريكاً لأحد في شيء إلا وهو مساوٍ له في حقيقة الذات ، وصالح في الجملة لأن يقوم مقامه في جميع الصفات ، فإياك ثم إياك من مزلة ربما استغوى بها الشيطان بعض من يريد الترقي في درجات العرفان ، ليخرجه من جميع الأديان .
ولما قرر أمر الوحي بما ثبت به من الإعجاز ، وأرهم الآيات في الآفاق ، بأن له ما في الوجود ، وأنه هو الذي فطره ، وكان ربما كان للإنسان شيء ولم يكن كامل التصرف فيه بأن يكون مفاتيح خزائنه مع غيره من شريك أو غيره ، وكان ربما اخترع الإنسان بناء وكان لغيره ، أخبر إكمالاً لتنزيه الآية السالفة وشرحاً له أنه تعالى ليس كمثله شيء كغيره في هذا أيضاً بل كما كان أن له ما في الخافقين وهو مخترعهما فله مفاتيح خزائنهما ، فقال : ( له ) أي وحده ) مقاليد السماوات والأرض ) أي خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الأمطار والأنبات وغيرهما وقد ثبت أنه ابتدعهما ، وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره ، قال القشيري : والمفاتيح الخزائن وخزائنه مقدوراته - انتهى .
ولما كان قد حصر الأمر فيه دل عليه بقوله : ( يبسط الرزق ) أي الذي فيهما ولا مانع إلا قدرته ) لمن يشاء ) أي أن يبسطه له ) ويقدر ) أي يضيق ويقبض على من يشاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب وفاوت في الأفراد ، بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم ، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده من غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له ، فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة
77 ( ) استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال ( ) 7
[ الآية 12 : نوح ]
77 ( ) ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ( ) 7
[ الطلاق : 11 ]
77 ( ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات(6/608)
صفحة رقم 609
من السماء والأرض ( ) 7
[ الأعراف : 96 ] ) ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (
77 ( ) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ( ) 7
[ الآية 66 : المائدة ] .
ولما كان كأنه قيل : لم فعل ذلك ؟ علله بقوله مؤكداً لأن أعمال غالب الناس في المعاصي عمل من يظن أنه سبحانه يخفى عليه عمله : ( إنه بكل شيء عليم ( فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة ، فلو أنه وسع العرب وقواهم ثم أباحهم ملك أهل فارس والروم لقبل بقوتهم ومكنتهم ، وله في كل شيء دق أو جل من الحكم ما يعجز عن إدراك لطائفة افاضل الأمم .
ولما ثبت أن له كل شيء وأنه لا متصرف في الوجود سواه ، أنتج ذلك أنه لا ناهج لطرق الأديان التي هي أعظم الرزق وأعظم قاسمة للرزق غيره ، فأعلمهم أنه لم يشرع ديناً قديماً وحديثاً غير ما اتفقوا عليه وقت الشدائد .
فقال دالاً على ما ختم به الآية التي قبلها من شمول علمه ومرغباً في لزوم ما هدى إليه ودل عليه : ( شرع ) أي طرق وسن طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً ) لكم ( أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة ) من الدين ( وهو ما يعمل فيجازي عليه .
ولما كان السياق للدين ، وكانوا هم المقصودين في هذا السياق بالأمر به ، لأن الشارع لهم قد أنتجه ، وكانوا لتقليدهم الآباء يرون أن ما كان منه أقدم كان أعظم وأحكم ، ذكر لهم أول الآباء المرسلين إلى المخالفين فقال : ( ما ) أي الذي ) وصى به ( توصية عظيمة بعد إعلامه بانه شرعه ) نوحاً ( في الزمان الأقدم كما ختم به على لسان الخاتم ، وأرسل به من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير لأنه لا يرضيه سواه ، فإن كنتم إنما تأنفون من الدخول في هذا الدين لحدوثه فإنه أقدم الأديان وكل ما سواه حادث مع أنه ما بعث نبياً من أنبيائكم ولا من غيرهم إلا به ومع أنه توفرت على الشهادة به الفطر الأولى دائماً والفطر اللاحقة حتى من القلوب العاتية في أوقات الشدائد أبداً فأدخلوا فيه على بصيرة .
ولما كان الإعجاز خاصاً بنا ، أبرزه في مظهر العظمة معبراً بالوحي ، وبالأصل في الموصلات ، ودالاً على زيادة عظمته بتقديمه على من كانوا قبله مع ترتيبهم عند ذكرهم على ترتيبهم في الوجود فقال : ( والذي أوحينا إليك ( وأفرد الضمير زيادة في عظمته دلالة على أنه لا يفهمه حق فهمه غيره ( صلى الله عليه وسلم ) ، ودل على عظمه ما كان لإبراهيم وبنيه بما ظهر من آثاره بمظهر العظمة ، وعلى نقصه عما إلى نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بالتعبير بالوصية فقال : ( وما وصينا ) أي على ما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات ) به إبراهيم ( الذي نجيناه من كيد نمرود بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق ، وهو(6/609)
صفحة رقم 610
أعظم آباء العرب وهو يدعون أكبر بالآباء فليكونوا على ما وصيناه به ) وموسى ( الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) وعيسى ( الذي أنزلنا عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظمة ، ودخرناه في سمائنا شريعة الخاتم الفاتح .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الموحى الموصى به ، أبرزه في أسلوب الأمر فقال مبدلاً من معمول ( شرع ) أو مستأنفاً : ( أن أقيموا ) أي أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية ) الدين ) أي الذي عليه الخلائق بالرجوع إلى ما فطروا عليه وقت الاضطرار وهو التوحيد والوصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق وغير ذلك من كل ما أرسل به رسله هذا على تقدير أن تكون ) أن ( مصدرية ، ويجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول .
ولما عظمه الأمر بالاجتماع ، أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فقال : ( ولا تتفرقوا ) أي تفرقاً عظيماً بما أشار إليه إثبات التاء ، وكأن ذلك إشارة إلى التحذير من التفرق في الأصل وإذن في الاجتهاد على قدر في الفرع ) فيه ) أي الدين في أوقات الرخاء عند التقلب في لذيذ ما أنعم به الشارع له الآمر به المرغب في اتباعه المرهب من اجتنابه ، واجتمعوا على ما أرسله الذي أثبتم له جميع صفات الكمال عند الشدائد من غير خلاف أصلاً في شيء من الأشياء ، فإن التفرق سبب الهلاك ، والاجتماع سبب النداة ، فكونوا يداً واحدة يا أهل الكتاب قال تعالى ) يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ( .
ولما نهى عن التفرق ، حث على لزوم الاجتماع اللازم به تعليل النهي بقوله : ( كبُر على المشركين ) أي جل وعمظم وشق حتى ضاقت به صدورهم ، وهو ) ما تدعوهم إليه ( أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانيته الواحد القهار ، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم عنه فإن تفرقتم عنه كنتم قد تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود .
ولما كان الإخبار بكرّه عليهم ربنا أوهم اتباع أتباعهم له ، أزال ذلك الوهم بقوله جواباً لمن كأنه قال : كيف السبيل مع ذلك إلى دخول أحد في هذا الدين ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تعظيماً للقدرة على جميع القلوب : ( الله ) أي الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر ) يجتبي ) أي يختار بغاية العناية ويصرف ) إليه ) أي إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه ) من يشاء ( اجتباءه .
ولما ذكر سبحانه بهذا المراد بغير تكسب منه ، أتبعه المعنى بالسلوك فقال :(6/610)
صفحة رقم 611
) ويهدي إليه ( بالتوفيق للطاعة ) من ينيب ) أي فيه أهلية لأن يحدد الرجوع إلى مراتب طاعاته كل حين بباطنه بعد الرجوع بظاهر إلى ما كتبه له من الدرجات كأنه كان الوصول إليها قد نزل عنها وهو بترقيه في المنازلات بأحوال الطاعات يرجع إليها .
الشورى : ( 14 - 16 ) وما تفرقوا إلا. .. . .
) وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( ( )
ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم ، وكان ذلك مفهماً لأنهم فارقوا أهل الطاعة ، وكان ذلك موهماً لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا : ( وما تفرقوا ) أي المشركين من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم ) إلا ( وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال : ( من بعد ما جاءهم ) أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً ) العلم ) أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة ، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فترطق إلى علمهم نسيان كل ذلك بياناً لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب ، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاءكم له .
ولما ترك طريق العلم عجباً ومستبعداً ، قال مبيناً أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى : ( بغياً ) أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلاً بل تكون إراداته تابعة لأمر مولاه .
ولما كان مطلق البغي منافياً لمكارم الأخلاق ، فكان ارتكابه عجباً ، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها ، بل كان خاصاً بها ، فقال : ( بينهم ( .
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة ، قال عاطفاً على ما تقديره : فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبداً : ( ولولا كلمة ) أي لا تبديل لها ) سبقت ) أي في الأزل(6/611)
صفحة رقم 612
بتأخيرهم إلى آجالهم .
ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم ، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعاً فيزدادوا لذلك شرفاً ، وأفرده بالذكر تنبيهاً على ذلك فقال مؤنساً له ( صلى الله عليه وسلم ) بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في امته ، وزاد 1 لك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه ، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه : ( من ربك ) أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم ، سبقت الكلمة بإمهالهم ) إلى أجل مسمى ( ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة ) لقضي ( على أيسر وجه وأسهله ) بينهم ( حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق .
ولما أخبر عن حال المتقدمين ، وكان من في زمانه صلى الله عليه ولم من أهل الكتاب يدعون غاية العلمل بها والاجتماع عليها ، وهي كلها إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع ، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره ، وإنكار أن يكون عنده نوع شك ، قال على وجه يعم غيرهم ، مؤكداً تنبيهاً على ذلك : ( وإن الذين ( ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع ، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل ، بني للمفعول قوله : ( أورثوا الكتاب ) أي الكامل الخاتم ، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات ، فورثوا كما قال تعالى ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) [ فاطر : 32 ] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال : ( من بعدهم ) أي المتفرقين ، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان ) لفي شك منه ) أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير ، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون : إنه سحر وشعر وكهانة ، ونحو ذلك ، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به ، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به ، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم ) مريب ) أي موقع في التهمة الموقعة في كتابنا ، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم ، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما ثبت بهذا زيغهم عن اوأمر الكتاب الآتي من الله ، سبب عنه أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحد مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه ، قالوا : ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسبباً عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل(6/612)
صفحة رقم 613
بضدها : ( فلذلك ) أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم ، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب .
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه ، قدم قوله : ( فادع ( إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية .
ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه ، قال : ( واستقم ) أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه ) كما أمرت ( ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم .
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى ، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى ، قال : ( ولا تتبع ) أي تعمداً ) أهواءهم ( في شيء ما ، فإن الهوى لا يدعو إلى خير ، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه .
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أمره بما يخالف حالهم فقال : ( وقل ) أي لجميع أهل الفرق ، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق : ( آمنت بما ) أي بكل شيء .
ولما كان أكمل الناس إيماناً أكثرهم استحضاراً لأوصاف الكمال من الجلال والجمال ، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال : ( أنزل الله ) أي الذي له العظمة الكاملة ) من كتاب ( لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله ، بل كل كتاب ثبت النظرية ، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي : حدثنا أبو بكر - هو ابن الأنباري - حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان ؟ قال : الإيمان على أربع دعائم : على الصبر واليقين والعدل والجهاد ، والصبر على أربع شعب : على الشوق والشفق والزهادة والترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات ، واليقين على أربع شعاب : تبصرة الفطنة وتاويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين ، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ، ومن تأول الحكمة عرف بالعبرة ، ومن عرف العبرة عرف السنة ، ومن عرف السنة فكأنما(6/613)
صفحة رقم 614
كان في الأولين ، والعدل على أربع شعب : على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم ، فمن فهم جمع العلم ، ومن حلم لم يضل في الحكم ، ومن علم عرف شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط أمره ، وعاش في الناس .
والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين ، ومن صدق في المواطن فقد قضى عليه ، ومن شنئ المنافقين غضب الله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه ، قال : فقام الرجل فقبل رأسه .
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية ، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال : ( وأمرت ) أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ ) لأعدل ) أي لأجل أن أعدل ) بينكم ( أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعى إليه كمال القوة العملية ، ثم علل ذلك بقوله : ( الله ) أي الذي له الملك كله ) ربنا وربكم ) أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا ، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده .
ولما كان الرب واحداً ، انتج عنه قوله : ( لنا أعمالنا ( خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا ) ولكم أعمالكم ( خاصة بكم لا تعدونا إلى غيركم ، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره ، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض ، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال ، فهو منزه عن الأغراض ، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب ، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك : ( لا حجة ) أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه ) بيننا وبينكم ( لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فى فائدة بعدة للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف ، وإدارة كؤوس الحتوف ، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه لخللائق على أنه كلامه ، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل ، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملاً بفضيلة الشجاعة .
ولما كان هذا موضع أن يقال : أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده ، أجاب بقوله مظهراً غير مضمر تعظيماً للأمر : ( الله ) أي الذي هو أحكم الحاكمين ) يجمع بيننا ) أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال ، وفي الاخرة على كل حال ) فهو يحكم بيننا (
77 ( ) وسيعلم الذين ظلموا أيّ منلقب ينقلبون ( ) 7
[ الشعراء : 227 ] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة .(6/614)
صفحة رقم 615
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره ، بين أن الأمر فيه على غير ذلك ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمنه كان المبدأ : ( وإليه ) أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات ) المصير ( حساً ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته ، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة - لتصرف الغير فيها - إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم ، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمراً طارئاً يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة .
ولما كان التقدير : فالذين رجعوا إليه طوعاً في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار ، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم ، عطف عليه قوله مبتدئاً بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار : ( والذين يحاجّون ) أي يوردون تشكيكاً على ديه على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججاً ، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب ) في الله ) أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال .
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمراً ملزماً لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال ، قال معلماً إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود ، ومنبهاً بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه : ( من بعدما ( ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال : ( استجيب له ) أي استجاب له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستحبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل ، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور ، ولم يبق إلا العناد ، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله ) لا حجة بيننا وبينكم ( .
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج ، قال معبراً بمبتدأ ثان مفرداً للحجة إشارة إلى ضعفها : ( حجتهم ) أي التي زعموها حجة ، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبراً عن الأول فقال : ( داحضة ) أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى ، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن ) عند ( للأمور الظاهرة المألوفة ، وصفة التربية للعطف والرفق ، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف ، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب ، فالمعنى أن دحوضها ظاهراً جداً ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو(6/615)
صفحة رقم 616
خصوا بمزيد عطف وبر ، فأين هذا مما لو قيل ) لدى عليم قدير ( فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة ، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة : ( عند ربهم ) أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم ، فمهما جردوه عن الهوى ، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل ، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم ، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب ) وعليهم ( زيادة على قطع الإحسان ) غضب ) أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد ، فهم مطرودون عن بابه ، مبعودون عن جنابه ، مهانون بحجابه .
ولما أفهم التعبير ب ( على ) ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام ، بل كان مفهماً التهكم والملام فقال : ( ولهم ) أي مع ذلك ) عذاب شديد ( لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه ، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه .
الشورى : ( 17 - 20 ) الله الذي أنزل. .. . .
) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلَ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ( ( )
ولما جزم سبحانه بما توعدهم بعد بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض ، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم ، نبه على أنه كذلك ، مبيناً ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب ، بقوله لافتاً القول إلى الاسم الأعظم تنبيهاً على عظمة المخبر عنه : ( الله ) أي الذي له جميع الملك ) الملك ( وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال : ( انزل الكتاب ) أي أوجد إنزاله هو لا غيره ) بالحق ) أي متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها .
ولما كان الكتاب آمراً بالعدل قالاً وحالاً ، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة ، قال مخصصاً معبراً بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند(6/616)
صفحة رقم 617
العقل وأبين من الميزان للحس : ( والميزان ) أي الأمر به مريداً به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في ) لا عدل بينكم ( مجازاً .
ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذباً ، وكان التقدير بما هدى إليه السياق له ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم : فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقيق العدل فيهما بمها فاز ، ومن أهمل ذلك خاب يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر ، عطف عليه قوله موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيماً للأمر : ( وما يدريك ( يا أكمل الخلق ) لعل الساعة ( التي أشير إليها في هذه الآية بقوله ) عند ربهم ( بعد أن صرح بها في آية .
ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت ، ذكرها فقال : ( قريب ( فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق ، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب ، أو على حذف مضافة أي مجيئها ، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة ، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه ، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الاعمال ظهوراً لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى ، ويخزي من جار وجفا .
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم ، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها ، فغنه لا بد من كونها ) يستعجل بها ) أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها ) الذين لا يؤمنون بها ) أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل ، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته .
ولما دل على جهل الكافرين ، دل على أضدادهم فقال : ( والذبين آمنوا ( وإن كانوا في أول درجات الإيمان ) مشفقون ) أي خائفون خوفاً عظيماً ) منها ( لأن الله هداهم بإيمانهم ، فصارت معادن المعارف ، وقلوبهم منابع الأنوار ، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار ، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار .
ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه ، قال : ( ويعلمون(6/617)
صفحة رقم 618
أنها الحق ( إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها ، فهم لا يستعجلون بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده اولاً .
قال ابن كثير : وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد أن رجلاً سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه : يا محمد ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنحو من صوته ( هاؤم ) فقال : متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه : ( ويحك أنها كائنة فما أعددت لها ؟ ) فقال : حب الله ورسوله ، فقال : ( أنت مع من أحببت ) .
قال ابن كثير : فقوله في الحديث ( المرء مع من أحب ) متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها - انتهى ، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو .
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها ، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم : ( ألا إن الذين يمارون ) أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة لتسخرج ما عساه يكون فيها من اللبن ) في الساعة ) أي القيامة وما تحتوي عليه ) لفي ظلال ) أي ذهاب جائر عن الحق ) بعيد ( جداً عن الصواب ، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً .
ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف ، وكان هذا عين اللطف ، فأنه الوصول إلى الشيء بضده ، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه ، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق ، أنتج ذلك قوله : ( الله ) أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد ) لطيف ) أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع ، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه ، قال القشيري : اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح ، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية ، وقال الرازي في اللوامع : هو اسم مركب من علم(6/618)
صفحة رقم 619
ورحمة ورفق خفي ) بعباده ( - انتهى .
أما المؤمن فواضح ، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى ، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف ، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء ، وأن يكون الخوف أغلب .
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق ، فإنه يوسع على من لا حيلة له ، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة ، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع ، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم ، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف : ( يرزق من يشاء ( مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك ، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته ، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه .
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال : ( وهو القوي ) أي فلا يضيق عطاؤه بشيء ) العزيز ( فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء .
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده ، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل : هل يكون الرزق بشدة السعي أولاً ، وبدأ برزق الروح لشرفه : ( من كان ) أي من شريف أو دنيء ) يريد ( ولما كان مدار مقصد السورة على الدين ، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة ، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب ، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله ، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال : ( حرث الآخرة ) أي أعمالها وإنجاحها إلا الله ، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة ، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه : ( نزد له ) أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها ) في حرثه ( بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه ، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة ، وطى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر ) ومن كان ) أي من قوي أو ضعيف ) يريد حرث الدنيا ) أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي(6/619)
صفحة رقم 620
ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة ) نؤته منها ( ما قسمناه له ، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه ، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد ، وأم الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله ) وما ) أي والحال أن طالب الدنيا ما ) له في الآخرة من نصيب ( أصلاً ، روى أبيّ بن كعب رضي الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال : صحيح الإسناد - والبهيقي ، وذلك لأن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها ، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله ، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله ، قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف : مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا ، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا ، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك ، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال ) ويريدون وجهه ( طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس - انتهى ، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوث الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار ، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره .
الشورى : ( 21 - 24 ) أم لهم شركاء. .. . .
) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ( )(6/620)
صفحة رقم 621
ولما تقرر ما شرع من الدين مما وصى به جميع النبيين فبانت أصوله ، واتضحت فروعه وفصوله ، وظهرت غرائبه وأشرقت فرائده وآياته ، وختم بالقانون الأعظم في أمر الدارين مما هو مشاهد ولا يقدر عليه غيره ، فكان التقدير من غير خفاء : هذا شرع الله الذي ارتضاه لعباده وحكم بأن الإقبال عليه غير ضار بطلب الرزق وقدر الأرزاق فلا قدرة لأحد أن يزيد في رزقه شيئاً ، ولا أن ينقص منه شيئاً ، أقبلوه ؟ عادل ذلك بقوله تعالى مقرراً موبخاً منبهاً على ما هو الأصل في الضلال عن قوانينه المحررة وشرائعه الثابتة المقررة : ( أم لهم ) أي لهؤلاء الذيب يروغون يميناً وشمالاً ) شركاء ( على زعمهم شاركوا الشارع الذي مضى بيان عزته وظهور جلاله وعظمته في أمره حتى ) شرعوا ) أي الشركاء الذين طرقوا ونهجوا ) لهم ) أي للكفار ، ويجوز أن يكون المعنى : شرع الكفار لشركائهم ) من الدين ( في العبادات والعادات التي تقرر في الأذهان أنه لا بد من الجزاء عليها لما جرت به عوائدهم عن محاسبة من تحت أيديهم وقدروا لهم من الأرزاق ، وعدل عن أسلوب العظمة إلى الاسم الأعظم إشارة إلى ما فيه مع العظمة من الإكرام الذي من جملته الحلم المقتضي لعدم معاجلتهم بالأخذ فقال تعالى : ( ما لم يأذن به الله ) أي يمكن العباد منه بأمرهم به وتقديرهم عليه الملك الذي لا أمر لأحد معه ، وقد محقت صفاته كل صفة وتضاءل عندها كل عظمة ، فأقبلوا عليه دون غيره لكونه معتداً به ، فإن كان كذلك فليسعدوا من أقبل على الدنيا التي هي محط أمرهم فلا يعرفون غيرها بأن يعطوه جميع مراده ويشقوا من أراد الآخرة وسعى لها سعيها ، ونسب الشرع إلى الأوثان لأنها سببه كما كانت سبب الضلال في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم خليله عليه الصلاة والسلام ) رب إنهن أظللن كثيراً من الناس ( ويضاف الشركاء إليه تارة لأنهم متخذوها وتارة إلى الله تعالى لأنهم أشركوهم به ، والعبارة تأتي بحسب المقام .
ولما علم قطعاً أن التقدير : فلولا أن هذه الأفعال التي يفعلونها من غير إذن منه لا تنقص من ملكه سبحانه شيئاً ، ولا تضر إلا فاعلها مع إنها بإرادته ، فكانت لمنعهم عنها لم يصلوا إلى شيء منها ، عطف عليه قوله تعالى : ( ولولا كلمة الفصل ( التي سبق في الأزل أنها لا تكون ولما كان أمرهم هيناً ، بني الفعل للمفعول ، فقال : ( لقُضي بينهم ) أي بين الذين امتثلوا أمره فالتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت ولكنه قد سبق القضاء في أزل الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة ، فهي تجري على حد لها ولا تقدم لشيء منها ولا تأخر ولا تبدل ولا تغير ، وستنكشف لكم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق به القضاء بأن يكون للمقسطين نعيم مقيم .(6/621)
صفحة رقم 622
ولما كانوا ينكرون أن يقع بهم عذاب ، قال مؤكداً عطفاً على ما قدرته بما أرشد إليه السياق : ( وإن الظالمين ( بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره ) لهم عذاب أليم ) أي مؤلم إيلامه .
ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل ، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة ، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال : ( ترى ) أي في ذلك اليوم لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية ) الظالمين ) أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها ) مشفقين ) أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر .
ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم ، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم ، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال : ( مما كسبوا ) أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم ) وهو ) أي جزاءه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو ) واقع بهم ( لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران ، ذلك هو الخسران المبين ، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا ) والذين آمنوا ( يصح أن يكون معطوفاً على مفعول ) ترى ( وأن يكون معطفوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ ) وعملوا الصالحات ( وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهعم في فعله وهو مغفور لهم ما فطروا فيه ) في روضات الجنات ) أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال ، وفي الاخرة حقيقة بلا زوال ) لهم ما يشاؤون ) أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان ، فقال : ( عند ربهم ) أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم ، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم .
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال : ( ذلك ) أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر ) هو ( لا غيره ) الفضل ) أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه ، ولو بالغ في الإنفاق ) الكبير ( الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام ، فالآية كما ترى من الاحتباك : أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً ، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً .
ولما ذكر محلهم ومآلهم فيه ، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً : ( ذلك ) أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها ، وأخبر عن المبتدأ بقوله : ( الذي يبشر ) أي مطلق(6/622)
صفحة رقم 623
بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل ، وزاد البشارة بالاسم الأعظم ، فقال لافتاً القول إليه : ( الله ) أي الملك الأعظم والعائد وهو ( به ) محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي ، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه ، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال : ( عباده ( ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته .
ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم ، نص عليه بقوله : ( الذين آمنوا ) أي صدقوا بالغيب ) وعملوا ( تحقيقاً لإيمانهم ) الصالحات ( وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا .
ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل لأن بشارته قائمة مقام السؤال ، قال كعب بن مالك رضي الله عنه : لما أذن الله بتوبته علينا ركض نحوي راكض على فرس وسعى ساع على رجليه ، فأوفى على جبل سلع ونادى : يا كعب بن مالك أبشر ، فقد تاب الله عليك ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته خلعت له ثوبي ، فدفعتهما إليه ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما - إلى آخر حديثه ، كان كأنه قيل : ماذا تطلب على هذه البشارة ، فأمر بالجواب بقوله : ( قل ) أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين : ( لا أسئلكم ) أي الآن ولا في مستقبل الزمان ) عليه ) أي البلاغ بشارة ونذارة ) أجراً ) أي وإن قل ) إلا ) أي لكن أسألكم ) المودة ) أي المحبة العظيمة الواسعة .
ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال : ( في القربى ) أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها ، لا يخرج شيء من محبتكم عنها ، فإنها يها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه ، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل ، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين ، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم قرابة ، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، وروى عن سعيد بن جبير : إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم ، قال ابن كثير : وقال السدي : لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج(6/623)
صفحة رقم 624
دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة ، فقال له علي : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم قال : ما قرأت ) قلا لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ( قال : وإنكم لأنتم هم ، قال : نعم .
وعن العباس رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غضباَ شديداً وقال : ( والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله ) ، وعنه أنه دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودر عرق بين عينيه ، ثم قال : ( والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي ) وعبر في المنقطع بأداة الاستثناء إعراقاً في النفي بالإعلام بأنه لا يستثني أجر اصلاً إلا هذه المودة إن قدر أحد أنها تكون أجراً ، ويجوز أن تكون ( إلا ) بمعنى ( غير ) فيكون من باب :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فمن كان بينه وبين أحد من المسلمين قرابة فهو مسؤول أمن يراقب الله في قرابته تلك ، فيصل صاحبها بكل ما تصل قدرته إليه من جميع ما أمره الله به من ثواب أو عقاب ، فكيف بقرابة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فانه قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الطبراني وأبو نعيم في الحيلة عن أبي ذر رضي الله عنه : ( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها هلك ) وقال فيما رواه في الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .
قال الأصبهاني : ونحن الآن في بحر التكليف محتاجون إلى السفينة الصحيحة والنجوم الزارهة ، فالسفينة حب الآل ، والنجوم حب الصحب ، فنرجو من الله السلامة والسعادة بحبهم في الدنيا والآخرة - والله أعلم .(6/624)
صفحة رقم 625
ولما كان التقدير حتماً : فمن يقترف سيئة فعيله وزرها ، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه ، عطف عليه قوله : ( ومن يقترف ) أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج ) حسنة ) أي ولو صغرت ، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء ، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال : ( نزد ( على عظمتنا ) له فيها حسناً ( بما لا يدخل تحت الوهم ، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وهذا من أجر الرسل على إبلاغه إلى الأمم ، فهم أغنياء عن طلب غيره - هذا إن اهتدوا به ، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا ، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره ، بل قدر الله وما شاء فعل .
ولما كانوا يقولون : إنا قد ارتكبنا من المساوئ ما لم ينفع معه شيء ، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معلىً مبيناً القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق : ( إن الله ) أي الذي لا يتعاظمه شيء ) غفور ( لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء ، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة .
ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزياة عليها لا يصح إلا مع الغفران ، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة ، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة ، أفادها - أي الزيادة - بقوله : ( شكور ( فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه .
ولما أثبت أنه أنزل الكتاب بالحق ، ودل على ذلك إلى أن ختم بنفي الغرض في البلاغ فحصل القطع بضمون الخبر ، كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم : هل عملوا بما نبهناهم عليه مما يدعون أنهم عريقون فيه من صلة الرحم والإقبال على معالي الأخلاق باجتناب السئيات وارتكاب الحسنات ، والبعد عن الكذب والمكابرة والبهتان ، فاعتقدوا أنه حق وأنه وحي من عند الله بما قام على ذلك من البرهان : ( أم يقولون ( عناداً : ( افترى ) أي تعمد أن يقطع ، وقدم ذكر الملك الأعظم تنبيهاً على أنه لا أفظع من الكذب على ملك الملوك مع فهم المفعول به من لفظ الافتراء فقال : ( على الله ( الذي أحاط بصفات الكمال ، فله العلم الشامل بمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه ) كذباً ( حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله لهذا الدين .
ولما كان التقدير قطعاً : إنهم ليقولون ذلك وكان قولهم له قولاً معلوم البطلان لأنه تحداهم بشيء من مثله في زعمه أنه له مثلاً ليعلم صحة قولهم فلم يأتوا بشيء وهم وإن كانوا قد يدعون أنه يمنعهم من ذلك أنهم لا يستجيزون الكذب مبطلون لا يمتري(6/625)
صفحة رقم 626
عاقل في بطلان منهم أيضاً منهم أن ينسوا ما يأتون به إلى اله على أنه لو طلب منهم ذلك لما كان عذراً ، لأنه لا يتوقف أحد في أن الضرورات تبيح المحذورات ، وأنه يرتكب أخف الضررين لدفع أثقلهما ، فالإيتان بكلام يسر يسكن به فتن طوال وتنقطع به شرور كبار في غاية الحسن لأن الخطب فيه سهل ، والأمر يسير ، فكان ذلك وهم يرتكبون أكبر منه من قطع الأرحام وتفريق الكلمة لقتل النفوس وتخريب الديار وإتلاف الأموال دليلاً قاطعاً على أنهم إنما يتركونه عجزاً ، تسبب عن قولهم هذا وهو نسبتهم له إلى تعمد الكذب أن قال تعالى رداً عليهم ببيان كذبهم فيما قالوا ببيان ما له ( صلى الله عليه وسلم ) من نور القلب اللازم عن استقامة القول : ( فإن ( وأظهر الجلالة ولم يضمر تعظيماً للأمر بأن الختم لا يقدر عليه إلا المتصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق من غير تقيد أصلاً فقال : ( يشأ الله ) أي الذي له الإحاطة بالكمال ) يختم ( وجرى على الأسلوب السابق في الخطاب لأعظم أولي الألباب فقال معبراً بأداة الاستعلاء : ( على قلبك ( فيمنعه من قبول روح هذا الوحي كما ختم على قلوب أعدائك من قبول ذلك ، فتستوي حينئذ معهم في دعم القدرة على الإيتان بشيء منه وتصير لو قلت وقد أعاذك الله عما يقولون مما يصح نسبته إلى الباطل لم تقله إلا ومعه الأدلة قائمة على بطلانها ، وكان الأصل في الكلام : أم يقولون ذلك وأنهم لكاذبون فيه بسبب أن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك فلا تقول فولاً إلا كانت الأدلة قائمة على صدقه ، ولكنه ساق الكلام هكذا لأنه مع كونه أنصف دال على تعليق بالافتراء على ختم القلوب ، وذلك دالاً قطعاً على أنهم هم الكاذبون لما على قلوبهم من الختم الموجب لأنها تقول ما الأدلة قائمة على كذبه .
ولما كان التقدير كما دل عليه السياق : ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف ، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف ، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف ، عطف عليه قوله : ( ويمحُ الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) الباطل ( وهو قولهم ( افترى ) وكل كذب فلا يدع له أثراً ، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند ، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به الإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه ، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه ، ومعناه تأكيداً(6/626)
صفحة رقم 627
للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته : وصبر كما أمر لحولته ، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع ، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال : ( ويحق ) أي يثبت على وجه لا يمكن زواله ) الحق ) أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره ، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال : ( بكلماته ) أي التي ) ) لو كان البحر مداداً ( ) [ الكهف : 109 ] الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب ، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قول وصاب أمره ، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته ، وأما للأغبياء فإبثات قوله ومحو قولهم .
ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل ، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء ، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم : ( إنه عليم ) أي بالغ ) بذات الصدور ) أي ما هو فيها مما يعمله صاحبه ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك ) ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( ) [ ص : 88 ] ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقول ( صلى الله عليه وسلم ) وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه ، ومن أصدق من الله قيلاً .
الشورى : ( 25 - 30 ) وهو الذي يقبل. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( ( )
ر بضلالهم وجزم بإبطال أعمالهم ، رغبهم رحمة منه لهم في التوبة التي هي من الحق الذي يحقه ولو على أقل وجوها بأن يقولوها بألسنتهم ليبلغه ذلك عنهم ، فإن قول اللسان يوشك أن يدخل إلى لا غيره أزلاً وأبداً ) والذي يقبل التوبة ( كلما شاء بالغة له أو متجاوزاً ) عن عباده ( الذين خالصون لطاعته ، سئل أبو الحسن البوشنجي عن التوبة فقال : إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك .
ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال : ( ويعفو عن(6/627)
صفحة رقم 628
السيئات ) أي التي كانت التوبة عنها صغيرة أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها أن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما كان قبله .
ولما كانت تعدية القبول ب ( عن ) مفهمة لبلوغه ذلك بواسطة ، فكان ربما اشعر بنقص في العلم ، أخبر بما يوجب التنزيه عن ذلك ترغيباً وترهيباً بقوله : ( ويعلم ) أي والحال أنه يعلم كل وقت ) ما تفعلون ) أي كل ما يتجدد لهم عمله سواء كان عن عاصم ورويس عن يعقوب بالخطاب لافتاً للقول عن غيب العباد لأنه أبلغ في التخويف وقرأ الباقون بالعيب نسقاً على العباد وهو ، أعم وأوضح في المراد فعفوه عن سعة الحلم .
ولما رغب بالعفو زاد الإكرام فقال : ( ويستجيب ) أي يوجد بغاية العناية والطلب إجابة ) الذين آمنوا ) أي دعاء الذي أقروا بالإيمان في كل ما دعوه به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا ، وعدى الفعل بنفسه تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلتهم به ) وعملوا ( تصديقاً لدعواهم الإيمان ) الصالحات ( فيثيبهم النعيم المقيم ) ويزيدهم ) أي مع ما دعوا له ما يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم ولما كان هذا وإن كان الأول فضلاً منه أبين في الفضل قال تعالى : ( من فضله ( على أنه يجوز تعليقه بالفعلين .
ولما رغب الذين طالت مقاطعتهم في المواصلة بذكر إكرامهم إذا أقبلوا عليه ، رهب الذين استمروا على المقاطعة فقال : ( والكافرون ) أي العريقون في هذا الوصف ، الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان ) لهم عذاب شديد ( ولا يجيب دعاءهم ، فغيرهم من العصاة لهم عذاب غير لازم التقيد بشديد ، والآية من الاحتباك : ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر الحامل على الطاعة والصاد عن المعصية .
ولما كان المتبادر من الاستجابة إيجاد كل ما سألوه في هذه الدنيا على ما أرادوه وكان الموجود غير ذلك بل كلن أكثر أهل الله مضيقاً عليهم ، وكانت الإجابة إلى كل ما يسأل بأن يكون في هذه الدار يؤدي في الغالب إلى البطر المؤدي إلى الشقاء فيؤدي ذلك إلى عكس المراد ، قال على سبيل الاعتذار لعباده وهو الملك الأعظم مبيناً أن استجابته تارة تكون كما ورد به الحديث لما سألوه ، وتارة تكون بدفع مثله من البلاء وتارة تكون بتأخيره إلى الدار الآخرة ) ولو ) أي هو يقبل ويستجيب والحال أنه لو ) بسط ( ولما كان هذا المقان عظيماً لاحتياجه إلى الإحاطة بأخلاقهم وأوصافهم وما يصلحهم(6/628)
صفحة رقم 629
ويفسدهم والقدرة على كل بذل ومنع ، عبر بالاسم الأعظم فقال : ( الله ) أي الملك الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال تنبيهاً على عظمة هذا المقام : ( الرزق ( لهم - هكذا كان الأصل ، لكنه كره أن يظن خصوصيته ذلك بالتائبين فقيل : ( لعباده ) أي كلهم التائب منهم وغيره بأن أعطاهم فوق حاجتهم ) لبغوا في الأرض ) أي لصاروا يريدون كل ما يشتهونه ، فإن لم يفعل سعوا في إنفاذه كالملوك بما لهم من المكنة بكل طريق يوصلهم إليه فيكثر القتل والسلب والنهب والضرب ونحو ذلك من أنواع الفساد ، وقد تقدم في النحل من الكلام على البغي ما يتقن به علم هذا المكان .
ولما كان معنى أنه سبحانه لا يبسط ذلك بحسب ما يريدونه ، بني عليه قوله سبحانه : ( ولكن ينزِّل ) أي لعباده من الرزق ) بقدر ) أي بتقدير لهم جملة ولكل واحد منهم لا يزيد غن تقدير دره ولا ينقصها ) ما يشاء ( من الماء الذي هو أصل الرزق والبركات التي يدبر بها عباده كما اقتضته حكمته التي بنى عليها أحوال هذه الدرر .
ولما كان أكثر الناس يقول في نفسه : لو بسط إليّ الرزق لعملت الخير ، وتجنبت الشر ، وأصلحت غاية الإصلاح ، قال معللاً ما أخبر به في أسلوب التأكيد : ( إنه ( وكان الأصل : بهم ، ولكنه قال : ( بعباده ( لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم : ( خبير بصير ( يعلم جميع ظواهر أمورهم وحركاتهم وانتقالاتهم وكلامهم وبواطنها فيقيم كل واحد فيما يصلح له من فساد وصلاح وبغي وعدل ، ويهيئ لكل شيء من ذلك أسبابه .
ولما ذكر إنزال الرزق على هذ المنوال ، وكان من الناس ممن خذله الإضلال من يقول : إن ما الناس فيه من المطر والنبات وإخراج الأقوات إنما هو عادة للدهر بين أنه سبحانه هو الفاعل لذلك بقدرته واختياره بما هو كالشمس من أنه قد يحبس المطر عن إبانه وإعادته في وقته وأوانه ، حتى ييأس الناس منه ثم ينزل إن شاء ، فقال معبراً بالضمير الذي هو غيب لأجل أن إنزال الغيث من مفاتيح الغيب : ( وهو ) أي لا غيره قادر على ذلك فإنه هو ) الذي ينزل الغيث ) أي المطر الي يغاث به الناس أي يجابون إلى ما سألوا ويغاثون ظاهراً كما ينزل الوحي الذي يغاثون به ظاهراً وباطناً .
ولما كان الإنزال لا يستغرق زمان القنوط ، أدخل الجار فقال : ( من بعد ما قنطوا ) أي يئسوا من إنزاله وعملوا انه لا يقدر على إنزاله غيلاه ، ولا يقصد فيه سواه ، ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وينشره - هكذا كان الأصل ولكنه لما بين أنه غيث قال بياناً ذلك أدعى لهم إلى الشكر وينشره - وهكذا كان الأصل ولكنه لما بين أنه غيث قال بياناً لأنه رحمةً ، وتعميماً لأثره من النبات وغيره : ( وينشر رحمته ) أي على السهل والجبل فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما يملأ الأرض بحيث لو اجتمع(6/629)
صفحة رقم 630
عليه الخلائق ما اطاقوا حمله ، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ، ونبات ونجم وأشجار ، وحب وثمار ، وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار ، فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة ، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير ، وفي لطافته ألطف من النسيم ، ومن سوق الأشجار التي تثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير ، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور ، أو يحيد من ذلك بنوع من الغرور .
ولما أنكر عليهم فيما مضى اتخاذ ولي من دونه بقوله تعالى ) أم اتخذوا من دونه أولياء ( وأثبت أنه هو الولي ، وتعرف إليهم بآثاره التي حوت أفأنين أنواره ، وكانت كلها في غاية الكمال موجبة للحمد المتواتر المنوال ، قال : ( وهو ) أي وحده لا غيره ) الولي ) أي الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء ) الحميد ) أي الذي استحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله .
ولما كان ما مضى من بسط الرزق وقبضة ، وإنزال الغيث وحبسه .
من الآيات العظمية ، عمم بذكر ما ذلك بعض منه ، وهو دال على جميع ما ختم به الآية السالفة من الحمد الذي هو الاتصاف بجميع صفات الكمال فقال عاطفاً على ما تقديره : فذلك من آيات الله الدالة على قدرته واختياره وإنه هو الذي يحيي هذا الوجود بالمعاني من روح الوحي وغيره تارة والأعيان من الماء وغيره أخرى : ( ومن آياته ( العظيمة على ذلك وعلى استحقاقه لجميع صفات الكمال ) خلق السماوات ( التي تعملون أنها متعددة بما ترون من أمور الكواكب ) والأرض ) أي جنسها على ما هما عليه من الهيئات وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات ) وما بث ) أي فرق بالأبدان والقلوب على هذا المنوال الغريب من الحس والحركة بالاختيار مع التفاوت في الأشكال ، والقدور والهيئات والأخلاق وغير ذلك من النقص والكمال .
ولما كانت الأرض بناء والسماء سقفه ، فمن كان في أحدهما صح نسبته إلى أنه في كل منهما : الأسفل بالإقلال والأعلى بالإظلال قال تعالى : ( فيهما ) أي السماوات والأرض ولا سيما وقد جعل لكل منها تسبباً في ذلك بما أوعهما من الجواهر وأنشأ عنهما من العناصر .
ولما كانت الحياة التي هي سبب الانتشار والدب ربنا أورثت صاحبها كبراً وغلظاً في نفسه نظن أنه تام القدرة ، أنث تحقيراً لقدرته وتوهية لشأنه ورتبته فقلل ) من دابة ) أي شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة من الإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أصنافهم وألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأنواعهم اقطارهم(6/630)
صفحة رقم 631
ونواحيهم وأصقاعهم ومن نظر إلى صنائعه سبحانه تيقن وجوده وقدرته واختياره ، ثم إذا أمعن في النظر وتابع التدبر في الفكر وصل إلى معرفة الصانع بأسمائه وصفاته وما ينبغي له ويستحيل عليه فيحمده بمحامدة التي لا نهاية لها ويسبحه بسبحانه ثم إن أمعن سما إلى الوقوف على حكمة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكنب .
ولما كنا عالمين بأن من أوجد أشياء على ضم أشتاتهم متى شاء مع نقص التصرف والعجز في التقلب كنا جديرين بالعلم القطعي بمضمون قوله تعالى : ( وهو ) أي بما له من صفات العظمة التي يعلم الظاهر معها ، وما غاب عنا أكبر ) على جمعهم ) أي هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم بعد تفرقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره من الحظوظ والأهواء وغير ذلك .
ولما كان الجمع لا بد منه ، عبر بأداة التحقق فقال معلقا بجمع : ( إذا ( وحقق النظر إلى البعث فعبر بالمضارع فقال : ( يشاء قدير ) أي بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم بجمعهم في صعيد واحد يسمعههم الداعي وينفذهم البصر ، ولما ذكرهم سبحانه بنعمه ، وكان السياق لتعداد ما ناسب مقصود هذه السورة منها ، كان الفكر جديراً بأن يخطر له ما في الدنيا من الأمراض والأنكاد والهموم والفهوم بالإشقاء فيها والإسعاد ، قال شافياً لعي سؤاله عن ذلك ما فيه من نعمته على وجه دال على تمان قدرته ، عاطفاً على ما هو مضمون ما مضى بما تقديره : فهو الذي خلقكم ورزقكم وهو المتصرف فيكم بعد بثكم بالعافية والبلاء تمام التصرف ، فلا نعمة عندكم ولا نقمة إلا منه ، ولا يقدر أصحابها على ردها ولا رد شيء مها فهو وليكم وحده ) وما أصابكم ( واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتكبيت العاصي ، وعم بقوله : ( من مصيبة ( وأخبر عن المبتدأ بقوله : ( فبما ) أي كائن بسبب الذي - هذا على قراءة نافع وابن عامر ، وإثبات الفاء في الباقين زيادة في إيضاح السببية فقرأوا ( فبما ) لتضمن المبتدأ الشرط أي فهو بالذي .
ولما كانت النفوس مطبوعة النفوس مطبوعة على النقائض ، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة ، وكان عملها كله أو جله عليها ، فعبر بالفعل المجرد إشارة إشارة إلى ذلك فقال : ( كسبت ( ولما كان العمل غالبا باليد قال : ( أيديكم ) أي من الذنوب ، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير ، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه - والحاكم واللفظ له وقال : صحيح الإسناد - عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول(6/631)
صفحة رقم 632
الله : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين تقصيره ، فيبادر عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره ، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى الهدى ، ولا إلى هذه الكمالات البديعية ، ومثل هذه التنبيهات ليستخرج من العبد ما أودع في طبيعته وركز في غريزته كغرس وزرع سبق إليه وشمس لاستخراج ما أودع في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية .
ولما ذكر عدله ، أتبعه فضله فقال : ( ويعفو عن كثير ( ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن اعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزلوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ قال : لأنهم علموا أن الله ابتلاهم بذنوبهم - وقرأ هذه الآية .
الشورى : ( 31 - 35 ) وما أنتم بمعجزين. .. . .
) وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ( ( )
ولما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز قال : ( وما أنتم بمعجزين ( لوأريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراد سبحانه منكم كائناُ ما كان .
ولما كان من ثبت قدرته على محل العلو بخلقه وما أودعه من المصنوعات أجدر بالقدرة ما دونه ، أشار إلى ذلك بقوله : ( في الأرض ( ولما كان الكلام في العقوبة في الدنيا قبل الموت ، ولم يكن أحد يدعي فيها التوصل إلى السماء ، لم يدع داع إلى ذكرها بخلاف ما مضى في العنكبوت .
ولما نفى امتناعهم بأنفسهم ، وكان له سبحانه من العلو ما تقصر(6/632)
صفحة رقم 633
عنه العقول ، فكان كل شيء دونه ، فكان قادراً على كل شيء قال : ( وما لكم ) أي عند الاجتماع فكيف عند الانفراد .
ولما كانت الرتب في غاية السفول عن رتبته والتضاؤل دون حضرته ، أثبت الجار منبهاً على ذلك فقال : ( من دون الله ) أي المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة ، وعم بقوله : ( من ولي ) أي يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال ) ولا نصير ( يدفع عنكم شيئاً يريده سبحانه بكم .
ولما دل سبحانه على تمام قدرته واختياره وختم بنفسي الشريك اللازم للوحدانية التي اعتقادها أساس الأعمال الصالحة ، دل عليها بأعظم الآيات عندهم وأوضحها في أنفسهم وأقربها إلى إفهامهم لما لهم من الإخلاص عندها فقال تعالى : ( ومن آياته ) أي الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته وعظيم سلطانه تسخيره وتذليله لسير الفلك فيه حاملة ما لا يحمله غيرها ، وهو معنى قوله : ( الجوار ) أي من السفن ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأعلام ، ودل على الموصوف ما بعده فلذلك حذف لأن القاعدة أن الصفة إذا لم تخص الموصوف امتنع حذفه فنقول : مررت بمهندس ، ولا تقول : مررت بماشٍ - إلا بقرينة كما هنا .
ولما كانت ثقيلة في أنفسها ، وكان يوضع فيها من الأحمال ما يثقل الجبال ، وكان كل ثقيل ليس له من ذاته إلا الغوص في الماء ، كانت كأنها فيه لا عليه لأنها جديرة بالغرق فقال تعالى محذراً من سطواته متعرفاً بجليل نعمته معرفاً بحقيقة الجواري : ( في البحر كالأعلام ) أي الجبال الشاهقة بما لها من العلو في نفسها عن الماء ثم بما يوصلها وما فيه من الشراع عليها من الارتفاع ، وقال الخليل : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم .
ولما كان كأنه قيل : وما تلك الآيات ؟ ذكر ما يخوفهم منها ويعرفهم أن جميع ما أباحهم إياه من شؤونها إنما هو بقدرته واختياره فقال : ( إن يشاء ) أي الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة الفكر لها ) يسكن الريح ( التي يسيرها وأنتم مقرّون أن أمرها ليس إلا بيده ) فيظللن ) أي فتسبب عن ذلك أنهن يظللن أنيقمن ليلاً كان أول نهاراً ، ولعله عبر به مع أن أصله الإقامة نهاراً لأن النهار موضع الاقتدار على الأشياء وهو المنتظر عند كل متعسر للسعي في إزالة عسره وتيسر أمره ) رواكد ) أي ثوابت مستقرات من غير سير ) على ظهره ( ثباتاً ظاهراً بما دل عليه إثبات اللامين وفتح لامه الأولى للكل .(6/633)
صفحة رقم 634
ولما كان ذلك موضع إخلاصهم الدعوة لله والإعراض عن الشركاء فإنهم كانوا يقولون في مثل هذا الحال : اخلصوا فإن آلهتكم - أي من الأصنام وغيرها من دون الله - لا تغني في البحر شيئاً ، وكانوا ينسبون ذلك شركاء مع طلوعهم إلى البر كانوا بمنزلة من لا يعد ذلك آية أصلاً ، فلذلك أكد قوله : ( إن في ذلك ) أي ما ذكر من حال السفن في سيرها وركودها مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه بدليل ما للنا سكافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه ) لآيات ) أي على أن إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال أمر مركوز في العقول ثابت في الفطر الأولى مما لا يصد عنه إلا الهوى ، وعلى أن بطلان أمر ما دونه لذلك هو من الظهور بمكان لا يجهل .
ولما كانوا يتمادحون بالصبر على نوازل الحدثان والشكر لكل إحسان ويتذامون بالجزع والكفران ، وكان ذلك يقتضي ثباتهم على حال واحد فإن كان الحق عليهم لمعبوداتهم فرجوعهم عنها عند الشدائد مما لا ينحو نحوهولا يلتفت لفتة أحد من كمل الرجال الذين يجانبون العار والاتسام بمسيم الإغمار ، وإن كان الحق كما هو الحق لله فرجوعهم عنه عند الرخاء بعد إنعامه عليهم بإنجائهم من الشدة لا يفعله ذو عزيمة ، قال مشيراً إلى ذلك بصغتي المبالغة : ( لكل صبار ) أي في الشدة ) شكور ) أي في الرخاء وإن كثر مخالفوه ، وعظم نزاعهم له ، وهاتان صفتا المؤمن المخلص الذي كل خمته بالنظر في الآيات فهو يستملي منها العبر ويجلو بها من البصيرة عين البصر .
ولما نبه بهذا الاعتراض بين الجزاء ومعطوفه على ما فيه من دقائق المعاني في جلائل المباني ، قال مكملاً لما في ذلك من الترغيب في صورة الترهيب : ( أو ) أي أو أن يشاء في كل وقت أراده ، واسند الإيباق إلى الجواري تأكيداً لإرادة العموم في هلاك الركاب فقال : ( يوبقهن ) أي يهلكهن بالإغراق بإرسال الريح وغير ذلك من التباريح حتى كأنهن بعد ذلك العلو في وقبه أي حفره ، وطاق في الماء وقعره ، وقد تقدم تحقيق معنى ( وبق ) بجميع تقاليبه في سورة الكهف ، ومنه أن وبق كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً : هلك ، والموبق كمجلس : المهلك وكل شيء حال بين شيئين لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره ، ومنه قيل للموعد : موبق ، وأوبقه : حبسه أو أهلكه .
ولما كان الإهلاك لهن إهلاكاً للركاب ، قال مبيناً أنها المقصودون مجرداً الفعل إشارة إلى أن ابن آدم لما طبع عليه من النقائص ليس له من نفسه فعل خال عن شوب نقص حثاً له على اللجوء إلى الله في تهذيب نفسه وإخلاص فعله : ( بما كسبوا ) أي فعلوا من المعاصي بجدهم فيهواجتهادهم .
ولما كان التقدير تفصيلاً للإيباق : فيغرق كل من فيهن إن شاء ويغرق كثيراً منهم(6/634)
صفحة رقم 635
إن شاء عطف عليه قوله : ( ويعف ) أي إن يشاء ) عن كثير ) أي من الناس الذين في هذه السفن الموبقه ، فينجيهم بعوم أو حمل عى خشبة أو غير ذلك ، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيسة ، فالفعل كما ترى عطف على يوبق ، وعطف بالواو لأنه قسم من حالي الموبقة ، وهو بمعنى ما ورى عن أهل المدينة من نصب ( يعفو ) بتقدير ( إن ) ليكون المعنى : يوقع إيباقاً وعفواً .
ولما كان هذا كله على صورة الاختبار لن يستبصر فيدوم إخلاصه ، ومن يرجع إلى العمى فلا يكون خلاصه ، قال مبيناً بالنصب للصرف عن العطف على شيء من الأفعال الماضية لفساد المعنى لكونها في حيزالشرط ، فيصير العلم أيضاً مشروطاً : ( ويعلم الذين يجادلون ) أي عند النجاة بالعفو .
ولما كان مقام العظمة شديد المنافاة للمجادلة ، لفت القول إليه فقال : ( في آياتنا ( أيهذه التي لا تضاهي عظمتها ولا تقايش جلالتها وعزتها رجوعاً إلى ما كانوا عليه من الشرك والنزاع في تمام القدرة بإنكار البعث ، ومن واو الصرف يعرف أن مدخولها مفرد في تأويل المصدر لأن النصب فيها بتقدير أن فيكون مبتدأ خبره ما يدل عليه السياق فالتقدير هنا : وعلمه سبحانه بالمجادلين عند هذا حاصل ، والتعبير عنه بالمضارع لإفادة الاستمرار لتجدد تعلق العلم بكل مجادل كلما حصل جدال ، وقراءة نافع وابن عامر بالرفع دالة على هذا ، فإن التقدير : وهو يعلم - فالرفع هنا والنصب سواء ، قال الرضي في شرح قول ابن الحاجب في نواصب الفعل : والفاء - أي ناصبة - بشرطين : السببية ، والثاني أن يكون قبلها أحد الأشياء الثمانية ، والواو الواقعتين بعد الشرط قبل الجزاء نحو أن تأتني فتكرمني أو تكرمني أنت ، أو بعد الشرط والجزاء : إن تأتني إنك فأكرمك أو وأكرمك ، وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني النفي ، إذ تأتيني إنك فأكرمك أو وأكرمك ، وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني النفي ، إذ الجزاء مشروط ووجوده بوجود الشرط ، ووجود الشرط مفروض ، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة ، وعليه حمل قوله تعالى ) ويعلم الذين ( في قراءة النصب ، ثم قال : وكذا ويقول في الفعل المنصوب بعد واو الصرف أنهم لما قصدوا فيها معنى الجمعية نصبوا المضارع بعدها ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدم مرشداً من أول الأمر أنها ليست للعطف فهي إذن إما واو الحال وأكثر دخولها على الاسمية فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، فمعنى قم وأقوم : قم وقيامي ثابت : أي في حال ثبوت قيامي ، وأما بمعنى مع وهي لا تدخل إلا على الاسم قصدوا ها هنا مصاحبة الفعل للفعل منصوباً ما بعدها ، فمعنى قم وأقوم : قم(6/635)
صفحة رقم 636
مع قيامي كما قصدوا في المفعول معه مصاحبة الاسم للاسم فنصبوا ما بعد الواو ، ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر متصيد من الفعل قبله النجاة ، أي لم يكن منك قيام وقيام مني ، لم يكن فيه نصوصية على معنى الجمع ، والأولى في قصد النصوصية في شيء على معنى أن يجعل على وجه يكون ظاهراً فيما قصدوا النصوصية عليه ، وإنا شرطوا في نصب ما بعد فاء السببية كون ما قبلها أحد الأشياء المذكورة أي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض والتحضيض والرجاء لأنها غير حاصلة المصادر فتكون كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع ، ويكون ما بعد الفاء كجزائها ثم حملوا ما قبل واو الجمعية في وجوب كون أحد الأشياء المذكورة على ما قبل فاء السببية التي هي أكثر استعمالاً من الواو في مثل هذا الموضع أعني في انتصاب المضارع بعدها ، وذلك لمشابهة الواو للفاء في أصل العطف ، وفي صرف ما بعدهما عن سنن العطف لقصد السببية في إحدهما والجمعية في الأخرى ، ولقرب الجمعية من التعقب الذي هو لازم السببية ثم قال : وكذا ربما لم يصرف بعد واو الحال قد تدخل على المضارع المثبت كما ذكرنا في باب الحال ، نحو قمت وأضرب زيداً أي وأنا أضرب .
ولما كان علم القادر بالمعصية موجباً لعذاب من عصاه ، كان كأنه قيل : قد خسر من فعل ذلك فيا ليت شعري ما يكون حالهم ؟ أجاب بقوله : ( ما لهم من محيص ) أي محيد ومفر أصلاً عن عذابه ، ولا بشيء يسير ، وإن تأخر في نظركم إيقاع العذاب بهم فإن عذابه سبحانه منه ما هو باطن وهو الاستدراج بالنعم وهذا لا يدركه إلا أرباب القلوب المقربون لدى علام الغيوب ، ومنه ما هو ظاهر ، ويجوز أن يكون ( الذين ) فاعل ( يعلم ) ، وحينئذ تكون هذه الجملة في محل نصب لسدها مسد مفعول العلم .
الشورى : ( 36 - 39 ) فما أوتيتم من. .. . .
) فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( ( )
ولما علم أن جميع النعم من الغيث وأثاره ، ومن نشر الدواب براً وبحراً بمعرض من الزوال وهو عظيم التقلبات هائل الأحوال سبب عنه قوله محقراً لدنياهم وما فيها من الزهرة بسرعة الذبول والزوال ، والأفوال والارتحال ، ولهم بأنها مع ما ذكر لا قدرة لهم على شيء منها إلا يموت يمن عليهمبها ، وأما هم فقوم ضعفاء لا قدرة لهم على شيء وليس لهم من أنفسهم إلا العجز ، فلو عقلوا لعلموا ولو علموا لعلمموا عمل العبيد ، (6/636)
صفحة رقم 637
وأطاعوا القوي الشديد : ( فما أوتيتم ) أي أيها الناس ) من شيء ) أي من النعم الظاهرة ، وأجاب ( ما ) الشرطية بقوله : ( فمتاع الحياة الدنيا ) أي القريبة الدنيئة لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته ، وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله ) وما ) أي والذي ، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الجامع للترغيب في ذكر آثار الأوصاف الجمالية والترهيب من آثار النعوت الجلالية فقال : ( عند الله ) أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين ) خير ) أي في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعها .
ولما كانت النعم الدنيوية قد تصحب الإنسان طول عمره فتسبب بذلك إلى البقاء قال : ( وأبقى ) أي من الدنيوية لأنه لا بد من نزعها منه بالموت ، ولذلك قيد بالحياة فلا تؤثر الفاني على خساسته على الباقي مع نفاسته .
ولما بين ما لها من النفاسة ترغيباً فيها ، بين من هي له فقال : ( للذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ) وعلى ) أي والحال أنهم صدقوها بأنهم على ، ولفت القول إلى صفة الإحسان لأنها نسب شيء للمتوكل ، وأحكم الأمر بالإضافة إشارة إلى ( إنه إحسان ) هو في غاية المناسبة لحالهم فقال : ( ربهم ) أي الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص له ) يتوكلون ) أي يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم فيه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي ، والتعبير بأداة الاستعلاء تمثيل للإسناد والتفويض إليه بالحمل عليه لأن الحمل أبين في الراحة ، وأظهر في البعد من الهم والمشقة ، ولعل التعبير بالمضارع للتخفيف في أمر التوكل بالرضى بتجديده كلما تجدد مهم ، ومن كان كذلك كان الله ملم ، فيشاركون أهل الدنيا في نيل نعمها ويفارقونهم في أن ربهم سبحانه يجعلها على وجه لا حساب عليهم فيها ، بل ولهلم فيها الأجور الموجبة للنعمة والحبور ، وفي أنه يجعلها كافية لمهماتهم وسادّة لخلاتهم ، ويزيدهم الباقيات الصالحات التي يتسبب عنها نعيم الآخرة بعد راحة الدنيا .
ولما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال ، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على ) الذين ( : ( والذين يجتبنون ) أي يكلفون أنفسهم أن يجابوا ) كبائر الإثم ) أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحثل بها دنس للنفس ، فيوجب عقاباً لها مع الجسم ، وعطف على ) كبائر ( قوله : ( والفواحش ( وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي(6/637)
صفحة رقم 638
هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة الباغلة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه ، وقرأ حمزة والكسائي : كبير ، وهو للجنس ، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد .
ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصرع قال منبهاً على عظمته معبراً بأداة التحقق دلالة على أنه لا به منه توطيناً للنفس عليه معلقاً بفعل الغفر : ( وإذا ( وأكد بقوله : ( ما ( وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال : ( غضبوا ) أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة ، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال : ( هم يغفرون ) أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر ، الكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي ، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه ، وفي الصحيح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله ، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا .
ولما أتم ما منه التحلي ، أتبعه ما به التخلي ، وذكر أوصافاً أربعة هي قواعد النصفة ما انبنى عليها قط ربعها إلا كان الفاعلون لها كالجسد الواحد لا تأخذهم نازلة في الدنيا ولا في الآخرة فقال : ( والذين استجابوا ) أي أوجدوا الإجابة بمالهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد ) لربهم ) أي الداعي لهم إلى إجابته إحسانه إليهم إيجاداً من شدة حمل أنفسهم عليه يطلبونه من أنفسهم طلباً عظيماً صادقاً لم يبق معه لأحدهم نفس ولا بقية من وهم ولا رسم إلا على موافقة رضاه سبحانه لأنهم يعملون أنه ما دعاهم إليه وهو مربيهم لصلاحهم وسعدهم وفلاحهم ، لأنه محيط العلم شديد الحرمة لا يتهم بوجه من الوجوه .
ولما كان هذا عاماً لكل خير دعا إليه سبحانه ، خص أعظم عبادات البدن ، وزاد في عظمتها بالتعبير بالإقامة فقال : ( وأقاموا ) أي بما لهم من القوة ) الصلاة ( فأفهم ذلك مع اللام أنهم أوجدوا صورتها محمولة بروحها على وجه يقتضي ثبوتها دائماً .
ولما كانت الاستجابة توجب للاتحاد القلوب بالإيمان الموجب للاتحاد في الأقوال والأفعال ، والصلاة توجب الاتحاد بالأبدان ، ذكر الاتحاد بالأقوال الناشئ عنه عند أولي(6/638)
صفحة رقم 639
الكمال الاتحاد في الأفعال ، فقال معبراً بالاسمية حثاً على أن جعلوا ذلك لهم خلقاً ثابتاً لا ينفك : ( وأمرهم ) أي كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير ) شورى ) أي يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين مما لهم من قوة الباطن وصفائه في الإخلاص والنصح ، من الشور وهو العرض والإظهار ) بينهم ) أي بحيث إنهم لا فرق في حال المشاورة بين كبير منهم وصغير بل كل منهم وصغير بل كل منها يصغي إلى الآخر وينظر في حصته وسقمه بتنزيله على أصول الشرع وفروعه ، فلا يستبدل أحد منهم برأي لدوام اتهامه لرأيه لتحققه نقصه بما له من غزارة العلم وصفاء الفهم ولا يعجلون في شيء بل صار التأبي لهم خلقاً ، وسوق المشورة هذا السياق دال على عظيم جدواها وجلالة نفعها قال الحسن رحمه الله : ما تساور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم - على أنه روى الطبراني في الصغير والأوسط لكن بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد ) وروى في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أراد أمراً فشاور فيه أمرأ مسلماً وفقه الله لأرشد أمره ) .
ولما كانت المواساة بالأموال بعد الاتحاد في الأقوال والافتاق في الأفعال أعظم جامع على محاسن الخلال ، واظهر دال على ما ادعى من الاتحاد في الحال والمال قال مسهلاً عليهم أمرها بأنه لا مدخل لهم في الحقيقة في تحصيلها راضياً منهم باليسير منها : ( ومما ( ولفت القول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما يتعارفونه بينهم من أنه لا مطمع في التقرب من العظماء إلا بالهدايا فقال : ( رزقناهم ) أي بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة ) ينفقون ) أي يديمون الإنفاق كرماً منهم وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله سبحانه وتعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين ، وذلك الإنفاق على حسب ما حددناه لهم فواسوا بالمشورة في فضل عقولهم وبالإنفاق في فضل أموالهم تقوى منهم ومراقبة الله لا شهوة نفس .
ولما كان في العقوبة مصلحة ومفسدة فندب سبحانه غلى المغفرة تقديماً لدرء المفسدة لأن الإنسان لعدم علمه بالقلوب لا يصح له بوجه أن يعاقب بمجرد الغضب(6/639)
صفحة رقم 640
لأنه قد يخطئ فيعاقب من أغضبه ، وهو شريف الذات كريم الطبع على الهمة أبي النفس ، ما وقع منه الذنب الذي أغضب إلا خطأ معفواً عنه أو كذب عليه فيه فيربي في نفسه أخته تفسد ذات البين فيجر إلى خراب كبير ، وكانت غدامة الغفر جالبة للفساد مجرئة على العناد ، وكان البغي هو التمادي في السوء محققاً لقصد الذنب مجوزاً للإقدام على الانتقام ، وكان الانتصار من الفجار ربما أحوج مع قوة الجنان إلى إنفاق المال ، عقب الإنفاق بمدح الانتصار بقوله : ( والذين ( وذكر أداة التحقق إشارة إلى أن شرطها لا بد من وقوعه بالفعل أو بالقوة فقال ناصباً بفعل الانتصار مقدماً لما من شأن النفس الاهتمام بدفعه لعدم صبرها عليه : ( إذا أصابهم ) أي وقع بهم وأثر فيهم ) البغي ( وهو التمادي على الرمي بالشر ) هم ) أي بأنفسهم خاصة لما لهم من قوة الجنان والأركان المعلمة بأن ما تقدم من غفرانه ما كان إلا لعلو شأنهم لا لهوانهم ) ينتصرون ) أي يوقعون بالعلاج بما أعطاهم الله من سعة العقل وشدة البطش وقوة القلب النصر لأنفسهم في محله على ما ينبغي من زجر الباغي عن معاودتهم وعن الاجتراء على غيرهم مكررين لذلك كلما كرر لهم فيكون ذلك من غصلاح ذات البين ، ليسوا بعاجزين ولا في أمر جينهم متوانين ، والتعبير في هذه الأفعال بالإسناد إلى الجمع إلى إلى أنه لا يكون تمام التممكن الرادع إلا مع الاجتماع ، ومن كان فيها مفرداً كان همه طويلاً وبثه جليلاً ، قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق .
الشورى : ( 40 - 44 ) وجزاء سيئة سيئة. .. . .
) وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ( ( )
ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغباً فيه مع ما للنفس من الداعية إليه ، زجر عنه لمن كان قلب أولاً بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة ، وثانياً بيسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة ، وثالثاً بالندب إلى العفو ، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس اصلاً فقال : ( وجزاء سيئة ) أي أي سيئة كانت ) سيئة مثلها ) أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلاً ، وقد كلفت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم ، وبالنفقة(6/640)
صفحة رقم 641
إلى العفة ، وبالانتصار إلى الشجاعة ، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث ، فإن من علم المماثلة كان عالماً ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعاً ، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي .
ولما كان شرط المماثلة نادباً بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد ، سبب عنه قوله : ( فمن عفا ) أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة ) وأصلح ) أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس ، فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه ) فأجره على الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما زاد عبداً بعفو إلا عزاً ) .
ولما كان هذا ندباً إلى العفو بعد المدح بالانتصار ، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله ، فقال مضمراً إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكداً لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار : ( إنه لا يحب الظالمين ) أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقاً في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر .
ولما كان هذا ساداً لباب الانتصار لما يشعر به من أنه ظلم على كل ، قال مؤكداً نفياً لهذا الإشعار : ( ولمن انتصر ) أي سعى في نصر نفسه بجهده ) بعد ظلمه ) أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد .
ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا ، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه ، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه ، ويجوز كون ) من ( موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط .
ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة ، جمع(6/641)