صفحة رقم 353
بأداة التفسير لأن الرسول فيه معنى الرسول فيه معنى الرسالة التي تتضمن القول : ( أن أرسل ) أي خلّ وأطلق ؛ وأعاد الضمير على معنى رسول فقال : ( معنا بني إسرائيل ( اي قومنا الذين استبعدتهم ظلماً ، ولا سبيل لك عليهم ، نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام .
ولما كان منالمعلوم أنهما امتثلا ما أمرهما الله ، فأتياه وقالا له ما أمرا به ، تشوفت النفس إلى جوابه لهما ، فقال تعالى التفاتاً إلى مثل قوله في التي قبلها ) ) وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ( ) [ الفرقان : 7 ] ) ) وإن يتخذونك إلا هزواً ( ) [ النبياء : 36 ] ونحو ذلك تسلية لهذا النبي الكريم وتحقيقاً لمعنى قوله تعالى ) كلا ( و ) مستمعون ( من أن فرعون وإن بالغ في الإبراق والإرعاد لا يروع موسى عليه السلام شيء منه : ( قال ( اي فرعون حين ابلغاه الرسالة مخاطباً لموسى عليه السلام علماً منه أنه الأصل فيها ، وأخوه إنما هو وزير ، منكراً عليه مواجهته بمثل هذا ومانّاً عليه ليكف من جرأته بتصويب مثل هذا الكلام إليه : ( ألم نربك ( اي بعظمتنا التي شاهدتها ) فينا وليداً ) أي صغيراً قريب عهد بالولادة ) ولبثت فينا ( اي لا في غيرنا ، باعتبار انقطاعك إلينا ، وتعززك في الظاهر بنا ) من عمرك سنين ( اي كثير ، فلنا عليك بذلك من ا لحق ما ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا ، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدة مقامه عنده بأنها كانت نكده لأنه وقع فيما كان يخافه ، وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال .
الشعراء : ( 19 - 25 ) وفعلت فعلتك التي. .. . .
) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ( ( )
ولما ذكّره منة تحمله على الحياء منه ، ذكّره ذنباً هو أهل لأن يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية عنه : ( وفعلت فعلتك ) أي من قتل القطبي ، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً غلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال : ( التي فعلت وأنت ( اي والحال أنك ) من الكافرين ) أي لنعمتي وحق تربيتي بقتل من ينسب إليّ ، أو عده منهم لسكوته عنهم إذا ذاك ، لأنه لم يكن قبل الرسالة مأموراً فيهم بشيء ، فكان مجاملاً لهم ، فكأنه قال : وأنت منا .
فما لك الآن تنكر علينا وتنسبنا إلى الكفر ؟ ) قال ( مجيباً له على طريق النشر المشوش ، واثقاً بوعد الله مقراً بالسلامة مقراً بما دندن عليه من القتل لأنه لم يكن(5/353)
صفحة رقم 354
متحققاً لذلك ، وما ترك قتله إلا التماساً للبينة : ( فعلتها إذاً ( اي إذ قتلته ) وأنا من الضالين ) أي لا أعرف ديناً ، فأنا واقف عن كل وجهة حتى يوجهني ربي إلى ما يشاء - قال ابن جرير : والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال - انتهى .
وقد تقدم في الفاتحة للحرالي في هذا الكلام نفيس - على أن هذه الفعلة كانت مني خطأ ) ففررت ( اي فتسبب عن فعلها وتعقبه أني فررت ) منكم ( اي منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ ) لما خفتكم ( على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأ مع كونه كافراً مهدر الدم ) فوهب لي ربي ( الذي أحسن غليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة مما أحدثتم من الظلم خوفاً مني ) حكماً ( اي علماً أعمل به عمل الحكام الحكماء ) وجعلني من المرسلين ( اي فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره .
ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير ، بدأ بجوابه عن التعيير لأنه الأخير فكان أقرب ، ولأنه أهم ، ثم عطف عليه جوابه عما منّ به ، فقال موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب : ( وتلك ) أي التربية الشنعاء العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها ) نعمة تمنها عليّ ( .
ولما كان سببها ظلمه لقومه ، جعله نفسها فقال مبدلاً منها تنبيهاً على إحباطها ، وإعلاماً بأنها - بكونها نقمة - أولى منها في عدها نعمة : ( أن عبدت ) أي تعبيدك وتذليلك على ذلك الوجه البديع المبعد قمي ) بني إسرائيل ( اي جعلتم عبيداً ظلماً وعدواناً وهو أبناء الأنبياء ، ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة - بإحياء نفوسكم أولاً ، وعتق رقابكم ثانياً - ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً ، ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستبعد ، فأمرت بقتل أبنائهم ، فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك - كما مر بيانه ويأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في سورة القصص .
ولما كلم اللئيم الذميم الكليم العظيم بما رجا أن يكفه عن مواجهته بما يكره ، ويرجعه إلى مداراته .
فلم يفعل ، وفهم ما في جوابه هذا الأخير من الذم له والتعجيز ، وإثبات القدرة التامة والعلم الشامل لله ، بما دبر في أمر مسى عليهالسلام ، وأنه لا ينهض لذلك بجواب ولا يحمد له فيه قول ، عدل عنه إلى جوابه عن الرسالة بما يموه به أيضاً على قومه لئلا يرجعوا عنه ، فأخبر تعالى عن محاورته في ذلك بقوله على طريق الجواب لمن كأنه قال : ما قال له جواباً لهذا الكلام ، الذي كأنه السهام ؟ : ( قال فرعون ( حائداً عن جواب موسى عليه السلام لما فيه من تأنيبه وتعجيزه .
منكراً لخالقه على سبيل التجاهل ، كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهو أعرف الناس بغالب(5/354)
صفحة رقم 355
أفعاله ، كما كان فرعون يعرف ، لقول موسى عليه السلام ) ) لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض ( ) [ الإسراء : 102 ] : ( وما رب العالمين ) أي الذي زعمت أنكما رسوله .
فسأل ب ( ما ) عن حقيقته وإنما أراد في الحقيقة إنكاره .
ولما كان تعريف حقيقته سبحانه بنفسها محالاً لعدم التركيب ، فكان تعريفها لا يصح إلا بالخارج اللازم الجلي ، تشوف السامع إلى ما يجيب به عنه ، فاستأنف قوله إخباراً عنه : ( قال ( اي موسى معرضاً عن التعريف بغير الأفعال إعلاماً بأنه لا شبيه له ، وأنه مباين وجوده لوجود كل شيء سواه ، معرفاً له سبحانه بأظهر أفعاله مما لا يقدر أحد على ادعاء المشاركة فيه ، مشيراً إلى خطابه في طلب الماهية بأنه لا مماثل له : أقول لك ولمن أردت بطلب الحقيقة التمويه عليهم : هو ) رب ) أي خالق ومبدع ومدبر ) السماوات ( كلها ) والأرض ( وإت تباعدت أجرامها بعضها عن بعض ) وما بينهما ( وذلك أظهر العالم الذي هو صنعته وأنتم غير مستغنين عنه طرفة عين ، فهذه هي المنة ، لا منتك عليّ بالتربية إلى حين استغنيت عنك ، وهذا هو الاستبعاد بالإحسان ، مع العصيان بالكفران ، لا استبعادك لقومي بإهلاكهم وهم في طاعتك ، ولسلفهم عليكم من المنة ما لا تجهلونه ) إن كنتم ( اي كوناً راسخاً ) موقنين ) أي متصفين بما عليه أهل العلم بأصول الدين من الثقة بما تعتقدون اتصافاً ثابتاً ، والجواب : علمتم ذلك ، وعلمتم أنه لا جواب أسد منه ، لأن المذكور متغير ، فله مغير لا يتغير ، وهو هذا الذي أرسلناه ، أي إن كان لكم يقين فأنتم تعرفونه ، لشدة ظهوره ، وعموم نوره ) قال ) أي فرعون ) لمن حوله ( منأشراف قومه مموهاً أيضاً : ( ألا تسمعون ) أي تصغون إليه بجميع جهدكم ، وهو كلام ظاهرة أنه نبههم عن الإنكار ، لأنه سأل عن الماهية ، فأجيب بغيرها ، ويحتمل غير ذلك لو ضويق فيه ، فهو من خفيّ مكره .
الشعراء : ( 26 - 34 ) قال ربكم ورب. .. . .
) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ( )
ولما وبخ اللعين في جوابه ، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلةق ، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه ، استأنف الشفاء لعيّ هذا السؤال بقوله : ( قال ) أي موسى ، مخصصاً بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود(5/355)
صفحة رقم 356
أفراده بعد أن لم تكن : ( ربكم ) أي الموجد لكم والمربي والمحسن ) ورب آبائكم الأولين ( وفرعون - الذي تقرون بأنه ربكم - كان إذ ذاك عدماً محضاً ، أو ماء صرفاً في ظهر أبيه ، فبطل كون أحد منهم رباً لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربّاً لهم ، لأن الكل عدم .
فلما أوضح بذلك بطلان ما حملهم على اعتقاده من ربوبيته لم يتمالك أن ) قال إن رسولكم ( على طريق التهكم ، إشارة إلى أن الرسول ينبغي ان يكون أعقل الناس ، ثم زاد الأمر وضوحاً بقوله : ( الذي أرسل إليكم ( اي وأنتم أعقل الناس ) لمجنون ( حيث لا يفهم أني أساله عن حقيقة مرسله فكف يصلح للرسالة من الملوك .
فلما أساء الأدب ، فاشتد تشوف السامع إلى معرفة جوابه عنه ، استأنف تعالى الإخبار بذلك ، فحكى أنه ذكر له ما لا يمكنه أن يدعي طاعته له ، وهو أكثر تغيراً وأعجب تنقلاً بأن ) قال رب المشرق والمغرب ( اي الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما ) وما بينهما ( اي من الناس الذين ليسوا في طاعتكم ، والحيوان والجماد ، بسبب ما ترون من قدرته على تقليب النيرات من بزوغ الشمس والقمر والنجوم وأفولها وما يظهر عنهما من الليل والنهار على تصاريف مختلفة ، وحركات متقاربة لو لا هي لما علمتم شيئاً من أموركم ، ولا تمكنتم من أحوالكم ، وهذا الدليل أبين الكل لتكرر الحركة فيه وغير ذلك من معالمه ، ولذلك بهت نمرود لما ألقاه عليه الخليل عليه الصلاة والسلام .
ولما دعاه ( صلى الله عليه وسلم ) باللين فأساء الأدب عليه في الجواب الماضي ، ختم هذا البرهان بقوله : ( إن كنتم تعقلون ) أي فأنتم تعلمون ذلك ، فخيرهم بين الإقرار بالجنونن أو العقل ، بما أشار إليه من الأدلة في مقابلة ما نسبوه إليه من الجنون بسكوتهم وقول عظيمهم بغير شبهة ، رداً لهم عن الضلالة ، وإنقاذاً من واضح الجهالة ، فكان قوله أنكأ مع أنه ألطف ، وأوضح مع أنه أستر وأشرف .
فلما علو أنه قد قطعه بما أوضح من الأمر ، ووصل معه في الغلظة إلى ما إن سكت عنه أوهن من حاله ، وفتر من عزائم رجاله ، تكلم بما السكوت أولى منه ، فأخبر تعالى بقوله : ( قال ( عادلاً عن الحجاج بعد الخوض فيه إلى المغالبة التي هي أبين علامات الانقطاع : ( لئن اتخذت إلهاً غيري ( اي تعمدت أخذه وأفردته بتوجيه جميع قصدك إليه ) لأجعلنك من المسجونين ) أي واحداً ممن هم في سجوني على ما تعلم من حالي في اقتداري ، ومن سجوني في فظاعتها ، ومن حال من فيها من شدة الحصر ، والغلظ في الحجر ) قال ( مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان ، لإرادة البيان ، حتى لا(5/356)
صفحة رقم 357
يبقى عذر لإنسان ، رجاء النزوع عن الطغيان ، والرجوع إلى الإيمان ، لأن من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف ، والرجوع إلى الحق والاعتراف ) أولو ) أي أتسجنني ولو ) جئتك بشيء مبين ) أي لرسالتي ) قال ( طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس : ( فأت به ( أس تسبب عن قولك هذا أني أقول لك : ائت بذلك الشيء ) إن كنت ) أي كوناً أنت راسخ فيه ) من الصادقين ( اي فيما ادعيت منالرسالة والبينة ، وهذا إشارة إلى أنه بكلامه المتقدم قد صار عنده في غير عدادهم ، ولزم عليه أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق لأنها تصديق من الله للمدعي ، وعادته سبحانه وتعالى جارية في أنه لا يصدق الكاذب ) فألقى ) أي فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى .
ولما كان الكلام مع موسى عليه السلام ، فكان إضماره غير ملبس ، لم يصرح باسمه اكتفاء بضميره فقال : ( عصاه ) أي التي تقدم في غير سورة أن الله تعالى أراه آياتها ) فإذا هي ثعبان ( اي حية في غاية الكبر ) مبين ) أي ظاهر الثعبانية ، لا شك عند رائية فيه ، لا كما يكون عند الأمور السحرية من التخييلات والتشبيهات ) ونزع يده ) أي التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون ، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجز عن إبرائها ، نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه ) فإذا هي ( بعد النزع ) بيضاء للناظرين ) أي بياضاً تتوفر الدواعي على نظره لخروجه عن العادة بأن له نوراً كنور الشمس يكاد يغشي الأبصار ) قال ( اي فرعون ) للملأ حوله ( لما وضح له الأمر ، يموه على عقولهم خوفاً من إيمانهم : ( إن هذا لساحر عليم ) أي شديد المعرفة بالسحر ، وخص في هذه السورة إسناداً هذا الكلام إليه لأن السياق كله لتخصيصه الخطاب لما تقدمن ونظراً إلى ) فظلت أعناقهم لها خاضعين ( لأن خضوعه هو خضوع من دونه ، فدلالته على ذلك أظهر ، ولا ينفي ذلك أن يكون قومه قالوه إظهاراً للطواعية - كما مضى في الأعراف .
الشعراء : ( 35 - 44 ) يريد أن يخرجكم. .. . .
) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ( ( )
ولما أوقفهم بما خليهم به ، أحماهم لأنفسهم فقال ملقياً لجلباب الأنفة لما قهره(5/357)
صفحة رقم 358
من سلطان المعجزة : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم ( اي هذه التي هي قوامكم ) بسحره ) أي بسبب ما أتى به منه ، فإنه يوجب استباع الناس فيتمكن مما يريد بهم ؛ ثم قال لقومه - الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم - ما دل على أنه خارت قواه ، فحط عن منكبيه كبرياء البوبية ، وارتعدت فرائضه حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً : ( فماذا تأمرون ( اي في مدافعته عمايريد بنا ) قالوا ) أي الملأ الذين كانوا يأتمرون به قبل الهجرة ليقتلوه : ( أرجه ( اي أخره ) وأخاه ( ولم يأمروا بقتله ولا بشيء مما يقاربه - فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه ) وابعث في المدائن حاشرين ) أي رجالاً يحشرون السحرة ، وأصل الحشر الجمع بكرة ) يأتوك ( وكأنهم فهموا شدة قلقه فسكنوه بالتعبير بأداة الإحاطة وصيغة المبالغة فقالوا : ( بكل سحار ) أي بليغ السحر ) عليم ) أي متناه في العلم به بعد ما تناهى في التجربة ؛ وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى عظمة ملكه فقال : ( فجمع ) أي بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة ) السحرة ( كما تقدم غير مرة ) لميقات يوم معلوم ( في زمانه ومكانه ، وهو ضحى يوم الزينة كما سلف في طه ، وعن عباس رضي الله عنهما أنه وافق يوم السبت في أول يوم من سنتهم ، وهو يوم النيروز .
) وقيل ) أي بقول من يقبل لكونه عن فرعون ) للناس ( اي كافة حثاً لهم على الإسراع إلى الاجتماع بأمر فرعون ، وامتحاناً لهم هل رجعوا عن دينه ، علماً منه بأن ما ظهر ن المعجزة - التي منها عجزة عن نوع أذى لمن واجهة بما لا مطمع في مواجهته بأدناه - لم يدع لبساً في أنه مربوب مقهور ، وأن ذلك موجب لا تباع موسى عليه السلام : ( هل أنتم مجتمعون ) أي اجتماعاً أنتم راسخون فيه لكونه بالقلوب كما هو بالأبدان ، كلكم ليكون أهيب لكم ، وزين لهم هذا القائل البقاء على ما كانوا عليه من الباطل بذكر السحرة وإن كان شرط فيه الغلبة ، ولم يسمح بذكر جانب موسى عليه السلام فقال : ( لعلنا نتبع السحرة ( لأن من امتثل أمر الملك كان حاله حال من يرجى منه اتباع حزبه ) إن كانوا هم ) أي خاصة ) الغالبين ( اي غلبة لا يشك في أنها ناشئة عن مكنة نعرض عن أمر موسى الذي الذي تنازع الملك في أمره ، وهذا مرادهم في الحقيقة ، وعبر بهذا كناية عنه لأنه أدل على عظمة الملك ، وعبر بأداة الشك إظهاراً للإنصاف ، واستجلاباً للناس ، مع تقديرهم لقطعهم بظفرة السحرة .
لما رسخ في أذهناهم في الزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر .
وقال : ( فلما ( بالفاء إيذاناً بسرعة حشرهم ، إشارة إلى ضضخامة ملكه .
ووفور عظمته ) جاء السحرة ( اي الذين كانوا في جميع بلاد مصر(5/358)
صفحة رقم 359
) قالوا لفرعون ( مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد ، ونجاح القصد ) أئِنَّ لنا لأجراً ( وساقوه مساق الاستفهام أدباً معه ، وقالوا : ( إن كنا ) أي كوناً نحن راسخون فيه ) نحن ( خاصة ) الغالبين ( بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له ؛ ثم قيل في جواب من كأنه سأل عن جوابه : ( قال ( مجيباً إلى كا سألوه : ( نعم ) أي لكم ذلك ، وزادهم ما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً له فقالك ) وإنكم إذاً ( اي إذا غلبتم ) لمن المقربين ) أي عندي ، وزاد ) إذاً ( هنا زيادة في التأكيد لما يتضمن ذلك من إبعاده عن الإيمان من وضوح البرهان ، تخفيفاً على المخاطب بهذا كله ( صلى الله عليه وسلم ) ، تسلية له في الحمل على نفسه أن لا يكون من يدعوهم مؤمنين ، وما بعد ذلك من مسارعة السحرة للإيمان - بعد ما ذكر من إقسامهم بعزته بغاية التأكيد - تحقيق لآية ) فظلت أعناقهم لها خاضعين ( .
ولما تشوف السامع إلى جواب نبي الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أجيب بقوله : ( قال لهم موسى ( عليه السلام ، اي مريداُ لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقائهم ، لا لمجرد إلقائهم ، غيرق مبال بهم في كثرة ولا علم بعد ما خيروه - كما في غير هذه السورة : ( ألقوا ما أنتم ملقون ( كائناً ما كان ، ازدراء له بالنسبة إلى أمر الله ) فألقوا ) أي فتسبب عن قول موسى عليه السلام وتعقبه أن ألقوا ) حبالهم وعصيهم ( التي أعدوها للسحر ) وقالوا ( مقسمين : ( بعزة فرعون ( مؤكدين بأنواع التأكيد ) إنا لنحن ( اي خاصة لا نستثني ) الغالبون ( قول واثق من نفسه مزمع على أن لا يدع باباً من السحر يعرفه إلا أتى به ، فكل من حلف بغير الله كأن يقول : وحياة فلان ، وحق رأسه - ونحو ذلك ، فهو تابع لهذه الجاهليه .
الشعراء : ( 45 - 51 ) فألقى موسى عصاه. .. . .
) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما قدم إضمار اسم موسى عليه السلام في الإلقاء الأول لأن الكلام كان معه ، فلم يكن إلباس في أنه الفاعل .
وكان الكلام هنا في السحرة ، وختموا بذكر فرعون وعزته ، صرح باسم موسى عليه الصلاة والسلام لنفي اللبس فقال : ( فألقى ( اي فتسبب عن صنع السحرة وتعبه أن ألقى ) موسى ( وقابل جماعة ما ألقوه بمفرد ما ألقى ، لأنه أدل على المعجزة ، فقالك ) عصاه ) أي التي جعلناها آية له ، وتسبب عن إلقائه قوله :(5/359)
صفحة رقم 360
) فإذا هي تلقف ) أي يتبتلع في الحال بسرعة ونهمة ) ما يأفكون ) أي يصرفونه عن وجهه وحقيقته التي هي الجمادية بحيلهم وتخييلهم غلى ظن أنه حيات تسعى ) فألقى ) أي عقب فعلها من غير تلبث ) السحرة ساجدين ) أي فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم ، علماً منهم بأن هذا من عند الله ، فأمسوا أتقياء بررة ، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة .
ولما كأنه قيل : هذا فعلهم ، فما كان قولهم ؟ قيل : ( قالوا آمنا برب العالمين ( اي الذي دعا إليه موسى عليه السلام أو ما تكلم ؛ ثم خصوه لتلبيس فرعون بما لا يحتمل غيره فقالوا بيناً : ( رب ( ولم يدع داع هنا إلى العدول عن الأصل ، فقال عبارة عن كلامهم : ( موسى وهارون ( اي اللذين أحسنا إلينا بالتنبيه عليه ، والهداية إليه ، وصدقهما بما جرى على أيديهما .
ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم ، لما يرن مما هالهم من أمرهم ، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه ، قال تعالى مخبراً عنه : ( قال ( من غير ذكر الفاعل - أي فرعون - لعدم اللبس ، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحه منه ، منكراً مبادراً موهماً لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن ، لا على نفس الفعل ، وأنه ما غرضه إلا التثبيت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما ) آمنتم له ) أي لموسى عليه السلام ، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرساله ، وحقيقة الكلام : أوقعتم التصديق بما أخبر فعلهم بما الله لإجله إعظاماً له بذلك ) قبل أن ءاذن لكم ( اي في الإيمان ؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع ، لا عن حسن اتباع ، فقال : ( إنه ) أي موسى عليه السلام ) لكبيركم ( .
ولما كان هذا مشعراً بنسبته له إلى السحر ، وأنه أعلم منهم به ، فلذلك غلبهم ، وضحه بقوله : ( الذي علمكم السحر ( فتواعدتم معه على هذا الفعل ، لتنزعوا الملك من أربابه ، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعاً ، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته ، واستمرّ حتى فر منهم إلى مجين ، لا يعلم سحراً ، ولا ألم بساحر ، ولا سافر إلا إلى مدين ، ثم لم يرجع إلا داعياً إلى الله ، ولكم الكذب غالب على قطر مصر ، وأهلها اسرع شيء سماعاً له وانقياداً به .
ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة ، أكد المنع بالتهديد فقال : ( فلسوف تعلمون ) أي ما أفعل بكم ، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة ، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر(5/360)
صفحة رقم 361
عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا ، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع ؛ ثم فسر ما أبهم بقوله : ( لأقطعن ( بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين ) أيديكم وأرجلكم ( ثم بين كيفية تقطيعها فقال : ( من خلاف ( وزاد في التهويل فقال : ( ولأُصلبنكم أجمعين ( ثم استأنف تعالى حكاية جوابهم بقوله : ( قالوا ( .
ولما كان قد تقدم هنا أنهم أثبتوا له عزة توجب مزيد الخوف منه ، حسن قولهم : ( لا ضير ) أي لا ضرر أصلاً علينا تحصل به المكنة منا فيما هددتنا به ، بل لنا في الصبر عليه إن وقع أعظم الجزاء من الله ، ورد النفي الشامل في هذه السورة إيذاناً بأنه لم يقدر فرعون على عذابهم ، تحقيقاً لما في أول القصة من افشارة غلى ذلك ب ) كلا ( و ) مستمعون ( فإن الإمكان من تابعي موسى عليه السلام يؤذيه ويضيق صدره ، ولما يأتي من القصص من صريح العبارة في قوله ) أنتما ومن اتبعكما الغلبون ( .
ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إنا ) أي بفعلك ذلك فينا إن قدرك الله عليه ) إلى ربنا ) أي المحسن إلينا وحده ) منقلبون ) أي ولا بد لنا من الموت ، فلنكن على ما حكم على الروح إلا الله الذي هو جدير بأن يثيبنا على ذلك نعيم الأبد .
وذلك معنى قولهم معللين ما قبله : ( إنا نطمع أن يغفر ( اي يستر ستراً بليغاً ) لنا ربنا ( الذي أحسن إلينا بالهداية ) خطايانا ) أي التي قدمناها على كثرتها ؛ ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم : ( إن كنا ) أي كوناً هو لنا كالجبلة ) أول المؤمنين ) أي من أهل هذا المشهد ، وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى ، فكأنه لا سبب منهم أصلاً .
الشعراء : ( 52 - 58 ) وأوحينا إلى موسى. .. . .
) وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( ( )
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه ، وجعلهما الأعليين ، ولم يضرهمت ضعفهما وقتلهما ، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته ، شرع يسلس بما أوقعه في حال السير ، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به ، عاطفاً على هذه القصة : ( وأوحينا ) أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود ) إلى موسى أن أسر ) أي سر ليلاً ، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم ) بعبادي ) أي بنس إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم ، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه ، وتزدوا اللحم(5/361)
صفحة رقم 362
والخبز الفطير للإسراع ، وألطخوا أعتابكم بالدم ، لني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم ؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله : ( إنكم متبعون ) أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم ، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي ، والمراد توافيهم عند البحر ، ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به لاوعد الشريف بذلك التأكيد .
ولما كان التقدير : فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل ، عطف عليه قوله : ( فأرسل فرعون ) أي لما أصبح وأعلم بهم ) في المدائن حاشرين ) أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم : ( إن هؤلاء ( إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا ، لما بهم من العجز ، وبآل فرعون من القوة ، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم ) لشرذمة ) أي طائفة وقطعة من الناس .
ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستبعاد ، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة ، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر ، لا صفة ، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب ، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه ايضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع ، وفيه أيضاً إشارة إلى انهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد .
وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه : هو أقل من أن يفعل كذا ، فقال : ( قليلون ) أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين ، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم ؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما : كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى .
وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقد على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة .
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم ، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال : ( وإنهم لنا ( ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة ) لغائظون ( اي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة ، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم .
ولما كان مدار مادة ( شرذم ) على التقطع .
فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع(5/362)
صفحة رقم 363
القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد ، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل ، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل ، فقال : ( وإنا لجميع ) أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد .
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم ، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم ، وفي مضادة لما اشير إليه ب ( قليلون ) من الاستضعاف فقال : ( حاذرون ) أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر ، فنحن لا نزال على أهبة القتال ، ومقارعة البطال ، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره ، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم ، وإدرار الأرزاق فيكم ، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال ، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد ، وجميع ما يحتاج إليه المحارب ، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق ، المحفوظ بالعقل المحوط بالجم المانع من اجتراء الأخصام عليكم ، ومكرهم لديكم ، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن سجزئه اربعة أجزاء : أحدها لوزرائه وكتابه وجنده ، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور ، والثالث له ولولده ، والرابع يفرق من مدن الكور ، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به ؛ وري أنه قصده قوم فقالوا : نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا ، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال ، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم ، فإذا هو مائة ألف دينار ، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها ، فقال : اطرحوها عليهم ، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا ، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا .
ولما كان التقدير : فأطاعوا أمره ، ونفوا على كل صعب وذلول ، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم : ( فأخرجناهم ( اي بما لنا من القدرة ، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه ) من جنات ) أي بساتين يحق لها أن تذكر ) وعيون ( لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر ) وكنوز ( من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم ، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد ) ومقام ( من المنازل ) كريم ) أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه : ليته كان كذا ، أو كان كذا .(5/363)
صفحة رقم 364
الشعراء : ( 59 - 68 ) كذلك وأورثناها بني. .. . .
) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ( )
ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر ، أشار غلى عظمة القدرة عليه بقوله : ( كذلك ) أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي اراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة اخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك ، ووفرنا لهم الأسباب ، لما اقتضته حكمتنا ، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم ، أي كان الواقع من خروجهم مطابقاً لما عبرنا به عنه ، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعده وأحسنها وأجودها ) وأورثناها ) أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهك بالفعل ) بني إسرائيل ) أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها ، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان ) قوماً آخرين ( .
ولما وصف افخراج ، وصف أثره مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة : ( فأتبعوهم ( اي جعلوا أنفسهم تابعة لهم ) مشرقين ) أي داخلين في وقت شروق الشمس ، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل ، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام ، فإنه أمر يعجز الملوك مثله ، فيا له من حشر ما اسرعه وجهاز ما أوسعه واستمروا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزوم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة ، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق ) فلما تراءا الجمعان ) أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر ) قال أصحاب موسى ( ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل ، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال : إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل ، وذلك محق لتقليل فرعون لهم ، وكأنه عبر عنهم ب ( أصحاب ) دون ( بني إسرائيل ) لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم : ( إنا لمدركون ( أب لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء ، العدو وراءنا والماء أمامنا ) قال ( اي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله ، ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله : ( إن معي ربي ( فكأنهم قالوا : وماذا عساه يفعل وقد وصلوا ؟ قال : ( سيهدين ( اي بوعد مؤكد عن قرب ، إلى ما(5/364)
صفحة رقم 365
أفعل مما فيه خلاصكم ، وتقدم في براءة سر تقديم المعيةو خصوصها والتعبير باسم الرب ) فأوحينا ( اي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أحينا ؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه فقال : ( إلى موسى ( وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله : ( أن أضرب بعصاك البحر ) أي الذي أمامكم ، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها ) فانفلق ) أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر الله وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم ) فكان كل فرق ) أي جزء وقسم عظيم منه ) كالطود ) أي الجبل في إشراقه وطوله وصلابته بعدم السيلان ) العظيم ( المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل ، لأن الماء كان منبسطاً في ارض البحر ، فلما انفرق وانكشف فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء .
ولما كان التقديرك فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق ، عطف عليه : ( وأزلفنا ) أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام ؛ قال البغوي .
قال أبو عبيدة : جمعنا ، ومنه ليلة المزدلفة ، أي ليلة الجمع .
ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة ، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال : ( ثم ( اي هنالك ، فإنها ظرف مكان للبعيد ) الآخرين ( اي فرعون وجنوده ) وأنجينا موسى ومن معه ( وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم ) أجمعين ) أي لم نقدر على أحد منهم الهلاك .
ولما كان الإغراق بما به الإنجاء - مع كونه أمراً هائلاً - عجيباً وبعيداً عبر بأداة البعد فقال : ( ثم اغرقنا ) أي إغراقاً هو على حسب عظمتنا ) الآخرين ) أي فوعون وقومه اجمعين ، لم يفلت منهم أحد .
ولما قام عذر موسر عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة علة مكنتهم في أنفسهم ، وعظمته في قلوبهم ، رغبة ورهبة ، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة ، وزاد ما أقر به العيون ، وشرح به الصدرو ، وكان ذلك أمراً يهز القوى سماعه ، ويروع الأسماع تصوره وذكره ، قال منبهاً على ذلك : ( إن في ذلك ( أب الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات ) لآية ( اي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار ، قادر على كل شيء ، وأنه رسوله حقاً ) وما كان أكثرهم ) أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها ) مؤمنين لله ) أي متصفين بالإيمان الثابت ، أما القبط(5/365)
صفحة رقم 366
فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن ىل فرعون وامرأة فوعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام - على ما يقال ، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلاً يتنعت كل قليل ، ويقول ويفعل ما هو كفر ، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده ، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً الصنام التي مروا عليها ، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف ، وأمرهم مشاهد مكشوف ) وإن ربك ( اي المحسن غليك بإعلاء أمرك ، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك ) لهو العزيز ) أي القادر على الانتقام من كل فاجر ) الرحيم ) أي الفاعل فعل البليغ الرحمة ، فهو يمهل ويدر النعم ، ويحوط من النقم ، ولا يمهل ، بل يرسل رسلاً ، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه ، فلا يهلك إلا بعد الإعذار ، فلا تستوحش ممن لم يؤمن ، ولا يهمنك ذلك .
الشعراء : ( 69 - 79 ) واتل عليهم نبأ. .. . .
) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( ( )
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة موسى عليه السلام ، أتبعه دلاله على رحيميته قصة إبراهيم عليه السلام لما تقدم أنه شاركه فيه مما يسلي عما وقع ذكره عنهم من التعنتات في الفرقان ، ولما اختص به من مقارعة أبيه وقومه في الأوثان ، وهو أعظم آباء العرب ، ليكون ذلك حاملاً لهم على تقليده في التوحيد إن كانوا لا ينفكون عن التقليد ، وزاجراً عن استعظام تسفيه آبائهم في عبادتها ، وتعبيره سبحانه للسياق قبل وبعد ، وتعبيره بقوله : ( واتل ( اي قرأ قراءة متتابعة - مرجح للتقدير الأول في ) وإذ ( من جعله ( اذكر ) وتغييره في التعبير بها لسياق ما تقدم وما تأخر لتنبيه العرب على اتباعه لما لهم به من الخصوصية ) عليهم ( اي على هؤلاء المغترين بالأوثان ، النكرين لرسالة البشر ) نبأ إبراهيم ) أي خبره العظيم في مثل ذلك ) إذ ( اي حين ) قال لأبيه وقومه ( منبهاً لهم على ضلالهم ، لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم : ( ما ) أي أي شيء ، وصور لهم حالهم تنبيهاً لهم على قباحتها فعبر بالمضارع فقال : ( تعبدون ) أي تواظبون على عبادته ) قالوا ( مبتهجين بسؤاله ، مظهرين الافتخار في جوابهم بإطالة الكلام : ( نعبد أصناماً فنظل ) أي فيتسبب عن عبادتنا لها أنا نوفي حق العبادة بأن ندوم ) لها عاكفين ((5/366)
صفحة رقم 367
أي مطيقين بها على سبيل المواظبة متراكيمن بعضنا خلف بعض حبسين أنفسنا تعظيماً لها ، فجروا على منوال هؤلاء في داء التقليد الناشىء عن الجهل بنفس العبادة وبظنهم مع ذلك أنهم على طائل كبير ، وأمر عظيم ، ظفروا به ، مع غفلة الخلق عنه - كما دل عليه خطابهم في هذا الكلام الذي كان يغني عنه كلمة واحدة ، وهذا هو الذي أوجب تفسير الظلول بمطلق الدوام وإن كان معناه الدوام بقيد النهار ، وكأنهم قصدوا بما يدل على النهار - الذي هو موضع الاشتغال والسهرة - الدلالة على الليل من باب الأولى ، مع شيوع استعماله أيضاً مطلقاً نحو ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ، وزاد قوم إبراهيم عليه السلام أن استمروا على ضلالهم وأبوه معهم فكانوا حطب النار ، ولم يتكمن من إنقاذهم من ذلك ، ولم تكن لهم حيلة إلا دعاؤهم ، فهو أجدر بشديد الحزن وببخع نفسه عليهم وهو موضع التسلية .
ولما فهم عنهم هذه الرغبة ، أخذ يزهدهم فيها بطريق الاستفهام الذي لا أنصف منه عن أوصاف يلجئهم السؤال إلى الاعتراف بسلبها عنهم ، مع كل عاقل إذا تعقل أن لا تصح رتبة الإلهية مع فقد واحدة منها ، فكيف مع فقدها كلها ؟ فقال تعالى مخبراَ عنه : ( قال ( معبراً عنها إنصافاً بما يعبر به العقلاء لتنزيلهم إياها منزلتهم : ( هل يسمعونكم ( اي دعاءكم مجرد سماع ؛ ثم صور لهم حالهم ليمنعوا الفكر فيه ، فقال معبراً بظرف ماض وفعل مضارع تنبيهاً على استحضار جميع الزمان ليكون ذلك أبلغ في التبكيت : ( إذ تدعون ) أي استحضروا أحوالكم معهم من أول عبادتكم لهم وإلى الآن : هل سمعوكم وقتاً ما ؟ ليكن ذلك مرجياً لكم لحصول نفع منهم في وقت ما .
ولما كان الإنسان قد يعكف على الشيء - وهو غير سامع - لكن لنفعه له في نفسه أو ضره لعدوه كالنار مثلاً ، وكان محط حال العابد والداعي بالقصد الول بالذات جلب النفع ، قال : ( أو ينفعوكم ) أي على العبادة كما ينفع اق شيء تقتنونه ) أو يضرون ( على الترك : ( قالوا ( : لا والله ليس عندهم شيء من ذلك ) بل وجدنا آباءنا كذلك ( اي مثل فعلنا هذا العالي الشأن ، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم فقالوا : ( يفعلون ) أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم ، مع سبقهم لنا إلى الوجود ، فهم أرصن منا عقولاً ، وأعظم تجربة ، فلولا أنهم رأوا ذلك حسناًن ما واظبوا عليه ، هذا مع أنهم لو سلكوا طريقاً حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط ، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديماً وحديثاً .
ولما وصلوا إلى التقليد المخض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائهم والطير في تبعها لأولها ) قال ( معرضاً عن جواب كلامهم بنقص ، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه(5/367)
صفحة رقم 368
من شم رائحة الرجولية : ( أفرأيتم ( اي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم : أرأيتم ، اي إن لم تكنوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً ) ما كنتم ) أي كوناً هو كالجبلة لكم ) تعبدون ( مواظبين على عبادتهم ) أنتم ( .
ولما أجابوه بالتقليد ، قال لهم ما معناه ، رقوا تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته ، فإن التقدم والأولوية لا تكون برهاناً على الصحة ، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدمن وذلك مراده من قوله : ( وآباؤكم الأقدمون ) أي الذين هم اقدم ما يكنون : هل لهم وصف غير ما أقررتم به من عدم السماع والنفع والضر ؟ ) فإنهم ) أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخباراً مؤكداً أنهم .
ولما كانت صيغة فعول للمبالغة ، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولا سيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول الصهيل ، فقال مخبراً عن ضمير الجمع : ( عدو لي ) أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الخرى ) ) لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( ( ) ) أف لكم ولما تعبدون من دون الله ( ( ) ) تالله لأكيدن أصنامكم ( ) [ الأنبياء : 54 : 57 : 67 ] .
ولما كانوا هم مشركين ، وكان في آبائهم الأثدمين من عبد الله وحده .
قال : ( إلا رب العالمين ) أي مدبر هذه الأكوان كلها - كما قال موسى عليه السلام - لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها ، فإنه ليس بعدوي ، بل هو وليّي ومعبودي ؛ ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال : ( الذي ( ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقالك ) خلقتني ) أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير ) فهو ) أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره ) يهدين ) أي إلى الرشاد ، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه ، ولا يكن خالقه إلا سمعياً بصيراً ضاراً نافعاً ، له الكمال كله ، ولا شك أن الخلق للجسد ، والهداية للروح ، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع ، والإنسان له قالب من عالم الخلق ، وقالب من عالم الأمر ، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية ، ولقوله ) ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ( ) [ الحجر : 29 ] وأمثال ذلك ، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا ، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها ديناً ودنيا ) والذي هو ) أي لا غيره ) يطعمني ويسقين ( ولو أراد لأعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً .
الشعراء : ( 80 - 87 ) وإذا مرضت فهو. .. . .
) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل(5/368)
صفحة رقم 369
لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان المرض ضرراً ، نزهه عن نسبته إليه أدباً وإن كانت نسبة الكل إليه سبحانه معلومة ، بقوله : ( وإذا مرضت ( باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينها من التنافر الطبيعي ) فهو ( اي وحده ) يشفين ( بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها على الاجتماع والاعتدالن لا طبيب ولا غيره وإن تسببت أنا في أمراض نفسي ببرد أو حر أو طعام أتناوله أو غير ذلك لأنه قادر على ما يريد .
ولما كان الإنسان مطبوعاً على الاجتهاد في حفظ حياته وبقاء مهجته ، نسب فعل الموت إليه إعظاماً للقدرة فقال : ( والذي يميتني ) أي حساً وإن اجتهدت في دفع الموت ، ومعنى وإن اجتهدت في دفع الجهل .
ولما كان الإحياؤ حساً بالروح ومعنى بالهداية عظيماً ، أتى بأداة التراخي لذلك ولطول المكث في البرزخ فقال : ( ثم يحيين ( للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض وإن وصلت إلى حد لا أرجى فيه ، ولم يأت هنا بما يدل على الحصر لأنه لا مدعي للإحياء والإماتة إلا ما ذكره سبحانه عن نمروج في سورة البقرة ، وأن إبراهيم عليه السلام ابهته ببيان عجزه في إظهار صورة من مكان من الأمكنة بلا شرط من روح ولا غيرها ، وإذا عجز عن ذلك كان عجزه عن إيجاد صورة أبين ، فكيف إذا انضم إلى ذلك إفادتها روحاً أو سلبها منها ، فعدّ ادعاؤه لذلك - مع القاطع المحسوس الذي أبهته - عدماً ، والله أعلم .
ولما ذكر البعث ، ذكر ما يترتب عليه فقال : ( والذي اطمع ( هضماً لنفسه واطراحاً لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها ، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب - انتهى .
فلذلك لم يعد له عملاً ) أن يغفر ) أي يمحو ويستر .
ولما كان الله سبحانه منزهاً عن الغرضن فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير ، قال : ( لي ( وأسند الخطيئة إليه هضماً لنفسه وتواضعاً لربه فقال : ( خطيئتي ) أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره ، فإم الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير ، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلاً ) يوم الدين ) أي الجزاء .
ولما اثنى على الله تعالى بما هو أهله ، وختم بذكر هذا اليوم العظيم ، دعا بما(5/369)
صفحة رقم 370
ينحي عن هوله ، فدل صنيعه على أن تقديم الثناء على السؤال أمر مهم ، وله في الإجابة أثر عظيم ، فقالملتفتاً إلى مقام المشاهدة إشارة إلى أن الأمر مهول ، وأنه لا ينقذ من خطره إلا عظيم القدرة ، لما طبعت عليه النفس من النقائص : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ ) هب لي حكماً ) أي عملاً متقناً بالعلم ، وأصله بناء الشيء على ما توجبه الحكمة ، ولما كان الاعتماد إنما هو على محض الكرم ، فإن من نوقش الحساب عذب ، قال : ( وألحقني بالصالحين ) أي الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة ، وهم من كتن قوله وفعله صافياً عن شوب فساد .
ولما كان الصالح قد لا يظهر عمله ، وكان إظهار الله له مجلبة للدعاء وزيادة في الأجر ، قال : ( واجعل لي لسان صدق ) أي ذكراً جميلاً ، وقبولاً عاماً ، وثناء حسناً ، بما أظهرت مني من خصال الخير ) في الآخرين ) أي الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدينن لأكون للمتقين إماماً ، فيكون لي مثل أجورهم ، فإن ( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه ، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي ( صلى الله عليه وسلم ) من قوله : ( صل على محمد كما صليت على إبراهيم ) إلى آخره .
ولما طلب سعادة الدنيان وكانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة ، وكانت الجنة لا تنال إلا بمنه ، لا بشيء من ذلك ، ولذلك شبه إدخالها بالإرث الذي يحصل بغير اكتساب من الوارث وهو أقوى أسباب الملك ، قال : ( واجعلني ) أي مع ذلك كله بفضلك ورحمتك ) من ورثة جنة النعيم ( .
ولما دعا لنفسه ، ثنى بأحق الخلق ببره فقال : ( واغفر لأبي ( ثم علل دعاءه بقوله : ( إنه كان ( في ايام حياته ) من الضالين ( والظاهر أن هذا كان قل معرفته بتأييد شقائه ، ولذلك قال : ( ولا تخزني ) أي تهني بموته على ما يوجب دخوله النار ولا بغير ذلك ) يوم يبعثون ( اي هؤلاء المنكرون للبعث ، وكأن هذا الدعاء كان(5/370)
صفحة رقم 371
بحضورهم في الإنكار عليهم في عبادة الأصنام ، والظاهر أن تخصيص الدعاء بأبيه لأن أمه كانت آمنت كما ورد عن. . .
فقد صح أنه يقول يوم القيامة : يا رب إنك وعدتني ألا تخزيني ، أيّ خزي أخزي من أبي الأبعد ، فيبدل الله صورة أبيه صورة ذيخ ثم يلقي به في النار - كما رواه البخاري في غير موضع عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأن الله تعالى يقول له : ( إني حرمت الجنة عل الكافرين ) ولو كانت أمة كافرة لسأله فيها .
الشعراء : ( 88 - 100 ) يوم لا ينفع. .. . .
) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ( ( )
ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة ، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال : ( يوم لا ينفع ) أي أحداً ) مال ( اي يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر ) ولا بنون ( ينصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم ) إلا من أتى الله ) أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن ) بقلب سليم ( اي عن مرض غيرّه عن افطرة الأولى التي فطره الله عليها ، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد ، والاستقامة على فعل الخير ، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن ) المال والبنون ( ينفعانه بما تصرف فيهما من خير ، والاستثناء مفرغ ، والظاهر أن قوله ) وأزلقت ) أي قربت بأيسر وجه حال من واو ( بيعثون ) ) الجنة للمتقين ( وعرف أهل الموقف أنها لهم خاصة تعجيلاً لسرورهم وزيادة في شرفهم ) وبرزت ( اي كشفت كشفاً عظيماً سهلاً ) الجحيم ( اي النار الشديدة التأجج ، واصلها نار عظيمة في مهواة بعضها فوق بعض ) للغاوين ) أي الضالين الهالكين بحيث عرف أهل الموقف أنها لهم ) وقيل لهم ( تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً ، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد ، تحقيراً لهم ، ولأن(5/371)
صفحة رقم 372
المنكى نفس القول لا كونه من معين : ( أينما كنتم ( بتسلك الأخلاق التي هي كالجبلات ) تعبدون ) أي في الدنيا على سبيل التجديد والاستمرار .
وحقر معبوداتهم بقوله : ( من دون ) أي من أدنى رتبة من رتب ) الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شر هذا اليوم ) هل ينصرونكم ( فيمنعون عنكم ما برز لكم ) أو ينتصرون ) أي هم بالدفع عن أنفسهم .
ولما تسبب عن هذا التبريز والقول إظهار قدرته تعالى وعجزهم بقذفهم فيها قال : ( فكبكبوا ) أي الأصنام ونحوها ، قلبوا وصرعوا ورموا ، قلباً عظيماً مكرراً سريعاً من كل من أمره الله بقلبهم بعد هذا السؤال ، إظهاراً لعجزهم بالفعل حتى عن الجواب قبل الجواب ) فيها ) أي ي مهواه الجحيم قلباً عنيفاً مضاعفاً كثيراً بعضهم في اثر بعض ) هم ) أي الأصنام وما شابهها مما عبد من الشاطين ونحوهم ) والغاون ) أي الذي ضلوا بهم ) وجنود إبليس ( من شياطين الإنس والجن ) أجمعون ( .
ولما علم بهذا أنهم لم يتمكنوا من قول في جواب استفامهم توبيخاً ، وكان من المعلوم أن الإنسان مطبوع على أن يقول في كل شيء ينوبه ما يثيره له إدراكه مما يرى أنه يبرد من غلته ، وينفع من علته ، تشوف السامع إلى معرفة قولهم بعد الكبكبة ، فأشير إلى ذلك بقوله : ( قالوا ) أي العبدة ) وهم فيها ) أي الجحيم ) يختصمون ) أي مع المعبودات : ( تالله ) أي الذي له جميع الكمال ) إن كنا لفي ضلال مبين ) أي ظاهر جداً لمن كان له قلب ) إذ ) أي حين ) نسويكم ( في الرتبة ) برب العالمين ) أي الذين فطرهم ودبرهم حتى عبدناكم ) وما أضلنا ) أي ذلك الضلال المبين عن الطريق البين ) إلا المجرمون ) أي العريقون في صفة الإجرام ، المقتضي لقطع كل ما ينبغي أن يوصل ) فما ) أي فتسبب عن ذلك أنه ما ) لنا ( اليوم ؛ وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجارّ فقالوا : ( من شافعين ( يكونون سبباً لإدخالنا الجنة ، لأنا صرفنا ما كان يجب علينا لذي الأمر إلى من لا أمر له ؛ ولعله لم يفرد الشافع لأنهم دخلوا في الشفاعة العظمى .
الشعراء : ( 101 - 107 ) ولا صديق حميم
) وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ( )
ولما كان الصديق قد لا يكون أهلاً لأن يشفع ، قالوا تأسفاً على أقل ما يمكن : ( ولا صديق ( اي يصدق في ودنا ليفعل ما ينفعنا .
ولما كان أصدق الصداقة ما كان من(5/372)
صفحة رقم 373
القريب قال : ( حميم ) أي قريب ، وأصله المصافي الذي يحرقه ما يحرقك ، لأنا قاطعنا بذلك كل من له أمر في هذا اليوم ؛ وأفرد تعميماً للنفي وإشارة إلى قلته في حد ذاته أو عدمه .
ولما وقعوا في هذا الهلاك ، وانتفى عنهم الخلاص ، تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا : ( فلو لنا كرة ) أي رجعة إلى الدنيا ) فنكون من المؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً ، فأزلفت لهم الجنة .
ولما كان في هذه القصة أعظم زاجراً عن الشرك ، وآمر بالإيمان ، نبه على ذلك بقوله : ( إن في ذلك ( اي هذا الأمر العظيم الذي قصصته ن قول إبراهيم عليه السلام في إقامة البرهان على إبطال الأوثان ، ونصب الدليل على أنه لا حق إلا الملك الجليل الديان ، وتغيبه وترهيبه وإرشاده إلى التزود في أيام المهلة ) لآية ) أي عظيمة على بطلان اباطل وحقوق الحق ) وما ( اي والحال أنه ما ) كان أكثرهم ) أي الذين شهدوا منه هذا الأمر العظيم والذين سمعوه عنه ) المؤمنين ( اي بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة ، وفي ذلك أعظم تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأعظم آبائه عليهم الصلاة والسلام ) وإن ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك ) لهو عزيز ) أي القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه ) الرحيم ) أي الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم ، ودفع النقم ، وإرسال الرسل ، ونصب الشرائع ، لبيان ما يرضاه ليتبع ، وما يسخطه ليتجنب ، فلا يهلك إلا بعد إقامة الحجة بإيضاح المحجة .
ولما أتم سبحانه قصة الب الأعظم الأقرب ، أتبعها - دلالة على وصفي العزة والرحمة - قصة الأب الثاني ، مقدماً لها على غيرها ، لما له من القدم في الزمان ، إعلاماً بأن البلاء قديم ، ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنقمة التي أثر العزة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم ، ثم تعميم النقمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال : ( كذبت ( بإثبات التاء اختياراً للتأنيث - وأن كان تذكير القوم أشهر - للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال ، أو إلى أنهم مع عتوهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه أهون شيء واضعفه بحيث جعلهم هباء منثوراً وكذا من بعدهم ) قوم نوح ( وهو أهل الأرض كلهم من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرق اللغات ) المرسلين ( اي بتكذيبهم نوحاً عليه السلام ، لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة ، ومن كذب بمعجزة واحدة فقد كذب الكل لأن الآخر جاء بما جاء به الأول - حكاه عنه البغوي .
ولقصد التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة ) إذ ( أي(5/373)
صفحة رقم 374
حين ) قال لهم ( لم يتأنوا بطلب دليل ، ولا ابتغاء وجه جميل ؛ واشار إلى نسبه فيهم بقوله : ( أخوهم ( زيادة في تسلية هذا النبي الكريم ) نوح ( وأشار إلى حسن أدبه ، واستجلابهم برفقه ولينه ، بقوله : ( إني لكم ( اي مع كوني أخاكم يسوءني ما يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره ؛ ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله : ( إني لكم ( اي مع كوني أخاكم يسوءني ما يسوءكم ويسرني ما يسركم ) رسول ( اي من عند خالقكم ، فلا مندوحة لي عند إبلاغ ما أمرت به ) أمين ) أي لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم بي ، ولا خيانة في شيء من الأمانة ، فلذلك لا بد لي من إبلاغ جميع الرسالة .
الشعراء : ( 108 - 116 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ينُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ ( ( )
ولما عرض عليهم التقوى بالرفق ، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها ، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال : ( فاتقوا الله ( اي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال ، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أص السعادة فتكونوا من أهل الجنة ) وأطيعون ) أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك ، فلا يمسكم عذاب .
ولما أثبت أمانته ، نفى تهمته فقال : ( وما اسألكم عليه ) أي على هذا الحال الذي أتيتكم به ؛ واشار إلى الإعراق في النفي بقوله : ( من أجر ) أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سبباً له ؛ ثم أكد هذا النفي بقوله : ( إن ) أي ما ) أجري ) أي في دعائي لكم ) إلا على رب العالمين ) أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم .
ولما انتفت التهمة ، تسبب عن انتفائها أيضاً ما قدمه ، فأعاده إعلاماً بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيداً له في قلوبهم تنبيهاً على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال : ( فاتقوا الله ) أي الذي حاز جميع صفات العظمة ) وأطيعون ( .
ولما قام الدليل على نصحه وأمانته ، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب ) ما لهذا الرسول ( الآيات ، وقال : لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن تتبعك حتى نزل في ذلك ) ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم ( ) [ الأنعام : 52 ](5/374)
صفحة رقم 375
ونحوها من الآيات ، بأن ) قالوا ) أي قومه ، منكرين لاتباعه استناداً إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس - أي احتقارهم : ( أنؤمن لك ) أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك ) و ( الحال أنه قد ) اتبعك الأرذلون ) أي المؤخرون في الحال والمآل ، والأحوال والأفعال ، فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم ، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك ، ولا مانع من اتباعك ، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعاً لهم عن السعادة الباقية ، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوّها عن شاغل موجبٌ لإقبالها على الخير وقبولها له ، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم ، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباعالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة ، فأصبح فوقه بدرجة ، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه ، ورضي لنفسه أن يكون دونه ، فما اسخف عقله وما أكثر جهله فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه .
ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله ، وإنما تتشرف بآثارها ، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحالة من قاله وفعاله ، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة ، والأوصاف البديعة ، فلذلك ) قال ( نافياً لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري : ( وما ) أي وأيّ شيء ) علمي بما كانوا يعلمون ) أي قبل أن يتبعوني ، أي وما لي وللبحث عن ذلك ، إ ، ما لي ظاهرهم ان وهو خير ظاهر ، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسّهم نسباً ، فإن الغني غني الدين ، ولانسب نسب التقوى ؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله : ( إن ( اي ما ) حسابهم ) أي في الماضي والآتي ) إلا على ربي ( المحس وتعرف بواطنهم ، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها ) لو تشعرون ( اي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط ، ولا نظر له إلى يوم الحساب .
ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم ، صرح به في قوله : ( وما ) أي ولست ) أنا بطارد المؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن ) أي ما ) أنا إلا نذير ( اي محذر ، لا وكيل مناقش على البواطن ، ولا متعنت على الاتباع ) مبين ( أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً .(5/375)
صفحة رقم 376
ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوههموا من اتباعه لو طردهم خداعاً ، أقبلوا على التهديد ، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله : ( قالوا لئن لم تنته ( ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا : ( يا نوح لتكونن من المجرمين ) أي المقتولين ، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء .
الشعراء : ( 117 - 129 ) قال رب إن. .. . .
) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( ( )
ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم ، ورأى بما يصدقه من فعلهم ، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك : ( قال ( شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً ، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً ، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واكتفاء عنه بسببه : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ .
ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة ، وبهم من القرابة ، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح ، أكد الإخبار بتكذيبهم ، إعلاماً بوجوده ، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال : ( إن قومي كذبون ) أي فلا نية لهم في اتباعي ) فافتح ) أي احكم ) بيني وبينهم فتحاً ) أي حكماً يكون لي فيه فرج ، وبه من الضيق مخرج ، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم ) ونجني ومن معي ( اي في الدين ) من المؤمنين ( مما تعذب به الكافرين .
ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة ، وبهم من القرابة ، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح ، أكد الإخبار بتكذيبهم ، إعلاماً بوجوده ، وبأنه تحققه منهم من غير شك فقال : ( إن قومي كذبون ) أي فلا نية لهم في اتباعي ) فافتح ) أي احكم ) بيني وبينهم فتحاً ) أي حكماً يكون لي فيه فرج ، وبه من الضيق مخرج ، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم ) ونجني ومن معي ) أي في الدين ) من المؤمنين ( مما تعذب به الكافرين .
ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف ، أبرزه في مظهر العظمة فقال : ( فأنيجناه ومن معه ) أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم ) في الفلك ( ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال : ( المشحون ) أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم .
ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال : ( ثم أغرقنا بعد ) أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه ) الباقين ) أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم ، وكان ذلك علينا يسيراً .(5/376)
صفحة رقم 377
ولما كان ذلك أمراً باهراً ، عظمه بقوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك ) لآية ) أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به ، على أنا ننتقم ممن عصانا ، وننجي من أطاعنا ، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان ، ويحمله على الاستسلام والإذعان ) وما ( اي والحال أنه ما ) كان أكثرهم ) أي أكثر العالمين بذلك ) مؤمنين ( وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق ) وإن ربك ( المحسن إليك بإرسالك ، وتكثير أتباعكن وتعظيم أشياعك ) لهو العزيز ) أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة ، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية ) الرحيم ) أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص ودتده ، ويرسل إلى الضالينعن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره ، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي ، والإبلاغ الوافي .
ولما كان كأنه قيل : إن هذا لأمر هائل ، في مثله موعظة ، فما فعل من جاء بعدهم ؟ هل اتعظ ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً : ( كذبت عاد ( اي تلك القبيلة التي من الله لها في الأرض بعد قوم نوح ) المرسلين ( بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام ؛ ثم سلى هذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( إذ ) أي حين ) قال لهم أخوهم هود ( لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره ، وقد عرفوا صدق إخائه ، وعظيم نصحه ووفائه ) ألا ( بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم ) تتقون ( اي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع ؛ ثم علل بقوله : ( إني لكم رسول ) أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك ) أمين ) أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه ) فاتقوا ( اي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : اتقوا ) الله ( الذي هو أعظم من كل شيء ) وأطيعون ) أي في كل ما آمركم به من دوام تعظيمه ) وما ( اي أنا رسول داع والحال أني ما ) أسئلكم عليه ) أي الدعاء ) من أجر ( فتتهموني به ) إن ) أي ما ) أجري غلا على رب العالمين ( .
ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل ، وهو الإيمان بالرسول المرسل ، اتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر ، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي ، واعظاً لهم بما كان ما هم عليه مما أوجبه الكفر ، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي ، واعظاً لهم حال الناسي لذلك الطوفانن الذي أهلك الحيوان ، وهدم البنيان فقال : ( اتبنون بكل ريع ) أي مكان مرتفع ؛ قال أبو حيان : وقال أبو عبيدة : الريع الطريق .
وقال مجاهد :(5/377)
صفحة رقم 378
الفج بين الجبلينن وقيل : السبيل سلك أم لم يسلك .
وأصله في اللغة الزيادة ) آية ) أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها .
ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل ، قال : ( تعبثون ( والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة عن العبث الذي لا يكون سبب نجاتهن وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه .
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال : ( وتتخذون مصانع ) أي أشياء بأخذ الماء ، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها ، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً ، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود ، ولذلك قال : ( لعلكم تخلدون ( وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم .
الشعراء : ( 130 - 143 ) وإذا بطشتم بطشتم. .. . .
) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ( )
ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت ، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال : ( وإذا بطشتم ) أي بأحد ، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة ) بطشتم جبارين ) أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره ؛ قال البغوي : والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب .
ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار ، تسبب عنه أن قال : ( فاتقوا الله ) أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام ) وأطيعون ( .
ولما كان ادكار الإحسان موجباً للإذعان ، قال مرغباً في الزيادة ومرهباً من الحرمانك ) واتقوا الذي أمدكم ( اي جعل لكم مدداً ، وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام ) بما تعلمون ( اي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر .(5/378)
صفحة رقم 379
ولما أجمل ، فصل ليكون أكمل ، فقال : ( أمدكم بأنعام ) أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون .
ولما قدم ما يقيم الأود ، أتبعه قوله : ( وبنين ) أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز .
ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال : ( وجنات ( اي بساتين ملتفة الشجار بحيث تستر داخلها ، وأشار إلى دوام الريّ بقوله : ( وعيون ( .
ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون : ما الذي تبقيه منه ؟ قال : ( إني أخاف عليكم ) أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم - إن تماديتم على المعصية ) عذاب يوم عظيم ( وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب ) قالوا ( راضين بما عندهم من داء الإعجاب ، الموقع في كل ما عاب ، ) سواء علينا أوعظت ) أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله ، دل على ذلك قوله : ( أم لم تكن من الواعظين ( اي متأهلاً لشيء نم رتبة الراسخين في الوعظ ، معدوداً في عدادهم ، مذكوراً فيما بينهم ، فهو أبلغ من ( أم لم تعظ ) أو ( تكن تعظ ، والوعظ - كما قال البغوي : كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد .
والمعنى أن الأمر مستو في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء ؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إن ) أي ما ) هذا ( اي الذي جئتنا به ) إلا خلق ( بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ) الأولين ) أي كذبهم ، أو ما هذا الذي نحن فيه غلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين ، وعافية قوم وبلاء آخرين ، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام ) وما نحن بمعذبين ( لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة .
ةلما تضمن هذا التكذيب ، سبب عنه قوله : ( فكذبوه ( ثم سبب عنه قوله : ( فأخلكناهم ( اي بالريح بما لنا من العظمة التب لا تذكر عندها عظمتهم ، والقوة التي بها كانت قوتهم ) إن في ذلك ) أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين ) لآية ) أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل ، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز ) وما كان أكثرهم ) أي أكثر من كان بعدهم ) مؤمنين ( فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان ) وإن ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم ) لهو العزيز ( في اتقامه ) الرحيم ( في إنعامه وإكرامه وإحسانه ، مع عصيانه وكفرانه ، وإرسال المنذرين وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم ، والمنهج الأسلم ، فلا يهلك غلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار ؛ ثم ذل على ذلك لمن قد ينسى غذ كان الإنسان مجبولاً على النسيان بقوله : ( كذبت ثمود ( وهو أهل الحجر ) المرسلين ( وأشار(5/379)
صفحة رقم 380
إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله : ( إذ ) أي حين ) قال لهم أخوهم ) أي الذي يعرفون صدقه وأمانته ، وشفقته وصيانته ) صالح ( وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض ) ألا تتقون ( ثم علل ذلك بقوله : ( إني لكم رسول ) أي من الله ، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك ، وإلا لم أعرضه عليكم ) أمين ( لا شيء من الخيانة عندي ، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكمن الذي لا أحد أرحم بكم منه .
الشعراء : ( 144 - 154 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ( )
ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر ، سبب عنه قوله ) فاتقوا الله ) أي الملك الأعلى الذي ه الغنى المطلق .
ولما ذكر الأمانة قال : ( وأطيعون ( .
ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه ، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال : ( وما ) أي إني لكم كذا والحال أني ما ) أسئلكم عليه ( وأعرق في النفي بقوله : ( من أجر ( ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله : ( إن ) أي ما ) أجري ( على أحد ) إلا رب العالمين ( اي المحسن إليهم أجمعين ، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم .
ولما ثبتت الأمانة ، وانتفى موجب الخيانة ، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره ، فقال مخوفاً لهم من سطواته ، ومرغباً في المزيد من خيراته .
منكراً عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن ، واسنتادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني : ( أتتركون ) أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله ) في ما هاهنا ) أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم ) آمنين ) أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم .
ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن .
بين ما أجمل بقوله مذكراً لهم بنعمة الله ليشكروها : ( في جنات ( اي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها ) وعيون ( تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع ) وزروع ( وأشار إلى عظم النخيل ولا سيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله : ( ونخل طلعها ) أي ما يطلع منها من الثمر ؛ قال الزمخشري : كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو ، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه .
) هضيم ((5/380)
صفحة رقم 381
أي جواد كريم من قولهم : يد هضوم - إذا كانت تجود بما لديها ، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء ، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله القزاز معناه أنه قد هضم - اي ضعط - بعضه بعضاً لتراكمه ، فإنه لا يكون كذلك غلا وهو كثير متقارب النضد ، لا فرج بينه ، ولطيف لين هش طيب الرائحة ، من الهضم بالتحريك ، وهو خمس البطن ولطف الكشح ؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة ، والهضم : البخور ، والمهضومة : طيب يخلط بالمسك واللبان ؛ قال الرازي في اللوامع : أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس ، أو يههم الطعام ، وكل هذا يرجع إلى لطافته .
ولما ذكر اللطيف من أحوالهم ، أتبعه الكثيف من أفعالهم ، فقال عطفاً على ) أتتركون ( أو مبيناً لحال الفاعل في ) آمنين ( : ( وتنحتون ) أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة ) من الجبال بيوتاً فارهين ) أي مظهرين النشاط والقوة ، تعظيماً بذلك وبطراً ، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك ) فاتقوا ( اي فتسبب عن ذلك أني اقول لكم : اتقوا ) الله ( الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره ؛ واجتناب زواجره ) وأطيعون ( اي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه .
فإني لا آمركم غلا بما يصلحكم فيكون سبباً لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون ) ولا تطيعوا ( .
ولما كان لانقياد للآمر إنما هة بواسطة ما ظهر من أمره قال : ( أمر المسرفين ( اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقاً : ثم وصفهم بما بين إسرافهم ، وهو ارتكابالفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال : ( الذين بفسدون في الأرض ( اي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله .
ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحاً ، نفى ذلك بقوله : ( ولا يصلحون ) أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك ، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقاً في الإسراف بجمع هذين الأمرين .
ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه ، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه ، عدلوا إلى التخلييل على عقول الضعفاء بأن ) قالوا ما أنت من المسحرين ( اي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور ، وهي الرئات ، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك ؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنها : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ، يقال : سحره أي علله بالطعام والشراب .
ويؤيده خصوصيتك عنا بالرسالة ، وهل يكون الرسول من البشر ، وإتباعهم الوصف(5/381)
صفحة رقم 382
الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه .
قالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل : الزمان حلو حامض ، أي مر ، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزها غلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم : ( فأت بآية ( اي علامة تدلنا على صدقك ) إن كنت ) أي كوناً هو غاية الرسوخ ) من الصادقين ) أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريباً في قصة شعيب عليه السلام .
الشعراء : ( 155 - 163 ) قال هذه ناقة. .. . .
) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( ( )
ولما أسرع الله تعالى في إجابته حين دعا أن يعطيهم ما اقترحوا ، أشار إلى ذلك بقوله : ( قال ( اي جواباً لاقتراحهم : تعالوا نظروا ما آتيكم به آية على صدقي ، فأتوا فأخرج الله له من الصخرة ناقة عشراء كما اقترحوا ، فقال مشيراً إليها بأداة القرب إشارة إلى سهولة إخراجها وسرعته : ( هذه ناقة ) أي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم ؛ ثم أشار إلى أن في هذه الاية آية أخرى بكونها تشرب ماء البئر كله في يوم وردها وتكف عنه في اليوم الثاني لأجلهم ، بقوله : ( لها شرب ) أي نصب من الماء في يوم معلوم ) ولكم شرب يوم ( اي نصيب من الماء في يوم ) معلوم ( لازحام بينكم وبينها في شيء من ذلك .
ولما أرشد السياق إرشاداً بَيِّناً إلى أن المعنى : فخذوا شربكم واتركوا لها شربها ، عطف عليه قوله : ( ولا تمسوها بسوء ) أي كائناً ما كان وإن قل ، لأن ما كان من عند الله يجب إكرامهن ورعايته واحترامه ؛ ثم خوفهم بما يتسبب عن عصيانهم فقال : ( فيأخذكم ( اي يهلككم ) عذاب يوم عظيم ( بسبب ما حل فيه من العذاب ، فهو ابلغ من وصف العذاب بالعظم ، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله : ( فعقروها ) أي قتلوها بضرب ساقها بالسيف .
ولما تسبب عن عقرها حلول مخايل العذاب ، أخبر عن ندمهم على قتلها من حيث إنه يفضي إلى الهلاك ، لا من حيث إنه معصية لله ورسوله .
فقال : ( فأصبحوا ندامين ) أي على عقرها لتحقق العذاب ؛ واشار غلى أن ذلك الندم لا على وجه التوبة أو أنه عند رؤية البأس فلم ينفع ، فإنه نقل عنهم أنه أتاهم العذاب العذاب وهو يحاولون أن يقتلوا صالحاً عليه السلام ، بقوله : ( فأخذهم العذاب ( اي المتوعد به .(5/382)
صفحة رقم 383
ولما كان في الناقة وفي حلول المخايل كما تقدم أعظم دليل على صدق الرسول الداعي إلى الله قال : ( إن ف ذلك لآية ( اي دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله ، ) وما ) أي والحال أنه مع ذلك ما ) كان أكثرهم مؤمنين ( .
ولما كان ربما توهم أنه سبحانه غير متصف بالعزة لعدم قسرهم على الإيمان ، أو بالرحمة لإهلاكهم ، قال : ( وإن ربك لهو العزيز ( اي فلا يخرج شيء من قبضته وإرادته ، وهو الذي أراد لهم الكفر ) الرحيم ( في كونه لم يهلك أحداً حتى ارسل إليهم رسولاً فبين لهم ما يرضاه سبحانه وما يسخطه ، وابلغ في إنذارهم حتى اقام الحجة من علم منه الخير لما يرضيه ، فيتسبب عن ذلك سعادتهن وفي تكريره سبحانه هذه الآية آخر كل قصة على وجه التأكيد وإتباعها ما دلت عليه من كفر من أتى بعد أصحابها .
من غير اتعاظ بحالهم ، ولا نكوب عن مثل ضلالهم ، خوفاً من نظير نالكهم ، أعظم تسلية لهذا النبي الكريم ، وتخويف لكل عليم حليم ، واستعطاف لكل ذي قلب سيلم ، ولذلك قال واصلاً بالقصة : ( كذبت ( اي دأب نمتقدم كأنهم تواصوا به ) قوم لوط المرسلين ( لأن من كذب رسولاً - كما مضى - فقد كذب الكل ، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق .
وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب .
وبين إسراعهم في الضلال بقوله : ( إذ ( اي حين ) قال لهم أخوهم ( اي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل - وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم ، ومناسيتهم بمصاهرتهم ، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة ، وسنين عديدة ، وإتيانه بالأولاد من نسائهم ، مع موافقته لهم في أنه قروي ، ثم بينه بقوله : ( لوط ألا تتقون ( اي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية .
ولا كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله : ( إني لكم ( اي خاصة ) رسول أمين ) أي لا سيء من غش ولا خيانة عندي ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فاتقوا الله ( اي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته ) وأطيعون ( اي لأن طاعتي سبب نجاتكم ، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه .
ولا أنهاكم إلا عما يغضبه .
الشعراء : ( 164 - 171 ) وما أسألكم عليه. .. . .
) وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ( ( )(5/383)
صفحة رقم 384
ولما أثبت الداعي إلى طاعته ، نفى الناهي عنها فقال : ( وما أسئلكم عليه ) أي الدعاء إلى الله ) من أجر ) أي فتتهموني بسببه ؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال : ( إن ) أي ما ) أجري إلا على رب العالمين ) أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم .
فلما وجدوا المتقضي لاتباعه وانتفى المانع ، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخاُ مقرعاً بياناً لتفاحش فعلهم وعظمة : ( أتاتون ( اي إتيان المعصية ) الذكران ( ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلاً في الشر وتجاهراً بالتهتك لقوله : ( من العالمين ) أي كلهم ، أو يكون المعنى : من بين الخلائق ، اي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران ، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق ) وتذرون ) أي تتركون لهذا الغرض ) ما خلق لكم ) أي النكاح ) ربكم ( المحسن إليكم ) من أزواجكم ) أي وهن الإناث ، على أن ( من ) لبيان ، ويجوز أن تكون مبغضةن ويكون المخلوق كذلك هو القبل .
ولما كانوا كأنهم قالوا : نحن لم نترك أزواجنا ، حملاً لقوله على الترك أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهما أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور ، قال مضرباً عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما ارادوه به ، حيدة عن الحق ، وتمادياً في الفجور : ( بل أنتم قوم عادون ( اي تركتم الأزوتج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران ، وليس ذلك ببدع من أمركم ، فإن العدوان - الذي هو مجاوزة الحد في الشر - وصف لكم أنتم عريقون فيه ، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى .
فلما اتضح الحق ، وعرف المراد ، وكان غريباً عندهم ، وتشوف السامع إلى جوابهم ، استؤنف الإخبار عنه ، فقيل إعلاماً بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلاً لعدولهم غلى الفحش : ( قالوا ( مقسمين : ( لئن لم تنته ( وسموه باسمه جفاء غلظة فقالوا : ( يا لوط ( عن مثل إنكارك هذا علينا .
ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وغنكار كل من يسمعهم أنيخرج مثله ، زادوا في التأكيد فقالوا : ( لتكونن من المخرجين ( اي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهوراً به بينهم .
إشارة إلى أنه غريب عندهم ، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعتراض عليهمن وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه ، فكان إخراجه ، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام ) قال ( اي جواباً لهم : ( إني ( مؤكداً لمضمون ما يأتي به ) لعملكم ( ولم يقلك قال بل زاد في التأكيد بقوله : ( من(5/384)
صفحة رقم 385
القالين ) أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش ، العريقين في هذا الوصف ، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله ، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره ، والقلاءك بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد .
ولما بادأهم هذا الذي من شانه الإفضاء إلى الشرن اقبل على من يفعل ذلك لأجله ، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء ، فقال : ( رب نجني وأهلي مما ) أي من الجزاء الذي يلحقهم لما ) يعملون ( .
ولمااقبل سبحانه وتعالى دعاءه ، أشار غلى ذلك بقوله : ( فنجيناه وأهله ( مما عذبناعهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له ، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله ، وعين سبحانه المراد مبيناً أن أهله كثير بقوله : ( أجمعين ) أي أهل بيته والمتبعين له على دينه ) إلا عجوزاً ( وهي امرأته ، كائنة ) في ( حكم ) الغابرين ) أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الجاهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل ، لكونها لم تتابعه في الدين ، وكان هواها مع قومها .
الشعراء : ( 172 - 180 ) ثم دمرنا الآخرين
) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم ، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه ، لم يتخلل بينهما مهلة فقال : ( ثم دمرنا ) أي أهلكنا هلاكاً بغتة صلباً اصمّ في غاية النكد ، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ ) الآخرين ( لإفهام تأخرهم من كل وجه .
ولما كلان معنى ) دمرنا ( : حكمنا بتدميرهمن عطف عليه قوله : ( وأمطرنا ( ودل على العذاب بتعديته ب ( على ) فقال : ( عليهم مطراً ) أي وأي مطر ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فساء مطر المنذرين ) أي ما اسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان .
ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك النجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة ، أشار إلى ذلك بقوله : ( إن في ذلك لآية ) أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغبيهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم .(5/385)
صفحة رقم 386
ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم ، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار ، والتوسم في الآثار قال معجباً ن حالهم في ضلالهم : ( وما ( اي والحال أنه ما ) كان أكثرهم مؤمنين ( .
ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار ، اتبعه التصيح بالتخويف والإطماع فقال : ( وإن ربك لهو ( اي وحده ) العزيز ) أي في بطشه بأعدائه ) الرحيم ( في لطفه بأوليائه ، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل ، وبيان كل مشكل ؛ ثم وصل بذلك دليلهن فقال مذكراً الفعل لشدة كفرهم بدليل ما يأتي من إثبات الواو في ) وما أنت إلا بشر مثلنا ( : ( كذب أصحاب لئيكة ) أي الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف ) المرسلين ( لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة السماوية في خرق العادة وعجز المتحدّين بها عن مقاومتها - لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ) إذ قال لهم ( .
ولما كانوا أهل بدو وكان هو عليه السلام قروياً ، قال : ( شعيب ( ولم يقل : أخوهم ، إشارة إلى أنه لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى ، تشريفاً لهم لأن البركة والحكمة في الاجتماعن ولذلك نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن التعرب بعد الهجرة ، وقال : ( من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة ) ) ألا تتقون ( اي تكونون من أهل التقو ، وهو مخافة من الله سبحانه وتعالى .
ولما كان كأنه قيل : ما لك ولهذا ؟ قال : ( إني ( واشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله : ( لكم رسول ) أي من الله ، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك ) أمين ) أي لا غش عندي ولا خداع ولا خيانه ، فلذلك ابلغ جميع ما ارسلت به ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فاتقوا الله ) أي المستحق لجميع العظمة ، وهوالمحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها ) وأطيعون ( اي لما ثبت من نصحي .
ولا قدم ما هو المقصودبالذات .
عطف على خبر ) إن ( قوله : ( وما أسئلكم عليه من أجر ( نفياً لما ينفر عنه ؛ ثم زاد في البراءة مما يوكس من الطمع في أحد من الخلق فقال : ( إن ( اي ما ) أجري إلا على رب العالمين ( اي المحسن غلى الخلائق كلهم ، فأنا لا أرجوا أبداً أحداً يحتاج إلى الإحسان إليه ، وإنما أعلق أملي بالمحسن الذي(5/386)
صفحة رقم 387
لا يحتاج إلى أحد وكل أحد سائل من رفده ، وآخذ من عنده ولقد اتضح أن الرسل متطابقون في الدعوة في الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة ، مع النصح والعفة ، والأمانة والخشية والمحبسة .
الشعراء : ( 181 - 189 ) أوفوا الكيل ولا. .. . .
) أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : ما الذي تنعى فيه ؟ قال : مبيناً أن داءهم حب المال ، المفصي لهم إلى سوء الحال ، ) أوفوا الكيل ) أي أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم .
ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعلم فقال : ( ولا تكونوا ) أي كوناً هو كالجبلة ، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها ، ولذلك قال : ( من المخسرين ) أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن ، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله .
ولما أمر بوفاء الكيل ، أتبعه بمثل ذلك في الوزن ، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال : ( وزنوا ) أي لأنفسكم وغيركم ) بالقسطاس ( اي الميزان الأقوم ؛ وأكد معناه بقوله : ( المستقيم ( .
ولما أمر بالوفاء في الوزن ، اتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال : ( ولا تبخسوا ) أي تنقصوا ) الناس اشياءهم ) أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه .
ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال : ( ولا تعثوا ) أي تتصرفوا ) في الأرض ( عن غير تأمل حال كونكم ) مفسدين ) أي في المال أو غيره ، قاصدين بذلك الإفساد - كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام .
ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد ، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال : ( واتقوا الذي خلقكم ( اي فإعدامكم أهون شيء عليه ، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله : ( والجبلة ) أي الجماعة والأمة ) الأولين ( الذين كانوا على خلقه وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا(5/387)
صفحة رقم 388
سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكمن وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم ، والصلابة في جميع أركانهم ، إلى أن قالوا
77 ( ) من أشد منا قوة ( ) 7
[ فصلت : 15 ] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه ، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم .
ولما كان الحاصل ما مضى الإعلام بالرسالة ، والتحذير من المخالفة ، لأنها تؤدي إلى الضلالة إلى أن ختم ذلك بالإشارة بالتعبير بالجبلة إلى أن عذابه تعالى عظيم ، لا يستعصي عليه صغير ولا كبير ، أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً ، وباستصغار الوعيد ثانياً ، بأن ) قالوا إنما أ ، ت م المسحرين ) أي الذين كرر سحرهم مرة بعد أخرى حتى اختبلوا ، فصار كلامهم على غير نظام ، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام ، أي فأنت بعيد من الصلاحية للرسالة : ثم اشاروا إلى عدم صلاحية البشر مطلقاً لها ولو كانوا أعقل الناس وابعدهم عن الآفة بقولهم ، عاطفين بالواو إشارة إلى عراقته فيما وصفوه به من جهة السحر والسحر ، وأنه لا فرق بينه وبينهم : ( وما أنت إلا بشر مثلنا ) أي فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك ، والدليل على أن عطف ذلك ابلغ من إتباعه من غير عطف جزمهم بظن كذبه في قولهم ؛ ) وإن ) أي وإنّا ) نظنك لمن الكاذبين ) أي العرقين في الكذب - هذا مذهب البصرين في أن ) إن ( مخففة من الثقيلة ، والذي يقتضيه السياق ترجح مذهب الكوفيين هنا البصريين في أن ) إن ( نافية ، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في ) وما ( المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه ، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظن يتوجه إلى غير كذب ، وهو أبلغ من إثبات الظن به ، ويؤيده تسبيبهم عنه سؤاله استهزاء به وتعجيزاً له إنزال العذاب بخلاف ما تقدم عن قوم صالح عليه السلام ، فقالوا : ( فأسقط علينا كسفاً ( بإسكان السين على قراءة الجماعة وفتحها في رواية حفص ، وكلاهما جمع كسفة ، اي قطعاً ) من السماء ) أي سحاب ، أو الحقيقة ، وهذا الطلب لتصميمهم على التكذيب ، ولو كان فيهم ادنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلاً عن طلبه ولا سيما كونه على وجخ التهكم ، ولذلك قالوا : ( إن كنت ) أي كوناً هو لك كالجبلة ) من الصادقين ) أي العريقين في الصدق ، المشهورين فيما بين أهله ، لنصدقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب من التهديد بالعذاب ، وما أحسن نظره إلى تهديده لهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشد منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسله .
ولما كان عذاب العاصي يتوقف على العلم المحيط بأعماله ، والقدرة على نكاله ، استأنف تعالى الحكاية عنه في تنبيهه لهم على ذلك بقوله : ( قال ( مشيراً إلى أنه لا شيء من ذلك إلا إلى من أرسله ، وهو متصف بكلا الوصفين ، وأما هو فإنه وإن كان(5/388)
صفحة رقم 389
عالماً فهو قاصر العلم فهو غير قادر : ( ربي أعلم ) أي مني ) بما تعملون ( لأنه محيط العلم فهو شامل القدرة ، فهو يعلم استحقاقكم للعذاب ، ومقدار ما تستحقون منه ووقت إنزاله ، فإن شاء عذبكم ، وأما أنا فليس عليّ إلا البلاغ وأنا مأمور به ، فلم أخوفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم ، فطلبكم ذلك مني ظلم منكم مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب .
ولما كان محط كلامهم كله على تكذيبهم له من غير قدح في قدرة الخالق ، سبب العذاب عن تكذيبهم فقال : ( فكذبوه ) أي استمروا على تكذيبه ) فأخذهم ) أي أخذ ملاك ) عذاب يوم الظلة ( وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء ، أتتهم بعد حر شديد نالهم حتى من الأسراب في داخل الأرض أشد مما نالهم من خارجها ليعلم أن لا فاعل إلا الله ، وأنه يتصرف كيف شاء على مقتضى العادة وغير مقتضاها فوجدوا من تلك الظلة نسيماً بارداً ، وروحاً طيباً ، فاجتمعوا تحتها استرواحاً إليها واستظلالاً بها ، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا بنحو مما اقترحوا وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، فنفذت فيهم سهام القدرة .
ولم يجدوا من دونها وقاية ولا سترة من غير أن تدعو حاجة إلى سقوط شيء من جرم السماء ، ولا بما دونها من العماء .
ولما كان الحال موجباً للسؤال عن يوم الظلة ، قال تعالى مهوّلاً لأمره ومعظماً لقدره : ( إنه كان ( فأكد ب ( إن ) وعطم ب ( كان ) ) عذاب يوم عظيم ( وزاده عظماً بنسبته إلى اليوم فصار له من الهول ، ببديع هذا القول ، ما تجب له القلوب وتعظم الكروب .
الشعراء : ( 190 - 199 ) إن في ذلك. .. . .
) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما كان لتوالي الأخبار بإهلاك هذه القرون ، وإبادة من ذكر من تلك الأمم ، من الرعب ما لا يبلغ وصفه ، ولا يمكن لغيره سبحانه شرحه ، قال تعالى مشيراً إليه تحذيراً من مثله : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكل رسول ومن أطاعه ، والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر ، بحث لا يشذ من الفريقين إنسان قاص ولا دان ) لآية ( اي لدلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوا من البشائر والنذائر بأن الله تعالى يهلك من عصاه ، وينجي من والاه ، لأنه الفعال المختار ، لا مانع له ، ولا سيما أنت وأنت أعظمهم منزلة ، وأكرمهم رتبة ، ولا سيما وقد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم(5/389)
صفحة رقم 390
بك معرفة قبل ذلك ، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصقهم لهجة ، واعظمهم أمانة ، وأغزرهم عقلاً ، وأوضحهم نبلاً ، وأعلاهم همة ، وابعدهم عن كل دنس - وإن قل - ساحة ؛ ثم عجب من توقفهم في الإيمان مع ما عرفوا من صدق نبيهم وطهارة أخلاقه ، ووفور شفقته عليهم ، ولم يخافوا من مثب ما تحقفوه من إهلاك هذه الأمم فقال : ( وما كان أكثرهم ) أي أكثر قومك كما كان من قبلهم مع رؤية هذه الآيات ، وإحلال المثلات حتى لكأنهم تواصوا بذلك ) مؤمنين ) أي عريقين في الإيمان ، بل ما يؤمنون إلا وهو مشركون .
ولما كان هذا كله تأسية للداعي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه ، وترجية لمن رجع عن ذنوبه ، اشار إلى ذلك بقوله : ( وإن ربك ) أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ، ويوضح برهانك ) لهو العزيز ( فلا يعجزه أحد ، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز ) الرحيم ( فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد ، واليأس عن الرد ، مع البيان الشافي ، في الإبلاغ الوافي ، والتلطف الكافي ، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب ، لأن من السورة - المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق ، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف الذين قالوا ) هب لنا من لدنك رحمة ( وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة ، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال ) هذا رحمة من ربي ( - إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة - ثماني سور ، فكل منهما ثامنة الأخرى ، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله : ( لعلك باخع نفسك ( وبذكر ما على الأرض نم زينة ) ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة ، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة ، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان ، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد ، تذكيراً بهذا المعنى البديع ، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس ، والهيبة في القلب ، والأنس البالغ للروح ، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتض ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة - إلىغير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار .
ولما كانت آثار هذه القصص آيات مرئيات ، والإخبار بها آيات مسموعات ، وكان(5/390)
صفحة رقم 391
في إطراد إهلاك العاصي وإنجاء الطائع في كل منهما ، على تباعد الأعصار ، وتناهي الأقطار ، واختلاف الديار ، أعظم دليل على صدق الرسل ، وتقرير الرسالات لتوافقهم في الدعوة إلى الله ، وتواردهم على التوحيد ، والعدل مع العزوف عن الدنيا التي هي شر محض ، والإقبال على الآخرة التي هي خير صرف ، والتحلي بما أطبق العباد على أنه معالي الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، والتخلي عن جميع الدنايا ، والتنزه عن كل نقص ، عطف على قوله أوب السورة ) وما يأتيهم من ذكر ( - الآية الإخبار برسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، إشارة إلى ما في الأخبار عن آثار هذه القصص بالآيات المسموعات من عظيم الدلالات على رسالته صلى الله عليم وسلم بما فيها من الإعجاز من جهة التركيب والترتيب وغير ذلك من عجيب الأساليب الذي لم تؤته أمة من الأمم السالفات ، ومن جهة أن الآتي بتلك القصص الغريبة ، والأنباء البديعة العجيبة ، أمي لم يخالط عالماً مع شدة ملاءمة القرآن ، ومن أنه الظلة الجامعة للخير ، والفسطاط الدافع لكل ضير ، فقال رداً للمقطع على المطلع : ( وإنه ) أي الذكر الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون ) لتنزيل رب العالمين ) أي الذي رباهم بشمول علمه ، وعظيم قدرته ، بما يعجز عن أقل شيء منه غيره لكونه أتاهم بالحق منها على لسان من لم يخالط عالماً قط ، ومع أنه سبحانه غذاهم بنعمته ، ودبرهم بحكمته ، فاقتضت حكمته أن يكون هذا الذكر جامعاً لكونه ختاماً ، وأن يكون معجزاً لكونه تماماً ، ونزله على حسب التدريج شيئاً فشيئاً .
مكرراً فيه ذكر القصص سابقاً في كل سورة منها ما يناسب المقصود من تلك السورةن معبراً عما يسوقه منها بما يلائم الغرض من ذلك السياق مع مراعاة الواقع ، ومطابقة الكائن .
ولما كان الحال مقتضياً لأن يقال / من أتى بهذا المقال ، عن ذي الجلال ؟ قال : ( نزل به ) أي نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات ، وعبر عن جبرائيل عليه السلام بقوله : ( الروح ( دلالة على أنه مادة خير ، وأن الأرواح تجيء بما ينزله من ا لهدى ، وقال : ( الأمين ( إشارة إلى كونه معصوماً من كل دنس ، فلا يمكن منه خيانة ) على قلبك ) أي محمداً الذي هو أشرف الققلوب وأعلاها ، وأضبطها وأوعاها ، فلا زيغ فيه ولا عوج ، حتى صار خلقاً له ، وفي أسقاط الواسطة إشارة غلى أنه - لشدة إلقائه السمع وإحضاره الحس - يصي في تمكنه منه بحيث يحفظه فلا ينسن ويفهمه حق فهمه فلا يخفى ، فدخوله إلى القلب في غاية السهولة حتى كأنه وصل إليه بغير واسطة السمع عكس ما يأتي عن المجرمين ، وهكذا كل من وعى شيئاً غاية الوعي حفظه كل الحفظ ، انظر إلى قوله تعالى
77 ( ) ولا تعجل بالقرآن من قبل(5/391)
صفحة رقم 392
أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علم ( ) 7
[ طه : 114 ]
77 ( ) لا تحرك به لسانك لتعجل به ( ) 7
[ القيامة : 16 ] .
ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير ، قال معللاً للجملة التي قبله : ( لتكون من المنذرين ) أي المحذرين لمن أعرض عن الإيمان ، وفعل ما نهى عنه من العصيان .
ولما كان القد من السورة التسلية عن عدم إيمانهم بأنه لسفول شأنهم ، لا لخلل في بيانة ، ولا لنقص في شأنه ، قال تعالى موضحاً لتمكنه من قبله : ( بلسان عربي ( .
ولما كان في العربي ما هو حوشي لفظاً أو تركيباً ، مشكل على كثير من العرب ، قال : ( مبين ) أي بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره حق تدبره على ما يتارفه العرب في مخاطبتها ، من سائر لغاتها ، بحقائقها ومجازاتها على اتساع إراداتها ، وتباعد مراميها في محاوراتها ، وحسن مقاصدها في كناياتها واستعارتها ، ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير ، وإنما كانت عربيته وإبانته موضحة لسبقه قلبه ، لأن من تكلم بلغته - فكيف بالبين منها - تسبق المعاني الألفاظ إلى قلبه ، فلو كان أعجمياً لكان نازلاً على السمع ، لأنه يسمع أجراس روف لا يفهم معانيها ؛ قال الكشاف : وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات ، فإذا كلم بلغته التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى المعاني ، ولا يكاد يفطن للألفاظ ، وإن كلم بغيرها وإن كان ماهراً فيها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها - انتى .
ففيه تقريع عظيم لمن يعرف لسان العرب ولا يؤمن به .
ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس ، وتطمئن به القلوب ، قال تعالى : ( وإنه ( اي هذا القرآن أصوله وكثير من قصصه وأمهات فروعه ) لفي زبر ) أي كتب ) الأولين ( المضبوطة الظاهرة في كونها أتت من السماء إلى أهلها الذين سكنت النفوس إلى أنه أتتهم رسل ، وشرعت لهم شرائع نزلت عليهم بها كتب من غير أن يخالط هذا الذي جاء به أحداً منهم أو من غيرهم في علم ما ، وكان ذلك دليلاً قاطعاً على أنه ما أتاه به إلا الله تعالى .
ولما كان التقدير : ألم يكن لهم أمارة على صدق ذلك أن يطلبوا تلك الزبر فينظروا فيذقوا ذلك منها ليضلوا إلى حق اليقين ؟ عطف عليه قوله : ( أولم يكن لهم ( .
ولما كان هذا الأسلوب الاستدلال ، اقتضى تقديم الخبر على الاسم في قراءة الجمهور بالتذكير والنصب ، فقال بعد تقديم لما اقتضاه من الحال : ( آية ) أي علامة(5/392)
صفحة رقم 393
على النسبة إلينا ؛ ثم اتبع ذلك الاسم محلولاً إلى أن والفعل لأنه أخص وأعرف وأوضح من ذكر المصدر ، فقال : ( أن يعلمه ) أي هذا الذي أتى به نبينا من عندنا ؛ وأنث ابن عامر الفعل ورفع ) آية ( اسماً وأخبر عنها بأن والفعل ) علماء بني إسرائيل ( فيقروا به ولا ينكروه ليؤمنوا به ولا يهجروه ، فإن قريشاً كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم ويعولون في الأخبار الإلهية عليهم ، فإن كثيراً منهم أسلم وذكر تصديق التوارة والإنجيل والزبور وغيرها من أسفار الأنبياء عليهم السلام للقرآن في صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي ذلك ما يؤيد صدقه ، ويحقق أمره ، وقد عربت الكتب المذكورة بعد ذلك ، وأخرج منها علماء الإسلام كثيراً مما أهملوه حجة عليهم ، ولا فرق في ذلك بين من أسلم منهم وبين غيرهم ، فإنها حين نزول القرآن كان التبديل قد وقع فيها بإخبار الله تعالى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل مكة بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : هذا زمانه ، وإنا لنجد في التوراة صفته ، فكان ذلك ملزماً لهم بإخبار الله تعالى ، وكذلك كل ما استخرج من الكتب يكون حجة على أهلها .
ولما كان التقدير : لم يروا شيئاً من ذلك آية ولاآمنوا ، عطف عليه أو على قوله تعالى أول سورة ) فقد كذبوا ( الآية : ( ولو نزلناه ) أي على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز بما لنا من العظمة ) على بعض الأعجمين ( الذين لا يعرفون شيئاً من لسان العرب من البهائم أو الآدميين ، جمع أعجم ، وهو من لا يفصح وفي لسانه عجمة ، والأعجمي مثله بزيادة تأكيد ياء النسبة ) فقرأه عليهم ( اي ذلك الذي نزلناه عليه على ما هو عليه من الفصاحة والإعجاز مع علمهم القطعي أنه لا يعرف شيئاً من اللسان ) ما كانوا به مؤمنين ) أي راسخين ولتمحلوا لكفرهم عذراً في تسميته سحراً أو غير ذلك من تعنتهم ) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهو مشركون ( من فرط عنادهم ، وتهيئهم للشر واستعدادهم له ، بل لا يسمعونه حق السماع ، ولا يعونه حق الوعي ، بل سماعاً وفهماً على غير وجهه .
الشعراء : ( 200 - 210 ) كذلك سلكناه في. .. . .
) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ( )
ولما كان ذلك محل عجب ، وكان ربما ظن له أن الأمر على غير حقيقته ، قرر(5/393)
صفحة رقم 394
مضمونه وحققه بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا السلكالعجيب - الذي هو سماع وفهم ظاهري - في صعوبة مدخله وضيق مدرجه .
ولما لم يكن السياق مقتضياً لما اقتضاه سياق الحجر من التأكيد ، اكتفى بمجرد الحدوث فقال : ( سلكناه ) أي كلامنا والحق الذي ارسلنا به رسلنا بما لنا من العظمة ، في قلوبهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه علق الحكم بالوصفن وعم كل زمن وكل من اتصف به فقال : ( في قلوب المجرمين ) أي الذين طبعناهم على الإجرام ، وهو القطيعة لما ينبغي وصله ، كما ينظم السهم إذا رمي به ، أو الرمح إذا طعن به في القلب ، لا يتسع له ، ولا ينشرح به ، بل تراه ضيقاً حرجاً .
ولما كان هذا المعنى خفياً ، بينه بقوله : ( لا يؤمنون به ) أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام ، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام ) حتى يروا العذاب الأليم ( فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان .
ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد .
وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً ، دل علىذلك مصوراً لحاله بقوله دالاً بالفاء على الأشدية والتعقيب : ( فيأتيهم بغتة ( .
ولما كان البغت الإتيان على غفلة ، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله : ( وهم لا يشعرون ( ودل على تطاوله في محالهم ، وجوسه لخلالهم ، وتردده في حلالهم ، بقوله دالاً على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك : ( فيقولوا ) أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه : ( هل نحن منظرون ) أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع .
ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به ، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله ، منبهاً على أن قدره يفوق الزصف بنون العظمة : ( أفبعذابنا ) أي وقد تبين لهم كيف كان أخذه للأمم الماضية ، والقرون الخالية ، والأقوام العاتية ) يستعجلون ) أي بقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء ، أسقط السماء علينا كسفاً ، ائت بالله والملائكة قبيلاً ، كما قال هؤلاء الذين قصصنا أمرهم ، وتلونا ذكرهم ) فأسقط علينا كسفاً من السماء ( ونحو ذلك .
ولما تصورت حالة مآبهم ، في أخذهم بعذابهم ، وكان استعجالهم به يتضمن الاستخفاف والتكذيب والوثوق بأنهم ممتعون ، وتعلق آمالهم بأن تمتيعهم بطول زمانه ، وكان من يؤذونه يتمنى لو عجل لهم ، سبب عن ذلك سبحانه سؤال داعيهم مسلياً(5/394)
صفحة رقم 395
ومؤسياً ومعزياً فقال : ( أفرأيت ) أي هب أن الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني ) إن متعناهم ) أي في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة .
ولما كانت حياة الكافر في غاية الضيق والنكد وإن كان في أصفى رغد ، عبر بما يدل على القحط بصيغة القلة وإن كان السياق يدل على أنها للكثرة فقال : ( سنين ثم جاءهم ) أي بعد تلك السنين المتطاولة ، والدهور المتواصلة ) ما كانوا يوعدون ) أي مما طال إنذارك إياهم بهه وتحذيرك لهم منه على غاية التقريب لهم والتمكين في إسماعهم ، أخبرني ) ما ) أي أيّ شيء ) أغنى عنهم ) أي فيما أخذهم من العذاب ) ما كانوا ) أي كوناً هو في غاية المكنة وطول الزمان ) يمتعون ( تمتيعاً هو في غاية السهولة عندنا ، وصورة بصورة الكائن تنديماً عليه ، والمعنى أنه ما أغنى عنهم شيئاً لأن عاقبته الهلاك ، وزادهم بعداً من الله وعذابه بزيادة الاثام الموجبة لشديد الانتقام .
ولما كان التقدير : لم يغن عنهم يئاً لأنهم ما أخذوا إلا بعد إنذار المنذرين ، لمشافهتك إياهم به ، وسماعهم لمثل ذلك عمن مضى فبلهم من الرسل ، عطف عليه قوله : ( وما أهلكنا ) أي بعظمتنا ، واعلم بالاستغراق بقوله : ( من قرية ) أي من القرى السالفة ، بعذاب الاستئصال ) إلا لها منذرون ( رسولهم ومن تبعه من أمته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبل ، واعراها من الواو لأن الحال لم يقتض التأكيد كما في الحجر ، لأن المنذرين مشاهدون .
وإذا تأملت آيات الموضعين ظهر لك ذلك ؛ ثم علل افنذار بقوله : ( ذكرى ) أي تنبيهاً عظيماً على ما فيه من النجاة ، وتذكيراً بأشياء يعرفونها بما أدت إليه فطر عقولهم ، وقادت إليه بصائر قلوبهم ، وجعل المنذرين نفس الذكرى كما قال تعالى
77 ( ) قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً ( ) 7
[ الطلاق : 10 ] وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه .
ولما كان التقدير : فما أهلكنا قرية منها إلا بالحق ، عطف عليه قوله : ( وما كنا ( أو الواو للحال من نون ) أهلكنا ( ) ظالمين ) أي في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا ، وعبدوا غيرنا ، بعد الإعذار إليهم ، ومتابعة الحجج ، ومواصلة الوعيد .
ولما أخبر سبحانه أن غاية إنزال هذا القرآن كونه ( صلى الله عليه وسلم ) من المنذرين ، وأتبع ذلك ما لاءمه حتى ختم بإهلاك من كذب المنذرين ، عطف على قوله : ( نزل به الروح ( قوله إعلاماً بأن العناية شديدة في هذا السياق بالقرآن لتقرير أنه من عند الله ونفى اللبس عنه بقوله : ( وما تنزلت به ) أي القرآن ) الشياطين ) أي ليكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون .(5/395)
صفحة رقم 396
الشعراء : ( 211 - 219 ) وما ينبغي لهم. .. . .
) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( ( )
ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال : ( وما ينبغي لهم ) أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة ، وهم مادة الشر والهلكة ، فبينهما تمام اتباين ، وأنت سكينة ونور ، وهم زلزلة وثبور ، فلا إقبال لهم عليك ، ولا سبيل بوجه إليك .
ولماكان عدم الانتفاء لا يلزم منهم عدم القدرة قال : ( وما يستطيعون ) أي النزوول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك ؛ ثم علل هذا بقوله : ( إنهم عن السمع ) أي الكامل الحق ، من الملأ الأعلى ) لمعزلون ) أي بما حفظت به السماء من الشهب وبما باينوا به الملائكة في الحقيقة لأنهم خير صرف ، ونور خالص ، وهؤلاء شر بحت وظلمة محضة ، فلا يسمعون إلا خطفاًن فيصير - بما يسبق إلى افهامهم ، ويتصور من باب الخيال في أوهامهم - خلطاً لا حقيقة لأكثره ، فلا وثوق بأغلبه ، ولا يبعد أن يكون ذلك عاماً حتى يشمل السماع من المؤمنين لما شاركوا به الملائكة من النور والخير ، انظر ما ورد في آية الكرسي من أنها لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان ، وفي رواية : إلا خرج منه الشيطان ، وورد نحوه في الآيتين من آخر سورة البقرة ، وكذا ما كان من أشكال ذلك ، وأعظم منه قوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه : ( إنه يل ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك ) .
وترك تعليل الانبغاء لظهوره .
ولما كان تقديره أنهم إلى الطواغيت الباطلة يدعون ، والقرآن داع إلى الله الحق المبين ، سبب عنه قوله : ( فلا تدع ( وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق لديه ، وأعزهم عليه ، ليكون لطفاُ لغيره فيما يأتيه من الإنذار ، فيكون الوعيد أزجر له ، ويكون هو له اقبل ) مع الله ) أي الحائز لكل كمال الداعي إليه هذا القرآن الذي نزل به عليك الروح الأمين ، لما بينك وبينهما من تمام النسبة بالنورانية والخير ) إلهاً ( وتقدم في آخر الفرقان حكمة الإتيان بقوله : ( آخر فتكون ) أي فيتسبب عن ذلك أن تكون ) من المعذبين ( من القادر على ما يريد بأيسر أمر واسهله ، وهذا الكلام لكل من سمع القرآن في الحث على تدبره معناه ، ومقصده ومغزاه ، ليعلم أنه في غاية المباينة للشياطين وضلالهم ، والملاءمة للمقربين وأحوالهم ، لعله خاطب به المعصوم ، زيادة(5/396)
صفحة رقم 397
في الحث على أاتباع الهدى ، وتجنب الردى ، وليعطف عليه قوله : ( وأنذر ) أي بهذا القرآن ) عشيرتك ) أي قبيلتك ) الأقربين ) أي الأدنين في النسب ، ولا تحاب أحداً ، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم ، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى ، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره ، لأنه سلك به مسلك الأقرب ، ولقد قام ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية حق القيام ؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصفا فجعل ينادي : ( يا بني فهر يا بني عدي ) لبطون - قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيََّ ؟ ) قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً ، قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت ) تبت يدا أبي لهب وتب ( وفي رواية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يابني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئاً ) وروى القصة أبو يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وموسى في البحر وعيسى في إحياء الموت ، وأن يسير الجبال ، ويفجر الأنهار ، ويجعل الصخر ذهباً ، فأوحى الله إليه وهم عنده ، فلما سُرِّيَ عنه أخبرهم أنه أعطي ما سألوه ، ولكنه أن اراهم فكفروا عوجلوا .
فاختار ( صلى الله عليه وسلم ) الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة .(5/397)
صفحة رقم 398
ولما كانت النذارة إنما هي للمتولين ، أمر بضدها لأضدادهم فقال : ( واخفض جناحك ) أي لن غاية اللين ، وذلك لأن الطائر إذا أراد أن يرتفه رفع جناحيه ، فإذا اراد أن ينحط كسرهما وخفضهما ، فجعل ذلك مثلاً في التواضع ) لمن اتبعك ( ولعله احترز بالتعبير بصيغة الافتعال عن مثل أبي طالب ممن لم يؤمن أو آمن ظاهراً وكان منافقاً أو ضعيفاً بالإيمان فاسقاً ؛ وحقق المراد بقوله : ( من المؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهمصفة راسخة سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين .
ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم ، فصل بقوله : ( فإن عصوك ) أي هم فغيرهم من باب الأولى ) فقل ( اي تاركاً لكا كنت لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين : ( إني بريء ) أي منفصل غاية الانفصال ) مما تعملون ) أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن ، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم ، بالزيادة في إكرامهم ، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم .
ولما أعلمت هذه الآية بمنابذة من عصى ككائناً من كان ولو كان ممن ظهر منه الرسوخ في الإيمان ، لما يرى منه من عظيم الإذعان ، أتبعه قوله : ( وتوكل ) أي في عصمتك ونجاتك والإقبال بالمنذرين إلى الطاعة ، وقراءة أهل المدينة والشام بالفاء السببية أدل على ذلك ) على العزيز ) أي القادر على الدفع عنكم والانتقام منهم ) الرحيم ( اي المرجو لإكرام الجميع برفع المخالفة والشحناء ، والإسعاد بالاستعمال فيما يرضيه ؛ ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف بما يقتضي الكفاية في كل ما ينوب من دفع الضر وجلب النفع ، وذلك هو العلم المحيط المقتضي لجميع أوصاف الكمال ، فقال : ( الذي يراك ( اي بصراً وعلماً ) حين تقوم ( من نومك من فرشك تاركاً لحبك ، لأجل رضا ربك ) و ( يرى ) تقلبك ( في الصلاة ساجداً وقائماً ) في الساجدين ( اي المصلين من أتباعك المؤمنين ، لكم دوي بالقرآن ادوي النحل ، وتضرع من خوف الله ، ودعاء وزفرات تصاعد وبكاء ، اي فهو جدير لإقبالكم عليه ، وخضوعكم بين يديه ، بأن يحبوكم بكل ما يسركم .
الشعراء : ( 220 - 227 ) إنه هو السميع. .. . .
) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ( ( )(5/398)
صفحة رقم 399
ولما كانت هذه الأحوال مشتملة على الأقوال ، وكان قد قدم الرؤية المتضمنة للعلم ، علل ذلك بالتصريح به مقروناً بالسمع فقال : ( إنه هو ) أي وحده ) السميع ) أي لجميع أقوالكم ) العليم ) أي بجميع ما تسرونه وتعلونونه من أعمالكم ، وقد تقدم غير مرة أن شمول العلم يستلزم تمام القدرة ، فصار كأنه قال : إنه السميع العليم البصير القدير ، تثبيتاً للمتوكل عليه .
ولما بين سبحانه أن القرآن مناف لأقوال الشياطين ، وبين أن حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحال أتباعه منافية لأحوالهم وأحوال من يأتونه من الكهان بما ذكره سبحانه من فعله ( صلى الله عليه وسلم ) وفعل أشياعه رضي الله عنهم منالإقبال على الله ، والإعراض عما سواه ، فعلم أن بينهم وبينهم بوناً بعيداً ، وفرقاً كبيراً شديداً وأن حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موافق لحال الروح الأمين ، النازل عليه بالذكر الحكيم ، تشوفت النفس إلى معرفة أحوال إخوان الشياطين ، مقال محركاً لمن يريد ذلك ، متمماً لدفع اللبس عن كون القرآن من عند الله ، وفرق بين الآيات المتكلفة بذلك تطرية لذكرها وتنبيهاً على تأكيد أمرها : ( هل أنبئكم ) أي أخبركم خبراً جليلاً نافعاً في الدين ، عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ) على من تنزل ( وتردد ) الشياطين ( حين تسترق السمع على ضرب من الخفاء بما آذن به حذف التاء ، ودخل حرف الجر على الاسم المتضمن للاستفهام ، لأن معنى التضمن أنه كان أصله : أمن ، فحذفت منه الهمزة حذفاً مستمراً كما فعل في ( هل ) لأن أصله ( أهل ) كما قال :
سائل يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
فالاستفهام مقدر الجار - أفاده الزمخشري .
ولما كان كأنه قيل : نعم أنبئنا قال : ( تنزل ( على سبيل التدريج والتردد ) على كل افاك ) أي صراف - على جهة الكثرة والمبالغة - للأمور عن وجوهها بالكذب والبهتان ، والخداع والعدوان ، من جملة الكهان وأخذان الجان ) أثيم ( فعال االآثام بغاية جهده ، وهؤلاء الأثمة ) يلقون السمع ( إلى الشياطين ، ويصغون إليهم غاية الإصغاء ، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش ، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم ، فهم بما سمعوا منهم يحدثون ، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون ) وأكثرهم ) أي الفريقين ) كاذبون ( فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط ، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات ، الموقع في الإفك والضلالات ؛ قال الرازي في اللوامع ما معناه أنه حيثما كان استقامة في حال(5/399)
صفحة رقم 400
الخيال - أي القوة المتخيلة - كانت منزلة الملاءكة ، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين ، فمن ناسب الروحانيين من الملائكة كان مهبطهم عليه ، وظهورهم له ، وتأثيرهم فيه ، وتمثلهم به ، حتى إذا ظهروا عليه تلكم بكلامهم وتكلموا بلسانه ، ورأى بابصارهم وابصروا بعينيه ، فهم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين
77 ( ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ( ) 7
[ فصلت : 30 ] ومن ناسب الشياطين من الأبالسة كان مهبطهم عليه ، وظهورهم بلسانه ، ورأى بأبصارهم وابصروا بعينيه ، هم شياطين الإنس يمشون في الأرض مفسدين - انتهى .
ولما بطل - بإبعاده عن دركات الشياطين ، وإصعاده إلى درجات الروحانيين ، من الملائكة المقربين ، الآتين عن رب العالمين - كونه سحراً ، وكونه أضغاثاً ومفترى ، نفى سبحانه كونه شعراً بقوله : ( والشعراء يتبعهم ) أي بغاية الجهد ، في قراءة غير نافع بالتشديد ، لاستحسان مقالهم وفعالهم ، فيتعلمون منهم وينقلون عنهم ) الغاوون ) أي الضالون المائلون عن السنن الأقوم إلى الزنى والفحش وكل فساد يجر إلى الهلاك ، وهم كما ترى بعيدون من أتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنهم الساجدين الباكين الزاهدين .
ولما قرر حال أتباعهم ، فعلم منه أنهم هم أغوى منهم ، لتهتكهم في شهوة اللقلقة باللسان ، حتى حسن لهم الزور والبهتان ، دل على ذلك بقوله : ( ألم تر أنهم ) أي الشعراء .
ومثل حالهم بقوله : ( في كل واد ) أي من أودية القول من المدح والهجو والنسيب والرثاء الحماسة والمجون وغير ذلك ) يهيمون ) أي يسيرون سير الهائم حائرين وعن طريق الحق جائرين ، كيفما جرهم القول انجروا من القدح في الأنساب ، والتشبيب بالحرم ، والهجو .
ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك ، ولهذا قال : ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( اي لنهم لم يقصدوه .
وإنما أجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر اقوالهم لا حقائق لها ، انظر إلى مقامات الحريري وما اصطنع فيها من الحكايات ، وابتدع بها من الأمور المعجبات .
التي لا حقائق لها ، وقد جعلها أهل الاتحاد أصلاً لبدعتهم الطافرة ، وقاعدة لصفقتهم الخاسرة ، فنا أظهر حالهم ، وأوضح ضلالهم وهذا بخلاف القرن فإن معان جليلة محققة ، في ألفاظ متينة جميلة منسقة ، وأساليب معجزة مفحمة ، ونظوم معجبة محكمة ، لا كلفة في شيء منها ، فلا رغبة لذي طبع سليم عنها ، فأنتج ذلك أنه لا يتبعهم على أمرهم إلا غاو مثلهم ، ولا يزهد في هذا القرآن إلا من طبعه جاف ، زقلبه مظلم مدلهم .(5/400)
صفحة رقم 401
ولما كان من الشعر - كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - حكمة ، وكان - كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - بمنزلة الكلام منه حسن ومنه قبيح ، وكان من الشعراء من يمدح الإسلام والمسلمين ، ويهجو الشرك والمشركين ، ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ، ويحث على مكارم الأخلاق ، وينفر عن مساوئها ، وكان الفيصل بين قبيلي حسنة وقبيحة كثرة ذكر الله ، قال تعالى : ( إلا الذين آمنوا ) أي بالله ورسوله ) وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ) أي التي شرعها الله ورسوله لهم ) وذكروا الله ( مستحضرين ما له من الكمال ) كثيراً ( لم يشغلهم الشعر عن الذكر ، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع ، فصار لذلك كله ذكر الله ، ويكفي مثالاً لذلك قصيدة عزيت لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وجوابها لابن الزبعرى ، وكان إذ ذاك على شركه ، وذلك في أول سرية كانت في الإسلام .
وهي سرية عبيدة بن الحارث بم المطلب بن عبد مناف رضي الله تعالى عنه ، فإن قصيدة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس فيها بيت إلا وفيه ذكر الله إما صريحاً وإما بذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو شيء من دينه ، وما ليس فيه شيء من ذلك فهو ىيل إليه لبنائه عليه ، وأما نقيضها فلا شيء في ذلك فيها ؛ قال ابن إسحاق : قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه في غزوة عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه :
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤيّ فرقة لا يصدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا وهروا هرير المحجرات اللواهث فكم قد متتنا فيهم بقرابة وترك التقى شيء لهم غير كارث فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيباب الحل مثل الخبائث(5/401)
صفحة رقم 402
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب الله عنهم بلابث ونحن أناس من ذؤابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث فأولى برب الراقصات عشية حراجيج تخذي في السريح الرثائث كأدم ظباء حول مكة عكف يردن حياض البئر ذاب النبائث لئن لم يفيقوا عاجلاً عن ضلالهم ولست إذا آليت قولاً بحانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرّم أطهار النساء الطوامث تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة وكل كفور يبتغي الشر باحث فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم فإني من إعراضكم غير شاعث
فأجابه ابن الزبعرى فقال :
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث بكيت بعين دمعها غير لابث ومن عجب الأيام والدهر كله له عجب من سابقات وحادث لجيش أتانا ذي عرام يقوده عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث لنترك أصناماً بمكة عكفاً مواريث موروث كريم لوارث فلما لقيناهم بسمر ردينة وجرد عتاق في العجاج لواهث وبيض كأن الملحفوق متونها بأيدي كماة كالليوث العوائث نقيم بها إعصاراً ما كان مائلاً ونشفي الذخول عاجلاً غير لابث فكفوا على خوف شديد وهيبة وأعجبهم أمر لهم أمر رائث ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسوة أيامي لهم من بين نسء وطامث وقد غودرت قتلى يخبر عنهم حفيّ بهم أو غافل غير باحث فأبلغ ابابكر لديك رسالة فما أنت عن أعراض فهر بماكث ولما تجب مني يمين غليظة تجدد حرباً حلفه غير حانث
وروى الغوي بسنده بسنده من طريق عبد الرزاق من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تومونهم به نضح النبل .
) وقد(5/402)
صفحة رقم 403
كان ابن عباس رضي الله عنهما ينشد الشعر ويستنشده في المسجد ، وروى الإمام أمحد حديث كعب هذا ، وروى النسائي برجال احتج بهم ميلم عن أنس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم .
) قال البغوي : وروي أنه - أي عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشهده القصيدة التي قالها :
أمن آل نعمتي أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
وهي قريب من تسعين بيتاً ، فلما فرغها أعادها ابن عباس وكان حفظها بمرة واحدة ، ويكفي الشاعر في التفصي عن ذم هذه الآية له أن لا يغلب عليه الشعر فيشغله عن الذكر حتى يكون من الغاوين ، وليس ن شرطه أن لا يكون في شعره هزل أصلاً ، فقد كان حسان رضي الله تعالى عنه ينشد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل قوله في قصيدة طويلة مدحه ( صلى الله عليه وسلم ) فيها :
كأن سيبئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء إذا ما الأشربات ذكرن يوماً فهن لطيب الراح الفداء نوليها الملامة إن ألمنا إذا ما كان مغث أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقد كان تحريم الخمر سنة ثلاث من الهجرة أو سنة أربع ، وهذه القصيدة قالها حسان رضي الله تعالى عنه في الفتح سنة ثمان أو في عمرة القضاء سنة سبع ، فهي مما يقول الشاعر ما لا يفعل .
ولما عرف سبحانه بحال المستثنين في الذكر الذي هو أساس كل أمر ، اتبعه ما حملهم على الشعر من الظلم الذي رجاهم النصر فقال : ( وانتصروا ) أي كلفوا أنفسهم أسباب النصر بشعرهم فيمن آذاهم ) من بعد ما ظلموا ( اي وقع ظلم الظالم لهم بهجو ونحوه .
ولما أباح سبحانه الانتصار من الظالمن وكان البادىء - إذا اقتصر المجيب على جوابه - أظلم ، كان - إذا تجاوز - جديراً بأن يعتدي فيندم ، حذر الله الاثنين مؤكداً للوعيد بالسين في قوله الذي كان السلف الصالح يتواعظون به لأنك لا تجد أهيب منه ، ولا أهول ولا أوجع لقلوب المتأملين ، ولا أصدع لأكباد المتدبرين : ( وسيعلم ( وبالتعميم في قوله : ( الذين ظلموا ) أي كلهم من كانوا ، وبالتهويل بالإبهام في قوله : ( أي منقلب ) أي في الدنيا والاخرة ) ينقلبون ( وقد انعطف آخرها - كما ترى بوصف الكتاب المبين بما وصف به الجلالة والعظم بأنه من عند الله متنزلاً به خير(5/403)
صفحة رقم 404
ملكيته ، على أشرف خليقته ، مزيلاً لكل لبس ، منفياً عنه كل باطل ، وبالختام بالوعيد على الظلم - على أولها في تعظيم الكتاب المبين ، وتسلية النبي الكريم ، ( صلى الله عليه وسلم ) ووعي الكافرين الذين هم أظلم الظالمين ، واتصل بعدها في وصف القرآن المبين ، وبشرى المؤمنين ووعيد الكافرين ، فسبحان من أنزله على النبي الأمي المين ، هدى للعالمين ، وآية بينة بإعجازه للخلائق أجمعين ، باقية إلى يوم الدين .
.. . .(5/404)
صفحة رقم 405
سورة النمل
النمل : ( 1 - 4 ) طس تلك آيات. .. . .
) طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( ( )
مقصودها وصف هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين ، بالفصل بين الصراط المستقيم ، وطريق الحائرين ، والجمع لأصول الدين ، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبينن وبشارة المؤمنين ، ونذارة الكافرين ، بيوم احتماع الأولين والآخرين ، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة ، فالمقصود الأعظممنها إظهار العلم والحكمة كما كان مقصود التي قبلها إظهار البطش والنقمة ، وأدل ما فيها على هذا المقصود ما للنمل من حسن التدبير ، وسداد المذاهب في العيش ، ولا سيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة ، وحسن التعبير عن ذلك القصد ، وبلاغة التأدية ) بسم الله ( الذي كمل علمه فبهرت حكمته ) الرحمن ( الذي عم بالهداية بأوضح البيان ) الرحيم ( الذي منّ بجنان النعيم .
على من ألزمه الصراط المستقيم ) طس ( يشير إلى طهارة الطور وذي طوى منه وطيب طيبه ، وسعد بيت المقدس الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام التي انتشر منها الناهي عن الظلم ، وإلى أنه لما طهر سبحانه بني إسرائيل ، وطيبهم بالابتلاء فصبروا ، خلصهم من فرعون وجنوده بمسموع موسى عليه الصلاة والسلام للوحي المخالف لشعر الشعراء ، وإفك الآثمين وزلته من الطور ، ولم يذكر تمام أمرهم بإغراق فرعون ، لأن مقصودها إظهار العلم والحكمة دون البطش والنقمة ، فلم يقتض الحال ذكر الميم .
ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآنن وأنه من عند الله ، ونفي الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه منتفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء(5/405)
صفحة رقم 406
والشعر ، الناشء كل ذلك عن أحوال الشياطين ، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك ، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل ، ولا وصم ولا زلل ، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه ، بما اشر إليه الكون من المسلمين فقال : ( تلك ( اي الآيات العالية المقام البعيدة المرام ، البديعة النظام ) أيات القرآن ) أي الكامل في قرآنيته الجامع للأصولن الناشر للفروع ، لاذي لا خلل فيه ولا فصمن ولا صدع لولا صمم ) و ( آيات ) كتاب ) أي وأيّ كتاب مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش والمعاد ، قاطع في أحكامه ، غالب في أحكامه ، في كل مننقضه وإبرامه ، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من وكتابيته ) مبين ( اي بين في نفسه أ ، ه من عند الله كاشف لكل مشطل ، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع ، والنكت والإشارات والمعارف ، فيا له من جامع فارق واصل فاصل .
ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة ( قرا ) كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر ، قدم القرآن ، يدل على ذلك انتشاراً أمر موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه ، وخروجه من وطنه إلى مدين ، وروجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه ، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصى وبث الخوف منها ، وآية اليد وجيمع الآيات التسع ، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام ، وإبصار آيات ، وانتشار الهدهد ، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق الطير ، وتلكيم الدابة للناس ، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين سليمان الصلاة والسلام ، وكشف الساق ، وافتراق ثمود إلى فريقين ، مع الاختصام المشتت ، وانتثام قوم لوط عليه السلام غلى ما لا يحل ، وتفريق الرياح نشراً ، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض ، ومرور الجبال ، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور ، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه ، وانكشف عنه حجابه ، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب ، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء ، ورحم به الولياء ، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه ، وباهر ىياته الداعية من اهتدى بها إليه ، فتميز بعظيم ياته كونه فرقاناً قاطعاً ، ونوراً ساطعاً ، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء ، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء ، فقال ) تلك آيات القرآن ( اي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات(5/406)
صفحة رقم 407
القرآن ) وكتاب مبين هدى وبشر للمؤمنين ( ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع ، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما اشار إليه ) وسيعلم الذين ظلموا ( من عظيم ذلك المطلع ؛ ثم اتبع ذلك بالتنبيه على صفة الاهلين لما تقدم من اتلقول والافتراء تنزيهاً لعباده المتقين ، وأوليائه المخلصين ، عن دنس الشكك والامتراء فقال : ( إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ) أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام ، لارتباك الخواطر والأفهام ؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه ، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم ، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها ، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين ، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى .
ولما عظم سبحانه آيات الكتاب بما فيها من الجمع من النشر مع الإبانة ، ذكر حاله فقال : ( هدى ( ولما كان الشيء قد يهدي إلى مقصود يكدر حال قاصده .
قال نافياً لذلك ، وعطف عليه بالواو دلالة على الكمال في كل من الوصفين : ( بشرى ) أي عظيمة .
فلما تشوفت النفوس ، وارتاحت القلوب ، فطم من ليس بأهل عن عظيم هذه الثمرة فقال : ( للمؤمنين ( اي الذين صار ذلك لهم وصفاً لازماً بما كان لهم فيل دعاء الداعي من طهارة الأخلاق ، وطيب الأعراق ، وفي التصريح بهذا الحال تلويح بأنه فتنه وإنذار للكافرين
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فأما الذين في قلوبهم زيغ ( ) 7
- الآية ،
77 ( ) قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ( ) 7
[ فصلت : 44 ] ،
77 ( ) والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمي ( ) 7
- إلى غير ذلك من الآيات .
ولما كان وصف الإيمان خفياً ، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال : ( الذين يقيمون الصلاة ) أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق .
ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال : ( ويؤتون الزكاة ) أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق .
ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك واغيره من سائر الطاعات ، ذكره معظماً لتأكيده ، فقال معلماً بجعله حالاً غلاأنه شرط لما قبله : ( وهم ( اي والحال أنهم .
ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب العظم للسعادة وهو محط للحكمة ، عبر فيه(5/407)
صفحة رقم 408
بما يقتتضي الاختصاص ، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به ، فقال : ( بالاخرة هم ) أي المختصون بأنهم ) يوقنون ) أي يوجدون الإيقان حق الإيجاد ويجددونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة ، والإحجام عن المعصية .
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها وكان أمرها مركوزاً في الطباع ، لما عليها من الأدلة الباهرة في العقل والسماع ، تشوفت نفس السامع على سبيل التعجب إلى حالهم ، فقال مجيباً له مؤكداً تعجيباً ممن ينكر ذلك : ( إن الذين لا يؤمنون ) أي يوجدون الإيمان ويجددونه ) بالآخرة زينا ) أي بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ) لهم أعمالهم ) أي القبيحة ، حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها ، والإسناد إليه سبحانه حقيقي عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقي ، وإلى الشيطان مجاز سببي ) فهم ) أي فتسبب عن ذلك أنهم ) يعمهون ) أي يخطبون خبط نم لا بصيرة له اصلاً ويترددون في أودية الضلال ، ويتمادون في ذلك ، فهم كل لحظة في خبط جديد ، بعمل غير سديد ولا سعيدن فإن العمه التحير والتردد كما هو حال الضال .
النمل : ( 5 - 10 ) أولئك الذين لهم. .. . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يمُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( ( )
ولما خص المؤمنين بما علم منه أن لهم حسن الثواب ، وأنهم في الآخرة هم الفائزون ، ذكر ما يختص به هؤلاء من ضد ذلك فقال : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء ) الذين لهم ) أي خاصة ) سوء العذاب ( في الدارين : في الدنيا بالأسر والقتل والخوف ) وهم في الآخرة هم ( المختصون بأنهم ) الأخسرون ( اي أشد الناس خشارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله ، وهو أنفسهم التي لا يمكنهم إخلافها .
ولما وصف القرآن من الجمع والفرقان ، بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران ، وكان حاصل حال الكفرة أنهم يتلقون كفرهم الذي هو في غاية السفه إنا عن الشياطين الذين هم في غاية الشر ، وإما عن آبائهم الذين هم في غاية الجهلن وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضد حالهم ، فذكر جلالة المنزل عليه والمنزل ليكون أدعى إلى قبوله .
فقال عاطفاً على ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ( : ( وإنك ( اي وأنت اشرف الخلق وأعلمهم وأحلمهم(5/408)
صفحة رقم 409
وأحكمهم ) لتلقى القرآن ( اي تجعل متلقياً له من الملك ، وحذف هنا الواسطة وبناه للمفعول إعلاء له .
ولما كانت الأمور التي من عند الله تارة تكون على مقتضى الحكمة فتسند إلى أسبابها ، وأخرى خارقة للعادة فتنسب إليه سبحانه ، والخارقة تارة تكون في أول رتب الغرابة فيعبر عنها بعند ، تارة تكون في أعلاها فيعبر عنها بلدان ، نبه سبحانه على أن هذا القرآن في الذروة نم ا لغرابة في أنواع الخوارق فقال : ( من لدن ( .
ولما مضى في آخر الشعراء ما تقدم من الحكم الجمة في تنزيله بهذا اللسان .
وعلى قلب سيد ولد عدنان ، بواسطة الروح الأمين ، مبايناً لأحوال الشياطين ، إلى غير ذلك مما مضى إلى أن ختمت بتهديد الظالمين ، وكان الظالم إلى الحكمة أحوج منه إلى مطلق العلم ، وقدم في هذه أنه هدى ، وكان الهادي لا يقتدي به ولا يوثق بهدايته إلا إن كان في علمه حكيماً ، اقتضى السياق تقديم وصف الحكمة ، واقتضى الحال التنكير لمزيد التعظيم فقال : ( حكيم ) أي بالغ الحكمة ، فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان ) عليم ) أي عظيم العلم واسعة تامة شاملة ، فهو بعيد جدا عما ادعوه فيه من أنه كلام الخلق الذي لا علم لهم واسعة تامة شامله ، فهو بعيد جداً عما ادعوه فيه من الخلق عن الإتيان بشيء من مثله ، وإدراك شيء من مغازيه حق إدراكه .
ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم ، دل على كل من الوصفين ، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار أليها أول السورة بما يأتي في السورة منا لقصص وغيرها ، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب المناسب لمقصود السورة ، فابتدىء بقصة أجمع فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا ، والأقارب على الإيمان فأنجوا ، وثنى بقصة أجمع فيها الباعد على الإيمان ، لم يتخلف منهم إنسان ، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان ، باقتسام الكفر والإيمان ، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان ، وأصروا على الكفران ، فابتلعتهم الأرض ثم غطوا بالماء كما بلغ الأولين الماء فكان فيه التواء .
ولما كان تعلق ( إذ ) باذكر من ا لوضوح في حد لا يخفى على أحد ، قال دالاً على حكمته وعلمه : ( إذ ( طاوياً لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه ) قال ( : اذكر حكمته وعلمه حين قال : ( موسى لأهله ) أي زوجة وهو راجع من مدين إلى مصر ، قيل : ولم يكن معه غيرها : ( إني آنست ) أي ابصرت إبصاراً حصل لي الأنس ، وأزال عني الوحسة والنوس ) ناراً ( فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علماً مشاهداً ، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال .(5/409)
صفحة رقم 410
ولما كان كأنه قيل : فماذا تصنع ؟ قال آتياً بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ ( الأهل ) الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وستراً .
جازماً بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره ، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى ، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم ، فكان الأليق به الجزم ، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب : ( سآتيكم ( اي بوعد صادق وإن ابطات ) منها بخبر ) أي ولعل بعضه يكون مما نهتدي به في هذا الظلام إلى الطريق ، وكان قد ضلها ) أو أتيكم بشهاب ) أي شعلة من نار ساطعة ) قبس ) أي عود جاف مأخوذ من معظم النار فهو بحيث قد استحكمت فيه النار فلا ينطفىء ؛ وقال البغوي : وقال بعضهم : الشهاب شيء ذو نور مثل العمود ، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهاباً ، والقبس : القطعة من النار .
فقراءة الكوفيين بالتنوين على البدل أو الوصف ، وقراءة غيرهم بالإضافة ، لأن القبس أخص .
وعلل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليله باردة بقوله : ( لعلكم تصطلون ) أي لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفىء بذلك أي يجد به الدفء لوصوله معي فيه النار ، وآذن بقرب وصوله فقال : ( فلما جاءها ) أي تلك التي ظنها ناراً .
ولما كان البيان بعد الإبهام أعظم ، لما فيه من التشويق والتهيئة للفهم ، بني للمفعول قوله : ( نودي ( اي من قبل الله تعالى .
ولما أبهم المنادى فتشوقت النفوس إلى بيانه ، وكان البيان بالإشارة أعظم .
لما فيه من توجه النفس إلى الاستدلال ، نبه سبحانه عليه بجعل الكلام على طريقة كلام القادرين ، إعلاماً بأنه الملك الأعلى فقال بانياً للمعفول ، آتياً بأداة التفسير ، لأن النداء بمعنى القول : ( أن بورك ) أي ثبت تثبيتاً يحصل منه من النماء والطهارة وجميع الخيرات ما لا يوصف ) من في النار ) أي بقعتها ، أو طلبها وهو طلب بمعنى الدعاء ، العبارة تدل على أن الشجرة كانت كبيرة وأنها لما دنا منها بعدت منه النار إلى بعض جوانبها فتبعها ، فلما توسط الردحة أحاط به النور ، وسمي النور ناراً على ما كان في ظن موسى عليه الصلاة والسلام ، وقال سعيد بن جبير : بل كانت ناراً كما رأى موسى عليه السلام ، والنار منحجب الله كما في الحديث : ( حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) ) ومن حولها ( من جميع الملائكة عليهم السلام وتلك الأراضي المقدسة على ما أراد الله في ذلك الوقت وفي غيره وحق لتلك الأراضي أن تكون كذلك لأنها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهبط الوحي عليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً .(5/410)
صفحة رقم 411
ولما أتاه النداء - كما ورد - من جميع الجهات ، فسمعه بجميع الحواس ، أمر بالتنزيه ، تحقيقاً لأمر من أمره سبحانه ، وتثبيتاً له ، فقال عاطفاً على ما أرشد السياق إلى تقديره من مثل : فأبشر بهذه البشرى العظيمة : ( وسبحان الله ) أي ونزه الملك الذي له الكمال المطلق تنزيهاً يليق بجلاله ، ويجوز أن يكون خبراً معطوفاً على ) بورك ) أي وتنزه الله سبحانه تنزهاً يليق بجلاله عن أن يكون في موضع النداء أو غيره من الأماكن .
ولما كان تعليق ذلك بالاسم العم دالاً على أنه يستحق ذلك لمجرد ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال ، من الجلال والجمال ، وصفه بما يعرف أنه يستحقه أيضاً لأفعاله بكل مخلوق التي منها ما يريد أن يربي به موسى عليه الصلاة والسلام كبيراً بعد ما رباه به صغيراً ، فقال : ( رب العالمين ( .
ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً ، قال معظماً له تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يده من المعجزات الباهرات : ( يا موسى إنه ) أي السأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه ) أنا الله ) أي البالغ من العظمة ما تقصر عنه الأوهام ، وتتضاءل دونه نوافذ الإفهام ، ثم أفهمه مما تتضمن ذلك وصفين يدلانه على أفعاله معه فقال : ( العزيز ) أي الذي يصل إلى جميع ما يريد ولا يوصل إلى شيء مما عنده من غير الطريق التي يريد ) الحكيم ) أي الذي ينقص كل ما يفعله غيره إذا أراد ، ولا يقدر غيره أن ينقض شيئاً من فعله .
ولما كان التقدير : فافعل جميع ما آمرك به فإنه لا بد منه ، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة ، محروس بسور العزة ، دل عليه بالعطف في قوله : ( وألق عصاك ) أي لتعلم علماً شهودياً عزتي وحكمتي - أو هو معطوف على ) أن بروك ( - فألقاها كما أمر ، فصارت في الحال - بما أذنت به الفاء - حية عظيمة جداً ، هي - مع كونها في غاية العظم - في نهاية الخفة والسرعة في اصطرابها عند محاولتها ما يريد ) فلما رآها تهتز ) أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر ) كأنها جآن ) أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها ، ولا ينافي ذلك كبر جثتها ) ولى ) أي موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان ، بين المراد بقوله : ( مدبراً ( اي التفت هارباً منها مسرعاً جداً لقوله : ( ولم يعقب ( اي لم يرجع على عقبه ، ولم يتردد في الجد في الهرب ، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته ، يقال : عقب عليه تعقيباً ، اي كر ، وعقب في الأمر تعقيباً : تردد في طلبه مجداً - هذا في ترتيب المحكم .
وفي القاموس : التعقيب : الالتفات .
وقال القزاز في ديوانه : عقب - إذا انصرف راجعاً فهو معقب .(5/411)
صفحة رقم 412
ولما تشوفت النفس غلى ما قيل له عند هذه الحالة ، أجيبت بأنه قيل له : ( يا موسى لا تخف ( ثم علل هذا النهي بقوله ، مبشراً بالأمن والرسالة : ( أني لا يخاف لديّ ) أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات ، وهي وقت الوحي ومكانه ) المرسلون ) أي لأنهم معصمون من الظلم ، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم .
النمل : ( 11 - 14 ) إلا من ظلم. .. . .
) إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ( )
ولما دل أول الكلام وآخره على أن التقدير ما ذكرته ، وعلم نه أن من ظلم خاف ، وكان المرسلون بل الأنبياء معصومين عن صدور ظلم ، لكنهم لعلو مقامهم ، وعظيم شأنهم ، يعد عليهم خلاف الأولى ، بل بعض المباحات المستوية ، بل أخص من ذلك ، كما قالوا ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ، استدراك سبحانه من ذلك بأداة الاستثناء ما يرغب المرهبين من عواقب الظلم آخرتلك في التوبة ، وينبه موسى عليه السلام على غفران وكزة القبطي له ، وأنه لا خوف عليه بسببه وإن كان قتله مباحاً لكونه خطأ مع أنه كافر ، لكن علو المقام يوجب التوقف عن الإقدام إلا بإذن خاص ، ولذلك سماه هو ظلماً فقال ) رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ( وهو نم التعريضات التي يلطف مأخذها فقال : ( إلا ( أو المعنى : لكن ) من ظلم ( كائناً من كان ، بفعل سوء ) ثم بدل ( بتوبته ) حسناً بعد سوء ( وهو الظلم الذي كان عمله ، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلاً ، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف .
ثم علل ذلك بأن المغفرة والرحمة صفتان له ثابتتان ، فقال : ( فإني ) أي أرحمه بسبب أني ) غفور ) أي من شأني أني أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها ) رحيم ( أعامل التائب منها ماملة الراحم البليغ الرحمة بما يقتضيه حاله من الكرامة ، فايل أثر ما كان وقع فيه من موجب الخوف وهو الظلم .
ولما أراه سبحانه هذه الخارقة فيما كان في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني ، أراه أخرى في يده نفسها بقلب عرضها الذي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني ، فقال : ( وأدخل يدك في جيبك ) أي فتحة ثوبك ، وهو ما قطع منه ليخيط بعنقك ) تخرج ) أي إذا أخرجتها ) بيضاء ) أي بياضاً عظيماً نيراً جداً ، له شعاع كشعاع الشمس .(5/412)
صفحة رقم 413
ولما كان ربما وقع في وهم أن هذه الآفة ، قال : ( من غير سوء ) أي برص ولا غيره من الآفات ، آية أخر كائنة ) في ( جملة ) تسع آيات ( كما تقدم شرحها في سورة الإسراء وغيرها ، منتهية على يدك برسالتي لك ) إلى فرعون وقومه ) أي الذين هم أشد أهل هذا الزمان قياماً في الجبروت والعدوان ؛ ثم عللل إرساله إليهم بالخوارق بقوله : ( إنهم كانوا ) أي كوناً كأنه جبلة لهم ) قوماً فاسقين ) أي خارجين عن طاعتنا لتردهم إلينا .
ولماكان التقدير : فأتاهم كماأمرناهم فعاندوا أمرنا ، قال منبهاً علىذلك ، دالاً بالفاء على سرعة إتيانه إليهم امتثالاً لما أمر به : ( فلما جاءتهم آياتنا ) أي على يده ) مبصرة ) أي سبب الإبصار لكونها منيرة ظاهرة جداً ، فهي هادية لهم إلى الطريق الأقوم هداية النور لمن يبصر ، فهو لا يخطىء شيئاً ينبغي أن ينتفع به ) قالوا هذا سحر ) أي خيال لا حقيقة له ) مبين ( اي واضح في أنه خيال ) وجحدوا ) أي أنكروا عالمين ) بها ) أي أنكروا كونها ىيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأن الجحود الإنكار مع العلم .
ولما كان الجحد معناه إنكار الشيء مع العلم به ، حقق ذلك بقوله : ( واستيقنتها ) أي والحال أنهم قد طلبوا الوقوف على حقائق أمرها حتى تيقنتها في كونها حقاًَ ) أنفسهم ( وتخلل علمها صميم عظامهم ، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ، ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس .
ثم علل حجدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها فقال : ( ظلماً وعلواً ) أي إرادة وضع الشيء في غير حقه ، والتكبر على الآتي به ، تلبيساً على عباد الله .
ولما كان التقدير : فأغرقناهم أجمعين بأيسر سعي وأهون أمر فلم يبق منهم غير تطرف ، ولم يرجع منهم مخبر ، على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم ، عطف عليه تذكيراً به مسبباً عنه قوله : ( فانظر ( ونبه على أن خبرهم مما تتوفر الدواعي على السؤال عنه لعظمته ، فقال معبراً بأداة الاستفهام : ( كيف كان ( وكان الأصل : عاقبتهم ، أي آخر أمرهم ، ولكنه أظهر فقال : ( عاقبة المفسدين ( ليدل على الوصف الذي كان سبباً لأخذهم تهديداً لكل من ارتكب مثله .
النمل : ( 15 - 19 ) ولقد آتينا داود. .. . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(5/413)
صفحة رقم 414
حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) 73
( ) 71
ولما تم بهذه القصة الدليل على حكمته ، توقع السامع الدلالة على علمه سبحانه ، فقال مبتدئاً بحرف التوقع مشيراً إلى أنه لا نكير في فضل الآخر على الأول عاطفاً على ما تقديره : فلقد آتينا موسى وأخاه هارون عليهما السلام حكمة وهدى وعلماً ونصراً على ن خالفهما وعزاً : ( ولقد آتينا ( اي بما لنا من العظمة ) داود وسليمان ) أي ابن داود ، وهما من أتباع موسى عليهم اتلسلام وبعده بأزمان متطاولة ) علماً ) أي جزاء من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وغير ذلك لم نؤته لأحد قبلهما .
ولما كان التقدير : فعملا بمقتضاه ، عطف عليه قوله : ( وقالا ( شكراً عليه ، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع : ( الحمد ) أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ) لله ( اي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال ) الذي فضلنا ) أي بما آتانا من ذلك ) على كثير من عباده المؤمنين ) أي اللذين صار الإيمان لهم خلقاً .
ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر ، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما أتاه ما كان منح بع أباه فقال : ( وورث سليمان دود ) أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة ، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً ) وقال ) أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به ، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير : ( يا أيها الناس ( .
ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله ، فإن لا يقدر على ذلك غيره ، قال بانياً للمفعول : ( علمنا ) أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في ششيء ، بل هو كلام الواحد المطاع ، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حال يحوج إليه كما قال في الزكاة : إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل ، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة ) منطق الطير ) أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت ، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، لا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها(5/414)
صفحة رقم 415
قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها بع فيما يريد ، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات ) وأوتينا ( ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره ) من كل شيء ) أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما ، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه : فلان يقصده كل أحد .
ولما كان هذا أمراً باهراً ، دل عليه بقوله مؤكداً بانواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه : ( إن هذا ) أي الذي أوتيناه ) لهو الفضل المبين ) أي البين في نفسه لكل من ينظره ، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضة مؤتية .
ولما كان هذا مجرد خبر ، أتبعه ما يصدقه فقال : ( وحشر ) أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي ) لسليمان جنوده ( .
ولما دل ذلك على عظمه ، زاد في الدلالة عليه بقوله : ( من الجن ( بدأ بهم لعسر جمعهم ) والأنس ( ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم .
ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه ، أتبعه ما لا يعقل فقال : ( والطير ( ولما كان الحشر معناه الجمع بكره ، فكان لا يخلو عن انتشار ، وكان التقدير : وسار بهم في بعض الغزوات ، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه : ( فهم يوزعون ) أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدن أمر وأسهله ليتلاحقوا ، فيكون ذلك أجدر بالهيبة ، وأعون على النصرة ، وأقرب إلى السلامة ؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخرها لئلا يتقدموا في المسير ، قال : والوازع : الحابس وهو النقيب .
وأصل الوزع الكف والمنع .
ولما كان التقدير : فساروا ، لأن الوزع لا يكون إلاعن سير ، غياه بقوله : ( حتى إذا أتوا ) أي أشرفوا .
ولما كان على بساطه فوق متن الريح بين السماء والأرض .
عبر بأداة الاستعلاء فقال : ( على واد النمل ( وهو واد بالطائف - كما نقله البغوي عن كعب ، وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف إلى الآن عندهم بهذا الاسم ، ويسمى أيضاً نخب وزن كتف ، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار لرؤية مشاهدها ، والتطوف في معابدها ومعاهدها .
والتبرك بآثار الهادي ، في الانتهاء والمبادىء ، ووقفت بمسجد فيه قرب سدرة تسمى الصادرة مشهور عندهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى به ، وهذه السدرة مذكورة في غزوة الطائف من السيرة الهشامية واقتصر في تسمية الوادي على نخب ، وأنشدت فيه يوم وقوفي ببابه ، وتضرعي في أعتابه :(5/415)
صفحة رقم 416
مررت بوادي النمل يا صاح بكرة فصحت وأجريت الدموع على خدي وتممت منه موقف الهاشمي الذي ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد وكم موقف افرشه حر جبهتي وأبديت في أرجائه ذلة العبد
- في قصيدة طويلة .
ولما كانوا في أمر يهول منظره ، ويوهي القوى مخالطته ومخبره ، فكان التقدير : فتبدت طلائعهم ، وتراءت راياتهم ولوامعهم ، وأحمالهم ووضائعهم ، نظم به قوله : ( قالت نملة ) أي من النمل الذي بذلك الوادي : ( يا أيها النمل ( ولما حكى عنهم سبحانه ما هو من شأن العقلاء ، عبر بضمائرهم فقال : ( ادخلوا ( اي قبل وصول ما أرى من الجيش ما ) مساكنكم ( ثم عللت أمرها معينة لصاحبه إذ كانت أمارته لا تخفى فقالت جواباً للأمر أو مبدلاً منه : ( لا يحطمنكم ) أي يكسرنكم ويهشمنكم اي لا تبرزوا فيحطمنكم .
فهو نهي لهم عن البروز في صور نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى كبيراً عن شيء كان لغيره أشد نهياً ) سليمان وجنوده ) أي فإنهم لكثرتهم بنهيهم لأن صاروا في الوادي استعلوا عليه فطبقوه فلم يدعوا منه موضع شبر خالياً ) وهم ) أي سليمان عليه السلام وجنوده ) لا يشعرون ( اي بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير ، وتعاطي مصالحة ، مع صغر أجسامكم ، وخفائكم على السائر في حال اضطرابكم ومقامكم ، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبي فهم رحماء .
ولماكان هذا أمراً معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني ، تسبب عنه قوله : ( فتبسم ( ولما دل ذلك على الضحك ، وكان ذلك قد يكون للغضب ، أكده وحقق معناه بقوله : ( ضاحكاً من قولها ( اي لما أوتيته من الفصاحة والبيان ، وسروراً بماوصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذن أحداً وهم يعلمون ) وقال ( متذكراً ما أولاه ربه سبحانه بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ ) أوزعني أن ) أي اجعلني مطيقاً لأن ) أشكر نعمتك ) أي وازعاً له كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني .
ولا يتفلت مني ، ولا يشذ عني وقتاً ما .
ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به .
حققه بقوله : ( التي أنعمت عليّ ( وربما أفهم قوله : ( وعلى والديّ ( أن أمه كانت أيضاً تعرف منطق الطير .
وتحقيق معنى هذه العبارة أن مادة ( وزع ) - بأيّ ترتيب كان - يدور على المعوز - لخرقة بالية يلف بها الصبي ، ويلزمها التمييز ، فإن الملفوف بها يتميز عن غيره ، ومنه الأوزاع وهم الجماعات المتفرقة ، ويلزمها أيضاً الإطاقة فإن أكثر الناس يجدها ، ومنه العزون - لعصب من(5/416)
صفحة رقم 417
الناس ، فإنهم يطيقون ما يريدون ويطيقهم من يريدهم ، ومنه الوزع وهو كف ما يراد كفه ، والولوع بما يزاد ، ومنه الإيعاز - للتقدم بالأمر والنهي ، والزوع للجذب ، ويلزمها أيضاً الحاجة فإنه لا يرضى بها دون الجديد إلا محتاج ، فمعنى الآية : اجعلني وازعاً - أي مطيقاً - أن أشكرها كما يطيق الوازع كف ما يريد كفه ، ويمكن أن يكون مدار المادة الحاجة لأن الأوازع - وهم الجماعات - يحتاجون إلى الجتماع جملةن والكاف محتاج إلى امتثال ما يكفه لأمره ، والجاذب محتاج إلى الزوع أي الجذب ، والمولع بالشيء فقير إليه ، والموعز محتاج إلى قبول وصيته ، فالمعنى : اجعلني وازعاً أي فقيراً إلى الشكر ، أي ملازماً له مولعاً به ، لأن كل فقير إلى شيء مجتهد في تحصيله ، ويلزم على هذا التخريج احتقار العمل ، فيكون سبباً للأمن من الإعجاب ، وفي الآية تنبيه على بر الوالدين في سؤال القيام عنهم بما لم يبلغاه من الشكر - والله الموفق .
والشكر في اللغة فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً كالثناء على المنعم بما يدل على أن الشاكر قد عرف نعمته واعترف له بها وحسن موقعها عنده ، وخضع قلبه له لذلك ، وحاصله أنه اسم لمعرفة النعمة واعترف لأنها السبيل إلى معرفة المنعم فإنه إذا عرفها تسبب في التعرف إليه ، فسلك طريق التعرف وجد في الطلب ، ومن جدَّ وجد ، ويروى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة آخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود إذا علمت أن ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني .
والشكر ثلاثة أشياء : الأول معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة ، فرب جاهل يحسن إليه وينعم عليه وهو لا يدري ، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر .
والثاني : قبول النعمة بمعنى بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة ، فإن ذلك شاهد بقبولها حقيقة ، والثالث : الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه ، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وهو على ثلاث درجات : الأولى الشكر على المحاب أي الأشياء المحبوبة ، وهذا شكر تشارك فيه المثبتون المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ، فإن الكل يعتقدون أن الإحسان الواصل من ا لرحمن واجب معرفته على الإنسان ، ومن سعة بر البارىء سبحانه وتعالى أن عده شكراً مع كونه واجباً على الشاكر .
ووعد عليه الزيادة ، وأوجب فيه المثوبة إحساناً ولطفاً .
الثانية : الشكر في المكاره ، وهو إما من رجل لا يمييز بين الحالات ، بل يستوي عنده المكروه والمحبوب ، فإذا نزل به المكروه شكر الله عليه بمعنى أنه أظهر الرضا بنزوله به ، وهذا مقام الرضا ، وإما من رجل يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله ، فإن نزل به مكروه فشكره عليه(5/417)
صفحة رقم 418
إنما هو كظم الغيظ وستر الشكوى وإن كان باطنه شاكياً ، والكظم إنما هو لرعاية الأدب بالسلوك في مسلك العلم ، فإنه يأمر العبد بالشكر في السراء والضراء والثالثة : أن لا يشهد العبد إلا المنعم باشتغاله بالاستغراق في مشاهدته عن مشاهدة النعمة ، وهذا الشهودعلى ثلاثة أقسام : أحدها أن يستغرق فيها عبودة ، فيكون مشاهداً له مشاهدة العبد للسيد بأدب العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم ، فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي ما حصل لغيرهم ، باستغراقهم في الأدب ، وملاحظتهم لسيدهم خوفاً من أن يسير إليهم في أمر فيجدهم غافلين ، وهذا أمر معروف عند من صحب الملوك .
فصاحب هذا الحال إذ أنعم عليه سيده في هذه الحالة ، مع قيامه في حقيقة ا لعبودة ، استعظم الإحسان ، لأن العبودة توجب عليه أن يستضغر نفسه .
ثانيها أن يشهد سيده شهود محبة غالبة ، فهو هذا الاستغراق فيه ، يستحلي منه الشدة ، وقد قال بعض عشاق حسن الصورة لا صورة الحسن فأحسن :
من لم يذق الحبيب كظلمه حلواً فقد جهل المحبة وادعى .
ثالثها : أن يشهد شهود تفريد التوية ويفني الرسم ويذهب الغيرية ، فإذا وردت عليه النعمة أو الشدة كان مستغرقاً في الفناء فلم يحس بشيء منهما .
ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه ، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) مشيراً إلى هذا المعنى : ( وأن أعمل صالحاً ) أي في نفس الأمر .
ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك :
إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
قال : ( ترضاه ( .
ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلي إلى درحة المرضي عنهم ، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط ، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء ، لأن الملك المنعم تام الملك العظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل ، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه ، معلماً بأن ا لمنعم غني عن العمل وعن غيره ، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة : ( وأدخلني برحمتك ) أي لا بعملي ) ي عبادك الصالحين ) أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو والرحمة والرضا .(5/418)
صفحة رقم 419
النمل : ( 20 - 24 ) وتفقد الطير فقال. .. . .
) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : فوصل إلى المنزل الذي قصده فنزله وتفقد أحوال جنوده كما يقتضيه العناية بأمور الملك ، أي تجنب فقدهم بأن تعرف من هو منهم موجود ومن هو منهم مفقود ، الذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم : ( وتفقد الطير ( إذ كانت أحد أركان جنده ففقد الهدهد ) فقال ما لي ) أي أيّ شيء حصل لي حال كوني ) لا أرى الهدهد ) أي أهو حاضر ، وستره عني ساتر ، وقوله ) أم كان من الغائبين ( كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند ، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته ، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع ، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام .
ثم قال على سبيل الاستئناف إقامة لسياسة الملك ما يدل أيضاً على عظمته ، قالوا : إنه يرى الماء في الأرض كما يرى الإنسان الماء من داخل الزجاج فينقر الأرض فتأتي الشياطين فتستخرجه : ( لأعذبنه ) أي بسبب غيبته فيما لم آذن فيه ) عذاباً شديداً ) أي مع إبقاء روحه تأديباً له وردعه لأمثاله ) أو لأذبحنه ) أي تأديباً لغيره ) أو ليأتيني ) أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء ، أو تكون ) أو ( الثانية بمعنى إلا أن فيكون المعنى : ليكونن أحد الأرمرين : التعذيب أو الذبح : إلا أن يأتيني ) بسلطان مبين ) أي حجة واضحة في عذره ، فكأنه مكث بعد الحلف بالتهديد زماناً قريباً ) غير بعيد ( من زمان التهديد ، وأتى خوفاً منهيبة سليمان عليه السلام ، وقياماً بما يجب عليه من الخدمة ، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية ، وضمه الجماعة إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام جركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام ) فقال ( عقب إتيانه مفخماً للشأن ومعظماً لرتبة العلم ودافعاً لما علم أنه أضمر من عقوبته : ( أحطت ) أي علماً ) بما لم تحط به ) أي أنت من اتساع علمك وامتداد ملكك ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي مالا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله ، وفيه إبطال لقول الرافضة : إ ، الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه من هو أعلم منه .(5/419)
صفحة رقم 420
ولما أبهمه تشويقاُ ، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه ، ثنى بمدح الخبر مجلياً بعض إبهامه ، هزاً للنفس إلى طلب إتمامه ، فقال : ( وجئتك ) أي الآن ) من سبأ ( قيل : إنه اسم رجل صار علماً لقبيلة ، وقيل : أرض في بلاد اليمن ، وحكمة تسكين قنبل له بنية الوقف الإشارة إلى تحقير أمرهم بالنسبة إلى نبي الله سليمان عليه السلام بأنهم ليست لهم معه حركة أصلاً على ما هم فيه من الفخامة والعز والبأس الشديد ) بنبأ ) أي خبر عظيم ) يقين ( وهو من أبدع الكلام موازنة في اللفظ ومجانسة في الخط مع ما له من الانطباع والرونق ، فكأنه قيل : ما هو ؟ فقال : ( إني وجدت امرأة ( وهي بلقيس بنت شراحيل ) تملكهم ) أي أهل سبأ .
ولما كانت قد أوتيت من كل ما يحتاج إليه الملوك أمراً كبيراً قال : ( وأوتيت ( بنى الفعل للمفعول إقراراً بأنها مع ملكها مربوبة ) من كل شيء ( تهويلاً لما رأى من أمرها .
ولما كان عرشها - أي السرير الذي تجلس عليه للحكم - زائداً في العظمة ، خصه بقوله : ( ولهاعرش ) أي سرير تجلس عليه للحكم ) عظيم ) أي لم ار لأحد مثله .
ولما كان في الخدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله فحصل له من النورانية ما هاله لأجله إعراضهم عن الله ، قال مستأنفاً تعجيباً : ( وجدتها وقومها ) أي كلهم على ضلال كبير ، وذلك أنهم ) يسجدون للشمس ( مبتدئين ذلك ) من دون الله ) أي من أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم الذي لا مثل له ، وهي الرتبة الأفعال لأنها مصنوع من مصنوعاته تعالى سواء كان ذلك مع الاستقلال أو الشرك ) وزين لهم الشيكان أعمالهم ) أي هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة .
ولما تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق قال : ( فصدهم عن السبيل ) أي الذي لا سبيل إلى الله غيره ، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام .
ولما تسبب عن ذلك ضلالهمن قال : ( فهم ) أي بحيث ) لا يهتدون ) أي لا يوجد لهم هدى ، بل هم في ضلال صرف ، وعمى محض .
النمل : ( 25 - 33 ) ألا يسجدوا لله. .. . .
) أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ(5/420)
صفحة رقم 421
تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان هذا الضلال عجباً في نفسه فضلاص عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية ، ودواء الغواية ، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله : السجود ، تعظيماً له وتنويهاً به فقال : ( ألا ( اي لئن لا ) يسجدوا ) أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم ، ويجوز أن يتعلق بالتزيين ، اي زين لهم لئلا يسجدوا ) لله ) أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس ، ومحط القرب ، ودارة المناجاة ، وآية المعافاة ، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال ، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافاً ، بدىء بأداة الاستفتاح تنبيهاً لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحداً منهم بمصادفته غافلاً ، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذاناً بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال ، خوفاً من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها : : ألا يا هؤلاء اسجدوا لله ، أي لتخلصوا من أسر الشيطان ، فإن السجود مرضاة للرحمن ، ومجلاة للعرفان ، ومجناة لتمام الهدى والإيمان .
ولما كانت اقصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة ، وصفه بما يقتضي ذلك فقال : ( الذي يخرج الخبء ( وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره ، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض ، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً ، وخصه بقوله : ( في السماوات والأرض ( لأن ذلك منتهى مشاهدتنا ، فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما ، وما يشرق من الكواكب ويغرب - إلى غير ذلك من الرياح ، والبرد والحر ، الحركة والسكون ، والنطق والسكوت ، وما لا بحصيه إلا الله تعالى ، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة .
ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات ، وكان ما تضمره القلوب أخفى ، قال : ( ويعلم ما يخفون ( ولما كان هذا مستزماً لعلم الجهر ، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة ، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم ، قال : ( وما يعلنون ) أي يظهرون .
ولما كام هذا الوصف موجباً لأن يعبد سبحانه وحده ، صرح بما يقتضيه في قوله ؛(5/421)
صفحة رقم 422
) الله ( اي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له ، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال : ( لا إله إلا هو ( ولما كان وصف عرشها بعظم ما ، قال : ( رب ) أي مبدع ومدبر ) العرش العظيم ) أي الكامل في العظم الذي لا عظيم يداينه ، وهو محتو على جميع الأكوان ، وقد ثبت أن صاحبه أعظم منه ومن كل عظيم بآية الكرسي وبغيرها ، فقطع ذلك لسان التعنت عندذكره مع مزيد اقتضاء السياق له لأنه للانفراد بالإلهية المقتضية للقهر والكبر بخلاف آية المؤمنون ، وهذه آية سجدة على كل القراءتين ، لأن مواضع السجود إما مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها ، كقراءة التشديد ، أو أمر بالسجود كقراءة التخفيف ، والكل ناظر إلى العظمة .
ولما صح قوله في كون هذا خبراً عظيماً ، وخطباً جسيماً ، حصل التشوق إلى جوابه فقيل : ( قال ) أي سليمان عليه السلام للهدهد : ( سننظر ) أي نختبر ما قلته ) أصدقت ) أي فيه فنعذرك .
ولما كان الكذب بين يديه - لما أوتيه من العظمة بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد بعده - يدل على رسوخ القدم فيه ، قال : ( أم كنت ) أي كوناً هو كالجبلة ) من الكاذبين ) أي معروفاً بالانخراط في سلكهم ، فإنه لا يجترىء على الكذب عندي إلا من كان عريقاً في الكذب دون ( أم كذبت ) لأن هذا يصدق بمرة واحدة .
ثم شرع فيما يختبره به ، فكتب له كتاباً على الفورفي غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة ، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له : ( اذهب بكتابي هذا ( قول من كان مهيئاً عنده ودفعه إليه .
ولما كان عليهالسلام قد زاد قلقه بسجودهم لغير الله ، أمره بغاية الإسراع ، وكأنه كان أسرع الطير طيراناً وأمده الله زيادة على ذلك بمعونة منه إكراماً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فصار كأنه البرق ، فأشار إلى ذلك بالفاء في قوله : ( فألقه ( ولما لم يخصها في الكتاب دونهم بكلام لتصغير إليهم أنفسهم بخطابه مع ما يدلهم علىعظمته ، جمع فقال : ( إليهم ) أي الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس ، وذلك للاهتمام بأمر الدين .
ولما كان لو تأخر عنهم بعد إلقائه إلى موضع يأمن فيه على نفسه على ما هو فيه ن السرعة لداخلهم شك في أ ، ه هو الملقى له ، أمره بأن يمكث بعد إلقائه يرفرف على رؤوسهم حتى يتحققوا أمره ، فاشار سبحانه إلى ذلك بأداة التراخي بقوله ، ) ثم ) أي بعد وصولك وإلقائك ) تول ) أي تنح ) عنهم ( إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك ) فأنظر ( عقب توليك ) ماذا يرجعون ( اي من القول من بعضهم إلى بعض بسبب الكتاب .
ولما كان العلم واقعاً بأنه يفعل ما أمر به لا محالة ، وأنه لا يدفعه إلا إلى الملكة(5/422)
صفحة رقم 423
التي بالغ في وصفها ، تشوفت النفس إلى قولها عند ذلك ، فكان كأنه قيل : فأخذ الكتاب وذهب به ، فلما ألقاه إليها وقرأته ، وكانت كاتبة نم قوم تبع ) قالت ( لقومها بعد أن جمعتهم معمظمة لهم ، أو لأشرافهم فقط : ( يا ايها الملؤا ) أي الأشراف .
ولما كان من شأن الملوك أن لا يصل إليهم أحد بكتاب ولا غيره إلا على ايدي جماعتهم ، عظمت هذا الكتاب بأنه وصل إليها على غير ذلك المنهاج فبنت للمفعول قولها : ( إني ألقي إليَّ ) أي بإلقاء ملق على وجه غريب ) كتاب ) أي صحيفة مكتوب فيها كلام وجيز جامع .
ولما كان الكريم كما تقدم في الرعد - من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لأنه ضد اللئيم ، وكان هذا الكتاب قد حوى من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله منجهة المرسل والرسول والافتتاح بالاسم الأعظم إلى ما له من وجازة اللفظ وبلوغ المعنى ، قالت : ( كريم ( ثم بينت كرمه أو استأنفت جواباً لمن يقول : ممن هو وما هو ؟ فقالت : ( إنه ) أي الكتاب ) من سليمان ( وفيه دلالة على أن الابتداء باسم صاحب الكتاب لا يقدح في الابتداء بالحمد ) وأنه ( اي المكتوب فيه ) بسم الله الرحم الرحيم ( فحمد المستحق للحمد وهو الملك الأعلى المحيط عظمه بدائرتي الجلال والإكرام ، العام الرحمة بك نعمة ، فملك الملوك من فائض ما له من الإنعام الذي يخص بعد العموم من يشاء بما يشاء مما ترضاه ألوهيته من إنعامه العام ، بعد التعريف باسمه إشارة إلى أنه المدعو إليه للعبادة بما وجب له لذاته وما استحقه بصفاته ، وذلك كله بعد التعريف بصاحب الكتاب ليكون ذلك أجدر بقبوله ، لأن أكثر الخلق إنما يعرف الحق بالرجال ، ولما في كتابه من الدلالة على نبوته ، فسر مراده بأمر قاهر فقال : ( ألا تعالوا عليّ ) أي لا تمتنعوا من الإجابة لي ، والإذعان لأمري ، كما يفعل الملوك ، بل اتركوا علوهم ، لكوني داعياً إلى الله الذي أعلمت في باء البسملة لا تكون حركة ولا سكون إلا به ، فيجب الخضوع له لكونه رب كل شيء ) وأتوني مسلمين ) أي منقادين خاضعين بما رايتم من معجزتي في أمر الكتاب .
ولما تشوفت النفس غلى جوابهم ، أعلم سبحانه بأنهم بهتوا فقال : ( قالت يا أيها الملؤا ( ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها : ( أفتوني ) أي تكرموا عليّ بالإبانة عما أفعله ) في أمري ( هذا الذي أجيب به عن هذا الكتاب ، جعلت المشورة فتوى توسعاً ، لأن الفتوى الجواب في الحادثة ، والحكم بما هو صواب مستعار من الفتاء في السن الذي صفرة العمر ؛ ثم عللت أمرها لهم بذلك بأنها شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير ، فكيف بهذا الأمر الخطير ، وفي ذلك استعطافهم(5/423)
صفحة رقم 424
بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ، فقال : ( ما كنت ) أي كوناً ما ) قاطعة أمراً ) أي فاعلته وفاصلته غير مترددة فيه ) حتى تشهدون ( وقد دل على غزارة عقلها وحسن أدبها ، ولذلك جنت ثمرة أمثال ذلك طاعتهم لها في المنشط والمكره ، فاستأنف تعالى الإخبار عن جوابهم بقوله : ( قالوا ) أي الملأ مائلين إلى الحرب : ( نحن أولو قوة ) أي بالمال والرجال ) وأولو باس ) أي عزم في الحرب ) شديد والأمر ( راجع وموكول ) إليك ( اي كل من المسالمة والمصادمة ) فانظري ( بسبب أنه لا نزاع معك ) ماذا تأمرين ) أي به فإنه مسموع .
النمل : ( 34 - 40 ) قالت إن الملوك. .. . .
) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( ( )
ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده ، ولا أحد بكيده ، مالت إلى المسالمة ، فاستأنف سبحانه وتعالى الإخبار عنها بقوله : ( قالت ( جوباً لم اأحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب أن الصواب من غير ارتياب أن نحتال في عدم قصد هذا الملك المطاع ؛ ثم علل هذا أفهمه سياق كلامها بقولها ) إن الملوك ) أي مطلقاً ، فكيف بهذا النافذ الأمر ، العظيم القدر ) إذا دخلوا قرية ) أي عنوة بالقهر والغلبة ) أفسدوها ) أي بالنهب والتخريب ) وجعلوا اعزة قومها اذلة ) أي بما يرونهم من الباس ، ويحلون بهم السطوة .
ثم أكدت هذا المعنى بقولها : ( وكذلك ) أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن ، الوعر المسلك البعيد السأو ) يفعلون ( دائماً ، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا ، فكيف بمن تطيعه الطيور ، ذوات الزكور ، فيما يريده من الأمر .
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر ، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة ، فقالت : ( وإني مرسلة ( وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل له بالجمع في قولها : ( إليهم ( اي إليه وإلى جنوده ) بهدية ) أي تقع منهم موقعاً .
قال البغوي : وهي العطية(5/424)
صفحة رقم 425
على طريق الملاطفة .
) فناظرة ( عقب ذلك وبسببه ) بم ) أي بأي شيء ) يرجع المرسلون ( بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال ، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره ، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته ، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً .
ولما كان التقدير / فأرسلت بالهدية ، وهي فيما يقال خمسمائة غلام مرد ، زينتهم بزي الجواري ، وأمرتهم بتأنيث الكلام ، وخمسمائة جارية في زي الغلمان ، وأمر لهم بتغليظ الكلام .
وجزعه معوجة الثقب ، ودرة غير مثقوبة - وغير ذلك ، وسألته أن يميز بين الغلمان والجواري ، وأن يثقب الدرة ، وأن يدخل في الجزعة خيطاً ، فأمرهم بغسل الوجوه والأيدي ، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها ثم تنقله إلى الأخرى ثم تضرب الوجه وتصب الماء على باطن ساعدها صباً ، وكان الغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ويصب الماء على ظهر الساعد ويحدره على يديه حدراً ، وأمر الأرضة فثقبت الدرة ، والدودة فأدخلت السلك في الثقب المعوج ، رتب عليه قوله مشيراً بالفاء إلى سرعة الإرسال : ( فلما جاء ) أي الرسول الذي بعثته وارسلته ، والمراد به الجنس ؛ قال أبو حيان : وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث .
) سليمان ( فدفع إليه ذلك ) قال ( اي سليمان عليه السلام للرسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه : ( أتمدونن ) أي أنت ومن معك ومن أرسلك ) بمال ( وإنما قصدي لكم لأجل الدين ، تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ، ولا يرضيه شيء دون طاعة الله .
ثم سبب عنه ما أوجب له استصغاراً ما معه فقال : ( فما آتان الله ( اي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقب منه سبحانه ، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه ، فمهما سأله أعطاه ، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة ، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به ) خير ما آتاكم ( اي من الملك الذي لا نبوة فيه ، ولا تأييد من الله .
ولما كان التقدير : ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا ، نسق عليه قوله : ( بل أنتم ( اي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه ، فأنتم ) بهديتكم تفرحون ( بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي ، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوة لأجل ما آتاكم منه من الدنيا ، فحالي خلاف حالكم ، فإنه لا يرضيني إلا الدين .
ثم افرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله : ( ارجع ( وجمع في قوله : ( إليهم ( إكراماً لنفسه ، وصيانه لاسمها عن(5/425)
صفحة رقم 426
التصريح بضميرها ، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها ) فلنأتينهم بجنود لا قبل ) أي طاقة ) لهم بها ) أي بمقابلتها لمقوامتها وقلبها عن قصدها ، أي لا يقدرون أن يقابلوها ) ولنخرجنهم منها ) أي من بلادهم ) أذلة ( .
ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد ، لا على سبيلالهوان ، حقق المراد بقوله : ( وهم صاغرون ) أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام .
ولما ذهب الرسل ، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة ) قال ( لجماعته تحقيقاً لقوله : ( وأوتينا من كل شيء ( لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها : ( يا ايها الملؤ ) أي الأشراف ) أيّكم يأتيني بعرشها ( لترى بعض ما تاني الله من الخوارق ، فيكون أعون على متابعتها في الدين ، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها ، وأختبر به عقلها ) قبل أن يأتوني ( اي هي وجماعتها ) مسلمين ) أي منقادين لسلطاني ، تاركين لعز سلطانهم ، منخلعين من عظيم شأنهم ، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه ) قال عفريت ( .
ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد ، وعلى المارد القوي ، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة - وقال الرازي : مع خبث ومكر - وعلى غيره ، بينه بأن قال : ( من الجن أنا ( الداهية الغليظ الشديد ) آتيك به ( ولما علم أن غرضه الإسراع قال : ( قبل أن تقوم من مقامك ) أي مجلسك هذا ، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله : ( وإني عليه ) أي الإتيان به سالماً ) لقوي ( لا يخشى عجزي عنه ) أمين ( لا يخاف انتفاضي شيئاً منه .
ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة ، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم ، ترغيباً في القرآن ، وحثاً على ما أفاده من البيان ، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشراقه ( صلى الله عليه وسلم ) لأقرب من ذلك : ( قال الذي عنده ( .
ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله ، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال : ( علم ( تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على نعلمه ، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعم الشرعي فقال : ( من الكتاب ) أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره ، وهو المنسوب إلينا ، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان ، ولعله التوراة والزبور ، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة كان الله - تعالى كما ورد في شرعنا - سمعه الذي(5/426)
صفحة رقم 427
يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، أي إنه يفعل له ما يشاء ، وقيل في تعيينه إنه آصف بن برخياً وكان صديقاً عالماً : ( أنا آتيك به ( وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام ؛ وبين فضله على العفريت بقوله : ( قبل أن يرتد ) أي يرجع ) إليك طرفك ) أي بصرك غذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته ؛ قال القزاز : طرف العين : امتداد بصرها حيث ادرك ، ولذلك يقولون : لا أفعل ذلك ما ارتد إليّ طرفي ، أي ما دمت أبصر ، ويقال : طرف الرجل يطرف - إذا حرك جفونه ، وقيل : الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع .
وبين تصديق فعله لقوله أنه استولىعليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى : ( فلنا رآه ( اي العرش .
ولما كانت الرؤية تكون قد تكون الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية ، وكذلك العندية ، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال : ( مستقراً عنده ( اي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه ، ما هو بسحر ولا منام لا مثال ؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب الثالث من كتابه المغني : زعم ابن عطية أن ) مستقراً ( هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر ، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره منأن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول ، فهو كون خاص .
) قال ) أي سليمان عليه السلام شكراً لما آتاه الله منهذه الخوارق : ( هذا ) أي الإتيان المحقق ) من فضل ربي ) أي المحسن إليّ ، لا بعمل استحق به شيئاً ، فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل ، فكل عمل نعمة منه يستوجب عليّ به الشكر ، ولذلك قال : ( ليبلوني ) أي يفعل معي فعل المبتلي الناظر ) أأشكر ( فأعترف بكونه فضلاً ) أم أكفر ( بظن أني أوتيته باستحقاق .
ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله : ( ومن شكر ) أي أوقع الشكر لربه ) فإنما يشكر لنفسه ( فإن نفعه لها ، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر ) ومن كفر فإن ربي ) أي المحسن إليّ بتوفقي لما أنا فيه من الشكر ) غني ) أي عن شكر ، لا يضره تركه شيئاً ) كريم ( يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه ، ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرانه كما يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك .
النمل : ( 41 - 44 ) قال نكروا لها. .. . .
) قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ(5/427)
صفحة رقم 428
إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) 73
( ) 71
ولما قدم - كما هو دأب الصالحين - الشكر ، علم أنه يفعل في العرش ما لأجله أحضره ، تشوفت النفس إليه فأجيبت بقوله : ( قال ) أي سليمان عليه السلام : ( نكروا لها عرشها ) أي بتغيير بعض معالمه وهيئته اختباراً بعقلها كما اختبرنا هي بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك ، وإليه الإشارة بقوله : ( ننظر أتهتدي ) أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهديتها في الدين ) أم تكون من الذين ( شأنهم أنهم ) لا يهتدون ) أي بل هم في غاية الغباوة ، لا يتجدد لهم اهتداء ، بل لو هدوا لوقفوا عند الشيه ، وجادلوا بالباطل وما حلوا ، وأشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله : ( فلما جاءت ( وكان مجيئها - على ما قيل - في اثنى عشر ألف قيل من وجوه اليمن ، تحت يد كل قيل ألوف كثيرة ، وكانت قد وضعت عرشها داخل بيت منيع ، ووكلت به حرساً أشداء ) قيل ) أي لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره بتقليب نصبه وتغييره ، من قائل لا يقدر على السكوت عن جوابه لما نالها من الهيبة وخالطها من الرعب منعظيم ما رت ، فقرعها بكلمة تشمل على أربع كلمات : هاء التنبيه ، وكاف التشبيه ، واسم الإشارة ، مصدرة بهمزة الاستفهام ، أي تنبهي ) أهكذا ( أمثل ذا العرش ) عرشك قالت ( عادلة عن حق الجواب من ( نعم ) أو ( لا ) إشارة إلى أنها غلب على ظنها أنه هو بعينه كما قالوا في ( كأن زيداً قائم ) : ( كأنه هو ( وذلك يدل على ثبات كبير ، وفكر ثاقب ، ونظر ثابت ، وطبع منقاد ، لتجويز المعجزات والإذعان لها مع دهشة القدوم ، واشتغال الفكر بما دهمها من هيبته وعظيم أمره ، فعلم سليمان عليه السلام رجاحة عقلها وبطلان ما قال الشياطين من نقصه خوفاً من أن يتزوجها فتفشي عليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية - على ما قيل ، وقالوا : إن رجلها كحافر الحمار ، وإنها كثيرة الشعر جداً .
ولما كانت مع ذلك قد شبه عليها ولم تصل إلى حاق الانكشاف مع أنها غلبت على عرشها مع الاحتفاظ عليه ، استحضر ( صلى الله عليه وسلم ) ما خصه الله به من العلم زيادة في حثه على الشكر ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فأوتيت من أمر عرشها علماً ، ولكنه يخالجه شك ، فدل على أنها في الجملة من أهل العلم المهيئي للهداية ، أو يكون التقدير بما دل عليه ما يلزم من قولها ) كأنه ( : فجهات أمر عرشها على كثرة ملابستها له : ( وأوتينا ( معبراً بنون الواحد المطاع ، لا سيما والمؤتى سبب لعظمة شرعية ، وهو العلم الذي لا يقدر على إيتائه غير الله ، ولذلك بني الفعل للمفعول لأن فاعله معلوم ) العلم ( أي(5/428)
صفحة رقم 429
بجميع ما آتانا الله علمه ، ومنه أنه يخفى عليها ) من قبلها ) أي من قبل إتيانها ، بأن عرشها يشتبه عليها ، أو من قبل علمها بما ظنت من أمر عرشها ، أو أنا وأسلافي من قبل وجودها ، فنحن عريقون في العلم ، فلذلك نحن على حقيقة من جميع أمورنا ، وإنما قال : ( ننظر أتهتدي ( بالنسبة إلى جنوده .
ثم ذكر السبب في وجود العلم واتساعه وثباته فقال : ( وكنا ) أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية ) مسلمين ) أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره كما أشار أليه قوله تعالى :
77 ( ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( ) 7
[ البقرة : 282 ] ،
77 ( ) يهديهم ربهم بإيمانهم ( ) 7
[ يونس : 9 ] .
ولماكان المعنى : وأما فإنها وإن أوتيت علماً فلم يكن ثابتاً ، ولا كان معه دين ، ترجمه بقوله : ( وصدها ) أي هي عن كمال العلم كما صدها عن الدين ) ما ) أي المعبود الذي ) كانت ) أي كوناً ثابتاً في الزمن الماضي ) تعبد ) أي عبادة مبتدئة ) من دون الله ) أي غير الملك الأعلى الذي له الكمال كله أو أدنى رتبة من رتبته ، وهي عبادة الشمس ليظهر الفرق بين حزب الله الحكيم العليم وحزب إبليس لسفيه الجهول .
ثم علل ذلك إشارة إلى عظيم نعمة الله عليه بالنعمة على أسلافه بقوله : ( إنها ( وقرىء بالفتح على البدل منفاعل ( صد ) ) كانت من قوم ) أي ذوي بطش وقيام ) كافرين ) أي فكان ذلك سبباً - وإن كانت في غاية من وفور العقل وصفاء الذهن وقبول العلم كما دل عليه ظنها في عرشها ، ما يهتدي له إلا من عنده قابلية الهدي - في اقتفائها لآثارهم في الدين ، فصديت مرآة فكرها ونبت صوارم عقلها .
ولما تم ذلك ، كان كأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار ؟ فقيل : نعم ) قيل لها ) أي من قائل من جنود سليمان عليه السلام ، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين : ( ادخلي الصرح ( وهو قصر بناه قبل قدومها ، وجلس في صدره ، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي ، وأجرى تحته الماء ، وجعل فيه دواب البحر ، وأصله - كما قال في الجمع بين العباب والمحكم : بيت واحد يبني منفرداً ضخماًطويلاً في السماء ، قال : وقيل : كل بناء متسع مرتفع ، وقيل : هو القصر ، وقيل : كل بناء عال مرتفع ، والصرح : الألاض المملسة ، وصرحة الدار ساحتها .
ودل على مبادرتها لامتثال الأمر وسرعة دخولها بالفاء فقال : ( فلما رأته ( وعبر بما هو من الحسبان دلالة على أن عقلها وأن كان في غاية الرجاحة ناقص لعبادتها لغير الله فقال : ( حسبته ) أي لشدة صفاء الزجاج واتصال الماء بسطحه الأسفل ) لجة ) أي غمرة عظيمة من ماء ، فعزمت على خوضها إظهاراً لتمام الاستسلام ) وكشفت عن ساقيها ((5/429)
صفحة رقم 430
أي لئلا تبتل ثيابها فتحتاج إلى تغييرها قبل الوصول إلى سليمان عليه السلام ، فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً غير أنها شعراء .
ولما حصل مراده ، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل : ( قال ( مبيناً لعظم عقله وعلمه ، وحكمته وقدرته ، مؤكداً لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء : ( إنه ) أي هذا الذي ظننته ماءاً ) صرح ) أي قصر ) ممرد ) أي مملس ، وأصل المرودة : الملامة والاستواء ) من ) أي كائن من ) قوارير ) أي زجاج ليتصف بشفوفة الماء فيظن أنه لا حائل دونه ، فلما رأت ما فضله الله به من العلم ، المؤيد بالحكمة ، المكمل بالوقار والسكينة ، والمتمم بالخوارق ، بادرت إلى طاعته علماً بأنه رسول الله ، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله : ( قالت ( مقبلة على من آتاه ، للاستمطار من فضله ، والاستجداء من عظيم وبله : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ ) إني ظلمت نفسي ) أي بماكنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك ) وأسلمت ) أي ليظهر عليّ ثمرات الإسلام .
ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه ، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه ، والإذعان له ، والانقياد والاعتارف بالفضل ، وبهدايته غلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات .
فقالت : ( مع سليمان ( .
ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان ، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات فقالت : ( لله ) أي مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية .
ثم رجعت إشارة إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت : ( رب العالمين ( فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى ، فلله درها ما أعلمها وأطيب أعراقها وأكرمها ويقال : أن سليمان عليه السلام تزوجها واصطنع الحمام - وهو أول من اتخذه - وأذهب شعرها بالنورة .
النمل : ( 45 - 49 ) ولقد أرسلنا إلى. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ( )(5/430)
صفحة رقم 431
ولماأتم سبحانه هذه القصة المؤسسة على العلم المشيد بالحكمة المنبئة عن أن المدعوين فيها أطبقوا على الاستسلام للدخول في الإسلام ، مع أبالة الملك ورئاسة العز ، والقهر على يد غريب عنهم بعيد منهم ، أتبعها قصة انقسم أهلها مع الذل والفقر فريقين مع أن الداعي منهم لا يزول باتباعه شيء من العز عنهم ، مع ما فيها من الحكمة ، وإظهار دقيق العلم بإبطال المكر ، بعد طول الأناة والحلم ، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق لمن ظن أن هذا شأن كل رسول مع يدعوهم ، عاطفاً على ) ولقد آتينا داود ( : ( ولقد أرسنا ) أي بما لنا من العظمة ) إلى ثمود ( ثم أشار إلى العجب من توقفهم بقوله : ( أخاهم صالحاً ( فجمع إلى حسن الاسم وقرب النسب .
ثم ذكر المقصود منالرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن ، وهو الاعتراف بالحق لأهله ، فقال : ( أن اعبدوا الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده ، ولا تشركوا به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع ، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام متفقون على ذلك عربهم وعجمهم .
ثمزاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال : ( فإذا هم ) أي ثمود ) فريقان ( ثم بين بقوله : ( يختصمون ( أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان ، لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان ، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف .
وتأتي هنا الإشارة إليه بقوله ( وبمن معك ) وبعضهم استمر على شركه وكذبه ، وكل فريق يقول : أنا على الحق وخصمي على الباطل .
ثم استأنف بما أشار إليه حرف التوقع من شدة التشوف قائلاً : ( قال ) أي صالح مستعطفاً في هدايته : ( يا قوم ) أي يا أولاد عمي ومن فيهم كفاية للقيام بالمصالح ) لم تستعجلون ) أي تطلبون العجلة بالإتيان ) بالسيئة ) أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر ) قبل ( الحالة ) الحسنة ( من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم ، والاستعجال : طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب له .
واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء ) أئتنا بما تعدنا ( ) لولا ) أي هلا ولم لا ) تستغفرون الله ) أي تطلبون غفران الذي له صفات الكمال لذنوبكم السالفة بالرجوع إيه بالتوبة بإخلاص العبادة له ) لعلكم ترحمون ) أي لتكونوا على رجاء من أن تعاملوا من كل من فيه خير معاملة المرحوم بإعطاء الخير والحماية من الشر ، ثم استأنف حكاية جوابهم فقال : ( قالوا ( فظاظة وغلظة مشبرين بالإدغام إلى أن ما يقولونه إنما يفهمه الحاذق بمعرفة الزجر وإن كان الظاهر خلافه بما أتاهم به من الناقة التي كان في وجودها من البركة أمر عظيم ؛ ) اطيرنا ) أي تشاءمنا ) بك وبمن معك ) أي وهو الذين آمنوا بك ، فإنه وقع بيننا بسببكم الخلاف ، (5/431)
صفحة رقم 432
وكثر القيل والقال والإرجاف ، وحصلت لنا شدائد واعتساف ، لأنا جعلناكم مثل الطائر الذي يمر من جهة الشمال - على ما يأتي في الصافات ) قال طائركم ) أي ما تيمنون به فيثمر ما يسركم ، أو تتشاءمون به فينشأ عنه ما يسوءكم وهو عملكم من الخير أو الشر ) عند الله ) أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، وليس شيء منه بيد غيره ولا ينسب إليه ، فإن شاء جعلنا سببه وإن شاء جعل غيرنا .
ولما كان معنى نسبته إلى الله أن هذا هذا الذي بكم الآن من الشر ليس منا ، قال : ( بل أنتم قوم تفتنون ) أي تختبرون من الملك الأعلى بما تنسبونه إلى الطير من الخير والشر ، أي تعاملون به معاملة الاختبار هل تصلحون للخير بالرجوع عن الذنب فيخفف عنكم أو لا فتمحنوا .
ولماأخبر عن عامة هذا الفريق بالشر ، أخبر عن شرهم بقوله : ( وكان في المدينة ) أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها ) تسعة رهط ( اي رجال ، مقابلة لآيات موسى التسع .
ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال ، أضيفت التسعة إليه ، فكأنه قيل : تسعة رجال ، وإن كان لقوم ورجال مخوصين ، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة ، وما دون التسعة فنفر ، وقال في القاموس : إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق ، والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع ) يفسدون ( وقال : ( في الأرض ( إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه .
ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر ، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض أفعاله ، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك ، بل هم شر محض فحقق خلوصهم للفساد بقوله مصرحاً بما أفهمته صيغة المضارع : ( ولا يصلحون ( .
ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم ، أجاب بقوله : ( قالوا تقاسموا ( أمر مما منه القسم ، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم ) بالله ) أي الذي لا سمى له لما شاع من عظمته ، وشمول إحاطته في علمه وقدرته ، فليقل كل منكم عن نفسه ومن إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد : ( لنبيتنّه ) أي صالحاً ) وأهله ) أي لنهلكن الجميع ليلاً ، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً .
ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم ، قالوا : ( ثم لنقولن لوليّه ) أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد : ( ما شهدنا ) أي حضرنا حضوراً تاماً ) مهلك ) أي هلاك ) أهله ) أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا ، أو أهل(5/432)
صفحة رقم 433
صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكهم .
ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه - عليه السلام - أكثر منالفجيعة بهلاك أهله وأعظم ، كان في السياق بالإسناد إلى الولي - على تقدير كون الضمير لصالح عليه السلام - أتم إرشاد إلى أن التقدير : ولا مهلكه .
ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر ، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف والاجتراء على الكذب فقالو : ( وإنا ) أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم ، إيهاماً لتحقق الصدق : وإنا ) لصادقون ( فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله العظيم ، ثم نفروا عنه نفور الظليم ، إلى أوثان أنفع منها الهشيم .
النمل : ( 50 - 58 ) ومكروا مكرا ومكرنا. .. . .
) وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ( ( )
ولما كان هذا منهم عمل من لا يظن أن الله عالم به ، قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك : ( ومكروا مكراً ) أي ستروا عظيماً أرادوا به الشر بهذه المساومة على المقاسمة ، فكان مكرهم الذي اجتهدوا في ستره لدينا مكشوفاً وفي حضرتنا معروفاً وموصوفاً ، فشعرنا بل علمنا به فأبطلناه ) ومكرنا مكراً ) أي وجزينانهم على فعلهم بما لنا من العظمة شيئاً هو المكر في الحقيقة فإنه لا يعلمه أحد من الخليقة ، ولذلك قال : ( وهم ) أي مع اعتنائهم بالفحص عن الأمور .
والتحرز من عظائم المقدور ) لا يشعرون ) أي لا يتجدد لهم شعور بما قدرناه عليهم بوجه ما ، فكيف بغيرهم ، وذلك أنا جعلنا تدميرهم في تدبيرهم ، فلم يقدروا على إبطاله ، فأدخلناهم في خبر كان ، لم يفلت منهم إنسان ، وأهلكنا جميع الكفرة من قومهم في أماكنهم مساكنهم أو غير مساكنهم ، وأما مكرهم فكانوا على اجتهادهم في إتقانه وإحكام شأنه ، قد جوزوا فيه سلامة بعض من يقصدونه بالإهلاك ، فشتان بين المكرين ، وهيهات هيهات لما بين الأمرين ، وقد ظهر أن الآية إما احتباك أو شبيهة بهك عدم الشعور دال على حذف عدم الإبطال من الثاني ، وعلى حذف الشعور والإبطال الذي هو نتيجة من الأول .(5/433)
صفحة رقم 434
ولما علم من هذا الإبهام تهويل الأمر ، سبب عنه سبحانه زيادة في تهويله قوله : ( فانظر ( وزاده عظمة بالإشارة بأداة الاستفهام إلى أنه أهل لأن يسأل عنه فقال : ( كيف كان عاقبة مكرهم ( فإن ذلك سنتنا في أمثالهم ، ثم استأنف لزيادة التهويل قوله بيناً لما أبهم : ( إنا ) أي بما لنا من العظمة ، ومن فتح فهو عنده بدل من ) عاقبة ( ) دمرناهم ) أي أهلكناهم ، أي التسعة المتقاسمين ، بعظمتنا التي لا مثل لها ) وقومهم أجمعين ( لم يفلت منهم مخبر ، ولا كان في ذلك تفاوت بين مقبل ومدبر ، وأين يذهب أحد منهم أو من غيرهم من قبضتنا أو يفر من مملكتنا .
ولما كانت يتسبب عن دمارهم زيادة الهول والعرب بالإشارة إلى ديارهم ، لاستحضار أحوالهم ، واستعظامهم بعظيم أعمالهم ، قال : ( فتلك ) أي المبعدة بالغضب على أهلها ) بيوتهم ) أي ثمود كلهم ) خاوية ) أي خالية ، متهدمة بالية ، مع شدة اركانها ، وإحكام بنيانها ، فسبحان الفعال لما يريد ، القادر على الضعيف كقدرته على الشديد. .
ولم ذكر الهلاك ، أتبعه سببه في قوله : ( بما ظلموا ) أي أوقعوا من الأمور في غير مواقعها فعل الماشي في الظلام ، كما عبدوا من الأوثان ، ما يستحق الهوان ، ولا يستحق شيئاً من التعظيم بوجه ، معرضين عمن لا عظيم عندهم غيره عند الإقسام ، والشدائد والاهتمام ، وخراب البيوت - كما قال أبو حيان - وخلوّها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة .
ثم زاد في التويل بقوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود ) لآية ( اي عظيمة ، ولكنها ) لقوم يعلمون ) أي لهم علم .
وأما من لا ينتفع بها نادى على نفسه بأنه في عداد البهائم .
ولما كان ذلك ربما أوهم أن الهلاك عم الفريقين قال : ( وأنجينا ( بعظمتنا ) الذين آمنوا ( أو وهم الفريق الذين كانوا مع صالح عليه السلام كلهم ) وكانوا يتقون ( اي متصفين بالتقوى اتصافاً كأنهم مجبولون عليه ، فيجعلون بينهم وبين ما يسخط ربهم وقايه من الأعمال الصالحة ، والمتاجر الرابحة .
وكذلك نفعل بكل من فعل فعلهم ، قيل : كانوا أربعة آلاف ، ذهب بهم صالح عليه السلام إلى حضرموت ، فلما دخلوها مات صالح عليه السلام ، فسميت بذلك .
ولما فرغ من قصة القريب الذي جعا قومه فإذا هم قسمان ، بعد الغريب الذي لم يختلف عليه ممن دعاهم اثنان ، اتبعها بغريب لم يتبعه ممن دعاهم إنسان ، فقال دالاً على أنه له سبحانه الاختيار ، فتارة يجري الأمور على القياس ، واخرى على خلاف الأساس ، الذي يقتضيه عقول الناس ، فقال : ( ولوطاً ) أي ولقد أرسلناه ؛ وأشار إلى(5/434)
صفحة رقم 435
سرعة إبلاغه بقوله : ( إذ ) أي حين ) قال لقومه ) أي الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليه السلام وصاهرهم ، وكانوا يأتون الأحداث ، منكراً نوبخاً : ( أتأتون ( ولما كان لللإبهام ثم التعيين من هز النفس وترويعها ما ليس للتعيين من أول الأمر قال : ( الفاحشة ) أي الفعلة المتناهية في القبح ) وأنتم تبصرون ) أي لكم عقول تعرفون بها المحاسن والمقابح ، وربما كان بعضهم يفعله بحضرة بعض كما قال
77 ( ) وتأتون في ناديكم المنكر ( ) 7
[ العنكبوت : 29 ] فيكون حينئذ من البصر والبصيرة ؛ ثم أتبع هذا الإنكار إنكاراً آخر لمضمون جملة مؤكدة أتم التأكيد ، إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف ، ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدق ذو عقل أن أحداً يفعلها ، فقال معيناً لما أبهم : ( أئنكم لتأتون ( وقال : ( الرجال ( تنبيهاً على بعدهم عما يأتونه إليهم ، ثم علله بقوله : ( شهوة ( إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس قصد ولد ولا عفاف ؛ وقال : ( من دون ) أي إتاناً مبتدئاً من غير ، أو أدنى رتبة من رتبة ) النساء ( إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك .
ولما كان قوله : ( شهوة ( ربما أوهم أنهم لا غنى بهم عن إتيانهم للشهوة الغلبة لكن النساء لا تكفيهم ، لذلك نفى هذا بقوله : ( بل ) أي إنكم لا تأتونهم لشهوة محوجة بل ) أنتم قوم ( ولما كان المقصود السورة إظهار العلم والحكمة ، وكانوا قد خالفوا ذلك إما بالفعل وإما لكونهم يفعلون من الإسراف وغيره عمل الجهلة ، قال : ( تجهلون ) أي تفعلون ذلك ذلك إظهاراً للتزين بالشهوات فعل المبالغين في الجهل الذين ليس لهم نوع علم في التجاهر بالقبائح خبثاً وتغليباً لأخلاق البهائم ، مع ما رزقكم الله من العقول التي أهملتموها حتى غلبت عليها الشهوة ، وأشار إلى تغاليهم في الجهل الذين ليس لهم نوع سببوا عن ذلك بقوله : ( فما كان جواب قومه ) أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة ) إلا أن ( صدقوه في نسبته لهم إلى الجهل وافتخارهم به بما عدولاً إلى المغالبة وتمادياً في الخبث ) أخرجوا آل لوط ( فأظهر ما أضمره في الأعراف لأن الإظهار أليق بسورة العلم والحكمة وإظهار الخبء ، وقالوا ؛ ) من قريتكم ( مناً عليه بإسكانه عندهم ؛ وعللوا ذلك بقولهم : ( إنهم ( ولعلهم عبروا بقولهم : ( أناس ( مع صحة المعنى بدونه تهكماً عليه لما فهموا من أنه أنزلهم إلى رتبة البهائم ) يتطهرون ) أي يعدون أفعالنا نجسة ويتنزهون عنها .
فلما وصلوا في الخبث إلى هذا الحد ، سبب سبحانه عن قولهم وفعلهم قوله : ( فأنجيناه وأهله ( اي كلهم ، أي من أن يصلوا إليه بأذى أو يلحقه شيء من عذابنا ) إلا امرأته ( فكأنه قيل : فما كان من أمرها ؟ فقيل : ( قدرناها ) أي جعلناها بعظمتنا وقدرتنا(5/435)
صفحة رقم 436
في الحكم وإن كانت خرجت معه ) من الغابرين ) أي الباقين في القرية في لحوق وجوههم والداهية الدهياء أنفسهم وديارهم حتى كانوا كأمس الدابر ) وأمطرنا ( وأشار إلى أنه إمطار عذاب بالحجارة مع تعديته بالهمزة وهو معدى بدونها فصارت كأنها لإزالة الإغاثة بالإتيان بضدها بقوله : ( عليهم ( وأشار إلى سوء الأثر لاستلزامه سوء الفعل الذي نشأ عنه وغرابته بقوله : ( مطراً ) أي وأيّ مطر ؛ ولذلك سبب عنه قوله : ( فساء مطر المنذرين ) أي الذين وقع الإنذار الذي هو الإنذار .
النمل : ( 59 - 64 ) قل الحمد لله. .. . .
) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ( )
وبما تم بهذه القصص استنتاج ما أراد سبحانه من الدليل على حكمته وعلمه ومباينته للأصنام في قدرته وحلمه ، أمر نبيه صلى الله عليه السلام بأن يحمده شكراً على ما علم ويقررهم بعجز أصنامهم رداً لهم عن الجهل بأوضح طريق وأقرب متناول فقال : ( قل ( ما أنتجه ما تقدم في هذه السورة ، وهو ) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ) أي مختص بالمستجمع للأسماء الحسنى ، والصفات العلى الإعدام كما كان عند الإيجاد ) وسلام ) أي سلامة وعافية وبقاء في الحين وكل حين ، كما كان قبل هذا في غابر السنين ، وأشار بأنه لا وصول للعطب إلأيهم بأداة الاستعلاء في قوله : ( على ( وأشار إلى شرفهم بقوله : ( عباده ( بإضافتهم إليه ؛ وأكد ذلك بقوله : ( الذين اصطفى ) أي في كل عصر وحين كما أن الحمد لمعبودهم أزلاً وأبداً لا بذين ، وعطب وغضب على من عصى ، وخالف الرسل وأبى كما ترى في أصحاب هذه الأنباء ، والمهنى أن هذا الحكم المستمر بنجاة الرسل وأتباعهم ، وهلاك الكافرين وأشياعهم ، دليل قطعي على أن الإحاطة لله في كل أمر ؛ قال أبو حيان : وكان هذا صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة ، ومما يتنبه له أنه لم يرد في قصة لوط عليه السلام(5/436)
صفحة رقم 437
أكثر من نهيه لهم عن هذه الفاحشة ، فلا يخلو حالهم من أمرين : إما أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئاً ، ولكنهم لما ابتكروا هذه المعضلة وجاهروا بها مصرين عليها ، أخذوا بالعذاب لذلك ولكفرهم بتكذيبهم رسولهم ، كما صرحت به آية الشعراء ، وإما أنهم كانوا مشركين ، ولكنه عليه السلام لما رآهم قد سلفوا إلى رتبة البهيمية ، رتب داعاءهم منها إلى رتبة الإنسانية ، ثم إلى رتبة الوحدانية ، ويدل على هذا التقدير الثاني قوله مشيراً إلى أن الله تعالى أهلكهم وجميع من كفر من قبلهم ، ولم تغن عنهم معبوداتهم شيئاً ، بقوله : ( الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) خير ) أي لعباده الذين اصطفاهم فأنجاهم ) أما تشركون ( يا معاشر العرب من الأصنام وغيرها لعباديها ومحبيها فإنهم لا يغنون عنكم شيئاً كما لم يغنوا عمن عبدهم من هؤلاء الذين أهلكناهم شيئاً ، ولا تفزعون عند شدائدهم إلا إلى الله وحده ، هذا على على قراءة الخطاب للجماعة ، والتقدير على قراءة الغيب للبصرين وعاصم : أما يشرك الكفار عامة قديماً وحديثاً لمن أشركوا بهم ، فلم يقدروا على نفعهم عند إحلال البأس بهم ، وأفعل التفضيل لإلزام الخصم والتنبيه على ظهور خطائه المفرط ، وجهله المورط إلى حد لا يحتاج فيه إلى كشف لأعلى بابها .
ولما كان مع هذا البيان منالأم الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشكرين وتقرير المنكرين : من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلها ، ولا اثر له أصلاً ، عاد له بقوله : ( أمَّن ( وكان الأصل : أم هو ، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم ، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال : ( خلق السماوات والأرض ( تنبيهاً بالقدرة علىبدء الخلق على القدرة على إعادته ، بل من باب الأولى ، دلالة على الإيمان بالآخرة تخافاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم .
ولما كان الإنبات .
من أدل الآيات ، على إحياء الأموات ، قال : ( وأنزل ( وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله : ( لكم ) أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره : ( من السماء ماء ( هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور .
في وجوده وقدرته واختياره لفعل المتباينات في الطعم واللون والريح والطبع والشكل بماء واحد في أرض واحدة واختصاصه بفعل ذلك من غير مشاركة شيء له شيء منه أصلاً ، وهو آيته العظمى على أمر البعث ، عدل إلى التكلم وعلى وجه العظمة فقال : ( فأنبتنا ) أي بما لنا من العظمة ) به حدائق ) أي بساتين محدقة - أي محيطة - بها أشجارها وجدرانها ، والظاهر(5/437)
صفحة رقم 438
أن المراد كل ما كان هكذا ، فإنه في قوة أن يدار عليه الجدار وإن لم يكن له جدار ، وعن الفراء أن البستان إن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة .
ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف : ( ذات بهجة ) أي بهاء وحسن رونق ، وبشر بها وسرور على تقارب اصولها مع اختلاف أنواعها ، وتباين طعومها وأشكالها ، ومقاديرها وألوانها .
ولما أثبت الإنبات له ، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله ، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال : ( ما كان ) أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه ) لكم ( وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ) أن تنبتوا شجرها ) أي شجر تلك الحدائق .
ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية ، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله : ( أإله ) أي كائن ) مع الله ) أي الملك الأعلى الذي لا مثل له .
ولما كان الجواب عند كل عاقل : لا وعزته قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب : ( بل هم ) أي في جعائهم معه سبحانه شريكاً ) قوم يعدلون ) أي عن الحق الذي لا مرية فبه إلى غيره ، مع العلم بالحق ، فيعدلون بالله غيره .
ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان ، ذكر ما تتفرد به الأرض ، لأنها اقرب إليهم وهم بحقيقتها وما لا بسوه من أحوالها أعلمم منهم بالأمور السماوية ، تعديداً للبراهين الدالة على تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية ، فقال مبدلاً من ) أمَّن خلق ( : ( أمَّن ) أي أم فعل ذلك الذي ) جعل الأرض قراراً ) أي مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها ، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء .
ولما ذكر قرارها ، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال : ( وجعل خلالها ( اي في الأماكن المنفرجة بين جبالها ) أنهاراً ) أي جارية هلى حالة واحدة ، فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب ، لتغيرت مجاري المياه بلا ارتياب .
ولما ذكر الدليل ، ذكر سبب القرار فقال : ( وجعل لها رواسي ) أي كمارسي السفن ، كانت أسباباً في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب .
ولما أثبت القرار وسببه ، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقاً تتصرف فيها ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر ، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا(5/438)
صفحة رقم 439
نبات ، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان ، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة ، والثقل في الأعماق ولو قليلاً قليلاً ، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين : الرومي والفارسي ، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جداً في بعض المواضع ، وكان بعض مياه الأرض عذباً ، وبعضه ملحاً ، معالقرب جداً من ذلك العذب ، سالهم - تنبيهاً لهم على عظيم القدرة - عن الممسك لعدوان أحدهما على آخر ، ولعدوان كل من خليجي الملح على ما بينهما لئلا يخرقاه فيتصلا فقال : ( وجعل بين البحرين حاجزاً ( اي يمنع أحدهما أن يصل إلى الآخر .
ةولماكان من المعلوم أنه الله وحده .
ليس عند عاقل شك في ذلك ، كرر الإنكار في قوله : ( إله مع الله ) أي المحيط علماً وقدرة .
ولما كان الجواب الحق قطعاً : لا ، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علماً من حيث الحكم على المجموع ، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل ، وصفاء الفكر ، ورسوخ اقدم في العلم بما يدعيه العرب ، قال : ( بل أكثرهم ( اي الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع ) لا يعلمون ) أي ليس لهم نوع من العلم ، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح .
ولما دلهم بآيات الآفاق ، وكانت كلها من أحوال السراء ، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله ، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله ، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه ، وإخلاص النية لديه ، والإقبال عليه ، على ذلك ركزت الطباع ، وانعقد الإجماع ، فلم يقع فيه نزاع ، فقال : ( أمن يجيب المضطر ) أي جنس الملجأ إلى ما لا قبل له به ، الصادق على القليل والكثير إذا أراد إجابته كما تشاهدون ، وعبر فيه وفيما بعده بالمضارع لأنه مما يتجدد ، بخلاف ما مضى من خلق السماوات وما بعده ) إذا دعاه ) أي حين ينسيكم الضر شركاءكم ، ويلجئكم غلىمن خلقكم ويذهل المعطل عن مذهبه ويغفله عن سوء أدبه عظيمُ إقباله على قضاء أربه .
ولما كانت الإجابة ذات شقين ، جلب السرور ، ودفع الشرور ، وكان النظر إلى الثاني أشد ، خصه بادئاً به فقال : ( ويكشف السوء ( ثم أتبعه الأول على وجه أعم ، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بدعلهم مسلطين علين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه ، وذلك أقبل عليهم ، ) ويجعلكم خلفاء الأرض ( اي فيما يخلف بعضكم بعضاً ، لا يزلا يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلىقيلم الساعة .
ولما كان هذا أبين ، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال : ( أإله ) أي كائن أو موجود ) مع الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له .
ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له(5/439)
صفحة رقم 440
ومواجهاً به في قراءة الجاعة لما يؤذن به كشف هذه الأزمات من القرب المقتضي للخطاب ، ولذلك أكد بزيادة ( ما ) فقال : ( قليلا ما تذكرون ( اي بأن من أنجاكم من ذلك وحده حين أخلصتم له التوجه عند اشتداد الكربات ، في الأمور المهمات ، فإن هذا قياس ظاهر ، ودليل باهر ، ولكن من طبع الإنسان نسيان ما كان فيه من الضير ، عند مجيء الخير ، ومن قرأ بالتحتانية وهم أبو عمرو وهشام وروح ، فللإيذان بالغضب الأليق بالكفران ، مع عظيم الإحسان .
ولما ذكر آيات الأرض ، وختم بالمضطر ، وكان المضطر قد لا يتهدي لوجه حيلة ، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال : ( أمَّن يهديكم ( اي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية ) في ظلمات البر ) أي بالنجوم والجبال والرياح ، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو شيء من ذينك ) والبحر ( بالنجوم والرياح .
ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير ، كان بعضها من أدلة المطر ، قال : ( ومن يرسل الرياح ) أي التي هي من دلائل السير ) نشراً ( اي تنشر السحاب وتجمعها ) بين يدي رحمته ) أي التي المطر تسمية للمسبب باسم السبب ؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربعك الصبا ، والدبور ، والشمال ، والجنوب ، وهي أعف الدلائل ؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب اسماء الأشياء وصفاتها : الرياح أربع : الشمال ، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني : وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفيةة وبنات نعش ، وهي في الصيف حارة ، واسمها البارح ، والجنوب تقابلها ، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول ، والدبور تقابلها ، ويقال الجنوب : النعامى والأرنب - انتهى .
وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح ، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة : إن قبلة العارقيين إلى باب الكعبة كله إلى الركن الشامي الذي عند الحجر ، وقال : وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافاً متبايناً ، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل ، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر الكعبة إذا ارتفع ، وقال صاحب القاموس : والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش ، وقال : والقبول كصبور : ريح الصبا ، لأنها تقابل الدبور ، أو لأنها تقابل باب(5/440)
صفحة رقم 441
الكعبة ، أو لأن النفس تقلبها .
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز : الصبا : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، والقبول : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، وذلك لأنها تستقبل الدبور ، وقيل : لأنها تستقبل باب الكعبة وهي الصبا ، فقد اتفقت أقولهم كما ترى على خلاف ابن القاص ، وقال ابن القاص : وهي - أي الصبا - ريح معها روح وخفة ، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل ، ولها برد يقرص أشد من هبوبها ، وتلقح الأشجار ، ولاتهب إلا بليل ، سلطانها إذا أظلم الليل ، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس ، وأشد ما يكون في وقت الأسحار وما بين الفجرين ، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف .
وقال في القاموس : والجنوب : ريح تخالف الشمال ، مهبها من مطلع شهيل إلى مطلع الثريا ، وعن ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية .
وفي الجمع بين العباب والمحكم : والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة ، وقيل : هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة ، قال ابن الأعرابي : ومهب الجنوب من مطلع شهيل إلى مطلع الثريا ، وقال الأصمعي : إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح ، وإذا جاءت الشمال نشفت ، ويقال للمتصافيين : ريحهما جنوب ، وإذا تفرقا قيل : شملت ريحهما ، وعن ابن الأعرابي : الجنوب في كل موضع حارة إلا بنجد فإنها باردة ؛ وقال ابن القاص : وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب ، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار ، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء ، فتراه متراكماً مشحوناً ، قال : وسمعت من يقول : ما اشتد هبوبها إلا خيف المطر ، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر ، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض ، وهي من ريح الجنة .
والدبور - قال في القاموس : ريح تقابل الصبا ، وقال القزاز : هي التي تأتي من دبر الكعبة وهي لتي تقابل مطلع الشمس ، وقال ابن القاص : تهب ما ين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعشن وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء ، وهي إذا هبت تثير الغبار .
وتكسح الأرض .
وترفع الذيول ، وتضرب القدام ، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت ، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض ، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور ، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم ، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح ، فحفرت الآبار واستكنت فيها ، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم .
والشمال - قال في القاموس : الريح التي تهب من قبل ا لحجر ، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش ، أو من مطلع النعش إلى مسقط(5/441)
صفحة رقم 442
النسر الطائر ، ولا تكاد تهب ليلاً .
وقال القزاز : هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس ، والعرب تقول : إن الجنوب قالت للشمال : إن لي عليك فضلاً ، أنا أسري وأنت لا تسرين ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسرين ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : والشمال : الريح التي تهب من ناحية القطب ، وعن أبي حنيفة : هي التي تهب من جهة القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق الشام ، وفي الجمع بين العباب والمحكم ، والبوارح : شدة الرياح من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة ، وقيل : البوارح : الرياح الشدائد التي تحمل التراب ، واحدتها بارح ، والجربياء : الريح التي بين الجنوب والصبا ، وقيل : هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور ، وهي ريح تقشع السحاب ، وقيل هي الشمال ، وجربياؤها بردها - قالهالأصمعي ، وقال الليث : هي الشمال الباردة ، وقال ابن القاص : والشمال تهب ما بين مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس في الشتاء ، وهي تقطع الغيم وتمحوها ، ولذلك سميت الشمال المحوة ، قال : وهذا بارض الحجاز ، أما أرض العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيماً واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه ، والجنوب والشمال متماثلتان ، لأنهما مولكتان لاسحاب ، فالجنوب تطردها وهي مشحونة ، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت ، قال أبو عبيدة : الشمال عند العرب للروح ، والجنوب للأمطار والندى ، والدبور للبلاء ، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً يقذي العيون ، والصبا لإلقاح الشجر ، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحيين فهي نكباء ، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى .
وقال المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو : إن شخصاً من خطباء العرب وفد على كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال : ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب ، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال ، وما جاء من وراء الكعبة فهي دبور ، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا ، ونقل ابن كثير في سورة النور عن ابن أبي حام وابن جرير عن عبيد بن عمير الليثي أنه قال : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب .
ولما انكشف بما مضى من الآيات .
ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات ، واتضحت الأدلة ، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة .
كرر سبحانه الإنكار في قوله : ( أإله مع الله ) أي الذي كمل علمه فشملت قدرته .
ولما ذكر حالة الاضطرار ، وأتبعها من صورها ما منه ظلمه البحر ، وكانوا في(5/442)
صفحة رقم 443
البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم ، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجباً دائماًن فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام ، معرضاً عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب : ( تعلى الله ) أي الفاعل الادر المختار الذي لا كفوء له ) عما يشركون ( ، أي فإن شيئاً منها لا يقدر على شيء من ذلك ، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة .
ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص ، ومن أرض إلى سماء ، ختمها بما يعمها وغيرها ، إرشاداً غلى قياس ما غاب منها على ما شوهد ، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة ، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم ، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال : ( أمن يبدؤا الخلق ( اي كله : ما علمتم منه وما لم تعلموا ، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد ابداً تعلقه .
لما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته ، لأن الإعادة أهون ، قال : ( ثم يعيده ) أي بعد ما يبيده .
ولما كان الإمطار والإنبات من أدل نما يكون على الإعادة ، قال مشيراً إليهما على وجه عم جميع ما مضى : ( ومن يرزقكم من السماء ( اي بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله ، وعر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة ) أإله مع الله ) أي الذي له صفات الجلال والإكرام ، كائن ، أو يفعل شيئاً من ذلك .
ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ، ودلائل قاطعة ، وأنواراً لامعة ، وحججاً باهرة ، وبينات ظاهرة ، وسلاطين قاهرة ، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره نم كل ممكن ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) إعراضاً عنهم ، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال : ( قل ) أي هؤلاء المدعين للعقول ) هاتوا برهانكم ) أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى ، أو على إثبات شيء منه لغيره ، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية ، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة ، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر ) إن كنتم صادقين ( اي في أنكم على حق في أن مع الله غيره .
وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد ، لا كلام في وجوده وتحققه ، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم ابعدوا في الضلال ، وأعرقوا في المحال ، حيث رضوا لأنفسهم بتدن لا يضير إليه عاقل غلا بعد تحقق القطع بصحته ، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه .(5/443)
صفحة رقم 444
النمل : ( 65 - 68 ) قل لا يعلم. .. . .
) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( ( )
ولما كانت مضمونات هذه البراهين متوقفة على علم الغيب ، لأنه لا يخرج الخبء باختراع الخلق وكشف الضر وإحكام التدبير إلا به ، لأنه لا قدرة أصلاً لمن لا علم له ولا تمام لقدره من لا تمام لعلمه - كما مضى بيانه في طه ، وكالبهم سبحانه آخر هذه البراهين بالبرهان على الشرك ، وكانوا ربما قالوا : سنأتي به ، امر أن يعلموا أنه لا برهان لهم عليه ، بل البرهان قائم علىخلافه ، فقال : ( قل ) أي لهم أو لكل من يدعي دعواهم : ( لا يعلم ( أحد ، ولكنه عبر بأداة العقلاء فقال : ( من ( لئلا يخصها متعنت بما لا يعقل ، عبر بالظرف تنبيهاً على أن المظروف محجوب ، وكل ظرف حاجب لمظروفه عن علم ما وراءه ، فقال : ( في السماوات والأرض الغيب ) أي الكامل في الغيبة ، وهو الذي لم يخرج إلى عالم الشهادة اصلاً ، ولا دلت عليه أمارة ، ليقدر على شيء مما تقدم في هذه الآيات من الأمور فيعلمه .
ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان .
جعل الاستثناء هنا منقطعاً ، ومن حق المنقطع النصب كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذاً ، لكنه رفع بإجماع العشرة بدلاً على لغة بني تميم ، فقيل : ( إلا الله ) أي المختص بصفات الكمال كما قيل في الشعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
بمعنى : إن كانت البعافير أنيساَ ففيها أنيس ، بتا للقول بخلوها من الأنيس ، فيكون معنى الآية : إن كان الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب ، يعني إن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، ويصح كونه متصلاً ، والظرفية في حقه سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز ، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة ، والرفع افصح من النصب ، لأنه من منفي ، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل ( لا يعلم أحد الغب إلا هو ) وهوالتنبيه على المظروفية والحاجة ، وأن الظرف حجاب ، لا يرتاب فيه مرتاب ، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصاً تقديره : يذكر ، وجعل غيره ( من ) مفعولاً والغيب بدل اشتمال ، والاستثناء مفرغاً ، فالتقدير : لا يعلم غيب المذكورين - اي ما غاب عنهم - كلهم غيره .
ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان ، أو أحد(5/444)
صفحة رقم 445
من الجان ، من أجواف الأوثان ، وكانوا يسمون هذا غبياً وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم الشهادة للملائكة ومن يريد من عباده ، وكانوا ربما تعنتوا به عن العبارة ، وكانت الساعة قد ثبت امرها ، وشاع في القرآن وعلى لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم ذكرها ، بحيث صارت بمنزلة ما لا نزاع فيه ، وكان علم وقتها من الغيب المحض ، قال : ( وما يشعرون ( اي أحد ممن في السماوات والأرض وإن اجتمعوا وتعاونوا ) أيان ) أي أيّ وقت ) يبعثون ( فمن أعلم بشيء من ذلك على الحقيقة بأن صدقه ، ومن تخرص ظهر كذبه .
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد بعث والكفر قد عم الأرض ، وكانوا قد أكثروا في التكذيب بالساعة والقطع بالإنكار لها بعضهم صريحاً ، وبعضهم لزوماً ، لضلاله عن منهاج الرسل وكان الذي ينبغي للعالم الحكيم أن لا يقطع بالشيء إلأ بعد إحاطة علمه به ، قال متهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك استهزاء به مستدركاً لنفي شعورهم بها بياناً لكذبهم باضطراب قولهم : ( بل ادّارك ) أي بلغ وتناهي ) علمهم في الآخرة ) أي أمرها مطلقاً : علم وقتها ومقدار عظمتها في هو لها وغير ذلك من نعتها لقطعهم بإنكارها وتمالؤهم عليه ، وتنويع العبارات فيه ، وتفريغ القول في أمره - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وكذا في قراءة الباقين : ادّارك بمعنى تدارك يعني تتابع واستحكم .
ولما كانوا مع تصريحهم بالقطع في إنكارها كاذبين في قطعهم ، مرنبكين في جهلهم ، وقد يعبرون - دليلاً على أنه لا علم من ذلك عندهم - بالشك ، قال تعالى : ( بل هم في شك ( ولما كانت لشدة ظهورها لقوة أدلتها كأنها موجودة ، عبر بمن ، أي مبتدىء ) منها ( ولماكانوا يجزمون بنفيها تارة ويترددون أخرى ، كانت حقيقة حال من ينكر الشيء تارة على سبيل القطع وأخرى وجه الشك الوصف بالجهل البالغ به قال : ( بل هم ( ولما كان الإنسان مطبوعاً على نقائص موجبة لطغيانه ، ومبالغته في العلو في جميع شأنه ، ولا يوهن تلك النقائص منه إلا الخوف من عرضه على ديانه ، الموجب لجهله .
وتماديه على قبيح فعله ، فقال مقدماً للجار : ( منها عمون ) أي ابتدأ عماهم البالغ الثابت من اضطرابهم في أمرها ، فضلوا فأعماهم ضلالهم عن جميع ما ينفعهم ، فصاروا لا يبتفعون بعقولهم ، بل انعكس نفعها ضراً ، وخيرها شراً ، ونسب ما ذكر لجميع من في اسماوات والأرض ، لأن فعل البعض قد يسند إلى الكل لغرض ، وهو هنا التنبيه على عظمة هذا الأمر ، وتناهي وصفه ، وأنه يجب على الكل الاعتناء به ، والوقوف على حقه ، والتناهي عن باطله ، أو لشك البعض وسكوت الباقي لقصد(5/445)
صفحة رقم 446
تهويله ، أو أن إدراك العلم من حيث التهويل بقيام الأدلة التي هي أوضح من الشمس ، فهم بها في قوة من أدرك علمه بالشيء ، وهو معرض عنه ، فقد فوّت على نفسه من الخير ما لا يدري كنهه ، ثم نزل درجة أخرى بالشك ثم أهلكها بالكلية ، وأنزلها العمى عن رتبة البهائم التي لا همّ لها إلا لذة البطن والفرج ، وهذا كمن يسمع باختلاف المذاهب وتضليل بعضهم لبعض فيضلل بعضهم من غير نظر في قوله فيصير خابطاً خبط عشواء ، ويكون أمره على خصمه هيناً أو الشك لأجل أن أعمالهم أعمال الشاك ، أو أنهم لعدم علم الوقت بعينة كأنهم في شك بل عمى ، ولأن العقول والعلوم لا تستقل بإدراك شيء من أمرها ، وإنما يؤخذ ذلك عن الله بواسطة رسله من الملك والبشر .
ومن أخذ شيئاً من علمها عن غيرهم ضل .
ولما كان التقدير لحكاية كلامهم الذي يشعر ببلوغ العلم ، فقالوا مقسمين جهد أيمانهم : لا تأتينا الساعة ، عطف عليه ما يدل على الشك والعمى ، وكان الأصل : وقالوا ، ولكنه قال : ( وقال الذين كفروا ( اي ستروا دلائل التوحيد والآخرة التي هي أكثر من أن تحصى وأوضح من الضياء ، تعليقاً للحكم بالوصفن مستفهمين استفهام المستبعد المنكر : ( إذا كنا تراباً وآباؤنا ( وكرروا الاستفهام إشارة إلى تناهي الاستبعاد والجحود ، وعد ما استبعدوه محالاً ، فقالوا : ( أئنا ( اي نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم ، وتمكن البلى فيهم ) لمخرجون ) أي من الحالة التي صرنا إليها من الموت والبلى إلى ما كنا عليه قبل ذلك من الحياة والقوة ، ثم أقاموا الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم : ( لقد وعدنا ( .
ولما كانت العناية في هذه السورة بالإيقان بالآخرةن قدم قوله : ( هذا ) أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة - على قوله : ( نحن وآباؤنا ( بخلاف ما سبق في سورة المؤمنون ، وقالوا : ( من قبل ( زيادة في الاستبعاد ، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد ، ولم يقع منه شيء ، فلذلك دليل على أنه لا حقيقة له فكأنه قيل : فما المراد به ؟ فقالوا : ( إن ( اي ما ) هذا إلا أساطير الأولين ) أي ما سطروه كذباً لأمر لا نعرف مرادهم منه .
ولا حقيقة لمعناه ، فقد حط كلامهم هذا كما ترى على أنهم تارة في غاية الإنكار دأب المحيط العلم ، وتارة يستبعدون دأب الشاك ، المركب الجهل ، الجدير بالتهكم كما مضى أنه معنى الإضرابات - والله الموفق .
النمل : ( 69 - 76 ) قل سيروا في. .. . .
) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن(5/446)
صفحة رقم 447
يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) 73
( ) 71
ولما لم يبق هذا الذي اقامه من دلائل القدرة على كل لشيء عموماً ، وعلى البعث خصوصاً ، مقال ، يرد عن الغي إلا التهديد بالنكال ، وكان كلامهم هذه موجباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الغم والكرب ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، قال سبحانه ملقناً له ومرشداً لهم في صورة التهديد : ( قل سيروا في الأرض ) أي أيها المعاندون أو العمي الجاهلون .
ولما كان المراد الاسترشاد للاعتقاد ، والرجوع عن الغي والعناد ، لكون السياق له ، لا مجرد التهديد ، قال ) فانظروا ( بالفاء المقتضية للإسراع ، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلاً للعناية به ، والسؤال عنه ، فقال : ( كيف كان ) أي كوناً هو في غاية امكنة ) عاقبة للمجرمين ) أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل من الصلاة التي هي الوصلة بين الله وين عباده ، والزكاة التي هي وصلة بين بعض العباد وبعض ، لتكذيبهم الرسل الذين هم الهداة إلى ما لا تستقل به العقول ، فكذبوا بالآخرة التي ينتج التصديق بها كل هدى ، ويورث التكذيب بها كل عمى - كما تقدمت الإشارة إليه في اقتتاح السورة ، فإنكم إن تظرتم ديارهم ، وتأملتم أخبارهم ، حق التأمل ، أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم ، فلم تضروا إلا أنفسكم ، وقد تقدم لهذا مزيد بيان في النحل .
ولما دهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل ، الذي هدى إليه الدليل ، ما لا يعلمه إلا الله قال : ( ولا تحزن عليهم ) أي في عدم إيمانهم .
ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب ، بل يبغون للمؤمنين الغوائل ، وينصبون الحبائل ، قال : ( ولا تكن ( مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالىلمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين ، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق ، فيفهم إثبات النون الرسوخ ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل ، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر ، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد ، بل حاملاً على العفو ) في ضيق ) أي في الصدر ) مما يمكرون ( فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح .(5/447)
صفحة رقم 448
ولما أشار إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً ، أشار إلى أنهم بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشد مبالغة ، فقالك ) ويقولون ( بالمضارع المؤذن بالتجدد كل حين للاستمرار : ( متى هذا الوعد ( وسمه وعداً إظهاراً للمحبة تهكماً به ، وهو العذاب والبعث والمجازاة ) إن كنتم ) أي أنت ومن تابعك ، كوناً هو في غاية الرسوخ ، كما تزعمون ) صادقين ( فأجابهم على هذا الجواب الغ بجواب الواسع القادر الذي لا يعتريه ضيق ، ولا تنويه عجلة ، مشيراً إلى الاستعداد للدفاع أو الاستسلام لذي الجلال والإكرام ، كما فعلت بلقيس رضي الله عنها ، فقال مخاطباً الرأس الذي لا يقدر على هذه التؤدة حق القدرة غيره : ( قل ( يا محمد ) عسى ) أي يمكن ) أن يكون ( وجديروخليق بأن يكون ) ردف ) أي تبع ردفاً حتى صار كالرديف ولحق .
ولما قصر الفعل وضمنه ما يتعدى باللام لأجل الاختصاص قال : ( لكم ) أي لأجلكم خاصة ) بعض الذي تستعجلون ( إتيانه من الوعيد ، فتطلبون تعجيله قبل الوقت الذي ضربه الله له ، فعلى تقدبر وقوعه ماذا أعددتم لدفاعه ؟ فإن العاقل من ينظر في عواقب أموره ، ويبنيها على أسوأ التقادير ، فيعد لما يتوهمه من البلاء ما يكون فيه الخلاص كما فعلت بلقيس رضي الله عنها من الانقياد الموجب للأمان لما غلب على ظنها أن الإباء يوجب الهوان ، لا كما فعل قوم صالح من الآبار ، التي أعانت على الدمار ، وغيرهم من الفراعنة .
ولما كان التقدير قطعاً : فأن ربك لا يعجل على أهل المعاصي بالانتقام مع القطع بتمام قدرته ، عطف عليه قوله : ( وإن ربك ) أي المحسن إليك بالحلم عن أمتك وترك المعاجلة لهم بالعذاب على المعاصي ) لذ فضل ) أي تفضل وإنعام ) على الناس ) أي كافة ) ولكن أكثرهم لا يشكرون ) أي لا يوقعون الشكر له بما أنعم عليهم ، ويزيدون في الجهل بالاستعجال .
ولما كان الإمهال قد يكون من الجهل بذنوب الأعداء ، قال نافياً لذلك : ( وإن ربك ) أي والحال أنه أشار بصفة الربوبية إلى إمهالهم إحساناً إليه وتشريفاً له ) ليعلم ) أي علماً لا يشبه علمكم بل هو ي غاية الكشف لديه دقيقة وجليلة ) ما تكن ) أي تضمر وتستر وتخفي ) صدورهم ) أي الناس كلهم فضلاً عن قومك ) وما يعلنون ) أي يظهرون من عداوتك فلا تخشهم ، وذكر هذا القسم لأن التصريح أقر للنفس والمقام للأطناب ، على أ ، ه ربما كان في الإعلان لغط واختالط أصوت يكون سبباً للخفاء .
ولما كان ثبات علة الناس في الغالب مقيداً بالكتاب ، قال تقريباً لأفهامهم : ( وما من غائبة ) أي من هنة من الهنات في غاية الغيبوبة ) في السماء والأرض ) أي في أي(5/448)
صفحة رقم 449
موضع كان منهما ، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد ) إلا في كتاب ( كتبه قبل إيجادها لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره ) مبين ( لا يخفى شيء فيه على من تعرف ذلك منه ذلك منه كيفما كان ؛ ثم دل على ذلك بقوله : ( إن هذا القرآن ) أي الآتي به هذا النبي الأمي الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً ) يقص ) أي يتابع الإخبار ويتلو شيئاً فشيئاً على سبيل القطع الذي لا تردد فيه ، من غير زيادة ولا نقص ) على بني إسرائيل ) أي الذي أخبارهم مضبوطة في كتبهم لا يعرف بعضها إلا قليل من حذاق أخبارهم ) أكثر الذي هم ) أي خاصة لكونه منخاص أخبارهم التي لا علم لغيرهم بها ) فيه يختلفون ( اي من أمر الدين وإ ، بالغوا في كتمه ، كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أن حده الرجم ، وقصة عزير والمسيح ، وإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك من توارتهم ، فصح بحقيقه على لسان من لم يلم بعلم قط أنه من عند الله ، وصح أن الله تعالى يعلم كل شيء إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه سبحانه .
النمل : ( 77 - 81 ) وإنه لهدى ورحمة. .. . .
) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( ( )
ولما بان بهذا دليل علمه ، أتبعه دليل فضله وحلمه ، فقال : ( وإنه ) أي القرآ ، ) لهدى ) أي موصل إلى المقصود لمن وفق ) ورحمة ) أي نعمة وإكرام ) للمؤمنين ) أي الذين طبعتهم على الإيمان ، فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في أذانهم وعمى في قلوبهم .
ولما ذكر دليل فضله ، أبعه دليل عدله ، فقال مستأنفاً لجواب منظن أن فضله دائم العموم على الفريقين : ( إن ( وقال : ( ربك ) أي المحسن إليك بجمعه لكل بين العلم والبلاغة والدين والبراعة الدنيا والعفة والشجاعة تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقضي بينهم ) أي بين جميع المخلفين ) بحكمه ) أي الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه وأحسنه مع كفرهم به واستهزائهم برسله ، لا بحكم غيره ولا بنائب يستثنيه ) وهو ) أي والحال أنه(5/449)
صفحة رقم 450
هو ) العزيز ( فلا يرد له أمر ) العليم ( فلا يخفى عليه سر ولا جهر ، فلما ثبت له العلم والحكمة ، والعظمة والقدرة ، تسبب عن ذلك قوله : ( فتوكل على الله ) أي الذي له جميع العظمة بما ثبت علمه وقدرته التي أثبت بها أنك أعظم عباده الذين اصطفى في استهزاء الأعداء وغيره من مصادمتهم ومسالمتهم لتدع الأمور كلها إليه ، وتستريح من تحمل المشاق ، وثوقاً بنصره ، وما أحسن قول قيس بن الخطيم وهو جاهلي :
متى ما تقد بالباطل الحق يأبه وأن تقد الأطوار بالحق تنقد
ثم علل ذلك حثاً على التحري في الأعمال ، وفطماً لأهل الإبطال ، عن تمني المحال ، فقال : ( إنك على الحق المبين ) أي البين في نفسه الموضح لغيره ، فحقك لا يبطل ووضوحه لا يخفى ، ونكوصهم ليس عن خلل في دعائك لهم ، وإنما الخلل في مداركهم ، فثق بالله في تدبير أمرك فيهم ؛ ثم علل هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره ، أو استأنف لمن يسأل متعجباً عن وقوفهم عن الحق الواضح بقوله : ( إنك لا تسمع الموتى ) أي لا توجد سمعاً للذين هم كالموتى في عدم الانتفاع بمشاعرهم التي هي في غاية الصحة ، وهم إذا سمعوا الآيات أعرضوا عنها .
ولما كان تشبيههم بالموتى مؤيساً ، قال مرجياً : ( ولا تسمع الصم الدعاء ) أي لا تجدد ذلك لهم ، فشبههم بما في أصل خلقهم مما جبلوا عليه منالشكاسة وسوء الطبع بالصم .
ولما كانوا قد ضموا إلى ذلك الإعراض والنفرة فصاروا كالأصم المدبر ، وكان الأصم إذا أقبل ربما بمساعدة بصره وفهمه ، قال : ( إذا ولو مدبرين ( فرجاه في إيجاد الإسماع إذا حصلت لهم حالة من الله تقبل بقلوبهم .
ولما شبههم بالصم في كونهم لا يسمعون إلا مع الإقبال ، مثلهم بالعمى في أنهم لا يهتدون في غير عوج اصلاً إلا براع لا تشغله عنهم فترة ولا ملال ، فقال : ( وما أنت بهادي ) أي بموجد الهداية على الدوام في قلوب ) العمي ) أي في أبصارهم وبصائهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً ) عن ضلالتهم ( عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزالوا عنها أصلاً ، فإن هذا لا يقدر عليه إلا الحي القيوم ، والسياق كما ترى يشعر بتنزيل كفرهم في ثلاث رتب : عليا ككفر أبي جهل ، ووسطى كعتبة بن ربيعة ، ودنيا كأبي طالب وبعض المنافقين ، وسيأتي في سورة الروم لهذا مزيد بيان .
ولماكان ربما أوقف عن دعائهم ، رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله : ( إن ) أي ما ) تسمع ) أي سماع انتفاع على وجه الكمال ، في كل حال ) إلا من يؤمن ( أي(5/450)
صفحة رقم 451
من علمنا أنه يصدق ) بآيتنا ( بأن جعلنا فيه قابلية السمع .
ثم سبب عنه قوله دليلاً على إيمانه : ( فهم مسلمون ) أي في غاية الطواعية لك في المنشط والمكره ، لا خيرة لهم ولا إرادة في شيء من الأشياء .
النمل : ( 82 - 86 ) وإذا وقع القول. .. . .
) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما فرغ من عظيم زجرهم بتسليته ( صلى الله عليه وسلم ) في أمرهم وختم بالإسلام ، عطف عليه ذكر مما يوعدون مما تقدم استعجالهم له استهزاء به ، وبدأ منه بالدابة التي تميز المسلم من غيره ، فقال محققاً بأداة التحقيق : ( وإذا وقع القول ) أي حان حين وقوع الوعيد الذي هومعنى القول ، وكأنه لعطمة لا قول غيره ) عليهم ( بعضه بالإتيان حقيقة وبعضه بالقرب جداً ) أخرجنا ) أي بما لنا من العظمة ) لهم ( من أشراط الساعة ) دآبة ( وأيّ دابة في هولها وعظمها خلقاً وخلقاً ) من الأرض ( اي أرض مكة التي هي أم الأرض ، لأنه لم يبق بعد إرسال أكمل الخلق بأعلى الكتب إلا كشف الغطاء .
ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال : ( تكلمهم ( اي بكلام يفهمونه ، روى البغوي من طريق مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً ) ومن طريق ابن خزيمة عن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة ، ثم تمكن زماناً طويلاً ، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية ، ثم بينما الناس يوماً في أعظم المساجد على الله عز وجل حرمة وأكرمها على الله عز وجل - يعني المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو ) - كذا قال عمرو - يعني ابن محمد العبقري أحد رواة الحديث - ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم(5/451)
صفحة رقم 452
عن يمين الخارج في وسط ذلك ، فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب ، فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ، ولا يعجزها هارب ، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاوز الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ، ويشتركون في الأموال ، بعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن : يا مؤمن ، ويقال للكافر يا كافر ( ؛ ومن طريق الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تخرج الدابة ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان عليهما السلام ، فتجلوا وجه المؤمن بالعصا ، وتخطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى أن أهل الخوان ليجتمعون فيقو هذا : يا مؤمن ، وهذا يا كافر ( .
ثم علل سبحانه إخراجه لها بقوله : ( أن الناس ) أي بما هم ناس لم يصلوا إلى أول اسنان الإيمان ، وهوسن ) الذين آمنوا ( بل هم نائسون مترددون مذبذبون تارة ، وتارة ) كانوا ( اي كوناً هو لهم كالجبلة ) بآيتنا ) أي المرئيات التي كتبناها بعظمتنا في ذوات العالم ، والمسموعات المتلوات ، التي أتيناهم به على ألسنة أكمل الخلق : الأنبياء والرسل ، حتى ختمناهم بإمامهم الذي هو أكمل العالمين ، قطعاً لحجاجهم ، ورداً عن لجاجهم ، ولذا عممنا برسالته وأوجبنا على جميع العقل أتباعه ) لا يوقنون ( من اليقين ، وهو إتقان العلم بنفي الشبه ، بل هم فيها مزلزلون ، فلم يبق بعده ( صلى الله عليه وسلم ) إلا كشف الغطاء عما ليس منجنس الشر بما لا تثبيت له عقولهم .
ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر بما لا يستطيعون دفعه ، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه يجمعهم يوم القيامة في ناحية ، وسوقهم من غير اختلاط بالفريق الآخر ، فقال عاطفاً على العامل في ( وإذا وقع القول ) : ( ويوم نحشر ) أي نجمع - بما لنا من العظمة - على وجه الإكراه ؛ قال أبو حيان : الحشر : الجمع على عنف ) من كل أمة فوجاً ) أي جماعة كثيرة ) ممن يكذب ) أي يوقع التكذيب للهداة(5/452)
صفحة رقم 453
على الاستمرار ، مستهيناً ) بآيتنا ) أي المرئية بعدم الاعتبار بها ، والمسموعة بردها والطعن فيه على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا ؛ وأشار إلى كثرتهم بقوله متسبباً عن العامل في الظرف من نحو : يكونون في ذل عظيم : ( فهم يوزعون ) أي يكف بأدنى إشارة منه أولهم على - آخرهم ، وأطرافهم على أوساطهم ، ليتلاحقوا ، ولا يشذ منهم أحد ، ولا يزالون كذلك ) حتى إذا جاءوا ) أي المكان الذي أراده الله لتبكيتهم ) قال ( لهم ملك الملوك غير مظهر لهم الجزم بما يعلمه من أحوالهم ، في عادهم وضلالهم ، بل سائلاً لهم إظهاراً للعدل بإلزامهم بما يقرون به من أنفسهم ، وفيه إنكار وتوبيخ وتبكيت وتقريع : ( أكذبتم ) أي ايها الجاهلون ) بآياتي ( على ما لها من العظم في أنفسها ، وبإتيانها إليكم على ايدي أشرف عبادي ) و ( الحال أنكم ) لم تحيطوا بها علماً ) أي من غي فكر ولا نظر يؤدي إلى الإحاطة بها في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تتحقه ويليق بها بدليل لا مرية فيه ) أمّاذا كنتم ) أي في تلك الأزمان بما هو لكم كالجبلات ) تعلمون ( فيها هل صدقتم بها أو كذبتم بعد الإحاطة بعلمها ؟ أخبروني عن ذلك كله ما دهاكم حيث لم تشتغلوا بهذا العمل المهم ؟ فإن هذا - وعزتي - مقام العدل والتحرير ، ولا يترك فيه قطمير ولا نقير ، ولا ظلم فيه على أحد في جليل ولا حقير ، ولا قليل ولا كثير ، والسؤال على هذا الوجه منبه على الاضطرار إلى التصديق أو الاعتراف بالإبطال ، لأنهم إن قالوا : كذبنا ، فإن قالوا مع عدم الإحاطة كان في غاية الوضوح في الإبطال ، وإن قالوا مع الإحاطة كان أكذب الكذب .
ولما كان التقدير بما ارشد إليه السياق : فأجابوا بما تبين به أنهم ظالمون ، عطف عليه قوله : ( ووقع القول ) أي مضمون الوعيد الذي هو القول حقاً ، مستعلياً ) عليهم بما ظلموا ) أي بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما نشأ عنه من الضلال ، في الأقوال والأفعال ) فهم لا ينطقون ) أي بسبب ما شغلهم من وقوع العذاب المتوعد به مما أحاط بقواهم ، فهد أركانهم ، وما انكشف لهم من أنه لا ينجيهم شيء .
ولما ذكر الحشر ، استدل عليه بحشرهم كل ليلة إلى المبيت ، والختم على مشاعرهم ، وبعثهم من المنام ، وإظهار الظلام الذي هو كالموت بعد النور ، وبعث النور بعد إفنائه بالظلام ، فقال : ( الم يروا ( مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به ) أنا جعلنا ( اي بعظمتنا التي لا يصل أحد غلى مماثلة شيء منها الدالة على تفردنا وفعلنا بالاختبار ) الليل ( اي مظلماً ) ليسكنوا فيه ( عن الانتشار ) والنهار مبصراً ( اي بإبصار من يلابسه ، لينتشروا فيه في معايشهم بعد أن كانوا ماتوا(5/453)
صفحة رقم 454
الموتة الصغرى ، وكم من شخص منهم بات سوياً لا قبلة به فمات ، ولو شئنا لجعلنا الكل كذلك لم يقم منهم أحد ، وعدل عن ) ليبصروا فيه ( تنبيهاً على كمال كونه سبباً للإبصار ، وعلى أنه ليس المقصود كالسكون ، بل وسيلة المقصود الذي هو جلب المنافع ، فالآية من الاحتباك : ذكر السكون أولاً دليل على الانتشار ثانياً ، وذكر الإبصار ثانياً دليل على الإظام أولاً ، ثم عظم هذه الآية حثاً على تأمل ما فيها من القدرة الهادية إلى سواء السبيل فقال : ( إن في ذلك ) أي الحشر والنشر الأصغرين مع آيتي الليل والنهار ) لآيات ( اي متعددة ، بينة على التوحيد والبعث الآخرة والنبوة ، لأن من قلب الملوين لمنافع الناس الدنيوية ، أرسل الرسل لمنافعهم في الدراين .
ولما كان من مباني السورة تخصيص الهداية بالمؤمنين ، خصهم بالآيات لاختصاصهم بالانتفاع بها وأن إيمانهم لا يزال يتجدد ، فهم كل يوم في علو وارتفاع .
النمل : ( 87 - 91 ) ويوم ينفخ في. .. . .
) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ( )
ولما ذكر هذا الحشر الخاص ، والديل على مطلق الحشر والنشر ، ذكر الحشر العام ، لئلا يظن أنه إنما يحشر الكافر ، فقال مشيراً إلى عمومهم بالموت كما عمهم بالنوم ، وعمومهم بالإحياء كما عمهم بالإيقاظ : ( ويوم ينفخ ) أي بأيسر أمر ) في الصور ) أي القرن الذي جعل صوته لإماتة الكل .
ولما كان ما ينشأ عنه من فزعهم مع كونه محققاً مقطوعاً به كأنه وجد ومضى ، يكون في آم واحد ، أشار إلى ذلك وسرعة كونه بالتعبير بالماضي فقال : ( ففزع ) أي صعق بسسب هذا النفخ ) من في السموات ( .
ولما كان الأمر مهولاً ، كان الإطناب أولى ، فقال : ( ومن في الأرض ( اي كلهم ) إلا من شاء الله ( اي المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة ، أن لا يفزع ؛ ثم أشار إلى النفخ لإحياء الكل بقوله : ( وكل ) أي من فزع ومن لم يفزع ) أتوه ) أي بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها ، دليلاً على تمام القدرة في كونه أقامهم بما به أنامهم(5/454)
صفحة رقم 455
) داخرين ) أي صاغرين منكسرين ؛ واستغنى عن التصريح به بما يعلم بالبديهة منأنه لا يمكن إتيانهم في حال فزعهم الذي هو كناية عن بطلان إحساسهم ، هذا معنى ما قاله كثير من المفسرين والذي يناسب سياق الآيات الماضية - من كون الكلام في يوم القيامة الذي هو ظرف لما بين البعث ودخول الفريقين إلى داريهما - أن يكون هذا النفخ بعد البعث وبمجرد صعق هو كالغشي كما أن حشر الأفواج كذلك ، ويؤيده التعبير بالفزع ، ويكون الإتيان بعده بنفخة أخرى تكون بها الإقامة ، فهاتان النفختان حينئذ هما المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يصعق الناس يوم القيامة ) - الحديث ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى لفظاً ومعنى ، ويحل ما فيه من إشكال في آخر سورة الزمر .
ولما ذكر دخورهم ، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً ، وأهول أمراً ، فقال : عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره : كانت أمور محلولة ، معبراً بالمضار لأن ذلك وإن شارك الفزع في التحقق قد فارقه في الحدوث والتجدد شيئاً فشيئاً : ( وترى الجبال ( اي عند القيام من القبور ، والخطاب إما للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليدل ذلك - لكونه ( صلى الله عليه وسلم ) أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة - على عظم الأمر ، وإما لكل أحد لأن الكل صاروا بعد قيامهم أهلاً للخطاب بعد غيبتهم في التراب ) تحسبها جامدة ) أي قائمة ثابته في مكانها لا تتحرك ، لأن كل كبير متباعد القطار لا يدرك مشيته إلا تخرصاً ) وهي تمر ) أي تسير حتى تكون كالعهن المنفوش فينسفها الله فتقع حيث شاء كأنها الهباء المنثور ، فتستوي الأرض كلها بحيث لا يكون فيها عوج ، وأشار إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله : ( مر السحاب ( اي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا طبق الجو لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإن لم تنكشف الشمس بلا لبس ، وكذا كل كبير الجرم أو كثير العد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه بكثرته البصر ، يكون سائراً ، والناظر الحاذق يظنه واقفاً .
ولما كان ذلك أمراً هائلاً ، أشار إلى عظمته بقوله ، مؤكداً لمضمون الجملة المتقدمة : ( صنع الله ( اي صنع الذي له الأمر كله ذلك الذي أخبر أنه كائن في ذلك اليوم صنعاً ، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقب كلام جاء كالشاهد بصحته ، والمنادي على سداده ، والصارخ بعلو مقداره ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا هكذا ، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع : ( الذي أتقن كل شيء ( .
ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن ، والنظام الأمكن ، أنتج قطعاً قوله : ( إنه ((5/455)
صفحة رقم 456
اي الذي أحكم هذه الأمور كلها ) خبير بما يفعلون ) أي لأن الإتقان نتيجة القدرة ، وهي نتيجة العلم ، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة ، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لانه في سياق البيان لعماهم ، ونفي العلم عنهم ، وقرىء بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا ، المرهب من الإبعاد ، المقرون بالسخط ، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة ، وما أبدع ما لاءم ذلك ولا حمه ما بعده على تقدير الجواب لسؤال من كأنه قال : ماذا يكون حال أهل الحشر مع الدخور عند الناقد البصير ؟ فقال : من إتقانه للأشياء أنه رتب الجزاء أحسن ترتيب ) من جاء بالحسنة ) أي الكاملة وهي الإيمان ) فله ( وهو من جملة إحكامه للأشياء ) خير ) أي أفضل ) منها ( مضاعفاً ، أقل ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله ، وأكرمت وجوهم عن النار ، وهؤلاء أهل القرب الذين سبقت لهم الحسنى ) وهم من فزع يومئذ ) أي إذا وقعت هذه الأحوال ، العظيمة الأهوال ) آمنون ) أي حتىى لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فانظر إلأى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، وأخذ بعضه بحجزه بعض ، كأنما أفزع إفزاعاً واحداً ، ولأمر ما أعجز القوي ، وأخرس الشقاشق والادعاء ) ومن جاء بالسيئة ) أي التي لا سئة مثلها ، وهي الشرك لقوله : ( فكبت ) أي بأيسر أمر ) وجوههم في النار ( مع أنه ورد في الصحيح أن مواضع السجود - التي أشرفها الوجوه - لا سبيل للنار عليها ، والوجه أشرف ما في الإنسان ، فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان ، والمكبوب عليه منكوس .
ولما كانوا قد نكسوا أعمالهم وعكسوها بعبادة غير الله ، فوضعوا الشيء في غير موضعه ، فعظموا ما حقه التحقير ، واستهانوا أمر العلي الكبير .
وكان الوجه محل ظهور الحياء والانكسار ، لظهور الحجة ، وكانوا قد حدقوا الأعين جلادة وجفاء عند العناد ، وأظهروا في الوجوه التجهم والعبوس والارتداد ، بدع قوله بناء على ما تقديره بما دل عليه الاحتباك : وهم من فزع يومئذ خائفون ، وليس لهم إلا مثل سيئتهم : ( هل ) أي مقولاً لهم : هل ) تجزون ) أي بغمس الوجوه في النار ؛ وبني للمفعول لأن المرغب المرهب الجزاء ، لا كونه من معين ، وإشارة إلى أنه يكون بأيسر أمر ، لأن من المعلوم أن المجازي هو الله لا غيره ) إلا ما كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) تعلمون ) أي تكررون عمله وأنتم تزعمون أنه مبني على قواعد العلم بحيث يشهد كل من رآه أ ، ه مماثل لأعمالكم سواء بسواء ، وهو شامل أيضاً لأهل القسم الأول ، والآية من الاحتباك : ذكر الخيرية والأمن أولاً دليلاً على حذف المثل والخوف ثانساً ، والكب في النار ثانياً دليلاً على الإكرام عنه أولاً .(5/456)
صفحة رقم 457
ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة : المبدأ والمعاد والنبوة ، ومقدمات القيامة وأحوالها ، وبعض صفتها وما يكون من أهوالها ، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب ، مرهبة أعظم ترهيب ، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول : فما الذي نعمل ومن نعبد ؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي .
المأمور بإبلاغ هذه الجوامع ، الداعي لمن سمعه ، الهادي لم اتبعه ، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه ، وهو ما أمره به ربه ، فقال : ( إنما أمرت ) أي بأمر من لا يرد له أمر ، ولا يعد أن يكون بدلاً من قوله ) الحمد لله وسلام على عباده الذين اصصفى ( فيكون محله نصباً بقل ، وعظم المأمور به بإجلاله محل العمدة فقال : ( أن أعبد ) أي بجميع ما أمركم به ) رب ) أي موجب ومدبر وملك ؛ وعين المراد وشخصه وقربة تشريفاً وتكريماً بقوله : ( هذه البلدة ) أي مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من يراها ، ثم تؤمن أهل السعادة ، أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما عدلتموه به سبحانه وادعيتم أنهمشركاء ، وهم من جملة ما خلق ؛ ثم وصف المعبود الذي أمر بعبادة أحد غيره بما يقتضيه وصف الربوبية ، وتعين البلدة التي أشار إليها بأداة القرب لحضورها في الأذهان لعظمتها وشدة الإلف بها وإرادتها بالأرض التي تخرج الدابة منها ، فصارت لذلك بحيث إذا أطلقت البلدة انصرفت إليها وعرف أنها مكة ، فقال : ( الذي حرمها ( تذكيراً لهم بنعمته سبحانه عليهم وتربيته لهم بأن أسكنهم خير بلاده ، وجعلهم بذلك مهابة في قلوب عباده ، بما ألقى في القلوب من أنها حرم ، لا يسفك بها دم ، ولا يظلم أحد ، ولا يباح بها صيد ، ولا يعض شجرها ، وخصها بذلك من بين سائر بلاده والناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون لا ينالهم شيء من فزعهم وهولهم .
ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف ، قال احتراساً عما لعله يتوهم : ( وله كل شيء ) أي من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً وللكاً ، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم .
ولما كانوا ربما قالوا : ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى ، عين الدين الذي تكون بع العبادة فقال : ( وأمرت ) أي مع بالعبادة له وحده ، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال : ( أن أكون ) أي كوناً هو في غاية الرسوخ ) من المسلمين ) أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد ، ثابتاً على ذلك غاية الثبات .(5/457)
صفحة رقم 458
النمل : ( 92 - 93 ) وأن أتلو القرآن. .. . .
) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما بين ما أمر به في نفسه ، أتبعه ما تعم فائدته غيره فقال : ( وأن أتلو القرآن ) أي أواظب على تلاوته وتلوه - أي اتباعه - عبادة لربي ، وإبلاغاً للناس ما أرسلت به إليهم مما لا يلم به ريب في أنه من عنده ، ولأكون مستحضراً لأموامره فأعمل بها ، وانواهيه فأجتنبها ، وليرجع الناس إيه ويعولوا في كل أمر عليه .
لأنه جامع لكل علم .
ولما تسبب عن ذلك أن من انقاد له نجى نفسه ، ومن استعصى عليه أهلكها ، قال له ربه سبحانه مسلياً ومؤسياً ومرغباً ومرهباً : ( فمن اهتدى ) أي باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان ) فإنما يهتدي لنفسه ( لأنه يحييها بحوزة الثواب ، ونجاته من العقاب ، فإنما أنا من المبشرين ، أبشره أنه من الناجين ) ومن ضل ) أي عن الطريق التي نهج وبينها من غير ميل ولا عوج ) فقل ( له كما تقول لغيره : ( إنما أن امن المنذرين ) أي المخوفين له عواقب صنعه ، وإنما فسره ورده فلم أومر به الآن ) وقل ) أي إنذاراً لهم وترغيباً وترجية وترهيباً : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ) أي الذي له العظمة كلها سواء اهتدى الكل وضل الكل ، أو انقسموا إلى مهتد وضا ، لأنه لا يخرج شيء عن مراده .
ولما كانت نتيجة ذلك القدرة على كل شيء قال : ( سيريكم ) أي في الدنيا والآخرة بوعد محقق لا شك في وقوعه ) آياته ) أي الرادة لكم عما أنتم فيه يوم يحل لي هذه البلدة الذي حرمها بما أشار إليه جعلي من المنذرين وغير ذلك ما يظهر من وقائعه ويشتهر من أيامه التي صرح أو لوح بها القرآن ، فيأتيكم تأوليه فترونه عياناً ، وهو معنى ) فتعرفونها ) أي بتذكركم ما وعدكم الآن به وأصفه لكم منها ، لا تشكون في شيء من ذلك أنه على ما وصفته ولا ترتابون ، فتظهر لكم عظمة القرآن ، وإبانة آيات الكتاب الذي هو الفرقان ، وترون ذلك حق اليقين ) ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( ) [ ص : 88 ] ، ) ) يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ( ) [ الأعراف : 53 ] ، ) ) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ( ) [ يس : 52 ] .
ولما كان قد نفس لهم بالسين في الآجال ، وكان التقدير تسلية ( صلى الله عليه وسلم ) : وما ربك بتاركهم على هذا الحال من العناد لأن ربك قادر على ما يريد ، عطف عليه قوله : ( وما ربك ) أي المحسن إليك بجميع ما اقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجليلة الجسيمة ) بغافل عما تعلمون ) أي من مخالفة أورامره ، ومفارقة زواجره ، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل ) يرى ) أي ربكم غير غافل ، ومن قرأ بالخطاب كان(5/458)
صفحة رقم 459
المعنى : عما تعمل انت وأتباعك من الطاعة .
وهو من المعصية ، فيجازي كلاًّ منكم بما يستحق فيعلي أمرك ، ويشد إزرك ، ويوهن أيدهم ، ويضعف كيدهم ، لما له من الحكمة ، والعلم ونفوذ الكلمة ، فلا يظن ظان أن تركه للمعالجة بعقابهم لغفلة عن شيء من أعمالهم ، إنما ذلك لأنه حد لهم حدادهم بالغوه لا محالة لأنه لا يبدل القول لديه ، فقد رجع آخرها كما ترى بإبانة الكتاب وتفخيم القرآن وتقسيم الناس فيه إلى مهتد وضال إلى أولها ، وعانق ختامها ابتداءها بحكمة منزلها ، وعلم مجملها وفصلها ، إلى غير ذلك مما يظهر عند تدبرها وتأملها - والله الموفق للصواب ، وإليه المرج والمآب .
نجز الجزء المبارك من مناسبات البقاعي بحمد الله وعونه ويتلوه القصص إن شار الله تعالى - اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا .
.. .. .(5/459)
صفحة رقم 460
سورة القصص
القصص : ( 1 - 5 ) طسم
) طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ( )
) مكية - آياتها ثمان وثمانون ( مقصودها التواضع لله ، المستلزم لرد الأمر كله إليه ، الناشىء عن الإيمان بالآخرة ، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، الثابتة بإعجاز القرآن ، المظهر للخفايا على لسان من لم يتعلم علماً قط من أحد من الخلق ، المنتج لعلو المتصف به ، وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم عليهما السلام على من ناواه ، وقمعه لمن عاداه ، فكان المآل وفق ما قال ) بسم الله ( الذي اختص بالكبرياء والعظمة ، فألبس خدامه من ملابي هيبته ) الرحمن ( الذي عم بنعمة البيان ، حتى أهل الكفران الرحيم الذي خص بنعمة ما بعد البعث أهل الإيمان .
لما ختم تلك بالوعد المؤكد بأنه يظهر آياته فتعرف ، وأنه ليس بغافل عن شيء ، تهديداً للظالم ، وتثبيتاً للعالم ، وكان من الأول ما يوحيه في هذه من الأساليب المعجزة من خفايا علوم أهل الكتاب ، فلا يقدرون على رده ، ومن الثاني ما صنع بفرعون وآله ، قال أول هذه : ( طسم ( مشيراً بالطاء المليحة بالطهر والطيب إلى خلاص بني إسرائيل بعد طول ابتلائهم المطهر لهم عظيم ، وبالسين الرامزة إلى السمو والسنا والسيادة إلى أن ذلك يكون بمسموع من الوحي في ذي طوى من طور سيناء قديم ، وبالميم المهيئة للملك والنعمة إلى قضاء من الملك العلى بذلك كله تام عميم .(5/460)
صفحة رقم 461
ولما كانت هذه إشارات عالية ، وما بعدها لزوم نظوم لأوضح الدلالات حاوية ، قال مشيراً إلى عظمتها : ( تلك ) أي الآيات العالمية الشأن ) آيات الكتاب ) أي المنزل على قلبك ، الجامع لحميع المصالح الدنيوية والأخروية ) المبين ( اي الفاصل الكاشف الموضح المظهر ، لأنه من عتندنا من غير شك ، ولكل ما يحتاج إليه من ذلك وغيره ، عند من يجعله من شأنه ويتلقاه بقبول ، ويلقي إليه السمع وهو شهيد ؛ ثم اقام الدليل على إبانته .
وأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم يختلفون / بما أورد هنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام من الدقائق التي قل من يعلمها من حذاقهم ، على وجه معلم بما انتقم به نم فرعون وآله ، ومن لحق بهم كقارون ، وأنعم به على موسى عليه السلام وأتباعه ، ولذلك بسط فيها أمور القصة ما لم يبسط في غيرها فقال : ( نتلوا ) أي نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في أثر بعض ) عليك ( بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام .
ولما كان المراد إنما هو قص ما هو من الأخبار العظيمة بياناً للآيات بعلم الجليلات والخفيات ، والمحاسبة والمجازاة ، لا جميع الأخبار ، قال : ( من نبأ موسى وفرعون ) أي بعض خبرهما العظيم متلبساً هذا النبأ وكائناً ) بالحق ( اي الذي يطابقه الواقع ، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه ، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولى الإذعان بقوله : ( لقوم يؤمنون ) أي يجددون الإيمان في كل وقت عند كل حادثة لثبات إيمانهم ، فعلم أن المقصود منها هنا الاستدلال على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الأمي بالاطلاع علىالمغيبات ، والتهديد بعلمه المحيط ، وقدرته الشاملة ، وأنه ما شاء كان ولا مدفع لقضائه ، ولا ينفع حذر من قدرة ، فصح أنها دليل على قوله تعالى آخر تلك ) سيريكم آياته فتعرفونها ( الآية ، ولذلك لخصت رؤوس أخبار القصة ، والسلام وأمة وفرعون وغيرهم إلى ما تراه من الحكم التي لا يطلع عليها إلا عالم بالتعلم أو بالوحي ، ومعلوم لكل مخاطب بذلك انتفاء الأول عن المنزل عليه هذا الذكرُ صلى الل عليه وسلم ، فانحصر الأمر في الثاني ، يوضح لك هذا المرام مع هذه الآية الأولى التي ذكرتها قوله تعالى في آخر القصة ) وما كنت بجانب الغربي ( ) وما كنت بجانب الطور ( واتباع القصة بقوله تعالى : ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ( فالمراد بهذا السياق منها كما ترى غير ما تقدم من سياقاتها كما مضى ، فلا تكرير في شيء من ذلك - والله الهادي .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمن قوله سبحانه ) إنما أمرت أن أعبد رب هذه الذي حرمها ( - إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذار والتهديد لما(5/461)
صفحة رقم 462
انجرّ معه بأنه عليه الصلاة والسلام سيملك مكة البلدة ويفتحها الله تعالى عليه ، ويذل عاة قريش ومتمرديهم ، ويعز أتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن استضعفته قريش من المؤمنين ، اتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من تطهير ما أشار إليه من قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون ، واستيلائه عليهم ، وفتكه بهم إلى أن أعزهم الله وأظهرهم على عدوهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى ) سيريكم آياته فتعرفونها ( وفي الثانية بقوله : ( وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( ثم قص ابتداء أمر فرعون وحذره واستعصامه بقتل ذكور الأولاد ثم لم يغن عنه من قدر الله شيئاً ، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار ، ودليل على أنه سبحلنه المتفرد بملكه ، يؤتي ملكه من يشاء ، وينزعه ممم يشاء ، لا يزعه وازع ، ولا يمنعه عما يشاء مانع ، ) قل الله مالك الملك ( وقد أصح قوله تعالى ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( - الآية بما أشار إليه مجمل ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة القصص ، ونحن نزيده بياناً بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول : إن قوله تعالى معلماً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وآمراً ) إنما أمرت أن أعبد ( إلى قوله : ( سيريكم آيته ( لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد ، وشديد الوعيد ، ثم في قوله : ( سورة القصص ( ) مكية - آياتها ثمان وثمانون ( مقصودها التواضع لله ، المستلزم لرد الأمر كله إليه ، الناشىء عن الإيمان بالآخرة ، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، الثابتة بإعجاز القرآن ، المظهر للخفايا على لسان من لم يتعلم علماً قط من أحد من الخلق ، المنتج لعلو المتصف به ، وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم عليهما السلام على من ناواه ، وقمعه لمن عاداه ، فكان المآل وفق ما قال ) بسم الله ( الذي اختص بالكبرياء والعظمة ، فألبس خدامه من ملابي هيبته ) الرحمن ( الذي عم بنعمة البيان ، حتى أهل الكفران الرحيم الذي خص بنعمة ما بعد البعث أهل الإيمان .
لما ختم تلك بالوعد المؤكد بأنه يظهر آياته فتعرف ، وأنه ليس بغافل عن شيء ، تهديداً للظالم ، وتثبيتاً للعالم ، وكان من الأول ما يوحيه في هذه من الأساليب المعجزة من خفايا علوم أهل الكتاب ، فلا يقدرون على رده ، ومن الثاني ما صنع بفرعون وآله ، قال أول هذه : ( طسم ( مشيراً بالطاء المليحة بالطهر والطيب إلى خلاص بني إسرائيل بعد طول ابتلائهم المطهر لهم عظيم ، وبالسين الرامزة إلى السمو والسنا والسيادة إلى أن ذلك يكون بمسموع من الوحي في ذي طوى من طور سيناء قديم ، وبالميم المهيئة للملك والنعمة إلى قضاء من الملك العلى بذلك كله تام عميم .
ولما كانت هذه إشارات عالية ، وما بعدها لزوم نظوم لأوضح الدلالات حاوية ، قال مشيراً إلى عظمتها : ( تلك ) أي الآيات العالمية الشأن ) آيات الكتاب ) أي المنزل على قلبك ، الجامع لحميع المصالح الدنيوية والأخروية ) المبين ( اي الفاصل الكاشف الموضح المظهر ، لأنه من عتندنا من غير شك ، ولكل ما يحتاج إليه من ذلك وغيره ، عند من يجعله من شأنه ويتلقاه بقبول ، ويلقي إليه السمع وهو شهيد ؛ ثم اقام الدليل على إبانته .
وأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم يختلفون / بما أورد هنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام من الدقائق التي قل من يعلمها من حذاقهم ، على وجه معلم بما انتقم به نم فرعون وآله ، ومن لحق بهم كقارون ، وأنعم به على موسى عليه السلام وأتباعه ، ولذلك بسط فيها أمور القصة ما لم يبسط في غيرها فقال : ( نتلوا ) أي نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في أثر بعض ) عليك ( بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام .
ولما كان المراد إنما هو قص ما هو من الأخبار العظيمة بياناً للآيات بعلم الجليلات والخفيات ، والمحاسبة والمجازاة ، لا جميع الأخبار ، قال : ( من نبأ موسى وفرعون ) أي بعض خبرهما العظيم متلبساً هذا النبأ وكائناً ) بالحق ( اي الذي يطابقه الواقع ، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه ، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولى الإذعان بقوله : ( لقوم يؤمنون ) أي يجددون الإيمان في كل وقت عند كل حادثة لثبات إيمانهم ، فعلم أن المقصود منها هنا الاستدلال على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الأمي بالاطلاع علىالمغيبات ، والتهديد بعلمه المحيط ، وقدرته الشاملة ، وأنه ما شاء كان ولا مدفع لقضائه ، ولا ينفع حذر من قدرة ، فصح أنها دليل على قوله تعالى آخر تلك ) سيريكم آياته فتعرفونها ( الآية ، ولذلك لخصت رؤوس أخبار القصة ، والسلام وأمة وفرعون وغيرهم إلى ما تراه من الحكم التي لا يطلع عليها إلا عالم بالتعلم أو بالوحي ، ومعلوم لكل مخاطب بذلك انتفاء الأول عن المنزل عليه هذا الذكرُ صلى الل عليه وسلم ، فانحصر الأمر في الثاني ، يوضح لك هذا المرام مع هذه الآية الأولى التي ذكرتها قوله تعالى في آخر القصة ) وما كنت بجانب الغربي ( ) وما كنت بجانب الطور ( واتباع القصة بقوله تعالى : ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ( فالمراد بهذا السياق منها كما ترى غير ما تقدم من سياقاتها كما مضى ، فلا تكرير في شيء من ذلك - والله الهادي .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمن قوله سبحانه ) إنما أمرت أن أعبد رب هذه الذي حرمها ( - إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذر والتهديد لما انجرّ معه بأنه عليه الصلاة والسلام سيملك مكة البلدة ويفتحها الله تعالى عليه ، ويذل عاة قريش ومتمرديهم ، ويعز أتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن استضعفته قريش من المؤمنين ، اتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من تطهير ما أشار إليه من قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون ، واستيلائه عليهم ، وفتكه بهم إلى أن أعزهم الله وأظهرهم على عدوهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى ) سيريكم آياته فتعرفونها ( وفي الثانية بقوله : ( وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( ثم قص ابتداء أمر فرعون وحذره واستعصامه بقتل ذكور الأولاد ثم لم يغن عنه من قدر الله شيئاً ، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار ، ودليل على أنه سبحلنه المتفرد بملكه ، يؤتي ملكه من يشاء ، وينزعه ممم يشاء ، لا يزعه وازع ، ولا يمنعه عما يشاء مانع ، ) قل الله مالك الملك ( وقد أصح قوله تعالى ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( - الآية بما أشار إليه مجمل ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة القصص ، ونحن نزيده بياناً بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول : إن قوله تعالى معلماً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وآمراً ) إنما أمرت أن أعبد ( إلى قوله : ( سيريكم آيته ( لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد ، وشديد الوعيد ، ثم في قوله : ( رب هذه البلدة ( إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام سيفتحها ويملكها ، لأنه بلد ربه وملكه ، وهو عبده ورسوله ، وقد اختصه برسالته ، وله كل شيء فالعباد والبلاد ملكه ، ففي هذا من الإشارة مثل ما في قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآ ، لرادّك إلى معاد ( وقوله تعالى : ( وأن أتلو القرآن ) أي ليسمعوه فيتذكروا ويتذكر من سبقت له السعادة ، ويخلظ سنة الله في العباد والبلاد ، ويسمع ما جرى لمن عاند وعنى و كذب واستكبر ، فكيف وقصة الله وأخذه ولم يغن عنه حذره ، وأورث مستضعف عباده أرضه ودياره ، ومكن لهم في الأرض وأعز رسله وأباعهم ) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) أي يصدقون ويعتبرون ويستدلون ويستوضحون ، وقوله : ( سيريكم آيته ( يشير إلى ما حل بهم يوم بدر ، وبعد ذلك إلى يوم فتح مكة ، وإذعان نم لم يكن يظن انقياده ، وإهلاك من طال تمرده وعناده ، وانقياد العرب بجملتها بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين افواجاً ، وعزة أقوام وذلة آخرين ، بحاكم ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( إلى أن فتح الله على الصحابة رضوان الله عليهم ما وعدهم به نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان كما وعد ، فلما تضمنت هذه الآية ما أشير إليه ، أعقب بما هو في قوة أن لو قيل : ليس عتوكم بأعظم من عتو فرعون وآله ، ولا حال مستضعفي المؤمنين بمكة ممن قصدتم فتنته في دينه بدون حال بني إسرائيل حين كان فرعون يمتحنهم بذبح(5/462)
صفحة رقم 463
أبنائهم .
فهلا تأملتم عاقبة الفريقين ، وسلكتم أنهج الطريقين ؟ ) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ( - إلى قوله : ( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( فلو تأملتم ذلك لعلمتم أن العاقبة للتقوى ، فقال سبحانه بعد افتتاح السورة إن فرعون علا في الأرض ، ثم ذكر من خبره ما فيه عبرة ، وذكر سبحانه آياته الباهرة في أمر موسى عليه السلام وحفظه ورعايته وأخذ أم عدوه إياه ) عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ( فلم يزل يذبح الأبناء خيفة من مولود يهتك ملكه حتى إذا كان ذلك المولود تولي بنفسه تربيته وحفظه وخدمته ليعلم لمن التدبير والإمضاء ، وكيف نفوذ شابق الحكم والقضاء ، فهلا سألت قريش وسمعت وفكرت واعتبرت ) أولم تاتهم بينة ما في الصحف الأولى ( ثم أتبع عليه السلام في ذلك الخروج من عظيم السعادة ، وفي ذلك منبة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على خروجه من مكة ةتزية له وإعلام بأنه تعالى سيعيده إلى بلده ويفتحه عليه ، وبهذا المستشعر من هنا صرح آخر السورة في قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ( وهذا كاف فيما قصد - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : ما هذا المقصوص من هذا النبأ ؟ قال : ( إن فرعون ( ملك مصر الذي ادعى الإلهية ) علا ) أي بادعائه الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم ) في الأرض ) أي لأنا جمعنا عليه الجنود فكانوا معه إلباً واحداً فأنفذنا بذلك كلمتهن وهي وأن كان المراد بها ارض مصر ففي إطلاقها ما يدل على تعظيمها وأنها كجميع الرض في اسشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها .
ولما كان التقدير بما دل عليه العاطف : فكفر تلك النعمة ، عطف عليه قوله : ( وجعل ( بما جعلنا له من نفوذ الكلمة ) أهلها ) أي الرض المرادة ) شيعاً ) أي فرقاً يتبع كل فرقة شيئاً وتنصره ، والكل تحت قهره وطوع أمره ، قد صاروا معه كالشياع ، وهو دق الحطب ، فرق بينهم لئلا يتمالؤوا عليه ، فلا يصل إلى ما يريد منهم ، فافترقت كلمتهم فلم يحم بعضهم لبعض فتخاذلوا فسفل أمرهم ، فالآية من الاحتباك ، ذكر العلو أولاً دليلاً على السفول ثانياً ، والافتراق ثانياً دليلاً على الالجتماع أولاً ، جعلهم كذلك حال كونه ) يستضعف ) أي يطلب ويوجد أن يضعف ، أو هو اشتئناف ) طائفة منهم ( وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم ، وهو يوسف عليه السلام .
وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده ، ومع ذلك كافؤوه في أولاده وإخوته بأن استبعدوهم ، ثم ما كفاهم ذلك حتى ساموهم على يدي هذا العنيد سوء العذاب فيا بأبي الغرباء بينهم قديماً وحديثاً ، ثم بين سبحانه الاستضعاف بقوله :(5/463)
صفحة رقم 464
) يذبح ) أي يتذبيحاً كثيراً ) أبناءهم ) أي عند الولادة ، وكل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه خوفاً على ملكه زعم من مولود منهم ) ويستحي نساءهم ( اي يريد حياة الإناث فلا يذبحن .
ولما كان هذا أمراً متناهياً في الشناعة ، ليس مأموراً به من جهة شرع ما ، ولا له فائدة اصلاً ، لأن القدر - على تقدير صدق من أخبره - لا يرده الحذر ، قال تعالى مبيناً لقبحه ، شارحاً لها أفهمه ذلك من حالهك ) إنه كان ) أي كوناً راسخاً ) من المفسدين ) أي الذين لهم عراقة في هذا الوصف ، فلا يدع أن يقع منه هذا الجزئي المندرج تحت ما هو قائم به من الأمر الكلي .
ولما كان التقدير كما أرشد إليه السياق لمن يسأل عن سبب فعله هذا العجيب : يريد بذلك زعم دوام ملكه بأن لا يسلبه إياه واحد منهم أخبره بعض علمائه أنه يغلبه عليه ويستنقذ شعبه من العبودية ، عطف عليه قوله بحكي تلك الحال الماضية : ( ونريد ( أو هي حالية ، أي يستضعفهم والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم .
أي يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة ) أن نمن ( اي نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً بأن نمتن به ) على الذين استضعفوا ) أي حصل استضعافهم وهان هذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم ) في الأرض ) أي أرض مصر فذلوا وأهينوا ، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم وفق ما يحبون وفوق مايأملون ) ونجعلهم أئمة ) أي مقدمين في الدين والدنيا ، علماء يدعون كل واحد منهم لأن يقصد للملك بعد كونهم مستبعدين في غاية البعد عنه ) ونجعلهم ( بقوتنا وعظمتنا ) الوارثين ( اي لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط ، ولكل بلد أمرناهم بقصدها ، وهذا إيذان بإهلاك الجميع .
القصص : ( 6 - 9 ) ونمكن لهم في. .. . .
) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ( )
ولما بشر بتمليكهم في سياق دال على مكنتهم ، صرح بها فقال : ( ونمكن ( أي(5/464)
صفحة رقم 465
نوقع التمكين ) لهم في الأرض ) أي كلها لا سيما أرض مصر والشام ، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله ، ثم بالأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث نسلطهم بسببهم على من سواهم بما نؤيدهم به من الملائكة ونظهر لهم من الخوارق .
ولما ذكر التمكين ، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلاماً بأنه أضخم تمكين فقال عاطفاً على نحو : ونريد أن نأخذ الذين علوا في الأرض وهم فرعون وهامان وجنودهما : ( ونري ) أي بما لنا من العظمة ) فرعون ) أي الذي كان هذا الاستضعاف منه ) وهامان ( وزيره ) وجنودهما ( الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريدانه من الفساد ) منهم ) أي المستضعفين ) ما كانوا ) أي بجد عظيم نمهم كأنه غريزة ) يحذرون ) أي يجددون حذره في كل حين على الاستمرار بغاية الجد والنشاط من ذهاب ملكهم بمولود منهم وما يتبع ذلك ، قال البغوي : والحذر : التوقي من الضرر .
والآية من الاحتباك : ذكر الاستضعاف أولاً دليلاً على القوة ثانياً ، وإراءة المحذور ثانياً دليلاً على إرادة المحبوب أولا ، وسر ذلك أنه ذكر المسلي والمرجي ترغيباً في الصبر وانتظام الفرج .
ولما كان التقدير : فكان ما أردناه ، وطاح ما أراد غيرنا ، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره فرعون على ملكه ، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله ، وقضينا بأن يسمى موسى ، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر ، زنربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله ، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا فقال : ( وأوجينا ) أي أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي ، الله أعلم له هل هو ملك أو غيره ، إذ لا بدع في تكليم الملائكة الولي من غير نبوة ) إلى أم موسى ) أي الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم ، وأ ، يكون هلاك فرعون وزوال ملكه على يده ، بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذباحون ) أن أرضعيه ( ما كنت آمنة عليه ، وحقق لها طلبهم لذبحه بقوله : ( فإذا خفت عليه ) أي منهم أن يصيح فيسمع فيذبح ) فألقيه ( اي بعد أن تضعيه في شيء يحفظه من الماء ) في اليم ) أي النيل ، واتركي رضاعه ، وعرفه وسماه يماً - واليم : البحر - لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة ، وما يحصل به من المنافع ، وعدل عن لفظ البحر إلى اليم لأن القصد فيه أظهر من السعة ؛ قال الرازي في اللوامع : وهذا إشارة إلى الثقة بالله ، والثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم ، ولها درجات : الأولى درجة الأياس ، وهو أياس العبد من مقواة الأحكام ، ليقعد عن منازعة الإقسام ، فيتخلص من صحة الإقدام ؛ والثانية درجة الأمن ، وهو أمن العبد من فوت المقدور ، وانتقاص المسطور ، فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين(5/465)
صفحة رقم 466
اليقين ، وإلا فبطلب الصبر ؛ والثالثة معاينة أولية الحق جل جلاله ، ليتخلص من محن المقصود ، وتالكيف الحمايات ، والتعريج على مدارج الوسائل .
) ولا تخافي ) أي لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى أو يوصل إلى أذاه ) ولا تحزني ) أي ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه .
ولماكان الخوف عما يلحق المتوقعن والحزن عما يلحق الواقع ، علل نهيه عن الأمرين ، بقوله في جملة اسميه ة دالة علىالثبات والدوام ، مؤكدة لاستبعاد مضمونها : ( إنا رادوه إليك ( فأزال مقتضى الخوف والحزن ؛ ثم زادها بشرى لا تقوم لها بشرى بقوله : ( وجاعلوه من المرسلين ) أي الذين هم خلاصة المخلوقين ، والآية من الاحتباك ، ذكر الإرضاع أولاً دليلاً على تركه ثانياَ ، والخوف ثانياً دليلاً على الأمن أولاَ ، وسره أنه ذكر المحبوب لها تقوية لقلبها وتسكيناً لرعبها .
ولما كان الوحي إليها بهذا سبباً لإلقائه في البحر .
وإلقاؤه سبباً لالتقاطه ، قال : ( فالتقطه ( اي فأرضعته فلما خافت عليه صنعت له صندوقاً وقيرته لئلا يدخل إليه الماء وأحكمته وأودعته فيه وألقته في بحر النيل ، وكأن بيتها كان فوق بيت فرعون ، فساقه الماء إلى قرب بيت فرعونن فتعوق بشجر هناك ، فتلكف جماعة فرعون التقاطه ، قال البغوي : والالتقاط وجود الشيء من غير طلب .
) آل فرعون ( بأن أخذوا الصندوقن فلما فتحوه وجدوا موسى عليه السلام فأحبوه لما ألقى الله تعالى عليهم ممن محبته فاتخذوه ولداً وسموه موسى ، لأنهم وجدوه في ماء وشجر ، ومو بلسانهم : الماء ، وسا : الشجر .
ولما كانت عاقبة أمره إهلاكهم ، وكان العاقل لا سيما المتحذلق ، لا ينبغي له أن يقدم على شيء حتى يعلم عاقبته فكيف إذا كان يدعي أنه إله ، عبر سبحانه بلام العاقبة التي معناها التعليل ، تهكماً بفرعون - كما مضى بيان مثله غير مرة - في قوله : ( ليكون لهم عدواً ) أي بطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق ) وحزناً ) أي بزوال ملكهم ، لأنه يظهر فيهمايات التي يهلك الله بها منيشاء منهم ، ثم يهلك جميع أبكارهم فيخلص جميع بني إسرائيل منهم ، ثم يظفر لهم كلهم .
فيهلكهم الله بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة ، فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله ، فهذه اللام للعلة استعيرت الأسد للشجاع فأطلق عليه ، فقيل : زيد أسد .
لأن فعله كان فلعه ، والمعنى على طريق التهكم أنهم ما أخذوه إلا لهذا الغرض ، لأنا نحاشيهم من الإقدام على ما يعلمون آخره أمره .
ولما كان لا يفعل إلا أحمق مهتور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب(5/466)
صفحة رقم 467
على ذلك بالأمرين فقال : ( إن فرعون وهامان وجنودهما ) أي كلهم على طبع واحد ) كانوا خاطئين ) أي دابهم تعمد الذنوب ، والضلال عن المقاصد ، فلا بدع في خطائهم في أن يربّوا من لا يذبحون الأبناء إلاّ من أجله ، مع القرائن الظاهرة في أنه من بني إسرائيل الذين يذبحون ابناءهم ؛ قلا في الجمع بين العباب والمحكم : قال أبو عبيد : أخطأ وخطأ - لغتان بمعنى واحد ، وقال ابن عرفة : يقال : خطأ في دينه وأخطأ - إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد .
وقال الأموي ، المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره ، والخاطىء : من تعمد ما لا ينبغي ، وقال ابن ظريف في الأفعال : خطىء الشيء خطأ وأخطأه : لم يصبه .
ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه ، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال ، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره ، أخبر عما قيل عند التتقاطه فقال عاطفاً على ) فالتقطه ( : ( وقالت امرأة فرعون ( اي لفرعون لما أخرجته من التابوت ، وهي التي قضي الله أن يكون سعادة ، وهي آسية بنت مزاحم إحدى نساء بني إسرائيل - نقله البغوي : ( قرت عين لي ) أي به ) ولك ( اي يا فرعون .
ولما أثبت له أنه ممن تقر بع العيون ، أنتج ذلك استبقاءه ، ولذلك نهت عن قتله وخافت أن تقول : لا تقلقه ، فيجيبها حاملاً له على الحقيقة ثم يأمر بقتله ، ويكون مخلصاً له عن الوقوع في إخلاف الوعد ، فجمعت قائلة : ( لا تقتلوه ) أي أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك ، ثم عللت ذلك أو استأنفت فقالت : ( عسى ) أي يمكن ، وهو جدير وخليق ) أن ينفعنا ) أي لما أتخيل فيه النجابة ولو كان له أبوان معروفان ) أو نتخذه ولداً ( إن لم يعرف له أبوان ، فيكون نفعه أكثر ، فإنه أهل لأن يتشرف به الملوك .
ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم ، فلا يصح كونه إلهاً ، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال : ( وهم ) أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم ) لا يشعرون ) أي لا شعور لهم أصلاً ، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك ، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه ، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من اللأمور الائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم .
القصص : ( 10 - 14 ) وأصبح فؤاد أم. .. . .
) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ(5/467)
صفحة رقم 468
يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) 73
( ) 71
ولما أخبر عن حال من لقيه ، أخبر عن حال من فارقه ، فقال : ( وأصبح ) أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه ) فؤاد أم موسى ) أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً ، وهذا يدل على أنها القته ليلاُ ) فارغاً ) أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر ، قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش ؛ ثم وصل بذلك مستأنفاً قوله : ( إن ) أي أنه ) كادت ) أي قاربت ) لتبدي ( اي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره ، ومصرحة ) به ) أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة ، وتوزع فكرها في كل واد ) لو لا أن ربطنا ( بعظمتنا ) على قلبها ( بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه ؛ ثم علل الربط بقوله : ( لتكون ) أي كوناً هو كالغريزة لها ) من المؤمنين ) أي المصدقين بما وعد الل به من نجاته ورسالته ، الواثقين بذلك .
ولما أخبر عن كتمهان أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها ، فقال عاطفاً على ) وأصبح ( : ( وقالت ) أي أمه ) لأخته ) أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة ، قد خفي عليها أمره : ( قصيه ) أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً ، ففعلت ) فبصرت به عن جنب ) أي بعد نم غير مواجهة ، ولذلك قال : ( وهم لا يشعرون ) أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته ، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية .
ولما كان ذلك أحد الأسباب في ردهن ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقالك ) وحرمنا ) أي منعنا بعظمتنا الت يلا يتخلف أمرها ، ويتضاءل كل شيء دونها ) عليه المراضع ( جمع مرضعة ، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب ، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن ، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة ؛ قال الرازي في اللوامع : تحريم منع لا تحريم شرع .
ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم فلم يستغرق(5/468)
صفحة رقم 469
التحريم الزمان الماضي ، أثبت الجار فقالك ) من قبل ) أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له ، ليكون ذلك سبباً لرده إليها ، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن : ( هل ( لكم حاجة في أني ) أدلكم على أهل بيت ( ولم يقل : على امرأة ، لتوسع دائرة الظن ) يكفلونه لكم ) أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم ، وزادتهم رغبة بقولها : ( وهم له ناصحون ) أي ثابت نصحهم له ، لا يغشونه نوعاً من الغس ؛ قال البغوي : والنصح ضد الغش ، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح أن المدلول عليها أمه ، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به ، فظنوا ذلك ، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السموات والأرض الغيب إلا هو سبحانه ، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً ، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم ، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا : أقيمي عندنا ، فقالت : لا أقدر على فراق بيتي .
إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي ، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة ، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها ، والآية من الاحتباك : ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً ، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفامهم لها أولاً ، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة ، ولذلك سبب عما مضى قوله : ( فرددناه ) أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره ، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل ، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة ، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل ، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم ، بأيدينا الذي لا يقاويه أيد ، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد ، من يد العدو الذي ما ذبح طفلاً إلا رجاء الوقوع عليه ، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه ) إلىأمه ( وكان من أمر الله - والله هو غالب على أمره - أنه استخدم لموسى - كما قال الرازي - عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله ؛ ثم علله بقوله : ( كي تقر عينها ) أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها ، آمنة لا تخاف ، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها ، قرت عينه تقر - بالكسر والفتح - قرة ، وتضم ، وقرورا : بردت سروراً وانقطع بكاؤها ، أو رأت ما كانت متشوقة إليه ، وأقر الله عينه وبعينه ، وعين قريرة وقارة ، وقرتها ما قرت به ، وقر بالمكان - بالفتح والكسر - قراراً وقروراً وقراً وتقرة :(5/469)
صفحة رقم 470
ثبت واستكن ، وأصل قرة العين من القر وهوالبرد ، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه ، وقيل : من القرار ، اي استقرت عيني ، وقالوا : دمعة الفرح باردة ، ودمعة الحزن حارة ، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن ، وهذا قول الأصمعي ، وقال أبو عباس : ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار ، فمعنى أقر الله عينك : صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها ، وصادفت ما يرضيك ، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك ، قالوا : ومعنى قولهم : هو قرة عيني : هو رضى نفسي ، فهي تقر وتسكن بقربة فلا تستشرف غلى غيره ) ولا ) أي وكيلاً ) تحزن ) أي بفراقة ) ولتعلم ( اي علماً هو عين اليقين ، كما كانت عالمة به علم اليقين ، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب ) أن وعد الله ) أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه ورساله ) حق ) أي هو في إاية الثبات في مطابقة الواقع إياه .
ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل ، ولم ينتظم له قصد ، قال عاطفاً على ما تقديره : فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين : ( ولكن أكثرهم ) أي أكثر آل فرعون وغيرهم ) لا يعلمون ) أي لا علم لهم أصلاً ، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه .
ولما استقر الحال ، على هذا المنوال ، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال ، والعز بتبني فرعون له والجلال ، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال ، وقالف مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال : ( ولما بلغ أشده ) أي مجامع قواه وكمالاته ) واستوى ) أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب ، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنين وأربعين ، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها ؛ وقال الرازي : قال الجنيد : لما تكامل عقله ، وصحت بصيرته ، وصلحت نحيرته ، وآن أوان خطابه أنتهى .
أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة منالعرائز لم تكن فيه أيام الشباب ، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان ) آتيناه ( اي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً ) حكماً ) أي عملاً محكماً بالعلم ) وعلماً ( اي مؤيداً بالحكمة ، تهيئة لنبوته ، وإرهاصاً لرسالته ، جزيناه بذلك على ما طبعناه عليه من الإحسان ، فضلاً منا ومنه ، واختار الله سبحانه هذا السن للإرسال ليكون - كما أشير إليه - من جملة الخوارقن لأنه يكون به ابتداء الانتكاس الذي قال تعالى فيه ) ومن نعمره - أي إلى اكتمال سن الشباب - ننكسه في الخلق ) أي نوفقه ، فلا يزاد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء ، ولا توجد فيه غريزة لم(5/470)
صفحة رقم 471
تكن موجودة أصلا عشر سنين ، ثم يأخذ في النقصان - هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء ، فإنهم في حد الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب ، بل غريزة يغرزها الله فيهم حينئذ ، ويؤتون منقوة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك ، ففي وقت انتكاس غيرهم يكون نموهم ، وكذا من ألحقه الله بهم من صالحي أتباعهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس ن تمام هذا المعنى ما يفتح الله به لمن تأمله أبواباً من العلم ، ولذلك قال الله تعالى عاطفاً على ما تقديره : فعلنا به ذلك وبأمه جزاء لهما على إحسانهما في إخلاصهما فيما يفعلانه اعتماداً على وحده من غير أدنى التفات إلى ما سواه : ( وكذلك ) أي مثل هذا الجزاء العظيم ) نجزي المحسنين ( اي كلهم .
القصص : ( 15 - 19 ) ودخل المدينة على. .. . .
) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يمُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( ( )
وما أخبر ، بتهيئته لنبوته ، أخبر بما هو سبب لهجرته ، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : ( و خل المدينة ) أي مدينة فرعون آتياً من قصره ، لأنه كان عنده بمنزلة الولد ، قال ابن جرير : وهي مدينة منف من مصر ، وقال البغوي : وقيل : عين الشمس .
وقيل غير ذلك ) على حين غفلة ( قبل بعيد : وقيل بغير ذلك ) من أهلها ) أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين ) فوجد فيها ) أي المدينة ) رجلين يقتتلان ) أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب ، وهما إسرائيلي وقبطي ، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما : ( هذا من شيعته ) أي من بني إسرائيل قومه ) وهذا من عدوه ) أي القبط ، وكان قد حصل لبني غسرائيل به عز لكونه ربيب الملك ، مع أن مرضعته منهم ، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع ) فاستغاثه ) أي طلب منه ) الذي من شيعته ( أن يغيثه ) على الذي من عدوه فوزكزه ) أي فأجابه ) موسى ( فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه ، وكأنه كالكم ، أو دفعه بأطراف أصابعه ، وهو رجل ايد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان(5/471)
صفحة رقم 472
مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية ) فقضى ) أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة ، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر ) عليه ( فقتله وزفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة ، فلم يشعر به أحد منهم .
ولما كان كأنه قيل : إن هذا الأمر عظيم ، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً ؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله : ( قال ) أي موسى عليه السلام : ( هذا ) أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي ) من عمل الشيطان ) أي لأني لم أومر به على الخصوص ، ولم يكن نقصدي وإن كان المقن تول كافراً ؛ ثك أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به ، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس والحذر منه فقال : ( إنه عدو ( ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو ) مضل ( لا يقود إلى خير أصلاً ، وع ذلك فهو ) مبين ) أي عداوته وإضلاله في غاية البيان ، ما في شيء منهما خفاء .
ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأته في قتله إذن خاص ، وكان قد أخبر عنه بالندم ، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه ، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات ، فأجيبوا بالأخبار عن مبادرته إلى ذلك قوله : ( قال ( واسقط أداة النداء ، على عادة أهل الاصطفاء ، فقال : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ .
ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه ، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه عل غير ما دل عليه ظاهرة فقال : ( إني ظلمت نفسي ) أي بالإقدام على ما يم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً .
ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته ، قال مسبباً عن ذلك : ( فاغفر ( اي امح هذه الهفوة عينها وأثرها ) لي ) أي لأجلي لا تؤاخذني ) فغفر ( اي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ) له ( ثم علل ذلك بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسسبة إلى صفته مؤكداً لذلك : ( إنه هو ) أي وحده ) الغفور ( اي البالغ في صفة الستر لكل من يريد ) الرحيم ( اي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق غلىالأفعال المرضية لمقام الإلهية ، ولأجل أن هذه صفته ، رده إلى فرعون وقومه حين ارسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منم قبل الرسالة على غير قياس .
ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله ، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب(5/472)
صفحة رقم 473
بقوله : ( قال رب ) أي أيها المحسن إليً بكل جميل .
ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضار العزم عليه قال : ( بما أنعمتن عليّ ( اي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها .
ولما كان في سياق التعظيم للنعمة ، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام ، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام ، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال : ( فلن أكون ظهيراً ) أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً ) للمجرمين ) أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل ، اي لا أكون بين ظهراني القبط ، فإن فسادهم كثير ، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير ، لا قدرة لي على ترك نصرتهم ، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة ، فلا أصلح من المهاجرة لهم ، وهذا من قول العرب : جاءنا في ظهرته - بالضم وبالكسر وبالتحريكن وظاهرته ، أي عشيرته .
ولما ذكر القتال وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة ، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال : ( فأصبح ( اي موسى عليه الصلاة والسلام ) في المدينة ) أي التي قتل القتيل فيها ) خائفاً ) أي بسبب قتله له ) يترقب ( اي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقه تطرقه في ذلك ، قال البغوي : والترقب : انتظار المكروه .
) فإذا ( اي ففجئة ) الذي استنصره ( اي طلب نصرته من شيعته ) بالأمس ( اي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ ن قبله ) يستصرخه ( اي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه نم الضر من قبطي آخر كان يظلمه ، فكأنه قيل : فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره ؟ فقيل : ( قال له ( اي لهذا المستصرخ ) موسى ( .
ولماكان الحال مقتضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل ، أكد قوله : ( إنك لغوي ( اي صاحب ضلال بالغ ) مبين ) أي واضح الضلال غير خفيه ، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً ؛ ثك دنا منهما لينصره ؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه : ( فلما ( وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال : ( أن أراد ) أي شاء ، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي ) أن يبطش ) أي موسى عليه الصلاة والسلام ) بالذي هو عدو لهما ) أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه ) قال ) أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو ، لما أوقعه فيه لا بعدوه : ( يا موسى ( ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه غليهما غضبان وهو يذمه ) أتريد أن تقتلني ) أي اليوم وأنا من شيعتك ) كما قتلت نفساً بالأمس ) أي من شيعة أعدائنا ، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له الكلام السياق بكون الكلام(5/473)
صفحة رقم 474
معه - بما اشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي ، ووبقوله ) عدوا لهما ( منذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره ، خاف غائلته فزاد في الإغراء به .
مؤكداً بقوله : ( إن ) أي ما ) تريد إلا أن تكون ) أي كوناً راسخاً ) جباراً ( اي قاهراً غالباً ؛ قال أبو حيان : وشأن الجبار أن يقتل بغير حق .
) في الأرض ( اي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد ) وما تريد ) أي يتجدد لك إرادة ) أن تكون ) أي بما هو لك كالجبلة ) من المصلحين ) أي العريقين في الصلاح ، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة ، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي ، وكانوا - لما قتل ذلك القبطي - ظنوا في بني إسرائيل ، فأغروا فرعون بهم فقال : هل من بينة ، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت - كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام .
القصص : ( 20 - 24 ) وجاء رجل من. .. . .
) وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( ( )
ولما كان تقدير الكلام الذي ارشد إليه السياق : فلما سمع الفرعوني قول الإسرائيلي تركه .
ثم رقي الكلام إلى أن ببغ فرعون فوقع الكلام في الأمر بقتل موسى عليه الصلاة والسلام ، عطف عليه قوله : ( وجاء رجل ) أي ممن يجب موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان الأمر مهماً ، يحتاج إلى مزيد عزم وعظم قوة ، قدم فاعل المجيء على متعلقه بخلاف ما في سورة يس .
ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل : لا خلاص ، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول : لا هلاك ، قال واصفاً للرجل : ( من اقصا المدينة ) أي ابعده امكاناً ، وبين أنه كان ماشياً بقوله : ( يسهى ( ولكنه اختصر طريقاً واسرع في مشيته بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل : ما فعل ؟ فقيل : ( قال ( منادياً له باسمه تعطفاً(5/474)
صفحة رقم 475
وإزالة للبس : ( ياموسى ( أكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال : ( إن الملأ ) أي أشراف القبط في أيديهم الحل والعقد ، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي ) يأتمرون بك ) أي يتشاورن بسببك ، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره ، فكأنه قيل : لم يفعلون ذلك ؟ فقيل : ( ليقتلوك ( لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ) فاخرج ) أي من هذه المدينة ؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك : ( إني لك ) أي خاصة ) من الناصحين ) أي العريقين في نصحك ) فخرج ( اي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً ) منها ) أي المدية لما علم من صدق قوله مما حفّه من القرائن ، حال كونه ) خائفاً ( على نفسه من آل فرعون ) يترقب ( اي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هلى يتبعه أحد ؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله : ( قال ) أي موسى عليه الصلاة والسلام : ( رب ) أي ايها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر ) نجني ) أي خلصني ، مشتق من النجوة ، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد ) من القوم الظالمين ( اي الذين يضعون الأمور في غير مواضعاها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم ، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين ، فكان ذلك سبب نجاته ، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر ، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي عسافاً ، أو سلوك ثنيات الطريق فانثنوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم .
ولما دعا بهذا الدعء ، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال : ( ولما ) أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما ) توجه ( اي اقبل بوجهه قاصداً ) تلقاء ) أي الطريق الذي يلاقي سالكه ارض ) مدين ( مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسللام متوجهاً بقلبه إلى ربه ) قال ) أي لكونه لا يعرف الطريق : ( عسى ( اي خليق وجدير وحقيق .
ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة ، قال مقدماً له : ( ربي ) أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة ) أن يهديني سواء ) أي عدل ووسط ) السبيل ( وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج .
ولما كان التقدير : فوصل إلى المدينة ، بنى عليه قوله : ( ولما ورد ( اي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب ) ماء مدين ( اي الذي يستقي منها الرعاء ) وجد عليه ) أي الماء ) أمة ) أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصًدوا ، فلذلك هم عالون غالبون على الماء ؛ ثم بين نوعهم بقوله : ( من الناس ( وبين عملهم(5/475)
صفحة رقم 476
أيضاً بقوله : ( يسقون ) أي مواشيهم ، وحذف المفعول لأنه غير مراد ، والمراد الفعل ، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي ) ووجد من دونهم ) أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء ) امرأتين ( عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها ) تذودان ( اي توجدان الذود ، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين ، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس .
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه ، كان كأنه قيل : فما قال لهما ؟ قيل : ( قال ( اي موسى عليه الصلاة والسلام رحةم لهما : ( ما خطبكما ) أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما ، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه ، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي ؛ قال أبو حيان : والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد .
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة ) قالتا ) أي اعتذاراً عن حالهما ذلك ؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة : ( لا ) أي خبرنا أنا لا ) نسقي ) أي مواشينا ، وحذفه للعلم به ) حتى يصدر ( اي نصرف ويرجع ) الرعاء ) أي عن الماء لئلا يخالطهم - هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً ، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسرك يوجدوا الدر والصرف .
ولما كان التقدير : لأنا من النساء ، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً ، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك ، عطفتا على هذا المقدر قولهما : ( وأبونا شيخ كبير ) أي لا يستطيع لكبره أن يسقي ، فاضطررنا إلى ما ترىن وهذا اعتذار أيضاً عن كون ابيهم أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور ، فلا يأباه الدين ، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة ، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر ، لا سيما إذذا دعت إلى ذلك ضرورة ) فسقى ) أي موسى عليه الصلاة والسلام ) لهما ( لما علم ضرورتهما ، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مسااعدة الضعيف ، مع ما به من النصب والجوع ) ثم تولى ) أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً طهره يلي وجهه ) إلى الظل ) أي ليقيل تحته ويستريح ، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحته الخلائق ، وعرفه لوقوع العم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه ) فقال ( لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص ) رب ( .(5/476)
صفحة رقم 477
ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب ، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة ، فقال : ( إني ( ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون ( إلى ) فقال : ( لما ( اي لأي شيء .
ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير ، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار ، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال : ( أنزلت ( ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء ) إليّ من خير ) أي ولو قل ) فقير ) أي مضرور ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره .
فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حلهما في ذات يدهما ، وهما خلاصة ذلك الزمان ، ليكون لك في ذلك اسوة ، وتجعله إماماً وقدوة ، وتقول : يا بأنبي وأمي ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيان صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها ، رغعة لدرجاتهم عنده ، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك ، وفي القصة ترغيب في الخير ، وحث على المعاونة على البر ، وبعث على بذل المعروف مع الجهد .
القصص : ( 25 - 28 ) فجاءته إحداهما تمشي. .. . .
) فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( ( )
ولما كان سما عهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له ، قال بانياً على نا تقديره : فذهبت المرأتان إلى ابيها فحدثتاه بخبرهما و بإحسانه إليها ، فأمر بدعائه ليكافئه : ( فجاءته ( اي بسبب قول الأب وعلى الفرو ) إحدهما ) أي المرأتين حال كونها ) تمشي ( ولما كان الحياء كأنه مركب لها ةهي متمكنة منه ، مالكة لزمامه ، عبر بأداة الاستعلاء فقال : ( على استحياء ( اي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تلكمه وتماشيه ؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف(5/477)
صفحة رقم 478
إليه السامع من أمرها فقال : ( قالت ( وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها : ( إن أبي ( وصورت حاله بالمضارع فقالت : ( يدعوك ليجزيك ) أي يعطيك مكافأة لك ، لأن المكافأة من شيم الكرام ، وقبولها لا غضاضة فيه ) أجر ما سقيت لنا ) أي مواشينا ، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة ، ولذلك قال : ( فلما ( بالفاء ) جاءه ( اي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام ) وقص ) أي موسى عليه الصلاة والسلام ) عليه ) أي شعيب عليه الصلاة والسلام ) القصص ( اي حدثه حديثه مع لما توسم فيه بما آتاه اله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة ، والعلم والحكمة ، والجلال والعظمة .
ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف ، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان ، قدم له التأمين بأن ) قال ) أي شعيب له عليهما الصلاو والسلام : ( لا تخف ( اي فإن فرعون لا سلطان له على ما ههنا ، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته ، ولذلك كانت النتيجة : ( نجوت ) أي يا موسى ) من القوم الظالمين ) أي هو و غيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم .
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه ، علمت انتباه مضمونه ، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته ، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ ، فقال مستأنفاً لذلك : ( قالت إحداهما ) أي المرأتين .
قيل : وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها : ( يا أبت استأجره ( ليكفينا ما يهمنا ؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به : ( إن خير من استأجرت ( لشيء من الأشياء ) القوي ( وهو هذا لما ريناه من قوته في السقي ) الأمين ( لما تفرسنا فيه من حيائه ، وعفته في نظره ومقاله وفعاله ، وسائر أحواله ؛ قال أبو حيان : وقولها قول حكيم جامع ، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود .
) قال ( اي شعيب عليه الصلاة والسلام ، وهو في التوراة يسمى : رعوئيل - بفتح الراء وضم العين المهملة وإسكن الواو ثم همزة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ولام ، ويثرو - بفتح التحاتانية وإسكان المثلثة وضم الراء المهملة وإسكان الواو ) إني اريد ( يا موسى ، والتأكيد لأجل أن الغريب قل ما يرغب فيه أول ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة ) أن أنكحك ( اي أزوجك زواجاً ، تكون وصلته كوصلة أحد الحنكين بالآخر ) إحدى ابنتي ( .
ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما ، نفى ذلك بقوله :(5/478)
صفحة رقم 479
) هاتين ( اي الحاضرتين اللتين سقيت لهما ، ليتأملهما فينظر منيقع اختياره عليها منهما ليعقد لع عليها ) على أن تأجرني ) أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي ) ثماني حجج ( جمع حجة - بالكسر ، أي سنين ، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها ، وآجره - بالمد والقصر ، نم الأجر والإيجار ، وكذلك أجر الأجير والمملكوك وآجره : أعطاهما أجرهما ) فإن أتممت ) أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها ) عشراً ) أي عشر سنين ) فمن ) أي فذلك فضل من ) عندك ( غي واجب عليك ، وكان التعيين الثماني لأنها - إذا أسقطت منها مدة احمل - أقل سن يميز فيه الولد غالباً ، والعشر أقل ما يمكن فيه البلوغ ، لينظر سبطه إن قدر فيتوسم فيه بما يرى من قوله وفعله ، والتعبير بما هو من الحج الذي هو القصد تفاؤلاً بأنها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله وسعة رزقه وإفاضة نعمه ودفع نقمه أهلاً لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كل واحدة منها إلى بيت الله الحرام .
ولما ذكر له هذا ، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال : ( وما اريد أن أشق عليك ) أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم ؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال : ( ستجدني ( ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال : ( إن شاء الله ( اي الذي له جميع المر ) من الصالحين ) أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير ) قال ) أي موسى عليه السلام ) ذلك ) أي الذي ذكرت من الخيار وغيره ) بيني وبينك ) أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً ، وما أشرت إلى التفضل به إحساناً ، وعليم ما ألزمت به نفسك فرضاً وفضلاً ؛ ثم بين وفسر ذلك بقوله : ( إيما الأجلين ) أي أيّ أجل منهما : الثماني أو العشر ) قضيت ( اي عمكلت العمل المشروط على فيه خرجت به من العهدة ) فلا عدوان ) أي اتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد ) عليّ ) أي في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب على الزيادة على العشر لا تجب عليّ الزيادة على الثمان ، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدو ) والله ) أي الملك الأعظم ) على ما نقول ( اي كله في هذا الوقت وغيره ) وكيل ( اي شاهد وحفيظ قاهر عليه وملزم به في الدنيا واآخرة ، فما الظن بما وقع بيننا من العهد من النكاح والأجر والأجل .
القصص : ( 29 - 32 ) فلما قضى موسى. .. . .
) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ(5/479)
صفحة رقم 480
الشَّجَرَةِ أَن يمُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يمُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ) 73
} ) 71
ذكر المضمون هذا من التوراة : قال في و السفر الثاني منها : وهذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب عليه السلام ، دخل كل امرىء وأهل بيته روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وإساخار وزيلون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير ، وكان عدد ولد يعقوب الذين خرجوا من صلبه سبعين نفساً مع يوسف عليه الصاة والسلام الذين كان بمصر ، فتوفي يوسف وجميع إخواته وجميع ذلك الحقب ، وبنو إسرائيل نموا وولدوا وكثروا واعتزوا جداً جداً ، وامتلأت الأرض منهم ، فملك على مصر ملك جديد لم يكن يعرفيوسف فقال لشعبه : هذا شعب بني إسرائيل قد كثر عددهم فهم أكثر وأهز منا ، هلموا نحتال لهم ثقبل أن يكثروا ، لعل أعدائنا يأتونا يقاتلونا فيكونوا عوناً ، لأعدائنا علينا فيخرجونا من الأرض ، فولى عليهم ولاة ذوي فظاظة وقساوة ليتعبدوهم ، وجعلوا يبنون قرى لأجران فرعون واهرائه وفي نسخة : وبنوا لفرعون مدناً محصنة فيسترم في الفيوم وفي عين شمس ، فيثوم ورعمسيس ، وف ينسخة : وأكوان التي هي مدينة الشمس ، واشتد تعبدهم لهم ، وذلهم أياهم ، وكانوا يزدادون كثرة ويعتزون ، فاشتد غمهم وحزنهم بسبب بني إسرائيل ، وكان المصريون يتعبدون بني إسرائيل بشدة وقساوة ، فقال ملك مصر : وجعلنا لقوابل العبرانيات التي تسمى إحداهما فوعا والخرى شوفرا ، وأمرهما : إذا أنتما قبلتما العبرانيات فانظرا إذا سقط الولد ، فإن كان ذكراً فاقتلاه ، وإن كانت أنثى فاستبقياها فاتقت القابلتان الله ولم بفعلا ما أمرهما به ملك مصر ، وجعلتا تستحيان الغلمان ؟ قالتا لفرعون : إن العبرانيات لسن كالمصريات لأنهن قوابل ، ويلدنقبل أن تدخل القابلة عليهن / فأحسن اله إلى القابلتين لصنعهما هذا ، فكثر الشعب وعز جداً ، فلما اتقت القابلتان الله أنماهما وجعل لهما بنين ، وفي نسخة : بيوتاً ، فأمر فرعون جميع قومه قائلاً : كل غلام يولد لهم فألقوه في لانهر ، وكل جارية تولد فاستبقوها ، فانطلقق رجل من آل لاوي فتزوج إحدى بنات لاوي ، فحبلت المرأة فولدت ابناً فرأه حسناً جداً ، فغيبته ثلاثة أشهر ولم تقدر أن تغيبه أكثر من ذلك ، (5/480)
صفحة رقم 481
فأخذت تابوتاً من خشب الصنوبر ، وطلته بالقار والزفت ووضعت فيه الغلام ووضعته في الضحضاح على شاطىء النهر ، وقامت أخته من بعيد لتنظر ما يكون من أمره ، فخرجت بنت فرعون تغتسل في النهر ، فنظرت إلى التابوت في المخاضة ، فأرسلت ججواريها فأتوا به ففتحته فرأت الغلام ، فإذا هو يبكي فرحمته ، وقالت : هذا من بني العبرانين ، فقالت أخته لابنة فرعون : نعم انطلقي ، فانطلقت الفتاة ودعت أم الغلام ، فقالت لها ابنة فرغون : خذي هذا لاصبي فأرضيعيه وأنا أعطيك أجرتك ، فأخذت المرأة الغلام فأرضعته فشب الغلام فأتت به إلى ابنة فرعون فتبنته ، وسمته موسى لأنها قالت : إني انتشلته من الماء .
فلما كان بعد تلك اليام نشأ موسى عليه السلام وخرج إلى إخوته فنظر إلى ذلهم ، فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته من بني إسرائيل ، فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فقتل المصري ، فمات ودفنه في الرمل ، ثم خرج يوماً آخر فإذا هو برجلين عبرانيين يصطحبان ، فقال للمسيء منهما : ما بالك ؟ تضرب أخاك ؟ فقال له : من جعلك علينا رئيساً وحاككماً ؟ لعلك تريد أن تقتلني كما قتلت المصري أمس ؟ ففرق موسى وقال : حقاً لقد فشا الأمر ، فبلغ فرعون الأمر وأراد موسى ، فهرب موسى من فرعون وانطلق إلى أرض مدين ، وجلس على طوي الماء ، وكان لحبر مدين سبع بنات ، فكن يأتين فيدلن الماء فيملأن الحياض ليسقين غنم أبيهن ، وكان الرعاة يأتون فيطردونهن ، فقام موسى فخلصهن وأسقى غنمهن ، فأتين إلى رعوئيل أبيهن فقال لهن : ما بالكن ؟ أسرعتن السقي اليوم ؟ فقلن له ك رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة ، فاستقى لنا الماء ، وسقى غنمنا ، فقال لبناته : وأين هو ؟ لم تركتن الرحل ، انطلقن وادعونه فيأكل عندنا خبزاً ، ففعلن ذلك ، فأعجب موسى أن ينزل على ذلك الرجل فزوجه صفورا ابنته فتزوجها فولدت له ابناً فسموه الياعازار ، لأنه قال : إن إله آبائي خلصني من حرب فرعون .
وقوله : إن المتخاصمين في اليوم الثاني عبرانيان ، إن أمكن تنزيل ما في القرآن عليه فذاك ، وإلا فهو مما بدلوه ، وقوله : إن بنات شعيب سبع لا يخالف ما في لاقرآن الكريم ، بل أيده الزمخشري بتعيينهما بقوله ( هاتين ) لكن تقدم ما يشير إلى أن ذلك غير لازم .
ولما كان من المعلوم أن التقدير : فلما التزم موسى عليه السلام زوجه ابنته كما شرط ، واستمر عنده حتى قضى ما عليه ، بنى عليه قوله : ( فلما قضى ( اي وفى وأتم ، ونهى وأنفذ ) موسى ( صاحبه ) الأجل ) أي الأوفى وهو العشر ، بأن وفى جميع ما(5/481)
صفحة رقم 482
شرط عليه من العمل ، فإنه ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما ، وتزوج من المرأتين صغراهما ، وهي التي جاءت فقالت : يا أبت استأجره روى الطبراني في الوسط معناه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً ، والظاهر أنه مكث عنده بعد الأجل أيضاً مدة ، لأنه عطف بالواو قوله : ( وسار ( ولم يجعله جواباً للما ) بأهله ) أي امرأة راجعاً إلى أقاربه بمصر ) آنس ( اي أبصر ) من جانب الطور ناراً ( آنسته رؤيتها وشرحته إنارتهان وكان مضروراً إلى الدلالة على الطريق والاصطلاء بالنار .
ولما كان كأنه قيل : ماذا فعل عندما ابصرها قيل : ( قال لأهله ( ولما كان النساء أعظم ما ينبغي ستره ، أطلق عليها ضمير الذكور فقال : ( امكثوا ( وإن كان معه بنين له فهو على التغليب ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً ، لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد نار : ( إني آنست ناراً ( فكأنه قيل : فماذا تعمل بها ؟ فقال معبراً بالترجي لنه اليق بالتواضع الذي هو مقصود السورة ، وهو الحقيقة في إدراك الآدميين في مثل هذا ، ولذا عبر بالجذوة التي مدار مادتها الثبات : ( لعلي آتيكم منها ) أي من عندها ) بخبر ( ينفعنا في الدلالة على المقصد ) أو جذوة ( اي عود غليظ ) من النار ) أي متمكنة منه هذه الحقيقة أو التي تقدم ذكرها ؛ ثم اشستانف قوله ) لعلكم تصظلون ( اي لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتنعطفوا عليها لتدفؤوان وهذا دليل على أن الوقت كان شتاء ) فلما آتاها ( اي النار .
ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المننادي هو الله سبحانه ، بنى للمفعول قوله دالاً على ما في أول الأمر من الخفاء : ( نودي ( ولما كان نداؤه سبحانه لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب ، وكان مع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد تشريف بوصف من الأوصاف ، إما بأن يكون أول السماع منه أو غير ذلك أو يمون باعتبار كون موسى عليه الصلاة والسلام فيه قال : ( من ) أي كائناً موسى عليه السلام بالقرب من ) شاطىء ( اي جانب ) الواد ( عن يمين موسى عليه الصلاة والسلام ، ولذلك قال : ( الأيمن ( وهو صفة للشاطىء الكائن أو كائناً ) في البقعة المباركة ( كائناًأول أو معظم النداء أو كائناً موسى عليه الصلاة والسلام قريباً ) من الشجرة ( كما تقولك ناديت فلاناً من بيته ، ولعل الشجرة كانت كبيرة ، فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها ، فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع - وهو فيها - الكلام من الله تعالى حقيقة ، وهو المتكلم سبحانه لا الشجرة ، قال القشيري : ومحصل(5/482)
صفحة رقم 483
الإجماع أنه عليه الصلاة والسلام سمع تلك الليلة كلام الله ، ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة ، وقال التفتازاني شرح المقاصد أن اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة ، بلا كم ولا كيف ، وتقدم في طه أن المراد ما إلى يمين المتوجه من مصر إلى الكعبة المشرفة ، والشجرة قال الغوي : قال ابن مسعود رضي الله عنه : كانت سمرة خضراء تبرق ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة ، وقال وهب : من العليق ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها العناب .
ثم ذكر المنادي بقوله : ( أن يا موسى ( وأكد لأنه سبحانه لعظمه يحتقر كل أحد نفسه لأن يؤهله للكلام لا سيما والأمر في أوله فقال : ( إني أنا الله ) أي المستجمع للاسماء الحسنى ، والصفات العلى .
ولما كان هذا الاسم غيباً ، تعرف بصفة هي مجمع الأفعال المشاهدة للإنسان فقال : ( رب العالمين ( اي خالق الخلائق أجمعين مربيهم ) وأن ألق عصاك ) أي لأريك فيها آية .
ولماكان التقدير : فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة ، وهي مع عظمها في غاية الخفة ، بنى عليه قوله : ( فلما رآها ) أي العصا ) تهتز كأنها ) أي فس سرعتها وخفتها ) جان ( اي حية صغيرة ) ولّى مدبراً ( خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها ، وهو معنى قوله : ( ولم يعقب ( اي موسى عليه الصلاة والسلام ، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له : ( يا موسى أقبل ) أي التفت وتقدم إليها ) ولا تخف ( ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله : ( إنك من الآمنيين ) أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين ؛ ثم زاد طمأنينته بقوله : ( اسلك ) أي ادخلى علىالستقامة مع الخفة والرشاقة ) يديك في جيبك ) أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس ، أو هو الكم ، كما يدخل السلك وهوالخيط الذي ينظم فيه الدرر ، تنسلك على لونها وما هي عليه من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته ، وأخرجها ) تخرج بيضاء ( اي بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات ) من غير سوء ( اي عيب من حريق أو غيره ، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ، فالآية من الاحتباك .
ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال : ( واضمم إليك ) أي إلى جسدك .
ولما كان السياق للتأمين من الخوف ، عبر بالجناح ، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال : ( جناحك ) أي يديكالتي صارت بيضاء ، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك ) من(5/483)
صفحة رقم 484
الرهب ) أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك - هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب ، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم ، فيكون إدخالها في افتى - التي ليست موضعها بل الرأس - للبياض ، وإدخالها في الكم - الذي هو لها - لرجوعها إلى عادتها ، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه .
وأظهر بلفظ الجناح من غير إضمار تعظيماً للمقام وتنبيهاً على أن عودها إلى حالها الول آية مستقلة ، وعبر عنها بلفظ الجناح تنبيهاً على الشكر بتعظيم نفعها .
ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال : ( فذنك ) أي العصى واليد البيضاء ، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة ، وذكر لزيادة التقوية ) برهانان ( اي سلطانان وحجتان قاهرتان ) من ربك ) أي المحسن إليك لا يقد على مثلهما غيره ) إلى ) أي واصلان ، وأنت مرسل بهما إلى ) فرعون ملئه ( كلما اردت ذلك وجدته ، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط ، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم ، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين : ( إنهم كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) قوماً ( اي أقوياء ) فاسقين ( اي خارجين عن الطاعة ، فإذا رأوا ذلك هابوك ، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء ، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم .
القصص : ( 33 - 35 ) قال رب إني. .. . .
) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق ؟ قيل : ثبت ، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر ، فاشترط لنفسه حتى رضي ، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً ، وحلماً وعلماً ، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة ، ولذلك كله ) قال رب ) أي أيها المحسن إليّ ) إني ( أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة ، فذكر ذلك(5/484)
صفحة رقم 485
ليعلم وجه عدم اعتباره ) قتلت منهم ) أي آل فرعون ) نفساً ( وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها ) فأخاف ( إن باديتهم ، بمثل ذلك ) أن يقتلون ( لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج .
ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة ، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف ، كان التقدير فأرسل معي أخي هارون - إلى آخره ، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال : ( وأخي هارون ( والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام ، أو عاطفة على مقول القول ، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه ، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول ، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها ، وصرح بما يكفي من الثاني ، فكأن التقدير : إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود ، ولا يحميني من ذلك إلا أنت ، وإن لساني فيه عقدة ، وأخي - إلى آخره ؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال : ( هو أفصح مني لساناً ) أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون ) فارسله ) أي بسبب ذلك ) معي رداءاً ) أي معيناً ، من ردأت فلاناً بكذا ، أي جعلته له قوة وعاضداً ، وردأت الحائط - إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط ؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة .
ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه ، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله : ( يصدقني ) أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته ، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً ، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي ؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً .
ثم علل سؤاله هذا ، وبين أنه هو المراد ، لا أن يقول لهك صدقت ، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه ، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً ع الله لا يظن به أن يخافك ) إني أخاف أن يكذبون ( .
ولما كان ما رأى من الأفعال ، وسمع من الأقوال ، مقتضياً للأمن من أن يكذبوه ، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر ، أشار إلى ذلك بالتأكيد ، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد ، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل ، وقريب من هذا قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أمره الله تعالى بإنذار قومه ( إذن يثغلوا رأسي فيجعلوه خبزة ) وكأن مراد السادة القادة عليهم(5/485)
صفحة رقم 486
الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعالم عن الأمر هل يجري على العادة أو لا ؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت ، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم ، ليمضوا في الأمر على بصيرة ، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة .
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام ، أكد له سبحانه أمر افجابة بقوله مستأنفاً : ( قال سنشد ( وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال : ( عضدك ) أي أمرك ) بأخيك ) أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك ، وعوناً منه لك ) ونجعل لكما سلطاناً ( اي ظهوراً عظيماً عليهم ، وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ) فلا ) أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا ) يصلون إليكما ( بنوع من أنواع الغلبة ) بآياتنا ) أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا ، ولذلك كانت النتيجة ) أنتما ومن اتبعكما ( اي من قومكما وغيرهم ) الغالبون ) أي لا غيرهم ، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به ، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في اللهن وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوجه بدليل ما كرر من ذكرهمن وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده ، بل من حزب الله وجنده ، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها ، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب .
شرح ما مضى من التوراة ، قال بعدما تقدم : وكان من بعد أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم ، فصلوا فسمع الله صلاتهم ، وعرف تعبدهم ، وسمع ضجتهمن وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأبصر الله بني إسرائيل ، وعرف ذلهم ، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين ، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله ، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج ، تشتعل فيه النار ، ولم يكن العوسج يحترق ، فقال موسى : لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة ؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق ؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر ، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له : يا موسى يا موسى فقال : هأنذا قال : لا تدن إلىههنا ، اطرح خفيك عن قدميكن لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر ، وفي نسخة : مقدس ، وقال الله : أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب ، وقال الرب : إني قد رأيت ذل شعبي بمصر ، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم ، لأني عارف براءتهم ، فنزلت(5/486)
صفحة رقم 487
لأخلصهم من أيدي المصريين ، وأن أصعدهم من تلك الأرض إلى ارض صالحة واسعة ، تغل السمن والعسل : أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين ، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ ، ورايت ضر المصريين لهم ، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون .
واخرج شعبي بني إسرائيل ن مصر ، فقال الله : أناأكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك : أنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل ، فقال موسى : هأنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم : الرب إله آبائكم أرسلني إليكم ، فإن قالوا لي : ما اسمه ؟ ما الذي أقول ؟ فقال الرب لموسى : قل لهم : الأزلي الذي لم يزل ، وفي نسخة : لا يزول ، وقال هكذا قل لبني إسرائيل : الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ارسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد ، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب ، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم : اللرب إله آبائكم اعتلن لي ، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم : قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكمبمصر ، ورأيت إخراجكم منتعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين - ومن تقدم معهم - إلى الأرض التي تعل السمن والعسل ، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقلوا له : الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة ايام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا ، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون ، ولا بيد واحدة شيدية ، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم ، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة ، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً ، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة ، البسوها بنيكم وبناتكم ، وأخربوا أهل مصرن فأجاب موسى وقال : إنهم لا يصدقونني ، ولا يقبلون قولي ، لأنه يقولون : لم يتراءى لك الرب ، فقال له الرب : ما هذه التي في يدك ؟ فقال : هي عصاي ، فقال : ألقها في الأرض ، فألقاها في الأرض ، فصارت ثعباناً ، فهرب منه موسى ، فقال له الرب : يا موسى مد يدك ، فخذ بذنبها ، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا ، فقال : لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك ، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، وقال الرب لموسى : اردد يدك في ردنك ، وفي نسخة : في كمك ، فأدخلها ثم اخرجها فإذ بيده بيضاء كالثلج ، فقال له : اردد يدك في حضنك ، وفي نسخة : في كمك ، فردها ثم أخرها فإذا هي مثل جسده ، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى ، فإن(5/487)
صفحة رقم 488
لم يؤمنوا بالآيتين ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض ، وفي نسخة : النيل ، فاصببه على الأرض ، فإنه ينقلب ويصير دماً في البيس ، فقال موسى للرب : أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه ، لأني ألثغ المنطق عسر اللسان ، فقال له الرب : من الذي خلق المنطق للإنسان ؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف ؟ أليس أن الرب الذي أصنع ذلك ؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك ، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به ، فقال : موسى أطلب إليك يا رب ارسل في هذه الرسالة غيري ، فقال : هذا أخوك هارون اللاوي ، قد علمت أن ناطق لسن ، وهو أيضاً سيلقاك ، ويشتد فرحه بك ، وأخبره بالأمر ، ولقنه كلامين وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان ، وهو يكلم الشعب عنك ؛ فيكون لك مترجماً ، وأنت تكون له إلهاً ، وفي نسخة : استاذاً ومدبراً ، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات ، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له : إني راجع إلى إخوتي بمصر ، وناظر لهم أحياء بعد ؟ فقالثيرو لموسى : انطلق راشداً سالماً ، وقال الرب لموسى في مدين : انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوت جميعاً - إلى آخر ما مضى في الأرعراف ، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مهخلوق ، وهو الإلهن وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم ، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فأن كان المراد الذي ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه .
القصص : ( 36 - 39 ) فلما جاءهم موسى. .. . .
) فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ( ( )
ولما كان التقديرك فأتاهم كما أمر الله ، عاضده أخوه كما أخبر الله ، ودعواهم إلى الله تعالى ، وأظهرا ما أمر به من الآيات ، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله : ( فلما جاءهم ) أي فعون وقومه .
ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنمكا هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام ، أشار غلى ذلك بالتصريح باسم الجائي ، فقال : ( موسى بآياتنا ) أي التي أمرناه(5/488)
صفحة رقم 489
بها ، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها ) بينات ( أيفي غاية الوضوح ) قالوا ( اي فرعون وجنوده ) ما هذا ( اي الذي أظهره من الآيات ) إلا سحر مفترى ) أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر ، متعمداً التخييل به ، لا انه معجزة من عند الله ) وما سمعنا بهذا ( اي الذي تقوله من الرسالة عن الله ) في آبائنا ( وأشاروا إلى البدعة التي قد اضلت أكثر الخلق ، وهي تحكيم عوائد التقليد ، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله : ( الأولين ( وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف علي السلام ) وما بالعهد من قدم ( فقد قال لهم الذي آمن
77 ( ) ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ( ) 7
- إلى قوله :
77 ( ) ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات ( ) 7
[ غافر : 34 ] .
ولما أخب رتعالى بقولهم عطف عليه افخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين ، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما ( فبضدها تتبين الأشياء ) هذا على قراءة الجماعة بالواو ، واستأنف جوباً لمن كأنه سال عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها ، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً ، استعظاماً لذلك فقال : ( فقال موسى ) أي لما كذبوه وهم الكاذبون ، مشيراً لذي البصر غلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم : ( ربي ) أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم نم الخوارق ، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوضول إليّ بسوء ) أعلم بمن جاء ( بالضلال ظلماً وعدواناً ، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله ، ويكون له سوء الدار ، وأعلم بحاله ، ولكنه قال ( بمن جاء ) ) بالهدى ) أي الذي أذن الله فيه ، وهو حق في نفسه ) من عنده ( ، تصويراً لحاله ، وتشويقاً إلى أتباعه ) ومن تكون له ( لكونه منصوراً مؤيداً ) عاقبة الدار ) أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم ، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر ، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له ، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له ؛ ثم علل ذلك بما أحرى الله به عادته ؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب ، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه ، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوى لا يغلبه الضعيف ) أنه لا يفلح ( اي يظفر ويفوز ) الظالمون ) أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل ، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه ، لا تبعة فيه ) فستنظرون ولتعلمن نبأه بعد حين ( ) وقال فرعون ( جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد(5/489)
صفحة رقم 490
الإعذار ، ببيان الآيات الكبار ، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما ، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاةوالسلام برهاناً ، لأن ومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة : ( يا أيها الملأ ) أي الأشراف ، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم ) ما عملت لكم ( وأعرق في النفي فقال : ( من إله غيري ( نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة ، وأنه ما قصد غشهم ، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم ، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات ، وظاهر الدلالات ؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعه الآجر لأنه أول من عمله ، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول : اصنع لي آجراً : ( فأوقد لي ( أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه ) يا هامان ( وهو وزيره ) على الطين ( اي المتخذ لبناً ليصير آجراً ؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله ) فاجعل لي ) أي منه ) صرحاً ( اي بناء عاياً يتاخم السماء ، قال الطبري : وكل بناء مسطح فهو كالقصر ، وقال الزجاج : كل بناء متسع مرتفع ) لعلي أطلع ) أي أتكلف الطلوع ) إلى إله موسى ( اي الذي يدعوا إليه ، فإنه ليس في الرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود ، وهو قاطع بخلاف ذلك ، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت ، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه ؛ ثم زادهم شكاً بقوله ، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام : ( وإني لأظنه ) أي موسى ) من الكاذبين ) أي دأبه ذلك ، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان ، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على غفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء ؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الآرتقاء على ظهرها ، ثم على تقدير ذلك على منازعة بانيها وسامكها ومعليها .
ولما قال هذا مريداً به - كما تقدم - إيقاف قومه عن إتباع الحق ، اتبعه تعالى الإشارة غلى أنهم فعلوا ما أراد ، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى : ( واستكبروا ( اي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه ) هو ( بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل ) وجنوده ( ببانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل ) في الأرض ) أي أرض(5/490)
صفحة رقم 491
مصر ، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل ) بغير الحق ( اي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة ، والتعبير بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبراً وإن كانت صورته كذلك ، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله ، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة ايضاً ولذا لم يعطفه بالفاء ، فقال : ( وظنوا ( اي فرعون وقومه ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع ) أنهم إلينا ) أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب ) لا يرجعون ) أي لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فلذلك اجنرؤوا على ما ارتكبوه من الفساد .
القصص : ( 40 - 43 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم. .. . .
) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ( )
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال : ( فأخناه ( اي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة ) وجنوده ) أي كلهم ، وذلك علينا هين ، وأشار إلى احتقارهم بقوله : ( فنبذناهم ( اي على صغرهم وعظمتنا ) في اليم ( فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر ، فغابوا في الحال ، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال .
ولما سببت هذه الآية من العلوم ، ما لا يحيط به اافهوم ، قال : ( فانظر ) أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار ؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال : ( كيف كان ( اي كوناً هو الكون ) عاقبة ) أي آخر أمر ) الظالمين ( وإن زاد ظلمهم ، وأعيي أمرهم ، ذهبوا في طرفة عين ، كأن لم يكونوا ، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا ، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي فصاروا بحيث لم يبينوا ، فليحذ هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا وييبينوا ، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين .
ولما كان ( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وكانوا أول من أصر ، اطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات ، وإخفاء الدلالات النيرات ، على(5/491)
صفحة رقم 492
تواليها وكثرتها ، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد ، لا سيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، قال تعالى في مظهر العظمة : ( وجعلناهم ) أي في الدنيا ) أئمة ) أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل مثل افعالهم من در الحق والتجبر على الخق ، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصداً ذلك ، فأطلق ذلك عليه رفعاً له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل مندمها ، لأنه أول من سن القتل ، وأحق الناس باتباعهم في باطن اعتقادهم وظاهر اصطناعهم ، وخيبة آمالهم وأطماعهم أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد أهلك الله أنصارهم .
وعجل دمارهم ، وكشف هذا المعنى بقوله : ( يدعون ( اي يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم ، فضل ضلالهم ) إلى النار ( اي وجعلنا لهم أعواناً ينصرونهم عكس ما أردنا لبني إسرائيل - كما سلف أول السورة - وجعلناهم موروثين .
ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة ، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا ، قال : ( ويوم القيامة ( اي الذي هو يوم التغابن ) لا ينصرون ( أب لا يكون لهم نوع نصرة أصلاً كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء ، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة ، يخلدون في العذاب ، ويكون لهم سوء المآب .
ولما أخبر عن هذا الحال ، أخبر عن ثمرته ؛ فقال في مظهر العظمة ، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله ، وأ ، هم مع ذلك طوع المشيئة ) وأتبعناهم في هذه ( ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم ، فسر اسم الإشارة فقال : ( الدنيا ( ولم يقل : الحياة ، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم ) لعنة ) أي طرداً وبعداً عن جنابنا ودفعاً لهم بذلك عليهم مثل وزرة إن والفهم ) ويوم القيامة هم ( اي خاصة ، ومن شاكلهم ) من المقبوحين ) أي المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال ، والشناعة في الأقوال وزالأفعال والأحوال ، من القبح الذي هو ضد الحسن ، ومن قولهم : قبحت الشيء - إذا كسرته ، وقبح الله العدو : أبعده عن كل خير ، فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أن فرعون عدو الله ، في الآخرة كما كان عدوه في الدنيا ، فلعنة الله على من يقول : إنه مات مؤمناً ، وإنه لا صريح في القرآن بأنه من أهل النار ، وعلى كل من يشك في كفره بعد كا ارتكبه من جلي أمره .(5/492)
صفحة رقم 493
ولما وعد سبحانه بإمامة بني إسرائيل وقص القصص حتى ختم بإمامة آل فرعون في الدعاء إلى النار إعلاماً بأن ما كانوا عليه تجب مجانبته ومنابذته مباعدته ، وكان من المعلوم أنه لا بد لكل مامة من دعامة ، تشوفت المفس إلى أساس إمامة بني إسرائيل التي يجب العكوف في ذلك الزمان عليها ، والتمسك بها ، والمبادرة إليها ، فأخر سبحانه عن ذلك مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع ، لأن العرب وإن كانوا مصدقين لما وقع من المنة على بني إسرائيل بإقاذهم من يد فرعون وتمكينهم بعده ، وإنزال الكتاب عليهم ، فحالهم بإنكار التمكين لأهل الإسلام والتكذيب بكتابهم حال المكذوب بأمر بني إسرائيل ، لأنه لا فرق بين نبي ونبي ، وكتاب وكتاب ، وناس وناس ، ولأن رب الكل واحد ، فقال : ( ولقد آتينا ) أي بما لنا من الجلال والجمال والمجد والكمال ) موسى الكتاب ) أي التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين ؛ قال أبو حيان : وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام .
ولما كان حكم التوراة لا يستغرق الزمان الأتي ، أدخل الجار فقال : ( من بعد ما ( إشارة إلى أن إيتاءها إنما هو في مدة من الزمان ، ثم ينسخها سبحانه بما يشاء من أمره ) أهلكنا ) أي بعظمتنا ) القرون الأولى ) أي من قوم نوح إلى قوم فرعون ، ووقتها بالهلاك إشارة إلى أنه لا يعم أمة من الأمم بالهالك بعد إنزالها تشريفاً لها ولمن أنزلت عليه وأوصلت إليه ؛ ثم ذكر حالها بقوله : ( بصائر ( جمع بصيرة ، وهي نور القلب ، مصابيح وأنوار ) للناس ) أي يبصرون بها ما يعقل من أمر معاشهم ومعادهم ، وأولاهم وأخراهم ، كما أن نور العين يبصر به ما يحسن من أمور الدنيا .
ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال : ( وهدى ) أي للعامل بها إلى كل خير .
ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه ، وكان ضاراً ، قال : ( ورحمة ( اي نعمة هنية شريفة ، لأنها قائدة إليها .
ولما ذكر حالها ، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال : ( لعلهم يتذكرون ( اي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره ، وهذا إشارة غلى انه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله .
القصص : ( 44 - 47 ) وما كنت بجانب. .. . .
) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلا أَن(5/493)
صفحة رقم 494
تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) 73
( ) 71
ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين ، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها ، نوعاً من الإنكار ، وكان من المشهور أي اشتهار ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار ، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالاً من ضمير ) آتينا ( ) وما كنت بجانب الغربي ) أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار ، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه غلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر ، فناداه منه العزيز الجبار ، وهو ذو طوى ) إذ ) أي حين ) قضينا ( بكلامنا بما حوى من الجلال ، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال : ( إلى موسى الأمر ) أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه ، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملاً ، فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله ، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه ) وما كنت ) أي بوجه من الوجوه ) من الشاهدين ( لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوةجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة ، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه ي وقته أو تعلمك له من الخالق ، أو من الخلائق الذين شاهدوه ، أو أخبرهم به من شاهده ، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته ، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق ، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف .
ولما كان التقدير : وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين لذلك الأمر ، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره ، استدرك ضد ذلك فقال : ( ولكنا ( اي بما لنا من العظمة ) أنشأنا ) أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار ، كلهم ) قروناُ ) أي ما أخرنا أحداً من أهل ذلك الزمان ، ولكنا أهلكناهم وأنشأنا بعدهم أجيالاً كثيرة ) فتطاول ( بمروره وعلوه ) عليهم العمر ( جداً بتدريج من الزمان شيئاً فشيئاً فنسيت تلك الأخبار ، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار ، ولا سيما في زمان الفترة ، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتوقم المحجة ، وتقوم بك الحجة ، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا .(5/494)
صفحة رقم 495
ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود ، نفى سبب العلم بذلك فقال : ( وما كنت ثاوياً ) أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ) في أهل مدين ) أي قوم شعيب عليه السلام ) تتلوا ( اي تقرأ علىسبيل القص للآثار والأخبار الحق ) عليهم آياتنا ( العظيمة ، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره ، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم من شأنك ، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه ) ولكنا كنا ( اي كوناً أزلياً ابدياً نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة ، على حد سواء ) مرسلين ) أي لنا صفة القدرة على الإرسال ، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا غليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم اتنشرها في الناس ، واضحة البيان سالمة من الإلباس ، ولأنا شاهدين لذلك كله ، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا .
ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال ، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله : ( وما كنت بجانب الطو إذ ( أ يحين ) نادينا ( اي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله ، ومن المشهور نك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله ، لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام ، ولا أحد أحملهما عمن حملها عنه ، ولكن ذلك كان إليك منا ، وهو معنى قوله : ( ولكن ( اي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحينا إليك وأرسلناك به إلى الخلائق ) رحمة من ربك ( لك خصوصاً وللخلق عموماً ) لتنذر ( اي تحذر تحذيراً كبيراً ) قوماً ) أي أهل قوة ونجدة ، ليس لهم عائق من أعمال الخير العظيمة ، لا الإعراض عنك ، وهم العرب ، ومن في ذلك الزمان من الخلق ) ما آتاهم ( وعم المنفي بزيادة الجار في قوله : ( من نذير ( اي منهم ، وهم مقصودون بإرساله إليهم وإلا فقد أتتهم رسل موسى عليه السلام ، ثم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام ، وإن صح أمر خالد بن سنان العبسي فيكون نبياً غير رسول ، أو يكون رسولاً إلى قومه بني عبس خاصة ، فدعاؤه لغيرهم إن وقع فمن باب الأمر بالمعروف عموماً ، لا الإرسال خصوصاص ، فيكون التقدير : نذير منهم عموماً ، وزيادة الجار في قوله : ( من قبلك ( تدل على الزمن القريب ، وهو زمن الفترة ، وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى(5/495)
صفحة رقم 496
زمان عمرو بن لحي ، فهم لأجل عدم النذير عمي ، عن الهدي ، سالكون سبيل الردى ، وقال : ( لعلهم يتذكرون ( لمثل ما تقدم من أنهم إذا قبلوا ما جئت به وتدبروه أذكرهم إذكاراً ظاهراً - بما أشار إليه الإظهار - ما في عقولهم من شواهده وإن كانت لا تستقل بدونه والله الموفق .
ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافياً للحجة في عذابهم بما أوجبه الله - وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل - على نفسه الشريفة ، فضلاً منه ورجمة ، ذكر أن إرساله مما لا بد منه لذلك فقال : ( ولولا ( اي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم ، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالاً له ( صلى الله عليه وسلم ) عن المواجهة به ، وذلك الذي ختم الإرسال هو ) أن تصيبهم ) أي في وقت من الأوقات ) مصيبة ) أي عظيمة ) بما قدمت أيديهم ) أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه ) فيقولوا ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) لولا ) أي هل لا ولم لا ) أرسلت إلينا ) أي على وجه التشريف لنا ، لنكون على علم لأنا ممن يعتني الملك الأعلى به ) رسولاً ( وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله : ( فنتبع ) أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع ) آياتك ونكون ( اي كوناً هو في غاية الرسوخ ) من المؤمنين ) أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك ( صلى الله عليه وسلم ) تصديقاً بليغاً ، فإذا قالوا ذلك على تقدير عدم الإرسال قامت لهم حجة في مجاري عاداتكم وإن كانت لنا الحجة البالغة .
القصص : ( 48 - 54 ) فلما جاءهم الحق. .. . .
) فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : ولكنا ارسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه ، بنى عليه قوله : ( فلما جاءهم ( اي أهل مكة ) الحق ( الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما ، وهو في نفسه جدير بأن يقبل للكونه في الذروة العليا من االثبات ، فكيف وهو ) من عندنا ( على ما لنا من العظمة ، وعلى لسانك وأنت أعظم الخلق ) قالوا ( اي(5/496)
صفحة رقم 497
أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتاً كفراً به : ( لولا أوتي ( من الآيات ، أي هذا الآتي بما يزعم أنه الحق ، وبني للمفعول لأن القصد مطلق الإيتاء لأنه الذي يترتب عليه مقصود الرسالة ، مع أن المؤتى معلوم ) مثل ما أوتي موسى ) أي من اليد والعصا وغيرهما من الآيات التي لا قدر على إتيانها إلا القادر على كل شيء .
ولما كان الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون موجباً للإيمان على زعمهم إلا بأن يكون أعظم مما أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو يكون الناس لم يتوقفوا في الإيمان به ، وكان كل من الأمرين منتفياً بأن أهل زمانه كفرو به ، وهو لما سألوا اليهود عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمروهم أن يمتحنوه بالروح وقصتي أهل ألكهف وذي القرنين وجاء في كل من ذلك بما لزمهم تصديقه ، فامتنعوا وأصروا على كفرهم ، وكان في ذلك كفرهم به وبموسى عليهما الصلاة والسلام ، فعلم أن التقدير : الم يكفروا بما اتاعهم به من الآيات الباهرة مع أنه مثل ما أتى به موسى عليهما الصلاة والسلام ، بل أعظم منه ) أولم يكفروا ) أي العرب ومن بلغتهم الدعوة من بني إسرائيل أو من يشاء الله منهم أو أبناء جنسهم ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى عليه السلام ) بما أوتي موسى ( .
ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل ، أثبت الجار فقال : ( من قل ( اي من قبل مجيء الحق على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم .
ولما كان كأنه قيل : ما كان كفرهم به ؟ قيل : ( قالوا ) أي فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل كقارون ومن تبعه .
ولما كان قد تقدم هنا قريباً أن المظاهر له أخوه ، فكان المراد واضحاً ، أضمرهما فقال : ( ساحران ) أي هو وأخوه ) تظاهرا ( اي أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة ، وتظاهر الساحرين من تزظاهر السحرين - على قراءة الكوفيين ، ويجوز - وهو أقرب أن يكون الضمر لمحمد و موسى عليهما الصلاة والسلام ، ولذلك لأنه روي أن قريشاً بعثت إلى يهود فسألوهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروهم أن نعته في كتابهم ، فقالوا هذه المقالة ، فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما كان كفرهم بهما ؟ فقيل : قالوا - أي العرب : الرجلان ساحران ، أو الكتابان سحران ، ظاهر أحدهما اآخر مع علم كل ذي لب أن هذا القول زيف .
لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر ، لكان سحر فرعون أعظم إعجازاً ، لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارض ما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام من آية العصا ، وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد دعا أهل الأرض من الجن والإنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم(5/497)
صفحة رقم 498
عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا .
ولما تضمن قولهم ذلك الكفر ، صرحوا به في قولهم : ( وقالوا ) أي كفار قريش أو المتقدمون من فرعون وأضرابه : ( إنا بكل ( من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما ، وهما ما أتيا به من عند الله ) كافرون ( جرأة على الله وتكباً على الحق .
ولما قالوا ذلك ، كان كأنه قيل : فماذا فعل ؟ قال : ( قل ( إلزاماً لهم إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام : ( فأتوا بكتاب ( وأشار بالتعبير في وصفه بعند دون لدن إلى أنه يقنع منهم بكونه حكيماً خارقاً للعادة في حكمته وإن لم يبلغ الذروة في الغرابة بأن انفك عن الإعجاز في نظمه كالتوراة فقال : ( من عند الله ) أي الملك الأعلى ، ينطق بأنه نم عنده أحواله وحكمته وجلاله ) هو ) أي الذي أتيتم به ) أهدى منهما ) أي ممات أتيت به ومما أتى به موسى ) أتبعه ) أي واتركهما .
ولما أمرهم بأمره بالإتيان ، ذكر شرطه من باب التنزل ، لإظهار النصفة ، وهو في الحقيقة تهكم بهم فقال : ( إن كنتم ( أيها الكفار كوناً راسخاً ) صادقين ) أي في أنا ساحران ، فائتوا ما ألزمتكم به .
ولما كان شرط صدقهم ، بين كذبهم على تقدير عدم الجزاء فقال : ( فإن لم يستجيبوا ( أيالكفار الطالبون للأهدى في الإتيان به .
ولما كانت الاستجابة تتعدى بنفسها إلى الدعاء ، وباللام إلى الداعي ، وكان ذكر الداعي أدل على الاعتناء به والنظر إليه ، قال مفرداً لضميره ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا يفهم المقايسة في الأهدوية غيره : ( لك ) أي يطلبوا الإجابة ويوجدوها في الإيمان أوالإتيان بما ذكرته لهم ودعوتهم إليه مما هو أهدى ، من القرآن والتوراة ليظهر صدقهم ) فاعلم ( أنت ) أنما يتبعون ( اي بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفروالتكذيب ) أهواءهم ( اي دائماً ، وأكثر الهوى مخلف للهدى فهم ظالمون غير مهتدين ، بل هم أضل الناس ، وذلك معنى قوله : ( ومن أضل ( اي منهم ، ولكنه قال : ( ممن اتبع ) أي بغاية جهده ) هواء ( تعليقاً للحكم بالوصف ؛ والتقييد وبقوله : ( بغير هدى ) أي بيان وإرشاد ) من الله ) أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال دليل على أن الهوى قد يوافق الهدى ، والتعبير بالافتعال دليل على أن التابع وإن كان ظالماًُ قد لا يكونن أظلم .
ولما كانت متابعة الهوى على هذا الصورة ظلماً ، وصل به قوله مظهراً لئلا يدعى(5/498)
صفحة رقم 499
التخصيص بهم : ( إن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا راد لأمره ) لا يهدي ( وأظهر موضع الإضمار للتعميم فقال : ( القوم الظالمين ) أي وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهوائهم ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً اتباع الهوى دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً الظلم دليلاً على حذفه أولاً .
ولما أبلغ في هذه الأساليب في إظهار الخفايا ، وأكثر من نصب الأدلة على الحق وإقامة على وجوب اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانوا بإعراضهم عن ذلك كله كأنهم منكرون لأن يكون جاءهم شيء من ذلك ، قال ناسقاً على ما تقديره : فلقد آتيناك في هذه الآيات بأعظم البينات ، منبهاً بحرف التوقع المقترن بأداة القسم على أنه مما ياتوقع هنا أن يقال : ( ولقد وصلنا ) أي على ما لنا من العظمة التي مقتضاها أن يكفي أدنى إشارة منها ) لهم ( اي خاصةن فكان تخصيصهم بذلك منة عظيمة يجب عليهم شكرها ) القول ( اي أتبعنا بعض القول - الذي لا قول في الحقيقة سواه - بعضاً بالإنزال منجماً ، قطعاً بعضها في أثر بعض ، لتكون جواباً لأقولهم ، وحلاًّ لإشكالهم ، فيكون أقرب إلى الفهم ، وأولى بالتدبر ، مع تنويعه في وعد ووعيد ، وأخبار ومواعظ ، وحكم ونصائح ، وأحكاتم ومصالح ، وأكثرنا من ذلك حتى كانت آياته المعجزات وبيناته الباهرات كأنها افراس الرهبان ، يوم استباق الأقران ، في خومة الميدان ، غير أن كلاًّ منهما سابق في العيان .
ولما بكتهم بالتنبيه بهذا التأكيد على مبالغتهم في الكذب بالقول أو بالفعل في أنه ما أتاهم ما يقتضي التذكير أتبع ذلك التوصيل عليه فقال : ( لعلهم يتذكرون ) أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق تذكيراً ، بما أشار إليه الإظهار .
ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل ، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل ، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر ، وكان كأنه قيل : هل تذكروا ؟ قيل : نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً ، وذلك معنى قوله : ( الذين آتيناهم ( اي بعظمتنا التي حفظناهم بها ) الكتاب ) أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما منكتب الأنبياء ، وهم يتلون ذلك حق تلاوته ، في بعض الزمان الذي كان ) من قبله ) أي القرآن ) هم ) أي خاصة ) به ) أي القرآن ، لا بشيء مما يخالفة ) يؤمنون ) أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد ؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( وإذا يتلى ) أي تتجدد تلاوته ) عليهم قالوا ( مبادرين : ( آمنا به ( ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة ، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه ، فكيف(5/499)
صفحة رقم 500
إذا كان أصله حقاً من عند الله ، ) إنه الحق ( اي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل ، مع كونه ) من ربنا ( المحسن إلينا ، وكل من الوصفين موجب للتصديق والإيمان به ؛ ثم عللوا مبادرتهم إلى الإذعان منبهين على أنهم في غاية البصيرة من أمره بأنهم يتلون ما عندهم حق تلاوته ، لا بألسنتهم فقط ، فصح قولهم الذي دل تأكيدهم له على اغتباطهم به الموجب لشكره : ( إنا كنا ) أي كوناً هو في غاية الرسوخ ؛ وأشار إلى أن من صح إسلامه ولو في زمن يسير أذعن لهذا الكتاب ، بإثبات الجار ، فقال : ( من قبله مسلمين ) أي منقادين غاية الانقياد لما جاءنا من عند الله من وصفه وغير وصفه وافق هوانا وما ألفناه أو خالفه ، لا جرم كانت النتيجة : ( أؤلئك ) أي العالو الرتبة ) يؤتون ( بناه للمفعول لأن القصد الإيتاء ، والمؤتى معروف ) أجرهم مرتين ( لإيمانهم بعه غيباً وشهادة ، أو بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني ) بما صبروا ( على ما كان من الإيمان قبل العيان ، بعدما هزهم إلى النزوع عنه إلف دينهم الذي كان ، وغير ذلك من امتحان الملك الديان .
ولما صبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوىء ، قال عاطفاً على ) يؤمنون ( مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين : ( ويدرءون بالحسنة ( من الأقوال والأفعال ) السيئة ) أي من ذلك كله فيمحونها بها .
ولما كان بعض هذا الدرء لا يتم إلا بالجود قال : ( ومما رزقناهم ) أي بعظمتنا ، لا بحول منهم ولا قوة ، قليلاً كان أو كثيراً ) ينفقون ( معتمدين في الخلق على الذي رزقه ؛ قال البغوي : قال سعيد بن جبير : قدم مع جعفر رضي الله تعالى عنه من الحبشة أربعون رجلاً ، يعني : فأسلموا ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أموالهم ، فأتوا بها فواسوا بها المسلمين .
القصص : ( 55 - 58 ) وإذا سمعوا اللغو. .. . .
) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( ( )(5/500)
صفحة رقم 501
ولما ذكر أن السماح بما تضن النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان ، أتبعه أن حزن ماتبذله اللسن من فضول الأقوال من علامات العرفان ، فقال : ( وإذا سمعوا اللغو ) أي ما لا ينفع في دين ولا دنيا منشتم وتكذيب وتعبير ونحوه ) أعرضوا عنه ( تكرماً عن الخنا ) وقالوا ) أي واعظاً وتسميعاً لقائله : ( لنا ) أي خاصة ) أعمالنا ( لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون ) ولكم ) أي خاصة ) أعمالكم ( لا نطالب بشيء منها ، فنحن لا نشتغل بالرد عليكم لأن ذمكم لنا لا ينقصنا شيئاً من أجرنا ولا الاشتغال برده ينقصنا .
ولما كان معنى هذا أنم سالمون منهم ، صرحوا لهم به فقالوا : ( سلام عليكم ) أي منا .
ولما جرت العادة با ، مثل هذا لا يكسر اللاغي ، ويرد الباغي ، أشاروا لهم إلى قبح حالهم ، رداً على ضلالهمن بقولهم تعليلاً لما مضى من مقالهم : ( لا نبتغي ) أي لا نلكف ئأنفسنا أن نطلب ) الجاهلين ( اي نريد شيئاً من أحوالهم وأقوالهم ، أو غير ذلك من خلالهم .
ولما كان من المعلوم أن نفس النبي صلة الله عليه وسلم لما جبلت عليه من الخير والمحبة لنفع جميع العباد ، لا سيما العرب ، لقربهم منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، لاسيبما أقربهم منه صلة للرحم تتأثر بسبق أهل الكتاب لقومه ، وكان ربما ظن ظان أن عدم هدايتهم لتقصير في دعائه أو إرادته لذلك ، وأنه لو أراد هدايتهم وأحبها ، وعلق همته العلية بها لاهتدوان أجيب عن هذا بقوله تعالى في سياق التأكيد إظهاراً لصفة القدرة والكبرياء والعظمة : ( إنك لا تهدي من أحببت ) أي نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه ، وإنما في يدك الهداية التي هي الإرشاد والبيان .
ولما كان ربما ظن من أجل الإخبار بتوصيل القول وتعليله ونحو ذلك من أشباهه أن شيئاً من أفعالهم يخرج عن القدرة ، قال نافياً لهذا الظن مشيراً إلى الغلط في اعتقاده بقوله : ( ولكن الله ( المتردي برداء الجلال والكبرياء والكمال وله الأمر كله ) يهدي من يشاء ( هدايته بالتوفيق إلى ما يرضيه ) وهو ) أي وحده ) أعلم بالمهتدين ) أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم ، فيكونوا عريقين في هسواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب ، أقارب كانوا أو أباعد ، روى البخاري في التفسير عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه : ( قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيره ، فقال : ( أي عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ( ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما(5/501)
صفحة رقم 502
كلمهم على ملة عبد المطلب ، وابى أن يقول : لا إله إلا الله ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ( ، فأنزل الله عز وجل ) ما كان للنبي والذي آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ( وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنك لا تهتدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( الآية ) انتهى وقال في كتاب التوحيد : ( إنك لا تهتدي من أحببت ( قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه : نزلت في أبي طالب ، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي اله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره بالتوحيد فقال : لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية .
ولما عجب من حال قريش في طلبهم من آيات مثل ما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام ثم كفرهم به وبما هو أعظم منه ، وختم بأنه أعلم بأهل الخير وأهل الشر ، إشارة إلى الإعراض عن الأسف على أحد ، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء ، قال دليلاً على ذلك لأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، عاطفاً على قالوا ) لولا أوتي ( ) وقالوا إن نتبع ) أي غاية الاتباع ) الهدى ) أي الإسلام فنوحد الله من غير إشراك ) معك ) أي وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس ) نتخطف ) أي من أي خاطف أردنا ، لأنا نصير قليلاً في كثير .
من غير نصير ) من أرضنا ( كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا ، وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوتهم فيسرعو إلينا فيتخطفونا ، أي يتقصدون خطفنا واحداً واحداً ، فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن وأن لا يشذ بعضنا عن بعض ؛ قال البغوي : والاختطاف : الانتزاع بسرعة .
ولما كان التقدير في الرد على هذا الكالم الوهي : ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم ، به العرب أو اشد ، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم ، عطف عليه قوله : ( أولم نمكن ) أي غاية التمكين ) لهم ( في أوكانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة ) حرماً آمناً ) أي ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها ، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم ، بل إذا وصل إليه عدل عنه ؛ قال ابن هشام في استيلاء كنانة وخزاعة على البيت : وكانت(5/502)
صفحة رقم 503
مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً ، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته انتهى .
وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء ؛ وروى الأزرقي في تأريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال : كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فاجتذبه رجل فشلت يده ، فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل ، وروي عن ابن جريح قصة العرب نغير قريش في أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن أعارتهم قريش ثياباً ، فجاءت امرأة فطافت عريانة وكان لها جمال فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها ، فأدنى عضده من عضدها ، فالتزقت عضده بعضدها ، فخرجا من المسجد هاربين على وجههما فزعين لماأصبهما من العقوبة ، فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب ، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا ، فدعوا وأخلصا النية ، فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية ، وبسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أخذ رجل ذود ابن عم له فأصابه في الحرم فقال : ذودي : فقال اللص : كذبت ، قال : فاحلف ، فحلف عند المقام ، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو ، فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة : ما لي ، وللزود ، ما لي ولفلان رب الزود ، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الزود فدفعه إلى المظلوم ، فخرج به وبقي الآخر متولهاً حتى وقع من جبل فتردى فأكلته السباع .
وعن ايوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له : يا بني : إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد ، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله بمكة بيتاً لا يشبهه شيء من اليوتن وعليه ثياب ولا يقاربه مفسد ، فإن ظلمك ظالم يوماً فعذبه ، فإن له رباً سيمنعك ، فجاءه رجل فذهب به فاسترقه ، قال : وكان أهل الجاهلية يعمرون أنعامهم فأعمر سيده ظهره ، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت ، وجاءه سيده فمد يده إليه ليأخذه ، فيبست يده ، فمد الأخرى فيبست ، فاستفتى فأفتى أن ينحر عن كل واحدة من يدية بدنة ، فعل فأطلقت يداهن وترك الغلام وخلى سبيله .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد أن قوماً انتهوا إلى ذي طوى ، فإذا ظبي قد دنا منهم ، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابةك ويحك ارسله ، فجعل يضحك ويأبى أن يرسله ، فبعر الظبي وبال ؛ ثم أرسله ، فناموا في القائلة فانتبهوا ، فإذا بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي ، فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحديث مثل ما كان من الظبي .
وعن مجاهد قال : دخل قوم مكة نجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام ، فرمى رجل منهم ظبية(5/503)
صفحة رقم 504
من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوا لحمها ليأتدموا به ، فبينما قدرهم على النار تغالي بلحمة إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحترق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات الت كانوا تحتها .
وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنرجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم ، فقال : هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء ، فجاء الحرم في الشهر الحرام ، فقال : اللهم إني ادعوك جاهداً مضطراً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دوايء له ، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق ، فما زال ينتفخ حتى انشق ، وأن عمر رضي الله عنه سال رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره ، فقال : يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة ، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله ، وبالرحم ، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول :
لا همّ أدعوك دعاء جاهداً اقتل بني الضبعاء إلا واحدا ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً أعمى إذا قيد يعي القائدا
قال : فمات إخوتي التسعة في تسعة اشهر في كل شهر واحد ، وبيقت أنا فعميت ، ورماني الله عز وجل في رجلي ، فليس يلائمني قائد ، فقال عمر رضي الله عنه : سبحان الله إن هذا لهو العجب ، جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ، لينتكب الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة ، فلما جاء الدين ، صار الموعد الساعة ، ويستجيب الله لمن يشاء ، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين انتهى .
وكأنه لمثل ذلك عبر بالتمكين ويتخطف الناس من حولهم كما يأتي تكيده في التي بعدها ، وقد كان قبل ذلك بقعة من بقاع الأرض لا مزية له على غيره بنوع مزية ، فالتقدير : إنما فعلنا ذلك بعد سكنى إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، توطئة لما أردنا من الحكم والأحكام ، أو ليس الذي قدر على ذلك وفعله لمن يعبد غيره بقادر على حماية من يدخل في دينه ، وقد صار من حزبه بأنواع الحمايات ، وإعلائه على كل من يناويه إلى أعلى الدرجات ، كما فعل في حمايتكم منهم ومن غيرهم من سائر المخالفين أعداء الدين .
ولما وصفه بالأمن ، أتبعه ما تطلبه النفس لعده فقال : ( يجبى ) أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه ) إليه ) أي خاصة ، دون غيره من جزيرة العرب ) ثمرات كل شيء ( من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والموز والنبق ، والباردة كالعنب والتفاح والرمان والخوخ ، وفي تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض(5/504)
صفحة رقم 505
من المال ، ما لم يخطر لأحد منهم في بال ، وقد صدق الله فيما قال كما تراه ومن أصدق من الله قيلاً .
ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات ، وجباية هذه الثمرات ، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر ، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً ، ولا يخشى عاقبة ، ولا له ملك قاهر من الناس يرده ، ولا نظام منسياسة العباد يمنعه ، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال : ( رزقاً من لدنا ) أي من أبطن ما عندنا وأغربه ، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم ، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب ، ومظهراً في تلك أشعاب ، توطئة انبيوتكن وتمهيداً لرسالتك ، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون .
ولما كان هذا الذي ابدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم ، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً ، فقال في اسلوب التأكيد لذلك : ( ولكن أكثرهم ) أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له ) لا يعلمون ) أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب اسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره ، وإنا قادرون على أن نمنعهم إذا تابعوا أمرنا ممن يريدهم ، بل نسلطهم على كل من ناواهم ، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس ، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر ، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك ، وللو علموا ذلك لشكروان ولكنهم جهلوا فكفرووا ، ولذلك أنذروا ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( .
ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة ، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة ، ترغيباً لهم إن آمنوا بإهلاك أضدادهم ، وترهيباً إن أصروا من المعاملة بعكس مرادهم ، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى الكلام : ( وكم أهلكنا ( ويجوز أن يكون حالاً من ضمير نمكن أي فعلنا بهم ما ذكرنا من النعمة مع ضعفهم وعجزهم ، والحال أنا كثيراً ما أهلكنا الأقوياء ، وأشار إلى تأكيد التكثير مع تمييز المبهم بقوله : ( من قرية ( ، وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله : ( بطرت معيشتها ( اي وقع منها البطر في زمان عيشها الرخي الواسع ، فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق ، فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم ، ومعنى بطرهم لها أنهمشقوها بمجاوزة الحد في المرح ، والأشر والفرح ، إلى أن تعدوها فأفسدوها(5/505)
صفحة رقم 506
وكفروها فلم يشكروها ، بل فعلوا في تلقيها فعل الحائر المدهوش ، فلم يحسنوا رعايتها ، وقل احتماهم لحق النعمة فيها ، فطفوا في التقلب عند مصاحبتها وتكبروا بهاظظظظن وتمادوا في الغي قولاً وفعلاً ، من أجل ما عمهم من الرفاهية عن تقييدها وساء احتمالهم للغنى بها ، وطيب العيش فيها ، فأبطلوها بهذه الخصائل ، وأذهبوها هدراً من غير مقابل ، وذلك من قول أهل اللغة : البطر : الأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة ، والفعل من الكل كفرح ، وبطر الحق أنيتكبر عنه فلا يقبله ، وبطره كنصره وضربه : شقه ، والبطور : الصخاب الطويل اللسان ، والمتمادي في الغي ، وأبطره ذرعه : حمله فوق طاقته من وذهب دمه بطراً بالكسر ، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها ، فخالفوا أمره ، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره .
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار ، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم ، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان ، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على اللجملة التي قبلها فقال : ( فتلك مساكنهم ( .
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله : ( لم تسكن ) أي من ساكن ما مختار أو مضطر .
ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره ، أثبت الجار فقال : ( من بعدهم ( بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها ، وزخرفها وزوقوها ، وزفوا فيها الأبكار ، وفرحوا بالأعمال الكبار ، ) إلا ( سكوناً ) قليلاً ( بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار ، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار ، بعد أن كانت متمنعة القبا ، ببيض الصفاح وسمر القنا .
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله ، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه ، وكان هذا أمراً عظيماً ، وخطباً جسيماً ، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير ، وصغير وكبير ، وسلطان ووزير ، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة : ( وكنا ) أي أزلاً وأبداً ) نحن ( لا غيرنا ) الوارثين ( بم يستعص علينا أحد وإن عظم ، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم ، فليت شعري اين أؤلئك الجبارون وكيف خلا دورهم ، وعطل قصورهم ؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربه المصائب العظام ، وأذلتهم مصارع الأيام ، بقوة العزيز العلام ، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم ، ولم يزدجر عن مثل آثامهم .(5/506)
صفحة رقم 507
القصص : ( 59 - 63 ) وما كان ربك. .. . .
) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( ( )
ولما أظهر سبحانه سوط العذاب بيد القدرة ، دل على وطأ العدل بثمرة الغنى ، ولكونه في سياق الرحمة بالإرسال عبر بالربوبية فقال : ( وما كان ) أي كوناً ما ) ربك ) أي المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس ) مهلك القرى ) أي هذا الجنس كله بجرم وإن عظم ) حتى يبعث في أمها ) أي أعظمها وأشرفها ، لأن غيرها تبع لها ، ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام من الاصرة ، وبعث في بيت المقدس ) رسولاً يتلوا عليهم ) أي أهل القرى كلهم ) آياتنا ( الدالة بما لها من الجري على مناهيج العقول ، على ما ينبغي لنا من الحكمة ، وبما لها من الإعجاز على تفرد الكلمة ، باهر العظمة ، إلزاماً للحجة ، وقطعاً للمعذرة ، لئلا يقولوا ) ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً ( ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول من أم القرى كلها ، وهي مكة البلد الحرام ، وفيها لأنها مع كونها مدينة تجري فيها الأمور على قانون الحكمة هي في بلاد البوادي تظهر فيها الكلمة ، فجمعت الأمرين لأن المرسل إليها جامع ، وجازت الأثرين لأن الختام به واقع ، وكان السر في جعل المؤيد لدينه عيسى عليهما الصلاة والسلام من البادية كثرة ظهور الكلمة على يديه .
ولما غيّى الإهلاك بالإرسال تخويفاًن ضرب له غاية أخرى تحريراً للأمر وتعريفاً ، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال ، على مقامه العال ، بانتهاك الحرمات ، عبر بأداة العظمة فقال : ( وما كنا ) أي بعظمتنا وغنانا ) مهلكي القرى ) أي كلها ، بعد الإرسال ) إلا وأهلها ظالمون ) أي عريقون في الظلم بالعصيان ، بترك ثمرات الإيمان .
ولما اعتلوا في الوقوف عن الإيمان بخوف التخطف ، فذكرهم نعمته عليهم بإقامة أسباب الأمن وإدرار الرزق ، وعرفهم أنه هو وحده الذي تخشى سطواته ، ويتقي أخذه لمن خالفه وبطشاته ، وكان خوفهم من عواقب المتابعة إماعلى أنفسهم وإما على ما بأيديهم من المتاع ، علم نم ذلك كله قطعاً أن التقدير بما سبب التخويف من عواقب الظلم بمثل مصارع الأولين : فأنفسكم في خطر من خوف الهلاك من القادر عليكم(5/507)
صفحة رقم 508
كقدرته على من قبلكم بسبب التوقف عن المتابعة أشد من خطر الخوف من التخطف بسبب ا لمتابعة ، أو يكون التقدير : فما خفتم منه التخطف غير ضائركم ، وكفكم عن المتابعة لأجله غير مخلدكم ، إهلاككم على اله بأي وجه كان بعزيز ، عطف على هذا الذي ارشد السياق إلى تقديره قوله : ( وما أوتيتم ) أي من أي مؤت كان ) من شيء ) أي من هذه الأشياء التي بأيدكم وغيرها ) فمتاع ) أي فهو متاع ) الحياة الدنيا ( وليس يعود نفعه إلى غيرها ، فهو إلى نفاد وإن طال زمن التمتع به ) وزينتها ) أي وهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلاً عن زينتها إلى فناء ، فليست هي ولا شيء منها بأزلي ولا أبدي ) وما عند الله ) أي الملك الأعلى مما تثمره لكم المتابعة من الثواب الذي وعدكموه في الدار الآخرة التي دل عليها دلالة واضحة إطباكم على وصف هذه بالدنيا ، ومن أصدق وعداً منه ) خير ( على تقدير مشاركة ما في الدنيا له في الخيرية في ظنكم ، لأن الذي عنده أكثر وأطيب وأظهر ، وأحسن وأشهى ، وأبهج وأزهى ، ) و ( هو مع ذلك كله ) أبقى ( لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه بم يكن أزلياً فهو أبدي .
فلما بان أنه لا يقدم على خطر المخالفة المذكور خوفاً من خطر المتابعة الموصوف عاقل ، توجه الإنكار عليهم في قوله تعالى : ( أفلا تعقلون ( .
ولما كان هذا سبباً لأن ظهر كالشمس بون عظيم بين حال المخالف والمؤالف ، سبب عنه وأنتج قوله ، مقرراً لما ذكر من الأمرين موضحاً لما لهما من المبانة ، منكراً على من سوى بينهما ، فكيف بمن ظن أن حال المخالف أولى : ( أفمن وعدناه ( على عظمتنا فيب الغنى والقدرة والصدق ) وعداً ( وهو الإثابة والثواب ) حسناً ( لا شيء أحسن منه في موافقته لأمنيته وبقائه ) فهو ( بسبب وعدنا الذي لا يخلف ) لاقيه ) أي مدركه ومصيبه لا محالة ) كمن متعناه ) أي بعظمتنا ) متاع الحياة الدنيا ( فلا يقدر أحد غيرنا على سلبه منه بغير إذن منا ، ولا يصل أحد إلى جعله باقياً ، وهو مع كونه فانياً وإن طال الزمان مشوب بالأكدار ، مخالط بالأقذار والأوزار ) ثم هو ( مع ذلك كله ) يوم القيامة ( الذي هو يوم التغابن ، من خسر فيه لا يربح أصلاً ، ومن هلك لا يمكن عيشه بوجه ) من المحضرين ) أي المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بطلاع الأرض ذهباً ، فإن كل من يوكل به لحضور أمر يتنكد على حسب مراتب التوكيل كائناً من كان في أيّ أمر كان .
ولما كان اليوم وإن كان واحداً بتعدد أوصافه ، بما يقع في أثناءه وأضعافه ، على يوم القيامة تهويلاً لأمره ، وتعظيماً لخطره وشره ، قوله مقرراً لعجز العباد ، عن شيء من الإباء في يوم العباد : ( ويوم يناديهم ) أي ينادي الله هؤلاء الذين يغرون بين(5/508)
صفحة رقم 509
الناس ويصدون عن السبيل ، ويتعللون في أمر الإيمان ، وتوحيد المحسن الديان ) فيقول ) أي الله : ( أين شركاءي ) أي من الأوثان وغيرهم ؛ ثم بين أنهم لا يستحقونهذا الاسم بقوله : ( الذين كنتم ) أي كوناً أنتم عريقون فيه ) تزعمون ( ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم .
ولما كان اسم الشريك يقع على من سواه الإنسان آخر في شيء من الأشياء ، وكان الأتباع قد سووا المتبوعين الذين عبدوهم من الشيتطين وغيرهم بالله تعالى في الخضوع لهم ، والطواعية في عبادة الأوثان ، ومعاندة الهداة ومعاداتهم ، والصد عن أتباعهم ، فكلان اسم الشريك متناولاً لهم ، وكان بطش من وزقع الإشراك به يكون أولاً بمن عد نفسه شريكاً ثم بمت أنزله تلك المنزلة ، فتشوفت النفس إلى مبادرة الرؤساء بالجواب خوفاً من حلول العقاب بهم وزيادتهم بقادتهم عليهم ، فقيل : قالوا هكذا الأصل ، ولكنه أظهر إعلاماً بالوصف الذي أوجب لهم القول فقال : ( قال الذين حق ) أي ثبت ووجب ) عليهم القول ) أي وقع عليهم معنى هذا الاسم وتناولهم ، وهو العذاب المتوعد به بأعظم القول ، وهم أئمة الكفر ، وقادة الجهل ، بإنزالهم أنفسهم منزلة الشركاء ، وأفهم بإسقاط الأداة كعادة أهل القرب والتعبير بوصف الإحسان أ ، هم وصلوا بعد السماجة والكبر إلى غاية الترق والذل ، فقال معبراً عن قولهم : ( ربنا هؤلاء ( إشارة إلى الأتباع ) الذين أغوينا ) أي أوقعنا الإغواء وهو الإضلال بهم بما زينا لهم من الأقوال التي أعاننا على قبولهم أ ، ها منا ، مع كونا ظاهرة العوار ، واضحة العر ، ما خولتنا فيه في الدنيا من الجاه والمال ؛ ثم استأنفوا مات يظنون أنه يدفع عنهم فقالوا : ( أغويناهم ) أي فغوا باختيارهم ) كما غوينا ) أي نحن لما أغوانا بما زين لنا من فوقنا حتى تبعناهم ، لم يكن هناك إكراه منا ولا إجبار ، مع ما أاهم من الرسل ولهم من العقول ، كما غوينا نحن باخيارنا ، لم يكن ممن فوقنا إجبار لنا كما قال إبليس
77 ( ) وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ( ) 7
[ إبراهيم : 22 ] فالآية من الاحتباك : حذف أولاً ) فغووا ( لدلالة ) غوينا ( عليه ، وثانياً ( لما أغوانا ، من قبلنا ) لدلالة ) أغويناهم ( عليه ومرادهم ، بقولهم هذا السفساف أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم ، وهذا معنى قولهم : ( تبرأنا إليك ) أي من أمرهم ، فلا يلزمنا عقوبة بسببهم ، فهو تقرير لما قبل وتصريح به .
ولما كان يعلمون أنهم غير مؤمنين من أمرهم ، تبرؤوا من انفرادهم بإضلالهم ، فقالوا لمن كأنه قال : ما وجه براءتكم وقد اقررتم باغوائهم ؟ : ( ما كانوا إيانا ) أي خاصة ) يعبدون ( بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه(5/509)
صفحة رقم 510
نوع دعاء لهم إليه وحث عليه ، فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على كل من كان سبباً في ذلك كما في الآية الأخرى ) فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ( وضل عن الجهلة أن هذا لا يغنيهم عن الله شيئاًَ ، فإن الكل في العذاب وليس يغني أحد منهم عن أحد شيئاً ، قال ) لكل ضعف ولكن لا تعلمون ( .
القصص : ( 64 - 70 ) وقيل ادعوا شركاءكم. .. . .
) وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عد عدماً ، لأ ، ه لا طائل تحته ، أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل ( رب قول جوابه في السكوت ) بقوله : ( وقيل ( اي ثانياً للأتباع تهكماً للاستهانة بهم ، وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل أمر كائناً من كان : ( ادعوا ) أي كلكم ) شركاءكم ) أي الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم .
وأضافهم هنا إليهم إشارة إلى أنهم لم يستفيدوا زعمهم أنهم شركاء الله تعالى الله عن ذلك علواُ كبيراً إلا أن أشركوهم فيما صرفوا إليهم من أموالهم وأقوالهم ، وأزمانهم وأحوالهم ) فدعوهم ( تعللاً بما لا يغني ، وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي ، لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة ) فلم يستجيبوا لهم ( كما يحق لهم لما لهم من وصف عدم الإدراك ، والعجز والهلاك ) ورأوا ) أي كلهم ) العذاب ( عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم ، فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يراهم : ( لو أنهم كانوا ) أي كوناً هو لهم صفة راسخة ) يهتدون ) أي يحصل منهم هدى ساعة من الدهر ، تأسفاً على أمرهم ، وتمنياُ لخلاصهم ، أو لو أن ذلك كان في طبعهم لنجوا من العذاب ، أو لما رأوه أصلاً ، أو لما اتبعوهم .
ولما أشار إلى أنه لا خلاص من ذلك الردى إلا بالهدى ، أتبعه الإعلام بأنه لا يمكن أحداً هناك أن يفعل ما قد يروج على سائله كما يفعل في هذه الدار من إظهار ما(5/510)
صفحة رقم 511
لم يكن مكرراً لتويل ذلك اليوم وتبشيعه وتعظيمه وتفظيعه ، سائلاً عن حق رسله عليهم الصلاة والسلام بعد السؤال عن حقه سبحانه ، منادياً بعجز الشركاء في الأخرى كما كانوا عاجزين في الأولى ) ويوم يناديهم ( وهم بحيث يسمعهم الداعي ، وينفذهمالبصر ، قد برزو الله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان مطيعاً في صعيد واحد ، قد أخذ بأنفاسهم الزحام ، وتراكبت الأقدام على الأقدام ، وألجمهم العرق ، وعمهم الغرق ) فيقول ماذا ) أي أوضحوا أو عينوا جوابكم الذي ) أجبتم المرسلين ) أي به ، ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج ، وتابعت عليهم من الأدلة ، لم يكن لهم جواب إلا السكوت ، وهو المراد بقوله : ( فعميت ) أي خفيت وأظلمت في غواية ولجاج ) عليهم الأنباء ) أي الأخبار التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر ، وهي التي يمكن أن يقع بها الخلاص ، وعداه بعلى إشارة إلى أن عماها وقع عليهم ، فعم الكل العمى فصاروا بحيث لا تهتدي الأنباء لعماها إليهم لتجددها ، ولا يهتدون إليها بحق أن يذكر في ذلك اليوم ، بل أسلفوا من التكذيب والإساءة ما يودون لو أن بينهم وبينه أمداً بعيدأً ، وقالك ) يومئذ ( تكريراً لتخويف ذلك اليوم وتهويلهن وتقريراً لتعظيمه وتبجيله .
ولما تسبب عن هذا السؤال السكوت علماً منهم بأنه ليس عند أحد منهم ما يغني في جوابه من حسن القول وصوابه ، وأنهم لا يذكرون شيئاً من المقال إلا عاد عليهم بالوبال ، قال مترجماً عن ذلك : ( فهم لا يتسألون ) أي لا يسأل أحد منهم أحداً عن شيء يحصل به خلاص ، لعلمهم أنه قد عمهم الهلاك ، ولات حين مناص ، ولأن كل منهم أبغض الناس في الآخر .
ولما علم بهذه الآيات حال من أصر على كفره وعمل سيئاً بطريق العبارة ، وأشير إلى حال من تاب فوعد الحسن ألطف إشارة تسبب عن ذلك التشوف إلى التصريح بحالهم ، فقال مفصلاً مرتباً على ما تقديره : هذا حال من أصر على كفره ) فأما من تاب ) أي كفره وقال : ( وآمن ( تصريحاًبما علم التزاماً ، فإن الكفر والإيمان ضدان ، لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر ) وعمل ( تصديقاً لدعواه باللسان ) صالحاً ( .
ولما كانت النفس نزاعة إلى النقائص ، مسرعة إلى الدنايا ، أشيرإلى صعوبة الاستمرار على طريق الهدى إلا بعظيم المجاهدة بقوله : ( فعسى ) أي فإنه يتسبب عن حاله هذا الطمع في ) أن يكون ) أي كوناً هةو في غاية الثبات ) من المفلحين ( أي(5/511)
صفحة رقم 512
الناجين من شر ذلك اليوم ، الظافرين بجميع المراد ، باستمرارهم على طاعتهم إلى الموت ، وإنما لم يقطع له بالفلاح وإن كان مثل ذلك في محاري عادات الملوك قطعاً ، إعلاماً بأ ، ه لا يجب سبحانه شيء ليدوم حذره ، ويتقي قضاؤه وقدره ، فإن الكل منه .
ولماكان كأنه قيل : ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا ، إلى رحب هذا الرجا ، وكان الجواب : ربك منعهم من ذلك ، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسمالأول بالشقاء ؟ وكان الجواب : إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه إشارة إليه قوله ) وربك ) أي المحسن إليك ، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار ، دقت عن فهم أكثر الأفكار ) يخلق ما يشاء ( من الهدى الضلال وغيرهما ، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك ) ويختار ) أي بوقع الاختيار ، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار ، والإيمان للأبرار ، لا اعتراض عليه ، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب ، لما سبق عليه من الكتاب ، فكان من أهل التباب فلا تأس علىمن فاتك كائناً من كان ، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه ، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته .
ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئاً لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى ، صرح به بقوله : ( ما كان لهم الخيرة ) أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتىى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره ، اسم من الاختيار ، يقام مقام المصدرن وهو أيضاً اسم المختار ، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيماً فكان عدماً ، قال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار ، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم ، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض ، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا ، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا ، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا ، وإن أذلهم رضول وسلموا ، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ، ولا يريدون لا ما يريده فيمضيه :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه لا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم أهنتني فأهنت نفسي صاغراً ما من يهون عليك ممن أكرم .
ولما كان إيقاع شيء على غير مراده نقصاً ، وكان وقوع الشرك سفولاً وعجزاً ، قال تعالى مشيراً إلى نتيجة هذه الآيات في نفي ذلك عنه : ( سبحان الله ) أي تنزه الجامع لصفات الكمال عن أن يختار أحد شيئاً لا يريده فيص إليه أو يقع بوجه عليه ) وتعلى ((5/512)
صفحة رقم 513
أي علا علو المجتهد في ذلك ، فعلوُّه لا تبلغ العقول بوجه كنه هداه ) عما يشركون ( لأنه لا إرادة لما ادعوهم شركاء ، ولو كانت لهم إرادة لتوقف إنفاذها لعجزهم على إيجاد الخالق .
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم ، قال : ( وربك ) أي المحسن إليك المتولي لتربيتك ، كما هو بالغ القدرة ، فهو شامل العلم ) يعلم ما تكن ) أي تخفي وتستر ) صدورهم ( من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل ىيات موسى أو لا يؤمنون ، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه أو مشوباً .
ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال : ( وما يعلنون ) أي يظهرون ، كل ذلك لديه سواء ، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه ، ولما كان علمه بذلك إنما هولكونه إلهاً ، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه ، عبر عن ذلك بقوله : ( وهو الله ) أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له ، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال ، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات ؛ ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله ) لا إله إلا هو ( ثم علل ذلك بقوله : ( له ) أي وحده ) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) في الأولى والأخرة ( وليس ذلك لشيء سواه إن آمنوا أو كفروا ) وله ) أي وحده ) الحكم ) أي إمضاء القضاء على الإطلاق ، فلو أراد لقسرهم على الإيمان ) وإليه ) أي لا إلى غيره ) ترجعون ) أي بأيسر أمر يوم النفخ في الصور ، لبعثرة القبور ، بالعث والنشورن ومع أنكم الآن أيضاً راجعون في جميع أحكامكم إليه ومقصورون عليه ، إن شاء أمضاها ، وإن أراد ردها ولواها ، ففي الايات غاية التقوية لقلوب المطيعين ، علماً بكل المعلومات ، منزهاً عن النقائص والافات يجزي الطائعين والعاصين بالقسط .
القصص : ( 71 - 75 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ( )(5/513)
صفحة رقم 514
ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام وأنه الإله وحده إن وحدوا أو الحدوا هذه الأعلام على هذا النظام ، أقام دليلاً دالاًّ على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة ، منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه ، فقال مقدماً الليل لأن آيته عدمية ، وهي أسبق : ( قل ( لمن ربما عاندوا في ذلك ، منكراً عليهم ملزماً لهم ، وعبر بالجمع لأنه أدل على الإلزام ، أعظم في الإفحام ، فقال : ( أرءيتم ) أي أخبروني ) إن جعل الله ) أي الملك الأعلى نظراً إلى مقام العظمة والجلال ) عليكم الليل ( الذي به اعتدال حر النهار ) سرمداً ) أي دائماً ، وقال : ( إلى يوم القيامة ( تنبيهاً على أنه مما لا يتوجه إليه إنكار ) من إله غير الله ( العظيم الشأن الذي لا كفوء له .
ولماكان النور نعمة في نفسه ، ويعرف به خالقه ، صرح به وطوى أثره فقال : ( يأتيكم بضياء ) أي يولد نهاراً تنتشرون فيه ، ولقوة إعلامه وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء ، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس ، فهو امكن للسمع وأنفذ للفكر ، قال تعالى : ( أفلا تسمعون ) أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر ، كما يكونن لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل ) قل أرءيتم إن جعل الله ) أي الذي له الأمر كله بجلاله وباهر كماله ) عليكم النهار ( الذي توازن حرارته رطوبة الليل فيتم بهما المتابعة بزيادة الميم مبالغة فيه ) إلى يوم القيامة ) أي الذي لا يسمع عاقلاً إنكاره ) من إله غير الله ( الجليل الذي ليس له مثيل ، وهو على كل شيء وكيل .
ولما كان الظلام غير مقصود في نفسه ، وكان بعد الضياء في غاية التعريف بموحده ، عدل عن اسمه فقال معبراً لمثل ما مضى : ( يأتيكم بليل ) أي ينشأ من ظلام ؛ ثم بين بما يدل على ما حذفه من الأول فقال : ( تسكنون فيه ( فالآية من الاحتباك : ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذذف الظلام ثانياًنم والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أولاً .
ولما كان الضياء مما ينفذ فيه البصر قال : ( أفلا تبصرون ) أي بالبصر والبصيرة كيف تنقشع جلابيب الظلام ، عن وجوه الضياء الغر الكرام ، ثم تتقنع بسواد أردية الحياء ، وجوه الأنوار والضياء قال ابن هبيرة : قال المبرد : سلطان السمع في الليل وسلطان البصر في النهار .
ولما كان التقدير : فمن حكمته جعل لكم السمع الأبصار ، لتتدبروا آياته ، وتتبصروا في مصنوعاته ، عطف عليه ) ومن رحمته ) أي التي وسعت كل شيء لا من(5/514)
صفحة رقم 515
غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض ) جعل لكم الليل والنهار ( آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم ، وادخر معظم رحمته إلى الآخرة ، ومحا آية الليل ) لتسكنوا من فضله ) أي فلا تسعوا في معاشكم ) و ( جعل آية النهار مبصرة ) لتبتغوا من فضله ( بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً السكون دليلاً على حذف السعي في ا لمعاش ثانياً ، والابتغاء ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أولاً .
ولما ذكر هذهالنعمة التي اسبغها من هذه الرحمة ، وذكر علة جعله على الصفة المذكورة ، ذكر علة أخرى هي المقصودة بالذات لنها نتيجة السمع والبصر اللذين ، قدم الحث على استعمالهما فقال : ( ولعلكم تشكرون ) أي وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر بما يتجدد لكم بتقبلها من النعم المتوالية المذكورة بالمنعم ، وبما دبر لكم رفقاً بكم فيما كلفكم به في دار الأسباب من أمر المعاش والمعاد من الراحة بالسكون إثر ما أفادكم من الأرباح والمنح بالانتشار والتقلب ، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب ، وكان الجنة لا تعب فيها بوجه من الوجوه ، كان لا حاجة فيها إلى الليل .
ولما ذكر ما للمفلح من الرجاء في بوم الجزاء ، وأتبعه الإعلام بأن الهداية إلى الفلاح إنما هي به ، ودل على ذلك إلى أن ذكر ايام الدنيا المشتملة على الليل والنهار على وجه دال على وحدانيته ، معلم بالقدرة على البعث بعد الموت بتكرير إيجاد كل من الملومين بعد إعدامه وتكرير إماتة الناس بالنوم ، ثم نشرهمباليقظة ، وختم ذلك بالشكر إشارة إلى أنه سبب الفلاح ، عاد إلى يوم الجزاء الذي تظهر فيه ثمرة ذلك كله ، مقرعاً على الإشراك مع ظهور هذه الدلائل على التوحيد ، وعدم شبهة قائمة على الشرك غير محض التقليد ، فقال منبهاً على عجزهم عن البرهان عند استحاق البرهان في يوم التناد ، لمحضر من الأشهاد ، مع ما فيه من التأكيد للتهويل بالتكرير ، والتاطيد للتهليل والتقرير : ( ويوم يناديهم ) أي هؤلاء الذي يظنون أنهم معجزون ) فيقول ( بلسان الغضب والإخزاء والتوبيخ وقد جمعوا جمعاً : ( أين شركاءي ( وكرر الإشارة إلى أن إشراكهم إنما هو بالاسم لا معنى فيه أصلاً فقال : ( الذين كنتم ) أي بغاية جهدكم حتى صار لكم ذلك لمكة ) تزعمون ( بلا شبهة لكم في ذلك عند التحقق أصلاً .
ولما ذكر الدليل الأول من الدليل على إبطال الشركة أن الشركاء لم يستجيبوا لهم ولا كانت لهم قدرة على نصرهم ولا نصر أنفسهم ، وكان ربما قيل : إن ذلك الشيء عب العجز ، دل هنا على الإشراك لا سبهة دليل فقال صارفاً بقول إلى مظهر التكلم بأسلوب العظمة لأنه مجرد فعلا ) ونزعنا ) أي أفردنا بقوة وسطوة ) من كل أمة شهيداً ) أي وهو رسولهم ، فشهد عليهم بأعمالهم وما كانوا فيه من الارتباك في أشراك الإشراك .(5/515)
صفحة رقم 516
ولما تسبب عن ذلك سؤالهم عن سندهم في إشراكهم قال : ( فقلنا ) أي للأمم : ( هاتوا برهانكم ) أي دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه ، وعولتم في شرككم عليه ، كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس ) فعلموا ( بسبب هذا السؤال لما اضطروا ففتشوا واجتهدوا فلم يجدوا لهم سنداً أصلاً ) أن الحق ) أي في الإلهية ) الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا مكافىء له ، لا شكرة لشيء معه ) وضل ) أي غاب وبطل غيبة الشيء الضائع ) عنهم ما كانوا ) أي كوناً هو كالجبلة لهم ) يفترون ) أي يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة موجبة للغلط فيه .
القصص : ( 76 - 80 ) إن قارون كان. .. . .
) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ ( ( )
ولما دل على عجزهم في تلك الدار ، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار ، إنما هو الواحد القهار ، دل على ان ذلك له ايضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر ، والمرح والأثر ، من غير أن يغنوا عمن أضلوا ، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق ، وما أضلهم من صامت ، تطبيقاً لعموم ) وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ( على بعض الجزيئات ، تخويفاً لمن كذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لا سيما من نسبه غلى السحر ، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء ، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد ، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إشرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله ، ونطقت به كتبه ، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون ، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه ، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي ، فكان مثله كما يأتي في التي بعده كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه(5/516)
صفحة رقم 517
الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه ، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض ، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع ، وهذا صلب جامد ، ليعلم أنه قادر على ما يريد ، ليدوم منه الحذر ، فيما سبق منه القضاء والقدر ، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصبهم وقال لهم : هاتوا برهانكم فيها ، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع امره فقال : ( إن قارون ( ويسمى في التوراة قورح ، ثم بين سبب التأكيد بقوله : ( كان ) أي كوناً متمكناً ) من قوم موسى ( تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد بفعله أحد مع قومه ، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم ) ونريد أن نمن على الذين ( إلى آخره ، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما ) فبغى عليهم ) أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي ، والعرض الفاني ، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة ، ووصل ما بينه وبينهم من الوصلة ، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه ، من الفرقة ، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة ، كما ينبغي ان يكون له إرادة ، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه ) ما كان لهم الخيرة ( ، جعلت إرادته تجاوز الحد ، وعديت ب ( على المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها .
ولما ذكر بغية ، ذكر سببه الحقيقي ، فقال : ( وآتيناه ) أي ومع كوننا أنعما عليه بجعله من حزب أصفيائنا بعظمتنا ) من الكنوز ) أي الأموال المدفونة المدخرة ، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات ) ما ) أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى ) إن مفاتحه ) أي مفتاح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها ) لتنوء ) أي تميل بجهد ومشقة لثقلها ) بالعصبة ) أي الجماعة الكثيرة التي يعصب اي يقوي بعضهم بعضاً ، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده ، وكل ذلك مما تستبعده العقول ، فلذلك وقع التأكيد ) أولي قوة ) أي تميلهم من أثقالها إياهم ، والنوء : الميل ، قال الرازي : والنوء : الكوكب مال عن العين عند الغروب ، يقال : ناء بالحمل إذا نهض به مثقلاً ، وناء به الحمل إذا أماله لثقله .
ولما ذكر بغية ، ذكر وقته ، والوقت قد يكون واسعاً كما نقول : جرى كذا عام(5/517)
صفحة رقم 518
كذا ، وفيه التعرض للسبب فقال : ( إذ قال له ( وقال : ( قومه ( إشارة إلى تناهي بغية بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة ، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض ، بدليل ما يأتي ، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا ياباه أحد ، وإما لأن أهل الخير هم الناس ، ومن عداهم عدم : ( لا تفرح ) أي لا تسر سروراً يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرقك إلى الأشر والمرح ، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه ، وذلك يدل على نسيان الآخرة ، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب ، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك ، قال الرزاي : ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزناً لا انقضاء له ، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه ، فبه ينبغي أن يفرح ) لا يحب ) أي لا يعامل معاملة المحبوب ) الفرحين ) أي الراسخين في الفرح بما يفنى ، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم .
ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد ، وهو سبب القرب إلى الله ، كان كأن قيل : وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين ) وابتغ ) أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه ) فيما آتاك الله ) أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك ) الدار الآخرة ( بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء ، فلا يكون منه شيء بغير حياة ، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال ، وكل ما فيها إلى زوال ، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال .
ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا : ( ولا تنس ) أي تترك ترك الناسي ) نصيبك من الدنيا ( ترك المنسي ، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها ، وليكن استعمالك لذلك كما دل عليه السياق من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف ؛ وعن علي رضي الله عنه : ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة .
ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد ، وكانت النفس مجبولة على الشره ، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير ، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا : ( وأحسن ) أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج ، والإنفاق في جميع الطاعات ) كما أحسن الله ) أي الجامع لصفات الكمال ، المتردي برداء العظمة والجلال ) إليك ( بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك .(5/518)
صفحة رقم 519
ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف ، قالوا : ( ولا تبغ ) أي لا ترد إرادة ما ) الفساد في الأرض ( بتقتير ولا تبذير ، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا ، وأكثرالناس يستبعد انيبسط فيها لغير محبوب ، فقيل : ( إن الله ) أي العالم بكل شيء ، القدير على كل شيء ) لا يحب المفسدين ) أي لا يعاملهم معاملة من يحبه ، فلا يكرمهم .
ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله ، وكان قد أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في اسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز ، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته : ( قال إنما أوتيته ) أي هذا المال ) على علم ( حاصل ) عندي ( فأنا مستحق لذلك ، وذلك العلم هو السبب في حصوله ، لا فضل لأحد عليّ فيه بما يفيده التعبير بإنما ، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو ، وقد قيل : إن ذلك العلم هو الكيمياء .
ولما كان التقدير : ألا يخاف أن يسلبه الله عقوبة له على هذا علمه وماله ونفسه ؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله ؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً ، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً ، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة ، فهو قادر على إهلاكه ، وسلب ما معه وإفنائه ، كما قدر على إيتائه ، عطف عليه قوله منكراً عليه : ( أولم يعلم أن الله ) أي بما به من صفات الجلال والعظمة الكمال ) قد أهلك ( ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله : ( من قبله ( ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من الزمان ) من القرون ) أي الذين هم في الصلابة كالقرون ) من هو أشد منه ) أي قرون ) قوة ) أي في البدن ، والمعاني من العلم وغيره ، والأنصار والخدم ) وأكثر جمعاً ( في المال والرجال ، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه ، وحقق أمره يوم مهم هلكه ، وكان يستبعده أمثالة ويسمهم سوء العذاب ، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع ، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم .
ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه ، فتارة يحلف على نفي الذنب فيبل منه وإن كان كاذباً ، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره ، فيكون له عذر خفي ، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة ، وأمل المطلع على(5/519)
صفحة رقم 520
بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك ، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو ) من ( : ( ولا ) أي أهلكهم والحال أنهم لا سيألون هذا ألأصل ، ولكنه قال : ( يسأل ) أي من سائل ما ) عن ذنوبهم المجرمون ( فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام ، وهو قطع ما ينبغي وصله بوصل ما ينبغي قطعه ، ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه ، وطغيانه في آثامه : ( فخرج على قومه ) أي الذين ذكر حاله معظماً لها بقوله : ( في زينته ) أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله ، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله .
ولما كان كأنه قيل : ما قال قومه ؟ قيل : ( قال الذين يريدون ) أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا ) الحياة الدنيا ( منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني ، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة امحسود : ( يا ليت لنا ) أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان ) مثل ما أوتي قارون ( من هذه الزينة وما تسببت عن من العلم ، حتى لا نزال أصحاب أموال ، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم : ( إنه لذو حظ ( اي نصيب وبخت في الدنيا ) عظيم ( بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال ، ودل على جهللهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إليه باتباعه قوله : ( وقال الذين ( وعظم الرغبة في العلم بالبناء للمفعول إشارة غلى انه نافع بكل اعتبار باعتبار الزهدن وبالتعبير عن أهل الزهد بع فقال : ( أتوا العلم ) أي من قومه ، فشرفت أنفسُهم عن إرادة الدنيا علماً بفنائها ، زجراً لمن تمنى مثل حاله ، وشمراً إلى الآخرة لبقائها : ( ويلكم ) أي عجباً لكم ، أو حل بكم الشر حلولاً ، وأصل ويل ، ( وي ) قال الفراء : جيء بلام الجر بعدها مفتوحة ما المضمر نحو وي لك ، ووي له ، أي عجباً لك وله ، ثم خلط اللام بوي لكثرة الاستعمال حتى صارت كلام الكلمة فصار معرباً بإتمامه ثلاثياً ، فجاز أن يخل بعدها لام أخرى في نحو ويلاً لك ، لصيرورة الول لام الكلمة ، ثم نقل إلى باب المبتدأ فقيل : ويل لك ، وهو باق على ما كان عليه في حال النصب إذ الأصل في ويل لك : هلكت ويلاً ، أي هلاكاً فرفعوه بعد حذف الفعل نفضاً لغبار الحدوث ، وقيل : أصل ويل الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى كما استعمل لا أبا لك وأصله الدعاء على الرجل في الحث على الفعل ، فكأنهم قالوا : ما لنا يحل بنا الويل ؟ فأخبروهم بما ينبغي معرضين عما استحقوا به الويل من التمني ، (5/520)
صفحة رقم 521
تحقيراً لما استفزهم حتى قالوه فقالوا : ( ثواب الله ) أي الجليل العظيم ) خير ( اي من هذا الحطام ، ومن فاته الخير حل به الويل ؛ ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله فقالوا : ( لمن آمن وعمل ( اي تصديقاً لإيمانه ) صالحاً ( ثم بين سبحانه عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله مؤكداً لن أهل الدنيا ينكرون كونهم غير صابرين : ( ولا يلقاها ) أي لا يجعل لاقياً لهذا الكلمات أوالنصيحة التي قالها أهل العلم ، اي عاملاُ بها ) إلا الصابرون ) أي على قضار ربهم في السراء والضراء ، والحاملون أنفسهم على الطاعات الذين صار الصبر لهم خلقاً ، وعبر بالجمع ترغيباً في التعاون إشارة إلى أن الدين لصعوبته لا يستقل به الواحد .
القصص : ( 81 - 82 ) فخسفنا به وبداره. .. . .
) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( ( )
ولما تسبب عن نظره هذا لاذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب ، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله : ( فخسفنا ) أي بما لنا من العظمة ) به وبداره ) أي وهي على مقدار ما ذكرنا من عظمته بأمواله وزينته ، فهي أمر عظيم ، تجمع خلقاً كثيراً وأثاثاً عظيماً ، لئلا يقول قائل : إن الخسف به كان للرغبة في أخذ أمواله ) الأرض ( وهو من قوم موسى عليه الصلاة والسلام وقريب منه جداً على ما نقله أهل الأخبار فإياكم يا أمة هذا النبي أن تردوا ما آتاكم من الرحمة برسالته فتهلكوا وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن الأنبياء كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدى ، فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون لهم أبداً ، إذا تحققوا أنهم من أهل الشقا ) فما ) أي فتسبب عن ذلك أنه ما ) كان له ) أي لقارون ، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله : ( من فئة ) أي طائفة من الناس يكرون عليه بعد أن هالهم ما دهمه ، وأصل الفئة الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتهت إلى المكان الذي ذهبت منه ) ينصرونه ( .
ولما كان الله تعالى أعلى من كل شيء قال : ( من دون الله ) أي الحائز لصفات الكمال ، المتردي بالعظمة والجلال ، لأن من كان على مثل رأيه هلك ، ومن كان من أولياء الله راقب الله في أمره ، فلم يسألوا الله فيه ، وعلم هو أن الحق لله ، وضل عنه كما في الآية التي قبلها ما كان يفتري ) وما كان ) أي هو ) من المنتصرين ((5/521)
صفحة رقم 522
لأنفسهم بقوتهم .
ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ، عبر عن حالهم بقوله : ( وأصبح ) أي وصار ، ولكنه عبر به لمقابلة الأمس ، وإعلاماً بأن ما رأوا من حاله ملأ صدورهم فلم يكن لهم هم سواه ) الذين تمنوا ) أي ارادوا إرادة عظيمة بغاية الشغف أن يكونوا ) مكانة ) أي يكون خحاله ومنزلته في الدنيا لهم ) بالأمس ) أي الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه من قبله ) يقولون ويكأن ( هذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف ، وعن الكسائي أنه يوقف على الياء من وى ، وعن أبي عمرو أنه يوقف على الكاف : ويك ، قال الرضي في شرح الحاجبية : وي للتندم أو لللتعجب ، ثم قال : وهو عند الخليل وسيبويه ( وي ) للتعجب ، ركبت مع ( كأن ) التي للتشبيه ، وقال الفراء : كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب نحو ويك عنتر أقدم ، أي من وله في قصيدته الميمية المشهورة إحدى المعلقات السبع :
ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
أي ويلك وعجباً منك ، وضم إليها ( أن ) فالمعنى : ألم تر أنه ، ونقل ابن الجوزي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال الفراء : ولما صار معنى ويكأن ألم تر ، لم تغير كاف الخطاب للمؤنث والمثنى والمجوع بل لزم حالة واحدة ، وقال الجعبري في شرح الشاطبية : وي صوت يقوله المتندم والمتعجب ، وويك أصله ويلك ، حذفت لامه تخفيفاً لكثرة دوره ؛ والكاف للخطاب وفتحت ( أن ) لإضمار العلم ؛ وقال قطرب : لتقدير اللام ، ونشأ من التركيب معنى : ندمنا على تفريطنا ، وتعجبنا من حالنا ، وتحققننا خلاف اعتقادنا ، وسمت متصلة تنبيهاً على التركيب ، وقال القزاز في ديوانه الجامع : ويك كلمة ينبه بها الإنسان ، وقيل : معناها رجمة ، ووي معناها التنبيه والإنكار ، وقال الإمام عبد الحق : وي كلمة تقال في التعجب والاستدراك ، وقيل : وي حزن ، وقال قطرب : وي كلمة تفجع انتهى .
وقال سيبويه في باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة : وسألت الخليل عن هذه الآية فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم ، أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا والله تعالى أعلم ، وأما الفسرون : فقالوا : ألم تر أن الله .
فالمعنى الذي يجمع القوال حينئذ : تعجباً أو ويلاً أو تندماً على ما قلنا في تبين غلطنا ، وتنبيهاً على الخطأ ، أو هلاك لنا ، إو إنكار علينا ، أو حزن لنا ، أو تفجع علينا ، أو استدراك علينا ، أو رحمة لنا ، أو تنبه لنا ، ثم عللوا ذلك بقولهم : إن الله ، أو يشبه أن الله ، أو ألم تر ايها السامع والناظر أن الله ، وقال الرازي : اسم سمي به القول ، أي(5/522)
صفحة رقم 523
أعجب ، ومعناه التنبيه ؛ ثم ابتدأ كأن ) الله ( اي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ) يبسط الرزق ) أي الكامل ) لمن يشاء ( سواء كان عنده ما يحتال به علىالرزق أم لا .
ولما كانت القصة لقارون ، وكان له ن المكنة في الدنيا ما مضى ذكره ، وكانت العادة جارية بأن مثله يبطر وقد يؤدي إلى تألهه ، قال منبهاً بافيقاع به على الوجهالماضي أنه من جملة عبيده ، لا فرق بينه وبين أضعفهم بالنسبة إلى قدرته : ( من عباده ( .
ولما دل على أن البسط إنما هو منه ، أتبعه قول دليلاً آخر على ربوبيته : ( ويقدر ) أي يضيق على من يشاء سواء كان فظناً أم لا ، لا يبسطه لأحد لكرامته عليه ، ولا يضيق على أحد لهوانه عنده ، ولا يدل البسط والقبض على هوان ولا كرامة ، وهذا دليل على أنهم ظنوا صحة قول قارون أنه أوتيه على علم عنده ، وأنهم إنما تمنوا علمه الذي يلزم منه على اعتقادهم حصول المال على كل حال .
ولما لاح من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله ، أتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم : ( لولا أن منَّ الله ) أي تفضل الملك الأعظم الذي استأثر بصفات الكمال ) علينا ( بجوده ، فلم يعطنا ما تمنيناه من الكون على مثل حاله ) لخسف بنا ( مثل ما خسف به ) ويكأنه ) أي عجباً أو ندماً لأنه ، أو يشبه أنه ، أو ألم تر أنه ، قال الرضي في شرح الحاجبية : كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون فقال لهم : عجباً منك ، فسئل : لن تتعجب منه ؟ فقال : لأنه إلى آخره ، فحذف حرف الجر مع ( أن ) كما هو القياس .
) لا يفلح ( اي يظفر بمراد ) الكافرون ) أي العريقون في الكفر لنعمة الله ، وقد عرف بهذا التنزيل المعنى على ما قالوه في المراد من ويكأنه ، سواء وقف على وي أو يك أو لا .
ذكر شرح هذه القصة
: قال البغوي : قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة ، في كل طرف منها خيطاً أخضر بلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب ألا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً ، فإن بني إسرائيل تحتقر هذه الخيوط ، فقال له ربهك يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير ، فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى يعني فأعلمهم ففعلوا واستكبر(5/523)
صفحة رقم 524
قارون ، فكان هذا بدء عصيانه وطغيانه وبغيه ، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة ، ولست في شيء وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا ، فقال له موى عليه الصلاة والسلام : ما أنا بالذي جعلتها في هارون ولكن الله جعلها له ، فقال قارون : والله لا أصدقك حتى أرى بيانه ، يهني فجمع موسى عصي الرؤساء فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها وباتوا يحرسونها ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر ، وكانت من اللوز ، فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، وذكر أموراً مما كان يتعظم بها وأنه رمى موسى عليه الصلاة والسلام بعظيمة فحينئذ غار الله لموسى عليه الصلاة والسلام فخسف به .
والذي رأيته أنا في التوراة في السفر الرابع ما نصه : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : اعملوا خيوطاً في اطراف أرديتكم في احقابكم ، ولتكن الخيوط التي تعملون في أطراف أرديتكم من حرير ، ولتكن هذه الخيوط تذكركم وصايا الله لتعملوا بها ولا تضلوا بما في قلوبكم ، ولا تتبعوا آراءكم ، بل اذكروا جميع وصاياي واعملوا بها ، لتكونوا مقدسين لله ربكم ، أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر ، لا يكون لكم إله غيري ، أنا الله ربكم .
ومن بعد هذه الأمور شق قورح وهو اسم قارون بالعبرانية بن يصهر بن قاهث بن لاوى ، ودائن وأبيروم ابنا أليب ، وأون بن قلب ابن روبيل العصي ، وقاموا بين يدي موسى ، وقم من بني إسرائيل عددهم مائتان وخمسون رجلاً اجتمعوا إلى موسى وهارون وقالوا لهما : ليس حسبكما أن الجماعة كلها طاهرة وأنتما رئيسان عليها حتى تريدا أن تتعظا على الجماعة كلها أي يكون هارون هو الكاهن أي متولي أمر القربان والحكم على خدمة قبة الزمان فسمع موسى ذلك وخر ساجداً على وجهه ، وكلم قورح وجماعته كلها فقال لهم : سيظهر الرب ويبين لمن الكهنوت والرئاسة بكرة ، ومن كان طاهراً فليتقرب إليه .
ومن يختار الرب يتقرب ؛ ثم أمرهم أن يقربوا رباناً ثم قال : يا بني لاوي أما تكتفون بما اختاره الله لكم من كل جماعة بني إسرائيل وقربكم إليه لتعملوا العمل في بيت الرب وقربك أنت وجميع(5/524)
صفحة رقم 525
إخوتك معك إلا أن تريدوا الكهنوت أيضاً ، فلذلك أنت وجاعتك كلها احتشدوا بين يدي الرب غداً ، فأما هارون فمن هو حتى صرتم تقعون فيه وتتذمرون عليه ، وأرسل موسى ليدعو دائن وابيرم ابني أليب فقالا : لا تصعد إليك ، أما تكتفيان بما صنعتما أنكما أخرجتمانا من الأرض التي تغل السمن والعسل لتقتلانا في هذه البرية حتى تعظما علينا وتفخرا ، فأما ما وعدتنا به أنك تدخلنا الرض التي تغل السمن والعسل فما فعلت ، ولم تعطنا مواريث المزارع والكروم ، فلو عميت أعيننا لم نصعد إليك .
فشق ذلك على موسى جداً ، وقال أمام الرب : لا تقبل قرابينهم يا رب لأني لم أظلم منهم رجلاً ولا أسأت إلى أحد منهم ، ثم قال لقورح : اجتمع أنت وأصحابك أمام الرب وهارون معكم بكرة ، وليأخذ كل منكم مجمرته ، وقام موسى وهارون أمام قبة الزمان وجمع قورح الجماعة كلها ، وظهر مجد الرب للجماعة كلها ، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا عن هذه الجماعة فإني مهلكها في ساعة واحدة ، فخرا ساجدين وقالا : اللهم أنت إله أرواح كل ذي لحم ، يجرم رجل واحد فينزل الغضب بالجماعة كلها ؟ فكلم الرب موسى وقال له : كلم الجماعة كلها وقل لهم : تنحوا عن خيم دائن وأبيروم وقورح ، تنحوا عن خيم هؤلاء الفجار ، ولا تقربوا شيئاً مما لهم لئلا تعاقبوا ، وقال موسى : بهذه الخلة تعلمون أن الرب ارسلني أن أعمل هذه الأعمال كلها ، ولم أعملها من تلقاء نفسي ، إن مات هؤلاء مثل موت كل إنسان أو نزل بهم الموت مثل ما ينزل بجميع الناس فلم يرسلني الرب ، وإن فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وابتلعت خيمهم وجميع مواشيهم فنزلوا إلى الجحم أحياء ، ثم استوت الأرض فوقهم ، وهرب جميع بني إسرائيل حيث سمعوا أصواتهم ورأوا ما قد صنع بهمن وقالوا : لعل الرض تبتلعنا أيضاً ، واشتعلت نار من قبل الرب فأخحرقت المائتين والخمسين رجلاً الذين كانوا يبخرون البخور ، وتذمر جماعة بني إسرائيل من بعد ذلك اليوم على موسى وهارون فقالوا لهما : أنتما قتلتما جماعة بني إسرائيل من بعد ذلك اليوم ورأوا أن السحاب قد تغشى القبة وظهر نجد الرب ، وأتى موسى وهارون فقاما في قبة الزمان ، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها في ساعة واحدة ، فخرا ساجدين على وجوههما ، وقال موسى لهارون : خذ مجمرة بيك واجعل فيها ناراً وبخوراً ، وانطلق مسرعاً إلى الجماعة واستغفر لهم لأنه قد نزل غضب الرب بالجماعة كلها ، وبدأ موت الفجأة بالشعب ، وأخذ هارون كما أمره موسى فأحضر إلى(5/525)
صفحة رقم 526
الجماعة ورأى أن الموت قد بدأ بالشعب ، وبخر بخوراً للرب واستغفر للشعب ، وقام فيمت بين الأموات والأحياء ، فكف موت الفجأة عن الشعب ، وكان عدد الذين ماتوا فجأة أربعة عشر ألفاً وسبعمائة رجل غير المخسوف بهم ، ورجع هارون إلى موسى إلى قبة الزمان فكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا من كل سبط ، واكتب اسم كل رجل على عصاه ، واكتب اسم هارون على عصا سبط لاوي ، واجعلها في قنة الزمان أمام تابوت الشهادة لأنزل إليكم إلى هناك ، فالرجل الذي أحبه تنضره عصاه ، وأخلصكما من هتار بني إسرائيل وتذمرهم ؛ ثم دخل موسى خبأ الشهادة فرأى عصا هارون قد نضرت وأخرجت أغصاناً وأورقت وأثمرت لوزاً ، وأخرج موسى العصي كلها فنظروا إليهان وقال الرب لموسى : رد قضيب هارون إلى موضع الشهادة واحفظه آية لأبناء المتسخطين ليكف تذمرهم عني ولا يموتوا ، ولا يعمل عمل قبة الزمان غير اللاويين أي سبط لاوي ، فأما بنو إسرائيل اي باقيهم فلا يقتربوا إلى قبة الزمان لئلا يعاقبوا ويموتوا ؛ ثم ذكر وزفاة هارون عليه السلام في هور الجبل وولاية إليعازر ابنه مكانه أمر الكهنوت - انتهى .
وهو نحو مما فعل الله لنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حنين الجذع ، وتخيير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له أن يعيده تعالى إلى أحسن ما كان وهو حي أو يجعله في الجنة ، فاختار أن يكون في الجنة ، وكذا أمر سراقة بن مالك بن جعشم حيث لحقه ( صلى الله عليه وسلم ) في طريق الهجرة ليرده فخسف بقوائم حصانه حتى نزل غلى بطنه ثلاث مرات غير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان نبي الرحمة لم يكن القاضية ، فكفى بذلك شره ، وأسلم بعد ذلك علم الفتح ، وبشره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يلبس سوراى كسرى فكان كذلك ، وشر من الخسف الذي يغيب به المخسوف به وأنكأ وأشنع وأخزى قصة الذي ارتد فقصم ودفن فلفظته الأرض روى البيهقي في آخر الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يكتب لرسول(5/526)
صفحة رقم 527
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب ، فرفعوه وأعجبوا بهن فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فوراره ، فاصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذاً ، وقال : رواه مسلم في الصحيحن وعن أنس رضي الله عنه مثله أيضاً في رجل نصراني لفظته الأرض ثلاث مرات ثم تركوه .
وقال رواه البخاري في الصحيح .
القصص : ( 83 - 88 ) تلك الدار الآخرة. .. . .
) تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما قدم سبحانه أن المفلح من تاب وآمن وعمل صالحاً ، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله ، وكان ذلك للآخرة سبباً ومسبباً ، ومر فيما لا بد منه حتى ذكر قصة قارون المعرّفة ولا بد بأن هذه الدار للزوال ، لا يغني فيها رجال ولا مال ، وأن الآخرة للدوام ، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا ، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين ، فكان موضع استحضار ىلآخرة ، مع أنه قدم قريباً من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به السماع ، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم ، معظمة عند كل ذي علم ، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين : الحضور والعظم ، فقال : ( تلك ) أي الأمر المنظور بكل عين ، الحاضر في كل قلب ، العظيم الشأنن البعيد الصيت ، العلي المرتبة ، الذي سمعت أخباره ، وطنت على الأذان أوصافه وآثاره ) الدار الآخرة ) أي التي هي دلائلها أكثر من أن تحصرن وأوضح من أن تبين وتذكر ، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علواً وفساداً ) نجعلها ( بعظمتنا ) للذين ( يعملون ضد عمله .
ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح ، قال : ( لا(5/527)
صفحة رقم 528
يريدون ( ولم يقل يتعاطون مثلاً ، تعظيماً لضرر الفساد بالتنفير منكل ما كان منه تسبب ، إعلاماً بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريباً منه اقتحمته لا محالة ) علواً ) أي شيئاً من العلو ) في الأرض ( فإنه أعظم جارّ غلى الفساد ، وإذا أرادوا شيئاً من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر ، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم ) ولا فساداً ( بعمل ما يكره الله ، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون ، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم ، لا لحظ دنيوي ، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد إلا يتخذوا عباد الله خولاً ، ولا مال الله دولاً ، والضابط العمل بما يضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا .
ولما كان شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى ، أخبر سبحانه أنه دائماً يجعل ظفرهم آخراً ، فقال معبراً بالاسمية دلالة على الثبات : ( والعاقبة ) أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة ، هكذا الصل ، ولكنه أظهر تعميماً وإعلاماً بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى : ( للمتقين ) أي دائماً في كلا الدارينن لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة ، وهذه الآية يُعْرَف أهل الآخرة من أهل الدنيا ، فمن كان زاهداً في الأولى مجتهداًُ في الصلاح ، وكتن ممتحناً في أول أحواله مظفراً في ماله ، فهو من أبناء الآخرة ، وإلا فهو للدنيا .
ولما تحرر الفرق بين أهل الدارين ، وكان لا بد من إتيان الآخرة ، وعلم أن الآخرة إنما هي جزاء الأعمال ، وتقرر من كونها للخائفين أنها على الآمنين ، فاستؤنف تفصيل ذلك جواباً لمن كأنه قال : ما لمن أحسن ومن أساء عند القدوم ؟ بقوله : ( من جاء ) أي في الآخرة أو الدنيا ) بالحسنة ) أي الحالة الصالحة ) فله ( من فضل الله ) خير منها ( من عشرة أضعاف إلى سبعين غلى سبعمائة إلى ما لا يحيط به الله تعالى ) ومن جاء بالسيئة ( وهي ما نهى الله عنه ، ومنه إخافة المؤمنين ) فلا يجزي ( من جاز ما ، وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من فقال : ( الذين عملوا السيئات ( تصويراُ لحالهم تقبيحاً لها وتنفيراً من عملها ، ولعله جمع هنا وأفرد أولاً إشارة إلى أن المسيء أكثر ) إلا ( مثله سواء عدلاً منه تعالى ، هكذا كان الصل ، ولكنه قال : ( ما كانوا ) أي بجميع هممهم ) يعملون ( مبالغة في المثلية ، هذا في الآخرة ، وزادت الآية الإشارة إلى أنه يفعل في الدنيا مثل ذلك وإن خفي ، فسيخافون في حرمهم بما أخافوا المؤمنين فيه وقد جعله الله للأمن ، فاعتلوا عن الدخول في دينه بخوف التخطف(5/528)
صفحة رقم 529
من أرضهم ، فسيصير عدم دخولهم فيه سبباً لخوفهم وتخطفهم من أرضهم فيعلمون أن ما كانو فيه من الأمن إنما هو بسببك ، ثم يصيرون يوم الفتح في قبضتك .
ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره ، وأثيت الجزاء فيها ، وأن العاقبة للمتقين ، اتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة ، فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم من إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها : ( إن الذي فرض ) أي أوجب ) عليك القرآن ) أي الجامع لما تفرق من المحاسن ، المفصل لما تلبس من جميع المعاني ، أي فرض عليك جميع ما في هذا الكتاب المشتمل على الجمع والفرق بما يظهر حسن تلقيه من تلاوة وإبلاغ وتحد وعمل وألزمك فيه وغيرك هذه الملازم ، وكلفكم تلك التكاليف التي منها المقارعة بالسيوف ) لرآدك ) أي بعد الموت لأجل صعوبة ما كلفك به وألزمك من مشقته ) إلى معاد ) أي مرجع عظيم يا له من مرجع يجزي فيه كل أحد بما عمل ، فيبعثك ربك فيه ثواباً على إحسانك في العمل مقاماً محموداً يغبطك فيه الأولون والآخرون ، بما عانيت في أمره من هذه المشقات التي لا تحملها الجبال ، ولولا الرد إلى إلى هذا المعاد لكانت هذه التكاليف التي لا يعمل أكثرهم بأكثرها ولا يجازي على المخالفة فيها من العبث المعلوم أن العاقل من الآدميين متنزه عنه فكيف بأحكم الحاكمين فاجتهد فيما أنت فيه لعز ذلك اليوم فإن العقبة لك ، والآية مثل قوله تعالى
77 ( ) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ( ) 7
[ البقرة : 281 ] ،
77 ( ) ثم إليه ترجعون ( ) 7
[ البقرة : 28 ]
77 ( ) إلى الله مرجعكم ( ) 7
[ المائدة : 48 ] إلى غير ذلك من الآيات ، ويجوز أن يقال : إلى معاد أيّ معاد ، أي مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العود إليه كل من خرج منه وهو مكة المشرفة : وطنك الدنيوي ، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه البخاري ، وعود هو لجلالته أهل لأن يذكر لدخولك إليها في جنود يعز بها الإسلام ، ويذل بها الكفر وأهله على الدوام ، والجنة المزخرفة : وطنك الخروي ، على أكل الوجوه وأعلاها ، وأعزها وأولاها ، فلا تظن أنه يسلك بك سبيل أبويك عليهما الصلاة والسلام : إبراهيم في هجرته من حران بلد الكفر إلى الرض المقدسة فلم يعد إليها ، وإسماعيل في العلو به من الرض المقدسة إلى اقدس منها فلم يعد إليها ، بل يسلك لك سبيل أخيك موسى عليه الصلاة والسلام الذي أنزل عليه الكتاب كما أنزل عليك الكتاب القرآن الفرقان ، والذي اشركوك به في قولهم
77 ( ) لولا أوتي موسى ( ) 7
[ القصص : 48 ] في إعادته إلى(5/529)
صفحة رقم 530
البلد الذي ذكر في هذه السورة توطئة لهذه الآية أنه خرج منه خائفاً يتوقب وهي مصر إلى مدين في أطراف بلاد العرب ، على وجه أهلك أعداءه ، أما من كان نم غير قومه وغيرهم ، كما خرجت أنت من بلدك مكة خائفاً تترقب إلى المدينة الشريفة غير أن رجوعك لكونك نبي الرحمة ، وكون خروجك لم يكن مسبباً عن قتل أحد منهم لا يكون فيه هلاكهم ، بل عزهم وأمنهم وغناهم وثباتهم ، واختير لفظ القرآن دون الكتاب لما فيه من الجمع من لازم النشر كما مضى في الحجر ، فناسب السياق الذي هو للنشر والحشر والفصل من بلده ثم الوصل ، فإنه روى أن هذه الآية نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجحفة وهي في طريق الهجرة .
ولما فهم من الإبلاغ في هذا التأكيد أن ثَم من يبالغ في النفي وافنكار على حسب هذا التأكيد في الإثبات فيقول : إن الأمر ليس كذلك ، ولا يعود إلى مكة المشرفة ومنا عين تطرف ، قال مهدداً على طريق الاستئناف على لسانه ( صلى الله عليه وسلم ) لكون الإنكار تكذيباً له كما كذب موسى ( صلى الله عليه وسلم ) حين أجاب بمثل ذلك كما تقدم : ( قل ) أي لهؤلاء المنكرين لما أخبرتك به : ( ربي ) أي المحسن إليّ ) أعلم ) أي من كل أحد .
ولما كانت هذه القصة مسلمة لا نزاع فيها لعاقل تثبت الخالق ، وكانوا يقولون : من ادعى رجوعه فهو ضال ، توجه السؤال عن المهتدي إلى الصواب والضال ، بما يشهد به فتح مكة عند الإقبال في أؤلئك الضراغمة الأبطال ، والسادة الأقيال ، فقال في أسلوب الاستفهام لإظهار الإنصاف والإبعاد من الاتهام : ( من جاء بالهدى ) أي الذي لا أبين منه ، أنا فيما جئت به من ربي بهذا الكلام الذي يشهد الله لي بإعجازه أنه من عنده أم أنتم فيما تقولون من عند أنفسكم ؟ ) ومن هو في ضلال ) أي أنتم في كلامكم الظاهر العوار العظيم العار أن أنا ) مبين ) أي بين في نفسه مظهر لكل أحد ما فيه من خلل وإن اجتهد التابع له في ستره .
ولما كان الجواب لكل من أنصف : هم في ضلال مبين لأنهم ينحتون من عند أنفسهم ما لا دليل عليه ، وأنت جئت بالهدى لأنك أتيت به عن الله ، بني عليه قوله : ( ما ( ويجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير في ) عليك ( وما بينهما اعتراض للاهتمام بالرد على المنكر للمعاد ، اي فرضه عليك والحال أنك ما ، ويجوز أن يقال : لما كان رجوعه إلى مكة غاية البعد لكثرة الكفار وقلة الأنصار ، قربه بقوله معلماً أم كثيراً من الأمور تكون على غير رجاء ، بل وعلى خلاف القياس : وما ) كنت ترجوا ) أي في سلاف الدهر بحال من الأحوال ) أن يلقى ( اي ينزل على وجه لم يقدر(5/530)
صفحة رقم 531
على رده ) إليك الكتاب ) أي بهذا الإعتقاد ولا بشيء منه ؛ ولا كان هذا من شأنك ، ولا سمعه أحد منك يوماً من الأيام ، ولا تأهبت لذلك أهيته العادية من تعلم خط أو مجالسة عالم ليتطرق إليك نوع اتهام ، كما يشير إليه قوله تعالى في التي بعدها
77 ( ) وما كنت تتلوا من قبله الكتاب ( ) 7
[ العنكبوت : 48 ] واختير هنا لفظ الكتاب لأن السياق للرحمة التي من ثمراتها الاجتماع المحكم ، وذلك مدلول الكتاب ؛ ثم قال : ( إلا ) أي لكن ألقي إليك الكتاب ) رحمة ) أي لأجل رحمة عظيمة لك ولجميع الخلاءق بك ، لم تكن ترجوها ) من ربك ) أي المحسن إليك بجعلك مصطفى لذلك ، بالدعاء إليه وقصر الهمم عليه ، وعبر بأداة الاستثناء المتصل إشارة إلى أن حاله قبل النبوة من التنزه عن عبادة الأوثان وهن القرب منها والحلف بها وعن والفواحش جميعاً ، ومن الانقطاع إلى الله بالخلوة نعه والتعبد له توفيقاً من الله كان حال من يرجو ذلك .
ولما تسبب عما تقدم الاجتهاد في تحريك الهمم إلى العكوف على أمر الله طمعاً فيما عنده سبحانه من الثواب ، وشكراً على إنزال الكتاب ، قال في سياق التأكيد لأن الطبع البشري قتضي إدراك مظاهرة الكفار لأمر من التوفيق عظيم ، لكثرتهم وقوتهم وعزتهم : ( فلا تكونن ( إذ ذاك بسبب اتصافهم لك لكثرتهم ) ظهيراً ) أي معيناً ) للكافرين ( بالمكث بين ظهرانيهم ، أو بالفتور عن الاجتهاد في دعائهم ، يأساً منهم لما ترى من بعدهم من الإجابة وإن طال إنذارك ، لا تمل أنت كما لم نمل نحن ، فقد وصلنا لهم القول ، وتابعنا لهم الوعظ والقص ، ونحن قادرون على إهلاكهم في لحظة ، وهدايتهم في أقل من لمحة ، وكما أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد الإنعام عليه لم يكن ظهيراً للمجرمين ، وهذا تدريب من الله تعالى لأئمة الأمة فب الدعاء إلى الله عند كثرة المخالف ، وقلة الناصر المحالف .
ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر وإن كان المتواني مجتهداً في العمل ، قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة العداء وتتابع الإيذاء والاعتداء : ( ولا يصدنك ) أي الكفار بمبالغتهم في الإعراض وقولهم ) لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ( ونحوه ) عن آيات الله ) أي عن الصدع بها وهي من المتصف بصفات الكمال ، في الأوقات الكائنة ) بعد إذ أنزلت ) أي وقع إنزالها ممن تعلمه منتهياً ) إليك ( مما ترى من أوامرها ونواهيها ، ولقد بين هذا المعنى قوله : ( وادع ) أي أوجد الدعاء للناس ) إلى ربك ) أي المحسن إليك لإحسانه إليك ، وإقباله دون الخلق عليك ، وأعراه من التأكيد اكتفاء بالمستطاع فإن الفعل ليس للمبالغة فيه جداً ، إشارة إلى أن جلب المصالح أيسر خطباً من درء المفاسد ، فإن المطلوب فيه النهاية محدود بالاجتناب .(5/531)
صفحة رقم 532
ولما كان الساكت عن فاعل المنكر شريكاً له ، قال مؤكداً تنبيهاً علىالاهتمام بدرء المفاسد ، وأنه لا بد فيه من بلوغ الغاية : ( ولا تكونن من المشركين ) أي معدوداً في عدادهم بتوك نهيهم عن شركهم وما يتسبب عنه ساعة واحدة .
ولما كان الكائن من قوم موصوفاً بما تتصف به كل منهم ، وكانت مشاركتهم بالفعل أبعد من مشاركتهم بالسكوت ، قال من غير تأكيد : ( ولاتدع مع الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال ) إلهاً ( ولما كانت النكرة في سياق النهي تعم مكما لو كانت في سياق النفي ، وكان المشركون قد تعنتوا لما رأوا النيب ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو باسم الله واسم الرحمن كما ذكر آخر الإسارء ، قال : ( آخر ) أي غير الله حقيقة دون أن يغاير في الاسم دون الذات ، ومضى في آخر الحجر ، ويأتي إن شاء الله تعالى في الذريات ما سيتضح به هذا المعنى ، والمراد بهذا كله المبالغة في الإنذار إعلاماً بأن تارك النهي عن المنكر مع القدرة شريك للفاعل وإن لم يباشره ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قادر لحراسة الله تعالى له ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( لا إله إلا هو ) أي حتى يستحق أن يشتغل به عبد ؛ ثم علل وحدانيته بقوله : ( كل شيء هالك ) أي هو في قوة الهلاك والفناء ومستحق لذلك لأنه ممكن ) إلا وجهه ) أي هو ، فهو الباقي لأنه الواجب الوجود ، ووجود كل موجود إنما كان به ، ولعله عبر عن الذات بالوجه ليشمل ما قصد به من العمل الصالح مع ما هو معروف من تسويغه لذلك بكونه بكونه أشرف الجملة ، وبكون النظر إليه هو الحامل على الطاعة بالاستحيساء وما في معناه ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( له ) أي لله وحده فالضمير استخدام ) الحكم ) أي العمل المحكم بالعلم والنافذ على كل شيء ، ولا حكم لشيء عليه ) وإليه ( وحده ) ترجعون ( في جميع أحوالكم : في الدنيا بحيث أنه لا ينفذ لأحد مراد إلا بإرادته ، وفي الآخرة بالبعث فيجازي المحسن بإحسانه والعاصي بعصيانه ، ولا شك أن هذه الأوامر والنواهي وإن كان خطابها متوجهاً إليه ( صلى الله عليه وسلم ) قالمقصود بها اتباعه ، ولعلها إنما وجهت إليه ( صلى الله عليه وسلم ) عليه لأن أمر الرئيس أدعى لأتباعه إلى القبول ، وقد اتضح بهذا البيان ، في هذه المعاني الحسان ، أن هذا الكتاب مبين ، وبإنفاذ إرادته سبحانه وتعالى في تقوية أهل الضعف من بني إسررائيل دون ما أراد فرعون وقارون وأتباعهما من أهل العلو بطاعة الماء والتراب وما جمع العناصر من اليد والعصا أن له وحده الحكم على ما يريد ويختار ، فصح أن إليه الرجوع يوم المعاد يوم لا تكلم نفس غلا بإذنه ، فقد انطبق آخر السورة على أولها ، وانشرح مجملها بمفصلها .
.. . .(5/532)
صفحة رقم 533
سورة العنكبوت
العنكبوت : ( 1 - 4 ) الم
) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ( ( )
مقصودها الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعاء إلى الله تعالى وحمده من غير فترة ، كما ختمت به السورة الماضية ، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً ، لئلايكون مَثَلُ الفرج عند المتعوض عوضاً منه مَثَلَ العنكبوت ، فهي سورة ضعف الكافرين وقوة المؤمنين ، وقد ظهر سر تسميتها بالعنكبوت وأنه دال على مقصودها ) بسم الله ( الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده ) الرحمن ( الذي شمل جميع العباد بنعمة الأمر والنهي ) الرحيم ( الذي ألزم أهل العرفان ذروة الإحسان .
لما ختم السورة الماضية بالحث على العمل للدار الآخرة ، وأن كل أحد من محسن مسيء مجزى بعمله ، وبالإخبار بأنه سبحانه عالم بالسر والعلن ، بالأمر بالاجتهاد فيالدعاء إليه وقصر الهمم عليه وإن أدى ذلك إلى الملال ، وذهاب النفس والأموال ، معللاً بأن له الحكم سبحانه لأنه الباقي بلا زوال ، وكل ماعداه فإلى تلاش واضمحلال ، وأنه لا يفوته شيء في حال ولا مآل ، قال أول هذه : ( آلم ( إشارة بالألف الدال عل القائم الأعلى المحيط ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى انه سبحانه أرسل جبريل غلى محمد عليهما الصلاة والسلام ليدعو الناس بالقرآن الذي فرض عليه إلىالله ، لتعرف بالدعوة سرائرهم ويتميز بالتكليف محقهم ومماكرهم ) ) ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ( ) [ محمد : 31 ] .
ولما عبر بهذه الإشارة لأهل الفطنة والبصائر ، قال منكراً على من ظن أن مدعي الإيمان لا يكلف البيان ، ومفصلاً لما ختمت به تلك من جميع هذه المعاني ، بانياً على(5/533)
صفحة رقم 534
ما أشارت إليه الأحرف لأولي العرفان : ( أحسب الناس ) أي كافة ، فإن كلاًًّ منهم يدعي أنه مؤمن لمعنى أنه يقول : إنه على الحق ، ولعله عبر بالحسبان والنوس إشارة غلى أن فاعل ذلك مضطرب العقل منحرف المزاج .
ولما كان الحسبان ، لا يصح تعليقه بالمفردات ، وإنما يعلق بمضمون الجملة ، وكان المراد إنكار حسبان مطلق الترك ، كانت ( أن ) مصدرية عند جميع القراء ، فعبر عن مضمون نحو : تركهم غير مفتونين لقولهم آمناً ، بقوله : ( أن يتركوا ) أي في وقت ما بوجه من الوجوه ، ولو رفع الفعل لأفهم أن المنكر حسبان الترك المؤكد ، فلا يفيد إنكار ما عرى عنه ، وقد مضى في الكائدة ما ينفع هنا ) أن ( اي في أن ) يقولوا ( ولو كان ذلك على وجه التجديد والاستمرار : ( آمنا وهم ) أي والحال أنهم ) لا يفتنون ) أي يقع فتنتهم ممن له الأمر كله وله الكبرياء في السماوات والأرضن مرة لعد أخرى بأن يختبر صحة قولهم أولاً بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأحكام ، وثانياً بالصبر على البأساء والضراء عند الابتلاء بالمدعويم إلىالله في التحمل لأذاهم والتجرع لبلاياهم وغير ذلك من الأفعالن التي يعرف مرتبة الأقوال ، في الصحة والاختلال .
وقال الإمام ابوجعفر بن الزبير : افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بني إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة ، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم ، وانجرّ مع ذلك مما هو منه لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراق حال الطفولية وابتداء الرضاع وصبرها على اليم ذلك المذاق حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه ، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه الصلاة والسلام بأمر القبطي وخروجه خائفاً يترقب وحن عاقبته وعظيم رحمته ، وكل هذا ابتلاء أعقب خيراً ، وختم برحمة ثم بضرب آخر من الابتلاء أعقب محنة وأورث شراً وسوء فتنة ، وهو ابتلاء قارون بماله وافتنانه به ، فخسفنا به وبداره الأرض ، فحصل بهذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة ، وجرت منه سبحانه في عبادة ليميزالخبيث من الطيب ، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه إذ هو موجده وخالقه خيراً كان أو شراً ، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى بيانه بتعرف أحوال العباد أو يتوقف عمله على سبب
77 ( ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( ) 7
[ الملك : 14 ] ولكن هي سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء في الخير والشر ، وبه وقه افتتاحها واختتامها ، هذا وقد أنجز بحكم الإشارة أولاً خروج نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) (5/534)
صفحة رقم 535
من بلده ومنشأه ليأخذه عليه الصلاة ولاسلام بأوفر حظ مما ابتلي به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعليّ درجاتهم عليهم السلام ، ثم بشارته ( صلى الله عليه وسلم ) آخراً بالعودة والظفر
77 ( ) إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ( ) 7
[ القصص : 85 ] فأعقب سبحانه هذابقوله معلماً للعباد ومنبهاً أنها سنته فيهم فقال ) أحسب الناس أن يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم ، وظاهر إنابتهم ، ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات ، وضروب الاختبارات
77 ( ) ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ( ) 7
[ البقرة : 155 ] فإذا وقع الابتلاء فمنفريق يتلقون ذلك تلقي العليم أنذلك بمرضاة الشيطان ، والمسارعةة إلى الكفر والخذلان ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ( ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان ، فإذا أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه ، فكان عنهد مقاوماً بعذاب الله الصارف لمن ضربه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ( فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة ، وأشد في المحنة ، ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وطول مكايدتهم من قومهم ، فذكر نوحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام ، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء ، أما نوح عليه السلام فليث في قومه كما أخبر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل ، وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرمى بالمنجنيق في النار فكانت عليه برداً وسلاماً ، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين عليهم الصلاة والسلام وزبضروب من الابتلاءات حصلوا على ثوابها ، وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها ، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال ) فكلاًّ أخذنا بذنبه ( ثم وصى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأوضح حجته ، وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة انتهى .
ولما كان التآسي من سنن الآدميين ، توقع المخاطب بهذا الأمر الخبر عن حالهم في ذلك ، فقال مؤكداً لمن يظن أن الابتلاء لا يكون ، لأن الله غني عنه فلا فائدة فيه جاهلاً بما فيه من الحكمة بإقامة الحجة على مقتضى عوائد الخلق : ( ولقد ) أي أحسبوا والحال أنا قد ) فتنا ) أي عاملنا بما لنا من العظمة معاملة المختبر ) الذين ( .
ولما كان التآسي بالقريب في الزمان أعظم ، أثبت الجار في قوله : ( من قبلهم ) أي من قبل هؤلاء الذين أرسلناك إليهم من أتباع الأنبياء حتى كان الرجل منهم يمشط(5/535)
صفحة رقم 536
لحمه بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه ، ومن رؤوسهم صاحب أكثر السورة الماضية موسى عليه الصلاة والسلام ، ففي قصته حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال له حديث الفتون وهو في مسند أبي يعلى ، ومن آخر ما ابتلى به أمر قارون وأتباعه .
ولما كان الامتحان سبباً لكشف مخبآت الإنسان بل الحيوان ، فيكرم عنده أو يهان ، وأرشد السياق إلى أن المعنى : فلنفتنهم ، نسق به قوله : ( فليعلمن الله ( اي الذي له الكمال كله ، بفتنة خلقه ، علماً شهودياً كما كان يعلم ذلك علماً غيبياً ، ويظهره لعباده ولو بولغ في ستره ، وعبر بالاسم الأعظم الدال على جميع صفاتالكمال التفاتاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تنبيهاً للناقصين وهم أكثر الناس على أنه منزه عن كل لا يطلع عليه أحد ) الذين صدقوا ( في دعواهم الإيمان ولو كانوا في أدنى مراتب الصدق ، وليعلمن الصادقين ، وهم الصابرون الدين يقولون عند البلاء ) هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ( فيكون أحدهم عند الرخاء براً شكوراً ، وعند البلاء حراً صبوراً ، وليعلمن الذين كذبوا في دعواهم ) وليعملن الكاذيبن ) أي الراسخين في الكذب الذين يعبدون على حرف ، فإن اصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابيهم فتنة انقليوا على وجوههم ، فظنوا ، فيكون لكل من الجزاء على حسب ما كشف منه البلاء ، والتعبير بالمضارع لتحقق الاختبار ، على تجدد الأعصار ، لجمعي الأخبار والأشرار ، فمن لم يجاهد نفسه عند الفتنة فيطيع في السراء والضراء كان من الكافرين فكان في جهنم ) أليس في جهنم مثوى للكافرين ( ومن جاهد كان من المحسنين ، والآية من الاحتباك : دل بالذين صدقوا على الذين كذبوا ، وبالكاذبين على الصادقين ، ذكر الفعل أولا دليلاً على تقدير ضده ثانياً ، والاسم ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً .
ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة الدنيا ، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة ، فكان حاصل ما مضى من الاستفهامك أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أنم ذلك لا يكون في الأخرى ، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عبادة مجاناً ، فيكون خلقنا لهم عبثاُ لا حكمة فيه ، بل الحكمة في تركه ، وهذا الثاني هو معنى قوله منكراً أم حسب ، أو يكون المعنى أنه لما أنكر على الناس عموماً ظنهم الإهمال ، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم ، فكان الإنكار عليهم أشد ، فعادل الهمزة بأم في السياق الإنكار كما عادلها بها في قوله :
77 ( ) أتخذتم عند الله عهداً ( ) 7
[ البقرة : 80 ] الآية ، فقال : ( أم حسب ) أي ظن ظناً يمشي له ويستمر عليه ، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه ) الذين(5/536)
صفحة رقم 537
يعملون السيئات ) أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل منها بالنهي عنها ، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله : ( أن يسبقونا ) أي يقوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقد عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له ، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم ، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغره داخرين ، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساؤوا إليه منهم ، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم .
ولما أنكر هذا ، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيماً لإنكار فقال : ( ساء ما يحكمون ) أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلاً لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضاً ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم .
العنكبوت : ( 5 - 9 ) من كان يرجو. .. . .
) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( ( )
ولما خوف عباده المحسنين والمسيئين ، وضربهم بسوط القهر أجمعين ، أشار إلى التلويح بتهديدالكاذبين في التصريح بتشويق الصادقين فقال على سبيل الاستنتاج مما مضضى : ( من كان يرجو ( عبر به لأنالرجاء كافٍ عن الخوف منه سبحانه ) لقاء الله ) أي الجامع لصفات الكمال ، فلا يجوز عليه ترك البعث فإنه نقص ومنابذ للحكمة ، وشبه البعث باللقاء لانكشاف كثير من الحجب به وحضور الجزاء .
ولما كان المنكر للبعث كثيراً ، أكد فقال موضع : فإنه آت فليحذر وليبشر ، تفخيماً للأمر وتثبيتاً وتهويلاً : ( فإن أجل الله ) أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وجميع صفات الكمال المحتوم لذلك ) لآت ( لا محيص عنه ، فإنه لا يجوز عليه وقوع إخلاف الوعد ، ولذلك عبر بالاسم الأعظم ، وللإشارة إلى أن أهوال اللقاء لا يحيط لها العد ، ولا يحصرها حد ، فليتعد لذلك بالمجاهدة والمقاتلة لنفسه من ينصحها ، وقال تعالى : ( وهو ) أي وحده ) السميع العليم ( حثاً على تطهير الظاهر والباطن في العقد والقول والفعل .
ولما حث على العمل ، بين أنه ليس إلا لنفع العامل ، لئلا يخطر في خاطر ما(5/537)
صفحة رقم 538
يوجب تعب الدنيا وشقاء الآخرة من اعتقاد ما لا يليق بجلاله تعالى ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن أراح نفسه في الدنيا فإنما ضر نفسه : ( ومن جاهد ( اي بذل جهده حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة ) فإنما يجاهد لنفسه ( لأن نفع ذلك له فيتبعها ليريحها ، ويشقيها ليسعدها ، ويميتها ليحييها ، وعبر بالنفس لأنها الأمارة بالسوء ، وإنما طوى ما أدعى تقديره لأن السياق للمجاهدة ، ثم علل هذا الحصر بقوله : ( إن الله ( اي المتعالي عن كل شائبة نقص ) لغني ( وأكد لأن كثرة الأوامر ربما أوجبت للجاهل ظن الحاجة ، وذلك نكتة الإتيان بالاسم الأعظم ، وبين أن غناه الغنى المطلق بقوله موضع ( عنه ) ) عن العالمين ( فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية .
ولما كان التقدير : فالذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ، لكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء ، عطف عليه قوله : ( والذين آمنوا وعملوا ( تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم ، واشار بقوله : ( لنكفرن عنهم سيئاتهم ( إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد أن يزل لأنه مجبول على النقص ، فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم يؤت الكبائر ، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبي المختار ( صلى الله عليه وسلم ) .
وزاده فضلاً وشرفاً لديه ؛ قال البغوي : والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة ، أو لنغفرن لهم الشرك وما عملوا فيه ، وأكد لأن الإنسان مجبول على الانتقام ممن أساء ولو بكلمة ولو بالامتنان بذكر العفو فلا يكاد يحقق غير ما طبع عليه .
ولما بشرهم بالعفو عن العقاب ، أتم البشرى بالامتنان بالثواب ، فقال عاطفاً على ما تقديره : وانثبتن لهم حسناتهم ) ولنجزينهم ) أي في الإسلام ) أحسن الذي كانوا ( اي كوناً يجملهم على أتم الرغبة ) يعملون ) أي أحسن الجزاء ما عملوه في الإسلام وما قبله وفي طبعهم أن يعملوه .
ولما ذكر سبحانه أنه لا بد من الفتنة ، وحذر من كفر ، وبشر من صبر ، قال عاطفاً على ) ولقد فتنا ( مشيراً إلى تعظيم حرمة الوالد حيث جعلها في سياق تعظيمالخالق ، وإلى أنها أعظم فتنةك ) ووصينا ( على ما لنا من العظمة ) الإنسان ) أي الذي أعناه على ذلك بأن جعلناه على الأنس بأشكاله لا سيما من أحسن إليه ، فكيف بأعز الخلق عليه ، وذلك فتنة له ) بوالديه ( .
ولما كان التقدير : فقلنا له : افعل بهما ) حسناً ( اي فعلاً ذا حسن من برهما وعطف عليهما ، عطف عليه قوله : ( وإن جاهداك ) أي فعلاً معك فعل المجاهد مع من يجاهده فاستفرغا مجهودهما في معالجتك ) لتشرك ( وترك مظهر العظمة للنص على المقصود فقال : ( بي ( ونبهه على طلب البرهان في الأصول إشارة غلى خطر المقام(5/538)
صفحة رقم 539
لعظم المرام ، فقال استعمالاً للعدل ، مشيراً بنفي العلم إلى انتفاء العلوم : ( ما ليس لك به علم ( أصلاً بأنه يستحق الشركة فإن من عبد ما لم يعلم استحقاقه للعبادة فهو كافر ) فلا تطعهما ( فإنه لا طاعة لمخلوق وإن عظم في معصية الخالق ، وهذا موجب لئلا يقع من أحد شرك اصلاً ، فإنه لا ريب أصلاً في أنه لا سبهة تقوم على أن غيره تعالى يستحق افلهية ، فكيف بدليل يوجب علماً ، والمقصود من سياق الكلام إظهار النصفة والتنبيه على النصيحة ، ليكون أدعى إلى القبول ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إليّ مرجعكم ( اي جميعاً : من آمن ومن اشرك بالحشر يوم القيامة ؛ ثم سبب عنه قوله : ( فأنبئكم ) أي أخبركم إخباراً عظيماً مستقصى بليغاً ) بما كنتم ( اي برغبتكم ) تعملون ( اي فقفوا عند حدودي ، واتركوا ما تزينه لكم شهواتكم ، واحذروا مجازاتي على قليل ذلك وكثيره ، عبر سبحانه بالسبب الذي هو الإنباء لأنه لا مثنوية فيه عن المسبب الذي هو الجزاء ، مطلقاً للعبارة ، وتهديداً بليغاً على وجه الإشارة ، وطوى ذكره لأنه قد يدخله العفو ، وهذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، اسلم وكان باراً بامه ، فحلفت : لا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه أو تموت فيعير بها ويقال قاتل أمه ، فمكثت يومين بلباليهما فقال : ي أماه ، لو كنت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت وأصل القصة في الترميذي .
ولما كان التقدير : فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدينن ولكنه طواه لدلالة السياق عليه ، عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله : ( والذين آمنوا وعملوا ( في السراء والضراء ) الصالحات ( .
ولما كان الصالح في الغالب سيىء الحال في الدنيا ناقص الحظ منها ، فكان عدوه ينكر أ ، يحسن حاله أشد إنكار ، أكد قوله : ( لندخلنهم ( اي بوعد لا خلف فيه ) في الصالحين ( وناهيك به من مدخل ، فإنه من أبلغ صفات المؤمنين .
العنكبوت : ( 10 - 13 ) ومن الناس من. .. . .
) وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ(5/539)
صفحة رقم 540
لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) 73
( ) 71
ولما كانت ترجمة ما مضى من قسم الراجي والمجاهد والعامل للصالح : فمن الناس كما اشير إليه من يؤمن بالله ، فإذا أوذى في الله صبر واحتسب انتظاراً للجزاء من العلي الأعلى ، ولكنه حذف من كل جملة ما دل عليه بما ذكر في الأخرى ، عطف عليه : ( ومن الناس ) أي المذبذبين ) من يقول ) أي بلسانه دون طمأنينة من قلبه : ( آمنا بالله ) أي الذي اختص بصفات الكمال ، وأشار بعد الإيماء إلى كثره هذا الصنف بالإسناد غلى ضمير الجمع إلى أن الأذى في هذه الدار ضربة لازب لا بد منهن بقوله بأداة التحقيق : ( فإذا أوذي ( اي فتنة له واختباراً من أيَّ مؤذ كان ) في الله ) أي بسبب كونه في سبيل الله الذي لا يداينه في عظمته وجميع صفاته شيء ، ببلاء يسلط به عباده عليه ) جعل ( اي ذلك الذي ادعى الإيمان ) فتنة الناس ) أي بما له بما يصيبه من أذاهم في جسده الذي إذا مات انقطع أذاهم عنه ) كعذاب الله ) أي المحيط بكل شيء ، فلا يرجى الانفكاك منه ، فيصرف المعذب بعد الشماخة والكبر إلى الخضوع والذل ، لأن لا كفؤ له ولا مجير عليه ، فلا يطاق عذابه ، لأنه على كل من الروح والجسد ، لا يمكن مفارقته لهما ولا لواحد منهما بموت ولا بحياة إلا بإرادته حتى يكون عمل هذا المعذب عند عذاب الناس له الطاعة لهم في جميع مايأمرون به ظاهراً وباطناً ، فيتبين حينئذ أنه كلن كاذباً في دعوى الإيمان ، وقصر الرجاء على الملك الديان ، وأشار غلى أن الفتنة ربما استمرا إلى الممات وطال زمنها بالتعبير بأداة الشك ، وأكد لاستبعاد كل سامع أن يقع من أحد بهت في قوله : ( ولئن جاء نصر ) أي لحزب الله الثابتي الإيمان .
ولما كان الإحسان منه إنما هو محض امتنان ، فلا يجب عليه لأحد شيء ، عبر بما يدل على ذلك مشيراً إلى أنه يفعله لأجله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( من ربك ( اي المحسن إليك بنصر أهل دينك ، تصديقاً لوعدك لهم ، وإدخالاً للسرور عليك ، ولما كانت هذه الحالة رخاء ، عبر بضمي الجمع إشارة إلى نحو قول الشاعر :
وما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
فقال : ( ليقولن ) أي هؤلاء الذين لم يصبروا ، خداعاً للمؤمنين خوفاً ورجاءً وعبر في حالة الشدة بالإفراد لئلا يتوم أن الجمع قيد ، وجمع هنا دلالة على أنهم لا يستحيون من الكذب ولو على رؤوس الأشهاد ، وأكدوا لعلمهم أن قولهم ينكر لأنهم كاذبون فقالوا : ( إنا كنا معكم ( اي لم نزايلكم بقلوبنا وإن أطعنا أؤلئك بآلسنتنا .(5/540)
صفحة رقم 541
ولما كان التقدير : أليس أولياؤنا المتفرسون بأحوالهم عالمين ؟ عطف عليه منكراً قوله : ( أوليس الله ( الميحط بعلم الباطن كما هو محيط بعلم الظاهر ) بأعلم بما في صدور العالمين ) أي كلهم ، منهم فلا يخفى عليه شيء من ذلك إخلاصاً كان أو نفقاً ، بل هو أعلم من اصحاب الصدور بذلك .
ولما أنكر عدم العلم ، صرح بالعلم واعداً متوعداً ، عاطفاً عل ما افهمه السياق من نحو فقد علم الله جميع ما أخفوا وما أعلنوا : ( وليعلمن الله ( اي المحيط علماً وقدرة في عالم الشهادة حتى ينكشف ذلك لديكم كما هو عالم به في عالم الغيب ) الذين آمنوا ( اي وقع منهم إيمان ، وليعلمن المؤمنين إيماناً صادقاً بما يواليه عليهم من المحن ، وهم لا يزدادون إلا تسليماُ ورضى ، وأكده لما قدم من أن الناس حسبوا أنهم لا يفتنون ) وليعلمن ( الذي نافقوا وليعلمن ) المنافقين ( بمثل ذلك من الزلازل والفتن التي يميلون معها كيفما ميّلتهم ، حتى يعلم كل من يه لب أنه لا إيمان لهم كما أنه لا أيمان لهم ، ولا شك أنه يعامل كلاًّ من الفريقين بما يستحق على حسب ما يعلم من قبله ، والآية من الاحتباك كما مضى عند ) وليعلمن الله الذين صدقوا ( .
ولما كان السياق للفتنة والأذى في الله المحقق أمره بإذا دون ( أن ) وكان الكفار يفتنون من أسلم في أول الأمر ، ذكر سبحانه بعض ما كانوا يقولون لهم عند الفتنة جهلاً بالله وغروراً ، فقال معجباً منهم ، عاطفاً على ) ومن الناس من يقول ( : ( وقال الذين كفروا ( اغتراراً منهم بالله ، وجرأة على حماه المنيع ) للذين ) أي لطائفة من يقول بلسانه : آمنا بالله ، وهم الذين ) آمنوا ) أي حقيقة ، جهلاً منهم بما خالط قلوبهم من بشاشة الإيمان ، وأنوار العرفان : ( اتبعوا ) أي كلفوا أنفسكم بأن تتبعوا ) سبيلنا ) أي طريق ديننا ، وعطفوا وعدهم في مجازاتهم على ذلك بصيغة الأمر على أمرهم باتباعهم للدلالة على أنه محقق لا شك فيه فقالوا : ( ولنحمل خطاياكم ( بوعد صادق وأمر محتوم جازم ، إن كان ما تقولون حقاً إنه لا بد لنا من معاد نؤاخذ فيه بالخطايا ، ولو دروا لعمري ما الخبر ، يوم يقولون : لا مفر ، ما عرضوا أنفسهم لهذا الخطر ، يوم يود كل امرىء لو افتدى بماله وبنيه ، وعرسه وأخيه ، وصديقه وأبيه ، ويكون كلامهم - وإن كان أمراً - بمعنى الخبر لأنه وعد كذبه سبحانه لأن مهناه : إ ، كتب عليكم إثم حملناه عنكم بوعد لا خلف فيه ) وما هم ) أي الكفار ) بحاملين ( ظاهراً ولا باطناً ) من خطايكم ) أي المؤمنين ) من شيء ( وهم يقدرون أن لا يحملوا ، أو حملاً يخفف عنهم العذاب ، أي أنهم إذا عاينوا تلك الأحوال ، وطاشت عقولهم في بحار هاتيك الأهوال ، التي لا يقوم لها الجبال ، تبرؤوا ممن قالوا له هذا المقال ، فقد أخبروا بما لا يطابق(5/541)
صفحة رقم 542
الواقع ، ويجوز أن يكونوا تعمدوا الكذب حال الإخبار إ ، كانت نيتهم أنهم لا يفون على تقدير تحقق الجزاء .
ولما علم من هذا كذبهم بكل حال سواء تعمدوا أو لا ، صرح به تأكيداً لمضمون ما قبله ، مؤكداً لأجل ظن من غروه صدقهم في قوله : مستأنفاً : ( إنهم لكاذبون ( .
ولما كان كل نم أسلك أحداً طريقاً كان شريكه في عمله فيها ، فكان عليه مثل وزره إن كانت طريق ردى ، وله مثل أجره إن كانت سبيل هدى ، قال تعالى مؤكداً لإنكارهم الآخرة وكل ما فيها : ( وليحملن ) أي الكفرة ) أثقالهم ( التي حملوها أنفسهم الضعيفة بما اكتسبوا ) وأثقالاً ( أخرى لغيرهم ) مع اثقالهم ( بما تسببوا به من إضلال غيرهم ، ومن تأصيل السنن الجائرة الجارية بعدهم ، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص أحدهم من حمل الآخرة شيئاً .
ولما كان للسؤال على طريق الازدراء والإذلال ، من الرعب في القلب ما ليس للأفعال قال : ( وليسألن ( اي من كل من أمره المولى بسؤالهم ) يوم القيامة ) أي الذي هم به مكذبون ، وله مستهينون والتأكيد إما لإنكارهم ذلك اليوم ، أو لظن أن العالم لا يسأل عما يعلمه ، ) عما كانوا ( اي بغاية الرغبة ) يفترون ) أي يتعمدون كذبه ، ويُعلمون أفكارهم في ارتكابه ويواظبون عليه ، والتعبير بصيغة الافتعال يدل على أنهم كانوا يعلمون صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويتعمدون الكذب في وعدهم لمن غروه .
العنكبوت : ( 14 - 17 ) ولقد أرسلنا نوحا. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولماكان السياق للبلاء والامتحان ، والصبر على الهوان ، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي ، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء ، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى ، تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) واتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش ، فقال عاطفاً على ) ولقد فتنا الذين من قبلهم ( ما هو كالشرح له ، وله نظر عظيم إلى ) ) ولقد وصلنا لهم القول ( ) [ القصص : 51 ] وأكده دفعاً لوهم من يقول : إن القدرة غلى التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب : ( ولقد أرسنا ( اي على ما لنا من العظمة(5/542)
صفحة رقم 543
المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب ) نوحاً ) أي أول رسل الله الخافقين من العباد ، وهو معنى ) إلى قومه ( فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) أطول الأنبياء بلاء بهم ، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً : ( فلبث فيهم ) أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله ، وعظم الأمر بقوله : ( ألف ( فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه ، وعبر بلفظ ) سنة ( ذماً لأيام الكفر ، وقال : ( إلا خمسين ( فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة ، وقال : ( عاماً ( إشارة إلىأن زممان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً يإيمان المؤمنين وخصب الأرض .
ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل علىالامتثال وعدم الملال ، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له : ( فأخذهم ) أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة ) الطوفان ) أي من الماء ، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلىءكثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها ، والمراد هنا الماء ) وهم ظالمون ) أي عريقون في هذا الوصف ، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام ، بتكذيبهم رسولهم ، وإصرارهم على كفرهم ، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس لقتلهم لا يعدون ؛ ودل عليهم مسبباً عن ذلك بقوله : ( فأنجيناه ( اي نوحاً عليه السلام بما لنا من العظمة التي لا يغلبها شيء ) وأصحاب السفينة ( من أولاده وأتباعه ، من الغرق ، وماذا يبلغ مقدار أهل سفينة واحدة في العدة والكثرة ) وجعلناها ) أي الفعلة أو السفينة أي نسها وجنسها ، بتلك العظمة ) آية ( إي علامة على قدرة الله وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي ) للعالمين ( فإن لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا اشهر في تطبيق الماء جميع الرض ، بطولها والعرض ، وإغراق جميع من عليها من حيوان : إنسان وغير إنسان ، وإنجاء ناس فيهم بما هيأ قبلالفعل من سبب ذلك المستمر نفعه على تكرار الأحقاب وتعاقب الأزمان ، وكونها آية أما للآدميين الذين كانوا في ذلك الزمان فالأمر فيهم واضح ، وأما غيرهم من الحيوان فقد عرفوا لمعرفتهم بالجزيئات المشاهدة أن ذلك الماء لا ينجى منه في دار الأسباب إلا هذه السفينة ، فالهداية غلى فعلها للنجاة قبل وقوع سبب الهلاك دالة على تمام العلم وشمول القدرة ، وأن من اهتدىإليه دون أهل ذلك العصر كلهم إنما اهتدى بإعلام الله دون غيره ، ونصف الآية الأولى الأول من هذه القصة تسلية وتعزية دليلاً على آيتي الفتنة أول السورة ، ونصفها الثاني تحذير وتوقية ، وفيه دليل على الآية الثالثة ، والآية الثالثة ، والآية الأخرى تبشير وترجية ، وفيه دليل على ما بعد .(5/543)
صفحة رقم 544
ولما كان بلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام عظيماُ في قذفه في النار وإخراجه من بلاده ، أتبعه بع فقال : ( وإبراهيم ) أي ولقد أرسلنا إبراهيم ، ويجوز أن يكون التقدير : واذكر إبراهيم أباك العظم لتتأسى به وتتسلى ويتعظ قومك بقصته ، لكن قوله ) وإلى مدين ( يرجح الأول ، ودل على مبادرته للمتثال بقوله : ( إذ ( اي حين ، وهو بدل اشتمال على التقدير الثاني لاشتمال الأحيان على ما قبلها ) قال لقومه ( الذين هو منهم : ( اعبدوا الله ) أي الملك الأعظم بما يأمركم به من طاعته ) واتقوه ) أي خافوه في أن تشركوا به شيئاً فإنه يعذبكم ) ذلكم ( اي الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم ) خير لكم ) أي من كل شيء ) إن كنتم ) أي بما لكم من الغرائز الصالحة ) تعلمون ) أي إن كنتم في عداد الحيوانات العجم ، بل أضل ، فإنها تهتدي لما ينفعها فتقبل عليه ، وتسعى بجهدها إليه .
ولما أمرهم بماتقدم ، ونفى العلم عمن جهل خيريته ، دل عليه بقوله : ( إنما تعبدون ( ولما كان الله أعلى من كل شيء قال : ( من دون الله ) أي الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا ثاني ولا وزير ، وقال : ( أوثاناً ( إشارة إلى تفرق الهم بكثرة المعبود ، والكثرة يلزمها الفرقة ولا خير في الفرقة .
ومادة ( وثن ) بجميع تقاليبها وزاوية ويائية ومهموزة تدور على الزيادة والكثرة ، ويلزمها الفرقة نم اختلاف الكلمة ، فيلزمها حينئذ الرخاوة فيأتي العجز ، وتراكبيها تسعة : في الواوي الثلاثة / وثن ثنو ثون ، وفي اليائي ثلاثة : ثنى نثى ثقين ، وفي المهموز ثلاثة : أنث أثن نأث ، فمن الزيادة : الوثن ، قال القزاز : قال أبو منصور : الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة أو ذهب أو جوهر أو غيره ينحت فينصب فيعبد ، والصنم الصورة التي بلا جثة ، ومنهم من جعل الوثن صنماً - انتهى .
وقال عبد الحق : قال الهروي : قال ابن عرفة : ما كان له صورة من جص أو حجارة أو غير ذلك فهو وثن - انتهى .
فقد علم من ذلك أنه عليه .
وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة : الصنم تمثال من حجارة صوروا في الحائط أيضاً صورة إنسان فتسمى تلك الصورة أيضاً وثناً ، والنصارى يفعلون ذلك ويصورون في بيعهم صورة المسيح وصورة مريم ويسجدون لها : واستوثن المال : سمن ، فزاد لحمه ، واستوثن من المال : استكثر ، والنحل : صارت فرقتين صغاراً وكباراًن والإبل : نشأت أولادها معها ، وأوثن زيداً : أجزل عطيته ، والواثن : الشيء الثابت الدائم في مكانه ، فالزيادة فيه بالنسبة غلى زمانه ، ويمكن أن يكون من الرخاوة ، (5/544)
صفحة رقم 545
فإنه لا يثبت على هذه الصورة إلا ما لا قدرة له على حركة .
ومن الفرقة : نثا الحديث - بتقديم النزن - ينثوه وينثيه .
يائي وواوي : أشاعه وحدث به ، والشيء : فرقه وأذاعه ، وأنثى : اغتاب وأنف من الشيء ، ولا يؤنف منه إلا على تقدير نشره ، والثوينا كالهوينا : الرقيق يفرش تحت الرغيف ليسوى ويعدل لأن يكون ظلمه ، والتثاون : الاحتيال والخديعة ، فإنها لا تكون إلا عن جمع فكر وتنبيه نظر ، وهي أيضاً لا تكون إلا من عاجز عن الأخذ جهاراً ، ومن ذلك تثاون للصيد - إذا جاءه مرة عن يمينه وأخرى عن يساره ، والثني من كل شيء ما يثنى بعضه على بعض ، ومن الوادي : منعطفه ، واثنونى : انعطف ، والثناء ككتاب : عقال البعير ، وهو حبل مثنى يعقل به يد البعير فتثنى ، والفناء لأنه يكثر انتيابه والتردد إليه ، وثناء الشيء : قواه وطاقاته ، والاثنان : ضعف الواحد ، والمؤنث ثنتان ، وأصله ثنى ، والاثنين والثنى كإلى : يوم في الأسبوع ، وثنيته عن وجهه : رددته ، فصار له رجوع بعد ذهاب ، وثنيث الرجلين : صرت ثانيهما وأنت أحدهما ، ولا يقال : ثنيت فلاناً ، ولكن يقال صرت له ثانياً ، والمثاني : القرآن أو ثني منه مرة بعد مرة ، أوالحمد ، أو البقرة وآخرها براءة - هكذا عبر في القاموس ، وفي مختصر العين : ويقال : سور أولها البقرة وآخرها براءة ، وذكر في القاموس في ذلك أقولاً أخرى ، ومن أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى ، ومثنى الأيادي : إعادة المعروف مرتين فأكثر ، والثنية : العقبة أوطريقها أو الجبل أو الطريق فيه - لأنها بطلوعها ونزولها أو تعاريجها كأنها ثنيت مرتين ، والثنايا من الأسنان : الريع التي في مقدم الفم : ثنتان من فوقن وثنتان من أسفل ، والناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير ثنى ، والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة ، وكأن ذلك كله من عرض يعرض لثنيه الحيوان ، والثنية : النخلة المستثناة من المساومة ، والثنية والثناء ، وصف بمدح أو ذم ، أو خاص بالمدح ، وذلك لأنه يكرر ، والثين بالكسر : من يستخرج الدر من البحر ، لأنه يكرر الغوص حتى يجد ويفارق مكانه لذلك ويفرق الدر من مكانه ، والثين ايضاً : مثقب اللؤلؤ ، لأن الثقب يفرق بين أجزائها ولأن المثقب نفسه يحرك فيكثر من حركته إذا فعل به ذلك .
ومن مهموزة ؛ نث عنه : بعد ، والمنآث - بالضم ، المبعد ، والأثيت : الأصيل ، لأنه ثان لأصله ، ومن الرخاوة الأنثى خلاف الذكر ، والأنيت من الحديد الرخو وهو ما لم يكن ذكراً ، والمؤنث : المخنث ، والأنثيان : الخصيتان والأذنان ، وأرض أنيثة ومئناث : سهلة ، وسيف مئناث : كهام أي قليل لا يقطع - فقد تحرر أن المادة كلها دائرة على ما لا ينبغي لرتبة الإلهية من الكثرة والفرقة والرخاوة ، ولذلك أتى بصيغة الحصر ، وهو قصر قلب لسلب ما اعتقدوه فيها من الإلهية .(5/545)
صفحة رقم 546
ولما أشار لهم إلى عدم صلاحيتها لتلك الرتبة العلية ، والغاية الشماء السنية ، بكثرتها ، أشار لهم إلى قصورها أيضاً بتصويرها فقال بصيغة المضارع إشارة إلى ما يرى في كل وقت من تجدد حدوثها : ( وتخلقون ( اي تصورون بأيديكم ) إفكاً ) أي شيئاً مصروفاً عن وجهه ، فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع ، ومربوب وأنتم تعدونه رباً ، وعبد وأنتم تقيمونه معبوداً ، أو تقولون في حقها إنها آلاهة كذباً .
ولما كان الإنسان محتاجاً أبداً ، فكان لا يزال متوجهاً إلى من ينفعهن وكان قد أشار سبحانه إلى نقص معبوداتهم بنفي الخير عنها ، صرح بعجزها ، وأثبت اختصاصه بالخير ، لينتج اسحقاقه للعبادة دونها وأكده رداً لما كانوا يتوهمونه ن نفعها وضرها فقال : ( إن الذين تعبدون ( ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح ) من دون الله ( المحيط بصفات الكمال ، المنزه عن شوائب الاختلال الذي لا يمكن أن يملأ جميع ما تحت رتبته شيء فكيف برتبته الشماء ، وحضرته العلياء ) لا يملكون لكم ) أي وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم ) رزقاً ) أي شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه ، فتسبب عن ذلك قوله : ( فابتغوا ( وأشار بصيغة الافتعال إلى السعي فيه ، لأنه أجرى عادته سبحلنه أنه في الغالب لا يؤتيه إلا بكد من المرزوق وجهد ، إما في العبادة والتوكل ، وإما في السعي الظاهر في تحصيله بأسبابه الدنيوية ( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) .
ولما اشار إلى ذلك ، اشار إل الإجمال في الطلب ، وأن لا يعتقد أنهلا محالة في السبب ، وإنما الأمر مع ذلك بيده ، إن شاء أنجح وإن شاء خيب ، بقوله : ( عند الله ) أي الذي له كل صفة كمال ) الرزق ( اي كله ، فغنه لا شيء منه إلا وهو بيده ، وقد دخل فيه كل موجود ، فإن الكل خلق لذلك ، فأحكمت صنعته وربط بعضه ببعض ، فلو نقص منه شيء لاختل النظام ، فتبطل الأحكام ) واعبدوه ( اي عبادة يبلهان وهي ما كان خالصاً عن الشرك ، فإن من يكون كذلك يستحق ذلك ويثيب العابد له ، ويعاقب الزاهد فيه ، فلا يشغلكم ابتغاء الرزق بالأسباب الظاهرة عن عبادته ، فإنها هي الأسباب الحقيقية ، فربما حرم العبد الرزق بالذنب يصيبه ) واشكروا ( اي اوقعوا الشكر ) له ( خاصة على ما أفاض عليكم من النعم ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إليه ) أي وحده ) ترجعون ( اي معنى في الدنيا والآخرة بأنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه ، وحساً بالنشر والحشر بعد الموت بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي في الدارين .(5/546)
صفحة رقم 547
العنكبوت : ( 18 - 23 ) وإن تكذبوا فقد. .. . .
) وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ( )
ولماكان التقدير : فإن تصدقوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، عطف عليه قوله : ( وإن تكذبوا ( والذي دلنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف ) فقد ) أي فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه ) كذب أمم ( في الأزمان الكائنة ) من قبلكم ( كثيرة ، كعاد وثمود وقم نوح وغيرهم ، فجرى المر فيهم عل سنن واحد لم يختلف قط في نجاة والمطيع للرسول وهلاك العاصي له ، ولم يضر ذلك بالرسول شيئا وما ضروا به إلا أنفسهم ) وما على الرسول ( ان يقهركم بحيث لايبقى فيه شك ، بإظهار المعجزة وإقامة الدلة على الوحدانية .
ولما كان التقدير ك الم تروا إلى مصارعهم ؟ واتساق الحال في أمرهم ؟ فيكفيكم ذلك زاجراً ، عطف عليه للدلالة على الرجوع غليه منكراً قوله : ( أو لم يروا ( بالخطاب في قراءة حمزة والكسائي وفي رواية عن أبي بكر عن عاصم جرياً على النسق السابق ، وبالغيب للباقين ، إعراضاً للإيذان بالغضب ) كيف يبدىء الله ( اي الذي له كل كمال ) الخلق ) أي يجدد إبداءه في كل لحظة ، وهو بالضم من أبدأ ، وقرىء بالفتح من بدأ ، وهما معاً بمعنى الإنشاء من العدم ؛ قال القزاز : أبدأت الشيء ابدئه إبداء - إذا أنشأته ، والله المبدىء أي الذي بدأ الخلق ، يقال : بدأهم وأبدأهم ، وفي القاموس : بدأ الله الخلق : خلقهم كأبدأ .
ورؤيتهم للإبداء موجودة في الحيوان للإبداء والإعادة في النبات ، ولا فرق في الإعادة بين شيء وشيء فيكون قوله - ) ثم يعيده ( اي يجدد إعادته في كل لمحة - معطوفاً على ) يبدىء ( ولو لم يكن كذلك لكان عطفه عليه من حيث إن مشاهدة حال الابتداء جعلت مشاهدة لحال الإعادة من حيث إنه لا فرق ، ولا حاجة حينئذ إلى تكلف عطفه على الجملة من أولها .
ثم حقر أمره بالنسبة إلى عظيم قدرته ، فقال ذاكراً نتيجة الأمر السابق : ( إن ذلك ) أي الإبداء والإعادة ، وأكد لأجل إنكارهم ) على الله يسير ( لأنه الجامع لكل كمال ، المنزه عن كل شائبة نقص .
ولما ساق العزيزالجليل هذا الدليل ، عما حاج به قومه الخليل ، انتهزت الفرصة(5/547)
صفحة رقم 548
في إرشاد نبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، وذلك أنه لما استدل عليه السلام على الوحدانية المستلزمة للقدرة على المعاد بإبطال إلهية معبوداتهم المستلزم لإبطال كل ما شاكلهان فحصل الاستعاد للتصريح بأمر المعاد ، فصرح به ، كان ذلك فخراً عظيماً ، ومفصلاً بيناً جسيماً ، لإقامة الحجة على قريش وسائر العرب ، فانتهزت فرصته واقتحمت لجته ، كما هي عادة البلغاء ، ودأب الفصحاء الحكماء ، لأن ذلك كله إنما سيق تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووعظاً لقومه فقيل : ( قل ) أي يا محمد لهؤلاء الذين تقيدو بما تقلدوا من مذاهب آبائهم من غير شبهة على صحته أصلاً : قد ثبت أن هذا كلام الل لما ثبت من عجزكم عن معارضته ، فثبت أن هذا الدليل كلام ابيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنتم مصرحون بتقليد الآباء غير متحاشين من معرته ولا أب لكم أعظم من إبراهيم عليه الصلاة و السلام ، فإذا قلدتم من لا يفارقه في عبادة ما لا يضر ولا ينفع من غير شبهة اصلاً فقلدوا أباكم الأعظم في عبادة الله وحده لكونه أباكم ، ولما أقام على ذلك من الأدلة التي لا مراء فيها قال : أو ) سيروا ( إن لم تقتدوا بأبيكم غبراهيم عليه السلام ، وتتأملوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع ) في الأرض ( إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم .
ولما كان السياق لإثبات الإلهية التي تجب المبادرة غلى تفريغ الفكر وتوجيه كل الذهن إلى الاستدلال عليهان عبر بالفاء المعقبة فقال : ( فانظروا ) أي نظر اعتبار ) كيف بدأ ( اي ربكم الذي خلقكم ورزقكم ) الخلق ( من الحيوانات والنبات من الزروع والأشجار ، وغيرها مما تضمنه الجبال والسهول والأوعار ، وهذا يدل على أن الأول فيما هو أعم من الحيوان ، فتقريرهم على الإعادة فيه حسن .
ولما كان المقصود بالذات بيان الإعادة التي هي من أجل مقاصد السورة ، لإظهار ما مضى أولها من العدل يوم الفصلن وكانوا بها مكذبين ، بين الاهتمام بأمرها بإبراز الاسم الأعظم بعد تكريره في هذا السياق غير مرة ، وأضمره في سياق البداءة لإقرارهم له بها ، إشارة غلى أنه باطن في هذه الدار ، ظاهر بجميع الصفات في تلك ، فقال : ( ثم الله ) أي الحائز لجميع صفات الكمال فلا يفوته شيء ، المتردي بالجلال ، فاخشوا سطوته ، واتقوا عقوبته ونقمته ) ينشىء النشأة الآخرة ( بعد النشأة الأولى .
ثم علل ذلك بقوله مؤكداً تنزيلاً لهم منزلة المنكر لإنكاره البعث : ( إن الله ( فكرر ذكره تنبيهاً بعد التيمن به على ما ذكره وعلى أنه في كل أفعاله لا سيما هذا المطلق غير مقيد بجهة من الجهات ، ولا مشروط بأمر من الأمور ) على كل شيء قدير ( لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة .(5/548)
صفحة رقم 549
ولما ثبت ذلك ، انتج لا محالة قوله : مهدداً بعد البيان الذي ليس بعده إلا بعده العناد : ( يعذب ( بعدله ) من يشاء ) أي منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة ، فلا يقدر أحد بشفاعة ولا غيرها على الحماية منه ) ويرحم ( بفضله ) من يشاء ( فلا يقدر أحد على أن يمسه بسوء ) وإليه ) أي وحده ) تقلبون ( اي بعد موتكم بأيسر سعي .
ولما لم يبق للقدرة على إعادتهم مانع يدعي إلا مما نعتهم منها ، أبطلها على تقدير ادعائهم لها فقال : ( وما أنتم ) أي أجمعون العرب وغيرهم ) بمعجزين ) أي بواقع إعجازهم في بعثكم وتعذيبكم ) في الأرض ( كيفما تقلبتم في ظاهرها وباطنها .
ولما كان الكلام هنا له أتم نظر غلى ما بعد البعث ، وكانت الأحوال هناك خارجة عما يستقل به العقل ، وكان أثر القدرة أتم وأكمل ، وأهم وأشملن وكان بعض الأرواح يكون في السماء بعد الموت قال : ( ولا في السماء ) أي لو فرض انكم وصلتم إليها بعد الموت بالحشر أو قبله ، لأن الكل بعض ملكهن فكيف يعجزه من في ملكه ، ويمكن أن يكون له نظر غلى قصة نمرود في بنائه الصرح الذي اراد به التوصل غلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبلها ومن بعدها .
ولما اخبرهم أنهم مقدور عليهم ، وكان ربما بقي احتمال أن غيرهم ينصرهم ، صرح بنفيه فقال : ( وما لكم ( اي أجمعين أنتم وغيركم ايها المحشورون ، وأشاتر إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله : ( من دون الله ) أي الذي هو أعظم من كل عظيم ؛ وأكد النفي بإثبات الجار فقال : ( من ولي ( اي قريب يحميكم لأجل القرابة ) ولا نصير ( لشيء غير ذلك لأنه لا كفوء له .
ولما كان التقدير : فالين آمنوا بآيات ربهم ولقائه أولئك يرجون رحمتي وأرلئك لهم نعيم مقيم ، وكان قد أمرهم بالاستدلال ، وهددهم ليرجعوا عن الضلال ، بم أبقى للرجال بعض المحال ، اتبعه ما قطعه ، فقال عاطفاً على ذلك المقدر : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما أظهرته لهم أنوار العقول ) بآيات الله ) أي دلائل الملك الأعظم المرئية والمسوعة التي لا أوضح منها ) ولقائه ( بالبعث بعد الموت الذي اخبر به وأقام الدليل على قدرته عليه بما لا أجلى منه ) أؤلئك ) أي البعداء البغضاء البعيدو الفهم المحطوطون عن رتبة الإنسان ، بل رتبة مطلق الحيوان ) يئسوا ) أي تحقق يأسهم من الآن ، بل من الأزل ، لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً ؛ ولا قال أحد منهم ) رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ( .
ولما كان أكثرهم متعنتاً ، بين أن المتكلم بهذا الكلام ، العالي عن متناول الأنام ، (5/549)
صفحة رقم 550
هو الله المنوه باسمه في هذا النظام ، بالالتفات إلى أسلوب التلكم ، تنبيهاً لمفات السامعين بما ملأ الصدور ةقصم الظهور فقال : ( من رحمتي ) أي من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم ؛ وكرر الإشارة تفخيماً للأمر فقال : ( أولئك ) أي الذين ليس بعد بعدهم بعد ، وتهكم بهم في التعبير بلام الملك التي يغلب استعمالهما في المحبوب فقال : ( لهم عذاب إليم ) أي مؤلم بالغ إيلامه في الدنيا والآخرة .
العنكبوت : ( 24 - 27 ) فما كان جواب. .. . .
) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ( )
ولما ختم سبحانه هذه الجملة الاعتراضية بما ابتدأها به وبما ختم به ما قبلها من كلام الخليل عليه الصلاة والسلام ، وزاد هذا ما ترى من التهديد الشديد ، شرع في إكمال قصته عليه الصلاة والسلام دالاً على أنه لا أحد يعجزهن ولا يقدر على نصر أحد من عذابه الأليم ، مشيراً إلى أنهم سببوا عن قوله ضد ما يقتضيه إذاناً بالعناد ، والإصرار علة سوء الإعتقاد ، فقال : ( فما كان جواب قومه ) أي الذين يرجى قبولهم لنصحه علماً منهم بوفور شفقته وعظم أمانته ونصيحته ) إلا أن قالوا ( بأعظم فظاظة ) اقتلوه ) أي بالسيف ) أو حرقوه ) أي بالنار .
ولما استقر رأي الجميع على هذا الثاني ، ولم يكن له فيهم نصير ، أشار إليه سبحانه بقوله ناسقاً له على ما تقديره : فأبى المعظم القتل لأنه عذاب مألوف لمن يستحقه م المجرمينن وهو قد عمل عمله مفردة في الدهر فالذي ينبغي أن يخص العذاب عليها لم يعهد مثله وهو الإحراق على هيئة غريبة ، فرجعوا عن القتل واستقر رايهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملأ ما بين الجبال ، وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال ، وقذفوه فيها بالمنجنيق ) فأنجاه الله ( بما له من كمال العظمة إنجاء وحيّاً من غير احتياج إلى تدريج ) من النار ) أي من إحراقها وأذاها ، ونفعته بأن أحرقت وثاقه .
ولما اشتملت قصته بهذا السياق على دلائل واضحات ، وأمور معجزاتن عظم(5/550)
صفحة رقم 551
أمرها سبحانه بقوله مؤكداً لمزيد من التنويه بذكرها ، وتنزيلاً في توقفهم عما دعتت إليه الآيات الظاهرة من الإيمان منزلة المنكر لها : ( إن في ذلك ( اي ما ذكر من أمره وما خللت به قصته من الحكم ) لآيات ) أي براهين قاطعة في الدلالة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني ، لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مر عليها من طائر ، ومع رؤيته ذلك لم يؤمنوا ولم يقدروا على ضرره بشيء غير ذلك .
ولما كان ما للشيء إنما هو في الحقيقة ما ينفعه ، وكان قد حجبها سبحانه بالشهوات والحظوظ الشاغلة عن استعمال ور العقل ، قال : ( وقال ( ي إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير هائب لتهديدهم بقتل ولا غيره ، مؤكداً لأجل ما أشار إليه مما ينكرونه من ضعف شركائهم وعجزها : ( إنما اتخذتم ) أي أخذتم باصطناع وتكلف ، وأشار لى عظمة الخالق وعلو شأنه بقوله : ( من دون الله ) أي الذي كل شيء تحت قهره ، ولا كلفة - في اعتقاد كونه رباً - باحتياج إلى مقدمة جعل وصنعة ولا غير ذلك ، وقال : ( أوثاناً ( إشارة إلى تكثرها الذي هو مناف لرتبة الإلهية ؛ وأشار إلى ذلك النفع بقوله : ( مودة ) أي لأجل مودة - عند من نصب سواء ترك التنوين وهم حمزة وخفص عن عاصم وروح عن يعقوب أو نوّن وهم الباقون ) بينكم ( من خفضه على الاتساع ورفع ( مودة ) وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب كان المعنى : هي مودة اللبين الجامع لكم بمعنى مودتكم على وجه أبلغ ، لأن المودة إذا كانت لبين جامع الناس كانت لأؤلئك الناس بطريق الأولى ، ومن خفضه ونصبها وهم حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب فالمعنى : لأجل المودة ، ومن نصبها ونوّن وهم نافع وابن عامر وأبو جعفر وشعبة فالبين عنده ظرف ) في الحياة الدنيا ( بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم ، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرة ، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جداً ، لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس ، بما فيها من الإلباس ، وعظيم البأس .
ولما أشار غلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضر ، ذكر ما يعقبه من الضر البالغ ، (5/551)
صفحة رقم 552
فقال معبراً بأداة البعد إشارة إلى عظيم ذلك اليوم ، وإلى أنه جعل لهم في الحياة أمداً يمكنهم فيه السعي للتوقي من شر ذلك اليوم : ( ثم يوم القيامة ( ساقه مساق ما لا نزاع فيه لما قام عليه من الأدلة ) يكفر بعضكم ببعض ( فينكر كل منهم محاشن أخيه ، ويتبرأ منه بلعن الأتباع القادة ، ولعن القادة الأتباع ، وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها لا ضر ولا نفع لها ، وتقرون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها ، وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم ) ويلعن بعضكم بعضاً ( على ما ذكر ) ومأواكم ( جميعاً أنتم والأوثان ) النار ( لتزيد في عذابكم ويزداد بغضكم لها ) وما لكم ( وأعرق في النفي فقال : ( من ناصرين ( أصلاً يحمونكم منها ، ويدخل في هذا كل من وافق أصحابه من أهل المعاصي أو البطالة على الرذائل ليعدوه حسن العشرة مهذب الأخلاق لطيف الذات ، أو خوفاً من أن يصفوه بكثافة الطبع وسء الصحبة ، ولقد عم هذا لعمري أهل الزمان ليوصفوا بموافاة الإخوان ومصافاة الخلان ، معرضين عن رضى الملك الديان .
ولما كان في سياق الابتلاء ، وذكر من الأنبياء من طال ابتلاؤهن بين أنه لم يكن لهم من أممهم تابع يقدر على نصرهم ، وأن الله سبحانه تولى كفايتهم فلم يقدر واحد على إهلاكهم ، وأهلك أعدائهم ، فلم يكن لهم من ناصرين فقال : ( فآمن ( اي لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات ) لوط ) أي ابن أخيه هاران وحده ، وهو أول من صدقه من الرجال ) وقال ) أي غبراهيم عليهما لاصلاةوالسلام مؤكداً لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها : ( إني مهاجر ) أي خارج من أرضي وعشيرتي على وجه الهجر لهم فمنتقل ومنحاز ) إلى ربي ) أي إلى أرض ليس بها أنيس ولا عشير ، ولا من ترجى نصرته ، ولا من تنفع مودته ، فحينئذ يتبين الرضى بالله وحده ، والاعتماد عليه دون ما سواه ، فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدسة ، فكانت له هجرتان ، وهو أول من هاجر في الله ، قال مقاتل : وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة .
ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل وده من ذوي رحمة وأنسابه وأولى قربه ، فقال مؤكداً تسكيناً لمن عساه يتبعه وتهويناً عليه لفراق ما ألقت النفوس من أنه لا عز إلا به من العشائر والأموال والمعارف : ( إنه هو ) أي وحده ) العزيز ) أي فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه ) الحكيم ( فهو إذا أز أحداً منعته حكمته من التعرض له بإذلال ، بفعل أو مقال ، كما صنع بي حين اراد إذلالي من كان جديراً بإعزازي من عشيرتي وأهل قربى ، وبالغ في أذاي ممن كان حقيقاً بنفعي من ذوي رحمي وحبي .(5/552)
صفحة رقم 553
ولما كان التقدير : فأعززناه كما ظن بنا إعزازاً أحكمناه حتى استمر في عقبه إلى القيامة ، عطف عليه قوله : ( ووهبنا له ) أي بجليل قدرتنا شكراً على هجرته ) إسحاق ( من زوجته سارة عليها السلام التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس بكبرها ، وعطفه لهبته له بالواو دليل على ماسيأتي إن شاء الله تعالى في الصافات من أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاةوالسلام لتعقيبه للهبة هناك على الهجرة بالفاء ) ويعقوب ( منولده إسحاق عليهما الصلاة والسلام .
ولما كان السياق في هذه السورة للامتحان ، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ابتلي في إسماعيل عليه الصلاة والسلام بفراقه مع امه رضي الله عنهما ووضعهما في قضيعة من الأرض لا أنيس بها ، لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان ، وأفرد إسحاق عليه الصلاة والسلام لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك ، ولأن المنة به - لكون أمه عجوزاً وعقيماً - أكبر وأعظم لأنها أعجب ، وذكر إسماعيل عليه الصلاة والسلام تلويحاً في قوله : ( وجعلنا ( اي بعزتنا وحكمتنا ) في ذريته ( من ولد إسحاق وإسماعيل عليهما الصلاةوالسلام ) النبوة ( فلم يكن بعده نبي أجنبي عنه ، ومتى صحت هذه المناسبة لزم قطعاً ن يكون الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه أعرى ذكر هذه السورة منه ، ويكون كأنه قيل : إنا بشرناه بما يسرّ به من إسحاق بعد أن أمرناه بما يضر من إسماعيل عليهما السلام فصبر في محنة الضراء ، وشكر في محنة السراء ) والكتاب ( فلم ينزل كتاب إلا على أولاده ، وأفرد ليدل - مع تناوله بالجنسية الكتب الأربعة - على أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها ، أو كان راجعاً إليه ، ولو جمع لم يفد عليه هذا المعنى ) وآتيناه أجره ( على هجرته ) في الدنيا ( بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزقن ورغد العيشن وكثرة الخدم ، والولد في الشيخوخة ، وكثرة النسل ، والثناء الحسنن والمحبة من جميع الخلق ، وغير ذلك .
ولما كان الكافر يعتقد - لإنكاره البعث - أنه نكد حياته بالهجرة نكداً لا تدارك له ، اقتضى الحال التأكيد في قوله : ( وإنه في الآخرة ) أي التي هي الدار وموضع الاستقرار ) لمن الصالحين ( الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة .
العنكبوت : ( 28 - 32 ) ولوطا إذ قال. .. . .
) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَتْ(5/553)
صفحة رقم 554
رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان - كما مضى - السياق للابتلاء ، خص بالبسط في القص من لم يكن له ناصر من قومه ، أو كان غريباً منها ، ولذلك أتبع الخليل عليه الصلاة والسلام ابن أخيه الذي أرسله الله إلى أهل سدوم : ناس لا قرابة له فيهم ولا عشيرة ، فقال : ( ولوطاً ) أي أرسلناه ، وأشار إلى إسراعه في الامتثال بقوله : ( إذ ( اي وأرسناه حين ) قال لقومه ( أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه ، حين فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما السلام ، منكراً ما رأى من حالهم ، وقبيح فعالهم ، مؤكداً له إشارة إلى أنه - مع كونه يرونه من أعرف المعارف - جدير بأن ينكر : ( إنكم لتأتون الفاحشة ) أي المجاوزة للحد في القبح ، فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها .
ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقولهك ) ما سبقكم ( أو هي حال مبنية لعظيم جرأتهم على المنكر ، أي غير مسبوقين ) بها ( وأعرق في النفي بقوله : ( من أحد ( وزاد بقولهك ) من العالمين ) أي كلهم فضلاً عن خصوص الناسح ثم كرر الإنكار تأكيداً لتجاوز قبحها الذي ينكرونه فقال : ( أئنكم لتأتون الرجال ( إتيان الشهوة ، وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر ، بياناً لاستحقاق الذم من وجوه ، فأوجب حالهم ظن أنهم وصلوا من الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر ، فقال ) وتقطعون السبيل ) أي بأذى الجلابين والمارة .
ولما خص هذين الفسادين ، عم دالاً على المجاهرة فقال : ( وتأتون في ناديكم ) أي المكان الذي تجلسون فيه للتحدث بحيث يسمع بعضكم نداء بعض من مجلس المؤانسة ، وهو ناد ما دام القوم فيه ، فإذا قاموا عنه لم يسم بذلك ) المنكر ) أي هذا الجنس ، وهو ما تنكره الشرائع والمروءات والعقول ، ولا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى ، من غير أن يستحي بعضكم من بعض ؛ ودل على عنادهم بقوله مسبباً عن هذه النصائح بالنهي عن تلك الفضائح : ( فما كان جواب قومه ) أي الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم ، ويتقي أذاهم وضرهم ، لما أنكر عليهم ما أنكر ) إلا أن قالوا ( عناداً وجهلاً واستهزاء : ( ائتنا بعذاب الله ( وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجرأة .
ولما كان الإنكار ملزوماً للوعيد بأمر ضار قالوا : ( إن كنت ) أي كوناً متمكناً ) من الصادقين ) أي في وعيدك وإرسالك ، إلهاباً وتهييجاً .(5/554)
صفحة رقم 555
ولما كان كأنه قيل : بم أجابهم ؟ قيل : ( قال ) أي لوط عليه الصلاةوالسلام معرضاً عنهم ، مقبلاً بكليته على المحسن إليه : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ ) انصرني على القوم ) أي الذين فيهم من القوة ما لا طاقة لي بهم معه ) المفسدين ( بإتيان ما تعلم من القبائح .
ولما كان التقدير : فاستجبنا له فأرسلنا رسلنا بشرى لعمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام ، تحقيقاً لانتقامنا من المجرمين ، وإنعامنا على الصالحين ، ولابتلائنا لمن نريد من عبادنا حيث جعلنا النذارة مقارنة للبشارة ، عطف عليه قوله : ( ولما جاءت ( وأسقط ( أن ) لأنه لم يتصل المقول بأول المجيء بل كان قبله السلام والإضافة ؛ وعظم الرسل بقولهك ) رسلنا ) أي من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم ولما جاؤوا به ) إبراهيم بالبشرى ) أي بإسحاق ولداً له ، ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما الصلاة والسلام .
ولما كان المقام للابتلاء والامتحان ، أجمل البشرى ، وفصل النذري ، فقال : ( قالوا ( اي الرسل عليهم الصلاة والسلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم ، جواباً لسؤاله عن خطبهم ، تحقيقاً لأن أهل السيئات مأخذون ، وأكدوا لعلمهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام يود أن يهديهم الله على يد ابن أخيه ولا يهلكهم ، فقالوا : ( إنا مهلكو ( وأضافوا تحقيقاً لأن الأمر قد حق وفرغ منه فقالوا : ( أهل هذه القرية ( ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إن أهلها ( مظهرين غير مضمرين إفهاماً لأن المراد أهلها الأضلاء في ذلك ، إخراجاً للوط عليه السلام : ( كانوا الظالمين ) أي عريقين في هذا الوصفن فلا حيلة في رجوعهم عنه .
ولما كان السامع بحيث يتشوف إلى معرفة ما كان بعد ذلك ، كان كأنه قيل : لم يقنع الخليل عليه السلام لخطر المقام بهذا التلويح ، بل ) قال ( مؤكداً تنبيهاً على جلالة ابن أخيه ، وإعلاماً بشدة اهتمامه به ، وأنه ليس ممن يستحق الهلاك ، ليعلم ما يقولون في حقه ، لأن الحال جد ، فهو جدير بالاختصارك ) إن ( وأفهم بقوله : ( فيها لوطاً ( دون ، منهم ، أنه نزيل تدرجاً إلى التصريح بالسؤال فيه ، وسؤالاً في الدفع عنهم بكونه فيهم ، لأنه بعيد عما عللوا به الإهلاك من الظلم ، ) قالوا ) أي الرسل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( نحن أعلم ) أي منك ) بمن فيها ) أي من لوط وغيره .
ولما كان كلامهم محتملاً للأنجاء والإرداء ، صرحوا بقولهم على سبيل التأكيدن لأن إنجاءه من بينهم جدير بالاستبعاد : ( لننجينه ) أي إنجاءاً عظيماً ) وأهله ( ولما أفهم هذا امرأه استثنوها ليكون ذلك أنص على إجاء غيرها من جميع أهله فقالوا : ( إلا(5/555)
صفحة رقم 556
امرأته ( فكأنه قيل : فما حالها ؟ فقيل : ( كانت ) أي جبلة وطبعاً ) من الغابرين ) أي الباقين في الأرض المدمرة والجماعة الفجرة ، ليعم وجهها معهم الغبرة .
العنكبوت : ( 33 - 38 ) ولما أن جاءت. .. . .
) وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ آلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ( ( )
ولما لم يبق بعد هذا إلا خبر الرسل مع لوط عليه الصلاة والسلام ، قال عاطفاً على ما تقديرهك ثم فارقوه ومضوا إلى المدينة التي فيها لوط عليه السلام ، مفهماً بالعدوا عن الفاء إلى الواو أن بين المكانين بعداً : ( ولما ( وأثبت ما صورته صورة الحرف المصدري لما اقتضاه مقصود السورة ، وأكثر سياقتها بين التسليك في مقام الامتحان والاجتهاد في النهي عن المنكر ، ولذا ذكر هنا في قصة إبراهيم عليه السلام القتل والإحراق ، وأتبعت بشراء بإهلاك القرية الظالمة ، فقالك ) أن جاءت رسلنا ) أي المعظمون بنا ) لوطاً ( بينا لأنه ) سيىء ( اي حصلت له المساءة من غير ريب لما رأى من حسن أشكالهم ، وخاف من تعرض قومه لهم ، وهو يظن أنهم من الناس ، وذلك أن أن في مثل هذا صلة وإن كان أصلها المصدر لتؤكد وجود الفعلين مرتباً وجود أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما فإنها وجدا في جزء واحد من الزمان ، قال ابن هشام في المغني ما معناه أن علة ذلك أن الزائد يؤكد معنى ما جيء به لتأكيده ، ولما تقيد وقوع الفعل الثاني عقيب الأول وترتبه عليه فالحرف الزائد يؤكد ذلك .
) وضاق بهم ) أي بأعمال الحلية في الدفع عنهم ) ذرعاً ) أي ذرعة طاقتهم كما بين وأشبع القول فيه في سورة هود عليه السلام ، والأصل في ذلك أن من كالت ذراعه نال مالا يناله قصيرها ، فضرب مثلاً في العجز والقدرة ، وذلك أنهم أتوه في صورة مردان ملاح جداً ، وقد علم أمر أهل القرية في مثل ذلك ولم يعلم أنه رسل الله .
ولما كان التقدير : فقالوا له : يا لوط إنا رسل ربك ، فخفض عليك من هذا الضيق الذي نراه بك فإنا ما ارسلنا إلا لإهلاكهم ، عطف عليه قوله : ( وقالوا ) أي لما(5/556)
صفحة رقم 557
رأوا ما لقي في أمرهم : ( لا تخف ) أي من أن يصلوا إلينا أو من أن تهلك أنت أو أحد من أهل طاعتك ولا تحزن أي على أحد ممن نهلكه فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليهم بسببه ؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد للإغناء به عن جمل طوال ، إشارة إلى ان الوقت أرق فهو لا يحتمل التطويل : ( إنا منجوك ) أي مبالغون في إنجائك ) وأهلك ) أي ومهلكوا أهل هذه القرية ، فلا يقع ضميرك أنهم يصلون إلينا ، وقالوا : ( إلا امرأتك ( تنصيصاً على كل فرد منهم سواها ؛ ثم دلوا على هلاكها بقولهم جواباً لمن كأنه قال : ما لها ؟ فقيل : ( كانت من الغابرين ( اي كأن هذا الحكم في أصل خلقتها .
ولما أفهمت العبارة كما مضى إهلاكهم ، صرحوا به فقالوا معينين لنوعهن معللين لما أخبروه به ، مؤكدين إعلاماً بأن الأمر قد فرغ منه قطعاً لأن يشفع فيهم ، جرياً على عادة الأنبياء في الشفقة على أممهم : ( إنا منزلون ) أي لا محالة ) على أهل هذه القرية رجزاً ) أي عذاباً يكون فيه اضطراب شديد يضطرب منه من أصابه كائناً من كان ) من السماء ( فهو عظيم وقعه ، شديد صدعه ) بما كانوا ) أي كوناً راسخاً ) يفسقون ( أس يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء .
ولما كان التقدير : ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم ، فتركناها ، كأن لم يسكن بها أحد قط ، عطف عليه قوله مؤكداً إشارة إلى فضيلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم ، وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الإنخلاع من الهوى : ( ولقد تركنا ( بما لنا من العظمة ) منها ) أي من تلك القرية ) آية ( علامة على قدرتنا على كل ما نريد ) بينة ( وهو الماء الأسود المنتن الذي غمر قراهم كلها بعد الخسف بها وهو مباين لجميع مياه الأرض لكونه ماء السخط لمن باينوا بفعلهم الخلق مع اشتهار كونه على الخسف .
ولما كان سبحانه قد حجب عن الأبصار كثيراً من الناس قال : ( لقوم يعقلون ( فعد من لم يستبصر به عير عاقل ولا شاعر بأنها آية ولا فيه أهلية القيام بما يريد .
ولما كان السياق لإثبات يوم الدين وإهلاك المفسدين ، ولمن طال ابتلاؤه من الصالحين ولم يجد له ناصراً من قومه ، إما لغربته عنهم ، وإما لقلة عشيرته لتسميتهم وعدم أتباعه ، وكان شعيب عليه السلام ممن استضعفه قومه واستقلوا عشيرته لتسميتهم لهم رهطاً ، والرلهط ما دون العشرة أو من شبعة إلى عشرة ، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر ، فكان عليه السلام كذلك في هذا العداد ، عقب قصة لوط بقصته عليه الصلاة والسلام فقال : ( وإلى ) أي ولقد أرسلنا إلى ) مدين أخاهم ( اي من النسب والبلد ) شعيباً ( .(5/557)
صفحة رقم 558
ولما كان مقصود السورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير فترة ، عبر بالفاء فقال : ( فقال ) أي فتسبب عن إرساله وتعقبه أن قال : ( يا قوم اعبدوا الله ) أي الملك الأعلى وحده ، ولا تشركوا به شيئاًن فإن العبادة التي فيها شرك عدم ، لأن الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً .
ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال : ( وارجوا اليوم الآخر ) أي حسن الجزاء فيه لتفعلوا ما يليق بذلك ) ولا تعثوا في الأرض ( حال كونكم ) مفسدين ) أي متعمدين الفساد .
ولماتسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم فتسبب عنه وتعقبه إهلاكهم ، تحقيقاً لأن أهل السيئات لا يسبقون قالك ) فكذبوه فأخذتهم ) أي لذلك أخذ قهر وغلبة ) الرجفة ) أي الصيحة التي زلزلت بهم فأهلكتهم ) فأصبحوا في دراهم ) أي محالهم التي كانت دائرة بهم وكانوا يدورون فيها ) جاثمين ) أي واقعين على صدورهم ، لازمين مكاناً واحداً ، لا يقدرون على حركة أصلاً ، لأنه لا أرواح لهم .
ولما كان من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشر على نسق ، والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق ، وكان إهلاك عاد وثمود - لما اشتهروا به من قوة الأبدان ، ومتانة الأركان - في غاية الغرابة ، وكان معنى ختام قصة مدين : فأهلكناهم ، عطف عليه على ذلك المعنى قوله : ( وعاداً ) أي وأهلكنا ايضاً عاداً ) وثموداً ( مع ما كانوا فيه من العتو ، والتكبر والعلو ) وقد تبين لكم ) أي ظهر بنفسه غاية الظهور أيها العرب أمرهم ) من مساكنهم ) أي ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدة الأجسام ، وسعة الأحلام ، وعلو الاهتمام ، وثقوب الأذهان ، وعظيم الشأن ، عند مروركم بتلك المساكن ، ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام ، فصرفوا أفكارهم في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا ، فأملوا بعيداً ، وبنوا شديداً ، ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله ) وزين لهم ( في غاية التزيين ) الشيطان ( اي بعيد من الرحمة ، المحترق باللعنة ، بقوة احتياله ، ومحبوب ضلاله ومحاله ) أعمالهم ) أي الفاسدة ، فأقبلوا بكليتهم عليها مع العدو المبين ، وأعرضوا عن الهداة الناصحين .
ولما تسبب عن هذا التزيين منعهم لعماهم عن الصراط المستقيم قال : ( فصدهم عن السبيل ) أي منعهم عن سلوك الطريق الذي لا لا طريق إلا هو ، لكونه يوصل إلى النجاة ، وغيره يوصل إلى الهلاك ، فهو عدم بل العدم خير منه .
ولما كان ذلك ربما ظن أنه لفرط غباوتهم قال : ( وكانوا ) أي فعل بهم الشيطان ما فعل من الإغواء والحال أنهم(5/558)
صفحة رقم 559
كانوا فيه في غاية التمكن ) مستبصرين ( اي معدودين بين الناس من البصراء العقلاء جداً لما فاقوهم مما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا ، ولم يسبقونا ، بل أوقعناهم بعملهم السيئات فيما اردنا من أنواع الهلكات ، فاحذروا مثل مصارعهم فإنكم لا تشابهونهم في القوة ، ولا تقاربونهم في العقول .
العنكبوت : ( 39 - 41 ) وقارون وفرعون وهامان. .. . .
) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان لفرعون ومن ذكر معه من العتو بمكان لا يخفى ، لما أتوا من القوة بالأموال والرجال قال : ( وقارون ) أي أهلكناه وقومه لأن وقوعه في أسباب الهلاك أعجب ، لكونه من بني إسرائيل ، ولأنه ابتلى بالمال والعلم ، فكان ذلك سبب إعجابه ، فتكبر على موسى وهاورن عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه ) وفرعون وهامان ( وزيره الذي أوقد له على الطين ، فلا هو نجا ولا كان رأساً في الكفر ، بل باع سعادته بكونه ذنباً لغيره .
ولما كان هلاكهم مع رؤية الآيات أعجب ، فكان جديراً بالإنكار ، إشارة إلى أن رؤية الآيات جديرة بأن يلزم عنها الإيمان قال : ( ولقد جاءهم موسى بالبيانات ) أي التي لم تدع لبساً فتسببوا عما يقتضيه من الاستبصار الاستكبار ) فاستكبروا ) أي طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم افعال من يطلب ذلك ) في الأرض ( بعد مجيء موسى عليه الصلاة والسلام إليهم أكثر مما كانوا قبله .
ولما كان من يتكبر - وهو عالم بأنه مأخوذ - أشد لوماً ممن يجهل ذلك قال : ( وما كانوا ( اي الذين ذكروا هذا كلهم ، كوناً ما ) سابقين ) أي فائتين ما نريدهم ، بأن يخرجوا من قبضتنا ، بل هم في القبضة كما ذكرنا أول السورة وهم عالمون بذلك ) فكلاً ) أي فتسبب عن تكذيبهم وعصيانهم أن كلاَّ منهم ) أخذنا ) أي بما لنا من العظمة ) بذنبه ( أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا ) فمنهم من أرسلنا عليه ( إرسال عذاب يا له عذاب ) حاصباً ) أي ريحاً ترمى لقوة عصفها وشدة قصفها بالحجارة كعاد وقوم لوط ) ومنهم من أخذته ( أخذ هلاك وغضب وعذاب ، وعدل عن أسلوب(5/559)
صفحة رقم 560
العظمة لئلا يوهم الإسناد في هذه إليه صوتاً ليوقع في مصيبة التشبيه ) الصيحة ( التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود ) ومنهم من ( وأعاد أسلوب العظمة الماضي لسلامة من الإيهام المذكور في الصيحة وللتنبيه على أنه لا يقدر عليه غير الله سبحانه ففيه من الدلالة على عظمته ما يقصر عنه الوصف فقال : ( خسفنا به الأرض ( بأن غيبناه فيها كقارون وجماعته ) ومنهم من أغرقنا ( بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وجنوده ، وعذاب قوم لوط صالحٌ للعد في الإغراق والعد في الخسف ، فتارة نهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط ، أو من الأرض كعاد ، وأخرى بريح تقرع بالصرخة الأسماع فتزلزل القلوب والبقاع ، ومرة نبيد بالغمس في الكثيف وكرة بالغمر في اللطيف - فللّه درّ الناظرين في هذه الأوامر النافذة ، والمتفكرين في هذه الأقضية الماضية ، ليعلموا حقيقة قوله ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ( - الآية .
ولما كان ذلك ربما جر لأهل التعنت شيئاً مما اعتادوه في عنادهم قال : ( وماكان الله ( اي الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا هو وله ) ليظلمهم ) أي مريداً ليعاملهم معاملة الظالم الذي يعاقب من لا جرم له ، أو من أجرم ولم يتقدم إليه بالنهي عن إجرامه ليكف فيسلم ، أو يتمادى فيهلك لأنه لا نفع يصل إليه سبحانه من إهلاكهم ، ولا ضرر يلحقه عز شأنه من إيفائهم ) ولكن كانوا ( اي هم لا غيرهم ) أنفسهم ( لا غيرها ) يظلمون ( بارتكابهم ما أخبرناهم غير مرة أنه يغضبنا وأنا نأخذ من يفعله ، فلم يقبلوا النصح مع عجزهم ، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم ، وأما ما عبدوه ورجوا نصره لهم وأملوه فأضعف منهم ، ولكون شيء منه لم يغن عن أحد منم شيئاً فلم تختل سنة الله في أوليائه وأعدائه في قرن من القرون ولا عصر من العصور ، بل جرت على أقوم نظام ، واتقن إحكام ، وصل بذلك قوله تعالى على وجه الاستنساخ : ( مثل الذين ( .
ولما كان دعاء غير الله مخالفاً لقويم العقل ، وصريح النقل ، وسليم الفطرة وصصحيح الفكرة فكان ذلك يحتاج إلى تدرب غلى الجلافة ، وتطبع في الكثافة ، قال : ( اتخذوا ( اي تكلفوا أن أخذوا .
ولما كانت الرتب تحت رتبته سبحانه لا تحصى ، وكل الرتب دون رتبته ، قال منبهاً على ذلك بالجار : ( من دون الله ) أي الذي لا كفوء له ، فرضوا بالدون ، عوضاً عمن لا تكفيه الأوهام والظنون ) أولياء ( ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها ، في الضعف والوهي ) كمثل العنكبوت ( الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال ؛ ثم استأنف ذكر وجه الشبه وعبر عنها بالتأنيث وإن كانت تقال بالتذكير تعظيماً لضعفها ، (5/560)
صفحة رقم 561
لأن المقام لضعف ما تبنيه فقال : ( اتخذت بيتاً ( اي تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ، ويحميها البلا ، كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم لينفعوهم ، ويحفظوهم بزعمهم ويرفعوهم ، فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره ، وتعبها الشديد في شأنه ، في غاية الوهن .
ولما كان حالها في صنعها حال من ينكر وهنه ، قال مؤكداً : ( وإن ( و واوه للحال من ضمير - ) اتخذت ) أي والحال أنه أوهن - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر للتعميم فقال : ( أوهن البيوت ( اي أضعفها ) لبيت العنكبوت ( التي عانت في حوكه ما عانت وقاست في نسجه ما قاست ، لأنه لا يكنّ من حر ، ولا يصون من برد ، ولا يحصن عن طالب ، كذلك ما اتخذ هؤلاء من هذه الأوثان ، وهذا الدين الذي لا أصل له فهو أوهن الأديان وأهونها ) لو كانوا يعلمون ) أي لو كان لهم ما من العلم لاتنفعوا به فعلموا أن هذا مثلهم ، فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله .
العنكبوت : ( 42 - 46 ) إن الله يعلم. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ( )
ولما انتفى نفعهم بعلمهم ، صح نفيه ، فكانوا وإياها على حد سواء ، ليس لفريق منهما شيء مما نوى ، فيا لها من صفقة خاسرة ، وتجارة كاسدة بائرة .
ولما كان ضرب المثل للشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء ، وكان النصير على شيء لا يمكن أن يتوجه إلى معارضته إلا أن إلا إن كان يعلمه ويعلم مقدار قدرته ، وعدة جنوده ، وصل بذلك أن هذا شأنه سبحانه وأن شؤكاءهم في غاية البعد عن ذلك ، فكيف يعلقون بنصرهمم آمالهم ، وزاد ذلك حسناً تعقيبه لنفي العلم عنهم ، فقال إشارة إلى جهلهم في إنكارهم أن يقدر أحد على إهلاك آلهتهم التي هي أو هي الأشياء : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يعلم ( بما له من تلك الصفات ) ما ( اي الذي ) يدعون ( اي الذين ضرب لهم المثل ، أو أنتم - في قراءة الفوقانية التفاتاً إلى أسلوب الخطاب إيذاناً بالغضب ) من دونه ( إشارة إلى سفول رتبتهم ، وأكد العموم بقوله : ( من شيء ) أي سواء كان نجماً(5/561)
صفحة رقم 562
أو صنماً أو ملكاً أو جنياً أو غيره ، وهم لا يعلمونه ولا يعلمون شيئاً مما يتوصلون إليه ، فكيف يشفعون عنده أو ينصرون منه ، وإليه الإشارة بقوله : ( وهو العزيز ( اي عن أن يعلمه يعلمه شركاؤهم أويحيط به أحداً علماً ، أو يمتنع عليه شيء يريده ؛ وجوزوا ان تكون ما نفية ، أي شيء يعتد به .
ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال : ( الحكيم ) أي البالغ العلم ، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه ، فابطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه ، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيرهن وهو يغلب من شاء بعزته ، ويمهله إن شاء بحكمته ، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله .
ولما فرغ من مثلهم ومما تتوقف صحته عليه ، كان كأنه قيل على وجه التعظيم لهذا المثل : هذا مثلهم فعطف عليه قوله إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعليّ شأنها : ( وتلك الأمثال ( اي العالية عن أن تنال بنوع احتيال ؛ ثم استأنف قوله : ( نضربها ( بما لنا من العظمة ، بياناً ) للناس ( تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات ، لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها ، وهكذا حال التشبيهات كلها في طرق للإفهام إلى المعاني النحتجبة في الأستار ، تبرزها وتكشف عنها وتصورها .
ولما كانوا يتهكمون بما رأوه من الأمثال مذكوراً به الذباب والبعوض ونحوهما قال مجملاً لهم : ( وما يعقلها ) أي حق عقلها فينتفع بها ) إلا العالمون ) أي الذين هيئوا للعلم وجعل لهم طبعاً بما بث في قلوبهم من أنواره ، وأشرق في صدورهم من أسراره ، فهم يضعون الأشياء مواضعها ؛ روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله لعيه وسلم قال : ( العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتن سخطه ) قال البغوي : والمثل كلام شائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول .
ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه ، ولا ناصر لمن أخذ ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة ، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستوي على غاية البيان ، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه ، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله ، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف ) خلق الله ) أي الذي لا يداني في(5/562)
صفحة رقم 563
عظمة ولا جلال ، ولا جمال ولا كمال ) السماوات والأرض بالحق ) أي الأمر الذي يطابقه الواقع ، أو بسبب إظهار أن الواقع يطابق إخباره ، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل ، فلا تجد أحداً يفهم عنه حق الفهم مع تساويهم في الإنسانية إلا وهو من أهل السكينة ، والإخبات والطمأنينة ، ولا يعجزه أحد عصى أنبياءه ، فبانتعزته ، وظهرت حكمته ، فطابق الواقع ما أخبر به ، وأيضاً فالأمثال إنما تكون بالمحسوسات ، وهي إما سماوية أو أرضية ، فإيجاد هذه الموجودات إنما هو لأجل العلم بالله تعالى .
ولما كان المراد بالعالم قد يخفي ، بينه بقوله مشيراً بالتأكيد إلى أن حالهم في عدم الانتفاع بالنظر فيها حال من ينكر أن يكون فيها دلالة : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم من تأملهم لمطابقة الواقع لإخباره سبحانه ، فلا يخبر بشيء إلا كان الواقع منهما أو مما فيهما يطابقه سواء بسواء ) لآية ) أي دلالة مسعدة ) للمؤمنين ) أي الذين هم العالمون في الحقيقة ، حداهم علمهم بما في الكونين من المنافع المترتبة على النظام المعروف مع ما في خلقهما أنفسهما مع كبر الأجرام وبديع الإحكام ، على الإيمان بجميع ما أخبر به حتى لم يكن عندهم نوع شك ، وصار لهم صفة لا تنفك .
ولما افاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأ ، مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : ( اتل ما ) أي تابع قراءته ؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله : ( أوحي إليك ( إذ الوحي الإلقاء سراً ) من الكتاب ) أي الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمرهن ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد .
ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : ( وأقم الصلاة ) أي التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : ( إن الصلاة تنهى ) أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها ) عن الفحشاء ) أي الخصال ألتي بلغ قبحها ) والمنكر ) أي الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن(5/563)
صفحة رقم 564
تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غير
77 ( ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( ) 7
[ البقرة : 282 ] .
ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : ( ولذكر الله ) أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال ) أكبر ( اي من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه ( إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه ) أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيراً ، كما قال تعالى ) فاذكروني أذكركم ( وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه غلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر .
ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) قد نزه عن ذلك كله لما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم بما غسل به قلبه نم ماء الحكمة ، وغير ذلك من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) يعلم ) أي في كل وقت ) ما تصنعون ( من الخير والشر ، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حنى بصير طبعاً صحيحاً ، ومقصوداً صريحاً .
ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية ، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه ، فربما اضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس ، بما له عندهم من القبول ، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل ، وبما للشيطان في ذلك من التزيين ، وكان الجدال يورث الإجن ، ويفتح أبواب المحن ، فيحمل على الضلال ، قال تعالى عاطفاً على ) اتل ( نخاطباً لمن ختم الآية بخاطابهم تنزيهاً لمقامه ( صلى الله عليه وسلم ) عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك ، لأنه ليس في طبعه المجادلة ، والمماراة والمغالبة : ( ولا تجادولوا أهل الكتاب ( اي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين ، أو يزيد في اليقين ، أو يرد أحداً عن ضلال مبين ) إلا بالتي ) أي بالمجادلة التي ) هي أحسن ( اي بتلاوة الوحي الذي امرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط ، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان
77 ( ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ( ) 7
[ الإسراء : 53 ] .(5/564)
صفحة رقم 565
ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً ، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى : ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة ، أو مصدقاً لشيء منها ، أو بقولهم ) ) ما أنزل الله على بشر من شيء ( ) [ الأنعام : 91 ] ونحو هذا من افترائهم ، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف ، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه .
ولما نهى عن موجب الخلاف ، أمر بالاستعطاف ، فقال : ( وقولوا آمنا ( اي أوقعنا الإيمان ) بالذي أنزل إلينا ) أي من هذا الكتاب المعجز ) وأنزل إليكم ( من كتبكم ، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف ، وأنفى للخلاف .
ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين ، أتبعه بما يجمعهما فقال : ( وإلهنا وإلهكم ( ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد به الله ، لأن المسلمين لا يعبدون غيره ، وكان جميع الفرق مقرين بالإلهية ولو بنوع إقرار لم تدع حاجة إلى أن يقول ) إله ( كما في بقية الآيات فقال : ( واحد ( إلى لا إله لنا غيره وإن ادعى بعضكم عزيراً والمسيح ) ونحن له ( خاصة ) مسملون ) أي خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ، ولا تنخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابة وسنة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فنكون حينئذ قد خضعنا لهم وتكبرنا عليه فأوقعنا الإسلام في غير موضعه ظلماً .
العنكبوت : ( 47 - 50 ) وكذلك أنزلنا إليك. .. . .
) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما كان التقدير تعليلاً للأمر بهذا القول : إنا أنزلنا كتبهم إلى رسلهم ، عطف عليه قوله مخاطباً للرأس تخصيصاً له لئلا يتطرق لمتعنت طعن عموم أو اتهام في المنزل عليه : ( وكذلك ( اي ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم ) أنزلنا إليك الكتاب ((5/565)
صفحة رقم 566
أي هذا القرآن الذي هو الكتاب في الحقيقة ، لا كتاب غيره في علو كماله ، في نظمه ومقاله ، مصدقاً لما بين يديه : ( فالذين ) أي فتسبب عن إنزالنا له على هذا المنهاج أن الذين ) آتيناهم ( اي إيتاءاً يليق بعظمتنا ، فصاروا يعرفون الحق من الباطل ) الكتاب ( اي من قبل ) يؤمنون به ) أي بهذا الكتاب حقيقة كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما ، أو مجازاً بالمعرفة به مع الكفر كحيي بن أخطب وخلق كثير منهم ) ومن هؤلاء ) أي العرب ) من يؤمن به ( أس كذلك في الحقيقة والمجاز في المعرفة بالباطن بأنه حق لما اقامه من البرهان على ذلك بعجزهم عن معارضته مع الكفر به ، وأدل دليل على ما أردته من الحقيقة والمجاز قوله : ( وما يجحد ) أي ينكر من الفريقين بعد المعرفة ، قال البغوي : قال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة .
) بآياتنا ( التي حازت أقصى غايات العظمة حتى استحقت الإضافة إلينا ) إلا الكافرون ) أي العريقون في ستر المعارف بعد ظهورها طمعاً في إطفاء نورها .
ولما اشار إلى أن المنكر لأصل الوحي متوغل في الكفر ، دل على ذلك بحال المنزل إليه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مسلياً له : ( وما ) أي أنزلناه إليك والحال أنك ما ) كنت تتلوا ) أي تقرأ مواصلاً مواظباً في وقت ما .
ولما كان المراد نفي التلاوة عن كثير الزمن الماضي وقليله ، أدخل الجار فقال ) من قبله ( اي هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ؛ وأكد استغراق الكتب فقال : ( من كتاب ( أصلاً ) ولا تخطه ) أي تجدد وتلازم خطه ؛ وصور الخط وأكده بقوله : ( بيمينك ) أي التي هي أقوى الجارحتين ، وعبر بذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة ئفي أمره لعاقل إلا بالمواظبة لمثل ذلك مواظبة قوية ينشأ عنها ملكة ، فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ، ولذلك قال : ( إذاً ) أي إذ لو كان شيء من هذه المواظبة في التلاةو أو الخط التي يحصل بها الدربة الموروثة للملكة ) لارتاب ) أي لساغ أن تلكف أنفسهم لدخول في الريب أي الشك ) المبطلون ) أي هؤلاء الذين ينكرون الوحي إليك من أهل الكتاب ومن العرب ، ويقولون : هو سجع وكهانة وشعر وأساطير الأولين ، العريقون في وصف الإبطال ، أي الدخول في الباطل ، فكانوا يجدون مطعناً ، فتقول العرب : لعله اخذه من كتب الأقدمين ، ويقول الكتابيون : المبشر به عندنا أمي .
ولكنه لم يكن شيء من قراءة ولا خط كما هو معروف من حالك فضلاً عن الماظبة لشيء منهما ، فلا ريبة في صداقك في نسبته إلى الله تعالى ، وإذا انتفت الريبة من أصلها صح نفي ما عندهم منها ، لأنه لما لم يكن لهم في الواقع شبهة ، عدت ريبتهم عدماً ، وسموا مبطلين على تقدير هذه الشبهة ، لقيام المعجزات القاطعة بالرسالة ، القاضية(5/566)
صفحة رقم 567
بالصدق ، كما قضت بصدق أنبيائهم مع أنهم يكتبون ويقرؤون ، وكتبهم لم تنزل للإعجاز ، فصح أنهم يلزمهم الاتصاف بالإبطال بالارتياب على كل تقدير من تقديري الكتابة والقرءة وعدمهما ، لأن العمدة على المعجزات .
ولما كان التقدير : ولكنه لا ريبة لهم أصلاً ولا شبهة ، لقولهم : إنه باطل ، قال : ( بل هو ) أي القرآن الي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير ) آيات ( اي دلالات ) بينات ) أي واضحات جداً في الدلالة على صدقك ) في صدرو الذين ( ولما كان المقصود المبالغة في تعظيم العلم ، بني للمفعول ، أظهر ما كان أصله الإضمار فقال : ( أتوا العلم ( دلالة على أنه العلم الكامل النافع ، فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم لا أثر له ، ولما كان المراد بالعلم النافع ، قال إشارة إلى عظمته فقال : ( بآياتنا ) أي ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجحده أحد ) إلا الظالمون ) أي الراسخون في الظلم الذي لا ينتفعون بنورهم في وضع كل شيء في محله ، بل هم في وضع الأشياء في غير محلها كالماشي في الظلام الذي تأثر عن وصفهم أولاً بالكفر الذي هو تغطية أنوار العقول .
ولما كان التقدير : فجحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم أصلاً ورأساً ، ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات ، عطف عليه قوله : ( وقالوا ( موهمين مكراً وإظهار النصفة بالاكتفاء بأدنى ما يدل على الصدق : ( لولا ) أي هلا ) أنزل عليه ) أي على أي وجه كان من وجوه الإنزال ) آية ) أي واحدة تكون بحيث تلد قطعاً على صدق الآتي بها ) من ربه ) أي الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله من نحو ناقة صالح عصا موسى ونحوهما ، انستدل به على صدق مقاله ، وصحة ما يدعيه من حاله هذا على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وأبي بكر بالإفرادن وجمع غيرهم دلالة علة أن فريقاً آخر قالوا : إن مثل هذا المهم العظيم لا يثبت إلا بآيات متعددة ، وأوهموا مكابرة وعناداً أن ذلك لم يقع ، وإن وقع ما يسمى آية .
ولما كان هذا الإنكار للشمس بعد شروقها ، ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها ، أشار إليه بقوله : ( قل ) أي لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء : ( إنما الآيات عند الله ) أي الذي له الأمر كله فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره ، فإنما الإله هو لا سواه ) وإنما أنا نذير ( أقوم لكم بما حملني وكلفني من النذارة ، دالاً عليه بما أعطيت من الآيات ، على أن(5/567)
صفحة رقم 568
المقصود من الآية الدلالة على الصدقن وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ولم يذكر البشارة لأنه ليس أسلوبها ) مبين ) أي اوضح ما آتى به من ذلك بعد أن أوضح صحة كوني نذيراً ، فليس إليّ إنزال الآيات ولا طلبها اقتراحاً على الله ، فهو قصر قلب فيهما ، خوطب به من لزمه ادعاء أن إنزال الآيات إليه ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أمره الإتيان بما يريد أو يطلب منه .
العنكبوت : ( 51 - 55 ) أو لم يكفهم. .. . .
) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما أفرحهم بما كأنه تسليم لمدعاهم ، وكان من البين أن لسان الحال يقول : ألم يكفهم ما جئتهم به من الآيات المرئيات والمسموعات ، وعجزوا عن الإتيان بشيء منها ، عطف على ذلك قوله منكراً على جهلهم وعنادهم : ( أو لم يكفهم ) أي إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين آية بينة مغنية عن كل آية ) أنا أنزلنا ( بعظمتنا ) عليك الكتاب ) أي الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاُ لك غالباً على حركاتك وسكانتك ) يتلى عليهم ) أي يتجدد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وكل زمان من كل تالٍ مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك ، يتحدّون بك لشيء نزل منه مع تحديهم بما فبله من آياته صباح مساء ، يفعون بذلك مدى الدهر في أقفائهم ويدفعون ، فكلما أرادوا التقدم ردوا عجزاً إلى ورائهم ن فأعظم به آية باقية ، إذ كل ىية سواه منقضية ماضيةن وقال الشيخ أبو العباس المرسي : خشع بعض الصحابة رضي الله عنهم من سماع اليهود بقراءة التوراة وفي كلام الله فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء .
ولما كان هذا أعظم من كل آية يقترحونها ولو توالى عليهم إتيانها كل يوم لدوام هذا على مر الأيام والشهور ، حتى تفنى الأزمان والدهور ، أشار تعالى " لى هذا العظمة ، مع ما فيها من النعمة ، بقوله مؤكداً على جهلهم فيما لزم من كلامهم الأول من إنكار أن يكون في القرآن آيه تدلهم على الصدق : ( إن في ذلك ) أي إنزال الكتاب على(5/568)
صفحة رقم 569
هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال ) لرحمة ( لهم لصقله صدأ القلوب في كل لحظة ، وتطهيره خبث النفوس في كل لمحة ) وذكرى ) أي عظيمة مستمراً تذكرها .
ولما عم بالقول ، خص من حيث النفع فقال : ( لقوم يؤمنون ) أي يمكن أن يتجدد لهم إيمان ، ليس من همهم التعنت ، قال الحرالي في كتاب له في أصول الدين : ولما كان القرآن لسان إحاطة لم يف بالقيام به خلق من خلق الله ، لأنه ببناء على كليه أمر الله حتى أن السورة الواحدة منه لما كان موقع الخطاب بها من مدد بنائه على إحاطة أمر الله لا يستطيعها أحد من الخلق ، وإذا كان الأقل من كلام العالم لا يستطيعه مندون رتبته ، فعجز الخلق عن كلام الله أحق وأولى ، ثم كل ناظر فيه - من أيّ وجه نظره - أدرك بمقتضى علوه على رتبته وجهاً من العجز فيه ، إن كان فصيحاً بليغاً فمن جهة البلاغة ، ومعناها بلوغ الكلام في مطابقة أنبائه ويسمى الفصاحة ، وحسن نظم حروف كلماته ويسمى الجزالة ، وكمال انتظام كلماته وآياته ، ويسمى حسن النظم - إلى أنهى غاياته وأتم نهاياته ، وإن كان عالماً بأخبار الأولين فبصحة مقتضاها فيه ، وإن كان حكيماً فبالإعلام الأتم بوجه تقاضي المترتبات ، وبالجملة فما يكون لأحد اصل من عقل وحظ من علم - أي علم كان - إلا ويجد له موقعاً في القرآن ، يفي له بحظ بيان علو مرتبة أنبائه على نهاية مدركة منه بمقدار لا يرتاب في وقوعه فوق طور الخلق ، فكان آية باقية دائمة لم يتفاوت في تلقيه أول سامع له من آخر سامع في وجه سماعه ، فكل نبي فقدت آيته بفقده أو بفقد وقت ظهورها على يديه ، وآية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باقية ببقاء الله ، فجهات ظهور إعجازه تأتي على حظوظ أصناف الخلق من وجوه الإدراك ، لا يتعين لظهور الإعجاز فيه جهة ، ولا يفقد ناظر فيه حظاً يتطرق بمقدار إدراكه منه إلى يقين وجه إعجازه ، وذلك لما كان محيطاً بكل تفصيل وكل إجمال ، ولم يفرط فيه من شيء ، وكان تفصيلاً لكل شيء ولإحاطته بإثبات كل رتبة من رتب حكمة الله تعالى لم يقدر أحد من الخلق في التوقف عن الإيمان به من الجن والإنس والأحمر والأسود وجميع خلق الله ، من يعرفه الناس منهم ومن لا يعرفونهم ممن أحاط بهم علم العالمين بإعلام الله ، ومن حكم إحاطة كتابة كان ممكناً من عالية كل ىية جاء بها نبي قبله ممن شاهد ذلك منه حاضروه ، ونقله نقل التواتر والاستفاضة حمله العلم خلفاً عن سلف ؛ ثم رتب قياساً على إثبات النبوة فقال : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ذو ىية هذا القرآن المشهود ، وهذا القرآن المشهود معجز كل ذي إدراك ، وبشرى من كل جهة من جهات معاينه وبلاغته ، فو آية هذا القرآن نبي ، فمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبي ، أما أن ( صلى الله عليه وسلم ) ذو أيته فبالتجرية السمعية المتيقتة المسماة بالتواتر ، وأما أن هذا القرآن معجز فيما يجده كل ناظر في معناه المشتمل على تمام الحكمة فيما(5/569)
صفحة رقم 570
هو كائن ونبأ ما كان من قبل وخبر ما يكون بعد المتيقن بوقوع أوائله وقوع جملته وصحة خبره ، وبذلك يتضح أن ذا آيته نبي ، ثم بما تضمنه من شهادته لذي آيته وتصريحه بذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فصح أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ذو ايته ؟ ، وإنه نبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمستعمل في ذلك أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) تحدى بهذا القرآن العرب الفصحاء واللد البلغاء ، فلما لجؤوا للحرب وضح أنهم فروا لذلك المكان ما وجدوه في أنفسهم من العجز ، وإذا عجز أؤلئك فمن بعدهم أحق بالعجز ، فلما شمل العجز الكل من الخلق ، وجب العلم بأن هذا القرآن حقن والمتحدي به نبي جاء بالصدق ، وحاصله : لو لم تعجز العرب لم تحارب ثقل الحرب وخفة المعارضة لو استاطاعوان ولم يعارضوا وحاربوا فقد عجزوا ، فثبت بذلك أنه نبي ( صلى الله عليه وسلم ) انتهى .
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون : نحن لا نصدق أن هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن نكتفي به ، قال : ( قل ( اي جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا : ( كفى بالله ) أي الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات ، الذي شهد لي بالرسالة في كتابة الذي أتبت أنه كلامه عجز الخلق عن معارضته .
ولما كانت العناية في هذه السورة بذكر الناس ، وتفصيل أحوالهم ، ابتدأ بقوله : ( بيني وبينكم ( قبل قوله : ( شهيداً ( بخلاف الرعد والأنعام ، ثم وصف الشهيد أو علل كفايته بقوله : ( يعلم ما في السماوات ) أي كلها .
ولما لم يكن للارض غير هذه التي يشاهدونها ذكر في إتيان الوحي والقرآن منها ، افرد فقال : ( والأرض ) أي لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما ينسبونه إليّ من التقول عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي شهد لي به عجزم عنه فهو شاهد لي ، والله في الحقيقة هو الشاهد لي ، بما فيه من الثناء عليّ ، والشهادة لي بالصدق ، لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه وسيتحقق بالعقل إبطال المبطل منا .
ولما كان التقدير : وأنتم تعلمون أنه قد شهد لي بأني على الحق ، وأن كل ما خالف ما جئت به فهو باطل ، فالذين آمنوا بالحق وكفروا بالباطل فأؤلئك هو الفائزون ، عطف عليه قوله : ( والذين آمنو بالباطل ) أي الذي لا يجوز الإيمان به من كل معبود سوى الله ) وكفروا بالله ( الذي يجب الإيمان به والشكر له ، لأنه له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم ) أؤلئك ( البعداء البغضاء ) هم ( اي خاصة ) الخاسرون ) أي الهريقون في الخسارة ، فإنهم خسروا أنفسهم أبداً .
ولما كان قولهم مرة واحدة ( لولا أنزل عليه آية ) عجباً ، أتى بعد إخباره بخسارتهم بأعجب منه ، وهو استمرار استعجالهم بما لا قدرة لهم على شيء منه من عذاب الله(5/570)
صفحة رقم 571
فقال : ( ويستعجلونك ) أي يطلبون تعجيلك في كل وقت ) بالعذاب ( ويجعلون تأخره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب ) ولو لا أجل مسمى ( قد ضرب لوقت عذابهم لا تقدم فيه ولا تأخر ) لجاءهم العذاب ( وقت استعجالهم ، لأن القدرة تامة والعلم محيط .
ولما أفهم هذا أنه لا بد من إتيانه ، صرح به في قوله مؤكداً رداً على استهزائهم المتضمن للإنكار : ( وليأتينهم ( ثم هوّله بقوله : ( بغتة ( وأكد معناها بقوله : ( وهم لا يشعرون ( بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه ، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله مبدلاً : ( يستعجلونك بالعذاب ( اي يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به ، فلو علموا ما هم سائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلواظ ، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه .
ولما كان دخولهم النار لا بد منه لإحاطة القدرة بهم ، قال مؤكداً لإنكارهم الآخرة بإثبات أخص منها : ( وإن جهنم ( التي هي من عذاب الآخرة ) لمحيطة ) أي بما هي مهيأة له ، لأنه لا يفوتها شيء منه ، لأن الذي أعدها عليم قدير ، وقال : ( بالكافرين ( موضع ( بهم ) تنبيهاً على ما استحقوا به عذابهان وتعميماً لكل مناتصف به .
ولما كان هذا كله دليلاً على إنكارهم قال : ( يوم ( اي يعلمون ذلك اليوم ) يغشاهم العذاب ) أي يلحقهم ويلصق بهم ما لا يدع لهم شيئاً يستعذبونهن ولا أمراً يستلذونه ونبه على عدم استغراق جهة الفوق مع استعلائه عليهم بإثبات الجار فقال : ( من فوقهم ( ولما أفهم ذلك الإحاطة بما هو أدنى من جهة الفوق ، صرح به فقال : ( ومن تحت أرجلهم ( فعلم بذلك إحاطته بجميع الجواتب ، وصرح بالرجل تحقيقاً للآدمي ) ويقول ) أي الله في قراءة نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالتحتانية جرياً على الأسلوب الماضي ، أو نحن بعظمتنا في قراءة الباقين ترويعاً بالالتفات إلى مظهر العظمة : ( ذوقوا ( ما سببه لكم ) ما كنتم ( بغاية الرغبة ) تعلمون ) أي في ذلك اليوم تعلمون ذلك حق اليقين بعد علمكم له عين اليقين بسبب تكذيبكم بعلم اليقين .
العنكبوت : ( 56 - 59 ) يا عبادي الذين. .. . .
) يعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ( )
ولما أبلغ في الإنذار ، وحذر من الأمور الكبار ، ولم يمهل الإشارة إلى الصغار ، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار ، وكتن قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي(5/571)
صفحة رقم 572
للمؤمنين ، قال مخاطباً لهم معرضاً عن سواهم إذا كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت ، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استقظت ، التفاتاً على قراءة الجمهور إلى التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت : ( يا عبادي ( فشرفهم بالإضافة ، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ ، حقق ذلك بقوله : ( الذين آمنوا ( اي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب .
ولما كان نزول هذه السورة بمكة ، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفاً من الكفار ، وكانت الهجرة الأهل والأوطان شديدة ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة : ( إن أرضي واسعة ) أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق ، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلى في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفاً ، فهاجروا إلى ارض تتمكنون فيها من ذلك .
ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة ، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه ، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان في صورة الشرك قال : ( فإياي ) أي خاصة بالهجرة إلى ارض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا ) فاعبدون ( بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره ، عبادة لا شرك فيها ، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافاً بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته ، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينم عليه .
ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حييث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال ، وكان في الموت ذلك كله بزيادة ، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة : ( كل نفس ذائقة الموت ) أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته ، وآنسها وآنسته ، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً ، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً ، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة ، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت ، وما ذكر الموت في عسير إلا يسرهن ولا يسير إلا عسره وكدره .
ولما هوّن أمر الهجرة ، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال : ( ثم إلينا ( على عظمتنا ، لا إلى غيرنا ) ترجعون ( على أيسر وجه ، فيجازي كلاً منكم بما عمل .
ولما كان التقدير : فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصهم في جزائهم ، (5/572)
صفحة رقم 573
والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تخت دركات فبئس مثوى الظالمين ، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريباً ، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان ، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله : ( والذين آمنوا وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ) أي كلها .
ولما كان الكفار ينكرون البعث ، فكيف ما بعده ، أكد قوله : ( لنبوئنهم ) أي لنسكننهم في مكان هو جدير بأن يرجع إليه من حسنه وطيبه من خرج منه لبعض أغراضه ، وهو معنى ) من الجنة غرقاً ) أي بيوتاً عالية تحتها قاعات واسعة بهية عالية ، وقريب من هذا المعنى قراءةة حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من ثوى بالمكان - إذا أقام به .
ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال : ( تجري ( ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه ، بعضه فقال : ( من تحتها الأنهار ( ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار ، إلا كان به بساتين كبار ، وزروع ورياض وأزهار - فيشرفون عليها من تلك العلالي .
ولما كانت بحالة لا نكد فيها يوجب هجره في لحظة ما ، كنى عنه بقوله : ( خالدين فيها ) أي لا يبغون عنها حولاً ؛ ثم عظم أمرها ، شرف قدرها ، بقولهك ) نعم أجر العاملين ( ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة ، فقال معرفاً بجماع الخير كله الصبر وكونه على جهة التفويض لله ، منبهاً على أن الإنسان لا ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه : ( الذين صبروا ) أي اوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرت عندهم فكانت سجية لهم ، فأوقعوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها .
ولما كان الإنسان إلى المحسن إليع أميل ، قال مرغباً في الاستراحة بالتفويض إليه : ( وعلى ربهم ) أي وحده لا على أهل ولا وطن ) يتوكلون ( اي يوجدون التوكل إيجاداً مستمر التجديد عند كل مهم يعرض لهم إرزاقهم بعد الهجرة وغيرها وجهاد أعدائهم وغير ذلك من أمورهم .
العنكبوت : ( 60 - 63 ) وكأين من دابة. .. . .
) وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ( )
ولما أشار بالتوكل إلىان الكافي في امر الرزق في الوطن والغربة ، لا مال ولا أهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فكأيّ من متوكل عليه كفاه ، ولم يحوجه إلى أحد(5/573)
صفحة رقم 574
سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طالباً لرضاه : ( وكأيّن من دابة ) أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها ) لا تحمل ) أي لا تطيق أن تحمل ) رزقها ( ولا تدخر شيئاً لساعة أخرى ، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك ، وقد تدركه وتتوكل ، أو لا تجد .
ولما كان موضع أن يقال : فمن يرزقها ؟ قال جواباً له : ( الله ( اي المحيط علماً وقدرة ، المتصف بكل كمال ) يرزقها ( وهي لا تدخر ) وإياكم ( وأنتم تدخرون ، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم ، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدونن فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظور إليه .
ولما كان أهم ما للحيوان الرزق ، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقاً ويهمهم به إن كان صامتاً ، أما العاقل فبأمور كلية ، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية ، وكان العاقل ربما قالك إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك ، قال تعالى : ( وهو السميع ) أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره ) العليم ) أي بما يعلم من ذلك ، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم ، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه ، وهو قادر على أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيهن ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف - نفعنا الله بهم - وجد كثيراً من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره .
ولما هوّن سبحانه بخطابه مع امؤمنين بعد أن كان قد ابلغ في تنبيه الطكافرين بإيضاح المقال ، وضرب الأمثال ، ولين المحاورة في الجدال ، ولما كان الملك لا يتمكن غاية التمكن من ترزيق من في غير مملكته ، قال عاطفاً على نحو : فلئن سألتهم عن ذلك ليصدقنك عائداً إلى استعطاف المعرضين ، واللطف بالفافلين ، ناهجاً في تفنين الوعظ أعني طرق الحكمة ، فإن السيد إذا كان له عبدان : مصلح ومفسد ، ينصح المفسد ، فإن لم يسمع التفت إلى المصلح ، إعراضاً عنه قائلاً : هذا لا يستحق الخطاب ، فاسمع أنت ولا تكن مثله ، فكان قوله متضمناً نصح المصلح وزجر المفسد ، ثم إذا سمع وعظ أخيه كان ذلك محركاً منه بعد التحريك بالإعراض والذم بسوء النظر لنفسه وقلة الفطنة ، فإذا خاطبه بعد هذا وجده متهيئاً للقبول ، نازعاً إلى الوفاق ، مستهجناً للخلاف : ( ولئن سالتهم ) أي المؤمون وغيره ، وأغلب القصد له : ( من خلق السماوات والأرض ( وسواهما على هذا النظام العظيم ) وسخر الشمس والقمر ( لإصلاح القواتن ومعرفة الأوقات ، وغير ذلك من المنافع .
ولما كان حالهم في إنكار العبث حال من ينكر أن يكون سبحانه خلق هذا الوجود ، أكد تنبيهاً على أن الاعتراف بذلك يلزم منه الاعتارف بالبعث فقال :(5/574)
صفحة رقم 575
) ليقولن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال لما قد تقرر في فطرهم من ذلك وتلقفوه عن أبائهم موافقة للحق في نفس الأمر .
ولما كان حال من صرف الهمة عنه عجباً يستحق أن يسأل عنه وجه التعجب منه إشارة إلى أنه لا وجه له ، قال ) فأنى ) أي فكيف ومنأي وجه ) يؤفكون ) أي يصرف من صارف ما من لم يتوكل عليه أو لم يخلص له العبادة في كل احواله ، وجميع اقواله وافعاله ، عن افخلاص له مع إقرارهم بأنه لا شريك له في الخلق فيكون وجهه إلى قفاه فينظر الأشياء على خلاف ما هي عليه فيقع في خبط العشواء وحيرة والعجباء .
ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند كل من لم يتأمل حق التأمل فيقال : بكل الخلق والرزق له ، فما بالهم متفاوتين في الرزق ؟ قال : ( الله ) أي بما له من العظمة والإحاطة بصفات الكمال ) يبسط الرزق ( بقدرته التامة ) لمن يشاء من عباده ( على حسب ما يعلم من بواطنهم ) ويقدر ) أي يضيق .
ولما كان ذلك إنما هو لمصالح العباد وإن لم يظهر لهم وجه حكمته قال : ( له ) أي لتظهر من ذلك قدرته وحكمتهن وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم ، فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك ، وهذه الآية نتيجة ما قبلها .
ولما كان سبحانه يرزق الناس ، ويمكن لهم بحسب ما يعلم من ضمائرهم أنه لا صلاح إلا فيه ، قال معللاً لذلك ومؤكداً رداً على منيعتقد أن ذل ك إنما هو منتقصير بعض العباد وتشمير بعضهم ، معلماً بأنه محيط العلم فهو محيط القدرة فهو الذي سبب عجز بعضهم وطاقة ىلآخرين لملازمة القدرة العلم : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) بكل شيء ( اي من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف تمنع أو تساق وغير ذلك ) عليم ( فهو على ذلك كله قدير ، يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وأفقار غني ، فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال .
ولما ثبت بهذا شمول علمه ، لزم تمام قدرته كما برهن عليه في طه ، فقال مشيراً إلى ذلك ذاكراً السبب القريب في البترزيق بعد ما ذكر البعيد ، فإن الاعتراف بأن هذا السبب منه يستلزم الاعتراف بأن المسبب أيضاً منه : ( ولئن سألتهم من نزل ( بحسب التدريج على حسب ما فعل في الترزيق ، ولما كان ربما ادعى مدع أنه استنبط ماء فأنزله من جبل ونحوه ، ذكر ما يختص به سبحانه سالماً عن دعوى المدعين فقال : ( من(5/575)
صفحة رقم 576
السماء ماء ( بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو ) فأحيا ( ولما كان أكثر الأرض يحيى بماء المطر من غير حاجة إلى سقي ، قدم الجار فقال ) به الأرض ( الغبراء ، وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمن الممات ، وإلى أنهم لا يعلمون إلى الجزئيات الموجودة المحسوسة ، ولا تنفذ عقلولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ اهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجد سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد ، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال : ( من بعد موتها ( فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك ، وأكد لمثل ما تقدم من التنبيه على أن حالهم في إنكار البعث حال من أن ينكر أن يكون الله صانع ذلك ، لملازمة القدرة عليه القدرة على البعث بقوله : ( ليقولن الله ( وهو الذي الكمال كله ، فلزمهم توحيده .
فلما ثبت أنه الخالق وإعادة كما يشاهد في كل زمان ، قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل ( معجباً منهم في جمودهم حيث يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها ) لله ( الذي لا سمي له وليس لأحد غيره إحاطة بشيء من الأشياء ، فلزمهم الحجة بما أقروا به من إحاطته ، وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم عنه ) بل أكثرهم لا يعقلون ) أي لا يتجدد لهم عقل ، بعضهم مطلقاً لأنه مات كافراً حيث هم مقرون بمعنى الحمد من أنه الخالق لكل شيء بدءاً وإعادة ثم يفعلون ما ينافي ذلك فيشركون به غيره مما هم معترفون با ، ه خلقه ولا يتوكلون في جميع الأمور براً وبحراً عليه ويوجهون العبادة خالصة إليه ، فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به ، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يتبعه سائر الفروع ، ومنهم من كان دون ذلك ، فكان نفي العلم عنه مقيداً بالكمال .
العنكبوت : ( 64 - 67 ) وما هذه الحياة. .. . .
) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ( ( )
ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال ، والقلعة والارتحال ، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : ( وما هذه الحياة الدنيا ( فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة(5/576)
صفحة رقم 577
مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كافٍ في الإلزام بالاعتراف بالأخرى .
ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر ، وكان في معرض سلب العقل عنهم ، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال : ( إلا لهو ) أي شيء يلهي عما ينفع ) ولعب ( يشتغل به صبيان العقول ، وكل غافل وجهول ، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره ، فيحصل به فرح وزيادة سرور ، فيكون سبباً للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه ضلال - على ما أشارت غليه آية لقمان
77 ( ) ليشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ( ) 7
[ آية : 6 ] ومنه اللعب ، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سروراً كالرقص بعد السماع وينقض بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل ، وهو كل شيء سافل ، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب ، واللعبة - بالضم : التمثال ، وما يلعب به كالشطرنج ، والأحمق يسخر به ، ولعب لعباً : مرح ، وفي الأمر والدين : استخف به .
ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت ، اخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال : ( وإن الدار الآخرة لهي ) أي خاصة ) الحيوان ) أي الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء ، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة ، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الخحركة والاضطراب ، فلا انقضاء لشيء من لعبها زلا لهواها الذي لا يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط لا في المعنى ، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه ، بل كان ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح ، والانشراح والأنس والتفريح .
ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها ، فعدوا الدنيا وجودجاً دائماً على هذا الحالة والآخرة عدماً ، لا وجود لها بوجه ، قال : ( لو كانوا ) أي كوناً هو كالجبلة ) يعلمون ) أي لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت ، لا عتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا ، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان .
ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون ، والتي قبلا بأن أكثرهم لا يعقلون ، سبب عن ذلك قوله : ( فإذا ) أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا ) ركبوا ) أي البحر ) في الفلك ( اي السفن ) دعوا الله ) أي الملك الأعلى المحيط بكل(5/577)
صفحة رقم 578
شيء إذا أصابتهم مصيبة خافوا منها الهلاك ) مخلصين ( بالتوحيد ) له الدين ( بالإعراض عن شركائهم بالقلب واللسان ، لما هم له محققون أنه لا منجى عند تلك الشدائد غيره ) فلما نجّاهم ) أي الله سبحانه ، موصلاً لهم ) لى البر إذا هم ) أي حين الوصول إلى البر ) يشركون ( فصح أنهم لا يعلمون ، لأنهم لا يعقلون ، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه ، ففي ذلك أعظم التهكم بهمح قال البغوي : قال عكرمة : كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب .
وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء - انتهى .
فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ، ولهذا نجد الفقراء اقرب غلى كل خير .
ولما كانوا مع هذا الفعل - الذي لا يفعله إلا مسلوب العقل - يدعون أنهم أعقل الناس وأبصرهم بلوازم الأفعلا وما يشين الرجال ، وكان فعلهم هذا كفراً للنعمة ، مع ادعائهم أنهم أشكرالناس للمعروف ، قال منبهاً أن عادتهم مخالفة لعادة المؤمنين في جعلهم نعمة النجاة سبباً لزيادة طاعاتهم ، فعل أنه ما كا إخلاصهم في البحر إلا صورة لا حقيقة لها : ( ليكفروا بما آتيناهم ( على عظمتنا من هذه النعمة التي يكفي في عظمتها أنه لا يمكن غيرنا أن يفعلها ما اشركوا إلا لأجل هذا الكفر ، وإلا لكانوا فاعلين لشيء من غير قصد ، فيكون ذلك فعل من لا عقل له اصلاً وهم يحاشون عن مثل ذلك ) وليتمتعوا ( بما يجتمعون عليه في الإشراك من التواصل والتعاون ، وعند من سكن اللام - وهم ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع - يكون معطوفاً تهديداً على مقدر هو ( فليكفروا ) أو على ) ليكفروا ( السابق ، على أن لامه للأمر ، وسيأتي في الروم إن شاء الله تعالى ما يؤيده ) فسوف يعلمون ( بوعد لا خلف فيه ما يحل بهم بهذا الفعل الذي هو دائر بين كفر وجنون .
ولماكن قد فعل بهم سبحانه من الأمن الشديد المديد في البر دون سائر العربب عكس ما ذكر من حال خوفهم الشديد في البحر ، وكان قادراً على إخافتهم في البر كمت قدر على إخافتهم في البحر ليدوم إخلاصهم ، وكان كفرهم عند الأمن بعد الإخلاص عند الخوف - مع أنه أعظم النقائص - هزلاً لا يفعله إلا من أمن مثل تلك المصيبة في البر ، توجه الإنكار في نحو أن يقال : إلم يروا أنا قادرون على إخافتهم وإهلاكهم في البر كما نحن قادرون على ذلك في البحر كما فعلنا بغيرهمن فعطف عليه قوله : ( أولم يروا ) أي بعيون بصائرهم ) أنا جعلنا ) أي بعظمتنا لهم ) حرماً ( وقال تعالى : ( آمناً ((5/578)
صفحة رقم 579
لأنه لا خوف على من دخله ، فلما أمن كل حالّ به كان كأنه هو نفس الأمن ، وهو حرم مكة المشرفة ، وأمنة موجب للتوحيد والإخلاص ، رغبة في دوامهن وخوفاً من انصرامه ، كما كان الخوف في البحر موجباً للإخلاص خوفاً من دوامه ، ورغبة في انصرامه ) و ( الحال أنه ) يتخطف ( وبناه للمفعول لأن المقصود الفعل لا فاعل معين .
ولما كان التخطف غير خاص بناس دون آخرين ، بل كان جميع العرب يغزو بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من أنواع الأذى ، قال : ( الناس من حولهم ) أي من حول من فيه من كل جهة تخطفَ الطيور مع قلة من بمكة وكثر من حولهم ، فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً ، أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد .
ولما تبين أن هلا يوجد لشركهم ولا لكفرهم هذه النعمة الظاهرة المكشوفة ، تسبب الإنكار في قوله : ( أفبالباطل ) أي خاصة من الأوثان وغيرهما ) يؤمنون ( والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه ، وجاء الحصر من حيث إن من كفر بالله تبعه الكفر بك لحق والتصديق بكل باطل ) وبنعمة الله ( التي أحدثها لهم من الإنجاء وغيره ) يكفرون ( حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاه شركهم بعبادة غيره .
العنكبوت : ( 68 - 69 ) ومن أظلم ممن. .. . .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( ( )
ولما كان الظلم وضع الشيء في غير محله ، وكان وضع الشيء في موضع لا يمكن أن يقبله أظلم الظلم ، كان فعلهم هذا الذي هو إنزال ما لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء في منزلة من يعلم كل شيء ويقدر على كل مقدور أظلم الظلم ، فكان التقدير : فمن أظلم منهم في ذلك ، عطف عليه قوله : ( ومن أظلم ) أي أشد وضعاً للأشياء في غير مواضعها ، لأنه لانور له بل هو ظلام الجهل يخبط ) ممن افترى ) أي تعمد ) على الله كذباً ) أي أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون إذا فعلوا فاحشة : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) أو كذب بالحق ( من هذا القرآن المهجز المبين ، على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع ) لما ( اي حين ) جاءه ( من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل فيما جاءه من الأمر الشديد الخطر .
ولما كان التقدير : لا أحد أظلم منه ، بل هو أظلم الظالمين ، فهو كافر ومأواه(5/579)
صفحة رقم 580
جهنم ، وكان من المعلوم أنهم يقولون عناداً : ليس الأمر كذلك ، قال إنكاراً عليهم ، ولأن فعلهم فعل المنكر ، وتقريراً لهم لأن همزة الإنكار إذا دخلت عل النفي كانت للتقرير ، عدّاً به بمنزلة ما لا نزاع فيه أصلاً : ( أليس في جنهم مثوى ) أي منزل وموضع إقامة وحبس له وقد ارتكب هذا الكفر العظيم - هكذا الأصل ، ولكنه لقصد التعميم وتعليق الفعل بالوصف قال : ( للكافرين ( اي الذين يغطون أنوار الحق الواضح ، أو ليس هو من الكافرين ؟ أي إن كلاًّ من المقدمتين صحيح لا إنكار فيه ، ولا ينتظم إنكارهم إلا بإفساد إحديهما ، أكا كفره للمنعم بعد إنجائه من الهلاك حيث عبد غيره فلا يسع عاقلاً إنكاره ، وأما كون جهنم تسعة بعد إخبار القادر به فلا يسع مقراً بالقدرة إنكاراه ، فالمقدمتان مما لا مطعن فيه عندهم ، فأنتجتا أن مثواه جهنم ، وصار القياس هكذا : عابد غير من أنجاه كافر ، وكل كافر مثواه جهنم ، فعابد غير من أنجاه مثواه جهنم .
ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم ، كان المعنى : فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون ، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين ، فعطف عليه قوله : ( والذين جاهدوا ( اي أوقعلوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة ) فينا ) أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء ، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن ، وشدائد المحن ، مستحضرين لعظمتنا .
ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء و المهتدي ، قال معبراً بالسبب عن المسبب : ( لنهديهم ( بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه ، هداية يليق بعظمتنا ) سبلنا ) أي لا سبل غيرها ، علماً وعملاً ، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا ، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى ) والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ) [ محمد : 4 ] ، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو .
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا ، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية ، عظم التأكيد في قوله ، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال ) وإن الله ) أي بعظمته وجلاله وكبريائه الحكم بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً : ( لمع المحسنين ) أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم ، (5/580)
صفحة رقم 581
والثواب والمغفرة في عقباهم ، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة ، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب وإن رأى الجاهل خلاف ذلك ، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر ، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر ، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان ، وما أحسن ما تقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال : من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهرة بالمجاهدة واتباع السنة ، والآية من الاحتباك : أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً ، فقد عانق أول السورة هذا الآخر ، وكان إليه أعظم ناظر ، فنسال الله العافية من الفتن ، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن ، وإليه المآب .
.. . .(5/581)
صفحة رقم 582
سورة الروم
الروم : ( 1 - 5 ) الم
) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ( )
مقصودها إثبات الأمر كله ، فتأتي الوحدانية والقدرة على كل شيء ، فيأتي البعث ونصر أوليائه ، وخذلان أعدائه ، وهذا هو المقصود بالذات ، واسم السورة واضح الدلالة عليه بما كان من السبب في نصر الروم من الوعد الصادق والسر المكتوم ) بسم الله ( الذي يملك الأمر كله ) الرحمن ( الذي رحم الخلق كلهم بنصب الأدلة ) الرحيم ( الذي لطف بأوليائه فأنجاهم من كل ضار ، وحياهم كل نافع سار .
لما ختم سبحانه التي قبلها بأنه مع المحسنين قال : ( آلم ( مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الملك الأعلى القوم أرسل جبرائيل عليه الصلاة والسلام - الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام - إلى أشرف خلقه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق ، يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد واغائب ، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته ، وكمال علم مرسله ، وشمول قدرته ، ووجوب وحدانيته .
ولما أشير في آخر تلك بأمر الحرم غلى أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وختم بمدح المجاهدين فيه ، وأنه سبحانه لا يزال مع المحسنين ، وكتنت قد افتتحت بأمر المفتونين ، فكان كأنه قيل : لنفتننكم ولنعمين المفتين ولنهدين المجاهدين ، وكان أهل فارس قد انتصروا على الروم ، ففرح المشركون وقالوا للمسلمين : قد انتصر إخواننا الأميون على إخوانكم أهل الكتاب ، فاننصرن عليكم ، فأخبر الله تعالى بأن الأمر يكون على خلاف ما زعموا ، فصدق مصدق وكذب مكذب ، فكان في كل من ذلك من نصر(5/582)
صفحة رقم 583
أهل فارس وإخبار الله تعالى بإدالة الروم فتنة يعرف بها الثابت من المزلزل ، وكان من له كتاب أحسن حالاً في الجملة ممن لا كتاب له ، افتتحت هذه بتفصيل ذلك تصريحاً بعد أن اشار إليه بالأحرف المقطعة تلويحاً غيباً وشهادة ، دلالة على وحدانيته وإبطال الشرك ، فأثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل ، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل ، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين ، فقال مبتدئاً بما أفهمه كونه مع المحسنين مع أنه ليس مع المسيئين : ( غلبت الروم ) أي لتبديلهم دينهم غلبهم - الفرس في زمن أنوشروان أو بعده ) في أدنى الأرض ) أي أقرب ارضهم غلى ارضكم ايها العرب ، وهي في أطراف الشام ، وفي تعيين مكان الغلب على هذا الوجه - بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم ، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان .
وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان ، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين : اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال ، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم ، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم ، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً ، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعتب سبحانه أهل مكة ، ونفى عليهم قبح صنيعهم في التغافل عن الاعتبار بحالهم ، وكونهم - مع قلة عددهم - قد منع الله بلدهم عن قاصد نبهه ، وكف ايدي العتاه والمتمردين عنهم مع ( تعاور ) أيدى المنتهين على من حولهم ، وتكرر ذلك واطراده صوناً منه تعالى لحرمه وبيته ، فقال تعالى :
77 ( ) أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويخطف الناس من حولهم ( ) 7
[ العنكبوت : 67 ] أي ولم يكفهم هذا في الاعتبار ، وتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع ، وإنما هو بصون الله إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب ، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل بهمنقمة ، ويسلبهم نعمه ، فلما قدم تذكارهم بهذا ، أعقب بذكر طائفة هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلاداً ، وقد ايد عليهم غيرهم ، ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم ، فقالت : ( ألم غلبت الروم في أدنى الأرض ( الآيات ، فكر تعالى غلبة غيرهم لهم ، وأنهم ستكون لهم كرة ، ثم يغلبون ، وما ذلك إلا بنصر الله من شاء من عبيده ) ينصر من يشاء ( فلو كشف عن إبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما سلط على من حولهم(5/583)
صفحة رقم 584
من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم إنما هو بمنع الله وكرم صونه لمن جاور حرمه وبيته ، وإلا فالروم أكثر عدداً وأطول مدداً ، ومع ذلك تتكرر عليهم الفتكات والغارات ، وتتوالى عليهم الغلبات ، أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ؟ وأيضاً فإنه سبحانه لما قال :
77 ( ) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ( ) 7
[ العنكبوت : 64 ] أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها ، وتبين اضمحلالها ، وأنها لا تصفو ولا تتم ، وإنما حالها أبداً التقلب وعدم الثبات ، فأخبر بأمر هذه الطائفة التي هي من أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهوالروم ، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم ، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب ، فوجب اعتبار العاقل بذلك وطلبه الحصول على تنعم دار لا يتقلب حالها ، ولا يتوقع انقلابها وزوالها ، ) وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ( ومما يقوي هذا المأخذ قوله تعالى ( يعلمون ) ظاهراً من الحياة الدنيا أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها لهو ولعب ولعرفوا أمر ىلآخرة ( من عرف نفسه ربه ) ومما يشهد لكل من المقصدين ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه : ( أو لم يسيروا في الأرض ( الآيات ، أي لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا منتقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين لهم عدم إبقائها على أحد فتحققوا لهوها ولعبها وعلموا أن حالهم سيؤول إلى حال من ارتكب مرتكبهم في العناد والتكذيب وسء البياد والهلاك - انتهى .
ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم ، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم ، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عبادة الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل ، وأدالهم على جميع الدول ، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكرو العقلاء : ( وهم ) أي الروم ، ودل على التببعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال ، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم : ( من بعد غلبهم ( الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم ، وهو من إضافة المصدر إلى المفغول ) سيغلبون ( فارساً ، فأكد وعده بالسين - وهو غني عن التأكيد - جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم ) في بعض سنين ( وذلك منأدنى العدد لأنه في المرتبة الأولى ، وهي مرتبة الآحاد ، وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ريقة نوع من الجهل ، تعجيزاً لهم ، وتحدياً لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر(5/584)
صفحة رقم 585
منه ، وتشريعاً للتعمية إذا قادت إليها مصلحة ، وشرح ذلك أنه كان بين فارس والروم حروب متواصلة ، وزحوف متكاثرة ، في دهور متطاولة ، إلى أن التقو في السنة الثامنة من نبوة نبينا محمد صلى الله عليهوسلم في زمن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ، فظفرت فارس على الروم ، أخج سنيد بن داود في تفسيره والواحدي في أسباب النزول والترميذي في تفسير سورة الروم من جامعة وغيرهم ، وقد جمعت ما ذكروه ، وبما دخلت حديث بعضهم في بعض .
قال سنيد عن عكرمة : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً ، وأستعمل عليهم رجلاً من بينك ، فأشيري عليَّ أيهم أستعمل ، فأشارت عليه بولد يدعى شهربراز ، فاستعمله على جيش أهل فارس وقال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن مسكوية في كتابه تجارب الأمم وعواقب الهمم ، فقالت تصف بنيها : هذا فرحان أنفذ من سنان ، هذا شهربراز أحكم من كذا ، هذا فلان أروغ من كذا ، فاستعمل ايهم شئت .
فاستعمل شهربراز - انتهى .
وبعث قيصر رجلاً يدعى قطمير بجيش من الروم ، فالتقى مع شهربراز بأذرعات وبصرى ، وهي أ ] تى الشام إلى أرض العربفغلبت فارس الروم وظهروا عليهم فقتلوهم وخربوا مدائنهم وقطعوا زيتونهم ، وبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم وهم بمكة فشق ذلك عليهم ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، لأن فارس لم يكن لهم كتاب ، وكانوا يجحدون البعث ، ويعبدون الناروالأصنام ، وفرح كفار مكة وشمتوا .
قال الترميذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : وكان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب - انتهى .
فلقي المشركون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وأهل فارس أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم .
فذكر ذلك أبو بكر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الآية ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أما إنهم سيغلبون في بضع سنين ) قال الترميذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : فذكره أبو بكر رضي الله عنه لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ألا جعلته إلى دون ) يعني(5/585)
صفحة رقم 586
دون العشرة ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ، ثم ظهرت الروم بعد ذلك ، وروى الترميذي أيضاً عن نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله تعالى عنه وقال : حديث حسن صحيح غريب ، قال : لما نزلت : ( آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غليهم سيغلبون في بضع سنين ( وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك قول الله تعالى : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( وكانت قريش ) تحب ( ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل الكتاب ولا إيمان ببعث ، فلما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه يصيح في نزواحي مكة ) آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ( قال ناس من قريش لأبي بكر رضي الله عه : فذلك بيننا وبينك ، زعم صاحبك أن ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نواهنك على ذلك ؟ قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر رضي الله عنه : كم تجعل البضع من ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسم بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه ، فسموا بينهم ست سنين ، فمضت الست سنون قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر رضي الله عنه ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر رضي الله عنه تسمية ست سنين ، لأن الله تعالى قال : ( في بضع سنين ( .
قال ابن الجوزي في زادالمسير : وقالوا : هلاّ أقررتها على ما أقرها الله ، لو شاء أن يقول : ستاً ، لقال .
قالالترميذي في روايته : واسلم عند ذلك ناس كثير .
وروى الترميذي أيضاً والواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ظهور الروم عليهم كان يوم بدر .
وقال الزمخشري فيما ذكره من عند سنيد أنه كان يوم الحديبية فإنه قال بعد أن ساق نحو ما مضى : فثقال لهم أبو بكر رضي الله عنه - يعني للمشركين : لا يقرنّ الله أعينكم فوالله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبي بن خلف : كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا وبينك أجلاً أناحبك عليه .
- والمناحبة : المراهنة - فناحبه على(5/586)
صفحة رقم 587
عشر قلائص - من كل واحدة منهما ، وجعل الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبي من جرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعني الذي جرحه به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أحد ، فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين .
وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( تصدق به ) - انتهى .
وربما أي دالقول بأنه سنة الحديبية سنة ست ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي اله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنهم في كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " لى هرقل وسؤال هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه ، ووفيه أن ذلك لما كشف الله عن قيصر جنود فارس ومشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله ، ومن المعلموم أن كتاب النبي صلى الله عليه و سلم إليه وإلى غيره من الملوك كان بعد الرجوع من الحديبية ، وهذه الآية من الآيات البينه ة الشاهدة الصادقة على صحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله نزل بالحق المبين ، لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فطابقه الواقع .
وقال ابن الجوزي : وفي الذي تولى وضع الرهان من المشركين قولان : أحدهما أبي بن خلف - قاله قتادة ، والثاني أبو سفيان بن حرب - قاله السدي - انتهى .
وذكر القصة أبو حيان في تفسيره البحر وزاد عن مجاهد أن التقاءهم لما ظهرت فارس كان في الجزيرة ، وعن السدي أنه كان بأرض الأردن وفلسطين ، وأن أبا في بكر رضي الله عنه لما اراد الهجرة طلب منه أبي خلف كفيلاً بالخطر الذي كان بينهما في ذلك ، فكفل به ابنه عبد الرحمن رضي الله عنه ، فلما اراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً وهلك أبي من جرح جرحه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن الفرات في تأريخه : كان بين كسرى أنوشروان وبين ملك الروم هدنة ، فوقع بين رجلين من أصحابهما فبغى الرومي على الفارسي ، فأرسل كسرى إلى ملك الروم بسببهن فلم يحفل برسالته ، فغزاه كسرى في بضع وسبعين الف مقاتل فأخذ مدينة دارا والرها ومنبج وقنسرين وحلب وأنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشام - وفامية وحمص ومدناً كثيرة ، واتحتوى على ما كان فيها .
وسبى أهل أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد ، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج ، ولم يزل مظفراً منصوراً ، تهابه الأمم ، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظائرهم ، وقال أيضاً في ملك أبرويز بن هرمز بن أنوشروان : وكان شديد الفطنة ، قوي الذكاء ، بعث الأصبهبذ - يعني شهربراز -(5/587)
صفحة رقم 588
مرة إلى الروم فأخذ خزائن الروم ، وبعث بها إلى كسرى ، فخاف كسرى أن يتعغير عليه الأصبهبذ ، لما قد نال من الظفر فبعث بقتله ، فجاء الرجل إليه فرأى من عقله وتدبيره ما منعه من قتله وقال : مثل هذا لا يقتل ، وأخبره ما جاء لأجله ، فبعث إلى قيصر ملك الروم : إني اريد أن ألقاك ، فالتقيا فقال له : إن الخبيث قد هم بقتلي ، وإني أريد إهلاكه ، فاجعل لي من نفسك ما أطمئن إليهن ، أعطيك من بيوت أمواله مثل ما أصبت منك .
فأعطاه المواثيق ، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل ، فنزل بكسرى ، فعلم كسرى كيف جرى الحال ، فدعا قساً نصرانياً ، يعني وكتب معه كتاباً .
وقال ابن مسكويه : وكان أبرويز وجه رجلاً من جله أصحابه في جيش جرار إلى بلاد الروم ، فأنكى فيهم وبلغ منهم ، وفتح الشامات وبلغ الدروب في آثارهم ، فعظم أمره وخافه أبرويز فكاتبه بكتابين يأمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه ، ويأمره في ألاخر أن يقيم بموضعه ، فإنه لما تدبر أمره وأجال الرأي لم يجد من يسد مسده ، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه ، وأرسل بالكتابين رسولاً من ثقاته وقال له : أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم فإن خف لذلك فهو ما أردت ، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياماً ثم أعلمه الكتاب الثاني ورد عليك وأوصله إليه ليقيم بموضعه .
فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام ، فأوصل الكتاب الأول إليه ، فلما قرأه قال : إ / ا أن يكون كسرى قد تغير لي وكره موضعي ، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في نحر العدو ، فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه ، فلما كان بعد ثلاثة ايام أوصل إليه الكتاب الثاني بالمقام ، وأوهمه أن رسولاً ورد به ، فلما قرأه قال : هذا تخليط ولم يقع منه موقعاً ، ودس إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما على أن يخلي الطريق لملك الروم حتى يدخل بلاد العراق على غرة من كسرى ، وعلى ان لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق ، وللفارسي ما وراء ذلك غلى بلاد فارس ، فأجابه ملك الروم غلى ذلك وتنحى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة ، وأخذ أفواه الطرق ، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم عليه من ناحية قرقيسيا وكسرى غير معد وجنده متفرق في أعماله ، فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال : هذا وقت حيلة ، لا وقت شدة ، وجعل ينكت في الأرض ملياً ، ثم دعا برقّ وزكتب فيه كتاباً صغيراً بخط دقيق غلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه : قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وإطماعه في نفسك وتخليه الطريق له حتى إذا تولج في بلادنا أخذته من أماهه ، وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه ، فيكون ذلك بواره ، وقد تم في هذا الوقت ما دبرناه ، وميعدك في الإيقاع به يوم كذا وكذا ، ثم دعا راهباً كان في دير بجانب مدينته(5/588)
صفحة رقم 589
وقال : أيّ جار كنت لك ؟ قال : أفضل جار ، قال : فقد بدت لنا إليك حاجة ، فقال الراهب : الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي ، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك ، قال كسرىك تحمل لي كتاباً إلى فلان صاحبي - وقال ابن الفرات : إلى الأصبهبذ - ولا تطلعن على ذلك أحداً .
وأعطاه ألف دينار ، قال : نعم قال كسرى : فإنك تجتاز بإخواك النصارى فأخفه ، قالك نعم ، فلما ولى عنه الراهب قال له كسرى : أعلمت ما في الكتاب ؟ قال : لا ، قال : فلا تحمله حتى تعلم ما فيه ، فلما قرآه أدخله في جيبه ثم مضى ، فلما صار في عسكر الروم نظر إلى الصلبان والقسيسن وضجيجهم بالتقديس والصلوات فاحترق قلبه لهم واشفق مما خاف أن يقع بهم وقال في نفسه : أنا شر الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية وهلاك هؤلاء القوم ، فصاح : أنا لم يحملني كسرى رسالة ولا معي له كتاب ، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه ، وقد كان كسرى وجّه رسولاً قبل ذلك اختصر الطريق حتى مر بعسكر الروم كأنه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه أن الملك قد كان أمرني بمقارنة ملك الروم وأن أختدعهوأخلي له الطريق فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه ، وقد فعلت ذلك ، فرأى الملك في إعلامي وقت خروجه إليه ، فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال : عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن غلى كسرى ، ووافاه أبرويز فيمن أمكنه من جنده ، فوجد ملك الروم قد ولى هارباً ، فأتبعه يقتل وياسر من أدرك ، وبلغ الأصبهبذ هزيمة الروم فأحب ان يخلي نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبر ، فخرج خلف الروم الهاربين فلم يسلم منهم إلا قليل .
وقال ابن الفرات : وخرج القس بالكتاب وأوصله غلى قيصر فقال : ما اراد غلا هلاكنا ، وانهزم فاتبعه كسرى فنجا في شرذمة يسيرة ، وافتتح كسرى أبرويز عدة من بلاد أعدائه ، وبلغت خيلة القسطنطينية وإفريقية .
وقد ذكر ابن مسكوية ايضاً ما يمكن أن يكون المراد بالآية ، وشرح أسباب ذلك فذكر ان هرمز بن أنوشروان لما بعث بهرام بن بهرام الملقب جوبين غلى ملك الترك وظفر به ثم بابنه ، أساء السيرة فيه ولم يأذن في الرجوع ، بل أمره بالتقدم فيما لم يره بهرام صواباً وخاف مخالفته ، وقد كان هرمز حسن السيرة جداً أديباً أريباً ، داهياً غلا عرقاً قد نزعه أخواله من الترك ، فكان لذلك مقصياً للأشراف وأهل البيوتات والعلماء ، لوم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم ففسدت عليه نيات الكبراء من جنده ، فلما خافه بهرام جمع وجوه عسكره ، وخرج عليهم في زي النساء وبيده مغزل وقطن ثم جلس في موضعه ووضع بين يدي كل واحد منهم مغزلاً وقطناً ، فامتعضوا لذلك ، فقال : إن كتاب الملك ورد عليّ بذلك ، فلا بد من امتثال أمره إن كنتم طائعين ، فأبوا وخلعوا هرمز ، وأظهروا(5/589)
صفحة رقم 590
أن أبنه ابرويز اصلح للملك منه ، فلما يمع أبرويز بذلك خاف اباه على نفسه ، فهرب إلى أذربيجان ، ولما بلغ الجند الذين بحضرة هرمز خلعه أعجبهم ، فضعف أمره ، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه وسلموه ، فكوتب أبرويز بذلك فبادر بهراماً فسبقه وجلس على سرير الملك ، فأطاعه الناس ودخل على أبيه ، وأعلمه أنه نائبه ، واعتذر إليه بأن ما حصل له لم يكن عن رايه ولا برضاه ولا كان حاضره حتى يذب عنه ، فعذره ، وقصده بهرام فجرت بينهما أمور طويلة ، وحروب هائلة ، ضعف فيها ابرويز ، وأحس من أصحابه فتوراً ، وتبين فيهم فشلاً ، فسار إلى أبيه وشاوره فرأى له المصير غلى ملك الروم ، فنهض غلى ذلك في عدة يسيرة فيهم بنديه لأبرويز : اعطني بزتك وزينتك لأحتال لك وأبذل نفسي دونك ، ففعل فأمره بالنجاة بمن معه ، وأقام هو ي الدير ، فلما أحيط به اطلع بندويه من فوق الدير فأوهمهم أنه ابرويز بما عليه من البزة والزينة ، فظنوه وسالهم الإمهال غلى غد ليسلمهم نفسه فأمسكوا ، وحفظ الدير بالحرس ، فلما أصبحوا اطلع عليهم وقال : إن عليّ وعلى أصحابي بقية شغل من استعداد لصلوات وعبادات فأمهلونا ، ولم يزل يدافع حتى مضى عامة النهار وعلم أن ابرويز قد فاتهم ، ففتح حينئذ وأعلم قائدهم بأمرهم ، فانصرف به غلى بهرام جوبين فحبسه .
ولما وصل ابرويز غلى أنطاكية كاتب ملك الروم وسأله نصرته ، فأجابه وتوادا إلى أن زوجة ابنته مريم وحملها غليه ، وبعث إليه ستين ألف مقاتل فيهم أخوة تياذوس وساله ترك الأتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم إذ هوملك ، فاغتبط به أبرويز وسار بهم ، فلما وصل غلى أداني أرضهم انضم غليه كثير من أهل فارس فاستظهر على بهرام ، فقصد بهرام بلاد الترك فأكرمه ملكها ، ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذي نصره حتى وثبت الروم وارسل عليه في شيء أنكروه منه فقتلوه وملكوا غيره ، ولجأ ابنه إلى أبرويز فملكه على الروم وارسل معه جنودداً كثيفة عليهم شهربراز ، فدوخ عليهم البلاد ، وملك صاحب كسرى بيت المقدس وقصد قسطنطسينية ، فأناجوا على ضفة الخليج القريب منها ، ولم يخضع لابن الملك الذي توجه كسرى أحد من الروم ، وكانوا قد قتلوا الذي ملكوه بعد أبيه لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره ، وملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل .
وقال ابن الفرات : إن أبرويز بعث مع ابن الملك الذي كان نصره ثلاثة من قواده في جنود كثيرة كثيفة ، أما أحدهم فإنه كان يقال له زميرزان وجهه إلى بلاد الشلام فدوخها حتى انتهى إلى بلاد فلبسطين ، وورد مدينة بيت المقدس ، واخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى(5/590)
صفحة رقم 591
بخشبة الصليب ، وكانت قد دفنت في بستان في تابوت من ذهب وزرع فوقها مبقلة فدلوه عليها فحفر واستخرجها وبعد بها إلى كسرى في سنة أربع وعشرين من ملكه ، وأما القائد الثاني - وكان يقال لهك شاهير - فسار حتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه ، وأما القائد الثالث - وكان يقال له : فرهان - فإنه قصد قسطنطينية حتى أناخ قريباً من ماء وخيم هنالك فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضباً مما انتهكوا من موريق - يعني الملك الذي فعل هذا لأجله أحد من الروم ، لأنهم لما قتلوا الملك قوفا ملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل ، ثم اتفق ابن الفرات وابن فتحون فقالا : فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلهم مقاتلتهم ، وسبيهم ذراريهم ، واستباحتهم أموالهم ، تضرع غلى الله تعالى ، وأكثر الدعاء والابتهال فيقال : إنه رأى في منامه رجلاً ضخم الجثة رفيع المجلس عليه ، فدخل عليهما داخل ، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل : إني قد سلمته في يدك ، فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته حتى توالت عليه عليه أمثالها ، فراى في بعض لياليه كأن رجلاً دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها في عنق صاحب المجلس الرفيع عليه ثم دفعه غليه وقال له : ها قد دفعت إليك كسرى برمته ، وقال ابن الفرات : فاغزه فإنك مدال عليه ، ونائل أمنيتك في غزاتك ، فلما تتابعت عليه هذه الأحلام قصها على عظماء الروم وذوي العلم منهم ، فأشاروا عليه أن يغزوه ، فاستعد هرقل واستخلف ابنه على مدينة القسطنطينية ، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهريراز صاحب كسرى ، وسار حتى دخل في بلاد أرمينية ونزل بنصبين بعد سنة ، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه ، وأما شهربراز فكانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به ، وترك البراح ، ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده غلى نصيبين فوجه لمحاربة هرقل رجلاً من قواده يقال له : راهزاد في اثني عشر ألفاً من الأنجاد ، وأمره أن يقيم بنينوى وهي التي تدعى ىان الموصل - على شاطىء دجلة ، ويمنع الروم أن يجوزوها ، وكان كسرى بلغه خبر هرقل وأنه مغذ وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك ، فتعذر راهزاد لأمر كسرى وعسكر حيث أمره فقطع هرقل دجلة من موضع آخر غلى الناحية التي كان فيها جند فارس ، فأذكى راهزاد أنه ومن معه من الجند عاجزون عن مناهضته ، كتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم ، لكثرتهم وحسن عدته ، قال ابن الفرات :(5/591)
صفحة رقم 592
فكتب كسرى إنكم إن عجزتم عن الروم لم تعجزوا عن بذل دمائك في طاعتي ، فلما تتابعت على راهزاد جوابات كسرى بذلمك عبى جنده ، وناهض الروم بهم ، فقتل الروم راهزاد وسته لاف رجل ، وانهزمت بقيتهم ، وهربوا على وجوههم ، وبلغ كسر قتل الروم راهزاد وستة آلاف وما نال هرقل من الظفر فهدّه ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن ، وتحصن به لعجزه كان عن محاربة هرقل ، وسار هرقل حتى كان قريباً من المدائن .
قال ابن الفرات : فاستعد كسرى لقتاله ثم خالف كسى ملك الروم فرجع إلى بلاده فحمل خزائنه في البحر .
فعصفتا الريح فألقتها بالإسكندرية ، فظفر بها أصحابه من الروم ، وذكر المسعودي هذا فخالف بعصض المخالفة : فقال : وثب بطريق من بطارقة الروم يقال له قوقاس فيمن اتبعه على تموريقس ملك الروم حمو أبرويز ومنجده ، فقتلوه وملكوا قوقاس ، ونمى ذلك إلى ابرويز فغضب لحمه وسيّر غلى الروم جيوش وكانت له في ذلك أخبار يطول ذكرها ، وسيّر شهريار مرزبان المغرب إلى حرب الروم فنزل أنطاكية وكانت له مع ملك الروم وأبرويز أخبار و مكاتبات وحيل إلى ان خرج ملك الروم إلى حرب شهريار ، وقدم خزائنه في البحر في ألف مركب ، فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكية فغنمها شهريار فحملها إلى ابرويز فسميت خزائن الريح ، ثم فسدت الحال بين ابرويز وشهريار ، ومايل شهريار ملك الروم فسيره شهريار نحو العارق إلى أن انتهى إلى النهروان فاحتال ابرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفه النصرانية ممن كان في ذمته حتى رده إلى القسطنطنية ، وأفسد الحال بينه وبين شهريار .
وقال أبو حيان : وسبب ظهور الروم أن كسرى بعث غلى شهربراز وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان - انتهى .
وهذا هو تتمة ما تقدم في خبر المرأة التي كانت لا تلد إلا الأبطال ، وأن كسرى بعث ابنها شهربراز إلى حرب الروم فظهر عليهم .
قال ابن مسكوية : فلما ظهرت فارس علىالروم جلس فرخان يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت مقالته كسرى فكتب إلى شهربراز : إذا أتاك كتابي هذا فابعث إليَّ برأس فرخان ، فكتب غليه : إن في رجال فارس خلفاً منه فعجل إليّ برأسه ، فراجعه فغضب كسرى وبعث بريداً إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهربراز واستعملت فرخان ، فلنا قرأ شهربراز الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس فرخان ودفع البريد الصحيفة إليه فقال : ائتوني بشهربراز ، فقدمه ليضرب عنقه فقال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : افعل .
فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا(5/592)
صفحة رقم 593
راجعت فيك كسرى وأنت اردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فرد الملك على أخيه ، فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين رومياً ، فإني أيضاً القاك في خمسين فارساً ، فاقبل قيصر في خمسائة رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً ، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، واجتمعا ومع كل واحد منهما سكين ، ودعوا ترجماناً بينهما ، فقال شهربراز : إن الذين خربوا مدائنك ، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا ، وأن كسى حسدنا فأراد أن اقتل اخي فابيت ، ثم أمر اخي أن يقتلني فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك ، فقال : قد أصبتما ووفقتما ثم اشار أحدهما إلى صاحبه أن السر إنما يكون بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا ، قال صاحبه : أجل ، فقاما جميعاً إلى الترجمان بسكينيهما فقتلاه ، واتفقا على قتال كسرى ، فتعاون شهربراز وهرقل على كسرى ، فغلبت الروم فارسَ .
وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في أوائل فتوح مصر نحو هذا الحديث من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يسأل الهرمزان عنسبب ظهور الروم على كسرى فأخبره به ، وكان مما تمكن الخلاف عليه أيضاً أنه كان طلب الذين هربوا بعد قتل قائدهم راهزاد ، وأمر بأن يعاقبوا على انهزامهم ، فأحوجهم بهذا إلى الخلاف عليه وطلب الحيل نجاة أنفسهم منه ، فإن كانت الوقعة التي غلبت الروم فيها بأذرعات أو الأردن فهي أدنى أرض الروم - أي اقربها - إلى مكة المشرفة ، وإن كانت بالجزيرة فهي ادنى بالنظر إلى كسرى - هذا ما حقت فيه الآية في ظاهر العبارة وصريحها مع ما انضم إلى ذلك من إداله العرب على افرس أيضاً في هذا الوقت في وقعة ذي قار - كما بينته في شرحي لنظمي للسيرة النبيوية المسمى ( نظم الجواهر من سيرة سيد الأوائل والأواخر ) وسيأتي ملخصه قريباً - حتى يقال : إن نصره الروم والعرب ونصرة المسلمين في بدر كانت في آن واحد .
ومن أعاجيب ما دخل تحت مفهوم الآية من لطائف المعهجزات في باطن الإشارة وتلويحها أن زماننا هذا كان قد غلب فيه على ملك مصر جندها الغرباء من الترك وغيرهم ثم اختص به الشراكسة منهم من نحو مائة سنة ، وهم ممن ليس له كتاب في الأصل وإن كان إسلامهم قد جب ما كانوا عليه من قبل وكانوا إذا مات أحدهم وله ابن ولوا ابنه لأجل مماليكه واتباع أبيه إلى أن يعلموا الحيلة في خلعه ، وكان أكثر أولادهم يكون صغيراً أو في حكمه حتى كانت سنة خمس وستين وثنانمائة ، فصادف أن المتولي بها من أولادهم المؤيد أحمد بن الأشرف إينال العلائي ، وكان قد ناهز الأربعين ، وكان عنده حزم(5/593)
صفحة رقم 594
ودهاء ، وزادت مدة ولا يته بعد أبيه على اربعة أشهر فثقل عليهم جداً ، وكان الأمير الكبير خشقدم أحد مماليك المؤيد شيخ وهو رومي ، وكانت عادتهم أنهم إذا خلعوا أحداً من أبناء الملوك ولو الملك من كان في الإمرة الكبرى ، فاختار الشراكسة ولايته وإن كان من غيرهم على ولاية من ولد في الإسلام في بلاد العرب ، فأعلموا الحيلة في أمره إلى أن أجمع أمرهم ورايهم كلهم على خلعه حتى مماليكه ومماليك أبيه ، فقاموا في قومة رجل واحد في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة ، فلما لم يجد له ناصراً اسلم نفسه في اليوم الثاني من وثوبهم عليه ، فعرضوا الولاية على شخص منهم فلم ير التقدم على أكبر منه في الرتبة فأشار غلى الأمير الكبير فولوه ، ثم اجتهد بعضهم في نزعه فلم يقدرهم الله على ذلك ولم يجمع كلمتهم على أحد ، وقام هو في الأمر بجد عظيم وحزم ، ولين في شدة وعزم ، حتى استحكم أمره ، وعظم قدره ، وحسب عدد ( بضع ) بالجمل فإذا هو اثنان وسبعون وثمانمائة ، وهو مقدار ما مضى من السنين من حين نزول الآية إلى حين ولايته ، وذلك أن نصر أهل فارس على الروم كما مضى كان في السنة الثامنة من النبوة ، وحينئذ نزلت الآية ، فإذا قلنا : إن نزولها كان في شهر رمضان من تلك السنة ، كان قبل الهجرة بست سنين إذا جعلنا كسر الثامنة سنة ، وقد كانت وقعة بدر في سابع عشر شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة في الشهر السابع ، فيكون نصر الروم إذا صححنا كما هو الذي ينبغي أن لا يعتقد غيره لدلالة القرآن العظيم عليه كما تأتي الإشارة إليه أنه في سنة غزوة بدر في آخر السنة السابعة من حين نزوال الآية ، ويكون ولاية السلطان خشقدم لكونها في أواخر شهر رمضان في ابتداء سنة ست وستين من الهجرة ، فإذا ضممت إليها الست التي كانت قبل الهجرة كانت الجملة ثمانمائة واثنين وسبعين على عدد ( بضع ) المنظوم في الآية سواء ، وإن صححنا كما ايده ما في الصحيح عن أبي سفيان أن نصر الروم كان وقت الحديبية وذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، وكما قلنا : كان نزول الآية قبلالهجرة بشهرين ونحوهما ، صح أن نصر الروم كلان عند دخول السنة السابعة من نزول الآية كما في رواية الترميذي عن نيار رضي الله عنه ، وكان الموافق لعدد البضع سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة ، وفيها غلب شخص من الروم ، وذلك أن الظاهر خشقدم مات في ربيع الأول سنة اثنين وسبعين وثمانمائة من الهجرة ، فولى بعده الأمير الكبير يلبيه وهو من الشراكسة ، فلم ينتظم له الأمر ، فخلع في جمادى الأولى منها ، وولى الأمير الكبير تمربغا ولقب الظاهر وهو رومي ، فكان ذلك من الآيات الباهرات إن وافق هذا الأمر العدد المذكور على كلتا الوايتين : وراية من قال : إن التصر كان يوم بدر ورواية من(5/594)
صفحة رقم 595
قال : يوم الحديبية ، ولولا ولاية يلبيه ما صح إلا أحدهما ، إن في ذلك لعبرة ، هذا إن عددنا آحاد السنين ، وإن عددناها مئات فهو في بضع منها ، فإنه في المائة التاسعة كما اشار إليه الأستاذ أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فقال : حكمة الله جل ذكره في دوئر التقدير أن يرجع فيها أواخر الكلم عن أوائلها ، ومن الدوائر مقدرةن ومنها موسعة على مقدرا مشيئة الله فيها وبها ، ولما اخبر الله تعالى عن الروم أنهم غلبوا في أدنى الأرض وهي بلد الشام ، كان إخباراً منه عما يكون - والله أعلم - وبشارة بشر بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين أن ذلك سيكون ، يعني أن معنى ( غلبت ) مبنياً للمفعول إن كان بالنسبة غلى فارس كان المعنى وقع غلبها ، وإن كان بالنسبة للمسلمين كان المعنى : قرب زمان غلبها على أيدي المسلمينن ثم قال : فكان ذلك في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، غلبهم في بلاد الشام ، و استخرج بيت المقدس عن أيديهم .
والبضع من الثلاث إلى التسع ، وكان نزول هذه السورة بمكة فكان ذلك داخل بضع أسابيع سنين على رأس عشرين إلى ثمان وعشرين سنة ، ثم لم يزل الفتح بعد ذلك يتصل ويتسع إلى نهاية سبقت في التقدير ، ثم ذكر عود التقدير باستيلاء الروم على بعض أطراف الشام ثم باستنقاذ المسلمين ذلك منهم ، ونظر إلى ذلك تارة بحسب الأسابيع وتارة بحسب آحاد المئات ، وتارة بغير ذلك ، وصحح وقوعه في البضع بالغالبية والمغلوبية مرة بعد أخرى ، وهو من بدائع الأنظار ، ودقائق الأسرار الكبار .
ولما كان تغليب ملك على ملك من الأمور الهائلة ، وكان الإخبار به قبل كونه أهول ، ذكر علة ذلك فقال : ( لله ) أي وحده ) الأمر ( ولما افهم السياق العناية بالروم ، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته ، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدىء من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به ، وهو مبتدىء من الزمن الذي بعده ، فالتأخير به لا بغيره ، لحكمة دبرها سبحانه فقال : ( من قبل ) أي قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس ، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم ) ومن بعد ) أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم لا إلى غاية فيه أيضاً غلبهم الروم ، فحذف المضاف إليه هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمر مرتين .
ولما أخبر بهذه المعجزة ، تلاها بمعجزة أخرى ، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال : ( يومئذ ) أي إذ تغلب الروم على فارس ) يفرح المؤمنون ) أي العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنصر الله ) أي الذي لا(5/595)
صفحة رقم 596
رادّ لأمره ، لأهل الكتاب عامة ، نصرهم على المشركين في غزوة بدر وهو المقصود بالذات ، ونصر الروم على فارس لتصديق موعود الله ونصر من سيصير من أهل الكتاب الخاتم من مشركي العرب على الفرس في وقعة ذي قار ، فقد وقع الفرح بالنصر الذي ينبغي إضافته إلى الله تعالى وهونصر أهل الدين الصحيح اصلاً وحالاً ومالاً ، وسوق الكلام على هذا الوجه الذي يحتمل الثلاثة من بدائع الإعجاز ، وسبب وقعة ذي قار أنه كان أبرويز هذا - الذي غلب الروم ثم غلبته الروم - قد غضب على النعمان بن المنذر ملك العرب ، فأتى النعمان هذا هانىء بن مسعود بن عامر الشيباني ، فاستودعه ماله وأهله وولده وألف شكة ، أو أربعة آلاف شكة - والشكة بكسر المعجمة وتشديد الكاف : السلاح كله - ووضع وضائع عند أحياء العرب ثم هرب فأتى طيئاً لصهره فيهم ، وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة بن لأم ، فأبوا أن يدخلوه حبلهم وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس فقالوا له : أبيت اللعن اقم عندنا فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا ، فقال : ما أحب أن تهلكوا بسبب فجزيتم خيراً ، ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط ، وقال ابن مسكويه : بخانقين ، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه ، قال : والناس يظنون أنه مات بساباط ، والصحيح ما حكيناه .
فلما مات النعمان جعلت بكر بن وائل تغير في السواد ، فغضب من ذلك كسرى ، ثم بعث غلى هانىء بن مسعود يقول له : إن النعمان إنما كان عاملي ، وقد استودعك ماله وأهله وحلقته فابعث إليّ بها ولا تكلفني ن أبعث إليك وإلى قومك بالجنود فتقتل المقاتلة وتسبي الذراري ، فبعث إليه هانىء أن الذي بلغك باطل ، وما عندي شيء ، وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد الرجلين : إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعها ولن يسلم الحر أمانته ، أو رجل مكذوب عليه وليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد .
وكانت الأعاجم لهم قوة وحلم ، وكانوا قد سمعوا ببعض حلم العرب ، وأن الملك كائن فيهم ، فلما ورد عليه كتاب هانىء بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب على ان خرج بنفسه ، فأقبل حتى قكع الفرات فنزل غمر بني مقاتل ، وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانىء إياه ما منعه ، ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي وكان عامله على عين التمر وما والاها ، فاستشاره في الغرة على بكر بم وائل فقال له إياس : إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته ، وإن تطعني لم يعلم أحد لأي شيء عبرت وقطعت الفرات ، فيرون أن أمر العرب قد كربك ، ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غرة ثم ترسل حينئذ كتيبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر ، (5/596)
صفحة رقم 597
ويأتونك بطلبك ، فقال له كسرى : أنترجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك ، فأنت تتعصب لهم لا تألوهم نصحاً ، فقال إياس : الملك أفضل رأياً ، فقام عمر بن عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه وترجمانه بالعربية في أمور العرب فقال : قم ايها الملك وابعث غليهم بالجنود يكفوك وقلم إليه النعمان بن زرعة منولد السفاح الثعلبي فقال له : ايها الملك إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظو تهافتوا على ماء لهم يقال له : ذو قار ، تهافت الفراش في النار ، فعقد لنعمان بن زرعة على تغلب والنمر ، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وأياد وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب ، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر ، فكانت العرب ثلاثة آلاف ، وعقد للهامرز على ألف من الأساورة ، وعقد لخيارزين على ألف ، وبعث معهم باللطيمة وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البن والعطر والألطاف ، توصل ذلك إلى باذان عامل كسرى على اليمن ، وقال : إذا فزعتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمين ، وأمر عمرو بن عدي ان يسير بها ، وكانت العرب تحقرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن ، وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة ، فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهناً بما أحدث سفهاؤهم فاقبلوا منهم وإلا فقاتلوهم .
فلما بلغ الخبر بكر بن وائل سار هانىء بن مسعود حتى نزل بذي قار ، وأقبل النعمان بن زرعة حتى نزل على ابن أخته مرة بن عبد الله العجلي ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنكم أخوالي وأحد طرفي ، وإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد اتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهيباء والدوسر ، وإن الشر خياراً ، ولأن يفدي بعضكم بعضاً خير من أن تصطلموا ، انظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا معها رهناً من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم ، فقال له القوم : ننظر في أمورنا ، وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين - وجلهة الوادي : مقدمه ، مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره - وجعلتبكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم منقبائل بكر لا ترفع لهم جماعة غلاقالوا : سيدنا في هذه الجماعة ، إلى أن رفعت لهم جماعة فيها حنظلة بن ثعلية بن سنان العجلي فقالوا : يا أبا معدان فقد طال انتظارنا وقد كرهنا أن مقطع أمراً دونك ، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاء والرائد لا يكذب اهله ، قال : فما الذي أجمع رايكم عليه ؟ قالوا : قلنا اللحي أهون من الوهي ، وإن في الشر خياراً ، ولأن نفدي بعضنا بعضاً خير من أن نصطلم جميعاً ، فقال حنظلة : قبح اله هذا رأياً ، لا تجر أحرار فارس غزلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع صوتاً ، ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار ونزل الناس فأطافوا به ثم قال لهانىء بن مسعود : يا أبا أمامة إن ذمتكم ذمتنا(5/597)
صفحة رقم 598
عامة وأنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا ، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك ، فإن تظفر فسترد عليك ، وإن تهلك فأهون مفقود ، فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم ، ثم قال حنظلة للنعمان : لولا أنكرسول لما أبت إلى أهلك سالماً ، فرجع النعمان إلى أصحابه ، فأخبرهم فباتوا ليلتهم يستعدون للقتال ، وبات بكر بن وائل يستعدون للحرب ، فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم وأمر حنظلة بالظعن جميعاً فوقفها خلف الناس ثم قال : يا معشر بني بكر بن وائل قاتلوا عن ظعتنكم أو دعوا ، واقبلت الأعاجم يسيرون إلى تعبئة ، وكان ربيعة بن غزالة السكوتي ثم التجيني يومئذ هو وقومه نزولاً في بني شيبان فقال : يا بني شيبان أما إني لو كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العلم قالوا : وأنت والله من أوسطنا ، أشر علينا ، قال : لا تستهدفوا هذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ، ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس ، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر ، قالوا : فإنك قد رايت رأياً ، ففعلوا ، فلما التقى الزحفان وتقارب القوم قام حنظلة لن ثعلبة فقال : يا معشر بكر بن وائل إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم ، فإذا ارسلوه لم يُخْطِكُكْ ، فعاجلوهم اللقاء وابدأوهم ، ثم قام هانىء بن مسعود فقال : يا قوم مهلك معذور خير من منجى مفرور ، إن الحذر لا يدفع القدر ، وإن الصبر من أسباب الظفر ، المنية ولا الدنية ، واستقبال الموت خير من استدباره ، ياقوم : جدوا ، فما من القوم بد فتح لو كان رجال أجد ، أسمع صوتاً ولا أرى فوتاً ، يا لبكر شدوا واستعدوا ، فإن لا تشدوا تردوا ، ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل فقال : ياقوم إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم ، وكذلك أنتم في عيونهم فعليكم بالصبر ، فإن الأسنة تردي الأعنة ، يا لبكر قدماً قدماً ، ثم قام عمرو بن جبلة اليشكري فقال :
يا قوم لا تغرركم هذي الخرق ولا وميض البيض في شمس برق من لم يقاتل منكم هذي العنق فجنبوه اللحم واسقوه المرق
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى ( وضين ) امرأته فقطعه ثم تتبع الظعن بقيع وضنه ، لئلا يفر عنهن الرجال ، والوضين : بطان الناقة فسمي يومئذ : مقطع الوضن .
وقال ابن مسكوية : إنه لما قطع الوضن وقع النساء إلى الأرض وإن بنت القرين الشيبانية نادت :
ويها بني شيبان صفاً بعد صف إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف(5/598)
صفحة رقم 599
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم لتخف أيديهم بالضرب ، وتقدمت عجل يومئذ بلاء حسناً ، واضطمت عليهم جنود العجم فقال الناس : هلكت عجل ، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً ثابتة تقاتل وامرأة منهم تقول :
إن يظفروا يحرزوا فينا الغزل فدى لكم نفسي فدى بني عجل
وتقول أيضاً :
إن تقدموا نعانق ونفرش النمارق أو تهربوا نفارق فراق غير وامق
فكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خيارزين وبنو شيبان في ا لميسرة بإزاء كتيبة الهامرز ، وأفناء بكر بن وائل في القلب فخرج أسوار من الأعاجم مسور مشنف في أذنيه درتان ، من كتيبة العامرز يتحدى الناس للبراز ، فنادى في بني شيبان فلم يبارزه أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له برد بن حارثة أخو بين ثعلبة فشد عليه بالرمح فطعنه فدق صلبه وأخذ حليته وسلاحه ، وقال ابن مسكوية : ونادى الهامرز لما رأى جد القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت مرد ومرد ، فقال : وأبيكم لقد أنصف ، وبرز له فلم يلبتث برد أن تمكن من الهامرز فقتله .
وقال ابن مكرم في اختصارو للأغاني : ثم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى ان زالت الشمس ، فشد الحوقران واسمه الحارث ابن شريك على الهامرز فقتله وقتلت بنو عجل خيارزين ، وضرب الله وجوالفرس فانهزموا ، وتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه فلم يلفت منهم كبير أحد ، وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم ، وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم ، وكان أول من أنصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة ، وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش غلا نزع كتفيه ، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال : هزمنا بكر بن وائل ، وأتيناك بنسائهم ، فأعجب ذلك كسرى ، وأمر له بكسوه ، ثم إن إياساً استأذنه عند ذلك فقال : إن أخي مريض بعين التمر ، فأردت أن آتيه ، وإنما أراد أن ينتحي عنه ، فإذن له ، ثم أتى رجل من أهل الحيرة فسأل : هل دخل على الملك أحد ؟ فقالوا : نعم إياس ، فقال : ثكلت إياساً أمه وظن أنه قدحدثه بالخبر ، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم ، فأمر به فنزعت كتفاه ؛ وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر باشهر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، فلما بلغه ذلك قال : ( هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا ) روى ذلك الطبراني في المعجم(5/599)
صفحة رقم 600
الكبير ، وقيل : إن الزقعة مثلتت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بالمدينة فرفع يده ، فدعا لبني شيبان أو لجماعة ربيعة بالنصر ، ولم يزل يدعو لهم حتى ارى هزيمة الفرس ، وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أيها بني ربيعة اللهم انصرهم ) فهم إلى الآن إذا حاربوا نادوا بشعار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودعوته ، وقال قائلهم : يارسول الله دعوتك ، فإذا دعوا بذلك نصروا .
وروى ذلك الطبراني الكبير - قال الهيثمي : ورجاله الصحيح غير خلاد بن عيسى وهو ثقة - عن خالد ابن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : قدمت بكر بن وائل مكة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر رضي الله عنه : ( ائتهم فاعرض عليهم ) فأتاهم فقال : من القوم ؟ ثم عاد إليهم ثانية فقال : من القوم ؟ فقالوا : بنو ذهل بن شيبان ، فعرض عليهم الإسلام ، قالوا : حتى يجيء شيخنا فلان - قال خلاد : أحسبه قال : المثنى بن خارجة - فلما جاء شيخهم عرض عليهم أبو بكر رضي الله عنه ، قال : إن بيننا وبين الفرس حرباً ، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا ، فقال له أبو بكر : أرأيت إن غلبتموهم أتتبعنا على أمرنا ؟ قال : لا نشترط لك هذا علينا ولكن إذا فرغنا فيما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما نقول ، فلما التقوا يوم ذي قار هو والفرس قال شيخهم : ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى الله ؟ قالوا : محمد ، قال : فهو شعاركم فنصروا على القوم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بي نصروا ) انتهى .
ومن الأشعار في وقعة ذي قار قول أبي كلبة التميمي :
لولا فوارس لا ميل ولا عزل من اللهازم ما قظتم بذي قار إن الفوارس نم عجل هم أنفوا بأن يخلّوا لكسرى عرصة الدار قد أحسنت ذهل شيبان وما عدلت في يوم ذي قار فرسان ابن سيار هم الذين أتوهم عن شمائلهم كما تلبّس وراد بصدار
وقال الأعشى :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي وصاحبها يوم اللقاء وفلت هم ضربوا بالحنو حنو قراقر مقدمة الهامرز حتى تولت
ولما أخير بإدالة الروم بعد الأدلة عليهم مع ما دخل تحت مفهوم الآية ، وكان ربما قيل : ما له لم يدم نصر أهل الكتاب ؟ علل ذلك كله بقوله ( ) ينصر من يشاء ( من(5/600)
صفحة رقم 601
ضعيف وقوي ، لأنه لا مانع له و لا يسأل عما يفعل ) وهو العزيز ( فلا يعز من عادى ، ولا يذل من والى ، ولما كان هذا السياق لبشارة المؤمنين قال : ( الرحيم ) أي يخص حزبه بما ينيلهم قربة من الأخلاق الزكية ، والأعمال المرضية .
الروم : ( 6 - 8 ) وعد الله لا. .. . .
) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( ( )
ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر ، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد ، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد ، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل ، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم ، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد ، فقال : ( وعد الله ) أي الذي له جميع صفاتالكمال ، وهو متعال عن كل شائبة نقص ، فلذلك ) لا يخلف ( وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال : ( الله ) أي الذي له الأمر كله .
ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد ، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره ، أظهر فقال : ( وعده ( كما يعلم ذلك أولياؤه ) ولكن أكثر الناس ( وهو أهل الاضطراب والنوس ) لا يعلمون ) أي ليس لهم علم أصلاً ، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرا لأنه قادر وحكيم .
ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية ، وأنظار صائبة ، فكانوا بصدد أن يقولوا : إن علمنا أكبر من علمكم ، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية ، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا : نعم ) يعملون ( ولكن ) ظاهراً ) أي واحداً ) من ( التقلب في ) الحياة الدنيا ( وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخرفها والتنعم بملاذها ، قال الحسن ( إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى .
وأمثال هذا لهم كثير ، وهو وإن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة ، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى .
ولما ذكر حالهم في الدنيا ، أتبعه ذكر اعتقادهم في الآخرة ، مؤكداً إشارة إلى أن(5/601)
صفحة رقم 602
الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها ، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسنم ضدها يدل عليها ، لأنه لا تكون إلا في مقابلة قصياً ، ولا أولى إلا بالنسبة غلى أخرى ، فقال : ( وهم ( اي هؤلاء الموصوفون خاصة ) عن الآخرة ( التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صصفات العز والكبر والجلال والإكرام ) هم غافلون ) أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم ، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها ، واستهزؤوا بالمخبر ، ولم يجوزوها نوع تجير مع أن دلائلها تفوت الحصر ، وتزيد على العد ، فصاروا كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات ، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن الأمور تجري ين العباد غعلى غير قانون الحكمة ، لأنهم كثيراً ما يرون الظالم يموت ولم يقتص منه ، وهم في غفلة عن أنه أخر جزاؤه غلى يوم الدين ، يوم يكشف الجبار حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله ، ومن أريد القصاص منه عاجلا فعل ، وقضية الروم هذه منذلك ، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن العلم أعظم من التكذيب بالآخرة ، ولا شيء اعون عليه من التصصديق بها والاهتمام بشانها ، لأن ذلك حامل علىطلب الخلاص في ذلك اليوم ، وهو لا يكيون على أتم الوجوه غلا لمن وصل غلى حالة المراقبة ، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة غلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها ، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما في حال غفلتهم عن الآخرة ، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق .
ولما كان التقدير : أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيه أو في السنة ، فكانت على حسب ما وعد ، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً ، ولا يكون حكيماً غلا من صدق في وعده ، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة ، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً لهم : ( أو لم يتفكروا ( اي يجتهدوا في إعمال الفكر ، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال : ( في أنفسهم ( ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى : يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص ، فكيف بالإله الحق ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم(5/602)
صفحة رقم 603
وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين آجالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أوأو شكر أو كفر ، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسولب التأكيد لأجل إنكارهم ، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه ) ما خلق الله ) أي بعز جلاله ، وعلوه في كماله ) السماوات والأرض ( علىما هما عليه من النظام المحكمن والقانون المتقن ، وافرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء ) وما بينهما ( من المعاني التي بها كمال منافعهما ) إلا ( خلقاً متلبساً ) بالحق ) أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطكابقاً للأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فراى إختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب الصغارو الكبار ، وإمطار الأمطار ، وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من لأسرار ، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار ، وإذا خطر له العلم ، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم ، ونظام واضح قويم ، وسير متقن حكيم ، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره ، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد ، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد ، وخلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه .
ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين ، فالقدرة التي خلق بها ذلك كله وابتدأكم ثم يبيدكم ، بها بعبينها يحييكم ويعيدكم ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ، أو إلا بسبب إحقاق الحق وإبطال الباطل ، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس ، ولا بد من أن يقيمكم بعد أن ينيمكم ويثبت كل حق رأيتموه قد ابطل ، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل ، لأنه أحكم الحاكمين ، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك .
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد ، قال : ( وأجل ( لا بد أن ينتهي غليه ) مسمى ) أي في العلم من الأزل ، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة ، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه ، فذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام ، واختل هذا الإحكام ، وزالت هذه الأحكام ، فتساقطت هذه الأجرام ، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام ، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام .(5/603)
صفحة رقم 604
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر ، أكد قوله : ( وإن كثيراً من الناس ( مع ذلك على وضوحه ) بلقاىء ربهم ( الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة غلى العرض عليه للثواب والعقاب ) لكافرون ) أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً ، كأنه غريزة لهم ، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على الفرس ، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه ، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر ، وإذا راجعت ما تقدم في آية الأنعام ) ) وهو الذي خلقكم من طين ( ) [ آية : 2 ] ازددت في هذا بصيرة .
الروم : ( 9 ) أو لم يسيروا. .. . .
) أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ( )
ولما أقام عليهم الدليلن أتبعه التهديد والتهويل ، فقال عاطفاً على ( أولم يتفكروا ) ) أو لم يسيروا ( ولما أحاطت آثار المكذبين بمكة المشرفة شرقاً وغرباً ، وجنوباً وشمالاً ، بديار ثمود وقوم فرعون وعاد وسبأ وقوم ولوط ، عرف وأطلق فقال : ( في الأرض ) أي سير اعتبار وتأمل وادكار من أي جهة أرادوا ، وفيه إشارة غلى أنهم واقفون عند النظر في ظاهر الملك بأبصارهم ، قاصرون عن الاعتبار في باطن الملكوت بأفكارهم ، وفيه هزٌّ لهم إلى امتطاء هذه الدرجة العلية ، بهذه العبارة الجلية ) فينظروا ( .
ولما كان ما حل بالماضيين أمراً عظيماً ، نبه على عظمة بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال : ( كيف كان ) أي كوناً لا قدرة على الانفكاك عنه ، وتذكير العمل يشير غلى عظم الأمر ) عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين ( ولا كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له ، اثت الجار فقال : ( من قبلهم ( في إهلاك العاصي وإنجاء الطائعن ولما كان علم العقبة مشروطاً بمعرفة البادئة قال مستأنفاً : ( كانوا ) أي كوناً هو في غاية المكنة .
ولما كان السياق للظهور والغلبة التي إنما مدارها على الشدة المقتضية للثبات ، لا الكثرة العارية عنها ، أعرض عنها وقال مسقطاً ضمير الفصل لأن هذا السياق لا يظهر فيه ادعاء العرب لعلوهم على فارس ولا الروم : ( أشدَّ منهم ) أي من العرب ) قوة ) أي في أبدانهم وعقولهم ، ولما كان التقدير : فنقبوا الجبال ، وعلوا من متقن الصنائع التي ترونها من الأعمال ما لم يداينه أحد من الأجيال ، عطف عليه قوله : ( وأثاروا ( بالحرث وغيره ) الأرض ( فأخرجوا ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والزروع وغير ذلك من المعادن ) وعمروها ) أي أؤلئك السالفون ) أكثر مما عمروها ( اي هؤلاء الذين(5/604)
صفحة رقم 605
ارسلت إليهم ، بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي جبال سود وفيافي غبر ، فما هو إلى تهكم بهم ، وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها .
ولما كانوا قد وقفوا مثل هؤلاء مع السبب الأدنى ، ولم يرتقوا بعقولهم إلى المطلوب الأعلى ، أخبر أنه أرسل إليهم الدعاة ينبهونهم من رقدتهم ، وينقذونهم من غفلتهم ، فكان التقدير : فضلوا عن المنهج الواضح ، وعمو اعن السبيلالرحب ، وزاغوا عن طريق الرب ، فأرسلنا إليهم الرسل ، فعطف عليه قوله مشيراً بتأنيث الفعل غلى ضعف عقولهم بتكذيبهم الرسل كما تقدم إيضاحه عند ) ) تلك الرسل ( ) [ البقرة : 253 ] : ( وجاءتهم رسلهم ) أي عنا ) بالبينات ( من المعجزات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا السابقة ، وأمورنا الخارقة ، كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار بأن العير تقدم في يوم كذا يقدمها جمل صفته كذا وغرائره كذا ، فظهر كذلك ، وما آمنتم كما بم يؤمن من كان أشد منكم قوة ) فما ) أي بسبب أنه ما ) كان الله ( على ما له من أوصاف الكمال مريداً ) ليظلمهم ( بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات ) ولكن كانوا ( بغاية جهدهم ) أنفسهم ( اي خاصة ) يظلمون ) أي يجددون الظلم لها بإيقاع الضر موقع جلب النفع ، لأنهم لا يعتبرون بعقولهم التي ركبناها فيهم ليستضيؤا بها فيعلموا الحق من الباطل ، ولا يقبلون من الهداة إذا كشفوا لهم ما عليها من الغطاء ، ولا يرجعون عن الغي غذا اضطروهم بالآيات الباهرات ، بل ينتقلون من الغفلة إلى العناد .
الروم : ( 10 - 13 ) ثم كان عاقبة. .. . .
) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ ( ( )
ولما كان انتكاسهم بعد هذا الأسباب المسعدة بعيداً ، أشار إليه بأداة التراخي ، أو هي إشارة إلى تطاول دعار الرسل لهم احتمالهم إياهم فقال : ( ثم كان ) أي كوناً تعذر الانفكاك عنه ، وهو في غاية الهول كما اشار غليه تذكير الفعل ) عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين أساءوا ( أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على السبب ) السوأَى ) أي الحالة التي هي أسوأ ما يكون ، وهي خسارة الأنفس بالدمار في الدنيا والخلود في العذاب في(5/605)
صفحة رقم 606
الأخرى ، جزاء لهم بجنس عملهم ، فنهم كما أساؤوا الرسل ساءهم الملك ؛ ثم ذكر العلة بقوله : ( ن كذبوا ( اي لأجل تكذيبهم الرسل ، مستهينين ) بآيات الله ) أي الدلالات المنسوبة غلى الملك الأعلى الذي له الكمال كله الدالة عليه على عظمها بعظمه ) وكانوا ) أي كوناً كأنه جبلة لهم ) بها ( مع كونها أبعد شيء عن الهزء ) يستهزئون ) أي يستمرون على ذلك بتجديده في كل حين مع تعظيمه حتى كان استهزاؤهم بغيرها كأن عدم ، كما أنكم أنتم تكذبون بما وقع من الوعد في أمر الروم وتستهزئون به فاحذروا أن يحل بكم ما حل بالأولين ، ثم تردون إليه سبحانه فيعذبكم العذاب الأكبر ، ويجوز أن يكون هذا بدلاص من ( السُّوأَى ) أو بياناً لها بمعنى أنهم لما أساؤوا زادتهم إساءتهم عماوة حتى ارتكسوا في العمى فوصلوا إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أقبح الحالات ، عكس ما يجازي به المؤمن من أنه يزداد بإيمانه هدى .
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداءن وكان للتصريح مع النفس حالة ليست لغيره ، قال ذاكراً نتيجة ما مضى ومحصله تصريحاً بالمقصود وتلخيصاً للدليل : ( الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) يبدؤاْ الخلق ) أي بدا منه ما رأيتم وهو يجدد في كل حين ما يريد من ذلك كما تشاهدون ) ثم يعيده ( بعد ما يبيده ، وترك توكيده إشارة إلىأنه غني عنه لأنه من القضايا المسلمة أن من اخترع شيئاً كان لا محالة قادراً على إعادته .
ولما كان الجزاء امراً مهولاً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم إليه ) أي لا إلى غيره ) ترجعون ( معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها إلى الأسباب ، وحسا بعد قيام الساعة ، وقراءةا لجماعة بالالتفات إلى الخطاب أبلغ لأنها أنص على المقصود ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بالياء التحتانية على النسق الماضي .
ولما ذكر الرجوع ، أتبعه بعض أحوزاله فقال : ( ويوم تقوم الساعة ( سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما فيهم من العظماء وزالكبراء والرؤساء ) يبلس ( اي يسكت ويسكن يأساً وتحيراً على غاية الذل - بما أشار إليه تذكير الفعل امع التجدد والاستمرار بما أومأ إليه المضارع ) المجرمون ( الذين وصلوا من الدنيا ما من حقه أن يقطع لفنائه ، وقطعوا من أسباب الآخرة مامن حقه أن يوصل لبقائه ، وكانوا في غاية اللبس في الجدل ومعرفة كل ما يغيظ الخصم من القول والفعل والتمايل والتضاحك عند سكوت الخصم تعجباً من جريانهم في هذيانهم سروراً منهم بإسكاته ليظن بعض من رآه أنه انقطع وأن الحجة لهم .(5/606)
صفحة رقم 607
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره ، نفى ذلك بقوله محققاً له بجعله ماضياً : ( ولم يكن ( ولما كان المقام لتحقيرهم بتحقير شركائهم رتب نفي النفع الموجع لهم هذا الترتيب ، ويجوز أن يراد بترتيبه مع ذلك التخصيص فيقال : ( لهم ) أي خاصة في ذلك الوقت ولا بعده ، ولا كان في عداد ذلك من قبل لو كانوا يعقلون ، وأما غيرهم ممن يصح وصفه بالإجرام لكونه من أهل الشرك الخفي فقد يشفع فيه من رباه من الشهداء والعلماء وعامة المؤمنين ) من شركائهم ( الذي زعموهم خاصة ليتبين لهم خلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : ( ) هؤلاء شفعاؤنا عند الله ( ) [ يونس : 18 ] وأما غيرهم فيقع منهم ما يسمى شفاعة تارة تصريحاً وأخرى تلويحاً كالشفاعة العامة من نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في الخلق عامة لفصل القضاء ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في ناس بأعيانهم : ( أصحابي إليّ إليّ ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقولك فسحقاً سحقاً ) وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) ) ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( ) [ إبراهيم : 36 ] ) شفعاؤا ( ينقذونهم مما هم فيه وما يستقبلونه وإتيانه بصيغة جمع الكثرة يمكن أن يكون لا مفهوم له ، لأن مورده رد اعتقادهم في قولهم السالف ، ويمكن ن يفهم أنه قد يقع من بعض من عبدوه شفاعة ، أو تلويح بها كقول عيسى عليه السلام ) ) وإن تغفر لهم فإنك أنت لعزيز الحكيم ( ) [ المائدة : 118 ] .
ولما ذكر حال الشفعاء معهم ، ذكر حالهم مع الشفعاء فقال : ( وكانوا ) أي كوناً هو في غاية الرسوخ ) بشركائهم ( اي خاصة ) كافرين ( اي متبرئين منهم ساترين لأن يكونوا اعتقدوهم آلهة وعبدوهم جرياً على عادتهم فيما لا يغنيهم من العناد والبهت .
الروم : ( 14 - 20 ) ويوم تقوم الساعة. .. . .
) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( ( )
ولما كانت النفس ربما تشوفت إلى أنه هل يكون بعد إبلاسهم شيء آخر ، قال مفيداً له مهولاً بإعادة ما مضى : ( ويوم تقوم الساعة ) أي ويا له من يوم ، ثم زاد في(5/607)
صفحة رقم 608
تهويله بقوله : ( يومئذ يتفرقون ) أي المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها ، هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل سافلين .
حكى لي بعض القضاة نم أصحابي - عفا الله عنه - وهو يبكي انهرأى مناماً مهولاً ، وذلك أنه رأى القيامة قد قامت ، والناس يحشرون - على ما وصف في الأحاديث - في صعيد واحد عرايا خائفين حائرين ، يموج بعضهم في بعض ، فإذا شخص مما له أمر قد اشار بسوط معه وخط به في الأرض فقسمهم قسمين فقال : هؤلاء مطيعون وهؤلاء عصاة الأفعال ، قال : فكنت في عصاة الأفعال ، ثم غاب في الحال عنا عصاة الأقوال ، فلم نر منهمأحداً وبقينا نحن منا الجالس ومنا المضطجع ، ونحن قليل بالنسبة غلى عصاة الأقوال ، فبينا نحن كذلك إذ جاء آتٍ إلى شخص إلى جانبي فأخذه منكعبه ثم نشطه فأخرج جلده بمرة واحدة كأنه جراب نزع عن شيء فيه يابس ، فحصل لي من ذلك ذعر شديد فبينا أنا كذلك إذ آتٍ جاءني من ورائي ، فألقى عليّ جوخة فجعلها على أكتافي وأدارها على أفخاذي فسترني بها ولكن على غير هيئة لبس المخيط ، قال : واستيقظت وأنا على ذلك فقصصته على بعض الصالحين فقالك أحمد الله على كونك من عصاة الأفعال ، وأخذ من ستري بالجوخة علىتلك الهيئة أني أحج ، فبشرني بذلك فحججت في ذلك العام - والله تعالى المسؤول في التوبة ، فإنه الفعّال لما يريد ) فأما الذين آمنوا ( اي أقروا بالإيمان بألسنتهم ) وعملوا ( تصديقاً لإقرارهم ) الصالحات ) أي كلها .
ولما تقدم هنا ذكر عمارة الأرض وإصلاحها للنبات ووعظ من جعلها أكبر همه بأنها لم تدم له ولا أغنت عنه شيئاً ، ذكر أنه جزى من أعرض عنها بقلبه لاتباع أمره سبحانه أعهظم ما يرى من زهرتها ونضرتها وبهجتها على سبيل الدوام فقال : ( فهم ) أي خاصة ) في روضة ) أي لا أقل منها وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غذق ونبات معجب بهج - هذا أصلها في اللغة وقال الطبري : ولا تجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض .
) يحبرون ( اي يسيرون على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه ، وتبسم الأفواه ، وتزهو العيون ، فيظهر حسنها وبهجتها ، فتظهر النعمة بظهور آتارها على أسهل الوجوه وأيسرها .
قال الرازي في اللوامع : وأصله - أي الحبرة - في اللغة أثر في حسن ، وقال غيره : حبره - إذا سره سروراً تهلل له وجهه ، وظهر فيه أثره .
) وأما الذين كفروا ) أي غطوا ما كشفته أنوار العقول ، ) وكذبوا ( عناداً ) بآياتنا ( التي لا تصدق منها ولا أضوأ من أنوارها ، بما لها من عظمتنا ) ولقآءى الآخرة ( الذي(5/608)
صفحة رقم 609
لم يدع لبساً في بيانه ) فأولئك ) أي البعداء البغضاء ) في العذاب ( اي الكامل لا غيره ) محضرون ( من أي محضر كان ، بالسوق الحثيث ، والزجر العنيف ، فإذا وصلوا غلى مقره وكل بهم منيديم كونهم كذلك - لإفادة الجملة الاسمية الدوام ، فلا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم .
ولما بين سبحانه المبدأ بخلق السماوات والأرض ، والمعاد بالجنة والنار ، وأنهم كذبوا به ، وكان تكذيبهم به مستلزماً لاعتقاد نقائص كثيرة منها العجز وإخلاف الوعد وترك الحكمة ، كان ذلك سبباً لأن ينزه سبحانه نفسه المقدسة ويأمر بتنزيهها ، لأن ذلك يدفع عن المنزه مضار الوعيد ، ويرفعه إلىمسار الوعد ، فقال ذاكراً من أفعاله العالية التي لا مطمع لغيره في القدرة على شيء منها ما يدل على خلاف ذلك الذي يلزم اعتقادهم ، لافتاً الكلام عن صيغة العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم .
) فيبحان الله ) أي سبحوا الذي له جميع العظمة بمجامع التسبيح بأن تقولوا هذا القول الذي هو عَلَمه ، فهو منزه عن كل نقص ؛ ثم ذكر أوقات التسبيح إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث ، فقال دالاً على الاستغراق بنزع الخافض مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل ، لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً : ( حين تمسون ) أي أول دخول الليل بإذهاب النهار وتفريق النور ، فيعتريكم الملل ، ويداخلكم الفتور والكسل ، على سبيل التجدد والاستمرار ، وأكد الندب إلى التسبيح بإعادة المضاف فقال : ( وحين تصبحون ( بتحويل الأمر فتقومون أحياء بعد ان كنتم أمواتاً فتجدون نهاراً قد أضاء بعد ليل كان دحى ، فتفعلون ما هو سبحانه منزه عنه من الحركة والسعي في جلب النفع ودفع الضرر ، وأرشد السياق غلى أن التقدير : وله الحمد في هذين الجنسين .
ولما ذكر ما يدل على خصوص التنزيه ، اتبعه ما يعرف بعموم الكمال ، فقال ذاكراً لوقت كمال النهار وكمال الظلام ، وتذكيراً بما يحدث عندهما للآدمي من النقص بالفتور والنوم اعتراضاً بين الأوقات للاهتمام بضم التحميد غلى التسبيح : ( وله ) أي وحده مع النزاهة عن الشوائب النقص ) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال .
ولما قدم سبحانه أن تنزهه ملأ الأزمان ، وكان ذلك مستلزماً لملء الأكوان ، وكان إثبات الكمال أبين شرفاً من التنزيه عن النقص ، صرح فيه بالقبيلين فقال : ( في السماوات ) أي الأجرام العالية كلها التي تحريكها - مع أنها من الكبر في حد لا يحيط به غلا هو سبحانه - سبب للإمساء والإصباح وغيرهما من المنافع ) والأرض ( التي فيها من(5/609)
صفحة رقم 610
المنافع ما يجل عن إحاطتكم به مع أنها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في فلاة ، ولولا ذلك لظهر لكم ذلك برؤية ما وراءها هو شأن كل مظل مع كل مقل كما تشاهدون السحاب ونحوه .
ولما خص الإمساء والإصباح ، عمّ فقال معبراً بما يدل على الدوام ، لأن وقت النوم الدال على النقص أولى بإثبات الكمال فيه : ( وعشياً ( اي من الزوال إلى الصباح ) وحين تظهرون ) أي تدخلون في شدة الحر ، وسبحانه الله في ذلك كله ، فالآية من الاحتباك : ذكر التسبيح أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والحمد ثانياً دليلاً على إرادته أولاً ، ولعل المراد بالإظهار هنا ما هو أعم من وقت الظهر ليكون المراد به من حين يزول ااسم الصباح من وقت ارتفاع الشمس غلى أن يحدث اسم المساء ، وهو من الظهر إلى الغروب - قاله ابن طريف في كتابه الأفعال ونقله عن الإمام عبد الحق في كتابه الواعي ، وذلك حين استبداد النهار فيكون كماله فيما دون ذلك من باب الأولى ، وهذا مع هذه الدقائق إشارة إلى الصلوات الخمس ، أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب ، وفي وقت الصباح بالصبح ، وفي العشى بالعشاء ، وفي الإظهار بالظهر ، وفي هذا التخريج من الحسن بيان الاهتمام بالصلاة الوسطى ، فابتدأ سبحانه بالعصر التي قولها أصح الأقوال ، ودخول المغرب في حيزها بطريق التبعية والقصد الثاني ، وثنى بالصبح وهي تلبها في الأصحيّة وهما القريبتان ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من صلى البردين دخل الجنة ) - رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه ، ( من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة ) - أسنده صاحب الفردوس عن عمارة بن روبية رضي الله عنه ورواه مسلم وغيره عنه بلفظ : ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) - يعني الفجر والعصر ( كنا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم ( ، ثم قرأ ) فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( رواه البخاري عن جرير بن(5/610)
صفحة رقم 611
عبد الله رضي الله عنه ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح ) يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ( يدخل هنا .
ولما ذكر دلالة على لابعث المستلزم للوحدانية مطلق التحويل الذي هو إحياء في المعنى بعد إماتة ، اتبعه الإحياء والإماتة حقيقة ، صاعداً من ذكر البعث تصريحاً بما كان ألقاه تلويحاً فقال : ( يخرج الحي ( كالإنسان والطائر ) من الميت ( كالنطفة والبيضة ) ويخرج الميت ( كالبيضة والنطفة ) من الحي ( عكس ذلك ) ويحي الأرض ( باخضرار النبات .
ولما كان من الأراضي ما لا ينبت إلا بعد مدة إنزال المطر ، ومنها ما ينبت من حين إنزال المطر عقب تحطم ما كان بها من النبات سواء ، أسقط الجار هنا تنبيهاً على الأمر الثاني لأنه أدل على القدرة ، فهو أنسب لهذاالسياق ولمقصودها السورة ، ولأنه جعل فيه قوة إحيائها على الدوام فقال : ( بعد موتها ( بيبسه وتهشمه .
ولما كان التقدير : كذلك يقعل على سبيل التكرر وأنتك تنظرون ، عطف عليه قوله : ( وكذلك ) أي ومثل فعله هذا الفعل البديع من إخراجه لهذا الحي حساً ومعنى من الميت ) تخرجون ( بأيسر أمر من الأرض بعد تفرق أجسامكم فيها من التراب الذي كان حياً بحياتكم - هذا على قراءة الجماعة البناء للمفعول .
وبناه حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه للفاعل إشارة إلى أنهم لقوة تهيئهم لقبول البعث صاروا كأنهم يخرجون بأنفسهم - روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه خرج وافداً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالكبن المنتفق رضي الله عنه ، قال : فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لانسلاخ رجب ، فأتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الغداة خطيباً إلى أن قال : ( ألا اسمعوا تعيشوا إلا اجلسوا اجلسوا ، قال : فجلس الناس فقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت : يا رسول الله ما عندك من علم الغيب ، فضحك لعمر الله وهز رأسه فقال : ضن ربك بمفاتيح الخمس من الغيب فذكره حتى ذكر البعث ) قال : فقلت : يا رسول الله ، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع ؟ قال : ( أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، الأرض اشرفت عليها وهي مدرة بالية ) فقلت : لا تحيا أبداً ، ( ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلا اياماً حتى أشرقت عليها وهي(5/611)
صفحة رقم 612
شرقة واحدة ، ولعمر إلهك لهو اقدر على أن يجمعكم من الماء كما أنه يجمع نبات الأرض فتخرجون .
) ولما كان التقدير : هذا منآيات الله التي تشاهدونها كل حين دلالة على بعثكم ، عطف عليه التذكير بما هو أصعب منه في مجاري العادات فقال : ( ومن آيته ) أي على قدرته على بعثكم .
ولما كان المراد إثبات قدرته سبحانه على بعثهم بعد أن صاروا تراباً بإيجاده لأصلهم من تراب يزيد على البعث في الإعجاب بأنه لم يكن له أصل في الحياة ، وكان فعله لذلك إنما مكان مرة واحدة ، قال معبراً بالماضي : ( أن خلقكم ( بخلق ابيكم آدم ) من تراب ( لم يكن له أصل اتصاف ما بحياة .
ولما كان ابتداء الإنسان من التراب في غاية العجب ، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال : ( ثم ) أي بعد إخراجكم منه ) إذا أنتم بشر ( اي فاجأتم كونكم لكم بشرة هي في غاية التماسك والاتصال مع اللين عكس ما كان لكم من الوصف غذا كنتم تراباً ، واسند الاتنشار إلى المبتدأ المخاطب لا الخبر لأن الخطاب أدل على المراد فقال : ( تنتشرون ( اي تبلغون بالنشر كل مبلغ بالانتقال من مكان غلىمكان مع العقل والنطق ، ولم يختم هذه الآية بما ختم به ما بعدها دلالة على أنها جامعة لجميع الآيات ، ودلالة على جميع الكمالات ، وختم ما بعدها بذلك تنبيهاً على أن الناس أهملوا النظر فيها على وضوحها ، وكان من حقهم أن يجعلوها نصب أعينهم ، دلالة على كل ما نزلت به الكتب ، وأخبرت به الرسل ، وكذلك أكد في الإخبار إعلاماً بأنهم صاروا لإهمالها في حيز الإنكار .
الروم : ( 21 - 23 ) ومن آياته أن. .. . .
) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ( )
ولما كام أعجب من ذلك أن هذا الذي خلقه التراب ذكراً خلق منه أنثى ، وجعلهما شبهي السماء والأرض ماء ونبتاً وفضالً ، قال : ( ومن آيته ) أي على ذلك ؛ ولما كان إيجاد الأنثى من الذكر خاص لم يكن إلا مرة واحدة كالخلق من اتراب ، عبر بالماضي فقال : ( أن خلق لكم ( اي لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد ، وفي(5/612)
صفحة رقم 613
تقديم الجار دلالة على حرمة التزوج من غير النوع ، والتعبير بالنفس اظهر في كونها من بدن الرجل في قوله : ( من أنفسكم ( اي جنسكم بعد إيجادها من ذات ابيكم آدم عليه السلام ) أزواجاً ( إناثاً هن شفع لكم ) لتسكنوا ( مائلين ) إليها ( بالشهوة والألفة ، من قولهم : سكن إليه - إذا مال وانقطع واطمأن إليه ، ولم يجعلهما من غير جنسكم لئلا تنتفروا منها .
ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الألفة قال : ( وجعل ( اي صير بسبب الخلق على هذه الصفة ) بينكم مودة ( اي معنى من المعاني يوجب أن لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من محبة الأذى ، وإنما كان هذا معناه لأن مادة ( ودد ) مستوياً ومقلوباً تدور على الاتساع والخلو من الدو والدوية بتشديد الواو وهي الفلاة ، والود والوداد قال ي القاموس : الحب ، وقال أبو عبد الله القزاز ونقله عنه الإمام عبد الحق في واعيه : الأمنيةن تقول وددت أن ذاك كان ، وذاك لاتساع مذاهب الأماني ، وتشعب اودية الحب ، وفي القاموس : ودان : قرية قرب الأبواء وجبل طويل قرب فيد ، والمودة : الكتاب - لاتساع الكلام فيه .
وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الود خلو عن إرادة المكروه ، فإذا حصل إرادة الخير وإيثاره كان حياً ، من لم يرد سواه فقد ود ومن أراد خيراً فقد أحب ، والود أول التخلص من داء أثر الدنيا بما يتولد لطلابها من الازدحام عليها من الغل والشحناء ، وذلك ظهور لما يتهياً له من طيب الحب ، فمن ود لا يقاطع ، ومن أحب واصل وآثر ، والودود هو المبرأ من جميع جهات مداخل السور ظاهره وباطنه .
ولما كان المعنى الحسن لا يتم إلا بإرادة الخير قال : ( ورحمة ) أي معنى يحمل كلاًّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ، ودفع الضير ، لكن لما كانت إرادة الخير قد تكون بالمن ببعض ما يكره جمع بين الوصفين ، وهما من الله ، والفرك - وهو البغض - من الشيطان .
ولما كان ذلك من العظمة بمكان يجل عن الوصف ، اشار إليه بقوله مؤكداً لمعاملتهم له بالإعراض عما يهدي إليه معاملة من يدعي أنه جعل سدى من غير حكمة ، مقدماً الجار إشارة إلى أن دلالته في العظم بحيث تتلاشى عندها كل آية ، وكذا غيره مما ان هكذا علىنحو
77 ( ) وما نريهم من آية إلا وهي أكبر من أختها ( ) 7
[ الزخرف : 48 ] : ( إن في ذلك ( اي الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع ) لآيات ( واضحات على قدرة فاعلة وحكمته .
ولما كان هذا المعنى مع كونه دقيقاً يدرك بالتأمل قال : ( لقوم ) أي رجال أو في(5/613)
صفحة رقم 614
حكمهم لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم ) يتفكرون ) أي يستعملون افكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك .
ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى ، المخلوقين من الأرض ، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان ، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة ، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متدماً على عكس ما كان في الإنسان ، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً - بعد ما ذكر من آيات الأنفس - إلى آيات الآفاق : ( من آياته ) أي الدالة على ذلك ، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً غلى حالة واحدة ، عبر بالمصدر فقال : ( خلق السماوات ( على علوها وإحكامها ) والأرض ( على اتساعها وإتقانها .
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة ، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره ، وتكوينه وتدبيره : ( واختلاف ألسنتكم ) أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ، لا حد ولا رخاوة ، ولا لكنة ولا فصاحة ، ولا إسهاب ولا وجازة ، وغير ذلك من صفات النمطق وأحواله ، ونعوته وأشكاله ، وأنتم مننفس واحدة ، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة .
ولما كان لون السماء واحداً ، وألوان الأراضي يمكن حصرها ، قال : ( وألوانكم ( اي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة ، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف ، ولضاعت المصالح ، وفاتت المنافع ، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها ، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها ، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض ، فإن كان للسماء فلونها واحد ، وإن كان للأرض فلون اهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم .
وأما الألسنة فأمرها أظهر .
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال : ( إن في ذلك ( اي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه ) لآيات ) أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطابئع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية ، ومع بعدها مضمحلة متلاشية ) للعالمين ( كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم ، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم ، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته ، ففيه إشارة إلى ، هم عدم ، فلا تبكيت أوجع منه .(5/614)
صفحة رقم 615
ولما ذكر المقلة والمظلة ومن فيهما ، وبعض صفاتهم اللازمة ، ذكر ما ينشأ عن كل من ذلك من الصفات المفارقة فقال : ( ومن آياته ) أي على ذلك وغيره من أنواع القدرة والعلم ) منامكم ) أي نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً .
ولما كان الليل محل السكن والراحة والنوم ، ذكر ما جعل من نوم النهار ايضاً لأن ذلك أدل على الفعل بالاختبار فقال : ( بالّيل والنهار ) أي الناشئين عن السوات والأرض باختلاف الحركات التي تنشأ إلا عن فاعل مختار وانقطاعكم بالنوم عن معاشكم وكل ما يهمكم وقيامكم بعد منامكم أمراً قهرياً لا تقدرون على الانفكاك عن واحد منهما أصلاً ) وابتغاؤكم ( اي طلبكم بالجد والاجتهاد ) من فضله ( بالمعاش فيهما ، فالآية من الاحتباك : دل ذكر النوم على القيام منه ، ودل الابتغاء على الانقطاع عنه ، حذف نهاية الأول وبداية الثاني ) إن في ذلك ) أي الأمر العظيم العالي الرتبة من إيجادد النوم بعد النشاط ، والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر ، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل ) لآيات ( اي عديدة على القدرة والحكمة لا سيما البعث .
ولما كانت هذه الآيات في دلالتها على ما تشير إليه من البعث والفعل بالاختيار دقيقة لا يستقل العقل بها دون توقيف من الدعاة لأنه قد يسند النوم والابتغاء إلى العباد والا يتجاوز عن ذلك إلى الخاق إلا الأفراد من خلص العباد ، وكان النائم يقوم صافي الذهن فارغ السر نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع من قبوله ، أو المعنى : لقوم هم أهل للسمع بأن يكونوا قد تنبهوا من رقادهم ، فرجعوا عن عنادهم ، إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ .
فهو غير متأهل لأن يسمع .
الروم : ( 24 - 27 ) ومن آياته يريكم. .. . .
) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ( )
ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر(5/615)
صفحة رقم 616
والخافقين ، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب فقال : ( ومن آياته ( ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع الصر عند أول رؤية ، وكان يتجدد في حين دون حين ، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال : ( يريكم البرق ) أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر ، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات : ( خوفاً ( اي للإخافة من الصواعق المحرقة ) وطمعاً ) أي وللاطماع في المياه الغدقة ، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه .
ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر ، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث ، اتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال : ( وينزّل ( ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة ، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غير دعواه ) من السماء ماء ( .
ولما جعل سبحانه سبباً لتعقب الحياة قال : ( فيحيي به ) أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره ) الأرض ) أي أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم ، وكان إحياؤها به متكرراً ، فكان كأنه دائم ، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً : ( بعد موتها ) أي بيبسة وتهشمه ) إن في ذلك ) أي الأمرالعظيم العالي القدر ) لآيات ( لا سيما على القدرة على البعث .
ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر ، وهلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر ، وكان منالوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال : ( لقوم يعقلون ( .
ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذا الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات ، ذكر امراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال : ( ومن آياته ) أي على تمام القدرة وكمال الحكمة .
ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد ، أتى بالحرف الدال علىالمصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال ، وعبر بالمضارع لأنه لا بد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال : ( أن تقوم ( اي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد ) السماء ( أفرد لأن السماء الأولى لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس ) والأرض ( على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط ) بأمره ( لا بشيء سواه .(5/616)
صفحة رقم 617
ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة ، قال معبراً بأداة التراخي لتدل - مع دلالتها هلى ما هي له - على العظمة ، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء ، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء ) ثم إذا دعاكم ( وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله : ( دعوة من الأرض ( على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش ، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو اقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة : ( إذا أنتم تخرجون ( اي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى ، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً ، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنا أول من نتشق عنه الأرض ) كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور ، ولا سيما بانضمامها غلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور ، كما تأتي الإشارة إليه في آية ( وهو أهون عليه ) .
ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من ألإنس والجن ، ذكر قهره للكل فقال : ( وله ( اي وحده بالملك الأتم ) من في السماوات والأرض ) أي كلهم ، وأشار إلى الملك بقوله : ( كلٌّ له ) أي وحده .
ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله : ( قانتون ( اي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرفبوجه ما إلا بإذنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : مطيعون طاعة الإرادة وإن تعصو أمره في العبادة - نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت .
ولما كان هذا معنى يشاهده كل أد في نفسه مع كا جلى سبحانه من عرائ الآيات الماضيات ، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي يبدؤا الخلق ) أي على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال : ( ثم يعيده ) أي بعد أن يبيده .
ولما كان من المركوز في فطر البشر أن إعادة الشيء اسهل من ابتدائه قال : ( وهو ( اي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة ) أهون عليه ( خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها .(5/617)
صفحة رقم 618
ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم ، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر ، ولا في قدرته أولى من الآخر ، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك : ( وله ( اي وحده ) المثل الأعلى ) أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص ، واستولى على كل رتبة كمال ، وهو أمره الذي أحاط لكل مقدور ، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم ، كما تقدم في البقرة في شرح المثل
77 ( ) ألا له الخلق والأم ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] .
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال : ( في السماوات والأرض ( اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه ، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما ، وقد قالوا : إن المراد بالمثل هنا الصفة ، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا ، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم منملوكنا فنقول : الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا : فلان جلس على سرير الملك ، بمعنى : استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس ، وإذا ذكر بطشهه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى :
77 ( ) يد الله فوق أيديهم ( ) 7
[ الفتح : 10 ]
77 ( ) إن بطش ربك لشديد ( ) 7
[ البروج : 12 ] مثلناه بما لو قهر سلطان اعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا ( محق سيه أعداءه ) فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته ، وإذا قيل : تجري بأعيننا ، ونحو ذل كعلمنا أنه مثل ما ةنقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا ( هو في غاية اليقظة ) فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم ، وهذه تفاصيل مما قدمت أ ، ه مثله ، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه ، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد ، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال ، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم ، ولذلك قال تعالى : ( وهو ) أي وحده ) العزيز ) أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان ) الحكيم ) أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء نه ، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث ، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق واكثر ، فكان هذا عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم .(5/618)
صفحة رقم 619
الروم : ( 28 - 30 ) ضرب لكم مثلا. .. . .
) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما بان من هذا أنه المتفرد في الملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة ، اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله : ( ضرب لكم ) أي بحكمته في أمر الأصنام وبيان إبطال منشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير : ( مثلاً ( مبتدئاً ) من أنفسكم ( التي هي أقرب الأشياء إليكم ، فأنتم لما تذكرون به أجدر بأن تفهموه .
ولما كان الحاصل المثل أنه لا يكون كمالك ، وكان التقرير أقرب إلى التذكير وابعد عن التنفير ، قال منكراً مربخاً مقرراً : ( هل لكم ) أي يا من عبدوا مع الله بعض عبيده ) من ما ) أي من بعض ما ) ملكت أيمانكم ) أي من العبيد أو الإماء الذين هم بشر مثلكم ، وعم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله : ( من شركاء ) أي في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء ، ونبه على ما في إيجاد الرزق ثم قسمته بين الخلق وغير ذلك من شؤونه بقوله : التفاتاً بعد طول التعبير بالغيبة التي قد يتوهم معها بعد - إلى التلكم بالنون الدال مع القرب على العظمة ولذة الإقبال بالمخاطبة : ( فيما رزقناكم ( اي لما لنا من العظمة من مال أو جاه مع ضعف ملككم فيه .
ولما كانت الشركة سبباً لتساوي الشريكين في الأمر المشترك قال : ( فأنتم ) أي معاشر الأحرار والعبيد .
ولما كان رما توهم أن ( من شركاء ) صفة لأولاد من سرارريهم ، قد مالصلة دفعاً لذلك فقال : ( فيه ( اي الشيء الذي وقعت فيه الشركة من ذلك الرزق خاصة لا غيره من نسب أو حسب ونحوهما أو خفة فب بدن أو قلب أو طول في عمر ونحوها ، وأما أولادهم من السراري فربما ساووهم في ذلك وغيره من النسب ونحوه ، والعبيد ربما ساووهم في قوة البدن وطول العمر أو زادوا ) سواء ( ثم بي المساواة التي هي أن يكون حكم أحد القبيلين في المشترك على السواء كحكم الآخر لا يستبد أحدهما عن الآخر بشيء بقوله : ( تخافونهم ) أي معاشر السادة في التصرف في ذلك الشيء المشترك .(5/619)
صفحة رقم 620
ولما كانت أداة التشبيه أدل ، أثبتها فقال : ( كخيفتكم أنفسكم ) أي كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذن ، فظهر أن حالكم في عبيدكم مثل له فيمن أشركتموهم به موضح لبطلانه ، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن يستوي عبيدكم معكم ف يالملك فكيف ترضونه بخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون ؟ .
ولما كان هذا المثال ، في الذروة من الكمال ، كان السامع جديراً بأن يقول : جل ألله ما أعلى شأن هذا البيان هل يبين كل شيء هكذا ؟ فقال : ( كذلك ) أي مثل هذا البيان العالي ) نفصل ( اي نبين ، لأن الفصل هو الميز وهو البيان ، وذلك على وجه عظيم - بما اشار إليه التضعيف مع التجديد والاستمرار : ( الآيات ) أي الدلالات الواضحات .
ولما كان البيان لا ينفع المسلوب قال : ( لقوم يعقلون ( إشارة إلىأنهم إن لم يعلموا بمقتضى ذلك كانوا مجانين ، لأن التمثيل يكشف المعاني بالتصوير والتشكيل كشفاً لا يدع لبساً ، فمن خفي عليه لم يكن له تمييز .
ولما كان جوابهم قطعاً : ليس لنا شركاء بهذا الوصف ، كان التقدير ، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً ، فنسق عليه : ( بل ( وكان الأصل : اتبعتم ، ولكنه أعرض عنهم ، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان ، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للكم به فقال : ( اتبع ( اي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى ) الذين ظلموا ) أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام ) أهواءهم ( وهو ما يميل إليه نفوسهم .
ولماكان اتباع الهوى قد يصادف الدليل ، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال : ( بغير علم ( إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء ، وأما العالم فربما رده علمه .
ولما كان هذا ربما اوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه ، دل بفاء السبب على أن التقدير : وهذا ضلال منهم بإرادة الله ، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان ، لأنهم أبعدوا أنفسهم ع أسباب الهدى : ( فمن يهدي ( اي بغير إرادة الله ، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال فقال : ( من أضل الله ( الذبي له الأمر كله ، ودل بواو العطف على أن التقدير : ليس أحد يهيدهم لأنهم ابعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن اسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم ، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله : ( وما لهم ((5/620)
صفحة رقم 621
وأعرق في النفي فقال : ( من ناصرين ) أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان ، ومما يسببه والنيرانونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه ، أو لأنه ورد جواباً لنحو
77 ( ) واتخذوا من دون اله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون ( ) 7
[ مريم : 81 ] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد
77 ( ) ا تجزي نفس عن نفس ( ) 7
[ البقرة : 123 ] ، و
77 ( ) أن الكافرين لا مولى لهم ( ) 7
[ محمد : 11 ] و
77 ( ) فما له من قوة ولا ناصر ( ) 7
[ الطارق : 10 ] في أمثالها .
ولما تحررت الأدلة ، وانتصبي الأعلام ، واتضحت الخفايا ، وصرحت الإشارات ، وأفصحت ألسن العبارات ، اقبل على خلاصة الخلق ، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره ، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته : ( فاقم وجهك ( اي قصدك كله ) للدين ) أي نصباً بحيث تغيب عما سواه ، فلا تلتفلت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة ، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره ، وقوم له وجهه .
ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم ، وكثافتهم وغباوتهم ، وجمودهم وقساوتهم ، بقوله : ( حنيفاً ) أي حال كونك ميالاً مع الدليل هيناً ليناً نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر ، ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغاراً أسهل شيء انقياداً ، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائماً حتى تصير لبعضهم طبعاً تجريبياً فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه ، وأكثر ما يكون هذا قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون ، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له : روى أحمد وابن أبي الدنيا من طريق الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال المنذري : ولم يسمع منه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قال لصبي : تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة ) ، ولأبي داود والبيهقي وابن عامر - أن أمه رضي الله عنها قالت له : تعالَ أعطيك ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما اردت أن تعطيه ؟ قالت : تمراً ، فقال : أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة ) ، فقال مبيناً لهم صحة دينه بأمر هو في(5/621)
صفحة رقم 622
أنفسهم ، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم : ( فطرت الله ) أي الزم فطرة الملك الذي لا رادَّ لأمره ، وهي الخلقة الأولى التي خلق عليها البشر والطبع الأول ، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الأحياء في بيان العقل في هذه الآية : اي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه ، اعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك - انتهى ، ثم أكد ذلك بقوله : ( التي فطر الناس ) أي كل من له أهلية التحرك ) عليها ( كلهم الأشقياء والسعداء ، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام ، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع اطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد لظاهر الدليل ، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك ، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، كما تجد الأخرس يدرك أمر المعاد إدراكاً بيناً ، وله فيه ملكة راسخة ، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد بن منيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كل مولود يولد على الفطرة ) - وفي رواية للبخاري : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونا أنتم تجدعونها ) فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثالٌ للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك ، وكذا حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في مسلم في صفة النار والنسائي في فضائل القرآن وأبي داؤد الطالسي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي ) حنفاء كلهم ( وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وآمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه ) ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي ال الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) المتفق عليه في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) وآية سبحان سبحان
77 ( ) كل يعمل على شاكلته ( ) 7
[ الإسراء : 84 ] وذلم أنه لما أخبرهم(5/622)
صفحة رقم 623
( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهلالنار ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص ، قالوا : أفلا نتكل على كتابا وندع العمل ؟ فالكتاب حجة عليهم ، لأن مبناه على أن فلاناً من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا ، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل احدهما الآخر : باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم ، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهوالعمل ، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم ، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم ، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان ، ونظير ذلك أمران : الرزق المقسوم مع الأمر بالمسب ، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب ، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل ، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن - ذكر معناه الرازي في اللوامع عنا لخطابي .
ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمراً مستمراً ، قال : ( لا تبديل ( ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال : ( لخلق الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، لا يقدر أحد أن يجعل طفلاً في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يريبه ، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان ، أو طاعة أو عصيان ، أو نكر أو عرفان ، قليلاً قليلاً ، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده ، فإن مات قبل ذلك الجوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعياً ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر ، ولا يعذب بما يكون عارضاً منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش علة منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا لا طبعي ، فالعبرة بالموت ، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره ، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة - والله الهادي .
ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمراً لا يكتنه قدره ولا ينال إلابتوفيق من الله ، أشار إلى عظمته بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يسير إليه ويحث عليه ) الدين القيِّم ( الذي لا عوج فيه ) ولكن أكثر الناس ( قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث ) لا يعلمون ) أي لا علم لهم أصلاً حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء .(5/623)
صفحة رقم 624
الروم : ( 31 - 35 ) منيبين إليه واتقوه. .. . .
) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( ( )
ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان ، وسمت همته إلى مسابقة الفرسانن فلماراى أنه لم يلتفت إليه ، ولم يعول اصلاً عليه ، كادت نفسه تطير وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيماً له وحثاً لهم على التحلي بما خص به ، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير ( أقم ) أو من العامل في ( فطرت ) إعلاماً بأنهم مرادون بالخطاب ، مشار غليهم بالصواب ، فقال : ( منيبين ) أي راجعين مرة بعد مرة بعد بمجاذبة النفس والفطرة الأولى ) إليه ( تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل ، الميالة إلى سواء السبيل .
ولما كان لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفاً من الزيغ عنها دأب المرة الأولى .
قال عاطفاً على ) فأقم ( : ( واتقوه ) أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين ، فإذا خفتموه فلزمتموه كنتم ممن تخلى عن الرذائل ) واقيموا الصلاة ( تصيروا ممن تحلى بالفضائل - هكذا داب الدين ابداً تخلية ثم تحلية : أول الدخول إلى الإسلام التنزيه ، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة ، وهو أمر ظاهر معقول ، مثاله من اراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب ، وإلا افسد الأول ولم يقرأ الثاني - والله الموفق .
ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره ، أكد النهي عنه بقوله : ( ولا تكونوا ( ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه ( من تشبه بقوم فهو منهم ) وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما ، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبا والرهبان وغير ذلك .
ولما كانوا يظنون أنهم على صواب ، نصب لهم دليلاً على بطلانه بما لا أوضح(5/624)
صفحة رقم 625
منه ، ولا يمكن أحداً التوقف فيه ، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفاً بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلاًك ) من الذين فرقوا ( لما فارقوا ) دينهم ( الذي هو الفطرة اولى ، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين من سواهم ، وهو معنى ) وكانوا ) أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة ) شيعاً ) أي فرقاً متحاللفين ، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال ، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق .
ولما كان هذا امراص يتعجب من وقوعه ، زاده عجباً بقوله استئنافاً : ( كل حزب ( اي منهم ) بما لديهم ( اي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه ) فرحون ( طناً منهم أهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم .
ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال ، فكان الحال جديراً بالسؤال ، عن وجه الخلاص من هذا الضلال ، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع ، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل ( فرحون ) فقال تعالى : ( وإذا ( وكان الأصل : مسهم ، ولكنه قيل لأنه انسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في اكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم : ( مس الناس ( تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهوالتحرك ، من الحيوانات العجم والجمادات لونطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحواله ، فهذا هو الإجماع الذ لا يتصور معه نزاع ) ضر دعوا ربهم ( اي الذي بم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه ) إليه ( علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره ، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات ، ولا في أزمة من الأزمات ، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت : وهذا دليل على أن نعرفة الرب في فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء .
ولما كان كل واقع في شدة مستبعداً كل استبعاد الخلاص منها قال : ( ثم ( بأداة العبد ) إذا أذاقهم ( مسنداً الرحمة إليه تعظيماً للأدب وإن كان الكل منه .
ولما كان السياق كله للتوحيد ، فكانت العناية باستحضار المعبود باسمه وضميره أتم قال : ( منه ( مقدماً ضميره دالاً بتقديم الجار على الاختصاص وأن ذلك لا يقدر عليه غيره ، وقال : ( رحمة ( اي خلاصاً من ذلك الضر ، إشارة إلى أنه لو أخذهم بذنوبهم أهلكهم ، فلا سبب لإنعامه سور كرمه ، ودل على شدة إسراعهم في كفران الإحسان بقوله معبراً بأداة(5/625)
صفحة رقم 626
المفاجأة : ( إذا فريق منهم ( اي طائفة هي أهل لمفارقة ) بربهم ( اي المحسن إليعهم دائماً ، المجدد لهم هذا الإحسان من هذا الضر ) يشركون ( بدل ما لزمهم من أنهم يشكرون فعلم أن الحق الذي لا معدل عنه الإنابة في كل حال إليه كما أجمعوا في وقت الشدائد عليه ، وأن غير مما فرقهم ضلال ، لا يعدله قبالاً ولا ما يعدله قبال .
ولما كان هذا الفعل مما لا يفعله إلا شديد الغباوة أو العناد ، وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس ، ربا بهم عن منزلة البله إلى ما الجنون خير منه تهكماً بهم فقال : ( ليكفروا بما ( ولفت الكلام إلى مظهر العظمة فقال : ( آتيناهم ) أي من الرحمة التي من عظمتها أنه لا يقدر عليها غيرنا أمناً من أن يقعوا في شدة اخرى فنهلكهم بما أغضبونان أو توسلاً بذلك إلى أن نخلصهم متى وقعوا في أمثالها ، فلما أضل عقولهم وأسفه آراءهم .
ولما كان فعلهم هذا سبباً لغاية الغضب ، دل عليه بتهديده ملتفتاً إلى المخاطبة بقوله : ( فتمتعوا ) أي بما اردتم فيه بالشرك من اجتماعكم عند الأصنام وتواصلكم بها وتعاطفكم ، وسبب عن هذا التمتع قوله : ( فسوف تعلمون ( اي يكون لكم بوعد لا خلف فيه علم فتعرفون إذا حل بكم البلاء وأحاط بكم جميعاً المكروه هل ينفعكم شيء من الأصنام أو من اتخذتم عنده يداً بعبادتها ووافقتموه في التقرب إليها .
ولما بكتهم بقوله : ( هل لكم مما ملكت أيمانكم ( ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل ، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله : ( أم أنزلنا ( بما لنا من العظمة ) عليهم سلطاناً ) أي دليلاً واضحاً قاهراً ) فهو ) أي ذلك السلطان لظهور بيانه ) يتكلم ( كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه ، وسيشهد ) بما ( اي بصحة الذي ) كانوا ) أي كوناً راسخاً ) به ) أي خاصة ) يشركون ( بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة ، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك .
الروم : ( 36 - 39 ) وإذا أذقنا الناس. .. . .
) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( ( )
ولما بان بهذين المتعادلين أنهلم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم ، ولا دليل عقلي ظاهر ، ولا أمر من الله قاهر ، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً ، (5/626)
صفحة رقم 627
بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل ، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول ، لمح هنا ، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه ، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة ، والدلالة الشهودية المستقرة ، فقال عاطفاً على ) وإذا مس ( دالاً عل خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول : ( وإذا ( معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة ، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال : ( أذقنا ( وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال : ( الناس رحمة ( اي نعمة من غنى ونحوه لا سب لها إلا رحمتنا ) فرحوا بها ( اي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها ، ناسين شكر من أنعم بها ، وقال : ( وإن ( بأداة الشك دلالة على أن المصائب اقل وجوداً / وقال : ( تصبهم ( غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه ) سيئة ) أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه .
ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب ، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها : ( بما قدمت أيديهم ) أي من المخالفات ، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها ) إذا هم ) أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم ) يقنطون ) أي فاجاؤوا البأس ، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً ، ولذلك أنكر عليه عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير : إلم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال ، قائلاً : ( أولم يروا ( اي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررةن فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس ، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله ، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر ، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال ، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم .
ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمالن لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال : ( أن الله ( بجلاله وعظمته ) يبسط الرزق ) أي يكثره ) لمن يشاء ( اي من عباده منهم ومن غيرهم ) ويقدر ( اي يضيق ، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد ، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا ، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا ، بل كان حالهم الصبر في البلاء ، والشكر في الرخاء ، والإقلاع عن الشيئة التي نزل بسببها القضاء ، فقد عرف(5/627)
صفحة رقم 628
من حالهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة .
يغلطون في الأمور المتكررة المشاهدة ، فلا عجب في تقديدهم في إنكار البعث بهذه الحياة الدنيا .
ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله ، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته ، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله ، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو قدر على الاجتهاد في الأسباب : ( إن في ذلك ( اي الأمر العظيم منالأقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر ، والأمن منزوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير ، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية ) لآيات ( اي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى ةتمام العلم وكمال القدرة ، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هولكن ) لقوم ) أي ذوي ههم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه ) يؤمنون ) أي يوجدون هذاالوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة ، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر ، والاعتماد في الرزق على من قال
77 ( ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ) 7
[ القمر : 17 ] اي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا اراد القادر ، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق ، لأن ( أفضل العبادة انتظار الفرج ) بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك ، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه ، وهو القدير العليم .
ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأن الاكتراث بها لا يزيدها ، والتهاون بها لا ينقصها ، فصار ذلك لا يفيد إلا تعجيل النكد بالكد والنصب ، وكان مما تقدم أن السيئة من أسباب المحق ، سبب عنه الإقبال على إنفاقها في حقوقها إعراضاً عنها وإيذاناً بإهانتها وإيقاناً بأن ذلك هو استيفاؤها واستثمارها واستنماؤها ، فقال خاصاً بالخطاب أعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره لأن ذلك أوقع في نفوس الأتباع ، وأجدر بحسن القبول منهم والسماع : ( فآت ( يا خير الخلق ) ذا القربى حقه ( بادئاً به لأنه أحق الناس بالبر ، صلة للرحم وجوداً وكرماً ) والمسكين ( سواء كان ذا القربى أو لا ) وابن السبيل ( وهو المسافر كذلك ، والحق الذي ذكر لهما الظاهر أنه يراد به النفل لا الواجب ، لعدم ذكر بقية الأصناف ، ودخل الفقير من باب الأولى .(5/628)
صفحة رقم 629
ولما أمر بالإيتاء ، رغب فيه فقال : ( ذلك ) أي الإيتاء العالي الرتبة ) خير ( ولما كان سبحانه أغنى الأغنياء فهو لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه لا رياء فيه ، قال معرفاً أن ذلك ليس قاصراً على من خص بالخطاب بل كل من تأسى به نالته بركته ) للذين يريدون ( بصيغة الجمع ، ولما كان الخروج عن المال في غاية الصعوبةن رغب فيه بذكر الوجه الذي هو أشرف ما في الشيء المعبر به هنا عن الذات وبتكرير الاسم الأعظم المألوف لجميع الخلق فقال : ( وجه الله ) أي عظمة الملك الأعلى ، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم على كل ما سواه فيخلصون له ) وأولئك ( العالو الرتبة لغناهم عن كل فان ) هم ( خاصة ) المفلحون ) أي الذين لا يشوف فلاحهم شيء من الخيبة ، وأما غيرهم فخائب ، أما إذا لم ينفق فواضح ، وأما من أنفق على وجه الرياء بالسمعة والرياء فإنه خسر ماله ، وأبقى عليه وباله ، وأما من أنفق على وجه الرياء الجقيقي فقد صرح به تعريفاً بعظيم فحشه صارفاً الخطاب عن المقام الشريف الذي كان مقبلاً عليه ، تعريفاً بتنزه جناب عنه ، وبعد تلكالهمة العلية والسجايا الطاهرة النقية منه ، إلى جهة من يمكن ذلك منهم فقالك ) وما اتيتم ( اي جئتم أي فعلتم - في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب ، أو أعطيتم - في قراءة غيره بالمد ) من ربا ( اي مال على وجه الربا المحرم أو المكروه ، وهو أن يعطي عطية ليأخذ في ثوابها أكثر منها ، وكان هذا مما حرم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تشريفاً له ، وكره لعامة الناس .
وعلى قراءة ابن كثير بالقصر المعنى : وما جئتم به من إعطاء بقصد الربا ) ليربوا ) أي يزيد زيكثر ذلك الذي أعطيتموه أو فعلتموه ، أو لتزويد أنتم ذلك - على قراءة المدنيين ويعقوب بالفوقانية المضمومة ، من : أربى ) في أموال الناس ) أي تحصل فيه زيادة تكون أموال النلاس ظرفاً لها ، فهو كناية عن أن الزيادة التي يأخذها المربي من أموالهم لا يملكها أصلاً ) فلا يربوا ) أي يزكوا وينمو ) عند الله ) أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وكل صفات الكمال ، وكل ما لا يربو عند الله فهو غير مبارك بل ممحوق لا وجود له ، فإنه إلى فناء وإن كثر
77 ( ) يمحق الله الربو ويربي الصدقات ( ) 7
[ البقرة : 276 ] .
ولما ذكر ما زيادته نقص ، أتبعه ما نقصه زيادة فقال : ( وما آتيتم ) أي أعطيتم للإجماع على مدة لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة ) من زكاة ) أي صدقة ، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة ، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه ، وأبدانكم من مواد الخبث ، وأخلاقكم من اغل والدنس .
ولما كان الإخلاص عزيزاً ، أشار إلى عظمته بتكريره فقال : ( تريدون ) أي بها ) وجه الله ( خاصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله ، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو اشرف ما في الذات .(5/629)
صفحة رقم 630
ولما كان الأصل : فأنتم عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته ، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق ، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلامكاً بعلو رتبته ، وأن المخاطب بالإيتاء كثير ، والعامل قليل وجليل ، فقال : ( فأؤلئك ( ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي ( صلى الله عليه وسلم ) ) هم ) أي خاصة ) المضعفون ) أي الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك الحفظ والبركة ، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشرة أمثال إلى ما لا حصر له كما يقال : مقو وموسر ومسمن معطش - لمن له قوة ويسار وسمن في إبله وعطش ونحو ذلك .
الروم : ( 40 - 44 ) الله الذي خلقكم. .. . .
) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( ( )
ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فما يزيده الله ، ولا خير إلا فيما يختاره الله ، فكان ذلك مزهداً في زيادة الاعتناء بطلب الدنيا ، بين ذلك بطريق لا أوضح منه فقال : ( الله ) أي بعظيم جلاله لا غيره ) الذي خلقكم ) أي أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً .
ولما كان الرزق موزعاً بين الناس بل هو ضيق على كثرته عن كثير منهم ، فكان رزق من تجدد - لا سيما إن كان ابناً لفقير - مستبعداً ، أشار إليه بأداة البعد فقال : ( ثم رزقكم ( ولما كانت إماتة المتمكن من بدنه وعقله وقوته وأسباب نبله عجيبة ، نبه عليها بقوله : ( ثم يميتكم ( ولما كان كل ذلك في الحقيقة عليه هيناً ، وكتن الإحياء بعد الإماتة إن لم يكن أهون من الأحياء أول مرة كان مثله وإن استبعدوه قال : ( ثم يحييكم ( .
ولما استغرق بما ذكر جميع ذواتهم وأحوالهم ، وكان الشريك من قام بشيء من العمل أو المعمول فيه ، وكان من المعلوم أنه ليس لشركائهم في شيء من ذلك النوع صنع ، قال منكراً عليهم : ( هل من ( ولما كان إشراكهم بما اشركوا لم تظهر له ثمرة إلا في أنهم جعلوا لهم جزءاً من أموالهم ، عبر بقوله : ( شركائكم ) أي الذين تزعمونهم(5/630)
صفحة رقم 631
شركاء ) من يفعل من ذلكم ( مشيراً إلى علو رتبته بأداة البعد والخطاب الكل .
ولما كان الاستفهام الإنكاري التوبيخي في معنى النفي ، قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قل جداً : ( من شيء ) أي يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه .
ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا : لا وعزتك ما لهم ولا لأحد منهم في شيء من ذلك من فعل ، أشار إلى عظيم ما ارتكبوه بما نتجه هذا الدليل ، فقال معرضاً عنهم زيادة في التعظيم والعظمة ، منزهاً لنفسه الشريفة منها على التنزيه ببعد رتبته الشماء من حالهم : ( سبحانه ) أي تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك ، فإن ذلك نقص عظيم .
ولما كان من أخبر بأنه فعل شيئاً أو يفعله كالإماتة والإحياء بالبعث وغيره لا يحول بينه وبينه المقاوم من شريك ونحوه ، قال : ( تعالى ( اي علواً لا تصل إليه العقول ، كما دلت عليه صيغة التفاعل ، وجرت قراءة حمزة والكسائي بالخطاب على الأسلوب الماضي ، وأذنتقراءة الباقين بالغيب بالإعراض للغضب في قوله معبراً بالمضارع غشارة إلى أن العاقل من شأنه أنه لا يقع منه شرك اصلاًن فكيف إذا كان على سبيل التجدد والاستمرار : ( عما يشركون ( في أن يفعلوا شيئاً من ذلك أو يقدروا بنوع من أنواع القدرة على أن يحولوا بينه وبين شيء مما يريد ليستحقوا بذلك أن يعظموا نوع تعظيم ، فنزهوه بالبراءة من كل معبود سواه .
ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا ، فلم يفعلوان اتبعه ما اصابهم به على ما كان في اسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا ، استعطافاً للتوبة فقال : ( ظهر الفساد ) أي النقص في جميع ما ينفع الخلق ) في البر ( بالقحط والخوف ونحوهما ) والبحر ( بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه قبل .
وقال البغوي : البر البوادي والمفاوز ، والبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية ، قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً .
ثم بين سببه بقوله : ( بما ( ولما أغنى السياق بدلالته على السيئات عن الافتعال قال : ( كشبت ) أي عملت من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو ، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك .
ولما كان أكثر الأفعال باليد ، أسند إليها ما يراد به الجملة مصرحاً بعموم كل ما له أهلية التحرك فقال : ( أيدي الناس ( اي عقوبة لهم على فعلهم .
ولما ذكر علته البدائية ، ثنى بالجزائية فقال : ( لنذيقهم ( اي بما لنا من العظمة في رواية قنبل عن ابن كثير بالنون لإظهار العظمة في الإذاقة للبعض والعفو عن البعض ، وقراءة الباقين بالتحتانية على سنن الجالة الماضي ؛ وأشار إلى كرمه سبحانه بقوله : ( بعض الذي عملوا ) أي وباله وحره(5/631)
صفحة رقم 632
وحرقته ، ويعفو عن كثير إنا أصلاً وراساً ، وإما المعالجة به ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا ، أو إلى الآخرة ، والمراد الجزاء بمثل أعمالهم جزاء أعمالهم جزاء لها تعبيراً عن المسبب بالسبب الذي أتوه إلى الناس فيعرفوا إذا سلبوا المال مقدار ما ذاق منهم ذلك الذي سلبوه ، وإذا قتل لهم حميم حرارة ما قاسى حميم ما قتلوه ، ونحو ذلك مما استهانوا لما أتوه إلى غيرهم من الأذى البالغ وهم يتضاحكون ويعجبون من جزعه ويستهزؤون غافلين عن شدة ما يعاني من أنواع الحرق وهو ومن يعز عليه أمره ، ويهمه شأنه ، ويده قد غلها عن المساعدة العجز ، وقصرها الضعف والقهر ؛ ثم ثلث بالعلة الغائبة فقال : ( لعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى رجوعه عن فعل مثل ذلك خوفاً من أن يعاد بمثل ذلك من الجزاء .
ولما كان الإنسان - لنقصه في تقيد بالجزئيات - شديد الوقوف مع العقل التجربي ، وكان علمهم بأيام الماضين ووقائع الأولين كافياً لهم في العظة للرجوع عن اعتقادهم ، والتبري من عنادهم ، وكانوا - لما لم يروا آثارهم رؤية اعتبار ، وتأمل وادكار ، عدوا ممن لم يرها ، فنبه سبحانه على ذلك بالاحتجاب عنهم بحجاب العزة ، أمراً له ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يأمرهم بالسير للنظر ، فقال تأكيداً لمعنى الكلام السابق نصحاً لهم ورفقاً بهم : ( قل ) أي لهؤلاء الذي لا همّ لهم إلا الدنيا ، فلا يعبرون فيما ينظرون من ظاهر إلى باطن : ( سيروا ( وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال : ( في الأرض ( فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم .
ولما كان المراد الانقياد إلى التوحيد ، وكان قد ذكرهم بما اصابهم على نحو ما أصاب به الماضين قال : ( فانظروا ( بفاء التعقيب ، ولما كان ما أحله بهم في غاية الشدة ، عرفهم بذلكن فساق مساق الاستفهام تخويفاً لهم من إصابتهم بمثله فقال : ( كيف ( ولما كان عذابهم مهولاً ، وأمرهم شديداً وبيلاً ، دل عليه بتذكير الفعل فقال : ( كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الذين ( ولما كان المراد طوائف المعذبين ، وكانوا بعض من مضى ، فلم يستغرقوا الزمان ، بعض فقال : ( من قبل ) أي من قبل أيامكم أذاقهم الله وبال أمرهمن وأوقعهم في حفائر مكرهم .
ولما كان هذا التنبيه كافياً في الاعتبار ، فكان سامعه جديراً بأن يقول : قد تأملت فرأيت ىثارهم عظيمة ، وصنائعهم مكينة ، ومع ذلك فمدنهم خاليه وبيوتهم خاوية ، قد ضربوا بسوط العذاب ، فعمهم الخسار والثيابن فما لهم عنهم كثرتهمن وأنجينا المؤمنين وما ضرتهم قلتهم .(5/632)
صفحة رقم 633
ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم ، ونظرهم لآثارهم ، وسماعهم لأخبارهمن لم يتعظوا ، أشير إلى أنهم عدم ، بصرف الخطاب عنهم ، وتوجيه إلى السامع المطيع ، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة والوعظ والتخويف : ( فأقم ) أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه ، لأنا فضلناه على جميع الخلق ) وجهك ) أي لا تلفته أصلاً ) للدين القيِّم ( الذي لا عوج فيه بوجه ، بل هو عدل كله ، من التبري من الأوثان إلى التلبس بمقام الإحسان ، فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين ، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانه عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء ، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس ، ويصير فيه كالجبل رسوخاً .
ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً ، أعاد التخويف لحفظ أهلها ، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار ، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار ، بشرط الاتصال بالموت : ( من قبل ( وفك المصدر للتصريح قال : ( أن يأتي يوم ) أي عظيم ، وهو يوم القيامة ، أو الموت ، وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله : ( لا مرد له ( ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال : ( من الله ( وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به ، وه ذو الجلال والإكرامن فمن الذي يرده .
ولما حقق إتيانه ، فصل أمره مرغباً مرهباًن فقال : ( يومئذ ) أي إذ يأتي ) يصدعون ) أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم بما أشار إليه الإدغام ، فيقولون : ما لنا لا نرى دجالاً كنا نعدهم من الأشرار .
ولما كان المعنى أنهم فريق في الجنة وفريق في السعير ، بين ذلك ببيان عاقبة سببه في جواب من كأنه قال : إلى أين يتفرقون ؟ قائلاً : ( من كفر ( اي منهم فعلم شيئاً ) فعليه ) أي لا على غيره ) كفره ) أي وباله ، وعلى أنفسهم يعتدون ولها يهدمون فيصيرون في ذلك اليوم إلى النار التي هم بها مكذبون ، ومن كان عليه كفره الذي أوبقه إلى الموت ، فلا خلاص له فيما بعد الفوت ، ووحد الضمير رداً له على لفظ مننصاً على أن كل واحد مجزيّ بعمله لا المجموع من حيث هو مجموع ، وإفهاماً لأن الكفرة قليل وإن كانوا أكثر من المؤمنين ، لأنهم لا مولى لهم ، ولتفرق كلمتهم ) تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ) [ الحشر : 14 ] ولأنه لا اجتماع بين أهل النار ليتأسى بعضهم ببعض ، بل كل منهم في شغل شاغل عن معرفة ما يتفق لغيره ) ومن عمل صالحاً ( أي(5/633)
صفحة رقم 634
بالإيمان وما يترتب عليه ، وأظهر ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على ) من كفر ( وبشارة بأن أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ، لأن الله مولاهم فهو يزكيهم ويؤيدهم ، وفي جمع الجزاء مع إفراد الشرط ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد بأنه ينفع نفسه وغيره ، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاًن وأقل ماينفع والديه وشيخه في ذلك العمل ، وعبر بالنفس ليدل - بعد الدلالة على إرادة العالم ومن شايعه حتى كان بحكم اتحاد القصد إياه على أن العمل الصالح يزكي النفوس ويطهرها من رذائل الأخلاق ، فقال : ( فلأنفسهم ) أي خاصة اعمالهم ولهم خاصة عملهم الصالح ولأنفسهم ) يمهدون ) أي يسوون ويوطئون منازل في القبور والجنة ، بل وفي الدنيا فإن الله يعزهم بعز طاعته ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً عدوانهم على أنفسهم لما دل عليه من المهد ، وثانياً كون العمل خاصاً بهم لما دل عليه من كون الكفر على صاحبه خاصة ، وأحسن من هذا أن يقال : ذكر الكفر الذي هو السبب دليلاً على الإيمان ثانياً ، والعمل الصالح الذي هو الثمرة ثانياً دليلاً على العمل السيء أولاً .
الروم : ( 45 - 47 ) ليجزي الذين آمنوا. .. . .
) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( ( )
ولما فرغ من بيان تصدعهم ، ذكر علته فقال : ( ليجزي ) أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين ، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال : ( الذين آمنوا ) أي ولو على أدنى الوجوه ) وعملوا ( اي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( ولما كانت الأعمال نعمة منه ، فكان الجزاء محض إحسان ، قال : ( من فضله ( .
ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم ، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم : ( إنه لا يحب الكافرين ) أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب ، فلا يسويهم بالمؤمنين ، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم ، فالآية منوادي الاحتباك ، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر ، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملو السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين ، (5/634)
صفحة رقم 635
فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكراما لمؤمنين هو المقصود بالذات ، وهو بعينه إرغام الكافرين ، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ .
وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر .
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة ، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة ، بأن قيام السماء والأرض بأمره وابتع ذلك ما اشتد التحامه به ، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث ، اتبعه ذكر ما حفظ به قيلم الوجود ، وهو ارياح ، يجعله سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات ، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض ، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض ، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه ، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها ، فابطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه ، والرياح ايضاً أشبه شيء بالناس ، منها النافع نفعاً كبيراً ، ومنها الضار ضراً كثيراً ، فقال : ( ومن آياته ) أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي اقام هذا الوجود ، وكما أنه أقامه فهو يقبم وجوداً خر هو زبدة الأمر ، ومحط الحكمة ، وهو أبدع منهذا الوجود ، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم ، ويتجلى لفصل القضاء بينهم ، فيأخذ بالحق لمظلومهم من طالمهم ، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة ، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة ) أن يرسل الرياح ( على سبيل التجدد والاستمرار ، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) وقد تقم من شرحي لها عند
77 ( ) من يرسل الرياح بشرا ( ) 7
في النمل [ 63 ] ما فيه كفاية ، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة ، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع ، وكذا إسكانه ، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة ، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر ) مبشرات ) أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش .
ولما كان التقدير : ليهلك بها من يشاء من عباده ، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر ، وما يتبعه من انتشار المفسدات ، واضمحلال المصلحات ، (5/635)
صفحة رقم 636
وطواه لأن السياق لذكر النعم ، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه : ( وليذيقكم ( وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله : ( من رحمته ) أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة ، وصحة الأبدان ، وخصب الزمان ، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح ، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك ، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال : ( ولتجري الفلك ) أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها .
ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله : ( بأمره ( اي بما يلائم من الرياح اللينة ، وإذا أراد أعصفها فأغرقت ، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت ، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف .
ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه ، عطف على ) لتجري ( قوله ، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة : ( ولتبتغوا ) أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير ، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله : ( من فضله ( مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره ) ولعلكم ) أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء منأنكم ) تشكرون ( ما أفاض عليكم سبحانه مننعمه ، ودفع عنكم من نقمه .
ولما كان التقدير : فمن أذاقه من رحمته ، ومن كفر أنزل عليه من نقمته ، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه ، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل ، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ( فلرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة ) وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كا نت نافعة ، ومضارها إن كانت ضارة ، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين ، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم .
كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه : البخاري في العلم ، ومسلم في المناقب ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنتبت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، واصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء(5/636)
صفحة رقم 637
ولا تنبت كلاء ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) ولما كان الأمر كذلك ، عطف على قوله : ( ينصر من يشاء ) وقوله : ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السؤاى ( أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله : ( فأقم وجهك للدين القيم ( : فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير ، ونذيراً لمن عصى بالشر ، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم ، عليه أفض الصلاة والتسليم ، وأتباعه ، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها ، وأكد إشارة إلى ان الحال باشتداده وصل إل حالة اليأس ، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر : ( ولقد أرسلنا ( بما لنا من العزة .
ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه ، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل ، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة : ( من قبلك ( مقدماً له على ) رسلاً ( أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قل زمانه ، وقال : ( إلى قومهم ( إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل ( إلى قومها ) .
ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال : ( فجاءوهم بالبينات ( فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين ) فانتقمنا ) أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة ) من الذين أجرموا ( لأجرامهم ، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه ، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان ، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين ، إكراماص لمن عادوهم فينا ، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم .
ولما كن محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به ، قدمه تعجيلاً للسرور تطييباً للنفوس فقال : ( وكان ) أي على سبيل الثبات والدوام ) حقاً علينا ) أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه ) نصر المؤمنين ( اي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرةن فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر ، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها ، فليعتد هؤلاء لمثل هذا ، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء ؟ والآية من الاحتباك : حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذالن لدلالة النصر عليه ، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه .(5/637)
صفحة رقم 638
الروم : ( 48 - 51 ) الله الذي يرسل. .. . .
) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( ( )
ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد ، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه ، أتبع ذلك الإعلام لنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها ، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به ، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره غلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة : ( الله ) أي وحده ) الذي يرسل ( مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له : ( الرياح ( مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد ) فتثير سحاباً ( لم يكن له وجود .
ولما أسند الإثارة إلى الرياح ، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقالك ) فيبسطه ( بعد اجتماعه ) في السماء ) أي جهة العلو .
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن واشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال : ( كيف ) أي كما ) يشاء ( اي في ناحية شاء قيلاً تارة كمسيرة ساعة أو يوم ، وكثيراً كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعاً على أنه فعله وحده باختيار لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها .
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال ، دل عليه بقوله : ( ويجعله ) أي إذا أراد ) كسفاً ) أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصلاً يمنع نزول الماء ) فترى ) أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية ، أو يا اشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه ) الودق ) أي المطر المتقاطر القريب الواسع ) يخرج من خلاله ) أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال .(5/638)
صفحة رقم 639
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه ، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه : ( فإذا اصاب ) أي الله ) به من ) أي أرض من ) يشاء ( ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد اصلاً شيء بقوله : ( من عباده ) أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم ، وهم جديرون بملازمة شكره ، والخضوع لأمره ، خاصاً لهم بقدرته واختياره ، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات ، جامعاً رداً على معنى ( من ) أو على ( العباد ) لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال : ( إذا هم يستبشرون ) أي يظهر عليهم البشر ، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين ؛ ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله : ( وإن ( اي والحال أنهم ) كانوا ( في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم ، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار ، فقال : ( من قبل أن ينزل ) أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه ) عليهم ( ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله : ( من قبله ) أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب المطر ) لمبلسين ) أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً ، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة ، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة .
ولما انكشف بذلك الغطاء ، وزاحت الشبه أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون ( ترى ) لمن فيه أهلية الرؤية بأنه ل افهم لهم ملتفتاً إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلاً مسبباً عن ذلك : ( فانظر ( ولما كان المراد تعظيم النعمة ، وأن الرزق أكثر من الخلق ، عبر بحرف الغاية إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال : ( إلى آثار ( ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال : ( رحمت الله ( للجامع لمجامع العظة ، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على ما في لك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار ، وتكون الكل من ذلك الماء .
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة ، ولكنه قدتكرر حتى صار مألوفاً ، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال : ( كيف يحيي ) أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى ) الأرض ( بإخراج ما ذكر منها .
ولما كانت قدرته إحيائها دائة - على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة ، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال : ( بعد موتها ( بانعدام ذلك .(5/639)
صفحة رقم 640
ولما كان هذا دالاً على القدرة على إعادة الموتى ولا بد لأنه مثله سواء ، فإن جميع ما لا ينتبه الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيماً تذروه الرياح ، ويتفتت بحيث يصير تراباً ، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال : ( إن ذلك ) أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا ) لمحيي الموتى ( كلها من الحيوانات والنباتات ، أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال ) وهو ( مع ذلك ) على كل شيء ( من ذلك وغيره ) قدير ( لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء .
ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علماً بالله تعالى ، دل على ذلك بقوله ، لافتاً الكلام غلى سياق العظمة تنبيهاً على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة ، مؤكداً له غاية التأكيد ، تنبيهاً على نه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ ، معبراً بأداة الشك ، تنبيهاً على أن إنعامه أكثر من انتقامه ، مؤكداً بالقسم لإنكارهم الكفر : ( ولئن أرسلنا ( بعد وجود هذا الأثر الحسن ) ريحاً ( عقيماً ) فرأوه ) أي الأثر ، ويجوز أن يكون الضمير للريح من الععبير بالسبب عن المسبب ) مصفراً ( قد ذبل واخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر والبرد ) لظلوا ) أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبداً وإن كان ( ظل ) معناه : دام نهاراً ، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو ( ليظللن والله ) تأكيداً لتحقيقه ، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر ، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال : ( من بعده ) أي بهد اصفراره ) يكفرون ( بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان ، بعد ما التقت حلقتا البطان ، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا ، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا ، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار ، ولا نقصوا هنا شيئاً من تجديد الكفر والإصرار ، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة ، ولم يسبقوا في إزاله النقم ، ولا إنالة النعم ، فكانوا أضل من النعم .
الروم : ( 52 - 55 ) فإنك لا تسمع. .. . .
) فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ( ( )(5/640)
صفحة رقم 641
ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم ، وسوء تدبرهم ، فغنهم لا للآيات المرئية يعون ، ولا للمتلوة عليهم يسمعون ، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني ، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس ، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك : ( فإنك ) أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته ، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك ) لا تسمع الموتى ) أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم ، فلا نظر ولا سمع ، أو موتى القلوب ، إسماعاً ينفعهم ، لأنه مما اتص به سبحانه ، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم ) ولا تسمع ) أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير ) الصم ) أي الذين لا يمع لهم اصلاً ، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل ، فكان التقدير : فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم ) الدعاء ( إذا دعوتهم ، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال : ( إذا ولوا ( وذكر الفعل ولم يقل : ولت ، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله : ( مدبرين ( .
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام ، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في القتصاد في الأمور فقال : ( وما أنت بهاد العمي ( اي بموحد لهم هداية وإن كانوا يسمعون ، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة ، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى ، فالتقدير : وما أنت تجدد هداية العمي ) عن ضلالتهم ( إذا ضلوا عن الطرق فأبعدوا وإن كان أدنى الضلال - بما أشار إليه التأنيث ، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم ، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وايديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم ، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً ، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار ، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها ، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف ، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربعة حين كان يقول لهم : خلو بين هذا(5/641)
صفحة رقم 642
الرجل وبين الناس ، فإن أصابوه فهو مااردتم وإلا فعزه عزكم ، والثالث المنافقون ، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ - والله الموفق .
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر ، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله : ( إن ) أي ما ) تسسمع إلا من يؤمن ) أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً ) بآياتنا ) أي فيه قابلية ذلك دائماً ، فهو يذعن للآيات المسوعة ، ويعتبر بالآيات المصوعة ، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره ، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال : ( فهم ) أي فتسبب عن قبولهم أنهم ) مسلمون ( أ منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد .
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات ، تارة في الأجسام ، وتارة في القوى ، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات ، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته ، فلانت للأدلة عريكته ، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته ، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني أبداء وإعادة ، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف ، فقال مؤكداً إشارة غلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها ، فكأنهم ينكرونه ، فإنه لا انفكالط لأحدهما عن الآخر : ( الله ) أي الجامع لصفات الكمال وحده .
ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس ، عبر به دون اسم الفاعل فقال ) الذي خلقكم ) أي من العدم .
ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف ، وأضعف ما يكون في أوله قال : ( من ضعف ) أي مطلق - بما اشارت غليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد ، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم ، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار ، ثم ما شاء الله من سن الصبي .
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال : ( ثم جعل ( عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بمايقيمه من الأسباب ، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال : ( من بعد ( ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول ، أظهر ولم يضمر فقال : ( ضعف قوة ( بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً ، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنبن واريعين عاماً فلو لا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه ) ثم جعل من بعد قوة ( في شباب(5/642)
صفحة رقم 643
تقوى به القلوب ، وتحمى له الأنوف ، وتشمخ من جرائه النفوس ) ضعفاً ( رداً لما لكم إلى أصل حالكم .
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال : ( وشيبة ( وهي بياض في الشعر ناشىء من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم ، وينقص الهمة والعم ، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين ، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين غلى ان يزيد النقص في الثالثة والستين ، وهو أول سن الشيخوخة ، ويقى الضعف إلى ما شاء الله تعالى .
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها ، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي ، أنتج ذلك كله - ولا بد - التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال : ( يخلق ما يشاء ( اي من هذا وغيره ) وهو العليم ) أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه ) القدير ( فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابهن فلذلك لا يتخلف شيء اراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً ، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها ، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح ، وعبارة بعد إشارة .
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره ، عطف على قوله أول السورة ) ويوم تقوم الساعن يبلس المجرمون ( أو على ما تقديره : فيوم يريد موتكم تموتون ، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدومن ، قوله : ( ويوم تقوم الساعة ) أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر ، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه ) يقسم المجرمون ( أيالعريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً : ( ما ) أي أنهم ما ) لبثوا ( في الدنيا والبرزخ ) غير ساعة ) أي قدر يسير من ليل أو نهار .
ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث اشد الفضيحة والخزى في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغن شيئاً ، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له : فلا عجب ) كذلك ( اي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها ) كانوا ( في الدنيا كوناً هو كالجبلة ) يؤفكون ) أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق غلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم ، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة ، ودار ودار ، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان .(5/643)
صفحة رقم 644
الروم : ( 56 - 60 ) وقال الذين أوتوا. .. . .
) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ( ( )
ولما وصف الجاهلين ، تبعه صفة العلماء فقال : ( وقال الذين ( وعبر بقوله : ( أوتوا العلم ( تنبيهاً على شكر من آتاهموه ، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير ، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره ، فقال : ( والإيمان ( إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تكيتاً توبيخاً مؤكدين ما أنكر أولئك : ( لقد لبثتم في كتاب الله ) أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا ) إلى يوم البعث ( كما قال تعالى : ( ) ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ) [ المؤمنون : 100 ] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده ، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث ، وصدق في إخباره ، سببوا عن ذلك قوله : ( فهذا ) أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه ، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب : هذا ) يوم البعث ( اي الذي آمنا به وكنتم تنكرونه ، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم ، فقد تبين بطلان قولكم ، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكذيب قصداً للمغالبة ، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن ، تنبيهاً لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعاً .
ولما كان التقدير : قد أتى كما كنا به عالمين ، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن ، عطف عليه قوله : ( ولكنكم كنتم ( اي كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له ) لا تعلمون ( اي ليس لكم علم أصلاً ، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه ، والتوصل إليه بأسبابه ، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم .
ولما كان قوله تعالى : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ النساء : 173 ] في أشكالها من الآيات دالاً على أن هذه الدنيا دار العمل ، وأن دار الآخرة الجزاء ، وأن البرزخ هو حائل بينهما ، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى ، سبب عن ذلك قوله : ( فيومئذ ) أي إذ تقوم الساعة ، وتقع هذه المقاولة ) لا ينفع ) أي نفعاً ما ) الذين ظلموا ( اي وضعوا المور في غير مواضعها ) معذرتهم ( وهي ما تثبت عذرهم ، وهو(5/644)
صفحة رقم 645
إيساغ الحلية فيي وجه يزيل ما ظهر من التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته ، والعبارة شديدة جداً من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يوماً ما كان هذا حاله ، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير ، وترقق كثير ، وتذلل كبير ، فلا يقبل منه شيء - هذا على قراءة الجماعةيتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين ، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه ، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجاً منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحنه أنه لا يسأله غير ذلك ، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أنيقدمه غلى ظلها فيقول الله : ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال ؟ فيقولك بلى يارب ولكن لا أكون أشق منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل ، وقد فات محله ، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله .
ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال : ( ولا هم ) أي والذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها ) يستعتبون ) أي يطلب منهم ظاهراً أوباطناً بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب ، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب ، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفواتالدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيماناً بالغيب ، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتاباً يلذذهم .
ولما أبانت هذه السورة طرق الإيمان ايّ بيان ، وألقت على وجوه أهل الطغيان غاية الخزي والهوان ، وكان التقدير : لقد أتينا في هذه السورة خاصة بعد عموم ما في سائر القرآن بكل حجة لا تقوم لها الأمثال ، ولم نبق لأحد عذراً ولا شيئاً من إشكال ، لكونها ليس لها في وضوحها مثال ، عطف عليه قوله صارفاً الكلام إلى مقام العظمة تقبيحاً لمخافتهم لما يأتي من قبله وترهيباً من الأخذ مؤكداً لأنهم ينكرون أن يكون في القرآن دلالة ، ومن أقر منهم مع الكفر فكفره قائم مقام إنكاره : ( ولقد ضربنا ( .(5/645)
صفحة رقم 646
ولما كانت العناية فيها بالناس أكثر ، قال : ( للناس ( فقدمهم في الذكؤ ) في هذا القرآن ) أي عامة هذه السورة وغيرها ) من كل مثل ) أي معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال ، في عبارة هي ارشق من سائر الأمثال .
ولما كان المختوم على مشاعرهم منهم لا يؤمنون بشيء .
وكان ذلك من أدل دليل على علمه تعالى وقدرته ، قال مقسماً تكذيباً لقولهم في الاقتراحات خاصاً من أهل العلم والإيمان رأسهم ، دلالة على أن التصرف في القلوب من العظم بمكانة تجل عن الوصف ، معبراً بالشرط إعلاماً بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء ، عاطفاً على نحو : فلم ينفعهم شيء من ذلك : ( ولئن جئتهم ) أي الناس عامة ) بآية ( اي دلالة واضحة على صدقك معجزة ، غير ما جئتهم به مما اقترحوه ووعدوا الإيمان به مرئية كانت أو مسموعة ) ليقولن الذين كفروا ( اي حكمنا بكفرهم غلظة وجفاء ، ودل على فرط عنادهم بقوله : ( إن ) أي ما ولما كان التخصيص بالغلظة أشد على النفس ، ضم إليه اتباعه تسلية وبياناً لعظيم شقاقهم فقال : ( أنتم ( اي ايها الآتي بالآية وأتباعه ) إلا مبطلون ) أي من أهل العارافة في الباطل بالإتيان بما لا حقيقة له ي صورة ما له حقيقة ، وأما الذين آمنوا فيقولون : نحن بهذه الآية مؤمنون .
ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق ، ولا يصغي لدليل ، ولا يهتدي لسبيل ، قال مستأنفاً في جواب من ساله : هل يكون مثل هذا الطبع ؟ ومرغباً في العلم : ( كذلك ) أي مثل هذا الطبع العظيم جداً ، ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة ، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال : ( يطبع الله ) أي الذي لا كفوء له ، فمهما أراد كان ، عادة مستمرة ، ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال : ( على قلوب الذين لا يعلمون ) أي لا يجددون - أي لعدم القابلية - العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات ، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات .
ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم ، سبب عنه قوله : ( فاصبر ) أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل والأذى ، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا .
ولما كان قد تقدم غليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر ، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع : ( إن وعد الله ) أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به(5/646)
صفحة رقم 647
الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب اتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له ) حق ( اي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان ، وتأتي به مطايا الحدثان .
ولما كان التقدير : فلا تعجل ، عطف عليه قوله : ( ولا يستخفنك ( اي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما ، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال ، وقراءة ( يستحقنك ) من الحق معناها : أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم اي لا تطلبه أنت ، فهو مثل : لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه ، والنهي في قراءة الجماعة بالثقيلة أشد منه في رواية روسي عن يعقوب بالخفيفة ، فقراءة الجماعةة مصوبة إلى أصل الدين ، اي لا تفعل معهم فعلاً يطمعهم في أن تميل إليهم فيه ، وقراءة رويس إلى نحو الأموال فإنه كان يتألفهم بالإيثار بها ، ولا شك أنه إذا آثرهم على أكابر المسلمين أطمعهم ذلك في أن يطلبوا أن يميل معهم ، وما أفاد هذا إلا تحويل النهي ، ولو قيل : لا تخفن معهم ، لم يفد ذلك ، ولا يقال عكس هذا من أن النهي في الثقيلة أخف لأنه نهي عن الفعل المؤكد فيبقى أصل الفعل .
وكذا ما صحبه تأكيد خفيف ، وفي الخفيفة غير المؤكد تأكيداً خفيفاً فلا يقى غير أصل الفعل فهو أبلغ ، لأن النون لم تدخل إلا بعد دخول الناهي فلم تفد غلا قوة النهي لا قوة المنهي عنه - والله أعلم .
) الذي لا يوقنون ) أي أذى الذين لا يصدقون بوعدنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف ، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح ، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب ختى أنهم ليخاطرون ي وعد الله بنصر الروم على فارس ، كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون ، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموتا كذبهم عياناً ، وعلموا - إن كان لهم علم - أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهو صاغرون ، ويحشرون وهو داخرون ،
77 ( ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( ) 7
[ الشعراء : 227 ] ، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب ، واتصل به اتصال القريب بالقريب ، والتحم التحام النسيب بالنسيب .
. .(5/647)
صفحة رقم 3
سورة لقمان
مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منولة سبحانه في أقواله وأفعاله ، وقصة لقمان المسمى به السورة دليل واضح على ذلك كأنه سبحانه لما أكمل ما أ ) اد من أول القرآن إلى آخره براءة الني هي سورة عزو الروم ، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن أم القرآن بنفي الريب عن هذا الكتاب ، وأنه هدى للمتقين ، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور ، ثن ابتدأ سورة يونس بعد سورة عزو الروم بإثبات حكمته ، وأتبع ذلك دليله إلى أن ختم سورة الروم ، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول ، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم ، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين ، فهؤلاء أصحاب النهايات ، والمتقون أصحاب البدايات .
لقمان : ( 1 - 4 ) الم
) الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ( )
ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق ، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده ، وأثبت أنه الحق ، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر : ( بسم الله ( الذي وسع رحمه وعلماً ) الرحمن ( الذي بث بعموم حكمته شامل نعمته في سائر بريته ) الرحيم ( الذي أنار لخاصته طريق جنته ، فداموا وهاموا في محبته .
لما ختمت الروم بالحث على العلم ، وهو ما تضمنته هذا الكتاب العظيم ، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد ، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف ، وكان ذلك هو الحكمة ، قال أول هذه : ( آلم ( مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه ظاهر مع أن الباطن - جبرائيل عليه السلام(6/3)
صفحة رقم 4
إلى محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام ، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام ، فهو المبدأ وهو الختام ، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله : ( تلك ) أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل ، والتحلي بسائر الفضائل ) آيات الكتاب ( الجامع لجميع أنواع الخير ) الحكيم ( بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نفض شيء من إبرامه ، ولا معارضة شيء ومن كلامه ، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته ، وشمول عظمته وقدرته ، ودقيق صنائعه في بديع حكمته ، فلا بد من نصر المؤمنين ومن داناهم في التمسك بكتاب له أصل من عند الله .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه :
77 ( ) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ( ) 7
[ الروم : 8 ] وقوله :
77 ( ) أو لم يسيروا في الأرض ( ) 7
وقوله :
77 ( ) الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ( ) 7
وقوله :
77 ( ) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ( ) 7
إلى قوله :
77 ( ) كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ( ) 7
[ الروم : 28 ] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله :
77 ( ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( ) 7
[ الروم : 58 ] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك ، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق : ( آلم تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد ، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه ، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به ، واستبدل الضلالة بالهدى ، وتنكب عن سنن فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) - الآيات ، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند ، ويقطع بكل جاحد ، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء ، ثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها ، ثم قال سبحانه ) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ( ثم اتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) - الآية ، لتأسيس من اتبع فطرة الله التي تقدم ذكرها في سورة الروم ، ثم تناسق الكلام وتناسج - انتهى .
ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله ، منزهاً عن(6/4)
صفحة رقم 5
شوائب النقص ، موصوفاً بأوصاف الكمال ، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص ، والانقياد مع الدليل كيفما توجه ، والدوران معه كيفما دار ، وكان ذلك هو عين الحكمة ، قال تعالى : ( هدى ) أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً ) ورحمة ) أي حاملاً على القيام بكل وما دعا إليه ، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع : هي أو هو ، وقال : ( للمحسنين ( إشارة إلى أن رمن حكمته أنه خاص في هذا الكمال وضعاً للشيء في محله بهذا الصنف ، وهم الذين لزموا التقوى فأدتهم إلى الإحسان ، وهو عبادته تعالى على المكاشفة والمراقبة فهي له أو هو لها آخر ، ثم وصفهم في سياق الرحمة والحكمة والبيان بالعدل بياناً لهم بما دعت إليه السورة الروم من كمال الإحسان ، وهو عابدته تعالى على المكاشفة والمراقبة فهي له أو هو لها آخر ، ثم وصفهم في سياق الرحمة والحكمة والبيان بالعدل بياناً لهم بما دعت إليه سورة الروم من كمال الإحسان في معاملة الحق والخلق اعتقاداً وعملاً فقال : ( الذين يقيمون الصلاة ) أي يجعلونها كأنها قائمة بفعلها بسبب إتقان جميع ما آمر بعد فيها وندب إليه ، وتوقفت بوجه عليه ، على سبيل التجديد في الأوقات المناسبة لها والاستمرار ، ولم يدع غلى التعبير بالوصف كالمقيمين داع ليدل على الرسوخ لأن المحسن هو الراسخ في الدين رسوخاً جعله كأنه يرى المعبود ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس رات إلا معظم له بالحج فعلاً أو قوة ) ويؤتون الزكاة ) أي كلها فدخل فيها الصوم لأنه لا يؤدي زكاة الفطر إلا من صامه قوة أو فعلاً ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان ، وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع انواعه ، وحاملاً على سائر وجوه الإحسان ، وكان قد ختم الروم بالإعراض أصلاً عمن ليس فيه أهلية الإيقان ، قال : ( وهم ) أي خاصة لكمالهم فيما دخلوا فيه من هذه المعاني ) بالآخرة ( التي تقدم أن المجرمين عنها غافلون ) هم يوقنون ) أي مؤمنون بها إيمان موقن فهم لا يفعل شيئاً الإيمان بها ، ولا يغفل عنها طرفة عين ، فهو في الذروة العليا من ذلك ، فهو يعبد الله كأنه يراه ، فآية البقرة بداية .
وهذه نهاية .
لقمان : ( 5 - 10 ) أولئك على هدى. .. . .
) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ( )
ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال ، الموجبة للكمال ، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها ، بعد أن زمها بزمامها ، فقال : ( أولئك ) أي العالوا الرتبة(6/5)
صفحة رقم 6
الحائزون ن منازل القربة أعظم رتبة ) على هدى ) أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء ، وقال : ( من ربهم ( تذكيرا لهم بأنه لو لا إحسانه ما وصلوا ألى شيء .
ليلزموا تمزيع الجباه على الأعتاب ، خوفاً من الإعجاب ) وأولئك هم ) أي خاصة ) المفلحون ) أي الظافرون بكل مراد .
ولما كان فطم النفس عن الشهوات .
أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات ، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات ، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه ، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز ، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة ، بوضع الأشياء في غير مواضعها ، المثمر للعطب ، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو ، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو ، عاطفاً على ما تقديره : فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال : ( ومن ( ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة .
أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من ) الناس ( الذين هم في أدنى رتبة الإحساس ، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان ، فضلاً عن مقام أولي الإحسان .
ولما كان التقدير : من يسير بغير هذا السير ، فيقطع نفسه عن كل خير ، عبر عنه بقوله : ( من يشتري ) أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به ) لهو الحديث ) أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه ، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه ، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن العموم والغموم ، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً ، وقال مجاهد : في شرى القيان والمغنين والمغنيات ، وقال ابن مسعود : اللهو الغناء ، وكذا قال ابن عباس وغيره .
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال ، بانهماك النفس في ذلك ، لمل طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة ، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة ، (6/6)
صفحة رقم 7
فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر ، وقبيلة الإعراض عن الفكر ، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة ، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى : ( ليضل ( من الضلال والإضلال على القراءتين ، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى ) عن سبيل الله ) أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها ، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد ، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم ، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر ، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل .
ولما كان المراد : من قصد الضلال عن الشيء ، ترك ذلك الشيء ، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال : ( بغير علم ( ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم ، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها ، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا ، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى .
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على ( يضل ) في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وبالرفع للباقين عطفاً على ) يشتري ( : ( ويتخذها ) أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق ) هزواً ( .
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم .
بينه بقوله ، جامعاً حملاً على معنى ( من ) بعد أن أفراد حملاً على لفظها ، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول ، والتعجيب من الواحد أبلغ ) أولئك ) أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان ، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال : ( لهم عذاب مهين ) أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة .
ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً ، فإذا انتبه ، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان ، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب : ( وإذا تتلى عليه آياتنا ) أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان(6/7)
صفحة رقم 8
وإن عظم ) ولى ) أي بعد السماع ، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانية أو مدبراً ) مستكبراً ) أي حال كونه طالباً موجداً له بالإعراض عن الطاعة تصديقاً لقولنا آخر تلك
77 ( ) ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ( ) 7
[ الروم : 58 ] .
ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً ، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل : ( كأن ) أي كأنه ، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين ) لم يسمعها ( فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع ، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك .
ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع ، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع ، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها ، لأن سمعه مشابه لمن به صم ، فالمضارع في ( يتلى ) مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى : ( كأن في أذنيه وقراً ) أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته .
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته ، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم ، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائناً من كان نوه اهتزاز قال : ( فبشره ( فلما كان جديراً بأن يقبل - لا يولي لظنه البشري - على مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه - لما كان عند الله من عظيم المنزلة - لا يكره منه عمل من الأعمال ، قرعة بقوله : ( بعذاب ) أي عقاب مستمر ) أليم ( .
ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر ، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة ، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة : ( إن الذين آمنوا ( أو اوجدوا الإيمان ) وعملوا ) أي تصديقاً له ) الصالحات ( وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة ) لهم جنات ) أي بساتين ) النعيم ( فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم .
ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً .
وكان لا سرور بشيء منقطع قال : ( خالدين فيها ) أي دائماً .
ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد ، وكان إنجاز الوعد من الحكمة ، قال مؤكدا لمضمون الوعد بالجنات : ( وعد الله ( الذي لا شيء أجل منه ؛ فلا وعد(6/8)
صفحة رقم 9
أصدق من وعده ، ثم أكده بقوله : ( حقاً ) أي ثابتاً ثباتاً لا شيء مثله ، لأنه وعد من لا شيء مثله ولا كفوء له .
ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد ، أتى بصفتين مما أفهمه الإيتان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لا بد منه فقال : ( وهو ) أي وعد بذلك والحال أنه ) العزيز ( فلا يغلبه شيء ) الحكيم ) أي المحكم لما يقوله ويفعله ، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه .
ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال : ( خلق السموات ) أي على علوها وكبرها وضخامتها ) بغير عمد ( وقوله : ( ترونها ( دال على الحكمة ، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف ، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة ، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى ادخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة ، لأنه يحتاج إلى عملين : تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف .
ولما ذكر العمد المقلة ، اتبعه الأوتاد المقرة فقال : ( وألقى في الأرض ) أي التي أنتم عليها ، جبالاً ) رواسي ( والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت ، تثبتها عن ) أن تميد ) أي تتمايل مضطربة ) بكم ( كما هو شأن ما على ظهر الماء .
ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار .
ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال : ( وبث فيها ) أي فرق ) من كل دابة ( ولما ذكر ما يعيش به ، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه : ( وأنزلنا ) أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة ، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال : ( من السماء ماء ( ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات ، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل ، دل عليه بقوله : ( فأنبتنا ) أي بما لنا من العلو في الحكمة ) فيها ) أي الأرض بخلط الماء بترابها ) من كل زوج ) أي صنف من النبات متشابه ) كريم ( بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب
لقمان : ( 11 - 12 ) هذا خلق الله. .. . .
) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ( )(6/9)
صفحة رقم 10
ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته ، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق ، لأن ذلك عين الحكمة ، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة ، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع : ( هذا ) أي الذي تشاهدونه كله ) خلق الله ) أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له .
ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له ، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره : فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله : ( فأروني ماذا خلق الذين ( زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام ، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص : ( من دونه ( فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً ، فكان من حقكم - إن كانت لكم عقول - أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا ؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا ، ثم إذا ثبت فهل مشاركهم غيرهم أم لا ، وإذا ثبت أن لهم افعالاً ترجونهم بها تخشونهم ، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً ، ولذلك قال تعالى : ( بل ( منبهاً على أن الجواب : ليس لهم خلق ، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء ، هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : ( الظالمون ) أي العريقون في الظلم ، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم ) في ظلال ( عظيم جداً محيط بهم ) مبين ) أي في غاية الوضوح ، وهو كونهم يضعون الأشياء عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم .
ولما ثيتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب ، واعتصم بآيات الكتاب ، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين ، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله : ( وهو العزيز الحكيم ) ) أو على مقدر تقديره : لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو ، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله ، فهو تقدير لتخصيص النبي ( ص ) .(6/10)
صفحة رقم 11
بالرسالة : ( ولقد آتينا ( بما لنا من العظمة والحكمة ) لقمان ( وهو عبد من عبيدنا ) الحكمة ( وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم ، وقال الحرالي : هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم ، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية ، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، وقال ابن ميلق : إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل ، ولهذا قال ابن قتيبة : لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل ، قال : ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها - انتهى .
ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي ( ص ) قال : ( حقاً أقول لم يكن لقمان نبياً ، ولكن كان عبدا ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء ، قيل : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق ، فأجاب : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة ، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إذ يعدل فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقته ، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ) .
وفي الفردوس عن مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( الحكمة عشرة اجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت ) وقال لقمان : لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس ، وقال : ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع ، وقيل له : أيّ الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، وقيل له : ما أقبح وجهك فقال : تعيب النقش أو النقاش ، وقال البغوي : إنه قيل له : لم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني - انتهى .
فهو سبحانه من حكمته وحكمه أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه سلامه الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها ، (6/11)
صفحة رقم 12
قال ابن ميلق : من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله ، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير ذلك ، فما من سابق عدل إلا له لحق فضل ، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل ، غير أن أثر العدل والفضل فد يتعلق بالبواطن خاصة ، وقدج يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن ، وقد يكون اختلاف تعلقمها في حالة واحدة ، وقد يكون على البدل ، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق .
ولما كانت الحكمة قاضية بذلك ، أجرى الله سبحانه آثارعدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم ، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره ، وذلك كثير موجود بالاستقرار ، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتاديب - إلى غير ذلك - من فؤائد التربية ، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد لما قررته بالصحة إن شاء الله تعالى - انتهى .
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال : ( أن اشكر ( وهو وإن كان تقديره : قلنا له كذا ، يؤول إلى ( آتيناه الشكر ) وصرف الكلام إلى الأسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت ، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال : ( لله ( بأن وفقناه له بنا سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به ، ويمكن أن تكون ( أن ) مصدرية ، ويكون التقدير : آتيناه إياها بسبب الشكر ، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى .
ولما كان التقدير : فبادر وشكر ، فما نفع إلا نفسه ، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه ، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من اقبل عليه - في أي زمان كان - يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل : ( ومن يشكر ) أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان ) فإنما يشكر ) أي يفعل ذلك ) لنفسه ) أي فإنما ينفع نفسه ، فإن الله يزيده من فضله فإن الله شكور مجيد ) ومن كفر ( فإنما يضر نفسه ، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه ) فإن الله ( عبر الأسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة ، والحكيم من أدام استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار ) غني ( عن الشكر وغيره ) حميد ) أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق ، فإن(6/12)
صفحة رقم 13
تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامدة بالقدرة والعزة والفهم والعظمة .
ويجوز - وهو أقرب - أن يعود ( غني ) إلى الكافر و ( حميد ) إلى الشاكر ، فيكون اسم فاعل ، فيكون التقدير : ومن كفر فإنما يكفر على نفسه ، ثم سبب عن الجملتين وهما كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله ( فإن الله غني ) أي عن شكر الكافر ( حميد ) للشاكر ، والاية على الأول من الاحتباك : تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا ، وإثبات الصفتين يدل على حذف مثلهما أولاً .
لقمان : ( 13 - 15 ) وإذ قال لقمان. .. . .
) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله ، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقة للواقع ، فكان التقدير : اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة ، عطف عليه قوله : ( وإذ ) أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك - بما أنك رسول - ما كان حين ) قال لقمان لابنه ( ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك ، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحصل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير ، وعلى تأديب الولد ، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال : ( وهو يعظه ) أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه ، ويوجب له الخشية والعدل .
ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الإعتقاد وإصلاح العمل ، وكان الأول أهم ، قدمه فقال : ( يا بني ( فخاطبه بأحب ما يخاطب به ، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة ، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح ) لا تشرك ) أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً ، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه ، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال ، تحقيقاً لمزيد الإشفاق .
فقال : ( بالله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، ثم علل هذا النهي بقوله : ( إن الشرك ( اي بنوعيه ) لظلم عظيم ) أي فهو ضد الحكمة ، لأنه وضع الشيء في غير محله ، فظلمه ظاهر من جهات عديدة(6/13)
صفحة رقم 14
جداً ، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذااه إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب الوجود ، فلا خير ولا نعمة إلا منه ، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها ، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب ، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك ، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية ، العاجلة والآجلة ، وهو الأمن والهداية
77 ( ) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( ) 7
[ الأنعام : 82 ] فإنه لما نزلت تلك الآية كما هو صحيح البخاري في غير موضع عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقالواك أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله ( ص ) : ( إنه ليس بذاك ، ألم تسمع إلى قول لقمان ) إن الشر لظلم عظيم ( ) .
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد ، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة ، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق وإن صغر لأهله وإيذاناً بأنه يشكر الله من لا يشكر الناس ، وتفخيماً لحق الوالدين ، لكونه قرن عقوقهما بالشرك ، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة ، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر ) ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق .
ولما قد يخليه الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك ، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين ، وإيجاب امتثال ابنه لأمره ، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره ، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام ، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين ، وارتكاباً لأخف الضررين : ( ووصينا ) أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو(6/14)
صفحة رقم 15
ما أوصاه به في حقنا - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال : ( الإنسان ) أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان ) بوالديه ( فكأنه قال : إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولفن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم ، فانتهى في نفسه ونهى ولده ، فكانت بذلك حكيماً .
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما لأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها ، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية .
فقال معللاً أو مستأنفاً : ( حملته أمه وهناً ) أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها ، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت ) على وهن ) أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل ، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله : ( وفصاله ) أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه .
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور ، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال : ( في عامين ( تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور ، والتعبير ب ( في ) مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله ، وتدعو إليه المصلحة من أمره .
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها ، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل ( وصينا ) : ( أن اشكر ( ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر ، قصر فعله ، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك .
ولما كان لا بد له من متعلق ، كان كأنه قال : لمن ؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به ، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصاً على المراد : ( لي ) أي لأني المنعم بالحقيقة ) ولوالديك ( لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك ، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه : الموجودات كلها كالشجرة ، والإنسان ثمرتها ، وهي القشور والإنسان لبابها ، وكالمبادئ والإنسان كمالها ، ومن أين للعالم ما للإنسان ؟ بل العالم(6/15)
صفحة رقم 16
العلوي فيه ، ليس في العالم العلوي ما فيه ، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده ، واستجمع الكونين بعقله وحسه ، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً ، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً .
ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال : ( إليّ ( لا إلى غيري ) المصير ) أي فأسالك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً بما جعلت لهما من التسبب في ذلك ، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما .
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما ، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال : ( وإن جاهداك ) أي مع ما أمرتك به من طاعتهما ، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك ) على أن تشرك بي ( وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدن في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة ، وليست لقوة الكفار ، فعبر فيها بلام العلة ، إشارة إلى المطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه ، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان ، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان ، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان ، ولذلك حذر في الآية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة ، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال : ( ما ليس لك به علم ( إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول ، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول ، وأما الوجه الذي سماه أهل الألحاد بمذهب الاتحاد توحيداً فقد كفى في أنه ليس به علم إطابقهم على أنه خارج عن طور العقل ، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل ، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض ، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل والتكذيب بالنقل ، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد .
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع ، قال مسبباً عنه : ( فلا تطعهما ) أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه ، بل خالفهما ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به ، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك .
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين ، أشار(6/16)
صفحة رقم 17
إلى أنه ليس مطلقاً فقال : ( وصاحبهما في الدنيا ) أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما .
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق ، خفف عليه بالتنكير في قوله : ( معروفاً ) أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم ، قال ابن ميلق : ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية - يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد ، قال ابن ميلق : ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله ، وامتثال لأمر الله ، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله ، ثم قال ما معناه : وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد ، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا : إنه ليس في الكون إلا هو ، وهم أهل الوحدة المطلقة ، والكل على ضلال ، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده ، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده .
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة ، نفى ذلك بقوله : ( واتبع ) أي بالغ في أن تتبع ) سبيل ) أي دين وطريق ) من أناب ) أي أقبل خاضعاً ) إليَّ ( لم يلتفت إلى عبادة غيري ، وهم المخصلون من أبويك وغيرهما ، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له ، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق ، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة ، فمن كان عمله موافقاً لها ابتع ، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب .
ولما كان التقدير : فإن نرجع أموركم كلها في الدنيا إليَّ ، عطف عليه قوله : ( ثم إليّ ) أي في الآخرة ، لا إلى غيري مرجعك - هكذا كان الأصل ، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه : ( مرجعكم ( حساً ومعنى ، فأكشف الحجاب ) فأنبئكم ) أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه ، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به ) بما كنتم ( بما هو لكم كالجبلة ) تعملون ) أي تجدون عمله من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج ، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد ، فأعد لذلك عدته ، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب(6/17)
صفحة رقم 18
فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله ، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين ، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية .
لقمان : ( 16 - 18 ) يا بني إنها. .. . .
) يبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ( )
ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة ، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها ، وأنها في علم الله سواء ، حسن جداً الرجوع إلى تمام بيان حكمته ، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد ، وعبر بمثقال الحبة لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال ، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه : ( يا بني ( متحبباً مستعطفاً ، مصغراً له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً : ( إنها ) أي العمل ، وأنث لأنه في مقام التقليل والتحقير ، والتأنيث أولى بذلك ، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية والحسنة والسيئة ) إن تك ( وأسقط النون لغرض الإيجار في الإيصاء بما ينيل المفاز ، والدلالة على أقل الكون وأصغره ) مثقال ) أي وزن ، ثم حقرها بقوله : ( حبة ( وزاد في ذلك بقوله : ( من خردل ( هذا على قراءة الجمهور بالنصب ، ورفه المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره - بما أشار إليه التأنيث .
ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها : ( فتكن ( إشارة إلى ثباتها في مكانها .
وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف النون وإثبات هذه ، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز : ( في صخرة ) أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها .
ولما أخفى وضيق ، أظهر ووسع ، ورفع وخفض ، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال : ( أو في السموات ) أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، واعاد ( أو ) نصاً على إرادة كل منهما على حدته ، والجار تأكيداً للمعنى فقال : ( أو في الأرض ) أي كذلك ، وهذا كما ترى ولا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في أحداهما ، (6/18)
صفحة رقم 19
وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال : ( يأتِ بها الله ( بعظم جلاله ، وباهر كبريائه وكماله ، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها ، فيحاسب عليها ، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق : ( إن الله ( فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم ) لطيف ) أي عظيم المتّ بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أمر أراده حتى بضد الطريق الموصل فيهما يظهر للخلق ) خبير ( بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء ، ولا يفوته أمر .
ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب ، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه ، وتخضعاً لديه ، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه ، فقال : ( يا بني ( مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة ) أقم الصلاة ) أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها ، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك ، فإن إقامتها - وهي الإيتان بها على النحو المرضي - مانعة من الخلل في العمل ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد ، وترك ذكر الزكاة تبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم .
ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه لحق الحق ، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق ، وذلك ان لما كان الناس في هذه الدار سفراً ، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو ، أمره لما يكمل نجاته بتكميل رفيقه ، وقدمه - وإن كان من جلب المصالح - لأنه يستلزم ترك المنكر ، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير ، فإنك إذا قلت : لا تأت منكراً ، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية ، لا فعل الطاعة ، فقال : ( وأمر بالمعروف ) أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك .
ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم ، وكانت المعاصي مفسدة لها ، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها : من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده ، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر ، صرح به فقال : ( وانه ) أي كل من قدرت على نهيه ) عن المنكر ( حباً لأخيك ما تحب لنفسك ، تحقيقاً لنصيحتك ، وتكميلاً لعبادتك ، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى :(6/19)
صفحة رقم 20
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لأنه أمره أولاً بالمعروف ، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ، ناسب أن يأمر غيره ينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به .
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر ، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم ، قال تعالى : ( واصبر ( صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً ) على ما ) أي الذي ، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة ، فقال : ( أصابك ) أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة
77 ( ) واستعينوا بالصبر والصلاة ( ) 7
[ البقرة : 45 ] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين ، المخاطب هنا مؤمن متقلل ، وهناك كافر متكثر .
ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى ، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها ، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل : ( إن ذلك ) أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب : ( من عزم الأمور ) أي معزوماتها ، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر ، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها ، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم ، وينحو إليها بكليته الجازم ، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل .
ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب إلى الكبر ، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه ، لأن النفي الأعم نفي للأخص ، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور : ( ولا تصعر خدك ) أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة ، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : تصاعر ، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً ، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم .
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم ، أشار إلى المقصود بقوله تعالى : ( للناس ( بلام العلة ، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم ، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر ، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر(6/20)
صفحة رقم 21
ولا علو ، وأتبع ذلك ما يلزمه فقال : ( ولا تمش ( ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر ، ذكره بأن أصله تراب ، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال : ( في الأرض ( وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال : ( مرحاً ) أي اختيالاً وتبختراً ، أي لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر ، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي ، بل امش هوناً فأن ذلك يفضي بك إلى التواضع ، فتصل إلى كل خير ، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها .
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى ، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله : ( إن الله ) أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة .
ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس ، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور ، وكانت ( لا ) لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال : ( لا يحب ) أي فيما يستقبل من الزمان ، ولو قال ( يبغض ) لاحتمال التقييد بالحال ، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال : ( كل مختال ) أي مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاَ على الناس فيشمخ بأنفه ، وذلك فعل المرح ) فخور ( يعدد مناقبه ، وذلك فعل المصعر ، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه .
لقمان : ( 19 - 20 ) واقصد في مشيك. .. . .
) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ( ( )
ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده ، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام ، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد ، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم : ( واقصد ) أي اعدل وتوسط ) في مشيك ( لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين ، وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في الوامع ، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر ) واغضض ) أي انقص ، ولأجل ما(6/21)
صفحة رقم 22
ذكر قال : ( من صوتك ( بإثبات ( من ) أي لئلا يكون صوتك منكراً ، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً ، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به .
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب ( من ) فأفهم أن الطرفين مذمومان ، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة ( أفعل ) على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال : ( إن أنكر ) أي أفظع وأبشع وأوحش ) الأصوات ) أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً ، مبالغة في التهجين ، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال : ( لصوت الحمير ) أي هذا الجنس ، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة ، وأوله زفير وآخره شهيق ، وهما فعل أهل النار ، وأفرده ليكون نصاً على إدارة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع يستهجن التصريح باسمه ، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستشبع ، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق ، وهي أمهات الفضائل الثلاث : الحكمة والعفة والشجاعة ، وأمرت بالعدل فيها ، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل ، ونهت عن مساؤى الأخلاق ، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط ، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي ، أمر الشجاعة ونهى عن الجبن ، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور ، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور ، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجزيرة ، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة ، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة ، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع ومن تلويحه ، قال : إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى : إحداهما مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق إلى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد ، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية ، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك ، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الامارة ، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع ، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة ، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة ، والثانية(6/22)
صفحة رقم 23
العفة ، والثالثة الشجاعة ، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث ، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها ، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان ، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة ، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عيلها المشار إليه بقوله تعالى :
77 ( ) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراُ كثيرا ( ) 7
[ البقرة : 269 ] وإفراطها الجزبرة ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات ، وعلى وجه لا ينبغي ، كالمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت : وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجزبر - بالضم ، وهو الخب ، أي الخداع الخبيث - والله اعلم ، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف على اكتساب العلوم النافعة ، وأما الشجاعة فيه انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة ، حتى يكون فعلها جميلاً ، وصبرها محموداً ، وإفراطها التهور ، أي الإقدام على ما ينبغي ، وتفريطها الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة ، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة ، لتسلم عن استبعاد الهوى إياها ، واستخدام اللذات ، وإفراطها الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب ، وتفريطها الجمود ، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة ، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة ، أي في قوله تعالى :
77 ( ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا ( ) 7
[ البقرة : 143 ] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام ( خير الأمور أوساطها ) والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها ، ومقصدها المتوجه إليه ، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها ، واشترط التوسط في افعالها لئلا تستبعد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها - انتهى .
ولما انقضت هذه الجمل ، رافعة أعناقها على المشتري وزحل ، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل ، والضجر في الفكر والملل ، وأين الثريا من يد المتناول ، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين ، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين ، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة ، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية ، إلى أن(6/23)
صفحة رقم 24
ختم بالنهي عن التكبر ، ورفع الصوت فوق الحاجة ، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم ، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة ، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته ، وتارة خوفاً من سطوته ، وتارة رجاء لنعمته ، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه ، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل ، وأن إليه المرجع ، وهو عالم على استحقاقه ، لما أمر به لقمان شيء ، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه ، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره ، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه ، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر ، فقال : ( ألم تروا ( اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث ، المتكبرون علي المقبلين على الله ، المختلين عن الدنيا ، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك ) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ( ) أن الله ) أي الحائز لكل كمال ) سخر لكم ) أي خاصة ) ما في السموات ( بالإنارة والإظلام ، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام ، وأكده بإعادة الموصول والجار ، لأن المقام حقيق به فقال : ( وما في الأرض ( بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه ، ما لأحد ممن دونه فيه شيء ، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً ، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن ) وأسبغ ) أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل ) عليكم ( أيها المكلفون ) نعمه ) أي واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم ، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً ، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تأء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً ) ظاهرة ( وهي ما تشاهدونها متذكرين لها ) وباطنة ( وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها ، أو تحسونها وهي خفية عنكم ، لا تذكرونها إلا بالتذكير ، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال ، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين ، حذراً من سلب نعمه ، وإيجاب نقمه ، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى : ( خلق السموات بغير عمد ترونها ( .(6/24)
صفحة رقم 25
موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس : ( ومن الناس ) أي الذين هم أهل للاضطراب ، ويمكن أن يكون حالاً من ) ألم تروا ( ويكون ) ألم تروا ( دليلاً على أول السورة ، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو ، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس ) من يجادل ( فلا لهو أعظم من جداله ، ولا كبر مثل كبره ، ولا ضلال مثل ضلاله ، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل ، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى : ( في الله ( المحيط بكل شيء علماً وقدرة .
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده واوصافه بحيث لا يخفى بوجه ، وكان المجادل قد يكون فهماً ، قال : ( بغير ( اي بكلام متصف بأنه غير ) علم ) أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم ، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى .
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين ، لوروده على لسان من لا يعتبر ، فإذا أضيف إلى كبير ، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه ، فظهر على طول حسه ، قال معبراً بأداة النفي الحقيقية به ، لأن الموضع لها ، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم : ( ولا هدى ) أي وارد عمن عهد مه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات ، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها .
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً ، قال : ( ولا كتاب ) أي من الله ؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال : ( منير ) أي بين غاية البيان ، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى ، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله ، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك .
لقمان : ( 21 - 23 ) وإذا قيل لهم. .. . .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ( )
ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعاً هواه مقلداً مثله قطعاً ، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجباً ، عجب منهم تعجيباً آخر بإقامتهم على(6/25)
صفحة رقم 26
الضلال مع إيضاح الادلة فقال : ( وإذا قيل ) أي من أيّ قائل كان .
ولما كان ظلال الجمع أعجب من ضلال الواحد ، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى ، أفرد أولاً وجمع هنا فقال : ( لهم ) أي للمجادلين هذا الجدال : ( اتبعوا ما ) أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي ، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال : ( أنزل الله ( الذي خلقكم وخلق آبائكم الأولين ، وهو الذي لا عظيم إلا هو ) قالوا ( جموداً : لا نفعل ) بل نتبع ( وإن جاهدنا بالأنفس والأموال ) ما وجدنا عليه آباءنا ( لأنهم أثبت منا عقولاً ، وأقوم قيلاً ، وأهدى سبيلاً .
ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل ، كان التقدير : أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك ، لكونه بغير دليل ، فعطف عليه قوله : ( أو لو كان الشيطان ) أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ، وهو أعدى اعدائهم ، دليللهم فهو ) يدعوهم ( إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيوديهم ذلك ) إلى عذاب السعير ( وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر ، وأطلق العذاب على سببه .
ولما كان التقدير : فمن جادل في الله فلا متمسك له ، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم : ( ومن يسلم ) أي في الحال أو الاستقبال ) وجهه ) أي قصده وتوجهه وذاته كلها .
ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة ، عدى الفعل ب ( إلى ) تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك ، فقال معلقاً بما تقديره : ساتراً وواصلاً ) إلى الله ( الذي له صفات الكمال ، فلم يبق لنفسه أمر أصلاً ، فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه ) وهو ) أي والحال أنه ) محسن ) أي مخلص الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوة في بادئه الأمور لترقية نفسه من حضيضها إلى أوج الروح على أيدي المسلكين الذين اختارهم لدينه ، العارفين بأخطار السير وعوائق الطريق ) بالعروة الوثقى ( التي هي أوثق ما يتمسك به فلا سقوط له أصلاً ، فليسررك شكره فإن ربه يعليه إلى كل مراد ما دام متمسكاً بها تمثيلاً لحال هذا السائر بحال من سقط في بئر ، أو أراد أن يرقى جبلاً ، فادعى له صاحبه حبلاً ذا عرى فأخذ بأوثقها ، فهو يعول به إذا جره صديقه .
وهو قادر على جره لا محالة من غير انفصام ، لأن متمسكه في غاية الإحكام .
ولما كان الكل صائرين إليه ، رافدين عليه : من استمسك بالأوثق ، ومن استمسك بالأوهى ، ومن لم يتمسك بشيء ، إلا أن الأول صائر مع السلامة ، وغيره مع العطب ، (6/26)
صفحة رقم 27
قال مظهراً للأمر ولئلا يقيد بحيثيه عاطفاً على ما تقديره : فيصير إلى الله سالماً ، فإلى الله عاقبته لا محال : ( وإلى الله ) أي الملك الأعظم وحده تصير ) عاقبة الأمور ) أي كما أنه كانت منه بادئتها ، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة .
ولا ذكر المسلم ذكر الكافر فقال : ( ومن كفر ) أي ستر ما أداه إليه عقله من أن الله لا شريك له ، وأنه لا قدرة لأحد سواه ، ولم يسلم وجهه إليه ، فتكبر على الدعاة وأبى أن ينقاد لهم ، اتباعاً لما قاده إليه الهوى .
بأن جعل لنفسه اختياراً وعملاً فعل القوي القادر ، فقد ألقى نفسه في كل هلكة لكونه لم يتمسك شيء ) فلا يحزنك ) أي يهمك ويوجعك ، وأفرد الضمير باعتبار لفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد فقال : ( كفره ( كائناً من كان فإنه لم يَفُتك شيء فيه خير ولا معجز لنا ليحزنك ، ولا تبعة عليك بسببه ، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأول بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين ، وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم ، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه ، فالآية من الاحتباك : ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، وذكر الاستسماك أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً .
ولما كان الحزن بمعنى الهم ، حسن التعليل بقوله التفاتاً إلى مظهر العظمة التي هذا من أخفى مواضعها ، وجمع لأن الإحاطة بالجمع أدل على العظمة : ( إلينا ) أي خاصة بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال ) مرجعهم ) أي رجوعهم وزمانه ومكانه أي معنى في الدنيا وحساً يوم الحساب ، لا إلى غيرنا ، ولما بين أنهم في قبضته ، وأنه لا بد من بعثهم ، بين أن السبب في ذلك حسابهم لتظهر الحكمة فقال : ( فننبئهم ( بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم ) بما عملوا ) أي ونجازيهم عليه إن أردنا .
ولما كان معنى التضعيف : نفعل فعل منقب عن الأمور مفتش على جليها وخفيها ، جليلها ودقيقها ، فلا نذر شيئاً منها ، علله بقوله معبراً بالاسم الأعظم المفهم للعظمة وغيرها من صفات الكمال التي من أعظمها العلم ، لفتاً للكلام عن العظمة التي لا تدل على غيرها إلا باللزوم ، مؤكداً لإنكارهم شمول علمه ) إن الله عليم ) أي محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال ) بذات الصدور ) أي بالأعمال التي هي صاحبتها ، ومضمرة ومودعة فيها ، فناشئة عنها ومن قبل أن تبرز إلى الوجود ، فكيف بذلك بعد عملها .
لقمان : ( 24 - 27 ) نمتعهم قليلا ثم. .. . .
) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ إِنَّ(6/27)
صفحة رقم 28
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما تشوف المسلم إلى إهلاك من هذا شأنه وإلى العلم بمدة ذلك ، وكان من طبع الإنسان العجلة ، أجاب من يستعجل بقوله عائداً إلى مظهر العظمة التي يتقاضاها إذلال العدو وإعزاز الولي : ( نمتعهم قليلاً ) أي من الزمان ومن الحظوظ وإن جل ذلك عند من لا علم له ، فلا تشغلوا أنفسكم بالاستعجال عليهم فإن كل آت قريب .
ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً ، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال ، التي تذل الرجال ، وتدك الجبال ، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع ، أو عند الله فقال : ( ثم نضطرهم ) أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة ، وأشار إلى طول إذلالهم في مجة السوق بحرف الغاية ، فكان المعنى : فنصيرّهم بذلك الأخذ ) إلى عذاب غليظ ) أي شديد ثقيل ، لا ينقطع عنهم اصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته ، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه .
ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به قطعاً التسليم في أن الواحد لا شريك له وأن له جميع صفات الكمال فله الحمد كله ، قال : ( ولئن ) أي يجادلون أو يقولون : بل نتبع آباءنا والحال أنهم أن ) سألتهم من خلق السموات ( بأسرها ) والأرض ( وجميع ما فيها ) ليقولن ( ولما كان الأنسب للحكمة التي هي مطلع السورة الاقتصار على محل الحاجة ، لم يزد هنا على المسند إليه بخلاف الزخرف التي مبناها الإبانة ، فقال لافتاً القول عن العظمة إلى أعظم منها فقال : ( الله ) أي ( المسمى بهذا الاسم الذي جمع مسماه بين الجلال والإكرام ) فقد أقروا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته .
ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال ، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم ، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر ، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما ، وأن من جملة ذلك مما يستحق به الحمد سبحانه قهرهم على تصديقه صلى الله عليه السلام بمثل هذا الإقرار وهم في غاية التكذيب ، فقال مستأنفاً : ( قل الحمج ) أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ) الله ) أي الذي له الإحاطة الشاملة الكاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره ( الأمر أعظم من مقالة قاءل ) كما أحاط بما تعلمونه من خلق السماوات(6/28)
صفحة رقم 29
والأرض ، فهو فاعل الأفعال كلها ، كما أنه خالق الذوات كلها ، ولا شريك له في شيء من الأمر ، كما أنه لا شريك له في شيء من الخلق .
ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدرسي رضي الله عنه : هل يخشى على الصبية من ذي الشرى ، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سبب آلهتهم : اتق الجدام اتق البرص ، وكما قال سادن العوى ، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم ، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض ، والله ليغضبن الأساس ، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس ، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها ، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد ، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك : إنهم ليعلمون ما أثبت بالتحميد ، قال : ( بل أكثرهم لا يعلمون ) أي إن الله هو المنفرد بكل شيء كما أنه تفرد بخلق السماوات والأرض ، وأنه لا يكون شيء ، إلا بإذنه لأنهم لا يعملون بما يعلمون من ذلك ، وعلم لا يعمل به عدم ، بل العدم خير منه ، وكان القليل هم المقتصدون عنه النجاة من الشدة كما سيأتي ىنفاً ، أو يكون المعنى أنه لا علم لهم أصلاً إذ لو كان لهم علم لنفعهم في علمهم بالله ، أو في أنهم لا يقرون بتفرده سبحانه بالخلق والرزق ، فيكون ذلك موجباً لتناقضهم وملزماً لهم بالإقرار بصدقك غي الحكم بوحدانيته على الإطلاق .
ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال ، شرع يستدل على ذلك ، فقال مبيناً أن ما أخبر أنه صنعه فهو له : ( لله ) أي الملك الأعظم المحيط بجميع أوصاف الكمال خاصة جون غيره ) ما في السموات ( كلها .
ولما تحرر بما تقدم أنهم عالمون مقرون بما يلزم عنه وحدانيته ، لم يؤكد بإعادة ) ما ( والجار ، بل قال : ( والأرض ) أي كلها كما كانتا مما صنعه ، فلا يصح أن يكون شيء من ذلك له شريكاً .
ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) هو ( أو وحده ، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه ، ولذلك أظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن كل ما وصف به فهو ثابت له مطلقاً من غير تقييد بحيثيته ) الغني ( مطلقاً ، لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه ، وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً .
ولما كان الغني قد لا يوجب الحمد لله : ( الحميد ) أي المستحق لجميع المحامد ، لأنه المنعم على الإطلاق ، المحمود بكل لسان ألسنة الأحوال والأقوال ، ولو كان نطقها ذماً فهو حمد من حيث إنه هو الذي أنطقها ، ومن قيد الخرس .
ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له ، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك ، بل لا(6/29)
صفحة رقم 30
حد لغناه ، ولا ضبط لمعلوماته ومقدروراته الموجبة لحمده ولا تناه ، فقال : ( ولو ) أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو ) أنّ ما في الأرض ) أي كلها ، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله : ( من شجرة ( حيث وحدها ) أقلام ) أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات ، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام ) والبحر ) أي والحال أن البحر ، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير : ولو أن البحر ) يمده ) أي يكون مدداً وزيادة فيه ) من بعده ) أي من ورائه ) سبعة أبحر ( فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله ) ما نفدت ( وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل : ( كلمات الله ( وفنيت الأقلام والمداد ، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زبادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى ، ويتبع الكلمات الإبداع ، فلا تكون كلمة إلا الأحداث شأن من الشؤون ) ) إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ( ) [ يس : 82 ] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة ، فهي لا تفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى ومن كبرياء لا تجارى ، ولا تضاهى ، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة ، وعدم البعث إنكار للحكمة : ( إن الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلا ) عزيز ) أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء ) حكيم ( يحكم ما أراده ، فلا يقدر أحد على نقضه ، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه ، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما اورثه ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها ، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار ، وهو من عظيم هذا الفن ، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها ، وأن المراد بجمع القلة في ( أبحر ) الكثرة ، لقرينة المبالغة ، وبجمع القلة في ) كلمات ( حقيقتها لينتظم المعنى ، وكل ذلك سائغ شاءع في لغة العرب .
لقمان : ( 28 - 30 ) ما خلقكم ولا. .. . .
) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ( )
ولما ختم بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ، ذكر بعض آثارهما في البعث الذي تقدم أول السورة وأثناءها ذكره إلى حذرهم به في قوله ( إلينا مرجعهم ) فقال : ( ما خلقكم ) أي كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة ، (6/30)
صفحة رقم 31
وأعاد النافي نصاًَ على كل واحد من الخلق والبعث على حدته فقال : ( ولا بعثكم ( كلكم ) إلا كنفس ) أي كبعث نفس ، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد ، وتأكيداً للسهولة فقال : ( واحدة ( فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة ، وقدرتها مع كونها باقية بالغة ، فنسبه القليل والكثير إلى قدرته على حد سواء ، لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، ثم دل على ذلك بقوله مؤكداً لأن تكذيبهم لرسوله وردهم لما شرفهم به يتضمن الإنكار لأن يكونوا بمرأى منه ومسمع : ( إن الله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الشاملة ) سميع ) أي بالغ السمع يسمع كل ما يمكن سمعه من المعاني في آن واحد لا يشغله شيء منها عن غيره ) بصير ( بليغ البصر يبصر كذلك كل ما يمكن أن يرى من الأعيان والمعاني ، ومن كان كذلك كان المحيط العلم بالغه شامل القدرة تامها ، فهو يبصر جميع الأجزاء من كل ميت ، ويسمع كل ما يسمع من معانيه ، فهو بإحاطة علمه وشمول قدرته يجمع تلك الأجزاء ، ويميز بعضها من بعض ، ويودعها تلك المعاني ، فإذا هي أنفس قائمة كما كانت أول مرة في أسرع من لمح البصر .
ولما قرر هذه الآية الخارقة ، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين ، مع دلالته على تسخير ما في السموات والأرض ، وإبطال قولهم :
77 ( ) ما يهلكنا إلا الدهر ( ) 7
[ الجاثية : 24 ] بأنه ، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك ، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره ، أو عاماً كل عاقل ، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال : ( ألم تر ) أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب ، ويمكن أن يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره .
ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه ، فكان إنكاره إنكارً لهذا ، نبه على ذلك بالتأكيد فقال : ( أن الله ) أي بجلاله وعز كماله ) يولج ) أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه ) الليل في النهار ( فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه ، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح ) ويولج النهار ) أي يدخله كذلك ) في الليل ( فيخفي حتى لا يبقى له أثر ، فإذا الليل قد طبق الآفاق : مشارقها ومغاربها في مثل الظرف ، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله ، فكذلك الخلق والبعث في قدرتع بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره ، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة ، عبر فيه بالمضارع .
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف ، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال : ( وسخر الشمس ( آية للنهار بدخول الليل فيه(6/31)
صفحة رقم 32
) والقمر ( آية الليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه فقال : ( كل ) أي منهما ) يجري ) أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً .
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة ، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطرير ، والمد في الإبداع والتسير ، كان الموضع لحرف الغاية فقال : ( إلى أجل مسمى ( لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص ، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك في السنة مرة ، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره ، ولا أن ينقص دوره ، ولا أن يغير سيره .
ولما بان بهذا التدبير المحكم ، في هذا الأعظم ، شمول علمه وتمام قدرته ، عطف على ( أن الله ) قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها : ( وأن الله ) أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها ، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير نرة ، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال : ( بما تعملون ) أي في كل وقت على سبيل التجدد ) خبير ( لا يعجزه شيء منه لا يخفى عنه ، لأنه خالق له كله دق وجله ، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه ، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً ، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد ، فكان ما قاله كما قاله ، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله ، فتمت كلماته ، وصدقت إشاراته وعباراته ، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر ، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون ، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل أن دائماً ما تعاقب الملوان ، وبقي الزمان ، لا يشغله شأن منه على شأن ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم به .
لما ذكر من دليله ، ولما شاهدوا من إخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين ، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب ، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك ، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب ( صلى الله عليه وسلم ) ، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى ، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما اطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة .
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال : ( ذلك ) أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة ) بأن ) أي بسبب أن ) الله ) أي الذي لا عظيم سواه ) هو ( وحده ) الحق ) أي الثابت بالحقيقة وثبوت(6/32)
صفحة رقم 33
غيره في الواقع عدم ، لأنه مستفاد من الغير ، وليس له الثبوت من ذاته ، ومنه ما أشركوا به ، ولذلك أفرده بالنص ، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب ، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي ) وأنَّ ما يدعون ) أي هؤلاء المختوم على مداركهم ، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله : ( من دونه ( ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه ، كقوله ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) وأكثر هنا إظهار الجلالة موضع تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال : ( الباطل ) أي العدم حقاً ، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه ، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات ، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له .
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق ، قال : ( وأن الله ) أي الملك الأعظم وحده ، ولما كان النيران مما عبد من دون الله ، وكانا قد جمعا علواً وكبراً ، وكان ليش لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر ، ختم بقوله : ( هو العلي الكبير ) أي عن أن يداينه في عليائه ضد ، أو يباريه في كبريائه ند .
لقمان : ( 31 - 32 ) ألم تر أن. .. . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ( ( )
ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء ، أتبعها دليلها ، فقال منبهاً على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك ، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان ، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك ، خاصاً بالخطاب أعلى الناس ، تنبيهاً على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها ، فهو في الحقيقة حث على تدبرها ، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها : ( ألم تر أن الفلك ) أي السفن كباراً وصغاراً ) تجري ) أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر ، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال : ( في البحر ) أي على وجه الماء ، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال : ( بنعمت الله ((6/33)
صفحة رقم 34
أي برحمة الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة وإحسانه ، مجدداً ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام ) ليريكم من آياته ) أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها ، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب ، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار .
ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهزم ، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه ، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) إن في ذلك ) أي الأمر الهائل البديع الرفيع ) لآيات ) أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة ، والأقطار البعيدة ، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين ، وأخرى بريح واحدة ، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض ، وفي غير ذلك من شؤونه ، وأموره وفنونه ، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات ، ونواقض المطردات ، وعلم من ختام التي قبلها أن المراد - بقوله جامعاً لجميع الإيمان الذي هو نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، وذلك تمام صفة المؤمن مظهراً موضع لك أو لكم - ما أفاد الحكم بكل من شاركه ( صلى الله عليه وسلم ) في الوصفين المذكورين : ( لكل صبار ( إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء ، وأنها من عند الله ، وأنه لا يقدر عليها سواه ، والإذعان له في جميع ذلك ، حفظاً لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر ، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله ، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن ) شكور ( عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر ، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم الله على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جرياً مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة ، وقليل ما هم ، وقال الرازي في اللوامع : وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية ، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابّه .
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية ، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة ، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم ، أعرض عنهم وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً(6/34)
صفحة رقم 35
باستحقاق شديد الغضب والعذاب ، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره : وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم : ( وإذا غشيهم ) أي علاهم وهو فيها حتى صار كالمغطى لهم ، لأنه منعم من أن تمتد أبصارهم كما كانت ) موج ) أي هذا الجنس ، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئاً في أثر متتابعاً بركب بعضه كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام ) كالظلل ) أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها ، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الأسم الأعظم فقال : ( دعوا الله ) أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله ، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه ) مخلصين له الدين ( لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال ، وقسرهم عليه من العظمة والكمال ، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب .
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم : إنهم أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبه بذلك والعار حتى قال من قال : لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت .
بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك ، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء ، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع ، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم : ( فلما نجّاهم ) أي خلصهم رافعاً لهم ، تنجية لهم عظمية بالتدريج من تلك الأهوال ) إلى البر ( نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين ، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين ) فمنهم ) أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم ) مقتصد ( متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم ، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار ، وهم قليل - بما دل عليه التصريح بالتبعيض ، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك ، وهو الأكثر - كما مضت الإشارة إليه ودل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض ، وما يقتصد إلا كل صبار شكور ، إما حالاً وإما مالاً ) وما يجحد ( وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام ، فقال صارفاً القول إليه : ( بآياتنا ) أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها ) إلا كل ختار ) أي شديد الغدر عظيمة لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف ) كفور ) أي عظيم الكفر(6/35)
صفحة رقم 36
لإحسان من هو متقلب في نعمه ، في سره وعلنه ، وحركاته وسكناته ، ولا نعمة إلا وهي منه ، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين ، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها ، وأن الآية من الاحتباك : دل ذكر المقتصد أولاً على ( ومنهم جاحد ) ثانياً ، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً ، قال البغوي : قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني : فقال الركاب على عادتهم : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً - فقال عكرمة رضي الله عنه : لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح ، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، وقال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر ، وقال الكلبي : مقتصد في القول أي من الكفار ، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الأفتراء من بعض .
لقمان : ( 33 - 34 ) يا أيها الناس. .. . .
) يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ( ( )
ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة ، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة ، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية ، فلم تدع شيئاً من العجمة ، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب ، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه ، وخوّفهم ما هم صائرون إليه ، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال : ( يأ أيها الناس ) أي عامة ، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال : ( اتقوا ربكم ) أي والذي لا إله اكم غيره ، لأنه لا محسن إليكم غيره ، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه ، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر .
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه ، لأنه لا مكافئ له ، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال : ( واخشوا يوماً ( لا يشبه الأيام ، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه .
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه ، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة(6/36)
صفحة رقم 37
والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما ، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال : ( لا يجزي ) أي يغني فيه ، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أساباً ستر قدرته بها ، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها ، وأما هناك فتزول الأسباب ، وينجلي غمام الارتياب ، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب .
ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال : ( والد ( كائناً من كان ) عن ولده ) أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه ، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ، وتجدد عنده العطف والرقة ، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد ، وإما مدلول عليه بما في الشق بعده .
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه ، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال : ( ولا مولود ) أي مولود كان ) هو جاز عن والده ( وإن علم أنه بعضه ) شيئاً ( من الجزاء ، وفي التعبير ب ( هو ) إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه ، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط ، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق ، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه ، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه ، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه ، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال : أنه يخيط ، ولا يصح ( خياط ) لأن ذلك ليس من صنعته ، ولا من شأنه .
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول : هل هذا اليوم كائن حقاً ؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم ، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له : ( إن وعد الله ( الذي له جميع معاقد العز والجلال ) حق ( يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله ، وعظيم قدرته وكماله ، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار ، وعانى فيه الشدائد الكبار ، فلما ثبت أمره ، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم ، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات ، تسبب عنه قوله : ( فلا تغرنكم ( مؤكداً لعظم الخطب ) الحياة الدنيا ) أي بزخرفها ، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها ، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم(6/37)
صفحة رقم 38
من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور ، والخداع الظاهر والغرور ، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير : ( ولا يغرنكم بالله ( الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم ) الغرور ) أي الكثير الغرور المبالغ فيه ، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه ، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ، ويليهيكم به من تعظيم قدرها ، وينسيكموه من كيدها وغدرها ، وتعبها وشرها ، وأذاها وضرها ، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم ، فلا تعدونه معاداً ، فلا تتخذون له زاداً ، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله ، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة .
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية ، ويأتي في آخر التي بعدها ، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة ، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة ، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق ، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له : ( إن الله ) أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال ) عنده ) أي خاصة ، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور ، ولو قيل ( لديه ) لأوهم التعبير بلدي التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً ، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن ( لدى ) أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد ، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها ) علم الساعة ) أي وقت قيامها ، لا علم لغيره بذلك أصلاً .
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً ةفي قربها ، وكشف بعض أمرها ، عبر تعالى بالعلم ، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها ، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق ، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى
77 ( ) فإنا هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ( ) 7
[ النازعات : 13 ] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر ، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر ، عن قيام الأنفس بأبدانها ، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها ، وأشكالها وألوانها ، وسائر شأنها ، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم ، وتغاير صورهم وأطوالهم ، وتباين ألسنتهم وأعمالهم ، إلى غير ذلك من الأمور ، وعجائب المقدور ، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم ، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين ، هذا إلى موجهم من شدة الزحام ، والكروب العظام بعضاً(6/38)
صفحة رقم 39
في بعض .
يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات ، وانكدار ما فيها من النيرات ، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم ، وهو لا يحصى أهل سماء منهم ، كثرة ، كيف وقد أطت السماء وزوال الجبال ، ونسف الأبنية والروابي والتلال ، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه .
) المفتاح الثاني ( : آية الله في خلقه على قيام الساعة ، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه ، ومقاديره وأشكاله ، وأغصانه وأفنانه ، وروائحه وطعومه ، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه ، وأحواله وفنونه ، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها .
ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان ، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال : ( وينزل الغيث ( بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب ( كل ) وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه ، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله .
) المفتاح الثالث ( : علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها ، وتشكيلها وتقديرها ، على وصفي الذكورة والأنوثة ، مع الوضوح أو الإشكال ، والوحدة أو الكثرة ، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع ، والأخلاق والشمائل ، والأكساب والصنائع ، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم ، ومحيي الرمم .
ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً ، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً ، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب ، وكثرة الممارسة ، عبر العلم فقال : ( ويعلم ما في الأرحام ( من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك ، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت ، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء .
) المفتاح الرابع ( : الكشب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها ، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز ، وعن أحوال الناس عن ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل ، وغير ذلك من الصحة والعلل ، في اختلاف الأمور ، (6/39)
صفحة رقم 40
وعجائب المقدور ، في الخيور والشرور ، مما لا يحيط به إلا مبدعه ، وغارزه في عباده وودعه ، ولكون الإنسان - مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته ، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة ( درى ) تدور على الدوران ، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر ، فهي أخص من مطلق العلم فقال : ( وما تدري نفس ) أي من الأنفس البشرية وغيرها ) ما ( وأكد المعنى ب ( ذا ) وتجريد الفعل فقال : ( ذا تكسب غداً ) أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه ، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه ، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى ، فصار على طريق الحصر ، وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً ، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه ، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً .
) المفتاح الخامس ( : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي ، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران ، وعز وهوان ، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول ، والصعود والنزول ، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه .
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه ، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند : ( وما تدري ( وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال : ( نفس ) أي من البشر وغيره ) بأيّ أرض تموت ( ولم يقل : بأي وقت ، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين ، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت ، فكان ذلك أدل دليل على جهلة بموضوع موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه ، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ ) إن الله عنده علم الساعة ( الآية ) وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال : ( خمس لا يعلمهن إلا الله ) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ) آخر السورة ، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه ، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إيتانه بها تارة في جملة اسمية(6/40)
صفحة رقم 41
وتارة في فعلية ، وتارة ليس فيها ذكر للعلم ، وأخرى يذكر فيها ، ويسند إليه سبحانه ، ولكن لا على وجه الحصر ، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه ، وعلم سر قوله ( بأيّ أرض ) دون أي وقت ، كما في بعض طرق الحديث .
ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء ، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين ، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به ، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه : ( إنّ الله ) أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال ) عليم ) أي شامل العلم للأمور كلها ، كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم ، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق .
ولما أثبت العلم على هذا الوجه ، أكده لأجل ما سقيت له السورة بقوله : ( خبير ) أي يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها ، كل عنده على حد سواء ، فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحم ، باختلاف هذا النظام ، على ما فيه من الإحكام ، فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآرخة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مذهباً مهدياً مقرباً علياً ، فسبحانه من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، ولا إله غيره وهو اللطيف .
.. . .(6/41)
صفحة رقم 42
سورة السجدة
السجدة : ( 1 - 3 ) الم
) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ( )
مقصودها إنذار الكفار بهذا الكتاب السار للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار ، واسمها السجدة منطبق على ذلك بما دعغت إليه آيتها من الإخبات وترك الاستكبار ، وكذا تسميتها بآلم تنزيل فإنه مشير إلى تأمل جميع السورة ، فهو في غاية الوضوح في هذا المقصود ) بسم الله ( ذي الجلال والإكرام العزيز الغفار ) الرحمن ( بعموم الشارة والنذارة ) الرحيم ( الذي أسكن في قلوب أحبابه الشوق إليه والخشوع بين يديه ) آلم ( تقدم في البقرة وغيرها شيء من أسرار هذه الأحرف ، ومما لم يسبق أنها إشارة إلى أن اله المحيط في علمهه وقدرته وكل شأنه أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته ، ووحدانية من أرسله ، وعدله في العاصين ، وفضله على المطيعين ، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور ، فزادت على الطواسين بواحدة ، وذلك بقدر العدد الذي يؤكد به ، وزيادة مبدأ العدد إشارة إلى أن التكرير لم يرد به مطلق التأكيد ، بل دوام التكرير ، إشارة إلى أن هذه المعاني يفي غاية الثبات لا انقطاع لها - والله الهادي .
ولما كانت المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي هو بيان كل شيء الملزوم لتمام العلم وكمال الخبرة الذي ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر الساعة ، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر غيره من أهل الكتاب ولاغيرهم على نفيه ، ولا نفي شيئا فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه ، كانت نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى ، وأجل ذلك إنزالا هذا الذكر الحكيم الذي فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته له بأنه من عند الله ، فلذلك قال ) تنزيل الكتاب ( أي(6/42)
صفحة رقم 43
الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء ) ولا ريب فيه ) أي يفي كونه من السماء لأن نافي الريب وممطيه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه ، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب ، حال كونه ) من رب العالمين ) أي الخالق لهم اللمدبر لمصالحهم ، فلا يجوز في عقل ولا يخطر يفي بال ولا يقع يفي وهم ولا يتصور يفي خيال أنه يترك خلقه - وهو المدبر الحكيم - من غير كتاب يكون سبب إبقائهم أو أن يصل شيء من كتابه إلى هذا النبي الكريم بغير أمره ، فلا يتخيل أن شيئا من ليس بقول الله أن ثم لا يتخيل أنه كلامه تعالى ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب ، لأن هذا يفعل مع ملك فكيف بملك الملوك ، فكيف بمن هو عالم بالسر والجهر ، محيط علمه بالخفي والجلي ، فلو ادعى عليه أحد ما لم يأذن فيه لما أيده بالمعجزات .
ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات ، ولا سيما إعجاز ، كل ما ينسبه إليه بالمعجزات ، ويدعيه عليه ، ما في آل عمران كمات كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه وتعالى في عالم السماوات والأرض ، وعلى ذكر الفطرة ، ثم اتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله ، وأنه قد هدى من شاء إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر ، فلم يغن عنه ودعى فلم يجب ، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ لها ، لأن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته ، واتبع سبحانه ذلك بما ينبه المعغتبر على صحته فقلا : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [ لقمان : 11 ] فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة يفي الاستسلام له ولما يقع من أحكامه ، وعزى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وصبره بقوله : ( ومن كفر فلا يحزنك كفره ) [ لقمان : 23 ] ثم ذكر تعالى لجأ الكل قهرا ورجوعا يحاكم اضطرارهم لوضوح الأمر إليه تعالى فقال : ( وائن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( ثو وعظ تعالى الكل بقوله ) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) أي إن ذلك لا يشق عليه سبحانه وتعالى ولا يصعب ، والقليل والكثير سواء ، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل يفي النهار والنهار قي الليل وجريان الفلك بنعمته ) ذلك بأن الله هو الحق ( ، ثم أكد ما تقدم من رجوعهم يفي الشدائد إليه فقال : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصبن له الدين ( فإذا خلصهم سبحانه وتعالة ونجاهم عادوا إلى سيئ أحوالهم ، هذا وقد عاينوا رفقه بهم وأخذه عند الشدائد بأيديهم وقد اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر ، وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على ما قدر لهم ووقوفهم عند حدود ،(6/43)
صفحة رقم 44
السوابق ) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ( ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه ، وحذرهم يوم المعاد وشدته ، وحذرهم من الاغترار ، وأعلمهم أنه المتفرد بعلم الساعة ، وإنزال الغيث ، وعلم ما في الأرحام ، وما يقع من المكتسبات ، وحيث يموت كل من الخلوقات ، فلما كانت سورة لقمان - بما بين من مضمنها - محتوية من التنبيه والتحريك على ما ذكر ، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم ن اتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب ، وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب ، ويزيل كل شك ،
) الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك ) أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء وشواهده ، ثم أتبع ذلك بقوله : ( مالكم من دونه من ولي ولا شفيع ( وهو تمام لقوله : ( ومن يسلم وجهه إلى الله ( ولقوله : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( ولقوله : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ( ولقوله : ( اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ( بما ذكرتم ، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته ، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم ، ولجأتم إليه عند احتياجكم ؟ ثم أعلم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع ، ولا تغني عنه إجابة ، فقال : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه ، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال : ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ( ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين ، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذكر فأعرض فقال : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ( وتعلق الكلام إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله ، كان - كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع - كأنه قيل : هل آمنوا به ؟ ) أم يقولون ( مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل ) افتراه ) أي تعمد كذبه ولما كان الجواب : إنهم ليقولون : افتراه ، وكان جوابه : ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز ، ترتب عليه قوله : ( بل هو الحق ) أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله ، كائناً ) من ربك ( المحسن إليك بإنزاله وإحكامه ، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم حقيقته حق الفهم سواه .(6/44)
صفحة رقم 45
ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه ( صلى الله عليه وسلم ) صريحاً ، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب ، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان : ( لتنذر قوماً ) أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به ) ما اتهم من نذير ) أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة ، ويؤيده إثبات الجار في قوله : ( من قبلك ) أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم .
وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي ، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام ، وذلك كما قال تعالى : ( ) وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ) [ فاطر : 24 ] أي شريعته ودينه ، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر - نبه على ذلك أبو حيان .
ويمكن أن يقال : ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً ، لأنهم ما خالفوه ، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً .
ولما ذكر علة الإنزال ، أتبعها علة الإنذار فقال : ( لعلهم يهتدون ) أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة ، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمن سأله عن أبيه : ( أبي وأبوك في النار ) وقال : ( ا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم ) في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار .
السجدة : ( 4 - 5 ) الله الذي خلق. .. . .
) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( ( )
ولما تقرر بما سبق في التي قبلها من اتصافه تعالى بكمال العلم أنه من عنده وبعلمه لا محالة ، وكان هذا أمراً يهتم بشأنه ويعتني بأمره ، لأنه عين المقصود الذي ينبني عليه أمر الدين ، وختم ما ذكره من أمره ههنا بإقامة اهتدائهم مقام الترجي بإنذاره ( صلى الله عليه وسلم ) ، أتبعه بيان ذلك بإيجاد عالم الأشباح والخلق ثم عالم الأرواح والأمر ، وإحاطة العلم بذلك كله على وجه يقود تأمله إلى الهدى ، فقال مستأنفاً شارحاً لأمر(6/45)
صفحة رقم 46
يندرج فيه إنزاله معبراً بالاسم الأعظم لاقتضاء الإيجاد والتدبير على وجه الانفراد له : ( الله ) أي الحاوي لجميع صفات الكمال وحده : ( الذي خلق السماوات ( كلها ) والأرض ( بأسرها ) وما بينهما ( من المنافع العينية والمعنوية .
ولما كانت هذه الدار مبنية على حكمة الأسباب كما أشير إليه في لقمان ، وكان الشيء إذا عمل بالتدرج كان أتقن ، قال : ( في ستة أيام ( كما يأتي تفصيله في فصلت ، وقد كان قادراً على فعل ذلك في أقل من لمح البصر ، ويأتي في فصلت سر كون المدة ستة .
ولما كان تدبير هذه وحفظه وتعهد مصالحه والقيام بأمره أمراً - بعد أمر إيجاده - باهراً ، أشار إلى عظمته بأداة التراخي والتعبير بالافتعال فقال : ( ثم استوى على العرش ) أي استواء لم يعهدوا مثله وهو أنه أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه ، لا شريك له ولا نائب عنه ولا وزير ، كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا اتسعت ممالكهم ، وتباعدت أطرافها ، وتناءت أقطارها ، وهو معنى قوله تعالى استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : العرش بعيد عنا جداً فمن استنابه في أمرنا ، ولذلك لفت الكلام إلى الخطاب لأنه اقعد في التنبيه : ( مالكم من دونه ( لأنه كل ما سواء من دونه وتحت قهره ، ودل على عموم النفي بقوله : ( من ولي ) أي يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به ) ولا شفيع ( يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذنه ، وهو كناية عن قربه من كل شيء وإحاطته به ، وأن إحاطته بجميع خلقه على حد سواء لا مسافة بينه وبين شسء أصلاً .
ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره ، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها ، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله : ( أفلا تتذكرون ) أي تذكراً عظيماً بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده ، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك ، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم ، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه ، فضلاً عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم ، وتتعللون فيها المحال ، وتقنعون بقيل وقال ، وتخاطرون فيه بالأنفس والأولاد والأموال .
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق ، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر ، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد(6/46)
صفحة رقم 47
بالاستواء : ( يدبر الأمر ) أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئاً منه إلى شيء من خلقه ، قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواؤه على العرش بمعنى إظهار القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر .
ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً : ( من السماء ) أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه ) إلى الأرض ( غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم .
ولما كان المقصود أشق من النزول على ما جرت به العوائد ، فكان بذلك مستبعداً ، أشار إلى ذلك بقوله : ( ثم يعرج ) أي يصعد الأمر الواحد - وهو من الاستخدام الحسن - إليه ، أي بصعود الملك إلى الله ، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى :
77 ( ) إني ذاهب إلى ربي ( ) 7
[ الصافات : 99 ]
77 ( ) ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ( ) 7
[ النساء : 100 ] ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم ، في أسرع من لمح البصر ) في يوم ( من أيام الدنيا ) كان مقداره ( لو كان الصاعدين واحداً منكم واحداً ما تعهدون ) ألف سنة مما تعدون ( من سنيكم التي تعهدون ، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير ب ( كان ) مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً ، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءاً لا يعد ، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن البداية والغاية لا يدخلان ، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل أخذنا هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستوياً لو أمكن ، وجعلت الأرض واحدة في العدد ، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم ، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما ، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا ، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير ، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفاً سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج ، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي(6/47)
صفحة رقم 48
المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع : الأربعة عشر ، اثنين وثلاثين ألف سنة ، لأنه يخص كل سماء ألفان ، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض ، وثخن كل سماء كذلك ، فيكون بعد ما بين أحد سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة ، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي من الجانب الآخر كذلك ، ثم يزداد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج ، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة ، فذلك خمسون ألف سنة ، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية ، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره ، وأن الأطماع تنقطع دونه ، بل ولا يصعد إلى كرسيه ، وسيأتي اعتبار ذلك في الوجه الأخير ، وإن قلنا : إن الأراضي سبع على أنها كرات مرتبة متعالية غير متداخلة ، وأدخلنا العرش في العدد فنقول : إنه مع الكرسي على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة ، وأدخلنا العرش في العدد فنقول : إنه مع الكرسي والسماوات تسعة ، فجانباها الحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة ، والأراضي سبع ، فتلك خمس وعشرون طبقة ، فكل واحدة - مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية - ألفان ، فضعف هذا العدد ، فيكون خمسين ألفاً ، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية ، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج ، ويجوز أن نقول : إن السر - والله أعلم - في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة - كما في الحديث - ألف سنة لأجل التعريج ، والحديث ليس نصاً في سير فنقول : الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلاً ، والاثنان وسبعون لسير فنقول الألف كما في الآية لدرج منعطف ، ويدل عليه ما رواه الترمذي - وقال : إسناده حسن - عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها ) أو نقول : إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج - والله أعلم ، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين(6/48)
صفحة رقم 49
الأرض والسماء خمسمائة سنة ، وثخن السماء كذلك ، وكذا بقية السماوات والعرش ، أدخلنا العرش في العدد وقلنا : إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات ، كل واحدة منها في التي تليها ، فالتي نحن فيها أعلاها محيطة بها كلها ، فهي بمنزلة العرش للسماوات ، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفاً يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج ، وهو نصف مسافة الجملة وشيء ، فالنصف ستة عشر ألفاً ، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين ، فذلك ثمانية عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين ، فالجملة خمسون ألفاً ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي ، والكل متطابقة متداخلة ، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر ، فذلك ثمانية وعشرون - ألف سنة ، لكل جرم خمسمائة ، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف والغى الكسر ، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل ، وهي قوله تعالى :
77 ( ) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( ) 7
[ المعارج : 5 ] فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم .
وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورته سأل ، وأقرب للفهم العرف ، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفاً من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى السرادق ، وهو الأعلى منه ، والعلم عند الله تعالى ، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي رضي الله عنه عن رسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة ، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة ، والأرض مثل ذلك ، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك ) واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى :
77 ( ) الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ( ) 7
[ الطلاق : 12 ] ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين ) وفي رواية للبغوي : خسف به إلى سبع أرضين ، (6/49)
صفحة رقم 50
وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن المؤمن إذا حضره الموت - فذكره إلى أن قال : وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فنقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه ، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى ) - قال المنذري : وهو عند ابن كاجه يسند صحيح ، ويؤيد من قال : إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عند عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الأرضين بين أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة ، فالعليا منها على ظهر حوت ) إلى آخره ، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها ، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث عن مجاهد رحمه الله أنه قال : إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع ، وأنه رابع أربعة عشر بيتاً ، في قصده وحذاءه ، وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال : هل تدرون ما هذه ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى ما لا يشكره ، ولا يدعوه ، أتدرون ما هذه فوقكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : الرفيع موج مكفوف ، وسقف محفوظ ، أتدرون كم بينكم وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : سماء أخرى ، أتدرون كم بينكم وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع سماوات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : والعرش ، قال : أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : ما هذه تحتكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : أرض قال : أتدرون ما تحتها ؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال : أرض أخرى ، أتدرون كم بينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين ، ثم قال : وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط ، ثم قرأ :(6/50)
صفحة رقم 51
77 ( ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ( ) 7
[ الحديد : 3 ] قال : رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام ، وهنا سبعمائة ، وقال في آخره : ( لو دليتم بحبل لهبط على الله ) ولعله أراد : هلى عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته ، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً عن شيء من أمره - والله أعلم ، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه ) ولم يقل : كدرهم - مثلاً ، وكذا ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حيان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً فيه ذكر الأنبياء ، وفيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي ؟ قلت : لا إلا أن تعلمني مما علمك الله عز وجل ، قال : مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة ، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة ) .
وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى ، وكذا ما روى صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة ) وقوله تعالى :
77 ( ) وسع كرسيه السماوات والأرض ( ) 7
[ البقرة : 255 ] يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله تعالى :
77 ( ) إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ( ) 7
[ الرحمن : 33 ] صريح في ذلك ، فإن النفوذ يستعمل في(6/51)
صفحة رقم 52
الخرق لا سيما مع التعبير ب : ( من ) دون ( في ) ، وكذا قوله في السماء ) ومالها من فروج ( والله الموفق .
السجدة : ( 6 - 10 ) ذلك عالم الغيب. .. . .
) ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( ( )
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق ، ثم عالم الأرواح والأمر ، فدل ذلك على شمول القدرة ، وكان شامل القدرة لا بد وأن يكون محيط العلم ، كانت نتيجته لا محالة : ( ذلك ) أي الإله العالي المقدار ، الواضح المنار ) عالم الغيب ( الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق .
ولما قدم علم الغيب لكونه ، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال : ( والشهادة ( من ذلك كله منها القرآن عليك ووصوله إليك ) العزيز ( الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء .
ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال : ( الرحيم ) أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل ، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية ، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام .
ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها ، أشار إلى صفة الرحيمية فقال : ( الذي أحسن كل شيء ( ولما كان هذا الإحسان عاماً ، خصه بأن وصفه - على قراءة المدني والكوفي - بقوله : ( خلقه ( فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام ، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير ، وشق المشاعر ، وتهيئة المدارك ، وإفاضة المعاني ، مع الفارقة في جميع ذلك ، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين ، وعبر بالحسن لأن ما كان وجه الحكمة كان حسناً وإن رآه الجاهل القاصر قبيحاً .
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس ، وكان الإنسان أشرفه ، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل الآنفاق ، فقال دالاً على البعث : ( وبدأ خلق الإنسان ) أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن ) من طين ) أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه .
ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني لأمراً هائلاً ، أشار إليه بأداة البعد في قوله : ( ثم جعل نسله ) أي ولده الذي ينسل أي يخرج ) من(6/52)
صفحة رقم 53
سلاسة ) أي من شيء مسلول ، أي منتزع منه ) من ماء مهين ) أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول ، فعيل بمعنى مفعول ، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله : ( ثم سواه ) أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني ) ونفخ فيه من روحه ( الروح ما يمتاز به الحي من الميت ، الإضافة للتشريف ، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله .
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم ، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم ، لفت إليهم الخطاب قائلاً : ( وجعل ) أي بما ركب في البدن من الأسباب ) لكم السمع ) أي تدركون به المعاني المصوته ، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً ) والأبصار ( تدركون بها المعاني والأعيان القابلة ، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة ، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر .
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور ، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال : ( والأفئدة ) أي المضغ الحارة المتوقدة المحترفة ، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين ؟ قال الرازي في اللوامع : جعله - أي الإنسان - مركباً من روحاني وجسماني ، وعلوي وسفلي ، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده ، واستجمع الكونين يعقله وحسه ، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً ، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً .
ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال : ( قليلاً ما تشكرون ) أي وكثيراً ما تكفرون .
ولما كانوا قد قالوا : محمد ليس برسول ، والإله ليس بواحد ، والبعث ليس بممكن ، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب ، ثم على الوحداينة بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم ، وختم بالتعجيب من كفرهم ، وكان استبعادهم للبعث - الذي هو الأصل الثالث - من أعظم كفرهم ، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله : ( أم يقولون افتراه ( ، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم : ( وقالوا ( منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل ، ونبهت عليه الرسل ، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة : ( أإذا ) أي أنبعث إذا ) ضللنا ) أي ذهبنا وبطلنا وغبنا ) في الأرض ( بصيرورتنا تراباً مثل ترابها ، لا يتميز بعضه من بعض : قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم : وأصله من ضل الماء في اللبن - إذا ذهب .
ثم كرروا الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا : ( إنا لفي خلق جديد ( هو محيط بنا ونحن مظروفون له .
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة ، وكانوا يقرون بما يازمهم منه الإقرار(6/53)
صفحة رقم 54
بالقدرة على البعث من خلق الخق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك ، أشار إليه بقوله : ( بل ) أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه ، بل ) هم بلقاء ربهم ( المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخراً لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا ، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة ) كافرون ) أي منكرون للبعث عناداً ، ساترون لما في طباعهم من أدلته ، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل .
السجدة : ( 11 - 13 ) قل يتوفاكم ملك. .. . .
) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ( )
ولما ذكر استبعادهم ، وأتبعه عنادهم ، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً ، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب .
دل على أن ذلك عليه هين بأن نبهمم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق .
فقال مستأنفاً : ( قل ) أي جواباً لهم عن شبهتهم : ( يتوافكم ) أي يقبض أوراحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البلدان ، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة ) ملك الموت ( ثم أشار إلى أن فعله بقدرته ، وأن ذلك عليه في غاية السهولة ، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال : ( الذي وكل بكم ) أي وكله الخالق لكم بذلك ، وهو عبد من عبيده ، ففعل ما أمر به ، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه ، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه ، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ، ومدير الخلائق أجمعين ؟ فما قان هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض ، وتمييز بعض تربهم من بعض ، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض .
علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة ، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره(6/54)
صفحة رقم 55
فعطف عليه قوله : ( ثم إلى ربكم ) أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء ، لا إلى غيره ، بعد إعادتكم ) ترجعون ( بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه ، فيتم إحسانه وربويته بأن يجازي كلاًّ بما فعل ، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم ، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً .
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس ، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك ، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب ، وخطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية له ، أو لكل من يصح خطابه ، عاطفاً على ما تقديره : فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور ، وحصل ما في الصدور ، وهناك أمور أيّ أمور ، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي ، لأنه لتحقق وقوعه كأن قد كان ، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه ، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور : ( ولو ترى ) أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين ) إذ المجرمون ) أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم ) ناكسوا رؤوسهم ) أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة ) عند ربهم ( المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم ، قائلين بغاية الذل والرقة : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) أبصرنا ( ما كما نكذب به ) وسمعنا ) أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده ، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك ) فارجعنا ( بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحستان ، إلى دار الأعمال ) نعمل صالحاً ( ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه : ( إنا مؤقنون ) أي ثابت لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل ، ولا يحيط به وصف .
ولما ذكر لهم جواباً ، علم أنه لهوانهم ، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا وصفة الإحسان ، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان ، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان .
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلااهم مع الإمعان في البيان ، لعجز عن هدايتهم أو توان ، قال عاطفاً على ما تقديره : إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها ، بل لأني لم أرد إسعادكم ، ولو شءت لهديتكم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها : ( ولو شئنا ) أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد ) لأتينا كل نفس ) أي مكلفة لأن الكلام(6/55)
صفحة رقم 56
فيها ) هداها ( لأي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها .
ولما استوفى الأمر حده من العظمة ، لفت الكلام إلى الإفراد ، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال : ( ولكن ) أي لم أشأ ذلك لأنه ) حق القول مني ( وأنا من لا يخلف الميعاد ، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ، أو يحل بساحتي ، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً : ( لأملان جهنم ( التي هي محل إهانتي وتجهم اعدائي بما تهجموا أوليائي ) من الجنة ) أي الجن طائفة إبليس ، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ) والناس أجمعين ( حيث قلت لإبليس : ( ) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( ) [ ص : 85 ] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً ، وغيبت العاقبة عنهم ، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً ، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي .
السجدة : ( 14 - 17 ) فذوقوا بما نسيتم. .. . .
) فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم ، قال مجيباً لترققهم إذ ذاك نافياً لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة : ( فذوقوا ) أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول ) بما ) أي بسبب ما ) نسيتم لقاء يومكم ( الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل - عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه ، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم ، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين ، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر ، وروي ثمّ نسي .
ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص ، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال : ( إنا نسيناكم ) أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي ، فأوردنا(6/56)
صفحة رقم 57
النار كما أقسمنا لأه ليس أحد إلا يردها ، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناهم فيها ترك المنسي .
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً ، بينه بقوله مؤكداً له : ( وذوقوا عذاب الخلد ) أي المختص بأنه لا آخر له .
ولما كان قد خص السبب فيما مضى ، عم هنا فقال : ( بما كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) تعلمون ( من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك .
ولما كان قوله تعالى : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ( قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر ، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين ، تشوقت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران ، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم
77 ( ) ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ( ) 7
[ الأنعام : 28 ] : ( إنما يؤمن بآياتنا ( الدالة على عظمتنا ) الذين إذا ذكروا بها ( من أيّ مذكر كان ، في أيّ وقت كان ، قبل كشف الغطاء وبعده ) خروا سجداً ) أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد ، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً ) وسبحوا ) أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين ) بحمد ( ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال : ( ربهم ) أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال ، ولما تضمن هذا تواضعهم ، صرح به في قوله : ( وهم لا يستكبرون ) أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه الهادي ولا يوجدنه خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم .
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل ، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الاية السالفة من خوفهم : ( تتجافى ) أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار ، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال : ( جنوبهم ( بعد النوم ) عن المضاجع ) أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم ، فيكونون عليها كالملسوعين ، لا يقدرون على الاستقرار عليها ، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس ، قال الإمام السهرودي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين : قيل : نومهم نوم الفرقى ، وأكلهم أكل المرضى ، وكلامهم ضرورة ، فمن نام من غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل ، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه ، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار ، وهذا الإزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله ، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنس والمضجع سواء وتجافياً .(6/57)
صفحة رقم 58
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة ، بين أنه لها ، فقال مبيناً لحالهم : ( يدعون ) أي على سبيل الاستمرار ، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال : ( ربهم ) أي الذي عودهم بإحسانه : ثم علل دعاءهم بقوله : ( خوفاً ) أي من سخطه وعقابه ، فإن أسباب الخوف من نقائهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا ، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء ) وطمعاً ) أي في رضاء الموجب لثوابه ، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب ، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أرجى ، فهم لا ييأسون من رحمه .
واما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا ، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق ، حث على الإنفاق منه إعتماداً على الخلاق والرازق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم ، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق
77 ( ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك ( ) 7
[ طه : 132 ] ، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده : ( ومما رزقناهم ) أي بعظمتنا ، لا حول منهم ولا قوة ) ينفقون ( من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم .
ولما ذكر جزاء المستكبرين ، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين ، أشار إلى جزائهم بفاء السبب ، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته ، وجعلها سبباً إلى دخول جنته ، ولو شاء لكان غير ذلك فقال : ( فلا تعلم نفس ) أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ) ما أخفي لهم ) أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم لاصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها ، ولعله بأن الله تعالى في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب ، أو للعلم بأن الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله ، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة ، والسر مناسبته لحل الأعمال .
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال : ( من قرة أعين ) أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما اقلعوها عن قرارها بالنوم ؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال : ( جزاء ) أي أخفاها لهم لجزائهم ) بما كانوا ) أي بما هو لهم كالجبلة ) يعملون ( روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول(6/58)
صفحة رقم 59
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قال الله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ، قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم ) افلا تعلم نفس ( ( الآية .
السجدة : ( 18 - 21 ) أفمن كان مؤمنا. .. . .
) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ( )
ولما كانوا أهل بلاغة وسلن ، وبراعة : وجدل ، فكان ربما قال متعنتهم : ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم ، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة ، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين ؟ تسبب عن ذلك أن قال منكراً لذلك مشيراً إلى أن المانع منه خروجه عن الحكمة ، فإن تلك دار الجزاء ، وهذه دار العمل ، فبينهما بون : ( أفمن كان ) أي كونا كأنه من رسوخه جبلي ) مؤمناً ) أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل ) كمن كان ( ولما كان السياق منسوقاً على دليل ) مالكم من دونه من ولي ولا شفيع ( - الآية ، فكان الكافر خارجاً عن محيط ذلك الدليل الذي لا يخفي بوجه على أحد له سمع وبصر وفؤاد ، اقتضى الحال بالتعبير بالفسق الذي هو الخروج عن محيط فقال : ( فاسقاً ) أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان .
ولما توجه الاستفام إلى كل من اتصف بهذا الصف ، وكان الاستفهام إنكارياً ، عبر عن معناه مصريحاً بقوله : ( لا يستوون ( إشارة - بالجمل على لفظ ( من ) مرة ومعناها أخرى - إلى أنه لا يستوي جمع من هؤلاء يجمع من أولئك ولا فرد بفرد .
ولما نفى استواءهم ، أتبعه حال كل على سبيل التفصيل بالجمع لأن الحكم بإرضائه وإسخاطه بفهم الحكم على الواحد منه من باب الأولى فقال : ( أما الذين آمنوا وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات فلهم جنات المأوى ) أي الجنات المختصة دون الدنيا التي هي دار ممر ، دون النار التي هي دار مفر لا مقر ، بتأهلها للمأوى الكامل في هذا الوصف بما أشار إليه ب ( ال ) ثابتون فيها لا يبغون عنها حولاً ، كما تبؤوا الإيمان(6/59)
صفحة رقم 60
الذي هو أهل للإقامة فلم يبغوا به بدلاً ) نزلاً ) أي عدداً لهم أول قدومهم في قول الحسن وعطاء ، وهو أوفق للمقام كما يعد للضيف على ما لاح ) بما كانوا ( جبلة وطبعاً ) يعملون ( دائماً على وجه التجديد ، فإن أعمالهم من رحمة ربهم ، فإذا كانت هذه الجنات نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك وهو لعمري ما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله لا نهاية لها ، فإياك أن يخدعك خادع أو يغرك ملحد ) وأما الذين فسقوا ) أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة ) فمأواهم النار ) أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه أصلاً .
ولما كان السامع جديراً بالعلم بأنهم مجتهدون في الخلاص منها ، قال مستأنفاً لشرح حالهم : ( كلما أرادوا ) أي وهم مجتهدون فكيف إذا أراد بعضهم ) أن يخرجوا منها ( وهذا يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات ، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ) أعيدوا ( بأيسر أمر وأسهله من أيّ من أمر بذلك ) فيها ( إلى المكان الذي كانوا فيه أولاً ، ولا يزال هذا دأبهم أبداً ) وقيل ) أي من أيّ قائل وكل بهم ) لهم ) أي عند الإعادة إهانة له : ( ذوقوا عذاب النار ( ، ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال : ( الذي كنتم ) أي كوناً هو لكم كالجبلات ، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى وعنده كل تكذيب ، فكأنه مختص فقال : ( ذوقوا عذاب النار ( .
ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال : ( الذي كنتم ) أي كوناً هو لكم كالجبلات ، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى عنده كل تكذيب ، فكأنه مختص فقال : ( به تكذبون ( فإن الإعادة بعد معالجة الخروج أمكن في التصديق باعتبار التجدد في كل آن .
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار ، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة ، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر ، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما هم من الكثرة والقوة : ( ولنذيقنهم ) أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب ، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم ) من العذاب الأدنى ) أي قبل يوم القيامة ، بأيديكم وغيرها ، وقد صدق الله قوله ، وقد كانوا عند نزول هذه السورة بمكة المشرفة في غاية(6/60)
صفحة رقم 61
الكثرة والنعمة ، فأذاقهم الجدب سنين متوالية ، وفرق شملهم وقتلهم وأسرهم بأيدي المؤمنين إلى غير ذلك بما أراد سبحانه ؛ ثم أكد الإرادة لما قبل الآخرة وحققها بقوله ، معبراً بما يصلح للغيرية والسفول : ( دون العذاب الأكبر ) أي الذي مر ذكره في الآخرة ) لعلهم برجمون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن فسقه عند من ينتظره ، وقد كان ذلك ، رجع كثير منهم خوفاً من السيف ، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً .
السجدة : ( 22 - 24 ) ومن أظلم ممن. .. . .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون ، عطف عليه قوله : ( ومن أظلم ( منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال : ( ممن ذكر ) أي من أيّ مذكر كان وصف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال : ( بآيات ربه ) أي الذي لا نعمة إلا منه .
ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات ، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده ، عبر عنه بإداة البعد لذلك فقال : ( ثم أعرض عنها ( ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون ( ثم ) على بابها للتراخي ، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما ، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين ، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعم النسيان ، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف ، ويكون عدل إلى الفاء هنلك شرحاً لما يكون من حالهم ، عند بيان سؤالهم ، الذي جعلوا بأنه آية الصدق ، والعجز عن آية الكذب .
ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم ، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ ( من ) تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد ، قال جامعاً لأن إهانة الجمع دالة على إهانة الواحد من باب الأولى ، مؤكداً لإن إقدامهم على التكذيب كالإنكار لأن تجاوزوا عليه ، صارفاً وجه الكلام عن صفة الإحسان إيذاناً بالغضب : ( إنا ( منهم ، هكذا كان الأصلي ، ولكنه أظهر الوصف نصفاً في التعميم وتعليقاً للحكم به معيناً لنوع ظلمهم تبشيعاً له فقال : ( من المجرمين ) أي القاطعين لما يستحق الوصل خاصة ) منتقمون ((6/61)
صفحة رقم 62
وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين ، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين ؟ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم ، وإما ظاهراً بإحلال النقم ، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد .
ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين ، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام ، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله ، وكان أول من أنزل عليه كتاب من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده ، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض ، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه ، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أن العظيم لا يرد شيء من أمره : ( ولقد آتينا ( على ما لنا من العظمة ) موسى الكتاب ) أي الجامع للأحكام وهو التوارة .
ولما كان ذلك مما لا ريب فيه أيضاً ، وكان قومه قدرتركوا كثير منه لا سيما فيما قصَّ من صفات نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وفيما أمر فيه باتباعه ، وكان هذا إعراضاً منهم مثل إعراض الشاك في الشيء ، وكانوا في زمن موسى عليه السلام أيضاً يخالفون أوامره وقتاً بعد وقت وحيناً إثر حين ، تسبب عن الإيتاء المذكور قوله تعريضاً بهم وإعلاماً بأن العظيم قد يرد رد بعض أوامره لحكمة دبرها : ( فلا تكن ) أي كوناً راسخاً - بما أشار إليه فعل الكون وإثبات نونه ، فيفهم العفو عن حديث النفس الواقع عن الأمة على ما بينه ( صلى الله عليه وسلم ) للكتاب منا وتلقيه له بالرضا والقبول والتسليم ، كما فعل المدعون لاتباعه والعمل بكتابه في الإعراض عما دعاهم إليه من دين الإسلام ، أو لا نفعل فعل الشاك في لقائك الكتاب منا وإن نسبوك إلى الإفتراء زإن تأخر بعض ما يخبر به فيسكون هدى لمن بقي منهم ، وعذاباً للماضين ، ولا يبقى خبر ما أخبر به أنه كائن إلا كان طبق ما أخبر به ، فإنك لتلقاه من لدن حكيم عليم ، وقد صبر موسى عليه السلام في تلقي كتابه ودعائه حتى مات على أحسن الأحوال ، أو يكون المعنى : ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف عليه فيه فما شك أحد من الثابتين في إيتائنا إياه الكتاب لأجل إعراض من أعرض ، ولا زلزلة أدبار من أدبر ، وانتقمنا ممن أعرض عنه فلا يكن أحد ممن آمن بك في شك من إيتائنا الكتاب لك لإعراض من أعرض ، فسنهلك من حكمنا بشقائه انتقاماً منه ، ونسعد الباقين به .(6/62)
صفحة رقم 63
ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم ، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب ، فقال ممتناً على بني إسرائيل ومبشراً للعرب : ( وجعلناه ) أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا ) هدى ) أي بياناً عظيماً ) لبني إسرائيل ( وأشار إلى اختلافهم فيه بقوله : ( وجعلنا منهم ) أي من أنبيائهم وأحبارهم بعظمتنا ، مع ما في طبع الإنسان من اتباع الهوى ) أئمة يهدون ) أي يوقعون البيان ويعملون على حسبه ) بأمرنا ) أي بما أنزلنا فيه من الأوامر ؛ ثم ذكر علة جعله ذلك لهم بقوله : ( لما صبروا ) أي بسبب صبرهم ولأجله - على قراءة حمزة الكسائي بالكسر والتخفيف - أو حين صبرهم على قبول أوامرنا على قراؤة الباقين بالفتح والتشديد ، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله لهم ) وكانوا بآياتنا ( لما لها من العظمة ) يوقون ( لا يرتابون في شيء منها ولا يفعلون فعل الشاك فيه الإعراض ، وكان ذلك لهم جبلة جبلناهم عليها .
السجدة : ( 25 - 27 ) إن ربك هو. .. . .
) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ( ( )
ولما أفهم قوله ( منهم ) أنه كان منهم من يضل عن أمر الله ويصد عنه ، وجاء قوله تسلية للمؤمنين وتوعداً للكافرين ، استئنافاً مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أنه لا بعث ، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى ما يظهر من شرفه صل الله عليه وسلم في ذلك اليوم من المقام المحمود وغيره : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ويعلي ما بك ) هو ) أي وحده ) يفصل بينهم ) أي من الهادين والمضلين والضالين ) يوم القيامة ( بالقضاء الحق ، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم ) فيما كانوا ( جبلة ، طبعاً ) فيه ) أي خاصة ) يختلفون ) أي يجددون الاختلاف فيه على سبيل الاستمرار حسب ما طبعوا عيله ، لا يخفى عليه شيء منه ، وأما غير ما اختلفوا فيه فالحكم فيه لهم أو عليهم لا بينهم ، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو .
ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان : أحدهما في التكذيب بالقرآن ، والثاني في إنكار البعث ، ودل سبحانه على فسادهما إلى ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل ، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر ، فتصير الاستفهامات أربعة ، وفي مدخول الأول الفصل بين(6/63)
صفحة رقم 64
الفريقين في الدنيا ، فقال مهدداً : ( أو لم ) أي أيقولون عناداً لرسولنا : أفتراه ولم ) يهد ) أي يبين - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ) لهم كم أهلكنا ) أي كثرة من أهلكناه .
ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل ، بين قربهم بإدخال الجار فقال : ( من قبلهم ) أي لأجل معاندة الرسل ) من القرون ( الماضين من المعرضين عن الآيات ، ونجينا من آمن بها ، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار ، والتردد خلال الديار .
ولما كان انهماكهك في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال ، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال ، بقوله : ( يمشون ) أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي ) في مساكنهم ( لشدة ارتباطهم مع المحسوسات ، وذلك كمساكين عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم .
ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة ، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم ) لآيات ) أي دلالات ظاهرات ، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار ، ومسموعات في الأخبار .
ولما كان السماع هو الركن الأعظم ، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع ، قال منكراً : ( أفلا يسمعون ) أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها ، فإن لم يرجع فهو مم لا سمع له ) أو لم ) أي أيقولون في إنكار البعث : إذا ضللنا في الأرض ، ولم ) يروا أنا ( بما لما من العظمة ) نسوق الماء ( من السماء أو الأرض ) إلى الأرض الجزر ) أي التي جزر نباتها أي قطع باليبس والتهشم ، أي بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبت فيها ، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : إنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً ، قالوا : ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جزر ، ويدل عليه قوله : ( فنخرج به ( من أعماق الأرض ) زرعاً ) أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا ، وأشار إلى أنه حقيقة ، لا مرية فيه ، وليس هو بتخييل كما تفعل السحرة ، بقوله مذكراً بنعمة الإبقاء بعد الإيجاد : ( تأكل منه ) أي من حبه وورقه وتبنه وحشيشه ) أنعامهم ( وقدمها لموقع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم ، ولأن السياق لمطلق إخراج الرزع ، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام بخلاف ما في سورة عبس ، فإن السياق لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) [ عبس : 24 ] ثم(6/64)
صفحة رقم 65
قال ) فأنبتنا فيها حباً ) [ عبس : 27 ] وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام ) وأنفسهم ) أي من حبه ، وأصله إذا كان بقلاً .
ولما كانت هذه الآية مبصرة ، وكانت في ضوحها في الدلالة على العبث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل : ( أفلا يبصرون ( إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة .
السجدة : ( 28 - 30 ) ويقولون متى هذا. .. . .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ( ( )
ولما كانت هذه الآية أدل دليل - كما مضى - على البعث ، وكان يوماً يظهر فيه عز الأولياء وذل الأعداء ، أتبعها قوله تعجيباً منهم عطفاً على ( يقولون أفتراه ) ونحوها : ( ويقولون ) أي مع هذا البيان الذي لا لبس معه استهزاء : ( متى هذا الفتح ) أي النصر والقضاء والفصل الذي المنغلق يوم الحشر ) إن كنتم ) أي كوناً راسخاً ) صادقين ) أي عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لا بد من كونه لنؤمن إذا رأيناه .
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً ، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد ، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله : ( قل ) أي لهؤلاء اللد الجهلة : ( يوم الفتح ) أي الذي يستهزئون به ، وهو يوم القيامة - تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر ، فلا ينفعكم بعد العيان وهو معنى ) لا ( ينفعكم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال : ( ينفع الذين كفروا ) أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف ) إيمانهم ( لأنه ليس إيماناً بالغيب ، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم ) ولا هم ينظرون ) أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما .
ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح ، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما ، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم ، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً ، فقال مسلياً له مهدداً لهم : ( فأعرض عنهم ) أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم ) وانتظر ) أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك ، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار ، أجيب على سبيل التأكيد بقوله : ( إنهم(6/65)
صفحة رقم 66
منتظرون ) أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره ، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا الكتاب ، وأعلم بجلالته وجزالته وشدته وشجاعته أنه ليس فيه نوع ارتياب ، وأيضاً فأولها في التذكيب بتنزيله ، وآخرها في الاستهزاء بتأويله ، ) يوم يأتي تأويله الذي نسوه من قبل ) [ الأعراف : 53 ] - الآية ، وأيضاً فالأول في التكذيب بإنزال الروح المعنوي ، والآخر في التكذيب بإعادة الروح العيني الحسي الذي ابتدأه أول مرة والله الهادي إلى الصواب .
.. .(6/66)
صفحة رقم 67
سورة الأحزاب
الأحزاب : ( 1 - 2 ) يا أيها النبي. .. . .
) ياأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( ( )
مقصودها الحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق ، لأنه عليم بما يصلحهم ، حكيم فيما يفعله فهو يعلي من يشاء وإن كان ضعيفا ، ويردي من يريد وإن كان قويا ، فلا يهتمن الماضي لأمره برجاء لأحد منهم في بره ولا خوف منه في عظيم شره وخفي مكره ، واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها ) بسم الله ( الذي مهما أراد كان ) الرحمن ( الذي سرت رحمته خلال الوجود ، فشملت كل موجود ، بالكرم والجود ) الرحيم ( لمن توكل عليه بالعطف إليه .
لما ختمت التي قبلها بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار ما يحكم به فيهم رب العالمين ، بعد تحقيق أن تنزيل الكتاب من عند المدبر لهذا الخلق كله ، والنهي عن الشك في لقائهع ، افتتح هذه بالأمر بأسا ذلك ، والنهي عن طاعة المخالفين مجاهرين كانوا أو متساترين ، والأمر بإتباع الوحي الذي أعظمه الكتاب تنبيها على أن الإعراض إنما يكون طاعة لله مع مراعاة تقواه فقال :
فقال : ( يا ايها النبي ( عبر بأداة التوسط إيماء إلى أن وقت نزول السورة - وهو آخر سنة خمس ، غب وقعة الأحزاب - أوسط مدة ما بعد الهجرة إلاحة إلى أنه لم يبق من أمد كمال النصرة التي اقتضاها وصف النبوة الدال على الرفعة إلا القليل وعبر به لاقتضاء مقصود السورة مقام النبوة الذي هو بين الرب وعبده في تقريبه وإعلائه إلى جنابه إذا قرئ بغير همز ، وإن قرئ به كان اللحظ إلى إنبائه بالخفي وتفصيله للجلي ، وقال الحرالي في كتاب له في أصول الدين : حقيقة النبوة ورود غيب ظاهر أي من الحق بالوحي الخاص من الخلق ، خفي عن العامة منهم ، ثم قد يختص مقصد ذلك الوارد المقيم لذلك الواحد بذاته ، فيكون نبياً غير رسول ، وقد يرد عليه عند(6/67)
صفحة رقم 68
تمام أمره ذاته موارد إقامة غيره فيصير رسولاً .
والرتبة الأولى كثيرة الوقوع في الخلق ، وهي النبوة ، والثانية قليلة الوقوع ، فالرسل معشار معشار الأنبياء ، وللنبوة اشتقاقان : أحدهما من النبأ وهو الخبر ، وذلك لمن اصطفي من البشر لرتبة السماع والإنباء فنبئ ونبأ غيره من غير أن يكون عنده حقيقة ما نبيء به ولا ما نبأ فيكون حامل علم ، والاشتقاق الثاني من النبوة وهي الارتفاع والعلو ، وذلك لمن أعلى عن رتبة النبأ إلى رتبة العلم .
فكان مطلعاً على علم ما ورد عليه من الغيب على حقيقته وكماله ، فمن علا عن الحظ المتنزل العقلي إلى رتبة سماع ، كان نبيئاً بالهمز ، ومن علا عن ذلك إلى رتبة علم بحقيقة ذلك كان نبياً غير مهموز ، فآدم عليه السلام مثلاً في علم الأسماء نبي بغير همز ، وفي ما وراءه نبيء بهمز ، وفيما وراءه نبئ بهمز - انتهى - ولم يناده سبحانه باسمه تشريفاً لقدره ، وإعلاء لمحله ، وحيث سماه باسمه في الأخبار فللتشريف من جهة أخرى ، وهي تعيينه وتخصيصه إزالة للبس عنه ، وقطعاً لشبه التعنت .
ولما ناداه سبحانه بهذا الاسم الشريف المقتضي للانبساط ، أمره بالخوف فقال : ( اتق الله ) أي زد من التقوى يا أعلى الخلائق بمقدار ما تقدر عليه لذي الجلال كله والإكرام ، لئلا تلتفت إلى شيء سواه ، فإنه أهل لأن يرهب لما له من خلال الجلال ، والعظمة والكمال .
ولما وجه إليه الأمر بخشية الولي الولي الودود ، أتبعه النهي عن الالتفاف نحو العدو والحسود .
فقال : ( ولا تطع الكافرين ) أي الممانعين ) والمنافقين ) أي المصانعين في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك الخالق فيه بأمر وإن لاح لائح خوف أو برق بارق رجاء ، ولا سيما سؤالنا في شيء مما يقترحونه رجاء إيمانهم مثل أن تعين لهم وقت الساعة التي يكون فيها الفتح ، فإنهم إنما يطلبون ذلك استهزاء ، قال أبو حيان : وسبب نزولها أنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود ، فتابعه ناس منهم على النفاق ، وكان يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح من طرق المخادعة ، فنزلت تحذيراً له منهم ، وتنبيهاً على عداوتهم - انتهى ثم علل الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللوزم ، فقال ملوحاً إلى أن لهم أغواراً في مكرهم ربما خفيت عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأكد ترغيباً في الإقبال على معلوله بغاية الاهتمام : ( إن الله ) أي بعظيم كماله وعز جلاله ) كان ( أزلاً وأبداً ) عليماً ( شامل العلم ) حكيماً ( بالغ الحكمة فهو لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يرتب عليه ، وأحكم إصلاح الحال فيه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه ، ونهيه(6/68)
صفحة رقم 69
عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين ، واتباعه ما يوحي إليه ، تنزيهاً لقدره عن محنهة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة ، وأمراً له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) ولما تحصل من السورتين من الإشارة إلى السوابق
77 ( ) ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ( ) 7
[ السجدة : 13 ] كان ذلك مظنة لتأنيس نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصالحي أتباعه ، ولهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجري على العهود من لطفه تعالى وسعة رحمته ، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالتقوى ، وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله ، وإيضاح دليله ، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر عقب تخويف وإنذار وإن كان عليه السلام قد نزه الله قدره على أن يكون منه خلاف التقوى ، وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعلى منصبه ، ولطن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص الأمدح عن محمود صفاتهم ، ومنه
77 ( ) محمد رسول الله والذين معه ( ) 7
[ الفتح : 29 ] - الآيات ، فذكر ( صلى الله عليه وسلم ) باسم الرسالة ، ومهما كان الأمر والنهي ، عدل في الغالب إلى الأعم ، ومنه ) يا أيها النبي اتق الله (
77 ( ) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( ) 7
77 ( ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ( ) 7
[ الطلاق : 1 ]
77 ( ) يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ( ) 7
[ التحريم : 1 ]
77 ( ) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ( ) 7
[ التوبة : 73 ]
77 ( ) يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات ( ) 7
[ الممتحنة : 12 ] وقد تبين في غير هذا ، وأن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن المطرد كقوله :
77 ( ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( ) 7
فوجه هذا أن قوله سبحانه ) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( موقعه شديد ، فعدول بذكره ( صلى الله عليه وسلم ) باسم الرسالة لضرب من التلطف ، فهو من باب
77 ( ) عفا الله عنك لم أذنت لهم ( ) 7
[ التوبة : 43 ] وفيه بعض غموض ، وأيضاً فإنه لما قيل له ( بلغ ) طابق هذا ذكره بالرسالة ، فإن المبلغ رسول ، والرسول مبلغ ، ولا يلزم النبي أن يبلغ إلا أن يرسل ، وأما قوله تعالى :
77 ( ) يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( ) 7
[ المائدة : 41 ] فأمره وإن كان نهياً أوضح من الأول ، لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه ، فبابه راجع إلى ما يرد مدحاً مجرداً عن الطلب ، وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا .
ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلي حاله ومزية قدره ، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أمهات للمؤمنين فنزهن عن أن يكون(6/69)
صفحة رقم 70
حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصاً وإجلالاً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنها قوله تعالى : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب ( - الآية ، فنزههم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم ) قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ( والآية بعد ذلك ، وهي قوله تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ( - الآية ، ومنها ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ( فتزههن سبحانه وبين شرفهن على مد عداهن ، ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ( الآية ، ومنها الأمر بالحجاب ) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ( فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب ، وصانهن عن التبذل والامتهان ، ومنها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ( فوصاهم جل وتعالى ونزهم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم ، إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل ، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ( ثم قال تعالى : ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ( وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا كثيراً ( - إلى قوله تعالى : ( أجراً كريماً ( وقوله تعالى ) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ( وقوله تعالى : ( إن المسلمين والمسلمات ( - إلى قوله : ( وأجراً عظيماً ( وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ( - إلى قوله : ( عظيماً ( وقوله تعالى : ( ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ( إلى قوله : ( وكان الله غفوراً رحيماً ( وقوله تعالى مثنياً على المؤمنين بوفائهم وصدقهم ) ولما رأي المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ( - إلى قوله : ( وما بدلوا تبديلاً ( وقوله : ( وإثماً مبيناً ( وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر هذا القبيل أيضاً ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين خلاصهم كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ( - إلى قوله : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ( وقوله تعالى : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال ( إلى قوله : ( وكان الله على كل شيء قديراً ( وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد من دليل قصدها(6/70)
صفحة رقم 71
وبيانها على ما وضح الحمد لله ولما كان حاصلها رحمة ولطفاً ونعمة ، لا يقدر عظيم قدرها ، وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها ، أعقب بما ينبغي من الحمد يعني أول سبأ - انتهى .
ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر .
وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق ، قيده بقوله : ( واتبع ) أي بغاية جهدك .
ولما اشتدت العناية هنا بالوحي ، وكان الموحي معلوماً من آيات كثيرة ، بني للمفعول قوله : ( ما يوحى ) أي يلقى إلقاء كما يفعل المحب مه حبيبه ) إليك ( وأتى موضع الضمير بظاهر يدل على الإحسان في التربية لينوي على امتثال ما أمرت به الآية السالفة فقال : ( من ربك ) أي المحسن إليك بصلاح جميع أمرك ، فمهما أمرك به فافعله لربك ى لهم ، ومهما نهاك عنه فكذلك ، سواء كان إقبالاً عليهم أو إعراضاً عنهم أو غير ذلك .
ولما أمره باتباع الوحي ، رغبة فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي ، فقال مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من من الأسماء الحسنى زيادة في التقوية على الامتثال ، مؤكداً للترغيب كما تقدم ، وإشارة إلى أنه مما تستبعده بعض المخاطبين في قراءة الخطاب لغير أبي عمرو : ( إن الله ) أي بعظمته وكماله ) كان ( دائماً ) بما تعملون ) أي الفريقان من المكايد وإن دق ) خبيراً ( فلا تهتم بشأنهم ، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم ، وعلى قراءة أبي عمرو بالغيب يكون هذا التعليل حثاً على الإخلاص ، وتحقيقاً لأنه قادر على الإصلاح وإن أعيى الخلاص ، ونفياً لما قد يعتري النفوس من الزالزال ، في أوقات الاختلال .
الأحزاب : ( 3 - 5 ) وتوكل على الله. .. . .
) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما كان الآدمي موضع الحاجة إلى تعظيم الترجية قال : ( وتوكل ) أي دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها ) على الله ( المحيط علماً وقدرة ، ولتكرير هذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء في هذا المقام شأن لا يخفى كما أشير إليه .(6/71)
صفحة رقم 72
ولما كان التقدير : فإنه يكفيك في جميع ذلك ، عطف عليه قوله : ( وكفى بالله ) أي الذي له الأمر كله على الإطلاق ) وكيلاً ) أي إنه لا أكفى منه لكل من وكله في أمره ، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى شيء لأنه ليس لك قلبان تصرف كلاً منهما إلى واحد .
ولما كان النازع إلى جهتين والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين ، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هماً واحداً فيما يكون من أمور الدين والدنيا ، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابهها بضرب المثل بالقلبين - كما قال الزهري ، فقال معللاً لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه : ( ما جعل الله ) أي الذي له الحكمة البالغة ، والعظمة الباهرة ، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره ) لرجل ) أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره ، وعبر الرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب الأولى ؛ وأشار إلى التأكيد بقوله : ( من قلبين ( وأكد الحقيقة وقررها ، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق ، بقوله : ( في جوفه ) أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مودِّ إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى ، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء ؛ قال الرازي في اللوامع : القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس ، ومهما حوذي به جانب الحس أعرض عن جانب القدس ، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه - انتهى .
وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع والشرك لا خير فيه ، وأن مدبر الملك واحد كما أن البدن قلب واحد ، فلا التفاف إلى غيره ، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين ، وإنما هو بجعله سبحانه ، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه .
ولما كان كل من المظاهرة والتبني ناوعاً إلى جهتين متنافيتين ، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقاً مؤبداً لا رجعة فيه - كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي ، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب ، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب في ( يعلمون ) لأبي عمرو فقال : ( وما جعل أزواجكم ) أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن من جهة الزوجية ؛ ثم أشار غلى الجهة الأخرى بقوله : ( اللائي تظاهرون منهن ) أي كما يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي ) أمهاتكم ( بما حرم عليكم من الاستماع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأييد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها ، لأنه لا يكون لرجل أمان ، ولو جعل ذلك(6/72)
صفحة رقم 73
لضاق الأمر ، واتسع الخرق ، وامتنع الرتق ) وما جعل أدعياءكم ( بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم ) أبناءكم ( بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم إرثكم ، وتحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء ، ولا يكون لابن أبوان ، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب ، وعم الارتياب ، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب ، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب ، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبينته ابناً لك أيها النبي بتبينك له جزاء له باختياره لك على أبيه وأهله ، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي وغيره : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، وبين أن التبني إنما هو مجاز ، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي وما ألحق به من الرضاع ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان تبنى زيداً بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ) ادعوهم لآبائهم ( .
لما أبطل سبحانه ، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال : ( ذلكم ) أي القول البعيد عن الحقيقة ، وأكد هذا بقوله : ( قولكم بأفواهكم ) أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم من غير مطابقة قلوبكم ، فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده ، لأن من كان له فم كان محتاجاً ، ومن كان محتاجاً كان معرضاً للنفائص كام معرضاً للأوهام ، ومن غلبت ، عليه الوهام كان في كلامه الباطل ) الله ) أي المحيط علمه وقدرته وله جميع صفات الكمال ) ويقول الحق ) أي الكامل في حقيته ، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه ، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال ، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة ، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق ، فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون ، فإذا قال قولاً وجد مضمونه مطابقاً لذلك القول ، فإذا طبقت بينهما كانا سواء ، فكان ذلك المضمون ثابتاً كما كان ذلك الواقع ثابتاً ، فكان حقاً ، هكذا أقواله على الدوام ، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة ، فالآية من الاحتبك : ذكر الفم أولاً دليلاً على نفيه ثانياً والحق ثابناً دليلاً على ضده الباطل أولاً ، وسرّ ذلك أنه ذكر ما(6/73)
صفحة رقم 74
يدل على النقص في حقنا ، وعلى الكمال في حقه ، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء ) وهو ) أي وحده من حيث قوله الحق ) يهدي السبيل ) أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول ، فلا تعولوا على سواء ولا تلتفتوا أصلاً إلى غيره .
ولما كان كأنه قيل : فما تقول ؟ اهدنا إلى سبيل الحق في ذلك ، أرشد إلى أمر التبني إشارة إلى أنه هو المقصود في هذه السورة لما يأتي بعد من آثاره التي هي المقصودة بالذات بقوله : ( ادعوهم ) أي الأدعياء ) لآبائهم ) أي إن علموا ولداً قالوا : زيد بن حارثة ؛ ثم علله بقوله : ( هو ) أي هذا الدعاء ) أقسط ) أي أقرب إلى العدل من التبني وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المتبني والإحسان إليه ) عند الله ) أي الجامع لجميع صفات الكمال ، فلا ينبغي أن يفعل في ملكه إلا ما هو أقرب إلى الكمال ، وفي هذا النسبة إلى ما مضى بعض التنفيس عنهم ، وإشارة إلى أن ذلك التغليظ بالنسبة إلى مجموع القولين المتقدمين .
ولما كانوا قد يكونون مجهولين ، تسبب عنه قوله : ( فإن لم تعلموا آباءهم ( لجهل أصلي أو طارئ ) فإخوانكم في الدين ( إن كانوا دخلوا في دينكم ) وموالكيم ) أي أرقامكم مع بقاء الرق أو مع العتق على كلتا الحالتين ، ولذا قالوا : سالم مولى أبي حذيفة .
ولما نزل هذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام ) - أخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما .
ولما كانت عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم ، أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ ، وساقه على وجه يعم ما بعد النهي أيضاً فقال : ( وليس عليكم جناح ) أي إثم وميل واعوجاج ، وعبر بالظرف ليعيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه ، ولو عبر بالباء لظن أن فيه لإثماً ، ولكنه عفا عنه فقال : ( فيما أخطأتم به ) أي من الدعاء بالنبوة والمظاهر أو في شيء قبل النهي أو بعده ، ودل قوله : ( ولكن ما ) أي الإثم فيما ) تعمدت قلوبكم ( على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان أو سبق اللسان ، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يعتمده بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة ، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينه المعتمد .
ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدمه ، عم سبحانه بقوله : ( وكان الله ) أي لكونه لا أعظم منه ولا أكرم منه ) غفوراً رحيماً ) أي من صفته الستر البليغ على المذنب النائب ، والهداية العظمية للضال الآئب ، والإكرام بإيتاء الرغائب .(6/74)
صفحة رقم 75
الأحزاب : ( 6 - 8 ) النبي أولى بالمؤمنين. .. . .
) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ( ( )
ولما نهى سبحانه عن التبني ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وأمه ، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك : ( النبي ) أي الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال ، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال ) أولى بالمؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ، فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية ) من أنفسهم ( فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، لأنه لا يدعوهم لا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم ، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل الملوك بل أعظم بهذا السبب الرباني ، فأيّ حاجة له إلى السبب الجسماني ) وأزواجه ) أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته ) أمهاتهم ) أي المؤمنين من الرجال خاصة دون النساء ، لأنه لا محذر من جهة النساء ، وذلك في الحرمة والإكرام ، والتعظيم والاحترام ، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الإحكام ، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً ، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص ، لأن حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أمته أعظم من حق الوالد على ولده ، وهو حي في قبره وهذا أمر جعله الله وهو إذا جعل شيئاً كان ، لأن الأمر أمره والخلق خلقه ، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم ) ) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( ) [ الملك : 14 ] روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتي وأنا مولاه ) .
ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها ، ونهى عن التشتت والتعشب ، وكان من ذلك أمر التبني ، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديماً من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان الأمر محتاجاً إليها ، وكان ذلك قد نسخ بالآية التي في آخر الأنفال ، وهي قبل هذه السورة ترتيباً ونزولاً ، وكان ما ذكر هنا فرداً داخلاً(6/75)
صفحة رقم 76
في عموم العبارة في تلك الآية ، أعادها منا تأكيداً وتنصيصاً على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال : ( وأولوا الأرحام ) أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها ) بعضهم أولى ( بحق القرابة ) ببعض ( في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة ) في كتاب الله ) أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا ، وكما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً .
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة ، بين المفصل عليه فقال : ( من ) أي هم أولى بسبب القرابة من ) المؤمنين ( الأنصار من غير قرابة مرجحة ) والمهاجرين ( المؤمنين من غير قرابة كذلك ، ولما كان المعنى : أولى في كل نفع ، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله ، لافتاً النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف ، فيحثهم ذلك على فعل المعروف : ( إلا أن تفعلوا ) أي حال كونكم موصلين ومسندين ) إلى أوليائكم ( بالرق أو التبني أو الحلف في الصحة مطلقاً وفي المرض من الثلث تنجيراً أو وصية ) معروفاً ( تنفعونهم به ، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقاً لذلك ، ولا يكون ذو الرحم أولى منه ، بل لا وصية لوارث .
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله ، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً : ( كان ذلك ) أي الحكم العظيم ) في الكتاب ) أي القرآن في آخر سورة الأنفال ) مسطرواً ( بعبارة تعمه ، قال الأصبهاني : وقيل : في التوارة ، لأن في التوراة : إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك : أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ووصف الهجرة ثابناً دليلاً على حذف النصرة أولاً .
ولما كان نقض العوائد وتغيير المألوفات مما يشق كثيراً على النفوس ، ويفرق المجتمعين ، ويقطع بين المتواصلين ، ويباعد بين المتقاربين ، قال مذكراً له ( صلى الله عليه وسلم ) بما أخذ على من قبله من نسخ أديانهم بدينه ، وتغيير مألوفاتهم بإلفه ، ومن نصيحة قومهم بإبلاغهم كل ما أرسلوا به ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لأنه أدعى إلى قبول الأوامر : ( وإذا ( فعلم أن التقدير : اذكر ذلك - أي ما سطرناه لك قبل هذا في كتابك ، واذكر إذ ) أخذنا ( بعظمتنا ) من النبيين ميثاقهم ( في تبيلغ الرسالة في المنشط والمكره ، وفي تصديق بعضهم لبعض ، وفي اتباعك فيما أخبرناك به في قولنا
77 ( ) لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ( ) 7
[ آل عمران : 81 ] وقولهم : أقررنا .(6/76)
صفحة رقم 77
ولما ذكره ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في تغيير مألوفاتهم إلى ما يأمرهم سبحانه به من إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه ، ذكره ما أخذ عليه من العهد في التبليغ فقال : ( ومنك ) أي في قولنا في هذه السورة ) اتق الله واتبع ما يوحى إليك ( وفي المائدة ) ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ( ) [ المائدة : 67 ] فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل ، ولما أتم المراد إجمالاً وعموماً ، وخصه ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك العموم مبتدئاً به بياناً لتشريفه ولأنه المقصود بالذات بالأمر بالتقوى واتباع الوحي لأجل التبني وغيره ، أتبعه للمقام ، لأن لم يقصد المفاضلة بينهم ، بلا التآسية بالمتقدمين والمتأخرين فقال : ( ومن نوح ( أول الرسل إلى المخالفين ) وإبراهيم ( أبي الأنبياء ) وموسى ( أول أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل ) وعيسى ابن مريم ( ختامهم ، نسبه إلى أمه مناداة على من ضلَّ فيه التوبيخ والتسجيل بالفضيحة ؛ ثم زاد في تأكيد الأمر وتعظيمه تعظيماً للموثق فيه ، وإشارة إلى مشتقه ، فقال مؤكداً بإعادة العامل ومظهر العظمة لصعوبة الرجوع عن المالوف : ( وأخذنا منهم ) أي بعظمتنا في ذلك ) ميثاقا غليظاً ( استعارة من وصف الأجرام العظام كناية عن أنه لا يمكن قطعه لمن أراد الوصلة بنا .
ولما كان الأخذ على النبيين في ذلك اخذاً على أممهم ، وكان الكفر معذباً عليه من غير شرط ، والطاعة مثاباً عليها بشرط الإخلاص علله ، معبراً بما هو مقصود السورة فقال ملتفتاً غلى مقام الغيبة لتعظيم الهيبة لأن الخطاب إذا طال استأنس المخاطب : ( ليسأل ) أي يوم القيامة ) الصادقين ) أي في الوفاء بالعهد ) عن صدقهم ( هل هو لله خالصاً أو لا ، تشريفاً لهم وإهانة وتبكيتاً للكاذبين ، ويسأل الكافرين عن كفرهم ما الذي حملهم عليه ، والحال أنه أعد للصادقين ثواباً عظيم ) وأعد للكافرين ) أي الساترين لإشراق أنوار الميثاق ) عذاباً أليماً ( فالآية ، من محاسن رياض الاحتباك ، وإنما صرح بسؤال الصادق بشارة له بتشريفه في ذلك الموقف العظيم ، وطوى سؤال الكفار إشارة غلى استهانتهم بفضيحة الكذب ) ) ويحلفون على الكذب وهو يعلمون ( ) [ المجادلة : 14 ] ) ) فيحلفون له كما يحلفون لكم ( ) [ المجادلة : 18 ] وذكر ما هو أنكى لهم .
الأحزاب : ( 9 - 10 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( ( )(6/77)
صفحة رقم 78
ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف موافق ، ولا اهتمام بمخالف مشاقق ، اعتماداً على تدبيره ، وعظيم أمره في تقديره ، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم ، وأشد ما دهمتهم من كروبهم ، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من الأوامر الأمة - وإنما وجه الأمر إلى الإمام ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له ) كن ( فحقيقة الإرادة لا الأمر ، والأمر للذين آمنوا تكفيلي .
وقد يراد منهم ما يؤمرون به وقد لا يراد ، وللناس احتجاجي أي تقام به عليهم الحجة ، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه خلاف المأمور به : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ، عبر به ليعم المنافقين ) اذكروا ( ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال : ( نعمة الله ( عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) عليكم ) أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان ، فإن الله كافيكم كل ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال : ( إذ ) أي حين ) جاءتكم ) أي في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من شماليه ، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعاً ، وكانوا ثلاثة آلاف ، فكان الخندق اثني عشر الف ذراع ) جنود ( وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب ، ومن انضم من قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور ، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن ، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد ، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لبني النضير من المدينة الشريفة ، وأفسدوا أيضاً بني قريظة ، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد ، فكان الجميع اثني عشر الفاً ، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية ، ولا يكون لأحد من أهله منهم واقية .
ولما كان مجيء الجنود مرهباً ، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال : ( فأرسلنا ) أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول إليكم ، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة ) عليهم ) أي خاصة ) ريحا ( وهي ربح الصبا ، فأطفأت نيرانهم .
وأكفأت قدروهم وجفانهم ، وسفت التراب في وجوههم ، ورمتهم بالحجارة وهدت(6/78)
صفحة رقم 79
خيامهم ، وأوهنت ببردها عظامهم ، وأجالت خيلهم ) وجنوداً لم تروها ( يصح أن تكون الرؤوية بصرية وقلبية ، منها من البشر بن مسعود نعيم الغطفاني رضي الله هنه هداه الله للإسلام ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : إنه لم يعلم أحد بإسلامي ، فمرني يا رسول الله بأمرك فقال : ( إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة ، فخذل عنا مهما استطعت ) فأخلف بين اليهود وبين العرب بأن فال لليهود وكانوا أصحابه : إن هؤلاء - يعني العرب - إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا بلادهم راجعين .
وليس حالكم كحالهم ، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم ، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ليكونوا عندكم حتى تناجزوا الرجل ، فإنه ليس لكم بعد طاقة إذا انفرد بكم ، فقالوا : أشرت بالرأي ، فقال : فاكتموا عني ، وقال لقريش : قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد ، وقد سمعت أمراً ما أظن أنكم تتهونني فيه ، فقالوا : ما أنت عندنا بمتهم ، قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل ، قال : إن اليهود قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه : إنا قد ندمنا فهل ينفعك عندك أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم ، ونكون معك على بقيتهم ، حتى تفرغ منهم لتكف عنا .
وتعيد لنا الأمان ، قال : نعم ، فإن أرسلوا إليكم فى تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ، ثم أتى غطفان فقال : إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ، قالوا : صدقت ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم ، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهناً فقالوا : صدق نعيم ، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحداً ، فقالت قريظة : صدق نعيم ، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم ، فانكسرت شوكتهم ، وبدرت حدتهم ، ومنها من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ، والتحية والإكرام ، فكبروا في نواحي عسكرهم ، وزلزلوا بهم ، وبثوا الرعب في قلوبهم ، فماجت خيولهم ، واضمحل قالهم وقيلهم ، فكان في ذلك رحيلهم ، بعد نحو أربعين يوماً أو بضع وعشرين - على ما قيل .
ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية ، فصلها فقال ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً : ( وكان الله ( الذي له جميع صفات الكمال والجلال والجمال ) بما يعلمون ) أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد(6/79)
صفحة رقم 80
السيئ - على قراءة البصري ، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره - على قراءة الباقين ) بصيراً ( بالغ الإبصار والعلم ، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم ، ولا أغنت عنهم كثرتهم ، ولا ضر المؤمنين قلتهم ، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم - كما سيأتي ؛ ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلاً من ) إذ ( الأولى : ( إذ جاؤوكم ) أي الجنود المذكورن بادئاً بالأقرب إليهم ، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة .
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل ، أدخل أداة التبعيض فقال : ( من فوقكم ( يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق ، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام ، وهي بين بني قريظة وبين من في الخندق ، فصاروا فوق العيال والرجال .
ولما كان المراد الفوقية من جهة علو الأرض ، أوضحها بقوله : ( ومن أسفل منكم ( دون أن يقول : أسفلكم ، وأفاد ذلك أيضاً من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط ، ولم يقل ( ومن تحتكم ) لئلا يظن أنه فوق الرؤوس وتحت الأرجل ، ولم يقل في الأول ( من أعلى منكم ) لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو ، وأسفل الأرض المدينة من ناحية المغرب يعني قريشاً ، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة .
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف ، ذكرهم بالخوف بذكر ظرفه أيضاً مفخماً لأمره بالغطف فقال : ( وإذ ) أي واذكروا حين ، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ فقال : ( زاغت الأبصار ) أي مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب ، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليماً للأدب في المخاطبة ، وكذا ) وبلغت القلوب ( كناية عن شدة الرعب والخفقان ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر ، ومنه قولهم للجبان : انتفخ منخره أي رئته ) الحناجر ( جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلقوم ، ومن هذا قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ( شر ما في الإنسان جبن خالع ) أي يخلع القلب من مكانه ، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد .(6/80)
صفحة رقم 81
ولما كانت هذه حالة عرضت ، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر ، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقاً لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب ، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال : ( وتظنون بالله ( الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته ، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته ) الظنونا ) أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح ، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه ، وأما بالنسبة إلى الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال ، فتارة يظن الهلاك للضعف ، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك ، ويظن المنافقون ومن قاربهم من ضعفاء القلوب ما حكى الله عنهم ؛ قال الرازي في اللوامع : ويروى أن المسلمين قالوا : بلغت القلوب الحناجر ، فهل من شيء نقول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ) وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة إشارة إلى اتساع هذه الأفكار ، وتشعب تلك الخواطر ، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف .
الأحزاب : ( 11 - 15 ) هنالك ابتلي المؤمنون. .. . .
) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ( ( )
ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة ، وأما المنافق فيلقي السلم ويدخل داره الذب بالموافقة على جميع ما يراد منه ، ترجم حال المؤمنين قاصراً الخطاب على الرأس لئلا يدخل في مضمون الخبر إعلاماً بأن منصبه الشريف أجلّ من أن يبتلى فقال تعالى : ( هنالك ) أي في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة ) ابتلي المؤمنون ) أي خولط الراسخون في الإيمان بما شأنه أن يحبل ما خالطه ويميله ، وبناء للمجهول لما كان المقصود إنما هو معرفة المخلص من غيره ، مع لعلم بأن فاعل ذلك هو الذي له الأمر كله ، ولم يؤكد الابتلاء بالشدة لدلالة الافتعال عليها ، وصف الكلام عن الخطاب مع ما تقدم من فؤائده ، وعبر بالوصف ليخص الراسخين فقال : ( وزلزلوا ) أي حركوا ودفعوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر(6/81)
صفحة رقم 82
الأعداء مع الكثرة ، وتطاير الأراجيف ) زلزالاً شديداً ( فثبتوا بتثبيت الله لهم على عهدهم .
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول ، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين ، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزالزال مذكوراً مرتين إشارة وعبارة ، فقال : ( وإذ ( وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال : ( يقول ) أي مرة بعد أخرى ) المنافقون ) أي الراسخون في النفاق ، لأن قلوبهم مريضة ملائ مرضاً ) والذين في قلوبهم مرض ) أي من أمراض الإعتقاد بحيث أضعفها في الإعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل ، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان ، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق ، فالآية من الاحتباك : ذكر النفاق أولاً دال عليه ثانياً ، وذكر المرض ثانياً دليل عليه أولاً ، وهذا الذي قلته في القلوب موافق لما ذكره الإمام السهرودي في الباب السادس والخمسين من عوارفه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهو ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب أسود منكوس ، فذلك قلب الكافر ، وقلب مربوط على غلاف ، فذلك قلب المنافق ، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد ، فأيّ المدتين غلبت عليه حكم له بها ) وروى هذا الحديث الغزالي في أواخر كتاب قواعد العقائد من الإحياء عن أبي سعيد الخدري ، وقا الشيخ زين الدين العراقي : أخرجه أحمد .
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله - والله - كثيراً ، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا : ( ما وعدنا الله ( الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال ) ورسوله ) أي الذي قال من قال من قومنا : إنه رسول ، استهزاء منهم ، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى ) إلا غروراً ) أي باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله ، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق ، فإنه قال : إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس ، وقصور(6/82)
صفحة رقم 83
الشام من أرض الروم ، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي ، وكذبوا في شكهم .
ففاز المصدقون ، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون .
ولما ذكر ما هو الأصل في نفاقهم وهو التكذيب ، أتبعه ما تفرع عليه ، ولما كان تخذيليهم بالترجيع مرة ، عبر عنه بالماضي فقال : ( وإذ قالت ( أنت الفعل إشارة إلى رخاوتهم وتأنثهم في الأقوال والأفعال ) طائفة منهم ) أي قوم كثير من موتى القلوب ومرضاها يطوف بعضهم ببعض : ( يا أهل يثرب ( عدلوا عن الاسم - الذي وسمها به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة وطيبة مع حسنه - إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع احتمال قبحه بين العباب والمحكم : ثرب وأثرب ، بمعنى ثرب تثريباً - إذا لامه وعيّره بذنبه وذكر به .
وأكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا : ( لا مقام لكم ) أي قياماً أو موضع قيام تقومون به - على قراءة الجماعة بالفتح ، وعلى قراءة حفص بالضم المعنى : لا إقامة أو موضع إقامة في مكان القتال ومقارعة الأبطال ) فارجعوا ( إلى منازلكم هراباً ، وكونوا مع نسائكم أذناباً ، أو إلى دينكم الأول على وجه المصارحة لتكون لكم عند هذه الجنود يد .
ولما ذكر هؤلاء الذين هتكوا الستر ، وبينوا ما هم من سفول الأمر ، أتبعهم آخرين تستروا بعض التستر تمسكاً بأذيال النفاق ، خوفاً من أهوال الشقاق ، فقال : ( ويستأذن ) أي يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء ) فريق منهم ) أي طائفة شأنها الفرقة ) النبي ( وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق ، الخلق ، وما لديه من جلاله الشمائل وكريم الخصائل ، ولم يخشوا من إنبائنا له بالأخبار ، وإظهارها له الخبء ، من مكنون الضمائر وخفي الأسرار ، حال كونهم ) يقولون ) أي في كل قليل ، مؤكدين لعملهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين لهم قولهم : ( إن بيوتنا ( أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم المنافقين ) عورة ) أي بها خلل كثير يمكن من أراد من الأحزاب أن يدخلها منه ، فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين ، وذباً عن الأهلين .
ولما قالوا ذلك مؤكدين له ، رده الله تعالى موكداً لرده مبيناً لما أرادوا فقال : ( وما ) أي والحال أنها ما ) هي ( في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ، وأكد النفي فقال : ( بعورة ( ولا يريدون بذهابهم حمايتها ) إن ) أي ما ) يريدون ( باستئذانهم ) إلا(6/83)
صفحة رقم 84
فرارا ( ولما كانت مشتدة بملازمة دورهم .
فأظهروا اشتداد العناية والعمدة فقال : ( ولو دخلت ) أي بيوتهم من أيّ داخل كان من هؤلاء الأحزاب أو غيرهم ، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف ، وعبر بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ( إشارة إلى أنه دخول غلبة ) من أقطارها ) أي جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب .
ولما كان قصد الفرار مع الإحاطة بالدار ، من جميع الأقطار ، دون الاستقتال للدفع عن الأهل والمال ، بعيداً عن أفعال الرجال ؛ عبر بأداة التراخي فقال : ( ثم سئلوا ) أي من أيّ سائل كان ) الفتنة ) أي الخروج منها فارّين ، وكأنه سماه بها لأنه لما كان أشد الفتنة من حيث أنه لا يخرج الإنسان من بيته إلا الموت أو ما يقاربه كان كأنه لا فتنة سواه ) لأتوها ) أي الفتنة بالخروج فراراً ، إجابة لسؤال من سألهم مع غلبة الظن بالدخول على صفة الإحاطة أن لا نجاة ، فهم أبداً يعولون على الفرار من غير قتال حماية لذمار أو دفعاً لعار ، أو ذباً عن أهل أو جار ، وهذا المعنى ينتظم قراءة أهل الحجاز بالقصر وغيرهم بالمد ، فإن من أجاب إلى الفرار فقد أعطى ما كأنه كان في يده منه غلبة وجبناً وقد جأءه وفعله .
ولما كان هذا عند العرب - مع ما لهم من النجدة والخوف من السبة - لا يكاد يصدق ، أشار إلى ذلك بتأكيده في زيادة تصويره فقال : ( وما تلبثوا بها ) أي البيوت ) إلا يسيرا ( فصح بهذا أنهم لا يقصدون إلا الفرار ، لا حفظ البيوت من المضار ، ويدلك على هذا المعنى إتباعه بقوله مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار والحلف بالكذب : ( ولقد كانوا ) أي هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار مع الدخول عليهم على تلك الصفة من سبي حريمهم واجتياح بيضتهم ) عاهدوا الله ) أي الذي أجلّ منه .
ولما كان العهد ربما طال زمنه فنسي ، فكان ذلك عذراً لصاحبه ، بين قرب زمنه بعد بيان عظمة المعاهد اللازم منه ذكره ، فقال مثبتاً الجار : ( من قبل ) أي قبل هذه الحالة وهذه الغزوة حين أعجبتهم المواعيد الصادقة بالفتوحات التي سموها الان عندما جد الجد مما هي مشروطة به من الجهاد غروراً ) لا يولّون ) أي يقربون عدوهم ) الأدبار ) أي أدبارهم أبداً لشيء من الأشياء ، ولا يكون لهم عمل إذا حمى الياس ، وتخالط الناس ، واحمرت الحدق وتداعس الرجال ، وتعانق الحماة الأبطال إلى الظفر أو الموت .(6/84)
صفحة رقم 85
أي الوفاء بعهد من هو محيط بصفات الكمال .
ولما كان العهد فضلة في الكلام لكونه مفعولاً ، واشتدت العناية به هنا ، بين ذلك بتقديمه أولاً ثم يجعله العمدة ، وإسناد الفعل إليه ثانياً فقال : ( مسؤولاً ( ، أي في أن يوفي به ذلك الذي وقع منه .
الأحزاب : ( 16 - 20 ) قل لن ينفعكم. .. . .
) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً ( ( )
ولما أتم سبحانه ما أخبر به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كما دل عليه التعبير بالنبي ، استأنف أمره بجوابهم جواباً لمن كأنه قال : ماذا يقال لهم ؟ وإجراء للنصحية على لسانه لما هو مجبول عليه من الشفقة ، ) قل ) أي لهم ، وأكد لظنهم نفع الفرار : ( لن ينفعكم ) أي في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات ) الفرار ) أي الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه ) إن فررتم من الموت ) أي بغير عدو ) أو القتل ( لأن الأجل إن كان قد حضر ، لم يتأخر بالفرار وإلا لم يقصره الثبات كما كان علي رضي الله عنه يقول : إذا دهم الأمر ، وتوقد الجمر ، واشتد من الحرب الحر ، أيّ يومي من الموت أفر ؟ يوم لا يقدر أو يوم يقدر ، وذلك أن أجل الله الذي أجله محيط بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً ) وإذا ) أي وإذ فررتم .
ولما كانوا لا يقصدون بالعيش إلا التمتع ، بين ذلك بالبناء للمجهول فقال : ( لا تمتعون ) أي تمتعاً مبالغاً فيه كما تريدون بما بقي من أعماركم إن كان بقي منها شيء ) إلا قليلاً ( بل يتمكن العدو منكم بأدباركم ، ومن أموالكم وأحسابكم ودياركم ، فيفسد مهما قدر عليه من ذلك فلا تقدرون على تدراكه إلا بعد زمان طويل وتعب كبير ، بخلاف ما إذا ثبتم وفاء بالعهد وحفظاً للثناء فلاقيتم الأقرن ، وقارعتم الفرسان ، اعتماداً على ربكم وطاعة لنبيكم ، فإن كان الأجل قد أتى لم ينقصكم ذلك شيئاً ، ومتم أعزة كراماً ، وإلا غزتم بالنصر ، وحزتم الأجر ، وعشتم بأتم نعمة إلى تمام العمر ، فالثبات أبقى للمهج ، وأحفظ للعيش البهج .
ولما كانوا لما عندهم من التقيد بالوهم ، والدوران مع الحس دأب البهم ، جديرين(6/85)
صفحة رقم 86
بأن يقولوا : بلى لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ، ومن ثبت فاصطلم ، أمره بالجواب عن هذا بقوله : ( قل ) أي لهم منكراً عليهم : ( من ذا الذي يعصمكم ) أي يمنعكم ) من الله ( المحيط بكل شيء قدرة وعلماً قبل الفرار وفي حال الفرار وبعده ) إن أراد بكم سوءاً ( فأناخ بكم نقمه فيرد ذلك السوء عنكم ) أو ( يهينكم ويقبح جانبكم ويمتهنه بأن يصيبكم بسوء إن ) أراد لكم رحمة ( فأفادكم نعمه ، والرحمة النفع سماه بها لأنه أثرها ، قيسوا هذا المعنى على مقاييس عقولكم معتبرين له بما وجدتم من الشقين في جميع أعماركم ، هل احترزتم عن سوء إرادة فنفعكم الاحتراز ، أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد هلى كشفه بدون إذنه ؟ ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك : ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً .
ولما كانوا أجمد الناس ، أشار سبحانه بكونهم لم يبادروهم بأنفسهم الجواب بما يدل على المناب إلى جمودهم بالعطف على ما علم أن تقديره جواباً من كل ذي بصيرة : لا يعصمهم أحد من دونه من شيء من ذلك ، ولا يصيبهم بشيء منه ، فقال : ( ولا يجدون ) أي في وقت من الأوقات ) لهم ( ونبه على أنه لا شيء إلا وهو في مثبتاً الجار : ( من دون الله ( وعبر بالاسم العلم إشارة إلى إحاطته بكل وصف جميل ، فمن أين يكون لغيره الإلمام بشيء منها إلا بإذنه ) ولياً ( يوالهم فينفعهم بنوع نفع ) ولا نصيراً ( ينصرهم من أمره فيرد ما أراده من السوء عنهم .
ولما أخبرهم سبحانه بما علم مما أوقعوه من أسرارهم ، وأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بوعظهم ، حذرهم بدوام عمله لمن يخون منهم ، فقال محققاً مقرباً من الماضي ومؤذناً بدوام هذا الوصف له : ( قد يعلم ( ولعله عبر ب ( قد ) التي ربما أفهمت في هذه العبارة التقليل ، إشارة إلى أنه يكفي من له أدنى عقل في الخوف من سطوة المتهدد احتمال علمه ، وعبر بالاسم الأعظم فقال : ( الله ( إشارة إلى إحاطة الجلال والجمال ) المعوقين ) أي المثبطين تثبيط تكرية وعقوق ، يسرعون فيه إسراع الواقع بغير اختياره ) منكم ) أي أيها الذين أقروا بالإيمان للناس قاطبة عن إيتان حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقائلين لإخوانكم هلم ) أي ائتوا وأقبلوا ) إلينا ( موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيه القتال ، ويواظب على صالح الأعمال ) ولا ) أي والحال أنهم لا ) يأتون الباس ) أي الحرب أو مكانها ) إلا قليلاً ( للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون ، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنهم لواذاً ، وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً .(6/86)
صفحة رقم 87
ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهاً صالحاً ، بين فساد قصدهم بقوله ذاماً غاية الذم بالتعبير الشح الذي هو التناهي في البخل ، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه ) أشحة ) أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلاً منهم شحيح ) عليكم ) أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال .
ولما كان التقدير : في حال الأمن ، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال : ( فإذا جاء الخوف ) أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها ) رأيتهم ) أي أيها المخاطب ) وينظرون ( وبين بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال : ( إليك ) أي حال كونهم ) تدور ( يميناً وشمالاً بإدارة الطرف ) أعينهم ) أي زائغة رعباً وخوراً ، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال : ( كالذي ( اي كدوران عين الذي ، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال : ( يغشى عليه ( مبتدئاً غشيانه ) من الموت ( سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع ، كان قليل الثبات عند القراع ؛ ثم ذكر خاصى أخرى لبيان جبنهم فقال : ( فإذا ذهب الخوف ) أي بذهاب أسبابه ) سلقوكم ) أي تناواوكم تناولاً صعباً جرأة ووقاحة ، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور ) بألسنة حداد ( ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه ، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها ؛ ثم بين المراد بقوله : ( أشحة ) أي شحاً مستعلياً ) على الخير ) أي المال الذي عندهم ، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره ، شحاً لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه ، وهذه سنة أخرى في أن من كان صلباً في الرخاء كان رخواً حال الشدة وعند اللقاء ، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى فأشرف على الفساد ، من الحشيش والمحشة ، وهي الدبر ، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى ، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة ، فربما نشأت القساوة ، وربما نشأت عن الجمع الفرقة فازمها الرخاوة ، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحص ، وشح النفس حرصها على ما ملكت ، قال القزاز : وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة ، ولم أسمع غيره ، وحكى أبو يوسف : أشحاء - بالمد في الكثير ، والرجلان يتشاحان عن الأمر - إذا كان كل منهما يريد أن لا يفوته ، وزند شحاح : لا يورى ، وما شحاح : نكد غير غمد - لأنه اشتد اجتماعه في مكانه ، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جداً فضنت به .
وأرض شحاح : صلبة ، قال القزاز : وبه شبه الزند ، والشحاح : الحد والسيئ الخلق والماضي في كلام أو سير ، والمواظب(6/87)
صفحة رقم 88
على الشيء ، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع ، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور : شحشح وشحشاح ، والشحشح من الغربان : الكثير الصوت ، ومن الحمير : الخفيف ، ومن القطا : السريعة ، والشحشاح : الطويل - كأنه جمع طولين ، وشحشح البعير في الهدير - إذا لم يخلصه ، كأنه جمع إلى الهدير ما ليس بهدير ، والشحشحة : صوت الصرد - لكثرة اتصالها ، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع ، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع الحذر ، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن ، وامرأة شحشاح - كأنه رجل في قوتها ، والمشحشح - كالمسلسل : القليل الخير ، وإبل شحائح : قليلة الدر ، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد ، والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر ، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى بعض ، والشحشح أيضاً من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول ، وذلك ناظر إلى جمعها للنظر لغوره فيما لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع ، ومن مطلق الجمع : الفلاة الواسعة - لأنها جامعة لما يراد جمعه ، والشحاح : شهاب صغار تدفع الماء إلى الوادي ، فهي بمدها جامعة ، وبكونها صغاراً نكدة ومجتمعة في نفسها ، ومن الجمع : الحشيش ، وهو اليابس من العشب ، وأصله ما جمع منه .
والمحش : الموضع الكثير الحشيش والخير ، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق ، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب ، ويكون أرضه طيبة ، ومن حش الحشيش : قطعه ، وفلاناً : أصلح من حاله ، والمال : كثره ، وزيداً بعيراً أو ببعير : أعطاه إياه ، والحش - بالفتح : المخرج ، والمحشة : الدبر ، والحش : البستان ذو النخل المجتمع ، سمى الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه ، وحش طلحة وحش كوكب : موضعان بالمدينة ، وحش الولد في البطن : يبس ، وأحشت المرأة فهي محش - إذا يبس الولد في جوفها ، والحش - بالضم : الولد الهالك في البطن ، وحششت الفرس : جمعت له الحشيش ، وأحششت الرجل : أعنته على جمع الحشيش ، والحشائش : الجوالق فيه الحشيش ، وأحش الكلأ : أمكن لأن يُحَس ، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها ، أي ما فوق رسغها إلى ساقها ، وذلك من من عظمها وكثرة شحمها ، واستحش الغصن : طال - كأنه جمع طولين ، أو صار بحيث يجمع ورقاً كثيراً ، الشيء بالشيء ، وحش الودي من النخل : يبس ، ومن الجمع : حش الصيد : جمعه من جانبيه ، والفرس : ألقى له حشيشاً ، قال القزاز : وهو يبس الكلأ ، وأصله ما جمع ، ومنه : أحشك وتروثني - يضرب لمن أساء إلى أحسن إليه ، ومرت الإبل تحش(6/88)
صفحة رقم 89
الأرض .
أي تجمع الحشيش ، وقيل : هو من سرعة مرها ، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة ، ومنه حش الفرس : أسرع ، ومن الإشراف على الفساد : الحش - بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسق ولا معمور ، والحشاشة : رمق النفس ، يقال : ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحي به ، وعبارة القاموس ، والحشاش والحشاشة ، وهو أيضاً من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا ، ومنه قلة الاستحشاش ، وهو قلة القوم ، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة : عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها ، وكل ما قوي بشيء فقد حش به ، والمحش : حديدة يوقد بها النار أي تحرك ، والشجاع ، قال القزاز ، وهو محش حرب - إذا كان يسعرها بشجاعته ، وحش فلان الحرب - إذا هيجها ، ومنه تحشحشوا أي تحركوا ، ومن مطلق الحدة : أحششته عن حاجته : أعجلته عنها ، ومن الجمع والقوة : حش سمهه بالقذذ - إذا راشه فألزقها من نواحيه ، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصارك أي نهاية جمعك لكل ما تقوى به ، وحشاشا كل شيء : جانباه ، والحشة - بالضم : القبة العظيمة ، لكثرة جمعها وقوة تراصّها .
ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا .
أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه عدم الوثوق وتفرده لعدم الإيمان فقال : ( أولئك ) أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا ) ولم يؤمنوا ) أي لم يوجد منهم وأن أقرت به ألسنتهم .
ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان ، سبب عن ذلك قوله : ( أعمالهم ) أي أبطل أرواحها ، فصارت أجساداً لا أرواح لها ، فلا نفع لهم شيء منها لأنها كانت في الدنيا صوراً مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة ، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الإغراض الدنيوية ، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن ، وأنه يكون خواراً عند الهزاهز ، ميالاً إلى دنايا الشجايا والغرائز .
ولما كان من عمل عملاً لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد ، قال تعالى : ( وكان ذلك ) أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف عند السؤال وقلة الأدب ) على الله ( بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات ، وتخرس الألسن الذربات ) يسيراً ( لأنه لا نفع إلا منه وهو الواحد القهار ، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك ، لأن النفع من غيره - وإن كان منه حقيقة - قهره غيره بالشفاعات ووجود النكد أو غيرها عليه ، وكأنهم لما ذهب استمرو خاضعين(6/89)
صفحة رقم 90
لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم ، فأخبر تعالى تحقيقاً لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم ، فقال تحقيقاً لذلك وجواباً لمن ربما قال : قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا ؟ : ( يحسبون ) أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال ، وقد ذهب الخوف ، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف ) الأحزاب ( وقد علمتم أنهم ذهبوا ) لم يذهبوا ( بل غابوا خداعاً ، وعبر بالحسبان لأنه - كما مضى عن الحرالي في البقرة - ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له ، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم ، قال : فكان ضعف علم العالم ظن ، وضعف عقل العاقل حسبان .
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم ، أخبر عن حالهم لو وقع ما يخوفونه من رجوعهم ، فقال معبراً بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال : ( وإن يأتِ الأحزاب ) أي بعد ما ذهبوا ) يودّوا ) أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف ) لو أنهم بادون ) أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال ) في الأعراب ( الذين هم عندهم في محل النقص ، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالاً ؛ ثم ذكر حال فاعل ( بادون ) فقال : ( يسألون ( كل وقت ) عن أنبائكم ( العظيمة معهم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً ، كأنهم مهتمون بكم ، يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا ، ويكابروا على ذلك من غير استيحاء لأن النفاق صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه ، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب ( يسألون ) بالتشديد ) ولو ) أي والحال أنهم لو ) كانوا فيكم ) أي حاضرين لحربهم ) ما قاتلوا ) أي معكم ) إلأ قليلاً ( نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى ، والتعويق لغيرهم بالفعل كرة ، والتصريح بالقول أخرى .
الأحزاب : ( 21 - 24 ) لقد كان لكم. .. . .
) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة ، أقبل عليهم إقبالاً(6/90)
صفحة رقم 91
يدلهم على تناهي الغضب ، فقال مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم : ( لقد كان لكم ( أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم ) في رسول الله ( الذي جاء عنه لإنقاذكم من كل ما يسوءكم ، وجلاله من جلاله المحيط بكل جلال ، وكماله من كماله العالي على كل كمال ، وهو أشرف الخلائق ، فرضيتم مخالطة الأجلاف بدل الكون معه ) أسوة ) أي قدوة عظيمة - على قراءة عاصم بضم الهمزة ، وفي أدنى المراتب - على قراءة الباقين بالكسر ، تساوون أنفسكم به وهو أعلى الناس قدراً يجب على كل أحد أن يفدي ظفره الشريف ولو بعينه فضلاً عن أن يسوي نفسه بنفسه ، فيكون معه في كل أمر يكون فيه ، لا يختلف عنه أصلاً ) حسنة ( على قراءة الجماعة بمطلق الصبر في البأساء وأحسنية على قراءة عاصم بالصبر على الجراح في نفسه والإصابة في عمه وأعزّ أهله وجميع ما كان يفعل في مقاساة الشدائد ، ولقاء الأقران ، والنصيحة لله ولنفسه وللمؤمنين ، وعبر عنه بوصف الرسالة لأنه حظ الخلق منه ليقتدوا بأفعاله وأقواله ، ويتخلفوا بأخلاقه وأحواله ، ونبه على ان الذي يحمل على التآسي به ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هو الصدق في الإيمان ولا سيما الإيمان بالقيامة ، وأن الموجب للرضا جبلة له ) يرجوا الله ) أي في جبلته أنه يجدد الرجاء مستمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه فيأمل إسعاده ويخشى إبعاده ) واليوم الآخر ( الذي لا بد من إيجاده ومجازاة الخلائق فيه بإعمالهم ، فمن كان كذلك حمله رجاؤه على كل خير ، ومنعه من كل شر ، فإنه يوم التغابن ، لأن الحياة فيه دائمة ، والكسر فيه لا يجبر .
ولما عبر بالمضارع المقتضي لدوام التجدد اللازم منه دوام الاتصاف الناشئ عن المراقبة لأنه في جبلته ، أنتج ان يقال : فأسى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تصديقاً لما في جبلته من الرجاء ، فعطف عليه ، أو على ( كان ) المقتضيه للرسوخ قوله : ( وذكر الله ( الذي له صفات الكمال ، وقيده بقوله : ( كثيراً ( تحقيقاً لما ذكر من معنى الرجاء الذي به الفلاح ، وأن المراد منه الدائم في حالي السراء والضراء .
ولما أخبر عما حصل في هذه الوقعة من الشدائد الناشئة عن الرعب لعامة الناس ، وخص من بينهم المنافقين بما ختمه بالملامة في ترك التأسي بمن أعطاء الله قيادهم ، وأعلاه عليهم في الثبات والذكر ، وختم بما يثمر الرسوخ في الدين ، ذكر حال الراسخين في أوصاف الكمال المتأسين بالداعي ، المتفقين للهادي ، فقال عاطفاً على ) هنالك ابتلى المؤمون ( : ( ولما رأى المؤمنون ) أي الكاملون في الإيمان ) الأحزاب ( الذين أدهشت رؤيتهم القلوب ) قالوا ) أي مع ما حصل لهم من الزلزال(6/91)
صفحة رقم 92
وتعاظم الأخوال : ( هذا ) أي الذي نراه من الهول ) ما وعدنا ( من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان ) الله ( الذي له الأمر كله ) ورسوله ( المبلغ عنه في نحو قوله :
77 ( ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ( ) 7
[ البقرة : 214 ]
77 ( ) أحسب الناس أن يتركوا ( ) 7
[ العنكبوت : 2 ]
77 ( ) أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ( ) 7
[ التوبة : 16 ] وأمثال ذلك ، فسموا المس بالبأساء والضراء ، والابتلاء بالزلزال والأعداء ، وعداً لعملهم بما لهم عليه عند الله ، ولا سيما في يوم الجزاء ، وما يعقبه من النصر ، عند اشتداد الأمر .
ولما كان هذا معناه التصديق ، أزالوا عنه احتمال أن يكون أمراً اتفاقياً ، وصرحوا به على وجه يفهم الدعاء بالنصر الموعود به في قولهم عطفاً على هذا : ( وصدق ( مطبقاً لا بالنسبة إلى مفعول معين ) الله ( الذي له صفات الكمال ) ورسوله ( الذي كماله من كماله ، أي ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل وعدا به من السراء والضراء مما رأيناه .
وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره ، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما .
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين ، أكده لظن المنافقين ذلك ، فقال سبحانه شاهداً لهم : ( وما زادهم ) أي ما رأوه من أمرهم المرعب ) إلا إيماناً ) أي بالله ورسوله بقلوبهم ، وأبلغ سبحانه في وصفهم بالإسلام ، فعبر بصيغة التفعيل فقال : ( وتسليماً ) أي لهما بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر ، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة الفرقان
77 ( ) ويجعل لك قصورا ( ) 7
[ الفرقان : 10 ] ما هو من شرح هذا .
ولما كان كل من آمن بائعاً نفسه وماله لله ، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وكان فعل أبو بكر رضي الله عنه ، أما في ماله فبالخروج عنه كله ، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال ، حتى كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول له في بعض المواطن : ( الزم مكانك وأمتعنا بنفسك ) ، ( ويقول له ولعمر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر ، والرصد فيتقدم ، وما عن الجوانب فيصير إليها ، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله لتنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم ، وترغيباً لغيرهم(6/92)
صفحة رقم 93
فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال : ( من المؤمنين ) أي الكمل ) رجال ) أي في غاية العظمة عندنا ، ثم وصفهم بقوله : ( صدقوا ( ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية ، والأخلاق الزكية ، لشدة ذكرهم له ومحافظتهم على الوفاء به ، وتصوره لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم ، يتقاضاهم الصدق ، عدى الفعل إليه فقال : ( ما عاهدوا الله ( المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة ) عليه ) أي من بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء ، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن المنذر رضي الله عنه ، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح ، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ( ) 7
[ الأنفال : 27 ] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده الشريفة .
ولما ذكر الصادقين ، وكان ربما فهم أن الصدق لا يكون إلا بالقتل ، قسمهم قسمين مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله : ( فمنهم من قضى ) أي أعطى ) نحبه ) أي نذره في معاهدته ، أنه ينصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويموت دونه ، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً ، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير وعبدالله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر الذي غاب من غزوة بدر فقال : غبت عن أول قتال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لئن أشهدني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع ، فلما انهزم من انهزم في غزوة أحد قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين .
وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر ) من المؤمنين رجال ( ( - انتهى ، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها ، وسعد بن معاذ ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في بني قريظة بالقتل والسبي ، ولم يرع لهم حلفهم لقومه ، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبدالله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضباً لله ولرسوله رضي الله عنه ، وممن لم يقتل في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم ثبت في أحد وفعل ما لم يفعله غيره ، لزم(6/93)
صفحة رقم 94
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يفارقه ، وذب عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ممن قضى نحبه ، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت ، وأصل النحب الاجتهاد في العمل ، ومن هنا استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك ) ومنهم ) أي الصادقين ) من ينتظر ( قضاء النحب إما بالنصرة ، أو الموت على الشهادة ، أو مطلق المتابعة الكاملة .
ولما كان المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان ، أكد قوله تعريضاً بهم : ( وما بدلوا تبدبيلاً ) أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفرتة أو توان ، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق ، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم ، روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : لما نسخنا الصحف بالمصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شهادته شهادة رجلين ) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ( .
وقوله : ( نسخنا الصحف ) التي كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد موت عمر رضي الله عنه ( في المصاحف ) التي أمر بها عثمان رضي الله عنه ، وقوله : ( لم أجدها ) أي مكتوبة بدليل حفظه لها ، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف .
بل ضموا إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين .
ولما كان كأنه : قد فهم من سياق هذه القصة أن القصد الإقبال عليه سبحانه ، وقطع جميع العلائق من غيره ، لأنه قادر على كل شيء ، فهو يكفي من أقبل عليه كل مهم وإن كان في غاية العجز ، لأنه قادر على كل شيء ، فهو يكفي من أقبل عليه كل بالاتفاق على كلمة السلام ، لتحصل الراحة من هذا العناء كله ، فأجيب بأن هذا لتظهر صفة العز والعظمة والعدل وغيرها ظهوراً تاماً إلى غير ذلك من حكم ينكشف عنها الحجاب ، وترفع لتجليها غاية التجلي ستور الأسباب ، فقال تعالى معلقاً بقوله : ( جاءتكم جنود ( : ( ليجزي الله ) أي الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً ) الصادقين ( في ادعاء أنهم آمنوا به ) بصدقهم ( فيعلي أمرهم في الدنيا وينعمهم في الأخرى ، فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له ) ويعذب المنافقين ( في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال ) إن(6/94)
صفحة رقم 95
شاء ( يعذبهم على النفاق ) أو يتوب عليهم ) أي بما يرون من صدقه سبحانه في إعزاز أوليائه وإذلال أعدائه بقدرته التامة حيث كانوا قاطعين بخلاف ذلك .
ولما كانت توبة المنافقين مستعبدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم ، قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد : ( إن الله ) أي بما من الجلال والجمال ) كان ( أزلاً وأبداً ) غفوراً رحيماً ( يستر الذنب وينعم على صاحبه بالكرامة ، أما في الإثابة لكل فالرحمة عامة ، وأما في تعذيب المنافق فيخص الصادقين ، لأن عذاب أعدائهم من أعظم نعيمهم ، وفي حكمه بالعدل عموم الرحمة أيضاً ، فهو لا يعذب أحداً فوق ما يستحق .
الأحزاب : ( 25 - 27 ) ورد الله الذين. .. . .
) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ( ( )
ولما ذكرهم سبحانه نعمته بما أرسل على أعدائهم من جنوده ، وبين أحوال المنافقين والصادقين وما له في ذلك من الأسرار ، وختم بهاتين الصفتين ، قال مذكراً بأثرهما فيما خرقه من العادة بصرف الأعداء على كثرتهم وقوتهم على حالة لا يرضاها لنفسه عاقل ، عاطفاً من قوله في أول السورة والقصة ) فأرسلنا ( : ( ورد الله ) أي بما له من صفات الكمال ) الذين كفرورا ) أي ستروا ما دلت عليه شموس عقولهم من ادلة الوحدانية وحقية الرسالة ، وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين ، حال كونهم ) بغيظهم ( الذي أوجب لهم التحزب ثم الذي أوجب لهم التفرق من غير طائل حال كونهم ) لم ينالوا خيراً ( لا من الدين ولا من الدنيا ، بل خذلهم بكل اعتبار .
ولما كان الرد قد يكون بسبب من عدوهم ، بين أن الأمر ليس كذلك فقال : ( وكفى الله ) أي العظيم بقوته وعزته عباده ، ودل على أنه ما فعل ذلك إلا لأجل أهل الإخلاص فقال : ( المؤمنين القتال ( بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريخ والجنود من الملائكة وغيرهم منهم نعيم بن مسعود كما تقدم .
ولما كان هذا أمرأ باهراً ، أتبعه ما يدل على أنه عنده يسير فقال : ( وكان الله ) أي الذي له كل صفة كمال دائماً أزلاً وأبداً ) قوياً ( لا يعجزه شيء ) عزيزاً ( يغلب كل شيء .(6/95)
صفحة رقم 96
ولما أتم أمر الأحزاب ، أتبعه حال الذين ألّبوهم ، وكانوا سبباً في إيتانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك ، ونفضوا ما كان لهم من عهد ، فقال : ( وأنزل الذين ظاهروهم ) أي عاونوا الأحزاب ، ثم بينهم بقوله مبغضاً : ( من أهل الكتاب ( وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي ، وكان ذلك بعد إخراج بني قنيقاع وبني النضير ) من صياصيهم ) أي حصونهم العالمية ، جمع صيصية وهي كل ما يتمنع به من قرون البقر وغيرها مما شبه بها من الحصون .
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً ، وكان على وجوه شتى ، فلم يكن صريحاً في الإذلال ، فتشوفت النفس إلى بيان حاله ، بين أنه الذي فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد : ( وقذف في قلوبهم الرعب ) أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال ، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفؤائد ، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال .
ولما ذكر ما أذلهم به ، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال : ( فريقاً ( فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين : ( تقتلون ( وهم الرجال ، وكان نحو سبعمائة .
ولما بدأ بما يدل على التقسيم مما منه الفرقة ، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب ، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال : ( وتأسرون فريقاً ( وهو الذراري والنساء ، ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم ، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم .
ولما ذكر الناطق بقسميه ، ذكر الصامت فقال : ( وأوثكم أرضهم ( من الحدائق وغيرها ؛ ولما هم خص بقوله : ( وديارهم ( لأنه يحامي عليها ما لا يحامي على غيرها ؛ ثم عم بقوله : ( وأموالهم ( مما تقدم ومن غيره من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها ، فقسم ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للفارس ثلاثة أسهم : الفرس سهمان وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي ، واصطفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة .
إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فتلبثت قليلاً ، ثم أسلمت ، فأراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف عليّ وعليك ، فتركها حتى توفي عنها في ملكه رضي الله عنها .(6/96)
صفحة رقم 97
ولما كانت هذه غزوة طار رعبها في الآفاق ، وأذلت أهل الشرك من الأميين وغيرهم على الإطلاق ، ونشرت ألوية النصر فخفقت أعلامها في جميع الآفاق ، وأغمدت سيف الكفر وسلت صارم الإيمان للرؤوس والأعناق ، حتى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أبصر الناس بالحروب ، وأنفذهم رأياً لما له من الثبات عند اشتداد الكروب : ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ) عليها وإعطائكم القوة القريبة ومن فتحها ، وهي أرض خيبر أولاً ، ثم أرض مكة ثانياً ثم أرض فارس والروم وغيرهما مما فتحه الله بعد ذلك ، وكان قد حكم به في هذه الغزوة حين أبرق تلك البرقات للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حفر الخندق ، فأراه في الأولى اليمن ، وفي الأخرى فارس ، وفي الأخرى الروم .
الأحزاب : ( 28 - 31 ) يا أيها النبي. .. . .
) يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ينِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ( } )
ولما تقرر بهذه الوقائع - التي نصر فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها ، وأمور خفية رتبها ، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة ، والملوك المتجبرة المستكبرة - ما قدم من انه كافي من توكل عليه ، وأقبل بكليته إليه ، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة ، تحرر أنه قادر على كل ما يريده ، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض ، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن يرمق بوجه ما سواه ، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه ، ومن أعرض عنه فإنما وبال إعراضه على نفسه ، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض ، كما أنه لا نفع له بإقبال ذلك المقبل ، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده ، لأن كل أمرها إلى زوال وتلاش واضمحلال ، ولا يعلق همته بذلك إلا قاصر ضال ، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه ، وأعزهم منزلة(6/97)
صفحة رقم 98
لديه ، المعلوم امتثالاً للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف ، والقناعة والعفاف ، بتخيير ألصق الناس به تأديباً لكافة الناس ، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم : ( يا أيها النبي ( ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب ، وخفايا الغيوب ، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف ، ولا يعلق عن شيء من ذلك بشيء من أذى : ( قل لأزواجك ) أي نسائك : ( إن كنتن ) أي كوناً راسخاً ) تردن ) أي اختياراً عليّ ) الحياة ( ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال : ( الدنيا ) أي ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة ) وزينتها ) أي المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه ، لأنها قاطعة عنه ) فتعالين ( أصله أن الأمر يكون أعلى من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه : أقبل ، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره ) أمتعكن ) أي بما أحسن به إليكن ) وأسرحكن ) أي من حباله عصمتي ) سراحاً جميلاً ) أي ليس فيه مضارة ، ولا نوع حقد ولا مقاهرة ) وإن كنتن ( بما لكن من الجبلة ) تردن الله ) أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال ) ورسوله ( المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً ، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله ) والدار الآخرة ( التي هي الحيوان بما لها من البقاء ، والعلو والارتقاء .
ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم ، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا والآخرة ) للمحسنات منكن ) أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره ) أجراً عظيماً ) أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة .
ولما أتى سبحانه بهذه العبارة الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيباً في ترغيب ، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عرض عليهن رضي الله عنهن ذلك ، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها وعن أبيها وقال لها : ( إني قائل لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك )(6/98)
صفحة رقم 99
فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر : أفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن بعائشة رضي الله عنهن فكانت لهن إماماً فنالت إلى أجرها مثل أجورهن - روى ذلك البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها ، وسبب ذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وجد على نسائه رضي الله عنهن فآلى منهن شهراً ، فلما انقضى الشهر نزل إليهن من غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله عليه الآيات .
فخيرهن فاخترنه رضي الله عنهن ، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة ، وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يحب التوسع في الدنيا ، روى الشيخان رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; وروى الحديث البيهقي ولفظه : قالت : ما شبع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا ، ولكنه كان يؤثر على نفسه ، وروى الطبراني في الأوسط عنها أيضاً رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع لبنة على لبنة وا قصبة على قصبة ، رفع له علم فشمر إليه ، اليوم المضمار وغداً السباق ، والغاية الجنة أو النار ) ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه لا يقبل قول إلا ببيان ، قال سبحانه متهدداً على ما قد أعاذهن الله منه ، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن ، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتباراً بلفظ ( من ) والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف ، ومعلمة بأنها إنما تكون سبباً للإضعاف : ( يا نساء النبي ) أي المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه ) من يأتِ ( قراءة شاذة نقلها وكذا ( يقنت ) ) منكن فاحشة ) أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك ) مبينة ) أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك ) يضاعف لها(6/99)
صفحة رقم 100
العذاب ) أي بسبب ذلك ، ولما هول الأمر بالمفاعلة في قراءة نافع المفهمة لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة ، سهله بقوله : ( ضعفين ) أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي ما للعبد ، وكما جعل أجرهن مرتين .
واشتد العتاب فيما بين الأحباب ، وعلى قدر علو المقام يكون الملام ، وبقدر النعمة تكون النقمة ، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو التفعيل لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن وكثير وابن عامر يدل على عظمته سبحانه ، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله عمدة الكلام وصاحب الجملة بإسناد الفعل إليه ، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه ، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء لم يكن ، ولذلك قال : ( وكان ذلك ) أي مع كونه عظيماً عندكم ) على الله يسيرا ( فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة .
ولما قدم درء المفاسد الذي هو من باب التخلي ، أتبعه جلب المصالح الذي هو من طراز التحلي فقال : ( ومن يقنت ) أي يخلص الطاعة ، وتقدم توجيه قراءة يعقوب بالفوقانية على ما حكاه البغوي والأهوازي في الشواذ عن ابن مسلم ) منكن لله ( الذي هو أهل لئلا يلتفت إلى غيره لأنه لا أعظم منه بإدامة الطاعة فلا يخرج عن مراقبته أصلاً ) ورسوله ( فلا تغاضبه ولا تطلب منه شيئاً ، ولا تختار عيشاً غير عيشه ، فإنه يجب على كل أحد تصفية فكره ، وتهدئه باله وسره ، ليتمكن غاية التمكن من إنقاذ أوامرنا والقيام بما أرسلناه بسببه من رحمة العباد ، بإنقاذهم مما هم فيه من الأنكاد .
ولما كان ذلك قد يفهم الاقتصار على عمل القلب قال : ( وتعمل ( قرأها حمزة والكسائي بالتحتانية رداً على لفظ ( من ) حثاً لهن على منازل الرجال ، وقراءة الجماعة بالفوقانية على معناها على الأصل مشيرة إلى الرفق بهن في عمل الجوارح والرضى بالمستطاع كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وأما عمل القلب فلا رضى فيه بدون الغاية ، فلذا كان ( يقنت ) مذكراً لا من العظمة على قراءة الجماعة بالنون ، وقراءة حمزة والكسائي بالتحتانية على أن الضمير لله ) أجرها مرتين ) أي بالنسبة إلى أجر غيرها من نساء بقية الناس ) وأعتدنا ) أي هيأنا(6/100)
صفحة رقم 101
بما لنا من العظمة وأحضرنا ) لها ( بسبب قناعتها مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة ) رزقاً كريماً ) أي في الدنيا والآخرة ، فلا شيء أكرم منه لأن ما في الدنيا منه يوفق لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ، ولا يخشى من أجله نوع عتاب فضلاً عن عقاب ، وما في الآخرة منه لا يوصف ولا يحد ، ولا نكد أصلاً ولا كد .
الأحزاب : ( 32 - 35 ) يا نساء النبي. .. . .
) ينِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( ( )
ولما كان لكل حق حقيقة ، ولكل قول صادق بيان ، قال مؤذناً بفضلهن : ( يا نساء النبي ) أي الذي لأنتن من أعلم الناس بما بينه وبين الله من الإنباء بدقائق الأمور وخفايا الأسرار وما له من الزلفى لديه ) لستن كأحد من النساء ( قال البغوي : ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث - انتهى ، فالمعنى كجماعات من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة دماعة لم توجد فيهن جماعة تساويكن في الفضل لما خصكن الله به من قربة بقرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ونزول الوحي الذي بينه وبين الله في بيوتكن .
ولما كان المعنى : بل أنتن أعلى النساء ، ذكر شرط ذلك فقال : ( إن اتقيتن ) أي جعلتن بينكن وبين غضب الله وغضب رسوله وقاية ، ثم سبب عن هذا النفي قوله : ( فلا تخضعن ) أي إذا تكلمتن بحضرة أجنبي ) بالقول ) أي بأن يكون لينا عذباً رخماً ، والخضوع التطامن والتواضع واللين والدعوة إلى السواء ؛ ثم سبب عن الخضوع : قوله : للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة ، لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه ، فأريد من نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التكلف للإيتان بضده .(6/101)
صفحة رقم 102
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخامة الصوت ، أمرهن بضده فقال : ( وقلن قولاً معروفاً ) أي يعرف أنه بعيد عن محل الطمع .
ولما تقدم إليهن في القول وقدمه لعمومه ، أتبعه الفعل فقال : ( وقرن ) أي اسكنّ وامكثن دائماَ ) في بيوتكن ( فمن كسر القاف وهو غير المدنيين وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين ، ومن فتحه عنده قرر بكسرها ، وهما لغتان .
ولما أمرهن بالقرار ، نهاهن عن ضده مبشعاً له ، فقال : ( ولا تبرجن ) أي تظاهرن من البيوت بغير حاجة محوجة ، فهو من وادي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهن بعد حجة الوداع بلزوم ظهور الحصر ) تبرج الجاهلية الأولى ) أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب ، بالخروج من بيت والدخول في آخر ، والأولى لا تقتضي أخرى كما ذكره البغوي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها ما بين نوح وإدريس عليهما السلام ، تبرج فيها نساء السهول - وكن صباحاً وفي رجالهن دمامة - لرجال الجبال وكانوا صباحاً وفي نسائهن دمامة ، فكثر الفساد ، وعلى هذا فلها ثانية .
ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب ، أرشدهن إلى التحلية بالرغائب ، فقال : ( وأقمن الصلاة ) أي فرضاً ونفلاً ، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) وآتين الزكاة ( إحساناً إلى الخلائق ، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن ، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة .
واما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما ، عم وجمع في قوله : ( إنما يريد الله ) أي وهو ذو الجلال والجمال بما أمركم به ونهاءكم عنه من الإعراض عن الزينة وما تبعها ، والإقبال عليه ، عزوفكم عن الدنيا وكل ما تكون سبباً له ) ليذهب ) أي لأجل أن يذهب ) عنكم الرجس ) أي الأمر الذي يلزمه دائماً الاستقرار والاضطراب من مذام الأخلاق كلها ) أهل ( يا أهل ) البيت ) أي من كل من تكون من إلزام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الرجال والنساء من الأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخص وألزم ، كان بالإدارة أحق وأجدر .(6/102)
صفحة رقم 103
ولما استعار للمعصية الرجس ، استعار للطاعة الطهر ، ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة ، في الطاعة ، وتنفيراً لهم عن المعصية فقال : ( ويطهركم ) أي يفعل في طهركم بالصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه ، وزاد ذلك عظماً بالمصدر فقال : ( تطهيراً ( .
ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير ، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة ما يتكرر من تردد الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن ، فقال مخصصاً من السياق لأجلهن رضي الله عنهن ، منبهاً لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار : ( واذكرن ) أي في أنفسكن ذكراً دائماً ، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم .
ولما كانت العناية بالمتلو ، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانياً للمفعول : ( ما يتلى ) أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به ، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال : ( في بيوتكن ) أي بواسطة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي خيركن ) من آيات الله ( الذي لا أعظم منه .
ولما كان المراد بذلك القرآن ، عطف عليه ما هو أعم منه ، فقال مبيناً لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتماداً على أن العامل فيه معروف لأن التلاوة لا يقال في غير الكتاب : ( والحكمة ) أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم ، ولا تنسين شيئاً من ذلك .
ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا ، وكانمت الحكمة منفردة عنها ، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا ، فقال مؤكداً ردعاً لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر : ( إن الله ) أي والذي له جميع العظمة ) كان ) أي لم يزل ) لطيفاً ) أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد ) خبيراً ) أي يدق علمه عن إدراك الأفكار ، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالباً لها على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق ، ويعلم من يصلح لبيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن لا يصلح ، وما يصلح الناس دنيا وديناً وما لا يصلحهم ، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس ( من انقطع إلى الله كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ) رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضي الله عنه ( من توكل على الله كفاه ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ) - رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضي الله عنه أيضاً ، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك خيبر ، فأفاض(6/103)
صفحة رقم 104
بها ما شاء من رزقه الواسع ، ثم لما توفي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليحيمه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن ، فعم الفتح جميع الأقطار : الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ومكن أصحاب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من كنوز جميع تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلاً ، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء ، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم ، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه : لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب منازلهم بحيث أرضى جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم ، فقال عمر رضي الله عنه : إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم ، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه ، ولكن قد علمت أن فيه فضلاً ، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه غنماً ، فجعلها بسوادكم ، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها ، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه ، فإني لا أدري ما يكون بعدي ، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من مات غاشاً لرعيته لم يرح ريح الجنة ) ، فكان فرضه لأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اثني عشر ألفاً لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة ، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إياها ، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها ، وروى عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج عطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني ، قالوا : هذا كله لك يا أم المؤمنين ، قالت : سبحان الله واستترت منه بثوب ، ثم قالت : صبوه واطرحوه عليه ثوباً ، ثم قالت لي : ادخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها ، فقسمه حتى بقيت منه بقية تحت الثوب ، قالت برزة بنت رافع : فقلت : غفر الله له يا أم المؤمنين ، والله لقد كان لنا في هذا المال حق ، قالت : فلكم ما تحت الثوب ، فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً ، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا ، فماتت - ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد .(6/104)
صفحة رقم 105
ولما حث سبحانه على المكارم والأخلاق الزاكية ، وختم بالتذكير بالآيات والحكمة ، أتبعه لمن تلبس من أهل البيت بما يدعو إليه ذلك من صفات الكمال ، وبكنه ذكره على وجه يعم غيرهم من ذكر وأنثى مشاكلة لعموم الدعوة وشمول الرسالة ، فقال جواباً لقول النساء : يا رسول الله ذكر الله الرجال ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعة ، بادئاً الوصف الأول الأعم الأشهر من أوصاف أهل هذا الدين مؤكداً لأجل كثرة المنافقين المكذبين بمضمون هذا الخبر وغيرهم من المصارحين : ( إن المسلمين ( ولما كان اختلاف النوع موجباً للعطف ، قال معلماً بالتشريك في الحكم : ( والمسلمات ( .
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط ، أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان ، فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكين الجامعين لهذه الأوصاف من كل وصف منها : ( والمؤمنين والمؤمنات ( ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال : ( والقانتين ) أي المخلصين في إيمانهم وإسلامهم ) والقانتات ( ولما كان القنوت كما يطلق على الإخلاص المقتضي للمداولة قد يطلق على مطلق الطاعة قال : ( والصادقين ( في ذلك كله ) والصادقات ) أي في إخلاصهم في الطاعة ، وذلك يقتضي الدوام .
ولما كان الصدق - وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه - قد لا يكون دائماً ، قال مسيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع : ( والصابرين والصابرات ( ولما كان الصبر قد يكون سجية ، دل على صرفه إلى الله بقوله : ( والخاشعين والخاشعات ( ولما كان الخشوع - وهو الخضوع والإخبات والسكون - لا يصح مع توفير المال فإنه سيكون إليه ، قال معلماً أنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته : ( والمتصدقين ) أي المنفقين أموالهم في رضى الله بغاية الجهد من نفوسهم بما أشار إليه إظهار التاء فرضاً وتطوعاً سراً وعلانية بما أرشد إليه الإظهار أيضاً تصديقاً لخشوعهم ) والمتصدقات ( .
ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار ، أتبعه ما يعين عليه فقال : ( والصائمين ) أي تطوعاً للإيثار بالقوت وغير ذلك ) والصائمات ( ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها ، قال : ( والحافظين فروجهم ) أي عما لا يحل لهم بالصوم وما أثاره الصوم ) والحافظات ( ولما كان حفظ الفروج وسائر الأعمال لا تكاد توجد إلا بالذكر .
وهو الذي فيه المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة(6/105)
صفحة رقم 106
المحيية بالفناء قال : ( والذاكرين الله ) أي مع استحضار ما له من الكمال بصفات الجلال والجمال ) كثيراً ( بالقلب واللسان في كل حالة ) والذاكرات ( ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم .
ولما كان المطيع وإن جاوز الحد في الاجتهاد مقتصراً عن بلوغ ما يحق له ، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله مكرراً الاسم الأعظم إشارة إلى ذلك وإلى صغر الذنوب إذا نسبت إلى عفوه : ( أعد الله ) أي الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يتعاظمه شيء ) لهم مغفرة ) أي لهفواتهم وما أتوه من سيئاتهم بحيث يمحو عينه وأثره ، فلا عتاب ولا عقاب ، ولا ذكر له سبب من الأسباب .
ولما ذكر الفضل بالتجاوز ، أتبعه التفضل بالكرم والرحمة فقال : ( وأجراً عظيماً ( وإعداد الأجر يدل على أن المراد بهذه الأوصاف اجتماعها لأن مظهر الإسلام نفاقاً كافر ، وتارك شيء والرسوخ في كل وصف منها زيادة على التمكن الذي أفاده التعبير بالوصف دون الفعل ، وحينئذ تعدم الكبائر فيتأتى تكفير الصغائر ، فتأتي المغفرة والأجر ، وأما آية التحريم فلم تعطف لئلا يظن أنهن أنواع كل نوع يتفرد بوصف ، وإفادة الرسوخ هنا في الأوصاف من سياق الامتنان والمدح بكونهن خيراً .
الأحزاب : ( 36 - 39 ) وما كان لمؤمن. .. . .
) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ( ( )
ولما كان الله سبحانه قد قدم قوله : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( - الآية ، فعلم قطعاً أنه تسبب عنها ما تقديره : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة لأن يكون له ولي غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فطوى ذلك للعلم به ، واستدل على مضمون الآية وما قبلها بقصة الأحزاب ، وأتبعها نتيجة ذلك مما ذكر تأديب الأزواج له ( صلى الله عليه وسلم ) وتهذبيهن لأجله وتطهير أهل بيته وتكريمهم حتى ختم سبحانه بالصفات العشر التي بدأها بالإسلام الذي ليس معه شيء(6/106)
صفحة رقم 107
من الإباء ، وختمها بأن ذكر الله يكون ملء القلب والفم وهو داعٍ إلى مثل ذلك لأنه سبب الإسلام ، عطف على مسبب آية الولاية ما يقتضيه كثرة الذكر من قوله : ( وما كان ( .
ولما كان الإيمان قد يدعى كذباً لخفاء به ، قال : ( لمؤمن ) أي من عبد الله بن جحش وزيد وغيرهما ) ولا مؤمنة ) أي من زينب وغيرها ، فعلق الأمر بالإيمان إعلاماً بأن من اعتراض غير مؤمن وإن ظهر الإيمان بلسانه ) إذا قضى الله ) أي الملك الأعظم الذي لا ينبغي لعاقل التوقف في أمره ) ورسوله ( الذي لا يعرف قضاؤه إلا به ) أمرأ ) أي أيّ أمر كان .
ولما كان المراد كل مؤمن ، والعبارة صالحة له ، وكان النفي عن المجموع كله نفياً عما قل عنه من باب الأولى ، قال : ( أن تكون ) أي كوناً راسخاً على قراءة الجماعة بالفوقانية ، وفي غاية الرسوخ على قراءة الكوفيين بالتحتانية ) لهم ) أي خاصة ) الخيرة ( مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس ) من أمرهم ) أي الخاص بهم باستخارة لله ولا بغيرها ليفعلوا خلاف ذلك القضاء ، فإن المراد بالاستخارة ظن ما اختاره الله ، ولا بغيرها ليفعلوا خلاف ذلك القضاء ، فإن المراد بالاستخارة ظن ما اختاره الله ، وإخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قطعي الدلالة على ما اختاره الله تعالى ، وفي هذا عتاب لزينب رضي الله عنها على تعليق الإجابة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ما خطبها لنفسه الشريفة على الاستخارة ، وعلى كراهتها عند ما خطبها لزيد مولاه ، ولكنها لما قدمت بعد نزول الآية خيرته ( صلى الله عليه وسلم ) في تزويجها من زيد رضي الله عنهما على خيرتها ، عوضها الله أن صيرها لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه في الجنة في أعلى الدرجات ، فالخيرة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا ينطق عن الهوى ، فمن فعل غير ذلك فقد قضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن عصاه عصى الله لأنه لا ينطق إلا عنه ) ومن يعص الله ) أي الذي لا أمر لأحد معه ) ورسوله ) أي الذي معصيته معصيته لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم ) فقد ضل ( وأكده المصدر فقال : ( ضلالاً ( وزاده بقوله : ( مبيناً ) أي لا خفاء به ، فالواجب على كل أحد أن يكون معه ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما يختاره وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلفاً بقول الشاعر حيث قال :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ما من يهون عليك ممن يكرم
ولما كان قد أخبره سبحانه - كما رواه البغوي وغيره عن سفيان بن عيينة عن علي ابن جدعان عن زيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - أن زينب رضي الله عنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها ، وأخفى في نفسه ذلك تكرماً وخشية من قاله(6/107)
صفحة رقم 108
الناس أنه يريد نكاح زوجة ابنه ، وكان في إظهار ذلك أعلام من أعلام النبوة ، وكان مبنى أمر الرسالة على إبلاغ الناس ما أعلم الله به أحبوه أو كرهوه ، وأن لا يرعى غيره ، ولا يلتفت إلى سواه وإن كان في ذلك خوف ذهاب النفس ، فإنه كافٍ من أراد بعزته ، ومتقن من أراد بحكمته ، كما أخذ الله الميثاق به من النبين كلهم ومن محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) فكان من المعلوم أن التقدير : اذكر ما أخذنا منك ومن النبيين من الميثاق على إبلاغ كل شيء أخبرناكم به ولم ننهكم من إفشائه وما أخذنا على الخلق في كل من طاعتك ومعصيتك ، عطف عليه قوله : ( وإذ تقول ( وذلك لأن الأكمل يعاتب على بعض الكمالات لعلو درجته عنها وتحليه بأكمل منها من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ، وبين شرفه بقوله : ( للذي أنعم الله ) أي الملك الذي له كل كمال ) عليه ) أي بالإسلام وتولى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) إياه بعد الإيجاد والتربية ، وبين منزلته من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( وأنعمت عليه ) أي بالعتق والتبني حين استشارك في فراق زوجه الذي أخبرك الله أنه يفارقها وتصير زوجتك : ( أمسك عليك زوجك ) أي زينب ) واتق الله ) أي الذي له جميع العظمة في جميع أمرك لا سيما ما يتعلق بحقوقها ولا تغبنها بقولك : إنها تترفع عليّ - ونحو ذلك ) وتخفي ) أي والحال أنك تخفي ، أي تقول له مخفياً ) في نفسك ) أي مما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عن طلاق زيد ) ما الله مبديه ) أي بحمل زيد على تطليقها وإن أمرته أنت بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها ، وهو دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عن طلاق زيد لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه لأنه لا يبدل القول لديه ، روى البخارى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآيات نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما .
ولما ذكر إخفاءه ذلك ، ذكر علته فقال عاطفاً على ( تخفي ) : ( وتخشى الناس ) أي من أن تخبر بما أخبرك الله به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لا سيما اليهود والمنافقون ) والله ) أي والحال أن الذي لا شيء أعظم منه ) أحق أن تخشاه ) أي وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به لشيء يشق عليك حتى(6/108)
صفحة رقم 109
يفرق لك فيه أمر ، قالت عائشة رضي الله عنها : لو كنتم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية .
ولما علم من هذا سبحانه أخبره بأن زيداً سيطلقها وأنها ستصير زوجاً له من طلاق زيد إياها ، سبب عنه قوله عاطفاً عليه : ( فلما قضى زيد منها وطرأ ) أي حاجة من زواجها والدخول بها ، وذلك بانقضاء عدتها منه لأنه به يعرف أنه لا حاجة له فيها ، وأنه قد تقاصرت عنها همته ، وطابت عنها نفسها ، وإلا لراجعها ) زوجناكها ( ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها ، تشريفاً لك ولها ، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به ، وسرت به جميع النفوس ، ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : لما انقضت عدة زينبرضي الله عنها قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لزيد : اذهب فاذكرها علي ، فانطلق زيد رضي الله عنه حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت : يا زينب إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكرك ، قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى اؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل الناس وبقي رجال يتحدثون فذكره ، سيأتي .
وقال البغوي : قال الشعبي : كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، وأني أنكحينك الله في السماء ، وأن السفير لجبريل عليه السلام .
ولما ذكر سبحانه التزويج على ما له من العظمة ، ذكر علته دالاً على أن الأصل مشاركة الأمة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الأحكام وأن لا خصوصية إلا بدليل فقال : ( لكي لا يكون على المؤمنين ) أي الذين أزالت عراقتهم في الإيمان حظوظهم ) حرج ) أي ضيق ) في أزواج أدعيائهم ) أي الذين تبنوا بهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين(6/109)
صفحة رقم 110
على الحقيقة ) إذا قضوا منهن وطرأ ) أي حاجة بالدخول بهن ثم الطلاق وانقضاء العدة .
ولما علم سبحانه أن ناساً يقولون في هذه الواقعة أقوالاً شتى ، دل على ما قاله زين العابدين بقوله : ( وكان أمر الله ) أي من الحكم بتزوجيها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله به كراهية لسوء القالة واستيحاء من ذلك ، وكذا كل أمر يريد سبحانه ) مفعولاً ( لأنه سبحانه له الأمر كله لا راد لأمره ولا معقب لحكمه .
ولما أنتج هذا التسهيل لما كان استصعبه ( صلى الله عليه وسلم ) والتأمين مما كان خافه ، عبرعن ذلك بقوله مؤكداً رداً على من يظن خلاف ذلك : ( ما كان على النبي ) أي الذي منزلته من الله الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره من الخلق ) من حرج فيما فرض ) أي قدر ) الله ( بما له من صفات الكمال وأوجبه ) له ( لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك ، فكيف برأس المؤمنين ، فصار منفياً عن الحرج مرتين خصوصاً بعد عموم تشريفاً له وتنويهاً بشأنه ولما كان مما يهون الأمور الصعاب المشاركة فيها فكيف إذا كانت المشاركة من الأكابر ، قال واضعاً الأسم موضع مصدره : ( سنة الله ) أي سن الملك الذي إذا سن شيئاً أتقنه بما له من العزة والحكمة فلم يقدر أحد أن يغير شيئاً منه ) في الذين خلوا ( وكأنه أراد أن يكون أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام أولى مراد بهذا ، تبكيتاً التوسيع في النكاح لهم ، وهو تكذيب لليهود الذين أنكروا ذلك ، وإظهار لتلبيسهم .
ولما كان المراد بالنسبة الطريق التي قضاها وشرعها قال معلماً بأن هذا الزواج كان أمراً لا بد من وقوعه لإرادته له في الأزل فلا يعترض فيه معترض ببنت شفة يحل به ما يحل بمن اعترض على أوامر الملك ، ولأجل الاهتمام بهذا الإعلام اعترض به بين الصفة الموصوف فقال : ( وكان أمر الله ) أي قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره من كل ما يستحق أن يأمر به ويهدي إليه ويحدث عليه ، وعبر عن السنة بالأمر تأكيداً لانه لا بد منه ) قدراً ( وأكده بقوله : ( مقدوراً ) أي لا خلف فيه ، ولا بد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه ، وهو مؤيد أيضاَ لقول زين العابدين وكذا قوله تعالى واصفاً للذين خلوا : ( الذين يبلغون ) أي إلى أمهم ) رسالات الله ) أي الملك الأعظم سواء كانت في نكاح أو غير شقت أو لا ) ويخشونه ) أي فيخبرون بكل ما أخبرهم به ولم يمنعهم من إفشائه ، ولوّح بعد التصريح في قوله ) وتخشى الناس ( : ( ولا يخشون أحداً ( قلَّ أو جلَّ ) إلا الله ( لأنه ذو الجلال والإكرام .(6/110)
صفحة رقم 111
ولما كان الخوف من الملك العدل إنما هو من حسابه كان التقدير : فيخافون حسابه ، أتبعه فوله : ( وكفى بالله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) حسيباً ) أي مجازياً لكل أحد بما عمل وبالغاً في حسابه الغاية القصوى ، وكافياً من أراد كفايته كل من أراده بسوء .
الأحزاب : ( 40 - 46 ) ما كان محمد. .. . .
) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( ( )
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً ، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما وراه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : تزوج حليلة ابنه ، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال : ( ما كان ) أي بوجه من الوجوه مطلق كون ) محمد ) أي على كثرة نسائه وأولاده ) أبا أحد من رجالكم ( لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة ، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن ، ولم يقل : من بينكم ، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها - ابن ، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام ، ومع ما كان قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم - على جميعهم الصلاة والسلام .
ولما كان بين كونه ( صلى الله عليه وسلم ) أبا لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتما وبين كونه منافاة قال : ( ولكن ( كان في علم الله غيباً وشهادة أنه ) رسول الله ( الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده ، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية ، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك النبوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية ، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوفير والطاعة وحرمة الأزواج ، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به ، وقد بلغكم قوله تعالى : ( ادعوهم لآبائهم ( ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر ، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه .(6/111)
صفحة رقم 112
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوه الرجال قال : ( وخاتم النبيين ) أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن ، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال ، فلا يولد بعده من يكون نبياً ، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد مبلغ الرجال ، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً ، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها ، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته ، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له ، روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في ابنه إبراهيم : ( لو عاش لكان صديقاً نبياً ) وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه : لو قضى أن يكون بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبي لعاش ابنه ، ولكن لا نبي بعده .
والحاصل أن لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً ، فقد آل الأمر إلى أن التقدير : ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان - مع أنه رسول الله - ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها ، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه ، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً ، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان بشر لم يكن إلا ولداً له ، وإنما أوثرت إماتة اولاده عليه الثلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف لها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان ، وذلك لأن فائدة إيتان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله ، وقد حصل به ( صلى الله عليه وسلم ) التمام فلم يبق بعد ذلك مرام ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )(6/112)
صفحة رقم 113
وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله ، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه ، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء ، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) وأما إيتان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فالأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي ، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال :
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل رأى أنه عاش ساواك في العلا فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل
وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ - أي لفظ هذه الآية - ومن قرائن أحواله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً ، وعدم رسول بعده أبداً ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص ، وقال : أن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه ، من أنواع الهذيان ، لا يمنع الحكم بتفكيره ، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد ، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد ، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا ، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه :
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
وقد بان أن إيتان عيسى عليه الصلاة والسلام غير قادح في هذا النص ، فإنه من أمته ( صلى الله عليه وسلم ) المقررين لشريعته ، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن ، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولولا هو لما وجد ، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله ( صلى الله عليه وسلم ) مثله أو أعلى منه ، وقد كانت الأنبياء تأتي مقرره لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها ، فكان المقرر لشريعة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم ، كان التقدير : لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد(6/113)
صفحة رقم 114
ذكر فصير رجلاً ) وكان الله ) أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً ) بكل شيء ( من ذلك وغيره ) عليماً ( فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء ، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر : واختصاصه ( صلى الله عليه وسلم ) بالأحمدية والمحمدية علماً أن الحمد لله رب العالمين ، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام - انتهى .
وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية .
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال ، وكان قد وعد من توكل عليه بأن يكفيه كل مهم ، ودل على ذلك بقصة الأحزاب وغيرها وأمر بطاعة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وتقدم بالوصية التامة في تعظيمه إلى أن أنهى الأمر في إجلاله ، وكانت طاعة العبد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من كل وجه حتى يكون مسلوب الاختبار معه ، فيكون بذلك مسلماً لا يحمل عليها إلا طاعة الله ، وكانت طاعة الله كذلك لا يحمل عليها إلا دوام ذكره ، قال بعد تأكيد زواجه ( صلى الله عليه وسلم ) لزينب رضي الله عنها بأنه هو سبحانه زوجه إياها لأنه قضى أن لا نبوة بينه وبين أحد من رجال أمته توجب حرمة زوج الولد : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك بألسنتهم ) اذكروا ) أي تصديقاً لدعواكم ذلك ) الله ( الذي هو أعظم من كل شيء ) ذكراً كثيراً ) أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها ألسنتكم ، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) حق تعظيمه ، واعتقاد كماله في كل حال ، وأنه لا ينطق عن الهوى ، لتحوزوا مغفرة وأجراً عظيماً ، كما تقدم الوعد به .
ولما كان ثبوت النبوة بين وبين أحد من الرجال خارماً لإحاطة العلم ، وجب تنزيهه سبحانه عن ذلك فقال : ( وسبحوه ) أي عن أن يكون شيء على خلاف ما أخبر به ، وعن كل صفة نقص بعد ما أثبتم به كل صفة للكمال ) بكرة وأصيلاً ) أي في أول النهار وآخره أي دائماً لأن هذين الوقتين إما للشغل الشاغل ابتداء أو انتهاء أو للراحة ، فوجوب الذكر فيهما وجوب له من غيرهما من باب الأولى ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً ، تم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له أحداً لها حداً ينتهي إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله .
وهما أيضاً مشهودان بالملائكة ودالان على الساعة : الثاني قربها بزوال الدنيا كلها ، والأول على البعث بعد الموت ، وبجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر ، لأن المواظبة عليهما - لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري(6/114)
صفحة رقم 115
في وقتيهما من الشغل بالراحة وغيرها - دالة على غاية المحبة للمثول بالحضرات الربانية حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى ، ويؤكد هذا الثاني تعبيره بلفظ الصلاة في تعليل ذلك بدوتم ذكره لنا سبحانه بقوله : ( هو الذي يصلي عليكم ) أي بصفة الرحمانية متحنناً ، لأن المصلي منا يتعطف في الأركان ) وملائكته ) أي كلهم بالاستغفار لكم وحفظكم من كثير من المعاصي والآفات ويتردد بعضهم بينه سبحانه وبين الأنبياء بما ينزل إليهم من الذكر الحافظ من كل سوء فقد اشتركت الصلاتان في إظهار شرف المخاطبين .
ولما كان فعل الملائكة منسبوباً إليه مع كونه الخالق له الآمر به قال : ( ليخرجكم ) أي بذلك ) من الظلمات ) أي الكائنة من الجهل الموجب للضلال ) إلى النور ) أي الناشئ من العلم المثمر للهدى ، فيخرج بعضكم بالفعل من ظلمات المعاضي المقتضية للرين على القلب إلى نور الطاعات ، فتكونوا بذلك مؤمنين ) وكان ) أي ازلاً وأبداً ) بالمؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم ثابتاً خاصة ) رحيماً ) أي بليغ الرحمة يتوفيقهم لفعل ما ترضاه الإلهية ، فإنهم أهل خاصته فيحملهم على الإخلاص في الطاعات ، فيرفع لهم الدرجات في روضات الجنات .
ولما كان أظهر الأوقات في تمرة هذا الوصف ما بعد الموت ، قال تعالى مبيناً لرحمتهم : ( تحيتهم يوم يلقونه ) أي بالموت أو البعث ) سلام ) أي يقولون له ذلك ، ( أنت السلام ومنك السلام فجئنا ربنا السلام ) كما يقوله المحرم المشبه لحال من هو في الحشر فيجابون بالسلام الذي فيه إظهار شرفهم ويأمنون معه من كل عطب ) وأعد ) أي والحال أنه أعد ) لهم ) أي بعد السلامة الدائمة ) أجراً كريماً ) أي غدقاً دائماً لا كدر في شيء منه .
ولما وعظ المؤمنين فيه ( صلى الله عليه وسلم ) له بما أقبل بأسماعهم وقلوبهم إليه ، وختم بما يوجب لهم الفوز بما عنده سبحانه ، وكان معظم ذلك له ( صلى الله عليه وسلم ) فإن رأس المؤمنين ، أقبل بالخطاب عليه ووجهه إليه فقال منوهاً من ذكره ومشيداً من قدره بما ينتظم بقوله ) الذين يبلغون رسالات الله ( الآية وما جرها من العتاب : ( يا أيها النبي ) أي الذي مخبره بما لا يطلع عليه غيره .
ولما كان الكافرون - المجاهرون منهم والمساترون - ينكرون الرسالة وما تبعها ، أكد قوله في أمرها وفخمه فقال : ( إنا أرسلناك ) أي بعظمتنا بما ننبئك به إلى سائر خلقنا ) شاهداً ) أي عليهم ولهم مطلق شهادة ، لأنه لا يعلم بالبواطن إلا الله ، وأنت مقبول الشهادة ، فأبلغهم جميع الرسالة سرهم ذلك أو ساءهم سرك فعلهم أو ساءك .(6/115)
صفحة رقم 116
ولما كان المراد الإعلام برسوخ قدمه في كل من هذه الأوصاف ، عطفها بالواو فقال : ( ومبشراً ) أي لمن لهم يخير بما يسرهم ، وأشار إلى المبالغة في البشارة بالتضعيف لما لها من حسن الأثر في إقبال المدعو وللتضعيف من الدلالة على كثرة الفعل والمفعول بشارة بكثرة التابع وهو السبب لمقصود السورة ، وكانت المبالغة في النذارة أزيد لأنها أبلغ في رد المخالف وهي المقصود بالذات من الرسالة لصعوبة الاجتراء عليها فقال : ( ونذيراً ) أي لمن شهدت عليهم بشر بما يسوءهم ) داعياً ) أي للفريقين ) إلى الله ) أي إلى ما يرضي الذي لا أعظم منه بالقول والفعل ، وأعرى الدعاء عن المبالغة لأنه شامل للبشارة والنذارة والإخبار بالقصص والأمثال ونصب الأحكام والحدود ، والمأمور به في ذلك الإبلاغ بقدر الحاجة بمبالغة أو غيرها فمن لم ترده عن غية النذارة ، وتقبل به إلى رشده البشارة ، حمل على ذلك بالسيف .
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة ، لا يقوم به أحد إلا بمعونة من الله عظيمة ، أشار إلى ذلك بقوله : ( بإذنه ) أي بتمكينه لك من الدعاء بتيسير أسبابه ، وتحمل أعبائه ، وللمدعو من الإقبال والإتباع أو أراد له الخير .
ولما كان الداعي إلى الله يلزمه النور لظهور الأدلة قال : ( وسراجاً ( يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم المبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الأبصار .
ولما كان المقام مرشداً إلى إنارته ، وكان من السرج ما لا يضيء ، وكان للتصريح والتأكيد شأن عظيم قال : ( منبراً ) أي ينير من أتبعه ليسير في أعظم ضياء ، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام ، فعرف من التقييد بالنور أنه محط الشبه ، وعبر به دون الشمس لأنه يقتبس منه ولا ينقص مع أنه من أسماء الشمس .
الأحزاب : ( 47 - 50 ) وبشر المؤمنين بأن. .. . .
) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما تقدمت هذه الأوصاف الحسنى ، وكان تطبيق ثمراتها عليها في الذروة ، من العلو ، وكان الشاهد هو البينة ، فكان كأنه قيل : فأقم الأدلة النيرة ، وادع وأنذر كل من(6/116)
صفحة رقم 117
خالف أمرك ، وكان المقام لخطاب المقبلين ، طوى هذا المقدر لأنه للمعرضين ، ودل عليه بقوله عاطفاً عليه : ( وبشر المؤمنين ) أي الذين صح لهم هذا الوصف .
فإنك مبشر ) بأن لهم ( وبين عظمة هذه البشرى بقوله : ( من الله ) أي الذي له جميع صفات الحسنة إلى ما لا يعلمه إلا الله .
ولما أمره سبحانه يسر نهاه عما يضر ، فقال ذاكراً ثمرة النذارة : ( ولا تطع الكافرين ) أي المشاققين ) والمنافقين ) أي لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلته إليك من الإنزال ، وغيره كراهة شيء من مقالهم أو فعالهم في أمر زينب أو غيرها ، فإنك نذير لهم ، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله مصرحاً بما اقتضاه ما قبله : ( ودع ) أي اترك على حالة حسنة بك وأمر جميل لك ) أذاهم ( فلا تراقبه في شيء ، ولا تحسب له حساباً أصلاً ، واصبر عليه فإنه غير ضائرك لأن الله دافع عنك لأنك داع بإذنه .
ولما كان ترك المؤذي ، والإعراض عنه استسلاماً في غاية المشقة ، ذكره بالدواء فقال : ( وتوكل على الله ) أي الملك الأعلى في الانتصار لك منهم وإبلاغ جميع ما يأمرك به وفي أمرك لأن الله متم نورك ومظهر دينك والاكتفاء به من ثمرات إنارته لك بجعلك سراجاً ، ولما كان الوكيل قد لا ينهض بجميع الأمور ، قال معلماً بأن كفايته محيطه : ( وكفى ( وأكد أمر الكفاية بإيجاد الباء في الفاعل تحقيقاً لكونه فاعلاً كما مضى في آخر سورة الرعد فقال : ( بالله ) أي الذي له بالإحاطة الكاملة ، وميز النسبة بالفاعل في الأصل لزيادة التأكيد في تحقيق معنى الفاعل فقال : ( وكيلاً ( فمن اكتفى به أنار له جميع أمره .
ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفاف إلى أحد غيره ، وكان من المعلوم أنه لا بد في ذلك من محاولات ومنازعات ، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق ، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق ، أمر سبحانه بالتوكل عليه ، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له ، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل ، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهر .
فقال ناهياً لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين قاطعاً لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيه : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك ) إذا نكحتم ) أي عاقدتم ، (6/117)
صفحة رقم 118
أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية ) المؤمنات ) أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن .
ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطئ ، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطئ بالنكاح ، أشار إليه بحرف التراخي فقال : ( ثم طلقتموهن ) أي بحكم التوزيع ، وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال : زلة علم - وتلا هذه الآية .
ولما كان المقصود نفي الميسيس في هذا النكاح لا مطلقاً ، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطئ لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة ، أدخل الجار فقال : ( من قبل أن يسموهن ) أي تجامعوهن ، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببه .
ولما كانت العدة حقاً للرجال قال : ( فما لكم ( ولما كانت العدة واجبة ، عبر بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهن ( وأكد النفي بإثبات الجار في قوله : ( من عدة ( ودل اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال : ( تعتدونها ) أي تتكلفون عدها وتراعونه ، وروي عن ابن كثير من طريق البزي شاذاً بتخفيف الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المنطقة .
ولما كان هذا الحكم - الذي معناه الانفصال - للمؤمنات اللاتي لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال ، كان ذلك للكتابيات من باب الأولى ، وفائدة التقييد والإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات بل ولا عن الصالحات من المؤمنات .
ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر عنها ، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك ، سبب عما مضى قوله : ( فمتعوهن ( ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها التدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى كما دخلت الأولى وجوباً ) وسرحوهن ) أي أطلقوهن ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة ) سراحاً جميلاً ( بالإحسان قولاً وفعلاً من غير ضرار بوجه أصلاً ليتزوجهن من شاء .
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك ، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح ، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده ، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي(6/118)
صفحة رقم 119
أبداً ، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي ، لأته ( صلى الله عليه وسلم ) حي في قبره : ( يا أيها النبي ( ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصودة ومنبع الكمال ومداره .
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكد قوله : ( إنا أحللنا لك أزواجك ) أي نكاحهن ، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه : تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها ، والفرس أي ركوبه ، والخمر أي شربها ، ولحم الخنزير أي أكله ، والبحر أي ركوبه ، والثور أي الحرث به ، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله ، ولا يصرف عنه إلا بمعشر ، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص - انتهى .
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه ( صلى الله عليه وسلم ) وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله ، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل ، فبين أنه كان يعجل المهور ، ويوفي الأجور ، فقال : ( اللاتي آتيت ) أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة ، وهي به ( صلى الله عليه وسلم ) أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف : وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره ) أجورهن ) أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع ، وأصل الأجر الجزاء على العمل ) وما ملكت يمينك ( ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال : ( مما أفاء ) أي رد ) الله ( الذي له الأمر كله ) عليك ( مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار ، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأن فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه ، وعبر من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن عن طيب نفس ، ومن هنا كان يعطي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم ، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما ، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله ( صلى الله عليه وسلم ) ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه ، وإشارة إلى أنه سبق في في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله ، ودخل فيه أهدى له من الكفار مقل ماوية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم ) وبنات عمك ( الشقيق وغيره من باب الأولى ، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل .
ولما قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه(6/119)
صفحة رقم 120
الأصل الذي تفرع منه هذا النوع ، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال : ( وبنات عماتك ( من نساء بني عبد المطلب .
ولنا بدأ بالعمومة لشرفها ، أتبعها قوله : ( وبنات خالك ( جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو ) وبنات خالاتك ) أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو : بنات عمك وبنات أعمامك ، وبنات عماتك وبنات عمتك ، وبنات خالك وبنات أخوالك ، وبنات خالاتك وبنات خالتك ، وسره ما أشير إليه .
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه ( صلى الله عليه وسلم ) من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب ، بين شرفهن من جهة الإعمال فقال : ( اللاتي هاجرن ( وأشار بقوله : ( معك ( إلى أن الهجرة قبل
77 ( ) أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ( ) 7
[ الحديد : 10 ] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف ، وإشارة إلى أنه سبق في عمله سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف ، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد ؛ روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه الطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت : خطبني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى ) إنا أحللنا لك أزواجك ( - الآية ، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر .
كنت من الطلقاء قال الترمذي : حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي .
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل ، وأتبعه سبحانه ما خص به شرعه ( صلى الله عليه وسلم ) من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته ، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال : ( وامرأة ) أي وأحللنا لك امرأة ) مؤمنة ) أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة ) إن وهبت نفسها للنبي ( .
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الأكرم من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف ، لأنه لو قال ( لك ) كان ربما وقع في بعض الأوهام - كما قال الزجاج - أنه غير خاص به ( صلى الله عليه وسلم ) ، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال : ( إن أراد النبي ) أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة ) أن يستنكحها ( أي(6/120)
صفحة رقم 121
يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين ، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود .
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى ، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر ) أحللنا ( مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً غلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب : ( خالصة لك ( وزاد المعنى بياناً بقوله : ( من دون المؤمنين ) أي من الأنبياء وغيرهم ، وأطلق الوصف للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان ، وغير ذلك من الألوان ، دخل من نزل عن رتبهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة ، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله وأقوال : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها ، فلما نزلت ) ترجى من تشاء منهن ( قلت : يا رسول الله ، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة ، ليمنع غيره من ذلك ، علله بقوله : ( قد ) أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد ) علمنا ما فرضنا ) أي قدرنا بعظمتنا .
ولما كان ما قدر للإنسان عطاء ومنعنا لا بد له منه ، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ) أي المؤمنين ) في أزواجهم ) أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي شهود ، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين .
ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال : ( وما ملكت أيمانهم ) أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه ، فيكون أحق من سيدها .
ولما فرغ من تعليل الدونية ، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله : ( لكيلا يكون عليك حرج ) أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة .
ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية ، وكان يعدل بينهن ، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ) خفف عنه سبحانه بقوله : ( وكان الله ) أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وفيها أزلاً وأبداً ) غفوراً رحيماً ) أي بليغ(6/121)
صفحة رقم 122
الستر فهو أن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به ، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً .
الأحزاب : ( 51 - 52 ) ترجي من تشاء. .. . .
) تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ( ( )
ولما ذكر هاتين الصفتين ، أتبعهما ما خففه عنه عن أمرهن إكراماً له ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله ، فقال في موضع الاستئناف ، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة : ( ترجي ( بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر ) من تشاء منهن ) أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها ، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية لعطفك ) وتؤدي ) أي تضم وتقرب بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع تخصيصاً له بذلك عن سائر الرجال ) إليك من تشاء ( وسيب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت .
ودعنا على حالنا ، فنزلت .
ولما كانت ربما مال إلى من فارقها ، بين تعالى حكمها فقال : ( ومن ابتغيت ) أي مالت نفسك إلى طلبها ) ممن عزلت ) أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة ) فلا جناح عليك ) أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد النكاح أو القسم .
ولما كانت المفارقة من حيث هي - ولا سيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها - أنها تكره الرجعة ، أخبر سبحانه أن نساءه ( صلى الله عليه وسلم ) على غير ذلك فقال : ( ذلك ) أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة ، لما لك من الشرف ) أدنى ) أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في القرآن المعجز ، إلى ) أن تقر أعينهن ) أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة ، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد ، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة ، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه - هذا إن كان من القرار بمعنى السكون ، ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد(6/122)
صفحة رقم 123
الحر ، لأن المسرور تكون عينه باردة ، والمهموم تكون عينه حارة ، فلذلك يقال للصديق : أقر الله عينك ، وللعدو : أسخن الله عينك ) ولا تحزن ) أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك ) ويرضين ( لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام ومن الإعجاز ) بما آتيتهن ) أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها .
ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس ، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع أكد فقال : ( كلهن ) أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجائها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة ، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم ، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار ، وزاد ذلك تأكيداً لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله عطفاً على نحو ) فالله يعلم ما في قلوبهم ( : ( والله ) أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال ) يعلم ) أي علماً مستمراً لتعلق ) ما في قلوبكم ) أي أيها الخلائق كلكم ، فلا بد إن علم ما في قلوب هؤلاء .
ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره نت ودهن ذلك ، لكونه ( صلى الله عليه وسلم ) شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب ، زاده ترغيبا بقوله : ( وكان الله ) أي أزلاً وأبداً ) عليماً ) أي بكل شيء ممن يعطيه ومن يعصيه ) حليماً ( لا يعاجل من عصاه ، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه ، فعلمه موجب للخوف منه ، وحلمه مقتض للاستيحاء منه ، وأخذ الحليم شديد ، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه ، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه ، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره ، روى البخاري في التفسير عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ) كان ذاك من تشاء منهن ( الاية ، قلت لها : ما كنت تقولين ؟ قالت : كنت أقول له : إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً .
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة ، ثم بما قد يشق عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض بعض من لم يرسخ إيمانه ، وختم بما يسر أزواجه ، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال : ( لا يحل لك النساء ( ولما كان تعالى شديد العناية به ( صلى الله عليه وسلم ) لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه ، فأثبت الجار فقال : ( من(6/123)
صفحة رقم 124
بعد ) أي من بعد من معك من هؤلاء التسع - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية منه ، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله ، فتكون الآية منسوخة بمت تقدم عليها في النظام وتأخر عنها في الإنزال من آية ) إنا أحللنا لك أزواجك ( وفي رواية أخرى من بعد ) اللاتي أحللنا لك ( بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن ، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها .
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع ، لا بقيد المعينات ، قال : ( ولا أن تبدل بهن ) أي هؤلاء التسع ، وأعرق في النفي بقوله : ( من ) أي شيئاً من ) أزواج ) أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع ، فعلم بهذا الموضوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً ، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين ، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها ، لا رواية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها .
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت ، أكد معنى وحققه ، وصرح به في قوله حالاً من فاعل ( تبدل ) : ( ولو أعجبك حسنهن ) أي النساء المغايرات لمن معك ، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف ؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء ، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله : ( إلا ما ملكت يمينك ) أي فيحل لك منهن ما شئت ، وقد ملك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة ، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت ، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أو ولده إبراهيم عليه السلام .
ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً ، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال : ( وكان الله ) أي الذي لا شيء أعظم منه ، وهو المحيط بجميع صفات الكمال ) على كل شيء رقيباً ) أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت فعل المراعي لما يتوقع منه خلل على أقرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى ، ولا يكون الرقيب إلا قريباً ، ولا أقرب من قرب الحق وسبحانه ، فلا أرعى من رقبته ، وهو من أشد الأسماء وعيداً .
الأحزاب : ( 53 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ(6/124)
صفحة رقم 125
كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ) 73
( ) 71
ولما كان القرب والإحاطة لله ، كان بالحقيقة لا ريقب إلا هو ، والآية على كل حال منسوخة إن قلنا بالاحتمال الأول أو الثاني ، فقد روى الترمذي في التفسير عن عائشة رضي الله عنها وناهيك بها ولا سيما في هذا الباب أنها قالت : ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحل له النساء ، وقال : هذا حديث حسن صحيح - انتهى .
ونقل الجوزي عنها رضي الله عنها أن الناسخ آية ) أنا أحللنا لك أزواجك ( وكذا عن جماعة منهم علي وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم ، ولكن ( صلى الله عليه وسلم ) ترك ذلك أدباً مع الله تعالى حيث عبر في المنع بصيغة الخبر والفعل المضارع ، ورعاية أشار الله إليه من رعاية حقهن في اختيارهن من الدار الآخرة .
ولما قصر ( صلى الله عليه وسلم ) عليهن ، وكان قد تقدم إليهن بلزوم البيوت وترك ما كان عليه الجاهلية من التبرج ، أرخى عليهن الحجاب في البيوت ومنع غيره ( صلى الله عليه وسلم ) مما كانت العرب عليه من الدخول على النساء لما عندهم من الأمانة في ذلك ، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل هذا الدين لما ذكر في سبب نزولها ، ولأن المؤمنين كانوا منتهين عن ذلك بغير ناه كما يدل عليه ما يأتي من قول عمر رضي الله عنه في الحجاب : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن ) لا تدخلوا ( مع الاجتماع ، فالواحد من باب الأولى .
ولما كان تشويش الفكر ربما كان شاغلاً عن شيء مما يبنئ الله به كما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينت لي ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فأنسيتها ) - أو كما قال غيره ( صلى الله عليه وسلم ) ، عبر بصفة النبوة في قوله : ( بيوت النبي ) أي الذي يأتيه الإنباء من علام الغيوب بما فيه غاية رفعته ، في حال من الأحوال أصلاً ) إلا ( في حال ) أن يؤذن لكم ) أي ممن له الإذن في بيوته ( صلى الله عليه وسلم ) منه أو ممن يأذن له في ذلك ، منتهين ) إلى طعام ) أي أكله ، حال كونكم ) غير ناظرين إناه ) أي وقت ذلك الطعام وبلوغه واستواءه للأكل ، فمنع بهذا من كان يتحين طعام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه في ذلك تكليفاً له ( صلى الله عليه وسلم ) بما يشق عليه جداً ، فإنه ربما كان ثم من هو أحوج إلى ذلك الطعام من المتحين أو غير ذلك من الأعذار ، فلا يتوجه الخطاب إلى غير أهل السن السافل ، ومن وقعت له فلتة ممن فوق رتبتهم دخل في خطابهم بما أنزل من رتبته ، والتعبير باسم الفاعل المجرد في ( نظرين ) أبلغ في النهي .(6/125)
صفحة رقم 126
ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً ، وكان يراد تقييده ، وكان الأصل في ذلك : فإذا دعيتم - إلى آخره ، ولكن كان المقام للختم بالجزم فيكا يذكر ، وكان الاستدراك أمر عظيم من روعة النفس وهزهاً للعلم بأن ما بعده مضاد لما قبله قال : ( ولكن إذا دعيتم ) أي ممن له الدعوة ) فادخلوا ) أي لأجل ما دعاكم له ؛ ثم سبب عنه قوله : ( فإذا طعمتم ) أي أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً ) فانتشروا ) أي اذهبوا حيث شئتم في الحال ، ولا تمكثوا بعد الأكل لا مسترحين لقرار الطعام في بطونكم ) ولا مستأنسين لحديث ) أي طالبين الأنس لأجله ، قال حمزة بن نضر الكرماني في كتابه جوامع التفسير : قال الحسن : حسبك في الثقلاء أن الله لم يتجوز في أمرهم - انتهى ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : حسبك بالثقلاء أن الله لم يحتملهم ، ثم علل ذلك بقوله مصوبا الخطاب إلى جمعيه ، معظماً له بإداة البعد : ( أن ذلكم ) أي الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ من الأكل والشرب ) كأن يؤذي النبي ) أي الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكوم سبب شرفكم وعلوكم في الدارين ، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه فننبئه بشيء تهلكون فيه .
ثم سبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم بما يزيل أذاه فقال : ( فيستحي ) أي يوجد الحياء ، وأصله إيجاد الحياة .
كأن من لا حياء جماد لا حياة له ) منكم ) أي أن يأمركم بالانصراف ) والله ) أي الذي له جميع الأمر ) لا يستحي من الحق ) أي لا يفعل فعل المستحي فيؤديه ذلك إلى ترك الأمر به .
ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة ، أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال : ( وإذا سألتموهن ) أي الأزواج ) متاعاً ) أي شيئاً من آلات البيت ) فسئلوهن ) أي ذلك المتاع ، كائنين وكائنات ) من وراء حجاب ) أي ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم ) ذالكم ) أي الأمر العالي الرتبة الذي أنبئكم جميعكم به من السؤال من وراء حجاب وغيره ) أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) أي من وساوس الشيطان التي كان يوسوس بها في أيام الجاهلية قناعة منه بما كانوا في حبالته من الشرك ) وما كان لكم ) أي وما صح وما استقام في حال من الأحوال ) أن تؤذوا ( وذكرهم بالوصف الذي هو سبب لسعادتهم واستحق به عليهم من الحق ما لا يقدرون على القيام بشكره فقال : ( رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي الذي له جميع الكمال فله إليكم من الإحسان ما يستوجب منكم به غاية الإكرام والإجلال ، فضلاً عن الكف عن الأذي ، فلا تؤذه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك .
ولما كان قد قصره ( صلى الله عليه وسلم ) عليهن ، ولزم ذلك بعد أن أحل له غيرهن قصرهن عليه بعد الموت زيادة لشرفه وإظهارلمزيته فقال : ( ولا أن تنكحوا ) أي فيما يستقبل من(6/126)
صفحة رقم 127
الزمان ، ) أزواجه من بعده ) أي بعد فراقه لمن دخل منهن بموت أو طلاق لما تقدم أنه حي لم يمت ) أبداً ( فإن العدة منه ينبغي أن لا تنقضي لما له من الجلال والعظمة والكمال ، وهو حي في قبره لا يزال ، وثم علة أعم من هذه لمسها في الميراث ، وهي قطع الأطماع عن امتدادها إلى شيء من الدنيا بعده لئلا يتمنى أحد موته ( صلى الله عليه وسلم ) ليأخذ ذلك فيكفر لأنه لا إيمان لمن لا يقدمه على نفسه ، وأما العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وتزوجت غيره فكان أمرها قبل نزول هذه الآية - ذكره البغوي عن معمر عن الزهري .
ثم علل ذلك بقوله : ( إن ذالكم ) أي الإيذاء بالنكاح وغيره الذي ينبغي أن يكون على غاية البعد ) كان الله عند ) أي القادر على كل شيء ) عظيماً ( وقج ورد في سبب نزول هذه الآية أشياء ، روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال : بعثتني أم سليم رضي الله عنها برطب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على طبق في أول ما أينع ثمر النخل قال : فدخلت عليه فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش رضي الله عنها ، قال : فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنأنه وهنأه الناس فقالوا : الحمد لله الذي أقر بعينك يا رسول الله ، فمضى حتى أتى عائشة رضي الله عنها ، فإذا عندها رجال ، قال : فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه ، قال : فأتيت أم سليم فأخبرتها ، فقال أبو طلحة رضي الله عنه : لئن كان ما قال ابنك حقاً ليحدثن أمر ، قال : فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه ، قال : فأتيت أم سليم فأخبرتها ، فقال أبو طلحة رضي الله عنهك لئن كان ما قال ابنك حقاً ليحدثن أمر ، قال : فلما كان من العشي خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( الآية ، قال : وأمر الحجاب وأصله في التفسير من جامع الترمذي ، وروى البخاري وغيره عنه رضي الله عنه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عروساً بزينب رضي الله عنها ، فقالت لي أم سليم : لو أهدينا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هدية فقلت لها : افعلي ، فعمدت إلى تمر وأقط وسمن ، فاتخذت حيسة في برمة ، فأرسلت بها معي إليه ، فقال لي : ضعها ، ثم أمرني فقال لي : ادع لي رجالاً - سماهم - وادع لي من لقيت ، ففعلت الذي أمرني ، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله - وفي رواية الترمذي ان الراوي قال : قلت لأنس : كم كانوا ؟ قال : زهاء ثلاثمائة - فرأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء(6/127)
صفحة رقم 128
الله ثم جعل يدعو عشرة يأكلون منه ، ويقول لهم : اذكروا اسم الله ، وليأكل كل رجل مما يليه ، حتى تصدعوا كلهم عنها ، قال الترمذي : فقال لي : يا أنس ، ارفع ، فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت - فخرج منهم من خرج وبقي نفر يتحدثون ، قال : وجعلت أغتم - قال الترمذي : ورسول الله جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فثقلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره : فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً - ثم خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحو الحجرات وخرجت في أثره ، فقلت : إنهم قد ذهبوا ، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( الآية ، وفي رواية الترمذي : ثم رجع ، فلما رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ، فابتدروا الباب ، فخرجوا كلهم ، وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزلت هذه الآيات ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأهن على الناس ) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ( الآية ، وروى الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه - وهذا لفظ البخاري - وفي روايات قال : بنى على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً ، فيجيء قوم يأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو ، فقلت : يا نبي الله ما أجد أحداً أدعو ، قال : ارفعوا طعامكم ، فجلسوا يتحدثون في البيت فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، وفي رواية ، ثلاثة رهط ، فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : السلام عليكم أهل البيت روحمة الله .
فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة رضي الله عنها .
ويقلن لم كما قالت عائشة - رضي الله عنهن ، ثم رجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا القوم جلوس ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، حين بنى بزينب بنت نحو حجرة عائشة رضي الله عنها ، وفي رواية : أولم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين بنى بزينب بنت جحش رضي الله عنها فأشبع الناس خبزاً ولحماً ، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه ، فيسلم عليهن ويدعو لهن ، ويسلمن عليه ويدعون له ، فلما رجع ألى بيته رأر رجلين جرى بهما الحديث ، فلما رآهما رجع عن بيته ، فلما رأى الرجلان نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجع عن بيته وثبا مسرعين ، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو(6/128)
صفحة رقم 129
أخبر أن القوم خرجوا ، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسفكة الباب داخلة وأخرى خارجة أرخى الستر ، وفي رواية : فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب ) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ( الآية ، وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : احجب نساءك قالت : فلم يفعل ، وكان أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع ، خرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة رضي الله عنها ، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المجلس فقال : عرفتك يا سودة ، حرصاً على أن ينزل الحجاب ، قالت : فأنزل الله عز وجل الحجاب وللبخاري عن أنس رضي الله عنه ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما عن عمر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يتحجبن ، فنزلت آية الحجاب ، وروى في السبب أشياء غير هذه ، وقد تقدم أنه ليس ببدع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب مستوية الدرجة ، أو بعضها أقرب من بعض ، على أنه قد روى البخاري في التفسير في سياق هذه الآية ما هو صريح في أن قصة سودة بعد الحجاب عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ، قالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا ، قالت : فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن وهؤلاء الذين جلسوا - والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ما هو عليه من الكراهة لجلوسهم بما ذكر من هيئته في حيائه وتهيئه للقيام ونحو ذلك - لم يستثمروا الفقه من أحواله ، بل كانوا واقفين عندما يسمعونه من مقاله ، وطريقة الكمل الاستبصار برسمه وحاله كما يستبصرون من قاله وفعاله ، قال الحرالي : الحال كل هيئة تظهر عن انفعال باطن ، وبختص بتفهمها المشاهد المتوسم ، وذلك كضحكه ( صلى الله عليه وسلم ) للذي رآه يوم خيبر وقد أخذ جراب شحم من فيء يهود وهو يقول : لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً ، وكتغير وجهه لعمر رضي الله عنه لما أخذ يقرأ عليه صحيفة من حكم(6/129)
صفحة رقم 130
الأولين حتى نبه عمر رضي الله عنه من توسم في وجهه ( صلى الله عليه وسلم ) الكراهة لفعل عمر ، وإنباء كل حال منها يحسب ما يفيده الانفعال من الانبساط والانقباض والإعراض ونحو ذلك مما يتوسمه المتفطن ، ويقطع يمقتضاه المتفهم ، وأما الرسم فهو كل ما شأنه البقاء بعد غيبته ووفاته ، فيتفهم منه المعتبر حكم وضعه ومقصد رسمه ، كالذي يشاهد من هيئة بنائه مسجده على حال اجتزاء بأيسر ممكن وكبنائه بيوته على هيئة لا تكلف فيها ، ولا مزيد علة مقدار الحاجة ، وكمثل الكساء الملبد الذي تركه ، وفراشه ونحو ذلك من متاع بيوته ، وكما يتفهم من احتفاله في أداة سلاحه مثل كون سيفه محلى بالفضة وقبضته فضة ، ومثل احتفاله بالتطيب حتى كان يرى في ثوبه وزره ، فيتعرف من رسومه أحكامه ، كما يتعرف من أحواله وأفعاله وأقواله ، وذلك لأن جميع هذه الإبانات كلها هي حقيقة ما هو الكلام - انتهى .
وبرهان ذلك أن الأصل في الكل الكلام النفسي الذي هو المنشأ ، والقول والفعل والحال والرسم مترجمة عنه ، وليس بعضها أحق بالترجمة من بعض ، نعم بعضها أدل من بعض وأنص وأصرح ، فتهيؤ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للقيام من بيته مثل لو قال : أريد ن تذهبوا ، فإنه يلزم من قيام الرجل من بيته الذي هو محل ما يستره عن غيره أن يريد ذهاب ، فإنه يلزم من قيام الرجل من بيته الذي هو محل ما يستره من غيره أن يريد ذهاب غيره منه لئلا يطلع على ما لا يحب أن يطلع عليه أحد ، وإيتانه ليدخل فإذا رآهم رجع مثل لو قال : إنما يمنعني من الدخول إلى محل راحتي جلوسكم فيه لثقل جلوسكم عليّ ، وكذا الأحوال والرسول - والله الهادي .
الأحزاب : ( 54 - 56 ) إن تبدوا شيئا. .. . .
) إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ( ( )
ولما كان بعض الدال على الكلام - كما مر - أصرح من بعض ، فكان الإنسان قد يضمر أن يفعل ما يؤذي إذا تمكن ، وقد يؤذي بفعل يفعله ، ويدعي أنه قصد شيئاً آخر مما لا يؤدي ، قال تعالى حاملاً لهم على التفطن والتنبه في الأقوال وغيرها والمقاصد الحسنة ظاهراً وباطناً ، على طريق الاستئناف في جواب من ربما انتهى بظاهره ، وهو عاظم على أن يفعل الأذى عند التمكن : ( إن تبدوا ) أي بألسنتكم أو غيرها ) شيئاً ) أي من ذلك وغيره ) أو تخفوه ) أي في صدروكم .
ولما فعل من يخفي أمراً عن الناس فعل من يظن أنه يخفى على ربه ، قال(6/130)
صفحة رقم 131
مؤكداً تنبيهاً لفاعل ذلك على هذا اللازم لفعله ترهيباً له : ( فإن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) كان ( أزلاً وأبداً به ، هكذا كان الأصل ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال : ( بكل شيء ) أي من ذلك وغيره ) عليماً ( فهم يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه ، فيجازي عليه من ثواب أو عقاب .
ولما كان المقصود كما تقدم تغليظ الحجاب على ذوات الخدور ، وكان قد ذكر في هذه السورة خصائص وتغيير أحكام للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولأزواجه رضي الله عنهن ولغيرهم ، كان ربما ظن أن الحجاب تغير أو شيء منه بالنسبة إلى الدخول أو غيره ، فاستثنى من عمّه النهي السابق عن الدخول على وجه يعم جميع النساء على نحو ما تقدم في سورة النور فقال : ( لا جناح ) أي إثم ) عليهن في آبائهن ( دخولاً وخلوة من غير حجاب ، والعم والخال أبو الزوج بمصير الزوجين كالشيء الواحد بمنزلة الوالد ) ولا أبنائهن ) أي من البطن أو الرضاعة ، وابن الزوج بمنزلة الولد ، وترك ذكرهم يفهم أن الورع الحجاب عنهم ) ولا إخوانهن ( لأن عارهن عارهم ) ولا أبناء إخوانهن ( فإنهن بمنزلة آبائهم ) ولا أبناء أخواتهن ( فإنهن بمنزلة أمهاتهم ) ولا نسائهن ) أي المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة ، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال ) ولا ما ملكت أيمانهن ( لأنهم لمل لهن عليهم من السلطان تبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم .
ولما كانت الربية مقطوعاً بنفيها ، وكتنت من جهة النساء أكثر ، لأنه لا يكاد رجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من مخايلها أو مخايل أشكالها ، أقبل عليهن بالخطاب لأنه أوقع في النفس ، فقال آمراً عاطفاً على ما تقديره : فأظهرن على من شئتن من هؤلاء : ( واتقين الله ) أي الذي لا أعظم منه ، فلا تقربن شيئاً مما يكرهه ، وطوى ما عطف عليه الأمر بالتقوى بعد أن ساق نفي الجناح في أسلوب الغيبة ، وأبرز الأمر بها وجعله في أسلوب الخطاب إيذاناً بأن الورع ترك الظهور على أحد غير من يملك التمتع ، فإن دعت حاجة كان مع الظهور حجاب كثيف من الاحتشام والأدب التام .
ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلقاً ، قال معللاً مؤكداً تنبيهاً على أن فعل من يتهاون في شيء من أوامره فعل من لا يتقي ، ومن لا يتقي كمن يظن أنه سبحانه غير مطلع عليه : ( إن الله ) أي العظيم الشأن ) كان ( أزلاً وأبداً ) على كل شيء ( من أفعالكن وغيرها ، ولمزيد الاحتيلط والورع في ذلك عبر بقوله : ( شهيداً ) أي لا يغيب عنه شيء وإن دق ، فهو مطلع عليكن حال الخلوة ممن ذكر ، كما هو مطلع(6/131)
صفحة رقم 132
على غير ذلك فليحذوره كل أحد في حال الخلوة كما يحذره في حال الجلوة ، فبا لها من عظمة باهرة ، سطوة ظاهرة قاهرة ، يحق لكل أحد أن يبكي منها الدماء فضلاً عن الدموع ، وأن تمنعه مريع القرار ولذيذ الهجوع ، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال : ( أستأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس رضي الله عنه بعم ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى استأذن فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل عليّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وما يمنعك ؟ قلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فقال : ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ، قال عروة : فلذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول : حرموا من الرضاعة ما تحرموا من النسب ) .
ولما كانت هذه الآيات وما قبلها وما بعدها في إظهار شرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبيان مناقبه ، علل الأوامر فيها والنواهي وغيرها بقوله ، مؤكداً لاقتضاء الحال ذلك أما ممن آذاه بالجلوس في غير حينه فواضح ، وأما غيره فكان من حقهم أن لا يفارقوا المجلس حتى يعلموا من لا يعرف الأدب ، فكان تهاونهم في ذلك فعل من لا يريد إظهار شرفه ( صلى الله عليه وسلم ) فهو تأديب وترهيب : ( إن الله ) أي وعملكم محيط بأن له مجامع الكبر والعظمة والعز ) وملائكته ) أي وهم أهل النزهة والقرب والعصمة .
ولما كان سبحانه قد قدم قوله : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ) فأفرد كلاً بخبر ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى المخاطبين حظاً فإنه رأس المؤمنين ، أفرده هنا بهذه الصلاة التي جمع فيها الملائكة الكرام معه سبحانه وجعل الخبر عنه قولاً واحداً ليكون أتم ، فإن قولك : فلان وفلان ينصران فلاناً ، أضخم من قولك : فلان ينصره وفلان ، فقال تعالى : ( يصلون على النبي ) أي يظهرون شرفه وما له من الوصلة بالملك الأعظم بما يوحيه الله إليه من عجائب الخلق والأمر من عالم الغيب والشهادة ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما وراه البخاري : ( يبركون ) .
ولما كانت ثمرة المراد بهذا الإعلام التأسي ، علم بآخر الكلام أن المعنى :(6/132)
صفحة رقم 133
ويسلمون عليه لأن ذلك من تمام الوصلة التي يدور عليها معنى الصلاة فأنتج ذلك قطعاً تفسير المراد بيصلون : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك بألسنتهم ) صلوا عليه ( بعدم الغفلة عن المبادرة إلى إظهار شرفه في حين من الأحيان تصديقاً لدعواكم ، ولأن الكبير إذا فعل شيئاً بادر كل محب له معتقد لعظمته إلى فعله ) وسلموا ( .
ولما كان المراد بكل من الصلاة والسلام إظهار الشرف ، وكان السلام أظهر معنى في ذلك ، وكان تحيته عن اللقاء واجباً في التشهد بلا خلاف ، ودالاً على الإذعان لجميع أوامره الذي لا يحصل الإيمان إلا به ، وهو من المسلم نفسه ، وأما الصلاة فأنها يطلبها المصلي من الله ، أكدهما به فقال : ( تسليماً ) أي فأظهورا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به ، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم على نحو ما علمكم في التشهد وغيره مما ورد في الأحاديث عن أبي سعيد الخدري وكعب بن عجزة وغيرهما رضي الله عنهم بيان التقاء الصلاة والسلام في إظهار الشرف فإن الصلاة - كما قال في القاموس - الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عز وجل وعباده فيها ركوع وسجود - انتهى .
والسلام هو التحية والتحية - كما قال البيضاوي في تفسير سورة النساء - في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة ، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك ، ثم قيل لكل دعاء ، فغلب في السلام ، وفي القاموس : التحية : السلام والبقاء والملك ، وحياك الله : أبقاك أو ملكلك ، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في جامعه : السلام اسم من أسماء الله ، والسلام ههنا بمعنى السلامة ، كما يقال الرضاع والرضاعة ، واللذاذ واللذاذة ، قالوا : ومعنى قول القائل لصاحبه : سلام عليك أي قد سلمت مني لا أنالك بيد ولا لسان ، وقيل : معناه السلامة من الله عليكم ، وقيل : هو الرحمة ، وقيل : الأمان ، والسلامة هي النجاة من الآفات - انتهى .
فقد ظهر أن معنى الكل كما ترى ينظر إلى إظهار الشرف نظر الملزوم إلى اللازم ، ولذلك فسر البيضاوي يصلون بقوله : يعنتون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه ، وسلموا بقوله : قولوا السلان عليك ، أو انقادوا لأوامره ، فلما تآخيا في هذا المعنى ، وكان هو المراد أكد ولسلموا بلفظه ، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه كما هو مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه ، ومثل بآية النساء
77 ( ) ا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( ) 7
[ النساء : 43 ] وبقوله :
77 ( ) أولامستم النساء ( ) 7
[ النساء : 43 ، (6/133)
صفحة رقم 134
المائدة : 6 ] وغير ذلك ، وقد بينت في سورة الرعد أن مادة ( صلوا ) بجميع تراكيبها تدور على الوصلة وهي لازمة لكل ما ذكر من تفسيرها ، هذا ولك أن تجعله من الاحتباك فتقول : حذف التأكيد أولاً لفعل الصلاة لما دل عليه من التأكيد بمصدر السلام ، ويرجح إظهار مصدر السلام بما تقدم ذكره ، وحذف متعلق السلام لدلالة متعلق الصلاة عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وليصلح أن يكون عليه وأن يكون له ، فيصلح أن يجعل التسليم بمعنى الإذعان - والله هو الموفق للصواب .
الأحزاب : ( 57 - 62 ) إن الذين يؤذون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ( ( )
ولما نهى سبحانه عن أذاه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وحض على إدخال السرور عليه ، توعد على أذاه ، فقال على طريق الاستئناف أو التعليل ، إشارة إلة أن التهاون بشيء من الصلاة والسلام من الأذى ، وأكد ذلك إظهاراً لأنه مما يحق له أن يؤكد ، وأن يكون لكل من يتكلم به غاية الرغبة في تقريره : ( إن الذين يؤذون ) أي يفعلون فعل المؤذي بارتكاب ما يدل على التهاون من كل ما يخالف ) الله ) أي الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله ) ورسوله ) أي الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله مما ينقذهم به من شقاوة الدارين ويوجب لهم سعادتهما ما لا يقدرون على القيام بشكره بأي أذى كان حتى في التقصير بالصلاة عليه باللسان ) لعنهم ) أي أبعدهم وطردهم وأبغضهم ) الله ) أي الذي لا عظيم غيره ) في الدنيا ( بالحمل على ما يوجب السخط ) والآخرة ( بإدخال دار الإهانة .
ولما كان الحامل على الأذى الاستهانة قال : ( وأعد لهم عذاباً مهيناً ( .
ولما كان من أعظم أذاه ( صلى الله عليه وسلم ) أذى من تابعه ، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا بالحق ، قال مقيداً للكلام بما يفهم : ( والذين يؤذون المؤمنين ) أي الراسخين في صفة الإيمان ) والمؤمنات ( كذلك .
ولما كان الأذى بالكذب أشد في الفساد وأعظم في الأذى قال : ( بغير ما اكتسبوا ) أي بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى(6/134)
صفحة رقم 135
أباح أذاهم ) فقد احتملوا ) أي كلفهم أنفسهم أن حملوا ) بهتاناً ) أي كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للخزي في الدنيا ، ولما كان من الناس من لا يؤثر فيه العار ، وكان الأذى قد يكون بغير القول ، قال : ( وغثماً مبيناً ) أي ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعذاب في الأخرى .
ولما نهى سبحانه عن أذى المؤمنات ، وكانت الحرائر بعيدات عن طمع المفسدين لما لهن في أنفسهن من الصيانة وللرجال بهن من العناية ، وكان جماعة من أهل الريبة يتبعون الإماء إذا خرجن يتعرضون لهن للفساد ، وكان الحرائر يخرجن لحاجتهن ليلاً ، فكان ربما تبع المرأة منهن أحد من أهل الريب يظنها أمه أو يعرف أنه حرة ويعتل بأنه ظنها أمه فيتعرض لها ، وربما رجع فقال لأصحابه : فعلت بها - وهو كاذب ، وفي القوم من يعرف أنها فلانة ، فيحصل بذلك من الأذى ما يقصر عنه الوصف ، ولم يكن إذ ذاك كما نقل عن مقاتل فرق بين الحرة ويتحشمن يخفف هذا الشر ، قال تعالى : ( يا أيها النبي ( فذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة ، لأن السياق لحكمة يذب بها عن الحريم لئلا يشتغل فكره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يحصل لهن من الأذى عن تلقي شيء من الواردات الربانية ) قل لأزواجك ( بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح ) وبناتك ( ثنى بهن لما لهن من الوصلة ولهن في أنفسهن من الشرف ، وأخرهن عن الأزواج لأن زواجه يكفوفه أمرهن ) ونشاء المؤمنين يدنين ) أي يقربن ) عليهن ) أي على وجوهن في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظناً أن ذلك أخفى لهن وأستر ، والجلباب القميص ، وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة ، والملحفة ما ستر اللباس ، أو الخمار وهو كل ما غطى الرأس ، وقال البغوي : الجلباب : الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، وقال حمزة الكرماني : قال الخليل : كل ما تستتر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب ، والكل يصح إرادته هنا ، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي يديها ورجليها ، وإن كان ما يغطي الرأس فادناؤه ستر وجهها وعنقها ، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فادناؤه تطويله وتوسيعه بحيث ستر جميع بدنها وثيابها ، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين .
ولما أمر بذلك علله بقوله : ( ذلك ) أي الستر ) أدنى ) أي أقرب من تركه في ) أن يعرفن ( أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء ) فلا ) أي فيتسبب عن معرفتهن أن لا ) يؤذين ( ممن يتعرض للإماء .
فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء(6/135)
صفحة رقم 136
الإلهية .
ولما رقاهم سبحانه بهذا الأمر في حضرات الرضوان ، خافوا عاقبة ما كانوا فيه من الغلط بالتشبه بالإماء ، فأخبرهم سبحانه أنه في محل الجود والإحسان ، فقال : ( وكان الله ) أي الذي له الكمال المطلق ، أزلاً وأبداً ) غفوراً ) أي محاء للذنوب عيناً وأثراً ) رحيماً ( مكرماً لمن يقبل عليه ويتمثل أوامره ويحتنب مناهيه ، قال البغوي : قال أنس رضي الله عنه : مرت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال : يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ؟ ألقي القناع .
ولما كان المؤذون بما مضى وغيره أهل النفاث ومن داناهم ، حذرهم بقوله مؤكداً دفعاً لظنهم الحلم عنهم : ( لئن لم ينته ) أي عن الأذى ) المنافقون ) أي الذين على المعاصي ) والمرجفون في المدينة ( وهو الذين يشيعون الأخبار المخيفة لأهل الإسلام التي تضطرب لها القلوب سواء كانوا من القسمين الأولين أو لا ) لنغرينك بهم ( بأن نحملك على أن تولع بهم بأن نأمرك بإهانتهم ونزيل الموانع من ذلك ، ونثبت الأسباب الموصلة إليه حتى تصير لاصقاً بجميع أموالهم لصوق الشيء الذي يلحم بالغراء فلا يقدروا على الانفكاك عن شيء مما تفعله بهم إلا بالبعد من المدينة بالموت أو الرحيل إلى غيرها ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري : لنسلطنك .
ولما كان نزوحهم عن المدينة مستبعداً عنهم جداً ، وكان أعظم رتبة في أذاهم من غيره ، لأن الإخراج من الأوطان من أعظم الهوان ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم لا يجاورونك فيها ) أي بعد محاولتك لهم ) إلا قليلاً ) أي من الزمان بقدر ما يمكن لك المضارب فتعظم عليهم المصائب .
ولما كان معنى الكلام أنهم ينفون لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) يؤمر بنفيهم وإبعادهم وقتلهم ، بين حالهم في نفيهم أو نصبه على الشتم فقال : ( ملعونين ) أي ينفون نفي بُعد من الرحمة وطرد عن أبواب القبول .
ولما كان المطرود قد يترك وبعده ، بين أنهم على غير ذلك فقال مستأنفاً : ( أينما ثقفوا ) أي وجدوا وواجدهم أحذق منهم وأفطن وأكيس وأصنع ) أخذوا ) أي أخذهم ذلك الواجد لهم ) وقتلوا ) أي أكثر قتلهم وبولغ فيه ؛ ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم فقال : ( تقتيلاً ( ولما سن لهم هذا العذاب الهائل في الدنيا ، بين أن تلك عادته في أوليائه وأعدائه ، فقال مؤكداً بالإقامة في موضع المصدر ، لما لهم من استبعاد ذلك لكونهم لم يعهدوا مثله مع ما لهم من الاشتباك بالأهل والعشائر فقال : ( سنة الله ((6/136)
صفحة رقم 137
أي طرّق لك المحيط بجميع العظمة هذه الطريقة كطريقته ) في الذين خلوا ) أي مضت أيامهم وأخبارهم ، وانقضت وقائعهم وأعمارهم ، من الذين كانوا ينافقون على الأنبياء كقارون وأشياعه ، وبين قتلهم بكونهم في بعض الأزمنة فقال : ( من قبل ( وأعظم التأكيد لما لهم من الاستبعاد الذي جرأهم على النفاق فقال : ( ولن تجد ) أي أزلاً وأبداً ) لسنة الله ) أي طريقة الملك الأعظم ) تبديلاً ( كما تبدل سنن الملوك ، لأنه لا يبدلها ، ولا مداني له في العظمة ليقدر على تبديلها .
الأحزاب : ( 63 - 71 ) يسألك الناس عن. .. . .
) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ( ( )
ولما بين تعالى ما أعد لأعداء دينه في الدنيا ، وبين أن طريقته جادة لا تنخرم ، لما لها من قوانين الحكمة وأفانين الإتقان والعظمة ، وكان من أعظم الطرق الحكمية والمغيبات العلمية الساعة ، وكان قد قام ما يحرك إلى السؤال عنها في قوله : لعنهم الله في الدنيا والآخرة ( وكان قد مضى آخر السجدة أنهم سألوا استهزاء وتكذيباً عن تعيين وقتها ، وهددهم سبحانه على هذا السؤال ، قال تعالى مهدداً أيضاً على ذلك مبيناً ما لأعداء الدين المستهزئين في الآخرة : ( يسئلك الناس ) أي المشركون استهزاء منهم ، وعبر بذلك إشارة إلى أنهم بعد في نوسهم لم يصلوا غلى أدنى أسنان أهل الإيمان ، فكان المترددون في آرائهم لا يكادون ينفكون عن النوس وهو الاضطراب ) عن الساعة ) أي في تعيين وقتها .
ولما كانت إدامتهم السؤال عنها فعل من يظن أن غيره سبحانه يعلمها ، أكد فقال : ( قل ) أي في جوانبهم : ( إنما علمها عند الله ) أي الذي أحاط علماً بجميع الخلال ، وله جميع أوصاف الجمال والجلال ، فهو يعلم ما عند كل أحد ولا يعلم أحد شيئاً مما عنده إلا بإذنه .
ولما كان من فؤائد العلم بوقت الشيء التحرز عنه أو مدافعته ، قال مشيراً إلى شدة خفائها بإخفائها عن أكمل خلقه مرجياً تقريبها تهديداً لهم : ( وما يدريك ) أي أيّ شيء(6/137)
صفحة رقم 138
يعلمك بوقتها ؟ ثم استأنف قوله : ( لعل الساعة ) أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب ) تكون ) أي توجد وتحدث على وجه مهول عجيب ) قريباً ) أي في زمن ثريب ، ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو سؤال عن تعيين وقتها ، قال البخاري في الصحيح : إذا وصفت صفة المؤنث قلت : قريبة ، وإذا جعلته ظرفاً وبدلاً ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث ، وكذلك لفظها في الواحد والاثنين والجمع للذكر والأنثى .
والمراد بالتعبير بلعل أنها بحيث يرجو قربها من يرجوه ويخشاه من يشخاه ، فهل أعد من يخشاها شيئاً للمدافعة إذا جاءت أو النجاة منها إذا أقبلت ؟ ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله مؤكداً في مقابلة إنكار الكفار أن يكون في حالهم شي من نقص : ( إن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا أعظم منه ) لعن ) أي أبعد إبعاداً عظيماً عن رحمته ) الكافرين ) أي الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها سواء كانوا مشاققين أو منافقين ) وأعد لهم ) أي أوجد وهيأ لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم ادلته ) سعيراً ) أي ناراً شديدة الاضطرام والتوقد .
ولما كان العذاب ربما استهانه بعض الناس إذا كان ينقطع ولو كان شديداً ، قال مبيناً لحالهم : ( خالدين فيها ( ولما كان الشيء قد يطلق على ما شابهه بوجه مجازاً وعلى سبيل المبالغة ، قال مؤكداً لإرادة الحقيقة : ( أبداً ( ولما كان الشيء قد يراد ثم يمنع منه مانع ، قال مبيناً لحالهم في هذه الحال : ( لا يجدون ولياً ) أي يتولى أمراً مما يهمهم بشفاعة أو غيرها ) ولا نصيراً ( ينصرهم .
ولما ذكر حاليهم هذين ، أتبعه حالاً لهم قولياً على وجه بين حالاً فعلياً فقال : ( يوم ) أي مقدار خلودهم فيها على تلك الحال بوم ) تقلب ) أي تقليباً كثيراً شديداً ) وجوهم ( كما يقلب اللحم المشوي وكما ترى البضعة في القدر يتراقى بها الغليان من جهة إلى جهة ، من حال إلى حال ، وذكر ذلك وإن كانت تلك النار غنية عنه لأحاطتها لأن ذكره أهول لما فيه من التصوير ، وخص الوجوه لأنها أشرف ، والحدث فيها أنكأ .
ولما كان للإظهار مزيد بيان وهول مع إفادته استقلال ما هو فيه من الكلام بنفسه ، قال : ( في النار ) أي المسعرة حال كونهم ) يقولون ( وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل ، متمنين لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدرون أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني : ( يا ليتنا أطعنا ) أي في الدنيا ) الله ) أي الذي علمنا الآن أنه الملك الذي لا أمر لأحد معه .
ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع ، وأعادوا العامل فقالوا : ( وأطعنا(6/138)
صفحة رقم 139
الرسولا ) أي الذي بلغنا حتى نعاذ من هذا العذاب ، وزيادة الألف في قراءة من أثبتها إشارة إلى إيذانهم بأنهم يتلذذون بذكره ويعتقدون أن عظمته لا تنحصر ) وقالوا ( لما لم ينفعهم شيء متبردين من الدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ، وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضرة زياة في الترقق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم الذي عهد في الدنيا أنه الموجب الأعظم لإقبال الله على عبده كما أن المثبت لأداة البعد بقوله : ( يا الله ) مضير إلى سفول منزلته وبعده بكثرة ذنوبه وغفلته تواضعاً منه لربه لعله يرفع ذلك البعد عنه .
ولما كانوا يظنون أن أتباعهم للكبراء غير ضلال ، فبان لهم خلاف ذلك ، أكدوا قولهم لذلك وللإعلام بأنهم بذلوا ما كان عندهم من الجهل فصاروا الآن على بصيرة من أمرهم : ( إنا أطعنا سادتنا ( وقرئ بالجمع بالألف والتاء جمعاً سالماً للجمع المكسر ) وكبراءنا فأضلونا ) أي فتسبب عن ذلك ، أنهم أضلونا بما كان لا ينفعه ، وقراءة من أثبت الألف مشيرة إلى أنه سبيل واسع جداً واضح ، وأنه مما يتلذذ ويجب تفخيمه .
ولما كام كأنه قيل : فما تريدون لهم ؟ قالوا مبالغين في الرقة وللأستعطاف بإعادة الرب : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) آتهم ضعفين ) أي مثلي عذابنا من وهن قوتنا وشدة المؤثر لذلك مضاعفاً أضعافاً كثيرة ) من العذاب ( ضعفاً بضلالهم ، وآخر بلإضلالهم ، وإذا راجعت ما في آواخر سبحان من معنى الضعف وضح لك هذا ، ويؤيده قوله : ( والعنهم لعناً كثيراً ) أي اطردهم عن محال الرحمة طرداً متناهياً في العدد ، والمعنى على قراءة عاصم بالموحدة : عظيماً شديداً غليظاً .
ولما كان السبب في هذا التهديد كله ما كانوا يتعمدونه من أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقولهم : تزوج امرأة ابنه ، وغير ذلك إلى أن ختمه بما يكون سبباً لتمنيهم طاعته ، وكان سماع هذا لطفاً لمن صدق به ، أتبعه ما هو كالنتيجة له فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي صدقوا بما تلي عليهم ) لا تكونوا ( بأذاكم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر زينب رضي الله عنها أو غيره .
كوناً هو كالطبع لكم ) كالذين آذوا موسى ( من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) حين قسم قسماً فتكلم فيه أذى قارون له بالزانية التي استأجرها لتقذفه بنفسها فبرأة الله من ذلك ، وكان سبب الخسف بقارون ومن معه ) فبرأه ) أي فتسبب عن أذاهم(6/139)
صفحة رقم 140
له أن برأة ) الله ) أي الذي له صفات الجلال والجمال والقدرة على كل شيء والكمال ، وأفهم التعبير بالتفعيل أن البراءة كانت بالتدريج بالخسف وموت الفجاءة وإبراق عصا هارون كما مضى في آخر القصص .
ولما نهى عن التشبه بالمؤذين أعم من أن يكون أذاهم قولياً أو فعلياً ، أشار إلى أن الأذى المراد هنا قولي مثله في أمر زينب رضي الله عنها فقال : ( مما قالوا ( دون أن يقول : مما آذوا ، وذلك بكا أظهره من البرهان على صدقه فخسف بمن آذاه كما مضى في القصص فإياكم ثم إياكم .
ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال : ( وكان ) أي موسى عليه السلام ، كوناً راسخاً ) عند الله ) أي الذي لا يذل من والى ) وجيهاً ) أي معظماً رفيع القدر إذا سأله أعطاه ، وإذا كان عند الله بهذه المنزلة كان عند الناس بها ، لما يرون من إكرام الله له ، والجملة كالتعليل للتبرئة لأنه لا يبرئ الشخص إلا من كان وجيهاً عنده .
ولما نهاهم عن الأذى ، أمر بالنفع ليصيروا وجهاء عنده سبحانه مكرراً للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك .
ولما كان قد خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول السورة بالأمر بالتقوى ، عم في آخرها بالأمر بها مردفاً لنهيهم بأمر يتضمن الوعيد ليقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه فقال : ( اتقوا الله ) أي صدقوا دعواكم من الأمانة ) وقولوا ( في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر زينب رضي الله عنها وغيرها وفي حق بناته ونسائه رضي الله عنهن وفي حق المؤمنين ونسائهم وغير ذلك ) قولاً سديداً ) أي قاصداً إلى الحق ذا صواب له ) يصلح لكم أعمالكم ) أي بأن يدخلكم في العمل الصالح وأنتم لا تعلمون ما ينبغي من كيفيته فيبصركم بها شيئاً فشيئاً ويوفقكم للعمل بما جلاه لكم حتى تكونوا على أتم وجه وأعظمه وأرضاه وأقومه ببركة قلولكم الحق على الوجه الحسن الجميل .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً ، قال مشيراً إلى ذلك حتى لا يزال معترفاً بالعجز : ( ويغفر لكم ذنوبكم ) أي يمحوها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ، ولما كان ربما توهم أن هذا خاص بمن آمن ، وأن تجديد الإيمان غير نافع ، أزال هذا الوهم بقوله : ( ومن يطع الله ) أي الذي لا أعظم منه ) ورسوله ) أي الذي عظمته من عظمته بأن يجدد لها الطاعة بالإيمان وثمراته في كل وقت ، فيكون مؤدياً للأمانة إلى أهلها ) فقد فاز ( وأكد ذلك بقوله : ( فوزاً عظيماً ) أي ظفراً بجميع مراداته في الدنيا والآخرة .(6/140)
صفحة رقم 141
الأحزاب : ( 72 - 73 ) إنا عرضنا الأمانة. .. . .
) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما كان التقدير : ومن لم يطع فقد خسر خسراناً مبيناً ، وكان كل شيء عرض على شيء فالمعروض عليه متمكن من المعروض قادر عليه ، وكان كل شيء أودعه الله شيئاً فحفظه ورعاه وبذله لأهله وآتاه باذلاً للأمانة غير حامل لها .
وكل من أودعه شيئاً فضيعه وضمن به عن أهله ومنعه عن مستحقه خائن فيه حامل له ، وكان الله تعالى قد أودع الناس من العقول ما يميزون به بين الصحيح والفاسد ، ومن القوى الظاهرة ما يصرفونه فيما أرادوا من المعصية والطاعة ، فمنهم من استدل بعقله على كل من المحق والمبطل فبذل له من قواه ما يستحقه ، فكان باذلاً للأمانة غير حامل لها ، ومنهم من عكس ذلك وهم الأكثر فكان حاملاً لها خائناً فيها أمر به من بذلها ، وأودع سبحانه الأكوان ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والنباتات فبذلته ولم تمنعه من أحد طلبه مع أن منعها له في حيِّز الإمكان ، قال تعالى معلىً للأمر بالتقوى ، أو مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على أن هذا الأمر مما يحق أن يؤكد تنبيهاً على دقته ، وأنه مما لا يكاد أن يفطن له كثير من الناس فضلاً على أن يصدقوه لافتاً القول إلى مظهر العظمة دلالة على عظيم جرأة الإنسان : ( إنا عرضنا الأمانة ) أي أداءها أو حملها أو منعها أهلها ، وهي طاعته سبحانه فيما أمر به العاقل ، وفيما أراده من غيره ، ولم يذكر المياه والرياح لأنهما من جملة ما في الكونين من الأمانات اللاتي يؤديانها على حسب الأمر ) على السموات ( بما فيها من المنافع ) والأرض ( بما فيها من المرافق والمعادن .
ولما أريد التصريح بالتعميم قال : ( والجبال ( ولأن أكثر المنافع فيها ) فأبين ( على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها ) أي يحملنها ( فيمنعها ويحبسنها عن أهلها ، قال الزمخشري : من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، أي لا يؤيها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها ) وأشفقن منها ( فبدل كل منهن ما أودعه الله فيه في وقته كما أراده الله ، وهو معنى : أتينا طائعين ، والحاصل أنه جعلت الإرادة وهي الأمر التكويني في حق الأكوان لكونها لا تعقل كالأمر التكليفي التكويني في حقنا لأنا نعقل تمييزاً بين من يعقل ومن لا يعقل في الحكم ، كما ميز بينهما في الفهم إعطاءً لكل منهما ما يستحقه رتبته - وهذا هو معنى(6/141)
صفحة رقم 142
ما نقله البغوي عن الزجاج وغيره من أهل المعاني ، وما أحسن ما قاله النابغة زياد بن معاوية الذيباني حيث قال :
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي على خوف تظن بي الظنون فألفيت الأمانة لم تخنها كذلك كان نوح لا يخون
قال ابن الفرات : إن عمر رضي الله عنه قال لما قيل إن النابغة قائلهما : هو أشعر شعرائكم .
ولما كان الخائن أكثر من الأمين أضعافاً مضاعفة ، وكانت النفس بما أودع فيها من الشهوات والحظوظ محل النقائص ، قال تعالى : ( وحملها الإنسان ) أي أكثر الناس والجن ، فإن الإنسان الأنس ، والإنس والأناس الناس ، وقد تقدم في ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) [ الأعراف : 85 ] في الأعراف أن الناس يكون من الإنس ومن الجن ، وأنه جمع إنس وأصله أناس ، والإسناد إلى الجنس لا يلزم منه أن يكون كل فرد منه كذلك ، فهو هنا باعتبار الأغلب ، وفي التعبير به إشارة إلى أنه لا يخون إلا من هو في أسفل الرتب لم يصل إلى حد النوس .
ولما كان الإنسان - لما له بنفسه من الأنس وفي صفاته من العشق ، وله من العقل والفهم - يظن أنه لا نقص فيه ، علل ذلك بقوله مؤكداً : ( إنه ( على ضعف قوته وقلة حيلته ) كان ) أي في جبلته إلا من عصم الله ) ظلوماً ( يضع الشيء في غير محله كالذي في الظلام لما غطى من شهواته على عقله ، ولذلك قال : ( جهولاً ) أي فجهله يغلب على حمله فيوقعه في الظلم ، فجعل كل من ظهور ما أودعه الله في الأكوان وكونه في حيز الإمكان كأنه عرض عليها كل من حمله وبذله كما أنه جعل تمكين الإنسان من كل من إبداء ما اؤتمن عليه وإخفائه كذلك .
ولما كان الحكم في الظاهر على جميع الإنسان ، وفي الحقيقة - لكون القضية الخالية عن السور في قوة الجزئية - على بعضه ، لكنه لما أطلق الكلي فهم أن المراد الأكثر ، قال مبيناً أن ( ال ) ليست سوراً معللاً لحمله لها مقدماً التعذيب إشارة إلى أن الخونة أكثر ، لافتاً العبارة إلى الاسم الأعظم لتنويع المقال إلى جلال وجمال : ( ليعذب الله ) أي الملك الأعظم بسبب الخيانة في الأمانة ، وقدم من الخونة أجدرهم بذلك فقال : ( المنافقين والمنافقات ) أي الذين يظهرون بذل الأمانة كذباً وزوراً وهم حاملون لها عريقون في النفاق ) والمشركين والمشركات ) أي الذين يصارحون بحملها ومنعها عن أهلها وهم عريقون في الشرك فلا يتوبون منه .(6/142)
صفحة رقم 143
ولما كان تقديم التعذيب مفهماً أن الخونة أكثر ، أشار إلى أن المخلص نادراً جداً بقوله : ( ويتوب الله ) أي بما له من العظمة ) على المؤمنين ) أي العريقين في وصف الإيمان وهو الثابون عليه إلى الموت ) والمؤمنات ( العصاة وغيرهم فيرفقهم لبذلها بعد حملها فالآية من الاحتباك : ذكر العذاب أولاً دليلاً على النعيم ثانياً ، والتوبة ثانياً دليلاً على منعها أولاً أي عرض هذا العرض وحكم هذا الحكم ليعذب بحجة يتعارفها الناس فيما بينهم .
ولما كان هذا مؤذناً بأنه ما من أحد إلا وقد حملها وقتاً ما ، فكان مرغباً للقلوب مرهباً للنفوس ، قال مؤنساً لها مرغباً : ( وكان الله ) أي على ما له من الكبر والعظمة والانتقام والملك والسطوة ) غفوراً ) أي محاء لذنوب التائبين الفعلية والإمكانية عيناً وأثراً ) رحيماً ) أي مكرماً لهم بأنواع الإكرام بعد الرجوع عن الإجرام ، ولما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مطلعها بالتقوى أمر في مقطعها بذلك على وجه عام ، وتوعد المشاققين والمنافقين الذين نهى في أولها عن طاعتهم ، وختم بصفتي المغفرة والرحمة كما ختم في أولها بهما آية الخطأ والتعمد ، فقد تلاقيا وتعانقا وتوافقا وتطابقا - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وهو أعلم بالصواب .
.. .(6/143)
صفحة رقم 144
سورة سبإ
سبأ : ( 1 - 2 ) الحمد لله الذي. .. . .
) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( ( )
مقصودها أن الدار الآخرة - التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها - كائنة لا ريب فيها ، لما في ذلك من الحكمة ، وله عليه من القدرة ، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم ، ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد كما ياتي بيانه لذلك سميت بها ) بسم الله ( الذي من شمول قدرته إقامة الحساب ) الرحمن ( الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب ) الرحيم ( الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب .
لما ختمت سورة الأحزاب بأنه سبحانه عرض أداء الأمانة وحملها - وهي جميع ما في الوجود من المنافع - على السماوات والأرض والجبال ، فأشفقن منها وحملها الإنسان الذي هو الإنس والجان ، وأن نتجية العرض والأداء والحمل العذاب والثواب ، فعلم أن الكل ملكه وفي ملكه ، خائفون من عظمته مشفقون من قهر سطوته وقاهر جبروته ، وأنه المالك التام المُلك والمِلك المطاع المتصرف في كل شيء من غير دفاع ، وختم ذلك بصفتي المغفرة والرحمة ، دل على ذلك كله بأن ابتدأ هذه قوله : ( الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال من الخلق والأمر كله مطلقاً في الأولى الأخرى وغيرهما مما يمكن أن يكون ويحيط به عمله سبحانه ) لله ( ذي الجلال والجمال .
ولما كان هذا هو المراد ، وصفه بما يفيد ذلك ، فقال منبهاً على نعمة الإبداء والإبقاء أولاً : ( الذي له ) أي وحده مِلكاً ومُلكاً وإن نسبتم إلى غيره ملكاً وملكاً ظاهرياً(6/144)
صفحة رقم 145
) ما في السموات ) أي بأسرها ) وما في الأرض ) أي كما ترون أنه لا متصرف في شيء من ذلك كمال التصرف غيره ، وقد علم في غير موضع وتقرر في كل فطرة أنه ذو العرش العظيم ، فأنتج ذلك أن له ما يحويه عرضه من السماوات والأراضي وما فيها ، لأن من المعلوم أن العرش محيط بالكل ، فالكل فيه ، وكل سماء في التي فوقها ، وكذا الأراضي ، وقد تقرر أن له ما في الكل ، فأنتج ذلك أن له الكل بهذا البرهان الصحيح ، وهو أبلغ مما لو عبر عن ذلك على وجه التصريح ، وإذ قد كان له ذلك كله فلا نعمة على شيء إلا منه ، فكل شيء يحمده لما له عليه من نعمه بلسان قال ، فإن لم يكن فبلسان حاله .
ولما أفاد ذلك أن له الدنيا وما فيها ، وقد علم في آخر الأحزاب أن نتجية الوجود العذاب والمغفرة ، ونحن نرى أكثر الظلمة والمنافقين يموتون من غير عذاب ، وأكثر المؤمنين يموتون لم يوفوا ما وعدزه من الثواب ، ونعلم قطعاً أنه لا يجوز على حكيم أن يترك عبيده سدى يبغي بعضهم على بعض وهو لا يغير عليهم ، فأفاد ذلك أن له داراً أخرى يظهر فيها العدل وينشر الكرم والفضل ، فلذلك قال عاطفاً على ما يسببه الكلام الأول من نحو : فله الحمد في الأولى ، وطواه لأجل خفائه على أكثر الخلق ، وأظهر ما في الآخرة لظهوره لأنها دار كشف الغطاء ، فقال منبهاً على نعمة الإعادة والإبقاء ثانياً : ( وله ) أي وحده ) الحمد ) أي الإحاطة بالكمال ) في الآخرة ( ظاهراً لكل من يجمعه الحشر ، وله كل ما فيها ، لا يدعي ذلك أحد في شيء منه لا ظاهراً ولا باطناً ، فكل شيء فيها لظهور الحمد إذ ذاك بحمده كما ينبغي لجلاله بما له عليه من نعمة أقلها نعمة الإيجاد حتى أهل النار فإنهم يحمدونه بما يحبب إليهم في الدنيا من إسباغ نعمه ظاهرة وباطنة ، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل على وجه ما أبقى فيه للتحبب موضعاً في دعائهم إليه وإقبالهم عليه ، وبذل النصيحة على وجوه من اللطف كما هو معروف عند من عاناه ، فعملوا أنهم هم المفرطون حيث أبوا في الأولى حيث ينفع الإيمان ، واعترفوا في الآخرة حيث فات الأوان ) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش ( - الآيات ، وأيضاً فهم يحمدونه في الآخرة لعلمهم أنه لا يعذب أحداً منهم فوق ما يستحق وهو قادر على ذلك ، ولذلك جعل النار طبقات ، ورتبها دركات ، فكانوا في الأولى حامدين على غير وجهه ، فلم ينفعهم حمدهم لبنائه على غير أساس ، وحمدوا في الاخرة على وجهه فما أغنى عنهم لكونها ليست دار العمل لفوات شرطه ، وهو الإيمان بالغيب ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً ( له الحمد في الأولى ) لما دل عليه ثانياً ، وثانياً ( وله كل ما في الآخرة ) لما دل عليه أولاً ، وقد علم بهذا وبما قدمته في النحل والفاتحة أن الحمد تارة(6/145)
صفحة رقم 146
يكون بالنظر إلى الحامد ، وتارة إلى المحمود ، فالثاني اتصاف المحمود بالجميل ، والأول وصف الحامد له بالجميل ، فحمد لله تعالى اتصافه بكل وصف جميل ، وحمد الحامد له وصفه بذلك ، فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده سواء أنطق لسان القال بذلك أم لا ، وهو محمود قبل تكوينها ، وذلك هو معنى قولي الإحاطة بأوصاف الكمال ، وحمد غيره له تارة يطلق بالمدلول اللغوي ، وتارة بالمدلول العرفي ، وتحقيق ما قال العلماء في ذلك في نفسه وبالنسبة بينه وبين الشكر أن الحمد في اللغة هو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم ، ومورده اللسان وحده فهو مختص بالظاهر ومتعلقه النعمة وغيرها ، فمورده خاص ومتعلقه عام ، والشكر لغة على العكس من ذلك متعلقه خاص ومورده عام ، لأنه فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب إنعامه فمورده الظاهر والباطن لأنه يعم اللسان والجنان والأركان ، ومتعلقه النعمة الواصلة إلى الشاكر ، ومن موارده القلب وهو أشرف الموارد كلها ، لأنه فعله وإن كان خفياً يستقل بكونه شكراً من غير أن ينضم إليه فعل غير بخلاف الموردين الآخرين ، إذ لا يكون فعل شيء منهما حمداً ولا شكراً حقيقة ما لم ينضم إليه فعل القلب .
ولما كان تعاكس الموردين والمتعلقين ظاهر الدلالة على النسبة بين الحمد والشكر اللغويين ، علم أن بينهما عموماً وخصوصاً وجيهاً ، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل المجردة ، والشكر قد يختص بالفواضل ، فينفرد الحمد من هذه الجهة ، وينفرد الشكر بالعفل الظاهر والاعتقاد الباطن على الفواضل من غير قول ، ويجتمعان في الوصف الجناني واللساني على الفواضل ، ففعل القلب اعتقاد اتصاف المشكور بصفات الكمال من الجلال والجمال ، وفعل اللسان ذكر ما يدل على ذلك ، وفعل الأركان الإيتان بأفعال دالة على ذلك .
ولما كان هذا حقيقة الحمد والشكر لغة لا عرفاً ، وكانت الأوهام تسبق إلى أن الحمد ما يشتمل على لفظ ح م د ، قال القطب الرازي في شرح المطالع : وليس الحمد عبارة عن خصوص قول القائل ( الحمد لله ) وإن كان هذا القول فرداً من أفراد الماهية ، وكذا ليس ماهية الشكر عبارة عن خصوص قول القائل ( الشكر لله ) ولا القول المطلق الدال على تعظيم الله وإن كان الثاني جزءاً منه والأول فرد من هذا الجزء ، وحقيقة الحمد في العرف ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وحقيقة الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من القوى إلى ما خلق له كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته للاعتبار إلى عليّ حضراته ، وإلقاء السمع إلى تلقي ما يبنئ عن مرضاته ، والاجتناب عن منهياته ، فذكر الوصف في اللغوي يفهم الكلام سواء كان نفسائياً أو(6/146)
صفحة رقم 147
لسانياً فيشمل حمد لله تعالى نفسه وحمدنا له ، والجميل متناول للأنعام وغيره من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وعدم تقييد الوصف بكونه في مقابلة نعمه مظهر لأن الحمد قد يكون واقعاً بإزاء النعمة وقد لا يكون ، واشتراط التعظيم يفهم تطابق الظاهر والباطن ، فإن عرى قول اللسان عن مطابقة الإعتقاد أو خالفه فعل الجوارح لم يكن حمداً حقيقة ، بل استهزاء وسخرية ، ومطابقة الجنان والأركان شرط في الحمد لا شطر ، فلا يتداخل التعريفان ، ولا يخرج بالاختيار صفات الله القديمة ، فإنها من حيث قدرته على تعليقها بالأشياء تكون داخلة فيكون الحمد على الوصف الاختياري ، وكذا إذا مدح الشجاع بشجاعته والقدرة على تعليق الوصف بما يتحقق به كانت الشجاعة خاصة لم يكن هناك محمود عليه ، فقد علم من هذا أنه إذا كان هناك اختيار في الآثار كان الحمد عليه وإلا فلا ، فلا يسمى وصف اللؤلؤة بصفاء الجوهر وبهجة المنظر حمداً بل مدحاً ، ويسمى الوصف بالشجاعة للاختيار في إظهار آثارها حمداً ، فاختص الحمد بالفاعل المختار دون المدح ، وعلم أيضاً أن القول المخصوص وهو ( الحمد لله ) ليس حمداً لخصوصه ، بل لأند دال على صفة الكمال ومظهر لها ، فيشاركه في التسمية كل ما دل على ذلك من الوصف ، ولذلك قال بعض المحققين من الصوفية : حقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية ، وذلك قد يكون بالقول كما عرف ، وقد يكون بالفعل وهو أقوى ، لأن الأفعال التي هي آثار الأوصاف تدل عليها دلالة عقلية قطعية ، لا يتصور فيها خلف بخلاف الأقوال ، فإن دلالتها عليها وضعية ، وقد يختلف عنها مدلولها ، وقد حمد تعالى نفسه بما يقطع من القول والفعل ، ما الفعل فإنه بسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى ، فكشف ذلك من صفات كماله وأظهرها بدلالات قطعية تفصيلية غير متناهية ، فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها ، ولا يتصور في عبارات المخلوق مثل هذه الدلالات ، ومن ثمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) ولا بد للتنبه لما قاله الأستاذ أبو الحسن التجيبي المغربي الحرالي في تفسيره بأن حمدلة الفاتحة تتضمن من حيث ظاهرها المدح التام الكامل ممن يرى المدحة سارية في كل ما أبدعه الله وما أحكمه من الأسباب التي احتواها الكون كله ، وعلم أن كلتا يدى ربه يمين مباركة ، وهو معنى ما يظهره إحاطة العلم بإبداء الله حكمته على وجه لا نكرة فيه منه ، ولا ممن هو في أمره خليفته ، وليس(6/147)
صفحة رقم 148
من معنى ما بين العبد وربه من وجه إسداد النعم وهو أمر يجده القلب علماً ، لا أمر يوافق النفس غرضاً ، فمن لم يكمل بعلم ذلك تالياً على أثر من علمه ، واجداً بركة تلاوته - انتهى .
وأما القول فإنه سبحانه لما علم أن لسان الحال إنما يرمز رمزاً خفياً لا يفهمه إلا الأفراد وإن كان بعد التحقيق جلياً ، أنزل عليما كتاباً مفصحاً بالمراد أثنى فيه على نفسه ، وبين صفات كماله بالبيان الذي يعجز عنه القوى ، ثم جعل الإعجاز دلالة قطعية على كماله ، وعلى كل ما له من جلاله وجماله ، وقد علم من هذه التعاريف أن بين الحمد والشكر اللغويين عموماً وخصوصاً من وجه ، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل وهي الصفات الجميلة التي لا يتجاوز منها أثر ومنفعة إلى غير الممدوح كالشجاعة ، والشكر يختص بالفواضل وهي النعم وهي الصفات والمزايا المتعدية التي يحصل منها منفعة لغير الممدوح كالإحسان والمواهب والعطايا كما مضى ، وبين الحمد والشكر العرفيين عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالحمد أعم مطلقاً لعموم النعم الواصلة إلى الحامد وغيره ، واختصاص الشكر بما يصل إلى الشاكر ، وذلك لأن المنعم المذكور في التعريف مطلق لم يقيد بكونه منعماً على الحامد أو على غيره ، فمتناولهما بخلاف الشكر وقد اعتبر فيه منعم مخصوص وهو الله تعالى ، ونعم واصلة منه إلى الشاكر ، ولعموم هذا الحمد مطلقاً وخصوص هذا الشكر مطلقاً وجه ثان ، وهو أن فعل القلب واللسان مثلاً قد يكون حمداً وليس شكراً أصلاً ، إذ قد اعتبر فيه شمول الآلات ، ووجه ثالث وهو أن الشكر بهاذ المعنى لا يتعلق بغيره تعالى بخلاف الحمد ، وما يقال من أن النسبة بالعموم المطلق ، بين العرفيين إنما تصح بحسب الوجود دون الحمل الذي كلامنا فيه ، لأن الحمد بصرف القلب مثلاً فيما خلق لأجله جزء من صرف الجميع غير محمول عن الموضوع في الوجود الخارجي ، فغلظ من باب اشتباه الشيء بما صدق هو عليه ، فإن ما ليس محمولاً على ذلك الصرف هو ما صدق عليه الحمد ، أعني صرف القلب وحده لا مفهومه المذكور ، وهو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وهذا المفهوم يحمل على صرف الجميع ، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة ، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد ، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة ، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد ، جوابه أنه فعل واحد تعدد متعلقه ، فلا ينافي وصفه بالوحدة كما يقال : صدر عن زيد فعل واحد إكرام جميع القوم مثلاً ، وتحقيقه أن المركب قد يوصف بالوحدة الحقيقية كبدن واحد ، والاعتبارية كعسكر واحد ، وصدق الجميع من قبيل الثاني كما لا يرتاب فيه ذو مسكة ، والنسبة بين الحمدين اللغوي والعرفي عموم وخصوص من وجه ، لأن الحمد العرفي هو الشكر اللغوي ، وقد مضى بيان ذلك فيهما .
وبين الشكر(6/148)
صفحة رقم 149
العرفي واللغوي عموم مطلق لأن الشكر اللغوي يعم النعمة إلى الغير دون العرفي فهو أعم ، والعرفي أخص مطلقاً ، وكذا بين الشكر العرفي والحمد اللغوي لأن الأول مخصوص بالنعمة على الشاكر سواء كان باللسان أو لا ، والثاني وإن خص باللسان فهو مشترط فيه مطابقة الأركان والجنان ، ليكون على وجهة التبجيل ، وقد لا يكون في مقابلة نعمة فهو أعم مطلقاً فكل شكر عرفي حمد لغوي ، ولا ينعكس وهذا بحسب الوجود ، وكذا بين الحمد العرفي والشكر اللغوي عموم مطلق أيضاً إذا قيدت النعمة في اللغوي بوصولها إلى الشاكر كما مر ، وأما إذا لم تقيد فهما متحدان ، وأما الشكر المطلق فهو على قياس ما مضى تعظيم المنعم بصرف نعمته إلى ما يرضيه ، ولا يخفى أنه إذا كان نفس الحمد والشكر من النعم لم يمكن أحداً الإيتان بهما على التمام والكمال لاستلزامه تسلسل الأفعال إلى ما لا يتناهى ، وهذا التحقيق منقول عن إمام الحرمين والإمام الرازي - هذا حاصل ما في شرح المطالع للقطب الرازي وحاشيته للشريف الجرجاني بزيادات ، وقد علم صحة ما أسلفته في شرح الحمد بالنظر إلى الحامد وبالنظر إلى المحمود ، وإذا جمعت أطراف ما تقدم في سورة النحل والفاتحة وغيرهما من أن المادة تدور على الإحاطة علم أنه بالنظر إلى الحامد وصفه المحمود بالإحاطة بأوصاف الكمال ، وبالنظر إلى المحمود اتصافه بالإحاطة بأوصاف الكمال ، فإن الوصف يشترط أن يكون مطابقاً وإلا كان مدحاً لا حمداً ، كما حققه العلامة قاضي دمشق شمس الدين أحمد بن خليل الخوبي في كتابه أقاليم التعاليم .
ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاده الآخرة قال : ( وهو الحكيم ) أي الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها ، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً بالعمل على وقفه .
ولما كانت الحكمة لا تتهيأ إلا بدقيق العلم وصافيه ولبابه وهو الخبرة قال : ( الخبير ) أي البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور بواطنها حالاً ومالاً ، فلا يجوز في عقل انه - وهو المتصف بهاتين الصفتين كما هو مشاهد في إتقان أفعاله وإحاكم كل شيء سمعناه من أقواله - يخلق الخلق سدى من غير إعادة لدار الجزاء ، وقد مضى في الفاتحة وغيرها عن العلامة يعد اليدين التفاتارزانين أنه قال : التصدير بالحمد إشارة إلى إمهات النعم الأربع ، وهي الإيجاد الأول ، والإيجاد الثاني ، والإبقاء الأول ، والإبقاء الثاني ، وأن الفاتحة لكونها أم الكتاب أشير فيها إلى الكل ، ثم أشير في كل سورة صدرت بعدها بالحمد إلى نعمة منها على الترتيب ، وأنه أشير في الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر وفي الكهف إلى الإبقاء الأول ، لأن انتظام البقاء الأول والانتفاع بالإيجاد لا يكون إلا(6/149)
صفحة رقم 150
بالكتاب والرسول ، وأنه أشير في هذه السورة إلى الإيجاد الثاني لانسياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منكري الساعة حيث قال سبحانه ) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي ( انتهى ، وقد علم مما قررته أنها من أولها مشيرة إلى ذلك على طريق البرهان .
وقال أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالحمد لله لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حس ما أبين - آنفاً - يعني في آخر كلامه على سورة الأحزاب - فكان مظنة الحمد على ما منح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى ) الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ( ملكاً واختراعاً ، وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعاً عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتفريقهم بحسب ما شاء فكأن قد قيل : إذا كانوا له ملكاً وعبيداً ، فلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من تيسير للحسنى أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته واستطلاع سببه ، بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع ) وهو الحكيم الخبير ( وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم ، وأشار قوله ( وله الحمد في الآخرة ) إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين - من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء أو عظيم الثواب في الآخرة - على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم
77 ( ) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( ) 7
[ السجدة : 17 ] ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى ) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيه ( إلى قوله ) وهو الحيم ( فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم ، فله الحمد الذي هو أهله ، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب وكفر مع عظيم اجترائهم لتتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى ) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ( إلى قوله : ( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) أي إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم ) لا تأتينا الساعة ( وقوله : ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد ( وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات وفي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر ، ثم بسط لعباده المؤمنين من ذكر الاية ونعمه وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه ، ويشير إلى عظيم ملكه كما أعلم في قوله سبحانه ) الحمد لله الذي له في السموات وما في الأرض ( فقال سبحانه ) ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه الطير وألنّا له الحديد ( ثم قال ) ولسليمان الريح ( إلى قوله : ( اعملوا آل داود شكراً ( ثم أتبع ذلك بذكر حال لم يشكر فذكر(6/150)
صفحة رقم 151
قصة سبأ إلى آخرها ، ثم وبخ تعالى من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال ) ثل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ( إلى وصفه حالهم الأخروي ومراجعة متكبريهم ضعفاءهم وضعفائهم متكبريهم ) وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ( ثم التحمت الآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها - انتهى .
ولما ختم بصفة الخبر ، أتبع ذلك ما يدل عليه فقال : ( يعلم ما يلج في الأرض ) أي هذا الجنس من المياه والأموال ، والأموات ، وقدم هذا لأن الشيء يغيب في التراب أولاً ثم يسقى فيخرج ) وما يخرج منها ( من المياه والمعادن والنبات ) وما ينزل من السماء ) أي هذا الجنس من حرارة وبرودة وماء وملك وغير ذلك ) وما يعرج ( ولما كانت السماوات أجساماً كثيفة متراقية ، لم يعبر بحرف الغاية كما في قوله تعالى ) ) إليه يصعد الكلم الطيب ( ) [ فاطر : 10 ] بل قال : ( فيها ) أي من الأعمال والملائكة وكل ما يتصاعد من الأرض في جهة العلو وأنتم كما ترونه يميز كل شيء عن مشابهه ، فيميز ما له أهلية التولد من الماء والتراب في الأرض من النباتات عن بقية الماء والتراب على اختلاف أنواعه مميزاً بعضه عن بعض ، ومن المعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص إلى غير ذلك ، مع أن الكل ما يخالط الزاب ، فكيف يستبعد عليه أن يحيي الموتى لعسر تمييز تراب كل ميت بعد التمزق والاختلاط من تراب آخر .
ولما كان الحاصل من هذا المتقدم أنه رب كل شيء ، وكان الرب لا تنتظم ربوبيته إلا بالرفق والإصلاح ، وكان ربما ظن جاهل انه لا يعلم أعمال الخلائق لأنه لو علمها ما أقر عليها ، اعلم أن رحمته سبقت غضبه ، ولذلك قدم صفة الرحمة ، ولأنه في سياق الحمد ، فناسب تقديم الوصف الناظر إلى التكميل على الوصف النافي للنقص فقال : ( وهو ) أي والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للإبدان ) الرحيم ) أي المنعم بما ترضاه الإلهية من إنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان ) الغفور ) أي المحاء للذنوب أما من اتبع ما أنزل من ذلك كما بلغته الرسل فبالمحو عيناً وأثراً حتى لا يعاقبهم على ما سلف منها ولا يعاتبهم ، وأما غيره فالتكفير بأنواع المحن أو التأخير إلى يوم الحشر .
سبأ : ( 3 - 6 ) وقال الذين كفروا. .. . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ وَيَرَى(6/151)
صفحة رقم 152
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) 73
( ) 71
ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال ، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم ، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والأيالة القاهرة التي لا شوب فيها ، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل ، فكانت نتيجة ذلك : فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون ، فعطف عليه قوله : ( وقال الذين كفروا ) أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة : ( لا تأتينا الساعة ( والإخبار عنها باطل .
ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه ، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكداً بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال : ( قال بلى وربي ) أي المحسن إليّ بما عمني به معكم من النعم ، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم - إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه ، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم لي منكم ، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني ، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاه عبيده على بعض ، ويدعهم سدى من غير تأديب ، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعاً له ، والباغي عاصياً عليه ، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكام الحاكمين ؟ ) لتأتينكم ) أي الساعة لتظهر فيها ظهرواً تاماً الحكمة بالعدل والفضل ، وغير ذلك من عجائب الحكم والفصل .
ولما كان الحاكم لا يهمل رعيته إلا إذا غابوا من علمه ، ولا يهمل شيئاً من أحوالهم إلا إذا غاب منه ذلك الشيء ، وكانت الساعة من عالم الغيب ، وكان ما تقدم من إثبات العلم ربما خصه متعنت بعالم الشهادة ، وصف ذاته الأقدس سبحانه بما بين أنه لا فرق عنده عنده بين الغيب الذي الساعة منه والشهادة ، بل الكل عنده شهادة ، وللعناية بهذا المعنى يقدم الغيب إذا جمعا في الذكر ، فقال مبيناً عظمة المقسم به ليفيد حقية المقسم عليه لأن القسم بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المشتسهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة كان في الشهادة أقوى وأكد ، والمستهشد عليه أثبت وأرسخ ، وأصفاً له على قراءة الجماعة ومستانفاً ، - وهو أبلغ - على قراءة المدنيين وابن عامر ورويس عن يعقوب بالرفع : ( عالم الغيب ( وقراءة حمزة والكسائي ( علام ) بصيغة المبالغة كما هو أليق بالموضع .
ولما كنا القصور علمنا متقيدين بما في هذا الكون مع أن الكلام فيه ، قال مصرحاً بالمقصود على أتم وجه : ( لا يعزب ( - أي يغيب ويبعد عزوباً قوياً - على قراءة(6/152)
صفحة رقم 153
الجماعة بالضم ، ولا ضعيفاً - على قراءة الكسائي بالكسر ) عنه مثقال ذرة ) أي من ذات ولا معنى ، والذرة نملة حمراء صغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه .
ولما كان في هذه السورة السباق للحمد ، وهو الكمال وجهة العلو به أوفق ولأمر الساعة ومبدأه منها بدأ بها .
ولما كان قد بين علمه بأمور السماء ، وكان المراد بها الجنس ، جمع هنا تصريحاً بذلك المراد فقال : ( في السموات ( وأكد النفي بتكرير ( لا ) فقال : ( ولا في الأرض ( ولما كنا مقيدين بالكتاب ، ابتدأ الخبر بما يبهر العقل من أن كل شيء مسطور من قبل كونه ثم يكون على وفق ما سطر ، فإذا كشف للملائكة عن ذلك ازدادوا إيماناً وتسبيحاً وتحميداً وتقديساً ، فقال - عند حميع القراء عاطفاً على الجملة من أصلها لا على المثقال لأن الاستثناء يمنعه : ( ولا أصغر ) أي ولا يكون شيء أصغر ) من ذلك ) أي المثقال ) ولا أكبر ) أي من المثقال فما فوقه ) إلا في كتاب ( وإخبارنا به لما جرت به عوائدنا من تقييد العلم بالكتاب ، وأما هو سبحانه فغني عن ذلك .
ولما كان الإنسان قد يكتب الشيء ثم يغيب عنه وينسى مكانه فيعجز في استخراجه أخبر أن كتابه على خلاف ذلك ، بل هو حيث لا يكشف من يريد اطلاعه عليه شيئاً إلا وجده في الحال فقال : ( مبين ( ويجوز - ولعله أحسن - إذا تأملت هذه مع آية يونس أن يعطف على مثقال ، ويكون الاستثناء منقطعاً ، ولكن على بابها في كونها بين متنافيين ، فإن المعنى أنه لا يغيب ولا يبعد عنه شيء من ذلك لكنه محفوظ أتم حفظ في كتاب لا يراد منه كشف عن شي إلا كان له في غاية الإبانة ، ولعله عبر بأداة المتصل إشارة إلى أنه إن كان هناك عزوب فهو على هذه الصفة التي هي في غاية البعد عن العزوب ، ثم بين علة ذلك كله دليلاً على صدق القسم بما ختمت به الأحزاب من حكمة عرض الأمانة مما لا يمتري ذو عقل ولو قل في صحته ، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يفعل غيره فقال : ( ليجزي الذين آمنوا ) أي فإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان ، فلا يجوز ان يدعه بغير جزاء : ( وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( .
ولما التفت السامع إلى معرفة جزائهم ، أوردة تعظيماً لشأنه ، جواباً للسؤال مشيراً إليه بما دل على علو رتبته بعلو رتبة أهله : ( أولئك ) أي العالو الرتبة ) لهم مغفرة ) أي لزلاتهم أو هفواتهم لأن الإنسان المبني على النقصان لا يقدر العظيم السلطان حتى قدره ) ورزق كريم ) أي جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي ، لا كدر فيه بوجه .
ولما كانت أدلة الساعة قد اتضحت حتى لم يبق مانع من التصديق لها إلا العناد ، وكان السياق لتهديد من جحدها ، قال معبراً بالماضي : ( والذين سعوا ) أي فعلوا فعل(6/153)
صفحة رقم 154
الساعي ) في آياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) معجزين ) أي مبالغين في قصد تعجيزها بتخلفها عما نزيده من إنقاذها ، وهكذا معنى قراءة المفاعلة ، ولما كان ذنبهم عظيماً ، أشار بابتداء آخر فقال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم ) لهم عذاب ( وأيّ عذاب ) من رجز ) أي شيء كله اضطراب ، فهو موجب لعظيم النكد والانزعاج ، فهو أسوأ العذاب ) أليم ) أي بليغ الألم - جره الجماعة نعتاً لرجز ، ورفعه ابن كثير وحفص عن عاصم نعتاً لعذاب .
ولما ذم الكفرة ، وعجب منهم في إنكارهم الساعة في قوله : ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ( وأقام الدليل على إيتانها ، وبين أنه لا يجوز في الحكمة غيره ليحصل العدل والفضل في جزاء أهل الشر وأولي الفضل ، عطف على ذلك مدح المؤمنين فقال واصفاً لهم بالعلم ، إعلاماً بأن الذي أورث الكفرة التكذيب الجهل : ( ويرى الذين ( معبراً بالرؤية والمضارع إشارة إلى أنهم في عملهم غير شاكين ، بل هم كالشاهدين لكل ما أخبرهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبالمضارع إلى تجدد عملهم مترقين في رتبه على الدوام مقابلة لجلافة أولئك في ثباتهم على الباطل الذي أشار إليه الماضي ، وأشار إلى أن علمهم لدني بقوله : ( أوتوا العلم ) أي قذفه الله في قلوبهم فصاروا مشاهدين لمضامينه لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقيناً سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو من أهل الكتاب ) الذي أنزل إليك ) أي كله من أمر الساعة وغيره ) من ربك ) أي المحسن إليك بإنزاله ، وأتي بضمير الفصل تفخيماً للأمر وتنصيصاً على أن ما بعده مفعول ( أوتوا ) الثاني فقال : ( هو الحق ) أي لا غيره من الكلام ) ويهدي ) أي يجدد على مدى الزمان هداية من اتبعه ) إلى صراط ) أي طريق واضح واسع .
ولما كانت هذه السورة مكية ، وكان الكفار فيها مستظهرين والمؤمنون قليلين خائفين ، والعرب يذمونهم بمخالفة قومهم ودين آبائهم ونحو ذلك من الخرافات التي حاصلها الاستدلال على الحق المزعوم بالرجال قال : ( العزيز الحميد ) أي الذي من سلك طريقه - وهو الإسلام - عز وحمده ربه فحمده كل شيء وأن تمالأ عليه الخلق أجمعون ، فإنه سبحانه لا بد أن يتجلى للفصل بين العباد ، بالإشقاء والإسعاد على قدر الاستعداد .
سبأ : ( 7 - 11 ) وقال الذين كفروا. .. . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ(6/154)
صفحة رقم 155
الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) 73
( ) 71
ولما عجب سبحانه من الذين كفروا في قولهم ) لا تأتينا الساعة ( المتضمن لتكذيبهم ، وختم بتصديق الذين أوتوا العلم مشيراً أن سبب تكذيب الكفرة الجهل الذي سببه الكبر ، عجب منهم تعجيباً آخر أشد من الأول لتصريحهم بالتكذيب على وجه عجيب فقال : ( وقال الذين كفروا ) أي الذين تحققوا أمره ( صلى الله عليه وسلم ) وأجمعوا خلافه وعتوا على العناد ، لمن يرد عليهم ممن لا يعرف حقيقة حاله معجبين ومنفرين : ( عل ندلكم ) أي أيها المعتقدون أن لا حشر .
ولما أخرجوا الكلام مخرج الغرائب المضحكة لم يذكروا اسمه مع أنه أشهر الأسماء ، بل قالوا : ( على رجل ) أي ليس هو صبياً ولا امرأة حتى تعذوره ) ينبئكم ) أي يخبركم متى شئتم أخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نعقله مجدداً لذلك متى شاء المستخبر له .
ولما كان القصد ذكر ما يدل عندهم على استبعاد البعث ، قدموا المعمول فقالوا : ( إذا ) أي إنكم إذا ) مزقتم ) أي قطعتم وفرقتم بعد موتكم من كل من شأنه أن يمزق من التراب والرياح وطول الزمان ونحو ذلك تمزيقاً عظيناً ، بحيث صرتم تراباً ، وذلك معنى ) كل ممزق ) أي كل تمزيق ، فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء ، بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض ، وذهبت به السيول كل مذهب ، فصار مع اختلاطه بتراب الأرض والتباسه متباعداً بعضه عن بعض ، وكسر معمول ( ينبئكم ) لأجل اللام فقال : ( إنكم لفي ) أي لتقومون كما كنتم قبل الموت قياماً لا شك فيه ، والإخبار يه مستحق لغاية التأكيد ) خلق جديد ( وهذا عامل إذا الظرفية .
ولما نفروا عنه بهذا الإخبار المحير في الحامل له عليه ، خيلوا بتقسيم القول فيه في استفهام مردد بين الاستعجام تعجيباً والإنكار ، فقالوا جواباً لمن سأل عن سبب إخباره بإسقاط همزة الوصل ، لعدم الإلباس هنا بخلاف ما يصحب لام التعريف فإنها لفتحها تلبس بالخبر : ( افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الذي لا أعظم منه ) كذباً ( بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل يصح منه القصد .
ولما كان يلزم من التعمد العقل ، قالوا : ( أم به جنة ) أي جنون ، فهو يقول الكذب ، وهو ما لا حقيقة له من غير تعمد ، لأنه ليس من أهل القصد ، فالآية من الاحتباك : ذكر الافتراء أولاً يدل على ضده ثانياً ، وذكر الجنون ثانياً يدل على ذكر ضده أولاً .(6/155)
صفحة رقم 156
ولما كان الجواب : ليس به شيء من ذلك ، عطف عليه مخبراً عن بعض الذين كفروا بما يوجب ردع البعض الآخر قوله : ( بل الذين لا يؤمنون ) أي لا يجددون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر ) بالآخرة ) أي الفطرة الآخرة التي أدل شيء عليها الفطرة الأولى .
ولما كان هذا القول مسبباً عن ضلالهم ، وكان ضلالهم سبباً لعذابهم ، قدم العذاب لأنه المحط وليرتدع من أراد الله إيمانه فقال : ( في العذاب ) أي في الدنيا بمحاولة إبطال ما أراد الله إتمامه ، وفي الآخرة لما فيه من المعصية ، وأتبعه سببه فقال : ( والظلال ) أي عما يلزم من وجوب وحدانيته وشمول قدرته بسبب أن له ما في السماوات وما في الأرض .
ولما كان قولهم بعيداً من الحق لوصفهم أهدى الناس بالضلال ، وكان الضلال يبعد ببعد صاحبه عن الجادة وتوغله في المهامه الوعرة الشاسعة ، قال واصفاً له بوصف الضال : ( البعيد ( فبين الوصف أنه لا يمكن الانفكاك عنه ، وعلم أن من الذين كفروا قسماً لم يطبعوا على الكفر ، فضلوا ضلالاً قريباً يمكن انفكاكهم عنه ، وهم الذين آمنوا منهم بعد ، وهو من بديع القول حيث عبر بها الظاهر الذي أفهم هذا التقسيم موضع الإضمار الذي كان حقه : بل هم في كذا .
ولما كانوا قد أنكروا الساعة لقطعهم بأن من مزق كل ممزق لا يمكن إعادته ، فقطعوا جهلاً بأن الله تعالى لا يقول ذلك ، فنسبوا الصادق ( صلى الله عليه وسلم ) في الإخبار بذلك إلى أحد أمرين : تعمد الكذب أو الجنون .
شرع سبحانه يدل على صدقه في جميع ما أخبر به ، فبدأ بإثبات قدرته على ذلك مستند إلى ضلالهم بسبب غفلتهم عن تدبر الآيات ، فكان المعنى : ضلوا فلم يروا ، فدل عليه منكراً عليهم مهدداً لهم مقرراً لذوي العقول من السامعين بقوله : ( أفلم يروا ( ونبه على أنهم في محل بعد عن الإبصار النافع بحف النهاية فقال : ( إلى ما بين أيديهم ) أي أمامهم ) وما خلفهم ( وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كل الخافقين وأنهما قد أحاطا بهم كغيرهم .
ولما لم تدع حاجة إلى الجمع أفرد فقال : ( من السماء والأرض ) أي الذين جعلنا مطلع السورة أن لنا كل ما فيهما .
ولما كان الإنكار لأئقاً بمقام العظمة ، فكان المعنى : إنا نفعل بهما وفيهما ما نشاء ، عبر بقوله : ( إن نشأ ( بما لنا من العظمة - على قراءة الجمهور ) نخسف ) أي تغور ) بهم ( وأدغم الكسائي إلى أنه سبحانه قد يفعل ذلك في أسرع من اللمح بحيث يدرك لأكثر الناس وقد يفعله على وجه الوضوح وهو أكثر - بما أشارت إليه قراءة(6/156)
صفحة رقم 157
الإظهار للجمهور .
ولما كان الخسف قد يكون لسطح أو سفينة ونحوهما ، خص الأمر بقوله : ( الأرض ) أي كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيها بأولى من غيره ) أو تسقط عليهم كسفاً ( بفتح السين على قراءة حفص وبإسكانه على قراءة غيره أي قاطعاً ) من السماء ( كذلك ليكون شديد الوقع لبعد الموقع المدى عن السحاب ونحوه لأن من المعلوم أنا نحن خلقناهما ، ومن أوجد شيئاً قدر على هذه وهذا ما أراد منه ، ومن جعل السياق للغيب - وهو حمزة والكسائي - رد الضمير على الاسم الأعظم الذي جعله مطلع السورة .
ولما كان هذا أمراً ظاهراً ، أنتج قوله مؤكداً لما لهم من إنكار البعث : ( إن في ذلك ) أي في قدرتنا على ما نشاء من كل منهما والتأمل في فنون تصاريفهما ) لآية ) أي علامة بينة على أنا نعامل من شئنا فيهما بالعدل بأي عذاب أردنا ، ومن شئنا بالفضل بأي ثواب أردنا ، وذلك دال على أنا قادرون على كل ما نشاء من الإمانة والإحياء وغيرهما ، فقد خسفنا بقارون وآله وبقوم لوط وأشياعهم ، وأسقطنا من السماء على أصحاب الأيكة يوم الظلة قطعاً من النار ، وعلى قوم لوط حجارة ، فأهلكنهم بذلك أجمعين .
ولما كانت الآيات لا تنفع من طبع على العناد قال تعالى : ( لكل عبد ) أي متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه ) منيب ) أي فيه قابلية الرجوع عما أبان له الدليل عن أنه زل فيه .
ولما أشار سبحانه بهذا الكلام الذي دل فيه على نفوذ الأمر إلى أنه تارة يعدل وتارة يفضل ، وكان الفضل أكثر استجلاباً لذوي الهمم العلية والأنفس الأبية ، بدأ به في عبد من رؤوس المنيبين على وجه دال على البعث بكمال التصرف في الخافقين وما فيهما بأمور شوهدت لبعض عبيدة تارة بالآذان ، أما عند أهل الكتاب فواضح ، وأما عند العرب فبتمكينهم من سؤالهم فقد كانوا يسألونهم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو حيان : إن بعض ذلك طفحت به أخبارهم ونطقت به أشعارهم ، فقال تعالى مقسماً تنبيهاً على أن إنكارهم للبعث إنكار لما يخبر به من المعجزات ، عاطفاً على ما تقديره : فلقد آتينا هذا الرجل الذي نسبتموه إلى الكذب أو الجنون منا فضلاً بهذه الأخبار المدلول عليها بمعجز القرآن فيا بعد ما بينه ما نسبتموه إليه : ( ولقد ) أي وعزتنا وما ثبت لنا من الإحاطة بصفات الكمال بالاتصاف بالحمد لقد ) آتينا ) أي أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة ) داود ( .
ولما كان المؤتى قد تكون واسطة لمن منه الإيتاء ، بين أن الأمر ليس إلا منه فقال : ( منا فضلاً ( ودل على أن التنوين للتعظيم وأنه لا يتوقف تكوين شيء على غير(6/157)
صفحة رقم 158
إرادته بقوله ، منزلاً الجبال منزلة العقلاء الذين يبادرون إلى امتثال أوامره ، تنبيهاً على كمال قدرته وبديع تصرفه في الأشياء كلها جواباً لمن كأنه قال : ما ذلك الفضل ؟ مبدلاً من ) أتينا ( ) يا ) أي قلنا لأشد الأرض : يا ) جبال أوبي ) أي رجعي التسبيح وقراءة الزبور وغيرهما من ذكر الله ) معه ) أي كلما سبح ، فهذه آية أرضية مما هو أشد الأرض بما هو وظيفة العقلاء ، ولذلك عبر فيه بالأمر دلالة على عظيم القدرة .
ولما كانت الجبال أغلظ الأرض وأثقلها ، وكان المعنى : دعونا الجبال للتأويب معه ، فبادرت الإجابة لدعائنا ، لما تقدم من أنها من جملة من أبى أن يحمل الأمانة ، عطف على ذلك أخف الحيوان وألطفه ، ليكون آية سماوية ، على أنه يفعل في السماء ما يشاء ، فإنه لو أمات الطائر في جو السماء لسقط ، ولا فرق في ذلك بين عال وعال ، فقال : ( والطير ) أي دعوناها أيضاً ، فكانت ترجع معه الذكر فدل قرانها بالطير على ذكرها حقيقة كذكر الطير دفعاً لتوهم من يظنه رجع الصدا ، وقراءة يعقوب بالرفع عطف على لفظ ( جبال ) وقراءة غيره عطف على موضعه ، أو تكون الواو بمعنى مع أو بتقدير فعل من معنى ما مضى كسخرنا ، قال وهب بن منبه : كان يقول للجبال : سبحي ، وللطير : أجيبي ، ثم يأخذ وهو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن ، فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه ، وذلك كما كان الحصى يسبح في كف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكما كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل ، وكما كان الحجر يسلم عليه ، وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه ، وحنين الجذع مشهور ، وكما كان الضب يشهد له والجمل يشكو أخذ بيضها ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) برده رحمة لها .
ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها .
ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء فقال : ( وألنا له الحديد ) أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة ، ثم ذكر علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله فقال : ( أن أعمل سابغات ) أي دروعاً طوالاً واسعة .
ولما كان السرد الخزر في الأديم وإدخال الخيط في موضع الخرز شبه إدخال الحلقة في الأخرى بلحمة لا طرف لها بمواضع الخرز فقال : ( وقدر في السرد ( أي(6/158)
صفحة رقم 159
النسج بأن يكون كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضسقة لئلا ينفذ منها سهم ولتكن في تحتها بحيث لا يقلعها سيف ولا تثقل على الدارع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ، ولا كان للإلانة فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير ، قال الزجاج : السرد في اللغة : تقدير الشيء إلى الشيء ليتأنئ متسقاً بعضه في أثر بعض متتابعاً ، ومنه قولهم : سرد فلان الحديث .
وهذا كما ألان الله تعالى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الخندق تلك الكدية وفي رواية : الكذانو وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم فضربها ( صلى الله عليه وسلم ) ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً وتلك الصخرة التي أخبره سلمان رضي الله عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث ضربات كسر في ضربه ثلاثاً منها وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة ، وأضاءت للصحابة رضي الله عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار كأنها مصباح في جوف بيت مظلم ، فسألوه عن ذلك فأخبرهم ( صلى الله عليه وسلم ) أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك ، وأخبره جبرائيل عيله السلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمركأنها أنياب الكلاب ، واخبر بفتحها عليهم ، فصدقه الله تعالى في جميع ما قال ، وأعظم من ذلك تصليب الخشب له حتى يصير سيفاً قوي المتن جيد الحديدة ، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش رضي الله عنه انقطع يوم أحد ، فأعطاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عرجونا فعاد في يده سيفاً قائمة منه مقاتل به ، فكان يسمى العون ، ولم يزل بعد يتواؤث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار ذكره الكلاعي في السيرة عن الزبير بن أبي بكر والبيهقي ، وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر فانقطع سيفه ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاه جذلاً من حطب ، فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفاً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به حتى وفتح الله على المسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العون ، ثم لم(6/159)
صفحة رقم 160
يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعده حتى قتل في الردة وهو عنده ، وعن الواقدي أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريش يوم بدر فأعطاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قضيباً كان في يده من عراجين ابن طاب فقال : اضرب به فإذا هو سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد ، وإلحامه للحديد ليس بأعجب من إلحام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها كما نقله البيهقي وغيره .
ولما أتم سبحانه ما يختص به من الكرامات ، عطف عليها ما جمع فيه الضمير لأنه يعم غيره فقال : ( واعملوا ) أي أنت ومن أطاعك ) صالحاً ) أي بما تفضلنا به عليكم من العلم والتوفيق للطاعة ، ثم علل هذا الأمر ترغيباً وترهيباً بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم للقدرة على البعث إنكار لغيرها من الصفات وإلى أن المتهاون في العمل في عداد من ينكر أنه يعين الله : ( إني بما تعلمون ) أي كله ) بصير ) أي مبصر وعالم بكل ظاهر له وباطن .
سبأ : ( 12 - 13 ) ولسليمان الريح غدوها. .. . .
) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( ( )
ولما أتم سبحانه ما أراد من آيات داود عليه السلام وختمها بالحديد ، اتبعه ابنه سليمان عليه السلام لمشاركته له في الإنابة ، وبدأ من آياته بما هو من أسباب تكوينه سبحانه للحديد فقال : ( ولسليمان ) أي عوضاً من الخيل التي عقرها لله ) الريح ( أي(6/160)
صفحة رقم 161
مسخرة على قراءة شعبة ، والتقدير على قراءة الجماعة : سخرناها له حال كونها ) غدوها شهر ) أي تحمله وتذهب به وبجميع عسكره بالغداة وهي من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر كان يغدو من إيليا فيقبل بإصطخر ) ورواحها ) أي من الظهر إلى آخر النهار ) شهر ) أي مسيرته ، فهذه آية سماوية دالة على أنه كما رفع بساط سليمان عليه السلام بما حصل من جنوده وآلاتهم ثم وضعه قادر على أن يضع ما يشاء من السماء فيهلك من تقع عليه ، وهذا كما سخر الله الريح للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة الأحزاب فكانت تهد خيامهم وتكفأ طعامهم وتضرب وجوهم بالحجارة والتراب وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله بها ، وكما حملت شخصين من أصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما في جبلي طي ، وتحمل من أراد الله من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة ، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى .
ولما ذكر الريح ، أتبعها ما هي من أسباب تكوينه فقال : ( وأسلنا له ) أي بعظمتنا ) عين القطر ) أي النحاس أذبناه له حتى صار كأنه عين ماء ، وذلك دال على أنه تعالى يفعل في الأرض ما يشاء ، فلو أراد لأسالها كلها فهلك من عليها ، ولو أراد لجعل بدل الإسالة الخسف والإزالة .
ولما ذكر الريح والنحاس الذي لا يذاب عادة إلا بالنار ، ذكر ما أغلب عناصرة النار ، وهو في الخفة والإقدار على الطيران كالريح فقال : ( ومن ) أي وسخرنا له من ) الجن ) أي الذين سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم ) بين يديه ( ولما كان ظن ظان أن لهم استبداداً بأعمالهم نفاه بقوله : ( بإذن ربه ) أي بتمكين المحسن إليه له ولهم بما يريد فعله .
ولما قرر سبحانه أن ذلك بإرادته فهو في الحقيقة بأمره ، زاد ذلك تقريراً بقوله عاطفاً على ما تقديره : فمن عمل بأمرنا أثبناه جنات النعيم : ( ومن بزغ ) أي يمل ، من زاغ يزيغ ويزوغ ) منهم ( مجاوزاً وعادلاً ) عن أمرنا ) أي عن الذي أمرناه به من طاعة سليمان أي أمره الذي هو من أمرنا ) عن أمرنا ) أي عن الذي أمرناه به من طاعة عليه السلام بها مما امكناه فيه من ذلك ) من عذاب السعير ) أي في الدنيا مجازاً وفي الآخؤة حقيقة ، وهذا كما أمكن الله نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك العفريت فخنقه وهو بربطه حتى يتلعب به صبيان المدينة ، ثم تركه تأدباً مع أخيه سليمان عليهما الصلاة والسلام فيما سأل الله تعالى فيه ، وأما الأعمال التي تدور عليها إقامة الدين فأغناه الله فيها عن الجن(6/161)
صفحة رقم 162
بالملائكة الكرام ، وسلط جمعاً من صحابته رضي الله عنهم على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحفظ زكاة رمضان ومنهم أبي بن كعب رضي الله عنه قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال : لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه لما جعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقة المسلمين فأتاه شيطان منهم يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل فضبطه به فالتفّت يداه عليه وقال له : يا عدو الله ، فشكا إليه فقره وأخبره أنه من جن نصيبين وأنهم كانت لهم المدينة ، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخرجهم منها وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ومنهم بريدة رضي الله عنه ، ومنهم أبو أيوب الأنصاري ضي الله عنه ، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين صارع الشيطان فصرعه عمر ، ومنهم عمار بن ياسر رضي الله عنه قاتل الشيطان فصرعه عمار ، وأدمى أنف الشيطان بحجر ، ولذلك وغيره كان يقول أبو هريرة : عمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها كلها البهيقي في الدلائل ، وذكرت تخريج أكثرها في كتابي مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، وأما عيم القطر فهي ما تضمنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبياً عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً ) الحديث ، فشمل ذلك من روضة اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك ، وروى الترمذي وقال : حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال : ( عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، قلت : لا يارب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، أو قال ثلاثاً أو نحو ذلك ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك )(6/162)
صفحة رقم 163
وللطبراني بإسناد حسن والبهيقي في الزهد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إسرافيل عليه السلام أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمفاتيح خزائن الأرض وقال : إن الله أمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة ، فإن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً ، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام أن تواضع ، فقال نبياً عبداً .
رواه ابن حبان في صحيحه مختصراً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وله في الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أوتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطينة من سندس .
وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح ) .
الأرض هذا ما يتعلق بالأرض ، وقد زيد ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء تارة بشق القمر ، وتارة برجم النجوم ، وتارة باختراق السماوات ، وتارة بحبس المطر وتارة بإرساله - إلى غير ذلك مما أكرمه الله به .
ولما أخبر تعالى أنه سخر له الجن ، ذكر حالهم في أعمالهم ، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما بما يشاء فقال تعالى : ( يعملون له ) أي في أي وقت شاء ) ما يشاء ) أي عمله ) عن محاريب ) أي أبنية شريفة من قصور ومساكن وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد ، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بين المقدس جدرانه بالحجارة العجيبة البديعة والرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمدة بأساطين المها الأبيض الصافي مرصعاً سقوفه وجدرانه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر وسائر الطيب ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج حتى كان أبهى بيت على وجه الأرض ) وتماثيل ) أي صوراً حساناً على تلك الأبنية فيها أسرار غريبة كما ذكروا أنهم صنعوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين في أعلاه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعين ، وإذا قعد أظله النسران ، ولم تكن التصاوير ممنوعة .(6/163)
صفحة رقم 164
ولما ذكر القصور وزينتها ، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن فقال : ( وجفان ) أي صحاف وقصاع يؤكل فيها ) كالجواب ( جمع جابية ، وهي الحوض الكبير الذي يجبى إليه الماء ، أي يجمع قيل : كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل .
ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم ، ذكر ما يطبخ فيه طعامها فقال : ( وقدور راسيات ) أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال .
ولما ذكر المساكن وما تبعها ، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تبعه لا يليهيم ذلك عن العبادة فقال : ( اعملوا ) أي وقلنا لهم : تمتعوا واعملوا ، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال : ( آل داود ) أي كل ما يقرب إلى الله ) شكراً ) أي لأجل الشكر له سبحانه ، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين ، أو على تقدير : اشكروا شكراً ، لأن ( اعملوا ) فيه معنى ( اشكروا ) من حيث أن العمل للمنعم شكر له ، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم معناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً - على طريق المشاكلة ) وقليل ) أي قلنا ذلك والحال أنه قليل .
ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها مبالغة في الشكر أليق ، اسقط مظهرها فقال : ( من عبادي الشكور ) أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه ، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه يطلق الشكر كثير ، وأقل ذلك حال الاضطرار .
سبأ : ( 14 - 16 ) فلما قضينا عليه. .. . .
) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ( ( )
ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود ، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظميهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيهم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله : ( فلما ( بالفاء ، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال : ( قضينا ( وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال : ( عليه ) أي سليمان عيله السلام ) الموت ما دلهم ( أي(6/164)
صفحة رقم 165
جنوده وكل من في ملكه من الجنم والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد ) على موته ( لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم ) إلا دابة الأرض ( فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم ، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح مستأنفاً في جواب من كأنه قال : أي دابة هي وبما دلت : ( تأكل منسأته ) أي عصاه التي مات وهو متكئ عليها قائماً في بيت من زجاج ، وليس له باب ، صنعته له الجن لما أعلمه الله بأن أجله قد حضر ، وكان قد بقي في المسجد بقية ليخفي موته على الجن الذين كانوا يعلمون في البيت المقدس حتى يتم ؛ قال في القاموس في باب الهمز : نسأه : زجره وساقه وأخره ودفعه عن الحوض ، والمنسأة كمكنسة مرتبة ، ويترك الهمز فيهما : العصا - لأن الدابة تنسأ بها أي تساق ، والبدل فيها لازم ، حكاه سيبويه - انتهى .
فالمعنى ان الجن كانوا يزجرون ويساقون بها ، وقرأها المدنيان وأبو عمرو بالإبدال ، وابن عامر من رواية ابن ذكوان والداجوني عن هشام بإسكان الهمزة ، والباقون بهمزة مفتوحة ) فلما خر ) أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه ) تبينت الجن ) أي عملت بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس ، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً ) أن ) أي أنهم ) لو كانوا ) أي الجن ) يعلمون الغيب ) أي علمه ) ما لبثوا ) أي أقاموا حولاً مجرماً ) في العذاب المهين ( من ذلك العمل الذين كانوا مسخرين فيه ، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة ، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل ، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم ، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره ، ويجوز أن تكون ( أن ) تعليلية ، ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب ، لأنهم إلى آخره ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة ، وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات اللاتي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً ، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه أو منام يراه أو غيره ذلك ، فيكون كما قال - هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم ، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر قبل ادعائه للنبوة وبعده ، وأظهر لهم(6/165)
صفحة رقم 166
من المعجزات ما بهر العقول ، وقد تقرر أن كل شيء ثبت بمن قبل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو أعظم منه إما نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل ثد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته في باب البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء - انتهى .
وقد ثبت مثل ذلك الشخص في بلاد شروان من بلاد فارس بالقرب من شمخامى ، اسم ذلك الولي محمد ، ولقبه دمدمكي ، مات من نحو أربعمائة سنة في المائة الخاسمة من الهجرة ، وهو قاعد في مكان من مقامه الذي كان البسطامية ، أخبرني من شاهده ممن كذلك لا أتهمه من طلبة العلم العجم ، وهو أمر مشهور متواتر في بلادهم غني عن مشاهدة شخص معين ، قال : زرته غير مرة وله هيبة تمنع المعتقد من الدنو منه دنواً يرى به به وجهه كما أشار تعالى إلى مثل ذلك بقوله تعالى
77 ( ) لوليت منهم فراراً فلم يرجع منهم رعباً ( ) 7
[ الكهف : 18 ] قال : وكان معنا في بعض المرات شخص من طلبة العلم من أهل كيلان غير معتقد يقول : إنما هذا نوع شعبدة يخيل به على قول الرعاع ، قال : فتقدم إليه بجرأة ولمس صدره ونظر في وجهه ، فأصيب في الحال فلم يرجع إلا محمولاً ، فأقام في المدرسة التي كان يشتغل بها في مدينة شماخي مدة ، وأخبرنا أن الشيخ دمدمكي قال له لما لمسه : لولا أنك من أهل العلم هلكت ، وأنه شيخ خفيف اللحية ، قال : وقد تبت إلى الله تعالى وصرت من المعتقدين لما هوعليه أنه حق ، ولا أكذب بشيء من كرامات الأولياء ، قال الحاكي : وقد دفن ثلاث مرات إحداها بأمر تمرلنك فيصبح جالساً على ما هو عليه الآن - والله الموفق للصواب .
ولما دل سبحانه بقوله ) أفلم يروا إلى بين أيديهم وما خلفهم ( الآية ، على قدرته على ما يريد من السماء والأرض لمعاملة من يريد ممن فيهما بما يشاء من فضل على من شكر ، وعدل فيمن كفر ، ودل على ذلك بما قصه من أخبار بعض أولي الشكر ، وختم بموت نبيه سليمان بد داود الشاكر ابن الشاكر عليهما السلام ، وما كان فيه من الآية الدالة على أنه لا يعلم الغيب غيره لينتج ذلك أنه لا يقدر على كل ما يريد غيره ، وكان موت الأنبياء المتقدمين موجباً لاختلال من بعدهم لفوات آياتهم بفواتهم بخلاف آية القرآن ، فإنها باقية على مر الدهور والأزمان ، لكل إنس وملك وجان ، ينادي مناديها على رؤوس الأشهاد : هل من مبارٍ أو مضاد ؟ فلذلك حفظت هذه الأمة ، وضاع(6/166)
صفحة رقم 167
غيرها في أودية مدلهمة ، أتبعه دليلاً آخر شهودياً على آية ) إن نشأ نخسف بهم الأرض ( في قوم كان تمام صلاحهم بسليمان عليه الصلاة والسلام ، فاختل بعده أمرهم ، وصار من عجائب الكون ذكرهم ، حين ضاع شكرهم ، فكان من ترجمة اتباع قصتهم لما قبلها أن آل داود عليه السلام شكروا ، فسخر لهم من الجبال والطير والمعادن وغيرها ما لم يكن غيرهم يطمع فيه ، وهو أضاعوا الشكر فأعصى عليهم وأضاع منهم ما لم يكونوا يخافون فواته من مياهمم وأشجارهم وغيرها ، فقال تعالى مشيراً بتأكيده إلى تعظيم ما كانوا فيه ، وأنه في غاية الدلالة على القدرة ، وسائر صفات الكمال ، وأن عمل قريش عمل من ينكر ما تدل عليه قصتهم من ذلك : ( لقد كان لسبأ ) أي القيلة المشهورة التي كانت تسجد للشمس ، فهداهم الله تعالى على يد سليمان عليه السلام ، وحكمة تسكين قنيل همزتها الإشارة إلى ما كانوا فيه من الخفض والدعة ورفاهة العيش المثمرة للراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة ، ولعل قراءة الجمهور لها بالصرف تشير إلى مثل ذلك ، وقراءة أبي عمرو والبزي عن ابن كثير بالمنع تشير إلى رجوعهم بما صاروا إليه من سوء الحال إلى غالب أحوال تلك البلاد في الإقفار وقلة النبت والعطش ) في مسكنهم ) أي التي هي في غاية الكثرة ، ووحد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وكسر الكسائي الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملاءمة لهم واللين ، وفتحه الآخران إشارة إلى ما فيها من الروح والراحة ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن ، قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : على ثلاث فراسخ من صنعاء ، وكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها المكتل وتطوف في ما بين الأشجار فيمتلئ المكتل من غير أن تمس شيئاً بيدها ، وكانت مياههم تخرج من جبل فبنوا فيه سداً وجعلوا له ثلاثة أبواب فكانوا يسرحون الماء إلى كرومهم من الباب الأعلى والأوسط والأسفل ، قال الرازي : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن مغزلتها ، فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، وقال أبو حيان في النهر : ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها ، وسكنت قصرها وراودها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ، ولا تطيعوني ، فقالوا نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدة أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية ، وقال المسعودي في مقدمات مروج الذهب(6/167)
صفحة رقم 168
قبل السيرة النبوية بيسير في الكلام على الكهان ، كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها ، وأعذابها وأغداها ، واكثرها جناناً ، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال في العرض مثل ذلك ، يسير الراكب من أولها إلى ان ينتهي إلى آخرها ، لا تواجهه الشمس ولا يفارقها الظل ، لاستتار الأرض بالأشحار واستيلائها عليها وإحاطتها بها ، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفعه وأهنأ حال وأرغده ، في نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء ، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ، وشتاتهم بين العباد ) آية ) أي علامة ظاهرة على قدرتنا على ما نريد ، ثم فسر الآية بقوله : ( جنتان ( مجاورتان للطريق ) عن يمين وشمال ) أي بساتين متصلة وحدائق مشتبكة ، ورياض محتبكة ، حتى كان الكل من كل جانب جنة واحدة لشدة اتصال بعضه ببعض عن يمين كل سالك وشماله في أي مكان سلك من بلادهم ليس فيها موضع معطل ، وقال البغوي : عن يمين واديهم وشماله ، قد احاط الجنتان بذلك الوادي .
وأشار إلى كرم تلك الجنان وسعة ما بها من الخير بقوله : ( كلوا ) أي لا تحتاج بلادهم إلى غير أن يقال لهم : كلوا ) من رزق ربكم ) أي المحسن إليكم الذي أخرج لكم منها كل ما تشتهون ) واشكروا له ) أي خصوه بالشكر بالعمل بما أنعم به في ما يرضيه ليديم لكم النعمة ، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله : ( بلدة طيبة ) أي كريمة التربة حسة الهواء سليمة من الهوام والمضمارلا يحتاج ساكنها إلى ما يتبعه فيعوقه عن الشكر ، قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا حية ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم .
وأشار إلى أنه لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره بقوله : ( ورب غفور ) أي لذنب من شكره وتقصيره بمحو عين ما قصر فيه وأثره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب ، ولولا ذلك ما أنعم عليكم بما أنتم فيه ولأهلككم بذنوبكم ، وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء اليمن - قال : في بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار در - تلي بلاد الشام ، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكا وليس له نوى أصلاً .
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر ، دل على ذلك بقوله : ( فأعرضوا ( ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم ، بينه بقوله : ( فأرسلنا ( ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم سيل العوم ) أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة ، وهي الشدة والقوة ، فأسد عليهم جميع ما(6/168)
صفحة رقم 169
ينتفعون به ، قال أبو حيان : سلط الله عليهم الجرذ فأراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، فخرفه شيئاً بعد شيء ، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنان وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار .
ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا ، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبا ، والأوس والخزرج منهم ، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبدلناهم بجنتيهم ) أي جعلنا لهم بدلهما ) جنتين ( هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم : ( ذواتي أكل ) أي ثمر ) خمط ( وقراءة الجماعة بتنوين ) أكل ( أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة .
ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب ، والله أعلم بما أراد منه ، لأنه ضرب من الإراك ، له ثمر يؤكل ، وكل شجرة مرة ذات شوك ، والحامض أو المر من كل شيء ، وكل نيت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يؤكل ، ولا يمكن أكله ، وثمر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخشاش ينفرك ولا ينتفع به ، والحمل القليل من كل شجر ، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال : ( وأثل ) أي وذواتي أثل ، وهو شجر لا ثمر له ، نوع من الطرفاء ، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال : ( وشيء من سدر ) أي نبق ) قليل ( وهذا يدل على أن غير السدر وهو ما لا منفعة فيه أو منفعته مشوبة بكدر أكثر من السدر ؛ وقال أبو حيان : إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر ، قال : وقال الأزهري : السدر سدران : سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول ، وله ثمرة عفصة لا تؤكل ، وهذا الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقة الغسول يشبه العناب .
وقد سبق الوعد في البقرة ببيان مطلب ما يفيده دخول الجار مع مادة ( بدل ) فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال التبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك ، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر ، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية شمس الدين محمد بن علي القاياني رحمه الله فقال فيما علقته عند وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنووي رحمه الله : اعلم أن هذه المادة - أعني الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء كما في قوله تعالى :
77 ( ) أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ( ) 7
[ البقرة : 61 ] وفي قوله تعالى :
77 ( ) ومن يتبدل الكفر بالإيمان ( ) 7
[ البقرة : 108 ] الاية ، (6/169)
صفحة رقم 170
فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء ، فالباء داخلة على المحاصل ، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك ، نقل الأزهري عن ثعلب : بدلت الخاتم بالحلقة - إذا اذبته وسويته حلقة ، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتماً ، وأبدلت الخاتم بالحلقة - إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه ، وحكى الهروي في الغريبين عن ابن عرفة يعني نفطويه أنه قال : التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة ، فحيث ذكر المتقابلان وقيل : ( بدلت هذا بذاك ) رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا ، فإذا قيل : بدل الشيء بغيره ، فمعناه غير الشيء بغيره ، أي ترك الأول وأخذ الثاني ، فكانت الباء داخلة على المأخوذ لا المنحى ، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية الشيء وجعل غيره مكانه ، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى ، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر ، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى ) ) أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات ( ) [ الكهف : 81 ] ) ) فأردنا أن يبدلها ربهما خيراً منه زكاة ( ) [ الفرقان : 70 ] الآية بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيراً وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى : ( ) بدلناهم جلوداً غيرها ( ) [ النساء : 56 ] ومعنى التدب والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره ، فإذا قلت : استبدلت هذا بذاك ، أو تبدلت هذا بذاك ، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك ، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجارّ وذكر التبديل كما في قوله تعالى ) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ( تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعين إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه ، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في ( بدله الشيء أي غيرته ، قال تعالى ) ) فمن بدله بعد ما سمعه ( ) [ البقرة : 181 ] على أن ههنا ما يجب التنبه له وهو أن الشيء يكون مأخوذاً بالقياس والإضافة إلى شيء ، متروكاً بالقياس والإضافة إلى آخر ، كما إذا أعطى شخص شخصاً شيئاً وأخذ بدله منه ، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول ، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر التبدل والتبديل ، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه ، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب - انتهى والله أعلم .
سبأ : ( 17 - 20 ) ذلك جزيناهم بما. .. . .
) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى(6/170)
صفحة رقم 171
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) 73
( ) 71
ولما أخبر عن هذا المحق والتقتير بعد ما كانوا فيه من ذلك الملك الكبير ، هول أمره مقدماً للمفعول دلالة على أنه مما يهتم غاية الاهتمام بتعرفه فقال : ( ذلك ) أي الجزاء العظيم العالي الرتبة في أمر المسخ ) جزيناهم ( بما لنا من العظمة ) بما كفروا ) أي غطوا الدليل الواضح .
ولما كان من العادة المستقرة عند ذوي الهمم العوال ، العريقين في مقارعة الأبطال ، المبالغة في جزاء من أساء بعد الإحسان ، وقابل الإنعام بالكفرن ، لما أثر في القلوب من الحريق مرة بعد مرة ، وكرة في أثر كرة ، أجرى الأمر سبحانه على هذا العرف ، فقال مشيراً إلى ذلك بصيغة المفاعلة عادّاً لغير جزائهم بالنسبة إليه عدماً ، تهديداً يصدع القلوب ويردع النفوس ، ويدع الأعناق خاضعة والرؤوس : ( وهل يجازى ) أي هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب من مجاز ما على سبيل المبالغة ) إلا كفرواً ) أي المبالغ في الكفر ، وقراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( نجازي ) بالنون على أسلوب ما قبله من العظمة ونصب ( الكفور ) وقال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى - كأنه يشير إلى أن عقاب المسيء لأجل عمله فهو مفاعلة ، وأما ثواب المطيع فهو فضل من الله لا لأجل عمله ، فإن عمله نعمة من الله ، وذلك لا ينافي المضاعفة ، قال القشيري : كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال واتصال من التوفيق وطيب من القلب ومساعدة من الوقت فيرتكب زلة أو يسيء ادباً لأو يتبع شهوة ، ولا يعرف قدر ما هو فيه فيغير عليه الحال ، فلا وقت ولا حال ، ولا طرب ولا وصال ، يظلم عليه النار ، وكانت لياليه مضيئة ببدائع الأنوار .
ولما أتم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة ، أتبعه مواضعه السكان فقال : ( وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ، ونبه بنزع الجار على عمارة جميع تلك الأراضي بالبناء والانتفاع فقال : ( بينهم ) أي بين قرى أهل سبأ ) وبين القرى ( اي مدناً كانت أو دونها ) التي باركنا ) أي بركة اعتنينا بها اعتناء من يناظر آخر بغاية العظمة ) فيها ) أي بأن جعلناها محال العلم والرزق بالأنبياء وأصفياء الأولياء وهي بلاد الشام ) قرى ظاهرة ) أي من أرض الشام في أشراف الأرض وما صلب منها وعلا ، لأن البناء فيها أثبت ، والمشي بها أسهل ، والابتهاج برؤية جميع الجنان وما فيها من النضرة منها(6/171)
صفحة رقم 172
أمكن .
فهي ظاهرة للعيون بين تلك الجنان ، كأنها الكواكب الحسان ، مع تقاربها بحيث يرى بعضها من بعض وكثرة المال بها والمفاخر والنفع والمعونة للمارة ؛ قال البغوي : كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متثلة من سبأ إلى الشام .
ولما كانت مع هذا الوصف ربما كان فيها عسر على المسافر لعدم الموافقة في المقيل والمبيت ، أزال هذا بقوله : ( وقدرنا فيها السير ) أي جعلناه على مقادير هي في غاية الرفق بالمسافر في نزوله متى أراد من ليل أو نهار على ما جرت به عوائد السفار ، فهي لذلك حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان : ( سيروا ( والدليل على تقاربها جداً قوله : ( فيها ( ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقد أريد ، مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله : ( ليالي ( وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله : ( وأياماً ) أي في أي وقت شئتم ، ودل على عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل ملم بقوله : ( آمنين ) أي من خوف وتعب ، أو ضيعة أو عطش أو سغب .
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف ، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله : ( فقالوا ( على وجه الدعاء : ( ربنا ) أي أيها المربي لنا ) باعد ) أي أعظم البعد وشدده - على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال ، وهذا بمعنى قراءة الباقين غير يعقوب ) باعد ( المقتضية لمده وتطويله ) بين أسفارنا ) أي قرانا التي نسافر فيها ، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ونحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق السلاح ونستجيد المراكب ، وكان بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك القرى متواصلة ) وظلموا ( حيث عدوا النعمة نقمة ، والإحسان إساءة ) أنفسهم ( تارة باستقلال الديار ، وتارة باستقلال الثمار ، فسبب ذلك تبديل ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الإنس وهو معنى ) فجعلناهم ) أي بما لنا من العظمة ) احاديث ) أي يتواصفها الناس جيلاً بعد جيل لما لها من الهول ) ومزقناهم ) أي تمزيقاً يناسب العظمة ، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا ) كل ممزق ) أي تمزيق كما يمزق الثوب ، بحيث صاروا مثلاً مضورباً إلى هذا الزمان ، يقال لمن شئت أمرهم : تفرقوا أيدي سبا .(6/172)
صفحة رقم 173
ولما كان كل من أمريهم هذين في العمارة والخراب أمراً باهراً دالاً على أمور كثيرة ، منها القدرة على الساعة التي هي مقصود السورة بالنقلة من النعيم إلى الجحيم والحشر إلا ما لا يريد الإنسان كما حشر أهل سبأ إلى كثير من أقطار البلاد كما هو مشهور في قصتهم ، قال منبهاً على ذلك مستأنفاً على طريق الاستنتاج ، مؤكداً تنبيهاً على إنعام النظر فيه ، لما له من الدلالة على صفات الكمال : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم ) لآيات ) أي دلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى للذوات والصفات بالخسف والمسخ ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق ، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها دليل على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية ، لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً ، واللذاة ألماً ، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة .
ولما كان الصبر حبس النفس عن أغراضها الفاسدة وأهويتها المعمية ، وكانت مخالفة الهوى أشد ما يكون على نفس وأشق ، وكانت النعم تبطر وتطغي ، وتفسد وتلهي ، فكان عطف النفوس إلى الشكر بعد جماعها بطغيان النعن صعباً ، وكانت قريش قد شاركت سبأ فيما ذكر وزادت عليهم برغد العيش وسهولة إيتان الرزق بما حببهم به وبلدهم إلى العباد بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع آمن البلد وجلالة النسب وعظيم المنصب كما اشار إليه قوله تعالى
77 ( ) وضرب الله مثلاً ثربة كانت - آمنة مطمئنة ( ) 7
[ النحل : 122 ] قال تعالى محذراً لهم مثل عقوبتهم : ( لكل صبار شكور ) أي من جميع بني آدم ، مشيراً بصيغة المبالغة إلى ذلك كله ، وأن من لم يكن في طبعه الصبر والشكر لا يقدر على ذلك ، وأن من ليس في طبعه الصبر فاته الشكر .
ولما كان المعنى : آيات في أن تخالفوا إبليس فلا تصدقوا ظنه في احتناكهم حيث
77 ( ) لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً ( ) 7
[ الإسراء : 62 ] قال مؤكداً لإنكار كل أحد أن يكون صدق ظن إبليس فيه : ( ولقد ) أي كان في ذلك آيات مانعة من اتباع الشيطان والحال أنه قد ) صدق ( .
ولما كان في استغوائهم غالباً لهم في إركابهم ما تشهد عقولهم بأنه ضلال ، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم ) أي على ذرية آدم عليه السلام .
ولما كان في سياق الإثبات لعظمة الله وما عنده من الخير وما له من التصرف التام الداعي ذلك إلى الإقبال إليه وقصر الهمم عليه ، عبر بقوله تعالى ) إبليس ( الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده - والإبلاس - وهو اليأس من كل خير - ليكون ذلك أعظم(6/173)